تطور إستراتيجية الدفاع للناتو بين الأمن التقليدي والأمن السيبراني

مقدمة:

إن تطور استراتيجية الناتو حقيقة قائمة منذ إنشائه عام 1949، وهناك محطات أساسية في هذا التطور كانت نتيجة تطورات تكنولوجية وتطورات في موازين القوى الدولية وفي التوازنات الإقليمية، منها:

  • مرحلة الحرب الباردة:

حيث كان مصدر التهديد هو الاتحاد السوفيتي وتطور استراتيجيات الردع النووي، من الأحادي الشامل إلى المتبادل الشامل، إلى الجزئي والحروب على جهات متعدِّدة، وكانت الثورة التكنولوجية في مجال التسلُّح والانتقال إلى العصر النووي بجميع مستوياته من التسلُّح النووي، عاملًا أساسيًّا، وظلَّ التسلُّح التقليدي ذا مصداقية في العلاقات الدولية.

  • في 1949 استراتيجية الردع النووي المنفرد في ظل الاحتكار الأمريكي والقدرة على الضربة الأولى.
  • في 1957 استراتيجية الردع النووي المتبادل في ظل تعدد القوى النووية وإطلاق الصاروخ الروسي طويل الأمد.
  • في 1961 تأكيد الردع النووي المتبادل والتوافق على الأمن الأوروبي، وضبط الصراع من خلال وكلاء في العالم النامي.
  • بين 1973-1990: استراتيجية الحروب المتعدِّدة والانتقال من الوفاق إلى الحرب الباردة الثانية.

مرحلة ما بعد الحرب الباردة: مصادر تهديد جديدة

تمثَّلت هذه التهديدات في الحروب الإقليمية والحروب الأهلية ذات المصادر الدينية القومية المذهبية إلى الحرب على الإرهاب، ومن ثم حدث الانتقال من التدخُّل العسكري المباشر الأمريكي والغربي في نطاق الناتو (1990-2021)، الأمر الذي استوجب تغييرًا في استراتيجية الناتو في قمة روما 1991 لتوسيع نطاق تدخُّل الحلف العسكري خارج نطاق الدول الأعضاء، وكانت تلك بداية في الكويت، ومن بعدها البوسنة، والصومال، وأفغانستان، والعراق. ثم جاء الانتقال إلى مرحلة سحب الوجود العسكري الأمريكي في الخارج- تدريجيًّا- وخاصة في ظل إدارة ترامب أو بمعنى أدق إعادة الانتشار باستخدام وسائل جديدة، كالقواعد المتحركة، والطائرات المسيرة، والوسائل السيبرانية الأخرى، وكان الانسحاب الفوري السريع من أفغانستان 2021 علامة أساسية في هذا الصدد.

والوجه الآخر من عملية التهديدات كان لصيقًا بالوجه الأول هو الحرب على الإرهاب، وتجلَّت بوضوح في استراتيجية الحلف الدولي ضد الإرهاب منذ 2015 وخاصة في المنطقة العربية.

وفي المقابل كان هيكل التوازن الدولي في تغيُّر مع الصعود الروسي والصيني وتركيزهما على وسائل المواجهة غير المباشرة مع الولايات المتحدة وهم ينظرون إلى اتِّساع وامتداد تدخُّلها العسكري الخارجى في نطاق الناتو.

إذن المرحلة الحالية هي الثالثة في تطوُّر استراتيجية الحلف[1] الكبرى تحت تأثير الجيل الرابع من التكنولوجيا والتغير في توازن القوى وخريطة الصراعات.

ولقد اتَّسعت ميادين التفاعل الدولي اليوم ليصبح الفضاء السيبراني ميدانًا جديدًا للتفاعل العالمي بل للحرب بين الدول، ومن ثم بات محل اهتمام ونظر دول العالم حيث طبيعته المختلفة عن الميادين التقليدية، ومن هنا بات ينظر حلف الناتو والذي يعدُّ أقوى حلف عسكري في العالم إلى هذا الفضاء الافتراضي باعتباره الميدان الخامس للقتال بعد الأرض والبحر والجو والفضاء، بل هو الميدان الذي يجري فيه التنسيق بين جميع الوحدات في الميادين العسكرية المختلفة، ومع ازدياد تطوُّر الأسلحة السيبرانية وتصاعد الهجمات وتنوُّعها وتعقُّدها، أصبح الأمن السيبراني أولوية على أجندة الحلف لا تقل أهمية وخطورة عن الأمن التقليدي.

وفي هذا السياق، وفي ضوء قراءة ما صدر عن قمة الناتو -التي عقدت في الرابع عشر من يونيو 2021- من قرارات وتوصيات بهذا الشأن، يَنظر هذا التقرير في تطوُّر الإستراتيجية الدفاعية للناتو التي لم تعد محدودة بمصادر التهديد التقليدي، بل أصبح هناك تهديدات من فضاء افتراضي موازٍ يستلزم أدوات وآليات جديدة في التعامل معه، وذلك في محاولة للإجابة عن مجموعة من الأسئلة المتعلِّقة بأهمية الفضاء السيبراني بالنسبة لحلف الناتو وذلك بالنظر فيما يقدِّمه من فرص وما يبثُّه من تهديدات، وانعكاس هذا على تطور استراتيجية الدفاع منذ قمة لشبونة 2010 وصولًا إلى قمة يونيو 2021 والتي حظى فيها الأمن السيبراني بأهمية غير مسبوقة، ويرجع اهتمام الناتو بالفضاء السيبراني بعد تعرُّض أنظمة الكمبيوتر في إستونيا عام 2007 لهجمة فيروسية أدَّتْ إلى شلِّ شبكة المعلومات في جميع أنحاء البلاد، وقلق الناتو من تكرار مثل تلك الهجمات. وما دلالات تطور التهديدات السيبرانية على مفاهيم الأمن التقليدي؟ هذا بالإضافة إلى التطرُّق للنقاش الدائر حول كيفية توطين الركائز والمفاهيم الأساسية التي يقوم عليها الحلف كالدفاع الجماعي والردع في هذا السياق الجديد غير التقليدي.

