تهافت منهج التشكيك في الإسلام: مناقشة بعض مطاعن وشبهات فيسبوكية
مقدمة
في الفترة الأخيرة أنشأ بعضهم صفحات على موقع الفيسبوك، بوصفها بمنظمات دينية أو فكرية، ظهرت لي إحداها وأنا أقلب حسابي على الموقع نفسه خلال عدة أيام متفرقة. في البداية ظهرت أسماء أجنبية كثيرة ثم تراجعت. تحمل مثل تلك الصفحة رؤى تطعن في فلسطين وحماس ثم في الرسول والإسلام، وتدافع عن إسرائيل وأمريكا وعن المثلية الجنسية (الشذوذ) بطريقة سبابية فجة ومعظمها صور، تقابلها تعليقات أقل بكثير تردُّ عن الإسلام وتهاجم الكاتب والمعلقين المهاجمين للإسلام وتهاجم إسرائيل، ووجدت بعض الأسماء الأجنبية تهاجم إسرئيل ومؤيديها على خلفية المجازر في غزة.
وواضح أن هدف مثل تلك الصفحات ضد الإسلام خصوصا –وليس كل دين- وهي تطعن في الإله الذي يتحدث عنه الإسلام ويؤمن به المسلمون، ما يوحي أن القائمين عليها على دين آخر، يؤمن بالإله نعم ولكن بوصف آخر!
ويمكن تلخيص هذه المطاعن وموضوعاتها في الآتي:
- زواج النبي من عائشة وهي ابنة تسع سنوات.
- زواج النبي من زينب بنت جحش وكانت قبل ذلك زوجة زيد بن حارثة الذي كان ابنه بالتبني.
- قوله بقطع النبي الطريق على القوافل التجارية “ليسرقها ليأخذ حقه بالقوة من أي شخص”.
- وسبي زوجات الأعداء. (مستحيل أن يكون هذا من عند الله).
- الإسلام يدعو للإقصاء ولرفض الآخر.
- الأخلاق في الإسلام قائمة على الخوف المستمر من الذات العليا “التي تمكر، وتحاول خداعك في كل وقت للوقوع في النار اللعينة..”.
- ربنا الحقيقي مستحيل يكون بيتفاوض معنا من 50 صلاة وعايزنا نقعد نتذلل له جامد كده عشان يتفضل علينا ويقلل الإتاوة…”، ثم سباب.
- الإسلام فيه الكثير من الجمال والأخلاق الفاضلة، وفي بعض الأوجه أفضل من الغرب، “لكن ليس هذا معيار الطاعة العمياء”.
- لماذا يتكلم هذا هذا الإله بالعربية فقط؟ هل كل شخص على سطح هذا الكوكب مطالب بتعلم اللغة العربية بلهجة أهل قريش ليعلم أن هذا الكلام من عند الله؟
- (خالق الكون يخاطب شخص ما في أذنه وعليه أن ينقل لنا ما يسمعه ويفترض مننا أن نصدق هذه البلاهة).
- لماذا قرر الله أن عدد الشهور في السنة شيء هام جدا بالنسبة له؟ وهذا مرتبط بدوران الأرض حول الشمس وهو ثابت كوني، ويوليوس قيصر هو أول قسم الشهور لـ(12) شهر في العام 46 قبل الميلاد، فهل هذا يعني أن يوليوس قيصر كان يوحى إليه بشكل ما؟
- كتب سورة الكافرون هكذا: قل يا أيها الكافرون … طبقنا طبق طبقكم… لكم دينكم ولي دين وألحق بها صورة لأطباق متتالية في صف طويل.
وأيا ما من وراء مثل هذه الصفحات، وما ينتمون إليه، فإن هدفهم واضح؛ وهو التشكيك في حقيقية الإسلام والطعن في أصوله: عقيدةً في الإله، ونبيا، وقرآنا، وشريعة، وأخلاقا.
وما أريده في هذه التعقيبات هو أن أبين قوة الحجة الإسلامية في عقائدها وتشريعاتها وأخلاقها، وتهافت منهج التشكيك هذا، وسبل الطعن هذه، بطريقة يستفيد منها إخوتي وأبنائي المسلمين، ويكون فيها دعوة إلى الله على بصيرة، كما قال الله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)- سورة يوسف: 108.
***
أولا- زواج النبي من عائشة وهي ابنة تسع سنوات:
هذا شأن اجتماعي، يُعرف ميزان العدل والظلم فيه، وقاعدة الرحمة والقسوة، من الثقافة العامة السائدة في المجتمع. فهل كان هذا ظلمًا أو قسوةً في المجتمع الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل وصل إلينا اعتراض مجتمعي على هذا الفعل؟ إن من طبائع الاجتماع الإنساني أن الأفراد والجماعات تبحث عن تحصيل مصالحها وتعمل على تفادي ما يضرها؟ فأين الإشارة التاريخية إلى أن المجتمع رفض هذا؟
إذًا نحن نريد أن نحكِّم معايير مجتمع في آخر مختلف عنه زمانيا أو مكانيا أو كليهما؟ فأي مجتمع يكون الميزان وأيها يكون الموزون؟ أيها يكون الأصل وأيها يكون الفرع؟
ثم سبحان الله، هذا الصباح طالعت قصة حياة أمينة هانم إلهامي (1858-1931) زوجة الخديو توفيق، وحفيدة عباس الأول وأم عباس الثاني، والمعروفة في مصر بأم المحسنين، وعند الأتراك الوالدة باشا، تزوجت الأمير محمد توفيق في 15 يناير 1873، وهي مولودة 24 مايو 1858 ؛ أي إن عمرها لم يكن وصل خمس عشرة سنة ميلادية؛ أي حوالي 14 سنة هجرية. هذا منذ مائة وخمسين سنة وليس 1500 سنة. والتاريخ القريب يقص علينا أنه في كثير من البلدان كانت النساء يتزوجن في سن الثانية عشرة وما حولها. فالسؤال: ما معيار العدل والظلم في ذلك؟ وما معيار الرحمة والقسوة؟
ثم مَن غيرُ عائشة تزوج في هذه السن؟ ثم ماذا عن عائشة نفسها وحياتها؟ هل جاءت الروايات أنها كانت تعاني عقدة الزواج وهي صغيرة؟ هل أبغضت النبي؟ هل….؟
ليس هناك معيار ثابت عام مطلق. إذًا فمن أين يأتي هذا المطعن؟
إنه يأتي من ثقافة ترفض زواج الفتيات في السن الصغيرة. جيد! من قال إن هذه الثقافة هي الحق المطلق؟ ومن قال إنها العدل والرحمة بإطلاق؟ هذه قصة مجتمعات وثقافات، فكيف أجاب عنها علماء الإسلام الذين هم ورثة الأنبياء؟
قالوا إن العبرة بالطاقة؛ طاقة البنت في تحمل واجبات النكاح؛ من الجِماع وغيره؛ لأن القاعدة الثابتة الكبرى التي عليها العاقلون والعادلون في كل مكان وزمان، وأقرها وصاغها وأكدها القرآن الكريم والنبي العظيم: أن الله لا يكلف نفسها إلا وسعها؛ أي قدر قدرتها وطاقتها، ولا يكلفها إلا بحسب ما آتاها من إمكانيات، وأنه إذا أمر الله تعالى بشيء فعلى الإنسان أن يأتي منه ما استطاع، ولا يجب عليه أن يفعل ما لا يقدر عليه.