أولًا- أهمية الفضاء السيبراني لحلف الناتو: بين الفرص ومصادر التهديد وبين تطور الإستراتيجية

إن القدرات السيبرانية الآن تعدُّ في نظر العديد من الدول جزءًا ضروريًّا من أدواتها الإستراتيجية بجانب القوة الدبلوماسية والاقتصادية والقدرة العسكرية[2]، لقد أصبح للفضاء السيبراني أهمية كبيرة في النظام الدولي وأصبح تأثيره على طبيعة ذلك النظام في تزايد مستمر، وفي هذا السياق ساعد الفضاء السيبراني على تغيُّر مفهوم القوة، حيث انتهى احتكار مفهوم القوة بالمعنى التقليدي والمتمثِّل في القوة الصلبة أو القوة المادِّية، وأصبحت تلك القوة في متناول كلِّ من يمتلك المعرفة التكنولوجية وله القدرة على استخدامها لتحقيق أهدافه، ولا تستخدم من قبل الدول فحسب، بل يستخدمها أيضًا الفاعلون من غير الدول في تنفيذ ما يُعرف بالهجمات الإلكترونية واختراق شبكات المعلومات إلى غير ذلك من العمليات[3]، وتعدَّدت نماذج هذه الهجمات طيلة العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين.

وفي هذا الصدد تشير عدَّة تقارير إلى أن عمليات التجسُّس الإلكتروني في تزايد مستمر، فحسْب ما يشير أحد التقارير الصادرة عن شركة IBM بلغ عدد عمليات التجسُّس الإلكتروني حوالي 237 مليون على مستوى العالم في الأشهر الستة الأولى فقط من عام 2005، كما تأتي الولايات المتحدة على قمة قائمة الدول التي تتعرَّض للتجسُّس الإلكتروني، ففي النصف الأول من عام 2005 أيضًا تعرَّضت الولايات المتحدة لأكثر من 12 مليون هجوم إلكتروني بهدف التجسُّس، وهناك العديد من الجرائم الإلكترونية الأخرى التي تتعرَّض لها الدول مثل سرقة الهُوية والتي تتمُّ من خلالها سرقة معلومات شخصية تستخدم للاحتيال والقيام بأعمال غير قانونية ويتم استغلالها لتحقيق مكاسب مالية، فعلى سبيل المثال في يوليو عام 2006 صرَّح مسؤولون بوزارة الطاقة الأمريكية عن عملية سرقة بيانات شخصية لأكثر من 1500 موظف يعملون بإدارة الطاقة النووية الوطنية وقدِّرت الخسائر المترتِّبة على سرقة الهوية بمبالغ ضخمة، ففي المملكة المتحدة قدِّرت بحوالي 1.3 مليار جنيه إسترلينى سنويًّا وفي الولايات المتحدة وصلت إلى 56.5 مليار دولار في عام 2006 فقط.

من الجرائم الإلكترونية الكارثية أيضًا هجمات الاختراق وهي تلك الهجمات التي يتم من خلالها الدخول بشكل غير مشروع إلى الأنظمة الآلية، وفي حالات الاختراق الكامل يتمكَّن المهاجم من السيطرة الكاملة على الحاسب الآلي، ومن ثم يمكنه تغيير البيانات أو زرع برامج خبيثة داخل الجهاز، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما أعلنته وزراة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” في عام 1996 بأن هناك ما يقرب من 250000 محاولة اختراق لأنظمة الحاسب الآلي الخاصة بالوزارة وأن 75 بالمئة من هذه الهجمات قد نجحت بالفعل[4].

وفي ظلِّ هذه الأهمية المتصاعدة أصبح الفضاء السيبراني في نظر حلف الناتو الميدان الخامس للحرب بعد الأرض والبحر والجو والفضاء، وفي هذا الصدد تسجل أنظمة الدفاع الإلكتروني التابعة لحلف الناتو هجمات يومية تتفاوت في مستواها بين الضعيفة والمتطورة، حيث تغطِّي البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات التابعة لحلف الناتو أكثر من 60 موقعًا مختلفًا، من المقر السياسي في بروكسل، مرورًا بالأوامر العسكرية إلى مواقع عمليات الناتو حيث يعتمد أكثر من 100000 شخص على شبكات الناتو، ومن ثم فهذه الهجمات تمثِّل خطرًا إستراتيجيًّا لا يمكن تجاوزه[5].

وتكْمن أهمية الفضاء السيبراني بالنسبة لحلف الناتو في عدَّة عناصر تتمثَّل في: أولًا- حماية الأهداف العسكرية من الاختراق، والتي تشمل تأمين كل من نظم الإدارة والمراقبة، ونظم التحكُّم والسيطرة، ونظم توجيه الأسلحة وقطاع الاتصالات الحربية، والأسلحة آلية القيادة مثل الطائرات بدون طيار، هذا فضلًا عن حماية المنشآت العسكرية والحيوية (مثل محطات الطاقة النووية) من أي اختراق إلكتروني.

ثانيًا- حماية القادة العسكريِّين أنفسهم من التجسُّس، ويتم ذلك من خلال تأمين الأجهزة الإلكترونية الشخصية الخاصة بالقادة لضمان عدم اختراقها، وتسريب المعلومات العسكرية والإستراتيجية منها، هذا بالإضافة إلى وضع قواعد صارمة لنوعية الأجهزة الشخصية التي يقومون باستخدامها.

ثالثًا- حماية البيانات العسكرية من التلاعب، والتي تشمل معلومات حول أفراد القوات المسلحة، كالأسماء والرُّتب والمرتبات والوظائف داخل الجيش وأماكن الإقامة الشخصية، فضلًا عن خطط التسليح وتصميمات الأسلحة، وخرائط انتشار القوات وتوزيع الأسلحة، وكذلك حماية البنية التحتية من التدمير، مثل: قطاع الاتصالات، والمواصلات، ومحطات الطاقة، وقواعد البيانات الحكومية، وخدمات الحكومات الذكية، والبنوك، والمؤسسات المالية والمصرفية[6].

وعلى صعيد آخر، يعدُّ دعم العمليات الاستخباراتية، من خلال القيام بشنِّ هجمات سيبرانية استباقية تساهم في توفير معلومات ومن ثم تساعد القوات العسكرية على أرض المعركة ذا أهمية قصوى للحلف الناتو، وفي هذا الإطار لا بدَّ من الإشارة إلى أن هناك العديد من الهجمات الإلكترونية قامت بها الولايات المتحدة ضدَّ خصومها، فالأمر لم يقتصر فقط على الجهود الدفاعية حيث قامت الولايات المتحدة بشنِّ هجوم على شبكة الكهرباء في روسيا في يوليو 2019، تمامًا كما قامت روسيا باختراق شبكاتها، وهاجمت أيضًا شبكات صينية ردًّا على هجمات مماثلة من الصين، وبدعم من الكونجرس والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، شكَّلت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” وحدة عسكرية إلكترونية لاستهداف أنظمة الدول الأعداء.

ويعدُّ أول استخدام للأسلحة الإلكترونية في العالم لمهاجمة منشآت الدول الأخرى انطلق من الولايات المتحدة حتى أصبحت أكثر بلد يشن هذه الهجمات،[7] إلا أنها لا تعلن ذلك إلَّا في نطاق محدود[8]، فعلى سبيل المثال، في عام 2004، شنَّت الولايات المتحدة هجوما إلكترونيًّا أدَّى إلى إحداث شلل في الإدارات العليا في ليبيا. وفي عام 2010، نفَّذت الولايات المتحدة وإسرائيل هجومًا إلكترونيًّا مشتركًا عبر فيروس «ستكس نت» استهدف منشآت نووية إيرانية، وتسبَّب في تعطيل 1000 جهاز طرد مركزي، وألحق شبه شلل بالبرنامج النووي الإيراني. وفي عام 2016، اعترف وزير الدفاع الأمريكي السابق آشتون كارتر بأن الولايات المتحدة قد نفَّذت هجمات إلكترونية ضد تنظيم داعش في سوريا، وهي المرة الأولى التي تعترف فيها الولايات المتحدة الأمريكية علانية باستخدام هذه الهجمات كوسيلة من وسائل الحرب.

ومن المعروف أيضًا أن الولايات المتحدة شنَّت هجمات إلكترونية على منشآت الصواريخ الباليستية في كوريا الشمالية. وفي مارس 2019، شهدت فنزويلا انقطاعًا واسعًا للكهرباء، تأثَّرت به 18 ولاية من أصل 23، مما أحدث حالة من الشلل في المواصلات والرعاية الطبية والاتصالات والبنية التحتية في هذا البلد ودفع الرئيس الفنزويلى مادورو لاتهام الولايات المتحدة بتدبير ذلك الأمر.

ويمتلك الجيش الأمريكي في الوقت الحاضر، 133 وحدة حرب إلكترونية، وخلال السنوات العشر من 2006 إلى 2016، أجرى الجيش الأمريكي 7 مناورات استهدفت 3 منها الصين، ووفقًا لتقرير شبكة “NBC” الإخبارية، فقد شنَّ الجيش الأمريكي عملياته عبر الإنترنت خلال العامين الأولين من إدارة ترامب أكثر مما فعل في 8 سنوات تحت قيادة الرئيس السابق باراك أوباما[9].

وبهذه الطريقة لا تعمل وحدات الأمن السيبراني بمعزل عن وحدات الأمن التقليدى حيث تعتبر الوحدات العسكرية السيبرانية وحدات قتالية، تقوم بأدوار قبل وأثناء وبعد القيام بالمهام العسكرية التقليدية، مثل: تعطيل نظم الدفاع الجوي والأسلحة الخاصَّة بالخصم، وبالتالي تأمين القوات خلف خطوط العدو، بما يحمي القوات العسكرية المقاتلة على الأرض[10].

وعلى إثر هذه الأهمية الكبيرة التي يحظى بها الفضاء السيبراني بالنسبة لحلف الناتو وأعضائه سواء من حيث ما يقدِّمه من فرص وكذلك ما يفرضُه من تحديات -خاصة في السنوات الأخيرة- حيث سرعة الهجمات الإلكترونية وتصاعدها، والتي استهدف بعضها أجزاء من الحكومة الأمريكية، والبرلمان الألماني (البوندستاج)، وحملات الانتخابات في فرنسا، وكان أحد أكثر الهجمات فداحة في السنوات الأخيرة ما استهدف شبكة الكهرباء الوطنية الأوكرانية والذي تسبَّب في انقطاع التيار الكهربائي عن أكثر من 200 ألف شخص في شتاء عام 2015. هذا الحادث أظهر قدرة الهجمات السيبرانية على إخضاع مجتمعات بأكملها، وقد حمَّلت كييف وواشنطن آنذاك روسيا مسؤولية الهجوم، فيما أشارت الولايات المتحدة بأصابع الاتهام في نهاية عام 2020 تحديدًا لبعض ضباط وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية التابعة لمديرية المخابرات الروسية (GRU)[11]. ومن ثم كان موضوع الأمن السيبراني على رأس الموضوعات التي نوقشت في قمة الناتو التي عُقدت في 14 يونيو2021، حيث تمَّ التطرُّق لمجموعة من الموضوعات تمثَّلت في مواجهة التغيُّر المناخي، والانسحاب من أفغانستان، والتحالف عبر الأطلسي في مقابل الصعود الصيني، والتوسُّع في منطقتي البلقان والبحر الأسود، إلَّا أن موضوع الأمن السيبراني حظى بأولوية على أجندة الموضوعات.

ثانيًا- تطور اهتمام الحلف بالأمن السيبراني:

ولكن ممَّا تجدر الإشارة له أن اهتمام الحلف بالفضاء السيبراني والأمن السيبراني ليس جديدًا، بل يعود لعدة سنوات ماضية حيث تسبَّبت الحوادث السيبرانية التي جرت في عدَّة مناسبات في تحفيز وتطوير هذا الاهتمام، ومنها ما حدث في إستونيا في عام 2007 -عندما شنَّت روسيا عليها حملة من الهجمات الإلكترونية جراء نقل الحكومة الإستونية نصبًا تذكاريًّا للحرب السوفيتية من وسط مدينة تالين[12] في معضلة سياسية وإستراتيجية خطيرة داخل الناتو، ويرجع هذا بداية إلى أن هذه السلسلة من الهجمات كانت الأولى من نوعها التي لم تحدث في الفضاء المادِّي، وتُوَجَّهُ نحو دولة عضو في حلف الناتو ومن ثمَّ شكَّلت بدورها بداية عهد جديد من التحديات، ولكن مما تجدر الإشارة إليه أن ذكر أهمية التهديدات السيبرانية بين أعضاء الناتو قد سبق هذه الحادثة، ففي الإعلان الختامي لقمة الناتو في براغ عام 2002 تمَّ ذكر أهمية التهديدات الإلكترونية؛ ومن ثم جاءت حادثة إستونيا لتبرهن على ذلك، فبعد هذه الأزمة الإلكترونية، أصبح من الواضح جدًّا لدى حلف الناتو أن هناك حاجة للتنسيق المركزي في مجال الدفاع السيبراني للحلف وكذلك في الدول الأعضاء.