والطاقة والقدرة على القيام بواجبات النكاح تختلف من مجتمع لآخر، ومن زمان لآخر، بل من فرد لآخر، فكيف تطعن بالمختلف فيه على اختيار مجتمعي معين؟ وهل على الدين أن يجمد المجتمعات على رؤية لمجتمع معين في زمن معين؟
إنه من العجيب أن يصف هؤلاء الإسلامَ بالجمود والأحادية، بينما مرادهم هم هو الجمود والأحادية، لو كانوا يفقهون.
ثانيا- زواج النبي من زينب بنت جحش وكانت قبل ذلك زوجة زيد بن حارثة الذي كان ابنه بالتبني:
سبحان الله تعالى، لو كان الطاعن هذا أو المشتبه جادا ويريد الحق لذكر شيئا عجيبا يرتبط بهذه المسألة؛ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم هو نفسه تحرج من هذا الأمر الإلهي له بالزواج من زينب بعد أن كانت زوجة لابنه من التبني زيد بن حارثة. لو كان الطاعن جادا وطالبا حقا للحقيقة لذكر القصة كما وردت لأن فيها من دلائل النبوة، ودلائل صدق القرآن، ودلائل أنه من عند الله تعالى ما يبين حقيقة الإسلام وحقيقيته؛ أي أنه الحق من الله.
تعال ننظر ماذا ورد في القرآن عن هذه القصة.
وردت هذه القصة في سورة الأحزاب، وقد بدأت هذه السورة بأمر عجيب للنبي بأن يتقي الله. وهذا مما يتوقف عنده طالب الحق والحقيقة. هل هذا يعني أن النبي لم يكن يتقي الله؟ أو أنه صلى الله عليه وسلم فعل شيئا لا يتقي الله فيه؟ ولو كان: لماذا ينقل محمد هذا الأمر الذي يثير هذه الأسئلة؟ لماذا يقبل محمد أن يتلو أصحابه ويسمع أعداؤه أنه يقال له: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3))-سورة الأحزاب.
إن هذا يؤكد حقيقية العقيدة الإسلامية: أن محمدا بشر مثلنا، لكنه بخلافنا يوحى إليه، وأنه يجب حفظ الفارق –الفارق- بين المخلوق والخالق، وأنه يبلِّغ ما أنزل إليه ولو كان مخالفا لنفسه؛ فنقل (عبس وتولى)، ونقل (ما كان لنبي أن يكون له أسرى..)، ونقل (وإن كان كبر عليك إعراضهم…)، ونقل: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا . إذا لأذقناك…)، ونقل: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل…)، ونقل: (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشر رسولا..)، ونقل (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء..)، ومن هذا كثير كثير..
ثم نقل شرع الله المُلغي لفعل التبني؛ ليطبَّق عليه هو قبل أي أحد.
ويمكن لطالب الحق والحقيقة أن يوقف هذا البحث الآن ويذهب ليبحث في حكمة إلغاء الله تعالى للتبنّي؛ وهو كان نظامًا اجتماعيًّا مقبولاً في المجتمع العربي ومجتمعات أخرى، ولا يزال ساريًا في مجتمعات عديدة؛ الباحث عن الحقيقة يتساءل: لماذا ألغى الإسلام فعل التبني من المجتمع الإسلامي؟ وسيصل إلى إجابة، ثم يعاير هذه الإجابة على المراد العام للمجتمع الإسلامي، والأخلاق التي يراد أن يقوم عليها، وهل هذا الإلغاء أفضل أم بقاء التبني؟ وساعتها سيصل إلى عظمة التشريع الإسلامي الذي ألغى التبني وأقام الكفالة (كفالة اليتامى ومن في حكمهم). وكذلك ألغى الإسلام ظاهرة شرب الخمر، وألغى ممارسات الزنا، وألغى الربا، وغيرها، وكلها كانت ممارسات مجتمعية، كانت موجودة في المجتمعات عبر التاريخ، ولا تزال، يقبلها البعض ويرفضها البعض، ولكن لم يُجمع أو يتفق عليها مجتمع بكامل تكوينه عبر التاريخ البشري، وإلى اليوم، لما فيها من الخبائث الظاهرة والأضرار الشديدة.
وانظر كيف يغير التشريع في المجتمع، ويبين لهم حقائق الأمور الاجتماعية، والميزان فيها: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223))-سورة البقرة. انظر في هذه الآيات، وراجع أيضا آيات الربا في سورة البقرة، وآيات الزنا في مواضع مختلفة.