في عام 2008 عُقدت قمة بوخارست، حيث كان هناك تطور هام آخر، إذ تبنَّى حلف الناتو “سياسة الدفاع الإلكتروني”، والتي تهدف إلى “حماية أنظمة المعلومات الرئيسية، وتوفير القدرة على مساعدة دول الحلفاء عند الطلب لمواجهة أي هجوم إلكتروني”[13]، حيث أدرك أعضاء الحلف حقيقة أن بلدًا ما يمكن مهاجمته من خلال الفضاء السيبراني وليس فقط بأبعاد تقليدية محدَّدة جيدًا، مثل الأرض أو الجو أو البحر أو الفضاء، ومن ثم أدَّى هذا الاعتراف في الناتو إلى صياغة مستوى جديد من الدفاع عن أنظمة الاتصالات العسكرية وتكنولوجيا المعلومات التابعة للحلف بعد قمة الناتو عام 2010 في لشبونة، حيث تمَّ الإعلان في القمة عن أن التهديدات السيبرانية أصبحت في تزايد وتطوُّر مستمر، ومن ثم فإن سلامة الحلف والحفاظ على أجهزته الحيوية في المجال السيبراني تتطلَّب الأخذ بعين الاعتبار البُعد السيبراني للنزاعات الحديثة في عقيدة الناتو، وذلك لتحسين قدراته في الدفاع وفي اكتشاف وتقييم ومنع الهجوم الإلكتروني على الأنظمة ذات الأهمية الحاسمة للحلف.

وفي الثامن من يونيو عام 2011، وقَّع وزراء دفاع الدول الأعضاء في الناتو على سياسة إلكترونية جديدة للحلف بحيث لم تتضمن فقط أفكارًا إستراتيجية للدفاع السيبراني، بل تضمَّنت أيضًا خطة عمل، وفي عام 2012 تم إطلاق ما يعرف بخلية التوعية بالتهديدات السيبرانية (Cyber threat awareness cell)، وفي قمة شيكاغو من نفس العام تمَّ التطرُّق لمسألة التهديد السيبراني بشكل دقيق ومفصَّل بحيث أعلنت القمة أنها ملتزمة بما توصَّلت إليه من قرارات في قمة لشبونة، وأنها أصبحت تتبنَّى مفهوم وسياسة الدفاع السيبراني ولديها خطة عمل في حيِّز التنفيذ.

وفي هذا السياق يعدُّ مركز التميز للدفاع السيبراني التعاوني The NATO Cooperative Cyber Defence Centre of Excellence [CCDCOE] -الذي أُسِّسَ عام 2008 عقب حادثة إستونيا- أحد أهم العناصر في سياسة الناتو للدفاع السيبراني حيث تتمثَّل أهميته في كونه يعمل على تعزيز التعاون، ومشاركة المعلومات بين الناتو والدول الأعضاء والشركاء في الدفاع الإلكتروني من خلال التعليم والبحث والتطوير والدروس المستفادة والاستشارات، فهو أحد أكبر المساهمين في إطلاق دراسة عالمية لفهم الحرب السيبرانية، والتي تبحث بشكل رئيسي في إمكانية تطبيق قواعد القانون الدولي على العمليات السيبرانية.

وعلى الرغم من هذه الجهود التي قام بها الناتو إلَّا أن نقطة التحوُّل فيما يتعلَّق بالدفاع السيبراني كانت في قمة الناتو في وارسو عام 2016 عندما أعلن الناتو رسميًّا أنه يمكن اعتبار الفضاء السيبراني ميدانًا خامسًا للحرب بجانب الميادين الأربعة الأخرى (البر والبحر والجو والفضاء) مؤكدين على أن الدفاع السيبراني أصبح جزءً لا يتجزَّأ من مفهوم الدفاع الجماعي للناتو (Collective defense)[14].

كرَّرت قمة بروكسل 2018 وقمة لندن 2020 التزام الناتو بتنفيذ تعهُّد الدفاع السيبراني وتفعيل مركز العمليات السيبرانية، المسؤول عن الوعي بالموقف والتخطيط المركزي للعمليات والمهمَّات السيبرانية وفي يناير 2020، تمَّ نشر مبدأ الحلفاء المشترك لعمليات الفضاء الإلكتروني لتخطيط وتنفيذ وتقييم عمليات الفضاء الإلكتروني (cyber operations) في سياق العمليات المشتركة للحلفاء[15].

ثالثًا- قمة الناتو يونيو 2021: الدلالات والمآلات

1- قمة الناتو 2021 والرؤية المستقبلية: سياسة دفاع إلكتروني شاملة

إن الأهمية المتزايدة للأمن السيبراني في الآونة الأخيرة جاءت متوازية مع السياسة الأمريكية في الأشهر الأخيرة أي منذ وصول بايدن، والتي تضمَّنت ردود الحكومة الفيدرالية على الهجمات الإلكترونية وهجمات برامج الفدية -وهي نوع من البرامج الضارة التي تقوم بتشفير البيانات حتى يدفع الطرف المعتدَى عليه مبلغًا من المال حتى يمكنه استعادة بياناته- ضد شركات قطاع البنية التحتية الحيوية في الولايات المتحدة[16]. حيث أدَّت هجمات برامج الفدية التي استهدفت مؤخَّرًا شركات البنية التحتية الحيوية مثل Colonial Pipeline وJBS إلى ارتفاع هائل في أسعار الغاز، وأثارت أجراس الإنذار في البلدان في جميع أنحاء العالم بشأن تعرُّض غالبية البلدان لبرامج الفدية وغيرها من أشكال البرامج الضارَّة خاصَّة من قبل روسيا[17].

وعلى إثر هذا جاءت قمة الناتو لتتبنَّى هذا الموضوع على أجندتها كأحد المواضيع الرئيسية إن لم يكن أولها، وأعلنت الدول الأعضاء أن التهديد السيبراني للحلف أصبح معقَّدًا ومدمِّرًا وتعسُّفِيًّا وفي تزايد مستمر، مؤكِّدين على التعرُّض المتزايد في الآونة الأخيرة إلى حوادث برامج الفدية وغيرها من الأنشطة السيبرانية الضارة التي تستهدف البنى التحتية الحيوية والمؤسسات الديمقراطية، وما يترتب على ذلك من آثار وأضرار جسيمة، ونتيجة لذلك أيَّدت دول الناتو “سياسة الدفاع الإلكتروني الشاملة” والتي تؤكِّد على أن الهجوم السيبراني، لو كان فادحًا بما فيه الكفاية، يمكن أن يكون سببًا لتفعيل البند الخامس من ميثاق الحلف، والذي يعتبر أي هجوم على عضو في الحلف بمثابة هجوم على الحلف بأكمله وذلك لدعم الردع والدفاع والصمود[18].

ومن ثم سيعمل الحلف -تأكيدًا على التفويض الدفاعي له- على تشغيل كافة القدرات بشكل مستمر لتحقيق الردع والمواجهة والدفاع ضد الهجمات المحتملة وفقًا لقواعد القانون الدولي، ومن ثمَّ تمَّ توسيع مجال عمل المادة الخامسة التي تُعد الممثلة لروح للحلف، والتي تنصُّ على أن الهجوم على دولة من دول الحلف، بمثابة هجوم على دول الحلف ككل، بما يستوجب دفاع الدول الأعضاء عن الدولة، وقد تمَّت الإشارة لتوسيع مجال التهديدات المهدِّدة للحلف؛ فلم تعدْ مقتصرة على الهجوم الجوي والبري والبحري، ولكن تمَّ توسعتُها كذلك لمجال الفضاء الجوي والفضاء الإلكتروني، وهو ما يتناسب مع التهديدات السيبرانية الأخيرة على الدول المختلفة داخل الحلف، خاصة التهديد الروسي الذي تمَّ التطرُّق له مباشرة، كما تمَّ التأكيد على زيادة الاستثمار في مجال الدفاعات السيبرانية والتكنولوجية للحلف، بجانب القوات الدفاعية التقليدية[19].

كما تتَّفق الدول الأعضاء على الحاجة الماسَّة إلى سياسة إلكترونية متماسكة لتحقيق الأمن السيبراني الذي بات لا يقل ضرورة عن الأمن التقليدي، ومن هنا طوَّر جميع حلفاء الناتو تقريبًا إستراتيجية للأمن السيبراني وذلك لإعادة التأكيد على الأمن السيبراني كمسألة ذات أهمية للأمن القومي، حيث وافقت الدول الأعضاء في الناتو، كجزء من السياسة الجديدة على استخدام الناتو كمنصَّة لتبادل المعلومات والمشاركة في مخاوف الأمن السيبراني الدولي، ومواصلة تحسين الدفاعات الإلكترونية لحلف الناتو.

ومما تجدر الإشارة له أن تبنِّي الحلف لسياسة إلكترونية موحَّدة لا تخلو من مواجهة مجموعة من التحديات تتمثَّل في تفاوت الموارد والمقدَّرات بين الدول الأعضاء واختلافهم في توزيعها، فبعض الدول يعطي للعمليات السيبرانية حصة كبيرة من الموارد ويستفيد من الاستثمار فيها، بينما لا تزال غالبية الحلفاء تضع ميزانيات ضئيلة لمثل هذه العمليات، ومن التحديات الهامَّة أيضًا التي تواجه الحلف هو اختلاف الدول الأعضاء على كيفية تطبيق القانون الدولي في مقابل سيادة الدول، وعلى الرغم أن هذا الخلاف قائم منذ سنوات إلا أنه أصبح أكثر عمقًا حاليًّا[20].

وفي هذا الصدد حذَّر الناتو من استعداده للتعامل مع الهجمات الإلكترونية بنفس الطريقة التي يتعامل بها مع الهجوم المسلح ضد أي من حلفائه، وإصدار ردٍّ عسكري ضدَّ الجناة، معلنًا أن البُعد السيبراني سبب شرعي للحرب كالميادين الأخرى، محذِّرًا بشكل خاص من التحدِّي الأمني ​​المتزايد الذي تطرحه الصين على التحالف من خلال “طموحاتها المعلنة وسلوكها الحازم”، والتي تشمل التهديدات الإلكترونية وحملات التضليل[21].

هذا بالإضافة إلى الاختلاف القائم بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية في رؤيتهم نحو روسيا والصين، فبينما تعتبر الصين عدوًّا في نظر الولايات المتحدة تعدُّ في نظر الدول الأوروبية منافسًا قويًّا، ففي قمة الدول السبع التي انعقدت في 13 يونيو 2021 وعلى الرغم من محاولة دول القمة تقديم موقف موحَّد ضدَّ الصين وروسيا بإطلاق الكثير من رسائل التحذير من النفوذ الروسي والصيني ومحاولة بايدن توحيد الصف الديمقراطي وإعلان الصين وروسيا نظمًا سلطوية إلا أنه حتى الآن يبدو أنه لا يوجد إجماع بين هذه الدول حول ما إن كانت الصين شريكًا أم منافسًا أو أنها تشكِّل تهديدًا أمنيًّا[22]، ومع ذلك تمَّ توجيه الاتهامات إلى روسيا والصين بشكل مباشر حيث اتهم الرئيس بايدن روسيا بالتدخُّل في الانتخابات الرئاسية لعام 2020، كما استنكرت مجموعة السبعة سلوك روسيا المزعزع للاستقرار بما في ذلك الهجمات السيرانية وبرامج القرصنة الأخرى[23]، حيث قال بايدن محدِّدًا ومبرزًا للتحديات الأكثر أهمية في بداية قمة الناتو: “إن الناتو يواجه تحديات جديدة، لدينا روسيا التي تتصرَّف بطريقة لا تتفق مع ما كنا نأمله، ولدينا الصين”. وفي هذا السياق أعلن قادة الناتو قلقهم بشأن “سياسات الصين القسرية” في إشارة واضحة إلى قمع مسلمي الأويغور في شينجيانغ وتوسيع ترسانتها النووية والافتقار المتكرِّر للشفافية واستخدام المعلومات المضللة[24].

وفي هذا الإطار يقول جيمس أكتون المدير المشترك لبرنامج السياسة النووية بمؤسسة كارنيجي للسلام الدولي في واشنطن: “هناك عدَّة دول يمكن أن يكون لديها حافز للتجسُّس السيبراني، أو التحضير لهجمات سيبرانية من خلال زرع برامج خبيثة موجَّهة ضدَّ أنظمة الإنذار المبكر الأمريكية، كوريا الشمالية لديها حافز للقيام بذلك، والصين لديها حافز للقيام بذلك، وكذلك روسيا لديها حافز للقيام بذلك، ودول أخرى كثيرة، أيضًا”[25].

في 16 يونيو 2021 التقى الرئيس الأمريكي جو بايدن بنظيره الروسي فلاديمير بوتين حيث حذر بايدن من أن “الهجمات السيبرانية من قبل روسيا” قد تسفر عن نزاع عسكري، حيث اعتبر أنها يمكن أن تتسبَّب في يوم ما بـ”حرب بإطلاق نار”[26]. ويتبيَّن من هذا الزخم والاهتمام بمصدر تهديد جديد وميدان جديد للحرب كيف أصبح هذا التطور عالمي يسلط الضوء على كيفية اندماج العالم المادي وعالم الإنترنت بسرعة، مع تداعيات في كلا الاتجاهين[27].