ومع هذا، فلم يكن التبني شائنا مثل تلك الممارسات، لكنه كان يحمل بعض الأضرار التي تتعلق بالأنساب والأعراض والمواريث والأنكحة، التي كان الإسلام يعيد ترتيبها لتكون أرقى وأنقى للإنسان والمجتمع، وأتقى لله عز وجل، فجاء إلغاء التبني وتشريع الأخوة والموالاة الإيمانية تشريعا إلهيا مكملا لهذه المنظومة. ثم كان التطبيق على محمد النبي صلى الله عليه وسلم ليكون أوقع وأحسم.
وكان ذلك سهلا على النبي فيما يبدو، ولكن ربما قال البعض بأن هذا خاص بالنبي، خاصة أن الأمور الاجتماعية ليس من السهل تغييرها؛ لذا اشتمل التشريع على تكملة تحسم الأمر؛ وهي أن يتزوج محمد صلى الله عليه وسلم طليقة زيد. وهذا كان صعبا على النبي، ليس فقط كما تقول روايات السيرة أو السنة، إنما كما سجله القرآن الكريم ذاته، ويتلوه المسلمون كل يوم:
(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40))-سورة الأحزاب.
هذا موقف النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف كان موقف زينب؟ وزيد؟ والمجتمع؟ بما فيه من يهود ومنافقين ومشركين؟ ماذا قالت الروايات يا طالبي الحق والحقيقة؟
تكفي هذه الآيات لتبين القصة وتزيد عليها من أدلة صدق النبي وصدق القرآن وجمال التشريع الإسلامي، ما يرد على الطاعن رادا كافيا، ويقدم لطالب الحقيقة جوابا وافيا، ولمريض القلب دواء شافيا.
ثالثا- قوله بقطع النبي الطريق على القوافل التجارية “ليسرقها ليأخذ حقه بالقوة من أي شخص”.
وهذا يتعلق بماذا؟ بالعلاقات الخارجية للكيانات السياسية. هذا هو وصفه عبر التاريخ البشري وعبر الأرض كلها. كيف نرتب علاقاتنا السياسية الخارجية؟ هل على أخلاق رحمة وعطف لا قوة فيها؟ أم على قوة لا أخلاق فيها؟ أم على مصالح أنانية يبررها كل طرف لنفسه ويستعين فيها بالقوة وحسب؟ أم على مصالح مشتركة وعادلة وقوة تلتزم العدل؟ هذا هو السؤال الذي يحيط بهذه المسألة.
فقبل أن نقول رأينا في سرايا وغزوات النبي صلى الله عليه وسلم من رمضان في السنة الأولى من هجرته إلى المدينة حتى واقعة بدر في رمضان السنة التالية، يجب أن نعرف: ما الميزان العادل الجامع للقوة والمصلحة والأخلاق والأعراف في السياسة الخارجية بين الكيانات السياسية[1]؟
الجواب الصعب لكن الأفضل أنه يا ليت يكون لنا ميزان يجمع بين القوة والمصلحة والأخلاق والأعراف يحكم سياساتنا الخارجية؛ سواء التعاونية أو الصراعية، وسواء السلمية أو الحربية. وهذا ما يليق بأفاضل الناس؛ وعلى رأسهم الأنبياء.
فكيف كان يجب أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش بعد 13 سنة من اضطهاد دعوته وشخصه وأصحابه، حتى قُتل منهم من قُتل، وعُذِّب منهم من عُذِّب، وفُتن منهم عن دينه من فُتن، وهاجر إلى الحبشة من هاجر، ثم اضطر هو صلى الله عليه وسلم أن يهاجر، وينزل مكانا آخر، ومعه أكثر المؤمنين به؛ ليواجه تحديات أخرى من مشركين ويهود ومنافقين؟ كيف يسوس علاقاته الخارجية وسط هذا العالم؟ يدير لهم خده الأيسر؟ قد فعل فاستهزؤا به واعتدوا عليه وكاد أحدهم أن يقتله. يكف عنهم ويستمر في دعوته لا يبالي بهم (ودع أذاهم وتوكل على الله)؟ قد فعل، واستمر 13 سنة يدعو. يواجههم عندما يتيسر له، ويؤدبهم ويردعهم، ويكسر شوكتهم ويمنعهم من تعطيل دعوته التوحيدية ورسالته العادلة الموجهة للبشرية كلها؟ قد فعل ذلك عندما تيسر له، وصار قادرا على مواجهتهم والانتصار عليهم.
يمكن أن يراه بعض الأغرار مجرد قاطع طريق، لكن السياق –والسباق واللحاق؛ أي القصة كلها- لا يقول ذلك. لم يعتدِ محمد وأصحابه على غير تجارة قريش؛ وقريش هي التي آذته أولاً، وكانت لا تزال تخاطب من يعيش النبي بينهم لكي ينقلبوا عليه، ويكملوا أذيتها.
إن معادلة القوة والمصلحة المحكومة بالأخلاق والأعراف العادلة تتجلى بروعة في السلوك السياسي والحربي الخارجي لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقد اشتملت هذه العمليات على أحداث تدل على أن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه موجَّهون بالقرآن، وليسوا موجَّهين بأهواء نفوسهم، ولا حتى طبائع عصرهم.
ومن أشهر المواقف في ذلك قصة القتال في الشهر الحرام (سرية نخلة رجب 2 هجريا) التي بدت مخالفة لأعراف العرب، وحاولت قريش أن تشنع بها على النبي والإسلام، فنزل القرآن: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218))
وكفى بهذا بيانا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قاطع طريق على النحو الذي يطعن به الطاعنون. ثم إن القرآن نفسه وضح من هو قاطع الطريق، ووضع له عقوبة شديدة كما في سورة المائدة.