2- بين الأمن التقليدي والأمن السيبراني: دلالات وتغيرات مفاهيمية

من خلال النظر في قمة الناتو 2021 ومستخرجاتها بشأن الأمن السيبراني وما سبقها من قمم اتخذت خطوات في سبيل تعزيز الأمن السيبراني للحلف وأعضائه، يتبيَّن أن مسألة عسكرة الفضاء السيبراني وشرعنته باتت أكثر تبلورًا ووضوحًا، وهو ما يعني تغيُّرًا في فهم الأمن التقليدي وما يرتبط به من مفاهيم، كما أن محاولة توطين الركائز الأساسية للحلف من دفاع جماعي وردع جماعي أصبحت أكثر إلحاحًا، وهذا مما يجدر الوقوف عنده في هذا الصدد.

ففي ظلِّ تزايد أهمية الفضاء السيبراني وما يفرضه من تحديات، تزايدت العلاقة بين الأمن والتكنولوجيا، خاصة مع إمكانية تعرُّض المصالح الإستراتيجية للدول إلى أخطار وتهديدات، وهو ما انعكس في قمم الناتو على مدار السنوات الماضية، الأمر الذي حوَّل الفضاء الإلكتروني لوسيط ومصدر لأدوات جديدة للصراع الدولي، وفرضت تلك التطورات إعادة التفكير في مفهوم “الأمن القومي للدولة”، والذي يعني حماية قيم المجتمع الأساسية، وإبعاد مصادر التهديد عنها، وغياب الخوف من خطر تعرُّض هذه القيم للهجوم.

غير أن طبيعة ذلك الفضاء، كساحة عالمية عابرة لحدود الدول، جعل الأمن السيبراني يمتدُّ من داخل الدولة إلى النظام الدولي ليشكِّل نوعًا من الأمن الجماعي العالمي، خاصة مع وجود مخاطر تهدِّد جميع الفاعلين في مجتمع المعلومات العالمي مما غيَّر من طبيعة مفهوم الأمن القومي التقليدي المحكوم بحدود الدولة القومية وسيادتها.

ويعدُّ مفهوم الحرب في ظلِّ عسكرة الفضاء السيبراني أحد المفاهيم التي يُثار حولها جدل كبير، فالمفهوم التقليدي للحرب، ينطوي على استخدام الجيوش النظامية، ويسبقه إعلان واضح لحالة الحرب، وميدان قتال محدَّد. بينما تختلف هجمات الفضاء الإلكتروني، فهي غير محدَّدة المجال، وغامضة الأهداف، حيث إنها تتحرَّك عبر شبكات المعلومات والاتصالات المتعدِّية للحدود الدولية، هذا بالإضافة إلى اعتمادها على أسلحة إلكترونية جديدة تلائم طبيعة السياق التكنولوجي لعصر المعلومات، حيث يتم توجيهها ضد المنشآت الحيوية، أو دسِّها عن طريق عملاء لأجهزة الاستخبارات.

كما أن من طبيعة الهجمات السيبرانية أنها تدخل في إطار “الحرب غير المتكافئة”، كون الطرف الذي يتمتَّع بقوة هجومية، ويبادر باستخدامها هو الأقوى، بغض النظر عن حجم قدراته العسكرية التقليدية، الأمر الذي يؤثِّر في نظريات الردع الإستراتيجي، ويجعل مفهوم الردع السيبراني محلَّ جدل بالنسبة لحلف الناتو كونه إحدى الركائز الهامة التي يقوم الحلف على تحقيقها، بالإضافة إلى هذا تغيَّرت ظاهرة الصراع حيث برز “الصراع السيبراني” كحالة من التعارض في المصالح والقيم بين الفاعلين، سواء أكانوا دولًا أم غير دول في الفضاء الإلكتروني، فالمتنازعون يلجؤون في الصراعات التقليدية إلى استخدام شتى أنواع أسلحة التدمير الممكنة، إلَّا أن الفضاء السيبراني نقَل جبهات القتال بشكلٍ موازٍ إلى ساحته الافتراضية، وكان لهذا التغيير دور في إعادة التفكير في حركية وديناميكية الصراع، بل وبروز ما يعرف بـ”عصر القوة النسبية”، وتعني هذه الأخيرة أن “القوة العسكرية” قد لا تكفي وحدها لتأمين البنية التحتية للدول؛ الأمر الذي يخلِّف آثارًا استراتيجية هائلة على مستوى تركيبة وتوازنات النظام الدولي وهذا ما تجلَّى في قمة الناتو التي باتت فيها الصين وروسيا لاعبين رئيسيين يهدِّدان توازنات النظام الدولي بما يملكانه من عناصر قوة تهدِّد الأمن السيبراني للدول الكبرى، والتي لا تتوقَّف تداعياتها على حدود الدول المستهدفة لطبيعة الفضاء السيبراني العابرة للحدود.

على صعيد آخر يلعب الفضاء الإلكتروني دورًا أساسيًّا في تغيير مفهوم القوة وطبيعتها ومصادرها، حيث برزت “القوة السيبرانية” التي تختلف في ماهيَّتها عن “القوة التقليدية” المقتصرة على المصادر المادية، إذ يعرفها جوزيف ناي بأنها “مجموعة الموارد المتعلقة بالتحكم في أجهزة الحاسبات والمعلومات والسيطرة عليها، وكذلك الشبكات الإلكترونية، والبنية التحتية المعلوماتية، والمهارات البشرية المدربة للتعامل مع هذه الوسائل”.

وتدفع القوة السيبرانية في اتجاهين رئيسيين، الأول: تدعيم القوة الناعمة للدول، حيث بات الفضاء الإلكتروني مسرحًا لشنِّ هجمات تخريبية ترتبط بنشر المعلومات المضلِّلة، والحرب النفسية، والتأثير في توجُّهات الرأي العام، والنشاط السري والاستخباراتي. أما الاتجاه الآخر، فيتعلَّق بتبنِّي الدول زيادةَ الإنفاق في سياسات الدفاع الإلكتروني، وحماية شبكاتها الوطنية من خطر التهديدات، وبناء مؤسسات وطنية للحماية الإلكترونية[28].

هذا فضلًا عن خصائص الفضاء السيبراني التي تجعل للقوة أبعادًا جديدة، وأول هذه الخصائص تجاوز هذا الفضاء للحدود المكانية والزمانية، بحيث يمنح الفاعلين الدوليين ميزة إستراتيجية تمكِّنهم من تحقيق عنصر المفاجأة بسهولة، ممَّا يعرقل قدرة الخصم في عملية اتخاذ القرار، وممَّا تجدر الإشاره له، أن القوة الإلكترونية أصبحت فرصة للدول الضعيفة والمتوسطة لاكتساب القوة إذ إنها تستطيع من خلال استخدام آليات الهجوم الإلكتروني تحقيقَ مصالحها بتكلفة منخفضة، وذلك على عكس الدول القوية التي تعتمد على أنظمة إلكترونية متطورة في شؤون الدولة مما يجعلها أكثر عرضة للهجمات الإلكترونية، إلا أن هذا بالطبع لا يغني عن القوة التقليدية بأى حال من الاحول ولكنها ميزة نسبية يوفرها هذا الفضاء[29].

لقد أصبح للفضاء السيبراني أيضًا دور فيما يطلق عليه “القوة المؤسسية” في السياسة الدولية، والتي تعني أن يكون للفضاء السيبراني دور في قوة الفاعلين في الساحة الدولية وتحقيق أهدافهم وقيمهم في ظلِّ التنافس مع الآخرين، وكذلك المساهمة في تشكيل الفعل الاجتماعي في ظل المعرفة والمحددات المتاحة، والتي تؤثر في نظريات العلاقات الدولية وتشكيل السياسة العالمية، وقد أتاح هذا الفضاء السيبراني أن يكون له دور في تشكيل قدرة الأطراف المؤثرة، والتي يعدُّ من أبرزها الولايات المتحدة التي كان لديها ما يشبه الاحتكار لمصادر القوة منذ نهاية الحرب الباردة، لتظهر عملية انتقال القوة وانتشارها بين أطراف متعدِّدة سواء أكانت دولًا أو من غير الدول[30].

على صعيد آخر، أكَّد الحلفاء في قمة الناتو يونيو 2021، أنه من أجل مواجهة التحدِّي “المتطور” للهجمات الإلكترونية يجب وجود “سياسة للدفاع الإلكتروني الشاملة” لحلف الناتو، والتي ستدعم المهام الأساسية الثلاث لحلف الناتو، والتي تشمل الدفاع العام أو الجماعي والردع، وتعزِّز من مرونة الحلف بشكل أكبر[31]، ومن هنا يُطرح تساؤل حول مدى إمكانية توظيف الركائز الأساسية للحلف كالدفاع الجماعي والردع الجماعي اللذان يعملان في سياق الأمن التقليدي منذ نشأة الحلف في سياق جديد تمامًا ذي طبيعة مختلفة.

ففي قمَّته المنعقدة في وارسو 2016 وافق حلف الناتو على أن الهجمات الإلكترونية الإستراتيجية لا بدَّ أن تخضع لردود دفاعية جماعية، ومن هنا بدأ توطين هذا المفهوم التقليدي في سياق افتراضي جديد[32]، وهو ما ظهر في تطوير كلٍّ من دول الحلف إستراتيجية دفاع عن طريق تبنِّي سياسات وإجراءات تساهم في تعطيل الهجمات وإضعافها، وإنشاء وحدات متخصِّصة بهذا الشأن سواء بقيادة إلكترونية موحَّدة كما في فرنسا والولايات المتحدة، أو بقيادة إلكترونية منفردة كما الحال في ألمانيا إلَّا أن استراتيجيات الهجوم لا تزال في طور البحث والتطوير[33].

من ناحية أخرى، تتطلَّب هذه الاعتبارات -جنبًا إلى جنب مع رقمنة البنية التحتية العسكرية والمدنية الحديثة لدول الناتو- استكمال جهود الردع لتعمل في إطار جديد، ليظهر لدينا مفهوم جديد محاط بالكثير من الشكوك والتساؤلات، وهو مفهوم الردع السيبراني، ونظرًا لأهمية المفهوم كأحد الأهداف الرئيسية للحلف يأتي تحقيق الردع السيبراني كأحد العناصر الهامَّة التي تتعلَّق بهذا الفضاء الجديد، وذلك من خلال رفع تكلفة الهجوم السيبراني للخصم، عبر إنشاء نظم دفاع سيبرانية صعبة الاختراق تحتاج إلى وقت وجهد كبير لاختراقها، مع تطوير قدرات تتبُّع الهجمات السيبرانية واكتشاف مصدرها بما يؤدِّي في النهاية إلى التأثير على قرارات الخصم وردعه بخصوص شنِّ هجمات إلكترونية[34].

لكن مما تجدر الإشارة له أن الردع السيبراني كمفهوم لم يتبلور بشكل كامل حتى الآن، إلَّا أنه يستدعي مزيدًا من النقاش بين أعضاء الناتو أكثر من أي وقت مضى، نظرًا لسرعة التهديدات التي يواجهونها الآن -لا سيما من الشرق- وهو في ذلك يختلف عن مفهوم الدفاع السيبراني الذي أصبح أكثر تداولًا بين أعضاء الحلف، وهو ما ظهر في قمة يونيو بشكل كبير، إلَّا أن كبار قادة الناتو بدأوا يتعاملون مع الردع السيبراني باعتباره اتجاهًا مستقبليًّا محتملاً للحلف. والأهم من ذلك، أن العديد من الدول الأعضاء، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا وإستونيا، يحاولون إعلان هذه الإستراتيجية، ومن المهم أن نشير إلى أن قمة يونيو ذكرت الردع في سياقه السيبراني وإن لم تُشِرْ صراحةً إلى مفهوم “الردع السيبراني” المستحدث؛ ممَّا يدلُّ على أن هذه الركيزة الأساسية للحلف في طريقها للعمل في ميدان الحرب السيبرانية[35].

خاتمة:

نخلص مما سبق إلى أن تحقيق الأمن السيبراني بات مطلبًا عالميًّا ذا أهمية محورية، ومن ثم أصبح له أولوية على أجندة حلف الناتو، لكن على الرغم من الاهتمام الكبير الذي يُبديه حلف الناتو للأمن السيبراني إلا أنه ما زال هناك العديد من التحديات التي تقف أمامه في تطوير إستراتيجيَّته للدفاع السيبراني يتمثَّل بعضها في الانشقاق الحاصل بين الولايات المتحدة وأوروبا بعد إدارة ترامب، واختلاف وجهات النظر حول الصين وروسيا والتي يحاول جو بايدن ترميمها، ويتمثَّل البعض الآخر في تفاوت المقدَّرات التكنولوجية والإدارية والمالية بين الدول الأعضاء مما يعيق أحيانًا قوة الحلف على التعاون، كما أن اختلاف طبيعة هذا الفضاء لا تزال تطرح العديد من الأسئلة حول مفاهيم وسياسات تتعرَّض لتغيُّرات جذرية لطالما اعتاد العالم على تعريفها بشكلٍ معيَّن، ومن ثم فإن تغيير هذه التصورات ومحاولة توظيف وتسكين وتغيير المفاهيم كمفهوم القوة والأمن وسيادة الدولة القومية والحرب والصراع وغيرها في ظل ساحة افتراضية جديدة يحتاج الكثير من البحث والتطوير وإعادة النظر في النظريات الكبرى التي تفسِّر العلاقات الدولية، هذا بالإضافة إلى تطوير وتنمية واستحداث آلية جديدة تتمكن من العمل في هذا الميدان المستحدث والمتطور بشكل هائل.