ومن المهم أن تعلم أن الذين يدعي الطاعن أن محمدا صلى الله عليه وسلم قطع عليهم الطريق وقاتلهم وقاتلوه، وقَتلوا من أصحابه، وقَتل أصحابه من آباء أولئك وأبنائهم وإخوانهم، هم أنفسهم أسلموا بعد ذلك، بعضهم بعد بدر بقليل، وبعضهم بعدها بسنين؛ ما يعني أنهم لم يفهموا الأمر على أنه قطع طريق، ولا أنه سُبة أخلاقية كما يريد أن يصور الطاعن. فكيف يفسر ذلك؟
رابعا- السبي: وسبي زوجات الأعداء. (مستحيل أن يكون هذا من عند الله):
أعتقد أنك الآن لمحت المنهج الذي نفهم به هذه الأمور: أن نردها أولاً إلى مجالها الحياتي، ثم ننظر في ثوابت هذا المجال الحياتي ومتغيراته؛ فما كان ثابتا إنسانيا اجتماعيا أخلاقيا فهو ميزان، وما كان مختلفا فيه لم يكن ميزانا، وبحثنا له عن ميزان قبل أن نميل يمنة أويسارًا، وقبل أن نقبل أو نرفض.
والسبي علاقة من علاقات المجتمع الناجمة عن الحروب. والسؤال: كيف تقع المرأة في السبي؟ هل تؤخذ النساء خارج ميدان الحرب؟ هل عندما فتح محمد مكة سبى نساءها؟ أو عندما فتح المسلمون الشام والعراق ومصر سبوا نساءهم؟ الواضح أن السبي يتعلق بنساء وأطفال الميدان إذا صح التعبير؛ سواء كان هذا الميدان واديا صحراويا أو جبليا خارج القرى والمدن، أو كان ميدان المعركة قرية أو مدينة. فالنساء اللائي يقعن في الأسر هن أسيرات حرب، فماذا يُفعل بهن في العادة الحربية؟
أولا لم يذكر التاريخ أن النبي أو المسلمين اغتصبوا امرأة؛ لا فرديا ولا جماعيا، إنما ذكر التاريخ المنِّ على النساء والأطفال بالعتق والتحرير والإعادة إلى أهليهم، وذكر التاريخ السبي؛ أي استبقاء الأسيرات في أيدي المسلمين.
ويظل السؤال: ما هي الخيارات المتاحة للتعامل مع امرأة أو طفل وقع في الأسر في ميدان الحرب؟
ما عرفته البشرية لا يخرج عن: القتل، الاسترقاق والاستخدام، الفداء مبادلةً بآخرين، أو الفداء بمال، التحرير مِنَةً وتكرما، وأخيرا: الحبس أسيرا سجينا حتى يتبين أمره.
فأي ذلك أفضل؟ هل لدينا ميزان مطلق يجعل القتل هو الأفضل بإطلاق، أو المن بالتحرير هو الأفضل بإطلاق، أو المبادلة هي الأفضل؟
هذا يتصل بما سبق ذكره من ميزان السياسة الخارجية الفاعلة والعادلة.
وقد شرع الإسلام في وقتٍ ما القتلَ قبل الأسر (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67))-سورة الأنفال؛ وفي وقت آخر قال بالمن أو الفداء: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ..)- سورة محمد: 4، وأقر ما كان يجري من استرقاق للنساء وجعلهن ملك يمين.
لماذا وما الحكمة؟
المذكور عند الفقهاء -ورثة النبي في العلم- أن الأمر يرتبط بمصلحة الدعوة والأمة، وربما بمصلحة الأسير نفسه؛ ليس بوصفه أسيرًا، ولكن بوصفه إنسانًا محل دعوة الإسلام. ومن ثم فالأمر بحسب الحال.
- فمن كان شديد الإيذاء للإسلام والمسلمين ووقع في الأسر ولم يتب ولم يتراجع عن نهجه، فالأولى قتله.
- ومن كان غير مؤثر أو كان مكرها أو كان وجوده بين المسلمين عبئا عليه وعلى المسلمين، ربما يُمن عليه ويُترك؛ إحسانًا من المسلمين.
- ومن كان يُرجى إسلامه ربما يُمنّ عليه، فيسلِم، وربما يُسترقّ وقتًا ليَرى الإسلام والمسلمين، فيُسلم.
- ومن كان أسيرا يمكن فدائه بمال، وكان المسلمون في حاجة إلى المال؛ ففداؤه بالمال أفضل، خاصة لو كان دفع هذا المال للمسلمين مما يضعف عدوهم.
- ومن كان أسيرا يقابله أسارى للمسلمين عند عدوهم فالمبادلة أوجب؛ وهي واجب لقوله صلى الله عليه وسلم (فكوا العاني)؛ أي الأسير المسلم يفك بكل سبيل.
- وإذا أسلم الأسير الكافر الذي لم يقتل قبل جعله رقيقًا خادمًا، فُك أسره ولم يُبع، ولم يبادل، ولم يفادَ؛ إذ يصبح جزءا من المجتمع الإسلامي.
ما تقدم ينطبق على الرجال المقاتلين والنساء المقاتلات، ولا ينطبق على النساء غير المقاتلات ولا الأطفال ولا الشيوخ الكبار (إلا أن يكون الشيوخ من المشاركين بخبرتهم أو أموالهم في الحرب). ولكن النساء لهن شأن آخر زائد ينبغي تأمله.
فالنساء تابعات للرجال؛ والأسر يخرجهن من تبعيتهن هذه للرجال الكفار؛ ومن ثم أمامهن فرصة ذهية للتعرف على الإسلام في سياق أكثر حرية، وهذا من حقهن؛ وهو من مبررات الجهاد في الإسلام؛ لكي تكون الشعوب التابعة في سياق أكثر حرية لاختيار الإسلام من عدمه. ومن ثم فأسر المرأة تكون فيه هذه الخيارات:
- أن تحرر منًّا وإحسانا، إذا رُجي إسلامها أو إسلام أهلها، أو تفادى بمال أو تبادل بمسلمين أو مسلمات، بحسب المصلحة العامة والدعوية.
- أو تكون من السبي المستبقى، وعندها يتم تمليكها (تزويجها) لرجل واحد من المسلمين؛ لكي تكون في عصمته وحمايته، وتحت رعايته، وفي خدمته؛ زوجة محصنة غير مباحة لغيره، بطريقة تزويجية خاصة متصلة بواقعة الأسر؛ فهي غير الزواج الاجتماعي العادي: تختلف عنه في أشياء، وتتفق معه في الإعفاف والإحصان والحقوق المعنوية والأدبية. وهذا يعرضها لمعرفة الإسلام، وربما تُسلم، وربما تُكاتب (أي تعرض مالا) فتتحرر، أو تلد ولدا فتحرر به. وهكذا.
هذا النظام متعدد الخيارات، المرتبط بالأحوال المختلفة والمتغيرة، أقرب إلى مواءمة الحالات الحربية المتنوعة، وهو منوط بالمصالح لا بالشهوات ولا النزوات ولا الأهواء على نحو ما يلمح أو يصرح الطاعنون.
ويجب التنويه بأنه إذا ظلت المرأة المسبية على دينها لم تُكره على تغييره، وإذا دخلت في الإسلام حازت حقوق المسلمات كاملة.
وفي كل الأحوال لها سبل للخروج من حالة السبي ومن حالة ملك اليمين، إن شاءت، وقدرت.
ثم ماذا يقول التاريخ عن السبي الإسلامي؟ هل كان مثل السبي البابلي؟ هل فعل المسلمون في أمة ما فعلته الأمم فيهم من صليبيين في المشرق وصليبيين في الأندلس، ومن مغول وغيرهم؟ هل فعلوا ما فعله الأوروبييون في مستعمرات الشرق والغرب وفي أفريقيا؟ هل فعلوا ما فعله الأمريكان قريبا في العراق وغيرها؟ هل فعلوا ما يفعله اليهود الصهاينة في غزة اليوم؟ سبحان الله وبحمده!
ماذا يقول التاريخ عن صفية بنت اليهودي حيي بن أخطب الذي هو واحد من أعدى أعداء الرسول؟ وعن جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار العدو سابقا للنبي؟ وغيرهما؟ وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم منهما (صفية وجويرية) بعد وقوعهما في السبي؟ هل كانت مضطهدتين؟ هل جاءت رواية أنهما عوملتا بدونية أو ازدراء أو عسف أو ظلم أو ما إليه؟
واضح أن الطعن في الإسلام من دون غيره في باب الأسر والسبي ليس من باب الأخلاق الفاضلة، ولا من باب البحث عن الحق والحقيقة، ولا العدل ولا الرحمة، إنما هو من باب الكراهية العمياء وحسب.
خامسا- الإسلام يدعو للإقصاء ولرفض الآخر.
هذا قول واه، ساقط ضعيف، لا يرد عليه.
سادسا- الأخلاق في الإسلام قائمة على الخوف المستمر من الذات العليا “التي تمكر، وتحاول خداعك في كل وقت للوقوع في النار اللعينة..”
هذا القول يشمل قولين: الأخلاق قائمة على الخوف من الله، والقول بأن الله يمكر مطلقا، ويخادع لإيقاع الناس في النار اللعينة.
ونجيب عن كل منهما بالآتي:
الأول هو عن منبع الأخلاق وأصلها. وهذا عنوان كتابات ومداولات لا حصر لها عندنا بين الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ، وإلى اليوم. والموجود منها اليوم في القرنين الأخيرين كثير جدا جدا. ولهذا السؤال مفكرون مشهورون كثر، والسجالات بينهم عن أصل الأخلاق تقول عدة أقوال:
- أصلها الدين
- أصلها الفطرة
- أصلها المجتمع
- أصلها العقل
- أصلها… غير ذلك.
وفي كل قول من هذه الأقوال تفاصيل عديدة، ومسارات تصور كثيرة.
والنظرية الإسلامية أن فكرة الأخلاق نفسها أصلها هو الله تعالى، خلق الإنسان وخلَّقه بالأخلاق (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50))-سورة طه. ويتجلى هذا الأصل في الفطرة المشتركة بين البشرية التي تُحسِّن الصدق والعدل والوفاء، وتُقبِّح الكذب والخيانة والظلم. لكن وجود أخلاق معينة في شخص معين وحضورها في فكره وسلوكياته يمر على تربيته وأثر مجتمعه وخاصة أسرته فيها، ثم على إرادته مع تمييزه ورشده، وإرادة الإنسان عقل يفكر ونفس تميل؛ حتى تصير الأخلاق التي يحيا بها أكثرُها اختيارٌ وإرادة منه؛ لذا يُسأَل عنها ويُحاسَب عليها.
وإذا كان الإنسان مؤمنا بمجتمعه؛ فإنه يتخلق بالفضائل حبًّا في الناس، واستجابة لأعراف قومه ومجتمعه، وخوفًا من قانونهم وعقابهم إذا خالف نظامهم الاجتماعي.
وإذا كان الإنسان مؤمنا بالله تعالى فهو يتخلق بالأخلاق ابتغاء مرضاة الله، وطمعا في ثوابه، وكذلك خوفا من عقابه.
فما الإشكال في ذلك؟ هل الخوف من المجتمع وعدل القانون العقابي أو العقاب القانوني، جيد، والخوف من الله تعالى سيء؟ اللهم لا يقول هذا عاقل.
القول الآخر بأن الله تعالى يمكر، ثم أنه يخادع حتى يوقع الناس في النار اللعينة، فهو قولان أيضا:
أما أن الله تعالى يمكر، فهو لأول وهلة يُرفض، لكن لما جاء به الوحي الصادق؟ يعيد العقل التفكير فيه، ويتساءل: أي مكر هذا؟ هل هو كذب وإيقاع للأغرار في الخطأ أو الأذى؟ الحقيقة –ولله الحمد أولا وآخرا- أن المعنى غير ذلك تماما بل ضده. إن معنى مكر الله تعالى بالظالمين والماكرين السيئين والمنافقين؛ أنه يواجه إساءاتهم بالإمهال، وتركهم يلفون الأحبال حول أعناقهم.
مكر الله تعالى يعني ترك الماكر مكرَ السوء يمكر ويلعب بينما الله تعالى يراه، لتنطبق عليه سنة الله تعالى (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43))-سورة فاطر.
يمكنك أن ترى أحدهم يمكر بك أو بغيرك، وأنت تعلم جيدًا ماذا يفعل، فإذا كنت تعلم أنه سيقع في الحفرة التي يحفرها لهذا المظلوم أو المعتدى عليه، وتركت الماكر السيء يفعل ما يفعله ليقع في حفرته؛ أليس هذا منك مكرَ خيرٍ؟ وخاصة إذا كنت دعوته إلى الخير والعدل وقلت له: لا تفعل هذا السوء، وحذرت وحذرت، ثم أصر الماكر السيء على مكره السيء؛ أليس مكرك أنت مكرَ خير؟
أما أن الله تعالى يريد أن يوقع الناس في النار اللعينة، فهذا القول ضده كل آية في القرآن، وكل قول للنبي، وكل شعرة وشعار وشعيرة في الإسلام، (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221))-سورة البقرة.
سابعا- قول الطاعن: ربنا الحقيقي مستحيل يكون بيتفاوض معنا من 50 صلاة وعايزنا نقعد نتذلل له جامد كده عشان يتفضل علينا ويقلل الإتاوة…”، ثم تكميله بسباب وقلة أدب.
هذا لا يرد عليه، لكن نبين كيف تتدرج الشرائع الإلهية، وخاصة كيف تخفف بعد أن تبدأ ثقيلة.
إن المشرِّع يمكن أن يطالب المشرَّع له بأقصى مستطاعه، ويمكن أن يطالبه بما هو فوق المستطاع، وفي هذه الحالة لن يستطيع ولن يطيع ولن يلتزم بالتشريع. ويمكن أن يخفف عنه.
والأدلة كثيرة جدا على أن اليسر والتيسير والتخفيف من خصائص الشريعة وأصولها المتفق عليها، وأن ما تعذر أو تعسر أو شق على الإنسان خفف عنه بالشريعة وقواعدها.
- وأكثر الشريعة نزلت في أصلها مخففة.
- وبعض منها نزل في درجة ثم صعد لأعلى منها.
- وبعضها نزل على درجة ثم خُفف ونزل عنها.
وهذه الحالة الأخيرة هي ما نحن بصدده.
فقد نزلت أحكام عالية، ثم أشير إلى تخفيفها عند عدم الاستطاعة (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا)- المجالة: 4، (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92))- النساء.
ومن ذلك مواقف توضح الحكمة الربانية وعظمة التشريع، وأنه من الله الكبير المتعال إلى الإنسان الصغير الضعيف (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28))- النساء، (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66))- الأنفال[2].
من هذه الأحكام أحكام مال اليتيم التي فرض على المؤمنين حفظها وعدم الاقتراب منها إلا بالتي هي أحسن (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)-الأنعام: 152، والإسراء: 34؛ وفهموا من ذلك عدم خلطها بأموالهم ومعاملتها معاملة حرجة، حتى شعروا بالحرج الفعلي في رعاية هذه الأموال، عندئد أنزل الله تعالى عليهم: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220))-سورة البقرة.
ومن ذلك، ذلك الموقف العظيم الذي يرويه المحدثون عن آية في القرآن نزلت فقال الصحابة إنها فوق طاقتهم: روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الرُّكب، فقالوا: أي رسول الله! كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها –يقصدون قوله سبحانه: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: {سمعنا وعصينا}؟! بل قولوا: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}. قالوا: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}. فلما قرأها القوم، ذلَّت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: نعم، {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} قال: نعم، {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال: نعم، {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال: نعم.
فهذه المواقف تدل على أن مقام الله العظيم يقتضي أحكاما عالية، ولكن ضعف الإنسان ورحمة الله تعالى به تقتضي التخفيف، فجاء التخفيف سمة في الشريعة الإسلامية سارية جارية.
لذا فما روي من أن أصل الصلاة خمسون، وأنها خففت في العمل، وثبتت في الأجر خمسين، يدخل في هذه الحكمة البيانية؛ أن يبين الله تعالى لنا حقه العالي، ويبين لنا ضعفنا عن الوفاء به، فنؤدي ما نستطيع ونقول: ما وفينا ربنا حقه، ولا عبدناه حق عبادته، ولا أطعناه حق طاعته. ونكون دائما من المستغفرين، لا المستكبرين المعجبين بأنفسهم وأعمالهم.
وما روي من حوار بين النبييْن موسى ومحمد عليهما السلام، إنما هو مثل هذا الذي وقع بين محمد وأصحابه مما ذكرناه أعلاه: بحث عن التخفيف وسؤال الله تعالى ألا يحملنا ما لا طاقة لنا به. وأساس ذلك الاختلاف حول القدرة الإنسانية على تحمل التشريعات، وهذه الأحكام العالية يقدرها ربنا ثم يرفعها ويخففها ليذكرنا بتخفيفه ورحمته، وبحياته وسمعه وبصره بنا وقيوميته، وأنه معنا بعلمه وإحاطته سبحانه.
ثامنا- الإسلام فيه الكثير من الجمال والأخلاق الفاضلة، وفي بعض الأوجه أفضل من الغرب، “لكن ليس هذا معيار الطاعة العمياء”.
بداية، ليس في الإسلام وشريعته وعقيدته مفهوم للطاعة العمياء، إلا ما يكون من طاعة الكفار والمشركين لآبائهم وأسيادهم وأحبارهم، بما في أوامرهم ونظمهم من تناقضات ومخالفات للعقل والعدل والأخلاق.
فالطاعة العمياء لا تكون لمن أطاع من علم علمه وحكمته، وعدله وفضله، ورحمته ورأفته، وأسبغ عليه خيره ونعمه. وإن كانت طاعة مطلقة فهي لله تعالى صاحب الكمال المطلق، فهي مفهومة، لكنها ليست عمياء.
والقرآن يذم العمى ويدعو إلى الهدى، ويدعو إلى البصروالتبصر والاتباع على بصيرة:
(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)-سورة فصلت: 17.
(وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ..)- سورة فاطر: 19-22.
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ..)- سورة يوسف: 108.
وهذا يكفي.
ولكن ماذا عن الطاعة خارج الإسلام؟ هل هي طاعة بصيرة أم عمياء؟ هذا ما يحتاج إلى تبيين وتوضيح.
تاسعا- لماذا يتكلم هذا هذا الإله بالعربية فقط؟ هل كل شخص على سطح هذا الكوكب مطالب بتعلم اللغة العربية بلهجة أهل قريش ليعلم أن هذا الكلام من عند الله؟
اللغات كثيرة ومختلفة، وهي آية من آيات الله تعالى. واختلاف الألسنة لم يمنع التواصل عبر التاريخ وعبر أنحاء الأرض. فهل يفترض أن الله تعالى يُنزل وحيًا واحدًا بلغات مختلفة؟
الحقيقة الاتصالية تقول إن الرسالة الأصلية الواحدة ستُشوش إذا تعددت في أصلها اللغوي؛ أي كتبت أو صيغت من أول يوم بلغات متعددة. لكن أن يكون لها أصل لغوي واحد، ثم تُترجم معانيها، فإن هذا الأصل اللغوي الواحد، يظل مرجعها الحافظ المحفوظ، يحفظها من التشتت، ومن تشكيك كل أصحاب لسان في النسخة التي مع غيرهم.
ثم إن الدين هو المعاني المقصودة قبل أن يكون المباني والقوالب المشيدة. فالعبرة المعاني لا العبارات ولا الصور. فكل من شهد بربوبية الله تعالى وألوهيته، ووصله معنى القرآن والمعاني التي جاء بها النبي لم يضره ألا يعرف العربية.
ثم إن تعلم الجميع لغة واحدة لغرض سام ومحدد وهو مطالعة القرآن والوحي، أيسر من تحييرهم بين لغات عدة.
وهكذا فحجج نزول القرآن باللسان العربي أوضح وأنجح وأصلح.
عاشرا- (خالق الكون يخاطب شخص ما في أذنه وعليه أن ينقل لنا ما يسمعه ويفترض مننا أن نصدق هذه البلاهة).
هذا كلام في حقيقة الوحي بصفة عامة، وليس يخص محمدا صلى الله عليه وسلم ودينه وحده، فهو يجعل تصديق فكرة الوحي الإلهي إلى البشر بلاهة. وهذا قاله من قبله الكفار عبر التاريخ: إن الأنبياء سحرة، أو مجانين، أو كهنة، أو شعراء كذبة أو ما إليه.
إنكار الوحي واجهه القرآن بأدلة عقلية قوية وكافية:
- ما هو الوحي؟
الوحي إرسال رسالة تخفى عن الآخرين. والإيحاء موجود خارج الإرسال الإلهي. فالناس يوحي ويرسل بعضهم إلى بعض بطرق كثيرة. فإذا أراد الله تعالى أن يوحي إلى أحد البشر فيمكن أن يكلمه. ونحن قبل الوحي لم نكن نعلم أن الله تعالى يتكلم أو لا يتكلم. حتى علمنا من الوحي أن الله تعالى كلم موسى تكليما. ويمكن أن يكلم الله تعالى مَلَكا من الملائكة لكي يخاطب هو الإنسان بكلام الله، وهذا ما حصل مع سائر الأنبياء. ينزل الملك بالرسالة، فيتصل بالبشري (النبي)، ويخبره بالرسالة، ليستوعيها لنفسه فيكون نبيا، أو لينقلها إلى الباقين فيكون نبيا رسولا.
هذا الاتصال إما يكون في منام البشري، أو في صحوه. وفي صحوه يكون بدخول الملك في جسم البشري ونقله الرسالة بصورة خاصة، أو عبر مسافة قريبة فيكلمه وهو يراه أو قد لا يراه، أو يتمثل له بشرا (التمثل أي الظهور في صورة بشر) ويكلمه كما يكلم البشر بعضهم بعضا[3].
ماذا يخصنا نحن البشر من غير الأنبياء؟
أن نتأكد من أن هذه الرسالة تدل بكل ما فيها، ومن غير اختلاف ولا تعارض، على أنها من رب العالم كله رب العالمين خالقنا ومالكنا. ساعتها نقف منها موقف المتلقي من ربه، ولا ينفعنا تفصيل شكل الملك أو طريقته في الكلام أو أسلوبه في التواصل، أو طبيعة صوته، أو ماذا يحدث للبشري لكي يتلقى عن الملك… وهكذا.
ما يهمنا قبل كل شيء وبعده هو الرسالة ومضمونها؛ وهل هي حقيقةً من الله ربنا فنعطيها كل عقولنا وقلوبنا، أم هي كاذبة فنرفضها ونتجنبها؟
- ما المانع أن يوحي الله إلى البشر؟
لا يمنع العقل أن يختار الله بشرا ويوحي إليه ما يشاء، لكي يوصل هذا البشري إلينا ما أوحاه الله إليه. لا مانع من وقوع ذلك، بل هو الخيار الأفضل؛ لأن البديل هو إما أن نكون كلنا أنبياء، فينتفي الاختبار بالإيمان بالغيب، أو لا يكون بيننا وبين ربنا اتصال.
ومن البدائل أن يتعدد الأنبياء، وقد فعل الله تعالى ذلك، ولم يتناقضوا، ولم تتعارض رسائلهم، على الأقل فيما يقوله الإسلام عن النبيين السابقين.
ومن البدائل الفكرية أن يرسل الله ملكا يكلم الناس، ولكن ماذا سيكون؟ سنستغربه وننشغل بهذا الرسول الملكي عن الرسالة الإلهية. ثم إنه في أحسن الأحوال سيكون على صورة الإنسان؛ ومن ثم فالأولى أن يكلم الملَك إنسانا واحدا، ثم نحن نسمع لهذا الإنسان، وفي هذا الخيار الأفضل إزالة لكل تلك التشويشات التي لا يعقلها الطاعنون بغير فكر ولا روية.
- ما أدلة صدق الوحي؟
أدلة صدق الوحي محيطة بالمسألة من كل نواحيها؛ فهي: أدلة فطرية وقلبية، وأدلة عقلية ومنطقية، وأدلة حسية مرئية ملموسة، وأدلة تاريخية واقعية، وأدلة اجتماعية ونفسية… وهكذا. وقد أفاضت ببيانها كتب العقيدة والدعوة عبر تاريخ المسلمين.
- ما هي الظواهر الكاذبة التي تشتبه بالوحي؟
وقد واجه الإسلام، قرآنا وسُنة وأمة وعلماء، الظواهر الكاذبة التي تدعي النبوة أو الوحي؛ عبر تاريخ طويل وإلى اليوم، سواء بين المسلمين أو خارجهم. واجه الإسلام المتنبئين الكاذبين مثل مسليمة والأسود العنسي وسجاح وغيرهم، وواجه الكهنة وأبطل عملهم، وواجه العرافين والمشعوذين وأدعياء معرفة الغيب، وواجه الميول البشرية نحو ادعاء معرفة الغيب أو تصديق ذلك. وحتى اليوم يواجه الإسلام والمسلمون أدعياء المهدية، وأدعياء العصمة. ويخرج من الإسلام من يدعي في نفسه أو في غيره النبوة أو العصمة من بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم. ومن هؤلاء من يدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقد رد عليهم القرآن الكريم ردًّا قاطعا في سورة المائدة، فليُراجع.
حادي عشر- لماذا قرر الله أن عدد الشهور في السنة شيء هام جدا بالنسبة له؟ وهذا مرتبط بدوران الأرض حول الشمس وهو ثابت كوني، ويوليوس قيصر هو أول قسم الشهور ل 12 شهر في العام 46 قبل الميلاد، فهل هذا يعني أن يوليوس قيصر كان يوحى إليه بشكل ما؟
الشهور والأسابيع والسنون، تزمينات تواضعية؛ يعني أن المجتمعات تواضعت وتوافقت على عدّ أيامها أسابيع، ثم شهورا، ثم سنين، ثم عقودا، ثم قرونا،.. وهكذا. لكن العجيب تاريخيا وعمرانيا أن هذه الطريقة عليها إجماع بشري. فمن أين جاء هذا الإجماع؟
- الله تعالى خلق اليوم حين خلق الليل والنهار، فكل وقت يضم ليلا واحدا ونهارا واحدا يصبح يوما واحدا.
- وخلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش في السابع، فعرف أهل الدين الإلهي الأسبوع من هذه المعلومة التي عرفوها من الوحي.
- وخلق الله تعالى الشمس والقمر، وجعل للقمر منازل، ليعلم الناس عدد السنين والحساب. فتابع الناس القمر فوجدوه له دورة كل 29 يوما أو ثلاثين، وسموها شهرا.
- ثم إن الله تعالى جعل كل ثلاثة أشهر فصلا ذا مناخ وأجواء معينة، تتحرك في دائرة لكي تتجدد كل أربعة فصول، أو كل اثني عشر شهرا. ولاحظ الناس ذلك: أن أحوال الشهور تتكرر وتتجدد كل 12 شهرا، فعرفوا السنة.
وقد جاء القرآن الكريم ليخبرنا أن خالق السماوات والأرض هو الذي رتب لنا هذا الترتيب الذي عليه إجماع البشرية وفيه خيرات ومصالح عدة، فقال تعالى:
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37))-سورة التوبة.
هذه المعلومة نزلت لتأكيد مع عليه البشرية، وتأكيد شرعة الأشهر الحرم، ثم لنبذ فكرة “النسيء” الذي هو حيلة من أجل التلاعب بالزمان الذي وضعه الله تعالى للناس، وأقره جل شأنه حين تواضع عليه الناس.
أما قول الطاعن إن يوليوس قيصر أو غيره قد وضع الشهور أو السنين، فهذا مما يدل على أنه ليس طالب حق ولا حقيقة ولا قدم له في هذا المجال.
ثاني عشر- كتب سورة الكافرون هكذا: قل يا أيها الكافرون … طبقنا طبق طبقكم… لكم دينكم ولي دين وألحق بها صورة لأطباق متتالية في صف طويل.
هذا سب وطعن غير أدبي ولا علمي. فدلالة وحكمة تكرار (لا أعبد ما تعبدون)، و(ولا أنتم عابدون ما أعبد)، مشروحة في كتب التفسير؛ شروحًا تدل على عظمة القرآن وسموّه، فلا داعي لتكرارها.
فقط يقال للطاعن: كف عن السب والطعن، من غير علم ولا فهم، وراجع وطالع بنية صادقة.
ومن يستهد يهده الله.
ومن يطلب العلم يعلمه الله.
والله لا يهدي القوم الظالمين.
هوامش
[1] من الطريف أن هذا هو عنوان رسالتي للحصول على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة.
[2] و(علم) هنا ليس معناها عرف بعد أن لم يكن يعرف، إنما معناها وضع عليكم علامة كشفت ضعفكم، وهي الحرب وعدم القدرة على مواجهة الأعداد الكبيرة بالأعداد الصغيرة.
[3] وقد ورد حديث في أول صحيح البخاري عن ابن عباس يشرح هذه الحالات، ووردت آيات الوحي عبر الملك في آيات كثيرة في القرآن الكريم.
يمكن تحميل المقال من خلال الرابط التالي