 

 

———————————–

(*) باحثة في العلوم السياسية.

[1] للمزيد حول هذا الموضوع، انظر:

  • نسيبة أشرف محمد، الحوار المتوسطى في إطار المفهوم الإستراتيجى الجديد لحلف الناتو، رسالة ماجستير، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2011.

[2] Neil Robinson, NATO: changing gear on cyber defence, NATO Review, 8 June 2016 , vailable at: https://bit.ly/3ANZmMa

[3] ريهام عبد الرحمن، أثر الإرهاب الإلكترونى على تغير مفهوم القوة في العلاقات الدولية، المركز العربي الديمقراطي، 24 يوليو 2016، متاح عبر الرابط التالى:

https://democraticac.de/?p=34528

[4] نوران شفيق، الفضاء الإلكتروني وأنماط التفاعلات الدولية: دراسة في أبعاد الأمن الإلكتروني، رسالة ماجستير، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2014، ص ص 68-72.

[5] Public Diplomacy Division (PDD) – Press & Media Section, Nato Cyber Defense, NATO, August 2020, available at: https://cutt.us/0jTnu

[6] إيهاب خليفة، الميدان الخامس: الفضاء السيبراني في العقيدة العسكرية لحلف الناتو، المركز المصرى للفكر والدراسات الإستراتيجية، 9 فبراير 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://ecss.com.eg/8085

[7] رحاب جودة خليفة، أمريكا وبيرل هاربر الجديدة، الأهرام، 3 يوليو 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/aWceN

[8] محمد المنشاوى، تكنو-استراتيجى: حروب دون دماء، الشروق، 4 فبراير 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/kZNM3

[9] رحاب جودة خليفة، أمريكا وبيرل هاربر الجديدة، مرجع سابق.

[10] إيهاب خليفة، الميدان الخامس: الفضاء السيبرانى في العقيدة العسكرية لحلف الناتو، مرجع سابق.

[11] قمة بايدن وبوتين.. وشبح الخطر النووي السيبراني، DW، 16 يونيو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/UZeHs

[12] القرصنة الروسية ليست جديدة… الحرب الإلكترونية الأولى في إستونيا، المجلة، 22 مارس 2017، متاح عبر الرابط التالى: https://cutt.us/a4WQf

[13] Max Smeets, Nato allies’ offensive cyber policy: a growing divide, The Hague center for strategic studies, August 2021, available at: https://cutt.us/SkI4j

[14] Laszlo Kovacs, Cyber security policy and strategy in the European Union and NATO, Land Forces Academy Review, Vol. XXIII, No. 1, 2018, pp. 21-23, available at: https://bit.ly/3kJqVAE

[15] Max Smeets, NATO allies’ offensive cyber policy: a growing divide, Op. cit.

[16] John Curran, Cyber security, Ransomware Climb Policy Ladder at NATO, G-7 Meetings, Meri Talk, 14 June 2021, available at: https://cutt.us/hrnxO

[17] Dan Lohrmann, NATO Adds Cyber Commitments, Potential Ransomware Response, Government Technology, 20 June 2021, available at: https://cutt.us/s9rlp

[18]الناتو يقرر اعتبار الهجمات الإلكترونية بمثابة “هجمات مسلحة” تستدعي الدفاع المشترك، سي إن إن بالعربية، 14 يونيو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/k5a7H

[19] الشيماء عرفات، عودة للتماسك الغربي أم محطة جديدة للخلاف، المرصد المصري، المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية، 21 يونيو 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/tgUgi

[20] Max Smeets, Nato allies’ offensive cyber policy: a growing divide, Op. cit.

[21] Look at:

– James coker, NATO Warns it Will Consider a Military Response to Cyber-Attacks, info security magazine, 15 June 2021, available at: https://cutt.us/xOVge

  • تحليل: ما خيارات أوروبا مع صعود الصين على حساب هيمنة أمريكا، DW، 7 فبراير2021، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/JOk0K

[22] الصين لمجموعة السبع: الأيام التي تقرر فيها مجموعة صغيرة من الدول مصير العالم ولت، بى بى سي، 13 يونيو 2021، متاح عبر الرابط التالى: https://cutt.us/ExP6A

[23] Franco Ordonez and Asma Khalid, Biden Pushes G-7 Allies To Take A Tougher Stance On China, NPR, 13 June 2021, available at: https://cutt.us/aJe2O

[24] Dan Sabbagh and Julian Borger, Nato summit: leaders declare China presents security risk, The Guardian, 14 June 2021, available at: https://cutt.us/O4B0F

 [25] قمة بايدن وبوتين.. وشبح الخطر النووي السيبراني، DW، مرجع سابق.

[26] بايدن: لبوتين مشاكل والهجمات السيبرانية من قبل روسيا قد تؤدي لـ”حرب بإطلاق نار”، روسيا اليوم، 27 يوليو 2021، متاح عبر الرابط التالى: https://cutt.us/XiPMd

[27] Dan Lohrmann, NATO Adds Cyber Commitments, Potential Ransomware Response, Op. cit.

[28] عادل عبد الصادق، أنماط الحرب السيبرانية وتداعياتها على الأمن العالمي، مجلة السياسة الدولية، 14 مايو 2017، متاح عبر الرابط التالى: https://cutt.us/9Db8D

[29] نوران شفيق، الفضاء الإلكتروني وأنماط التفاعلات الدولية: دراسة في أبعاد الأمن الإلكترونى، مرجع سابق، ص ص 190-192.

[30] عادل عبد الصادق، عسكرة الفضاء الإلكتروني بين التحديات وفرص المواجهة، المركز العربي لأبحاث الفضاء الإلكتروني، 14 مارس 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/DEEIN

[31] Zamira Rahim, Melissa Macaya and Ed Upright, Biden and world leaders meet at 2021 NATO summit, CNN, 14 June 2021, available at: https://cutt.us/WTjBO

[32] Patrik Maldre, Moving Toward NATO Deterrence for the Cyber Domain, Center for European Policy analysis, May 2016, p. 7, available at: https://bit.ly/3zNZKZT

[33] Nicolas Mazzuchi, Alix Desforges, Web wars: preparing for the next cyber crisis, Carnegie Europe, 28 November 2019, available at: https://cutt.us/Ffsve

[34] إيهاب خليفة، الميدان الخامس: الفضاء السيبرانى في العقيدة العسكرية لحلف الناتو، مرجع سابق.

[35] Patrik Maldre, Moving Toward NATO Deterrence for the Cyber Domain, Op. cit.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى