المقاومةُ المعرفيَّة للعَلمانيةِ المُلحدة: حواراتُ الإسلامِ والعلم

المقاومةُ في عصرِ الانْبطاح:

إذا تأمَّلتَ العالمَ اليومَ تجدُه غرفةً صغيرة؛ بل يمكنُ أن ينكمشَ إلى حدِّ وضعِه في جهازِك أو هاتفِك المَحمول، وأصبحتِ الهيمنةُ على العقولِ أيسرَ للقوةِ السائدة، وأضحَى الغزو الأجنبيُّ لا يكسبُ أرضًا فحسْب؛ بل يجتاحُ الأفكارَ والعقول.

والغزو الفكريُّ أكثرُ خطورةً لأنَّ الخسارةَ لا تتمثَّلُ في فقدانِ أرضٍ؛ بل تشملُ فقدانَ ما عليها من أجيالٍ من البَشر، وأهمُّ من ذلك أن يفقدَ الإنسانُ نفسَه، ولأنَّ الغرب صنَّاعُ حضارة اليوم، ولهُم الريادةُ في التقدُّمِ الهائلِ في العلم والتكنولوجيا بما في ذلكَ وسائل الاتصالات، فلديْهم مقاليدُ كلِّ شيء في لعبةِ تَداول المَعلومات، وظهورُ الملاحدةِ بين شبابِ المجتمعات الإسلاميةِ وجَهْرُهم بكُفرهم منذ بداية الألفيةِ الثالثة لم يأتِ من فراغ، ممَّا جعلني أنتبهُ من سنين، ظنًّا منِّي أن المشكلة تَكْمُنُ في انتشارِ الفكر الإلحادي، ولكنْ عند دراسة أبعادِ المشكلة منذُ عام 2005، وجدتُّ أنَّ الإلحادَ في حدِّ ذاته ليسَ المشكلةَ الأساسية، ولكنَّه أحدُ شواهدِ المشكلة، والمشكلة أساسُها الانبطاحُ لكلِّ ما هو غربي. تجدُ أبناءَ النُّخبة في مجتمعِنا اليوم لا يتحدَّثُونَ إلا الإنجليزية، والرُّموزُ في نفوسِهم مستوردةٌ كاستيرادِ الملبَس والمأكل. سألتُ حفيدَ أختي ذاتَ ليلةٍ عن مَثَله الأعلى فأجابَ -دونَ تفكير- بيل جيتس! لم يكنْ سببُ فرط اندهاشي كراهيتي لبيل جيتس، فأنا لا أكرَهُ الرجل، ولستُ متحقِّقة بما يَجول حولَه من نظرياتِ المؤامرة، ولكنَّ اندهاشي كان سببُه خلاءَ الساحةِ الإسلامية الرَّاهنة من تقديمِ رمزٍ يَحيَا في نفوس أبنائنا. وقد أثارَ ذلك الموقفُ سؤالًا في نفسي: إلى أيِّ مدًى يسيطر علينا الفكرُ الغربي؟ والردُّ قد يبدو معلومًا للوهْلة الأولى، ولكنْ في حقيقة الأمرِ هو غيرُ ذلك كما سأوضحُ في الفقرةِ التالية.

إلى أيِّ مدًى يتوغَّلُ فينا الفكرُ المادي؟

منذُ أعوام مضتْ كنت أتلقَّى دروسًا في المعهدِ البريطانيِّ بهدف تقويةِ اللغة الإنجليزية، اعتادتِ المعلمةُ في آخرِ كلِّ حصةٍ أن تعرض علينا أمرًا لدراستِه ومناقشته في الحصةِ التاليةِ كنوعٍ من أنواع الحثِّ على استعمال اللغة. في هذا اليوم تحديدًا، طلبتْ منَّا دراسةَ سلوك الإنسان، والبحثَ في أيٍّ من العاملين يشكلُه؛ هل هو صفاتُه الموروثة وجيناتُه، أم ظروفُه المحيطة والبيئة، Nature versus Nurture، وبالفعل ذهبَ كلٌّ منَّا يدرس ويبحثُ ويستخرج معلوماتِه من الإنترنت، واختلفتْ رؤى كثيرٍ من العلماء والفلاسفة حولَه، إذ يتَّخذ أتباعُ الفطرة Nativists موقفًا مَفاده أنَّ معظمَ سلوكيات الإنسان نتاجُ صفاتِه الموروثة، ومن ناحيةٍ أخرى يَتَّخِذُ التجريبيُّون Empiricists الموقفَ المقابلَ وهو القائلُ بأنَّ معظمَ السلوكيات تنتجُ عن التعلُّم، وكثيرٌ من العلماء يتَّفقون على أنَّ سلوكَنا نتاجُ العامليْن معًا؛ جيناتنا وما نكتسبُه من خبرات، ولكنِ اختلفوا في تحديد النِّسَب، وبدأتُ أقيِّمُ ما قيلَ من كلِّ الأطراف، ولكن وجدت ضَميري يُكَبِّلُ قلمي؛ إذ رفضت تمامًا أن يكون الإنسانُ مُسَيَّرًا يتحرَّكُ على حسب صفاته الموروثةِ أو ظروف بيئته؛ تَعالى اللهُ الملكُ الحقُّ على أن يحاسبَنا على ما ليس لنا يدٌ فيه، ولذلك جاءَ ردِّي في الحصةِ التالية صادمًا لأني رفضت المُعطيات، وقلتُ بأعلى صوتٍ إنَّ الصفات والظروفَ لا تشكِّلُ السلوك، وإلا فلنُغلق كلَّ مَحاكم الأرض، وكلَّ المحافل التي نقدِّرُ فيها كلَّ مَن تفوقَ في مجال ما، لأنَّهم مسيَّرون، ليس عليهم ذنبٌ فيما اقترَفوه، ولا لهُم الفضلُ فيما وَصلوا إليه من نُبوغ، واستعنتُ بمثال: شبَّهتُ فيه الإنسانَ بالسيارةِ، وقلتُ هبْ أنَّ الصفاتِ الوراثيةَ في هذه الحالة هي موديلُ السيارة، مرسيدس أو فولكس أو فيات، أيًّا كانت، وهبْ أنَّ البيئة والظروفَ هي طريقةُ صيانتِها ونوعُ الوقود المقدَّم لها، وهبْ أنَّ هذه السيارة سارتْ في اتجاهٍ معاكس، أو خالفتِ الإشارة؛ هل مِن المنطق أن نقولَ إنَّ الدافع وراءَ هذا هو أنها مرسيدس، أو أنَّ هناك عيبًا في نوعِ الوقود المقدَّم إليها؟ بالطبع هناك مَن يقودُ هذه السيارةَ وإن لم نرَه، قائدٌ يتحكَّم فيها، ويختارُ إمَّا أن يحترم قوانينَ المرور أو يُخالفها، تمامًا كالنفس التي بداخلِ الإنسانِ لها مُطلقُ الحرية في اختيار كلِّ ما هي مسؤولةٌ عنه، فالصفاتُ الوراثية والظروفُ المحيطة ما هي إلَّا أدواتٌ مساعدةٌ أو مُثبِّطة، وأضواءٌ كاشفة تكشف ما في داخل النفس، والنفسُ تظلُّ حرةً كما أقرَّتِ السماء.

عندما وجدت زملائي جميعَهم ذهبوا إلى أنَّ الجينات أو الظروفَ هي التي تشكِّلُ السلوك، انتبهتُ إلى أننا نتقيَّد بمُعطيات الغرب دونَ تفكير، وندورُ في فَلكهم. تذكرتُ -أيضًا- ما درسْناه في مادةِ العلوم في المرحلة الإعدادية؛ الطاقةُ لا تَفنى ولا تُستحدَث من عَدم، كنَّا نردِّدُ العبارةَ غيرَ مُدركين أنها ببساطةٍ مستحيلةٌ؛ فكلُّ شيء خُلق من عَدم، وكلُّ شيء هالكٌ إلا وجه الله، وكذلك إذا سألتَ طبيبَ مخٍّ وأعصاب في مصرَ عن الوعيِ سيقول إنَّه نتاجُ المخ كما وردَ في دراساتِهم المادية البَحتة، وعلى الرغم من أنَّ هناك علماءَ غربيِّين بدؤوا في دحْض هذه الرؤية، ويَشهدون أنَّ الوعي لا يمكن إدراكُه بالعلم، وقد بُنيَت حجَّتُهم على دراساتٍ في ظاهرةِ الاقتراب من الموت Near Death Experience وصحوة الموت Terminal Lucidity وغيرهما من شَواهد، ولكنَّ النظريةَ المادية ظلتْ هي السائدةَ رغمَ خروج البعض عن الرَّكْب.

وهكذا تتحكَّم الرؤيةُ المادية السائدة فينا ما دامَ انكمشَ دورُنا حتى أصبحنا مجرَّدَ مُتَلَقِّين، نَستقي ما يروِّجونَه لنا من العلم، وليس لنا دورٌ فعَّال في النهوضِ والارتقاء، وقد يحتجُّ معترضٌ بدعْوى أنَّ ما أقوله لا يمتُّ للعلمِ بِصِلة، فادِّعاءُ وجود نفسٍ حرَّة داخلَ الجسد ليس عليه دليلٌ، ولكن ما ساقتني إليه عَقيدتي أنه عمليةُ اكتشافٍ تسمح لنا بربطِ الحقائق المَعزولة لفهْم العالم الطبيعي فهمًا أوسع، ومن ثمَّ تَطويعُه وإحداثُ التقدمِ والارتقاء.

معَ الأسف، ظننتُ مثلَه أنَّ العلمَ الغربي محايد، وعلماءهم مَوضوعيُّون؛ حتى بدأتُ في أبحاثي، وإليك عزيزي القارئ ما توصَّلتُ إليه.

هل العلمُ الذي نَستقيه من الغربِ حياديُّ بالفعل؟

أعلمُ أنَّ كثيرًا من الناس -وكنتُ ضمنَهم- يرونَ أنَّ الحياديةَ صفةٌ ملازمة لسلوكِ العالِم؛ لأنها ركنٌ أساسي لاكتمالِ المنهج العلمي، فالبحثُ العلمي لا ينجحُ إذا انحازَ عالمٌ إلى رأيٍ على حسابِ الآخر، وكان طبيعيًّا وأنا في سنٍّ صغيرة أن أرى أنَّ كلَّ ما يهمُّ العالِم -على سبيل المثال- معرفةُ مكوِّنات جزيء الماءِ بدقةٍ، بصرْف النَّظر عن كوْنه من ذرَّتي هيدروجين وذرة أكسجين أو غيرها. ولكن بعدَ مرور أعوامٍ طِوال، وأثناءَ قيامي بعمل الفيلمِ الوثائقي “ما بعد الحياة Beyond Life”، والذي تطرَّقَ إلى ظاهرةِ الاقتراب من الموت، وجدت انقسام الأطباء حول الظاهرة؛ فريقٌ يؤمن أنَّ ما يراه المريضُ أثناءَ التجربة ما هو إلا هَلوسة، أرجعَها البعضُ منهم إلى سببِ نقص الأكسجين الذي يصلُ إلى الدماغ Anoxia، وآخرون -وهُم أقلُّ عددًا- يروْن أنَّ الظاهرةَ خارج نطاقِ العلم، وليس لديهم تفسيرٌ علمي لها، وكلٌّ له دليلُه، ولكنْ عند التحقُّق وجدت أنَّ الفريقَ الأول يؤمن أنَّ المخَّ يخلقُ وعيَه، بينما يؤمنُ الفريقُ الآخر أنَّ الوعي لا يمكن تفسيرُه بالعلم، فأدركتُ وقتَها أنَّ العالِم قبل أن يكون عالمًا فهوَ إنسان، ونحن كبشرٍ ننحازُ لما نراه صوابًا، فشدَّة ومقدارُ الانحياز يختلفان من شخصٍ إلى آخرَ ولكنَّهما موجودان، هذا ما حدثَ لأينشتاين عندما رفضَ العَشوائيةَ التي أظهرتْها مِيكانيكا الكمِّ لاعتقاده أن كلَّ شيء يجب أن يكون مُحَدَّدًا، وبمقدارـ وقال جُملتَه الشَّهيرة “إنَّ الله لا يُلقي النرد”، وقد دفعَه إيمانُه للبحث عن مُتغيرات يصعب رصدُها، وكانت -في اعتقادِه- تفسِّر الأشياءَ التي تبدو عشوائية، وقد أدَّى ذلك إلى بذلِ مزيدٍ من الجهد والدراسة والوقت؛ لإثباتِ شيء لم يتمكَّنْ من إثباته، لا نعلم مدَى صحةِ فرضيَّته التي بُنيَت عليها قناعاته، ولكنها قد تكون حقيقيةً وتفتقرُ إلى دليلٍ أو إثبات، وسوف يظهرُ بعد.

ومن ناحيةٍ أخرى، استنتجَ العالمُ فرانسيس كريك حين أرادَ حلَّ مُعضلة ظهورِ الحياة على الأرض؛ استنتاجًا مَبنيًّا على إلحاده، فرأى أنَّ أشكالَ الحياة قد وصلتْ إلى الأرض من الفضاءِ الخارجي، إما محمَّلةً عبر جزيئاتٍ صغيرة تطفو في الفضاءِ بين النجوم، والتقطتْها الجاذبيةُ الأرضية، وإمَّا أنها أُحْضِرَتْ إلى الأرض قديمًا عنْ طريق مُسافري الفضاء فيما يسمَّى فرضية بانسبيرميا Panspermia!

وهكذا أدركتُ انحيازَ العلماء غير المتعمَّد لصالح قَناعاتهم الشخصية، ولكنني لمستُ -أيضًا- في بحثي نوعًا آخرَ من الانحياز؛ وهو انحيازٌ مُتعمد تضيع فيه حرية العالِم إذا تَطَرَّقَ إلى أمورٍ شائكة تهزُّ عرشَ المادية والإلحاد، فأثناءَ إنتاج أحدِ مشاريعي كنتُ على تواصلٍ مع فيزيائي من الولايات المتحدة عبرَ الإنترنت لأسْتشيرَه في أمور تخصُّ فيزياءَ الكم Quantum physics، وقد رأيت رأيَه مفيدًا للغاية، وشعرتُ بإيمانه وقوَّة حجتِه العلمية أثناءَ ردِّه على أسئلتي واستفساراتي من خلال مراسلات عدَّة. وأخيرًا، طلبتُ منه أن أجْري معه حوارًا، ففاجأني برفضِه رغمَ قَناعته التامَّةِ بالمشروع، وأهمية الأسئلة التي تناقشُ علاقةَ العلم بالله، وعللَ موقفَه بأنه يخشى أن يفقدَ وظيفتَه المؤقَّتة كباحثٍ في مرحلةِ ما بعد الدكتوراه؛ لأنَّ الأساتذة في الجامعة التي يعملُ بها يهمِّشونَ هذا النوعَ من الأسئلة، ويعتقدون أنها دليلٌ على عدم جديَّة الفيزيائي، وطلبَ إرجاءَ هذا اللقاء على الأقلِّ حتى حصوله على منصبٍ في هيئة التدريس!

كما نرى، يوحي هذا الموقف بإلجامِ ألسنةِ المؤمنين من طلبةِ العلم في المحيطِ العلمي من جرَّاء انحيازِ السواد الأعظَم من العُلماء لقَناعاتهم وموقفِهم المؤيِّد للعلمانية والفكر المادي، وفي الواقع، ليس المؤمنُ وحدَه مُلجمًا؛ وإنما أيُّ مُتشككٍ في الرؤية المادية المَفروضة والمُسيطرة يتمُّ إسكاتُه، مما دفعَ بعضَ العلماء المعارضين للفكر العلماني إلى تأسيسِ لجنةِ جاليليو Galileo Commission في عام 2017 بهدف توسيع النَّظرة العالمية للعلم بما يتجاوزُ افتراضاتِها الماديةَ المحدودة، وتضمُّ 30 مستشارًا يمثِّلون 30 جامعةً حولَ العالم، وفي تقريرِها السنوي الذي نُشر في مايو 2019، أوضحَ الدكتور إيان ماكجيلكريست Dr. Iain McGilchrist -وهو طبيبٌ نفسي وكاتبٌ وباحثٌ سابق في جامعة أكسفورد- أبعادَ المشكلة وأسبابَ عدم استقلاليةِ العلم، مشيرًا إلى أنَّ العلم في وقتِنا الحالي أصبحَ حرفة، يعتمدُ على آلاتٍ وأجهزة باهظةِ الثمن، لا يستطيع أيُّ شابٍّ اقتناءها، ولذلك لا يستطيعُ الخروجَ عنِ المألوف وإلا سيخسرُ كلَّ شيء، ويرى ماكجيلكريست أنَّه بدون التفكيرِ بشكلٍ مختلفٍ لا تتحقَّق الاكتشافاتُ العظيمة. لقد تمَّ إجراءُ معظمِ اكتشافات العلم الكبرى في الماضي لأنَّ العلماء كانوا مُستقلِّين، يعملون بمعدَّاتٍ أساسية (بسيطة)، وغالبًا ما يكونونَ بمُفردهم، وهو يرى أنَّ هذا يَصعبُ تحقيقُه في الوقت الحاضر، حتَّى إن المذيعين والصحفيِّين المهتمِّين بالتقدم العلمي يَخافونَ من الظهور بمظهرِ الحمْقى بإعطاء أيِّ مِصداقية لأيِّ شيءٍ آخرَ غير العلمانية.

وقد لَفَتَ ما ذكرَه الدكتور إيان ماكجيلكريست نظري إلى أنَّ السيطرة العلمانيةَ قائمةٌ على مجموعة من أنظمةٍ بها جوائزُ ومقالاتٌ تنشَر في مجلات علميةٍ مرموقة، وآلاتٌ باهظةُ الثمن يُحرَم مِن استخدامها كلُّ مَن غرَّد خارجَ السرب، فأصبحتِ العلمانية ثقافةً وعُرْفًا، وأنظمةً سائدة، مَن يخرج عنها سيفقدُ -على أقلِّ تقدير- احترامَ الآخرين في مجتمعِه العلمي، وسوف يطلَقُ على أفكاره العلم الزائف Pseudoscience، ولذلك فإنَّ الخروجَ عن القطيع يحتاج إلى قوَّة.. قوة تُلازِم مَن يقرِّرُ أن يتحرَّر من أغلال الفكرِ المادي، قوة لا تقتصرُ على صلابةِ وصبرِ وإيمان الشخصِ فحسْب؛ بل يجبُ أن يكونَ في علمِه فذًّا، بل استثنائيًّا، لا نظيرَ له.

والإرهابُ ليس من الضَّروري أن يكون في صورةِ تعذيب واضطهادٍ وقمْع، بل قد يكون في صورٍ أخرى كتَهميشِ وحرمان المُضطهَد من التدرُّج في الكوادرِ العلمية، ورفضِ نشْر أبحاثه في المجلاتِ العلمية الرائدة، واحتقارِه واستبعادِه عمومًا من المجتمع العلمي. على سبيل المثال، فَقَدَ جونتر بيكلي -الذي عملَ لمدة 17 عامًا كمنسِّقٍ لعَنبر الحشرات الأحفورية في متحفِ الدولة في التاريخ الطبيعي في شتوتجارت بألمانيا- عملَه جرَّاء تصريحٍ له على صفحتِه الخاصَّة على الإنترنت بأنه بدأ يشكُّ في آلياتِ نظرية داروين، قالَ لي في حوارٍ أجريتُه معه أثناءَ العمل في برنامج (خطوة أقرب): “إذا نظرنا إلى العلمِ الحديث فغالبًا ما يعتقدُ الناس أنَّ المناخ العلميَّ عادلٌ تمامًا، ولا يوجَد اضطهاد فيه، فهناك حريةُ البحث وحريةُ العلم وحريةُ التدريس، قد يكون ذلك صحيحًا في بعض المجالاتِ غيرِ المثيرة للجدل؛ ولكنَّ الأمر يختلف في المجالاتِ المثيرة للجدل، فليس صحيحًا أنَّ بإمكانك طرحَ أيِّ سؤال؛ فبعضُ الأسئلة غيرُ مسموحٍ بها، وأيضًا ليس صحيحًا أنه يمكنك قولُ كلِّ شيء دون مواجهةِ مشاكل، وخاصَّةً إذا كنتِ تشكِّين في الداروينيةِ بشكل عام، المشاكلُ ليست مقتصرةً على منظورِ الخلقيِّين أو شيء من هذا القبيل، ستلحقُ بكِ المشاكلُ حتى إذا كنتِ عالمةً طبيعيَّة من التيار الرئيسي وتشكَّكتِ في النموذج السائدِ للطفرة العشوائية والانتقاءِ الطبيعي، وربما لديك بعضُ التساؤلات المُختلفة، كيف يمكن أن يعملَ هذا تمامًا بدون إلهٍ أو أيِّ شيء آخر! ستُواجهين مشاكل. إذن، فالحريةُ جميلة في العلمِ من الناحية النظرية، ولكنها لا تمارَسُ من الناحية التطبيقيةِ على الأقلِّ في بعض المجالاتِ المثيرة للجدل”. وبعدَها سردَ لي كيف بدأ يفقد صلاحياتِه إلى أنِ انتهى به الأمرُ أنِ استُبعد عن وظيفتِه نهائيًّا بمجرَّد أنه بدأ يشكُّ في آليات نظريةِ داروين!

وقد علمتُ من ديفيد لوريمر David Lorimer وهو أحدُ مؤسِّسي مؤسسة كاركتر إديوكيشن Character Education في أسكتلندا، ومديرُ برامج الشبكة العلمية والطبية، والرئيسُ السابق لمؤسسة Wrekin Trust وجمعية سويدنبورج؛ أنَّ الهيمنةَ العلمانية قد طالت مواقعَ يثقُ فيها الكثيرونَ على الإنترنت مثل ويكيبيديا، ولقد لاحظتُ ذلك بنفسي، كلَّما بحثتُ عن شيء ما في هذا الموقعِ أراه يعرضُ المعلوماتِ بشكلٍ يؤيد الفكرَ العَلماني. على سبيل المثال، إذا بحثتَ في السماواتِ السبعِ ستجدُه ينصُّ في الصفحة الإنجليزية([1]) على الآتي:

“In religious or mythological cosmology, the seven heavens refer to seven levels or divisions of the Heavens. The concept, also found in the ancient Mesopotamian religions, can be found in Judaism and Islam”

في علمِ الكونيات الديني أو الأسطوري، تشيرُ السماوات السبع إلى سبعةِ مستوياتٍ أو أقسامٍ من السماوات. ونجدُ هذا المفهوم -أيضًا- في دياناتِ بلادِ ما بين النهريْن القديمة، ويمكن العثورُ عليه في اليهوديةِ والإسلام.

كما نرى فإن صياغة المعلومة تُشعرُك أنَّ السماوات السبع ما هي إلا أساطيرُ الأوَّلين!

وقد التقيتُ جون سانفورد John Sanford -وهو عالمُ وراثة نباتاتٍ أمريكي، وأستاذٌ في جامعة كورنيل لأكثرَ من 25 عامًا، ومؤلفُ كتاب Genetic Entropy- وكان ملحدًا، وهَداه علمُه إلى الإيمانِ بالله، وقد صرَّح لي بالآتي: “إذا كنتِ تريدينَ أن يعتبرَك زملاؤك عبقريةً فعليكِ أن تنحني لداروين، وإذا لم تفعلي فسيتمُّ إقصاؤك، والعديدُ من مؤيِّدي التصميم الذكيIntelligent design، والعديدُ من الأشخاص الذين يروِّجون للخلقِ المُباشر، بغضِّ النظرِ عن مدى جودةِ علمِهم؛ يتمُّ تجنُّبهم في صمت، وغالبًا ما يتمُّ طردُهم، وبالتالي فهو في الأساس انهيارٌ للحرية الأكاديمية، وعمليةُ فسادٍ نراها، يجبُ أن تُجربيها حتى تصدِّقيها”.

كما قال لي الدكتور حسن عزازي رئيسُ قسم الكيمياء في الجامعة الأمريكية آنذاك، وكان يتحدَّث عن بحثٍ نُشر في مجلة علميةٍ تدعَى بلوز وان PLOS One، وفي هذا البحث وصفَ مؤلفونَ صينيون اليدَ البشرية وقدرتَها على القبضِ على الأشياء المختلفة، مثلَ الإمساك بالسكين، أو الكرة؛ بأنها مُصمَّمة بشكلٍ متقَنٍ للغاية، ثمَّ ذكرَ المؤلفون في نهاية البحثِ أنَّ التصميم المعقدَ لليد قد يشيرُ إلى مصمِّمٍ مُبدع، وقد أدَّت تلك الخلاصةُ إلى غضبِ الكثيرين الذين اتَّصلوا بهيئة تحريرِ المجلة يُطالبونَهم بسحبِ البحث، وفي النهايةِ اعتذرَ المؤلفون عن ذكرِ المبدع!([2])

كما ترى -عزيزي القارئ- لقد علمتُ من خلال بحثي أنَّ المجتمعَ العلمي العالميَّ ليس حرًّا كما يدَّعون، وقد يحتجُّ معترضٌ قائلًا: وما الضررُ في أن يكون الفكرُ العلمانيُّ سائدًا مادام يدفعُ إلى التقدُّم والتطورِ التِّكنولوجي الذي نَجني ثمارَه بارتقاءِ أسلوبِ حياتنا؟ ومِن هنا شعرتُ بضرورةِ تقييمِ حجَّة ذلك المُعترض في الفقرة التالية.

هل الهيمنةُ العلمانية تؤدّي إلى الارتقاء؟

  • التقييم من حيث المستوى الفكري:

ولأنَّ نظريةَ التطور هي العمودُ الفقَري للإلحاد -ومن ثمَّ للعلمانية- فالنظريةُ تعطي للمُلحد تفسيرًا لتنوُّع الكائنات، وإنْ أغفلت سببَ الوجود الأوَّل للحياة على الأرض، فلاقت النظريةُ دعمًا لا مثيلَ له في المجتمع العلمي الغربي، ويتم محاربةُ كلِّ عالِم يناهضُ النظرية، وإن دعَّمَ رأيَه علميًّا؛ فهلِ الانحدارُ من القردة العليا، واعتبار الإنسان حيوانًا ناطقًا يعدُّ ارتقاء؟ ومن شدَّة انبطاحِنا، فإن بعض المؤمنين العرب ساروا على نَهج مؤمِني الغرب، كتَبوا الكتبَ والمقالاتِ لتفسير جديدٍ للقرآن حتى يتلاءمَ مع داروين ونظرية التطور!

تجد أنصارَ النظرية يؤمنونَ بتميزِ عرقٍ على غيره، بحُكم ما جاءَ به داروين، وإنِ ادَّعوا غيرَ ذلك، يقول داروين في كتابِه نشأة الإنسان The descent of man في صفحة 173: “في فترةٍ ما في المستقبل، ليست بعيدةً إذا ما قيسَتْ بالقرونِ سوف تبيدُ الأجناسُ المتحضرةُ من الإنسان الأجناسَ المتوحشةَ في جميع أنحاء العالم وتحلُّ محلَّها. وستكون الفجوةُ بين الإنسانِ وأقربِ الأنواع إليه أوسَعَ لأنَّها ستكون بين الإنسانِ الذي نأملُ أن يكون أكثرَ تحضُّرًا من القوقازي، وبعض القرود في مستوى قردِ البابون، بدلًا من أن يكونَ كما هو الحالُ الآن بين الزنجي أو الأسترالي والقردة والغوريلا”.

كما نرى، يتخيَّل داروين أن الفجوةَ بين الإنسان المتحضِّر وأقربِ أسلافه التطوريّين سوف تتَّسع عندما يقوم الأوروبيون البيضُ المتفوقون بإبادةِ الأجناس “المتوحِّشة” في بقيةِ العالم واستبدالهم بها؛ حيث إنَّ الفجوةَ ستكون في نهايةِ المطاف بين الإنسان المتحضِّر وبعضِ القرود بدلًا ممَّا هيَ عليه الآن بين الأفريقي أو الأسترالي والغوريلا. لاحظْ في تعبيرِه كلمة “زنجي”، وفي عُرفِه أنَّ كلَّ الأجناس -ما عدا الجنس القوقازي- أجناسٌ متوحِّشةٌ، وستُبَاد، هل قرأتَ حوارًا عنصريًّا أكثرَ بذاءةً من هذا بمعايير اليوم؟ ولكنَّ نظريته ألقتِ الضوءَ على ركائز الهَيمنة الغربية من احتقارِ الآخر، واستباحة استيطانِ أرضِه، وانتهاك عرضِه واستعباده. والبونُ شاسعٌ -عزيزي القارئ- إذا ما قمْنا بمُقارنة هذا الفكر بما جاءَ به القرآن، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]، وقول الرسول عليه أفضلُ الصلوات والسلام: “لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ؛ إلَّا بالتَّقوَى”.

هذا بالإضافة إلى أنَّ الفكرَ العلماني يختزلُ الإنسان، ويختزل القيمَ والمعاني الجميلة، فالإنسانُ ليس إلا جسدًا يتكونُ من عناصر: الأكسجين والهيدروجين والنيتروجين والكربون والكالسيوم والفوسفور، وغيرها، ولأنَّ هذا الجسد يهرمُ ويَشيخُ تجدُ الإنسانَ يفقد كثيرًا من وضعِه واحترامِه إذا ما تقدَّم به العمر، كآلةٍ هرمَتْ وشاخَت، ولم يعدْ لها استخدام، غيرَ أن ما لا يدركه كثيرون أنَّ ما بداخل هذا الإنسان المسنِّ جوهرٌ لا يَشيخ، وعلى الرَّغم من اتخاذِ كلِّ الأسبابِ التكنولوجية التي تعينُ المسنَّ على الحياة، إلا أنَّه مُهمَّش بين أهله والمجتمع، يُصارع شيخوختَه في أغلب الأحيان وحدَه، وكذلك المرأةُ أصبحت سلعةً تبورُ كلما تقدَّم بها العمر.

كما اختزلتِ النظرةُ المادية الإحساسَ بالجمالِ ليصبح مجردَ رغبةٍ في البقاء عن طريقِ التزاوج، مُتجاهلين الإحساسَ بجَمال الكلمة، وجَمال اللَّحن، وجَمال القيمة، وجَمال الأمومةِ والصداقة والإنسانية، وجَمال المشهد، واخْتزلت التضحية أيضًا إلى النَّقيض، وأصبحتْ تُفسَّر بأنها المصلحةُ العُليا للجماعة، مُتعلِّلين بأنَّ المجموعةَ التي تُضحِّي تبقى، والبقاءُ للأقوى، حتى حريةُ الاختيار -في عُرفهم- تعدُّ وهمًا!

وذلك لأنَّ الجمالَ والتضحية وحريةَ الاختيار ليس لهم تفسيرٌ في النظرة المادية؛ بل حقيقةُ وجودهم تناهضُها وتهزُّ الأرضَ من تحت أركانِ فلسفتها، فهُم يدَّعون أن وجودَنا نتاجُ عملية آليةٍ ميكانيكية بَحتة لا مكانَ لاختيارٍ متعمَّد فيها، أو جمال أو تضحية، ولذلك وجبَ إنكارُهم بفلسفاتٍ عقيمة، وحريةُ الاختيار تحديدًا تعدُّ إشكاليةً لديهم، فهي لا تناهضُ فلسفتَهم فحسب؛ بل تحمِّلهم المسؤوليةَ التي يريدونَ أن ينْفضوها عن كاهِلِهم، حتى نتعاطفَ مع المثليِّين -على سبيل المثال- بدعوى أنَّ جيناتهم هي التي تتحكمُ فيهم.

لم يستطعْ مروِّجو النظرةِ المادية الوقوفَ أمام تكوين الإنسان الفِطري؛ فالإنسانُ بطبيعته يحتاج إلى الاتصالِ بالسماءِ لتطمئنَّ نفسُه، ولذلك عانَى الإنسانُ الغربي من استبعادِ الدين بل احتقاره أحيانًا، ممَّا دفعَهم إلى البحثِ عن وسائل أخرى -غير الدين- في محاولةٍ للوصول إلى الذاتِ وفهمِها، وقد أدَّى ذلك إلى اختلاقِ طرقٍ وبدَع، ومِن أبرزها حركةُ العهد الجديد New Age Movement التي ظهرت في أمريكا في ستينيَّات القرن الماضي، وقد قالَ عنهم القسُّ دان دوبروي، كاهنُ الكنيسة الكاثوليكية بأوتاوا بكندا، في لقاءٍ يخصُّ فيلم (ما بعد الحياة): “وتنادي هذه الحركةُ بأننا لم نعدْ نحتاج إلى إله، بل إنَّ كلًّا منَّا يستطيع أن يجدَ الله في نفسِه لأن الله روحٌ ونحن كذلك، فإذا توغَّلت داخلَ نفسك بالاستعانةِ بأسلوبٍ معينٍ عثرتَ على الله، ولذلك نجد أتباعَ حركة العهد الجديد يستخدمونَ أساليبَ عديدة؛ منها اليوجا وعلم التنجيم والتنويم المغناطيسي والعلاج باللَّمسات والبلورات، ويؤمنون أنَّهم باستخدامِهم هذه الوسائل سيصلونَ لإحساسِ الطاقة، أو ذلك الإله بداخلهم”.

والعجيبُ أنَّ “التنمية البشريةَ” التي يروِّج لها العالمُ اليوم على أنَّ فيها الخلاصَ من المشاكل، والتي أراها البديلَ العصريَّ للدين، تنادي -أيضًا- بأشياء قريبةٍ من ادِّعاءات العهد الجديد، على سبيل المثال (قانون الجذب Law of Attraction)، الذي ينصُّ على أننا نمتلك قوةَ الله فينا، فيُمكننا أن نجذبَ إلينا كلَّ ما يخطرُ ببالِنا أيًّا كان، ومِن خلال أفكارنا يمكنُنا تحويلُ الطاقة المتغيرة التي تشكل كلَّ شيء إلى واقعٍ ملموس، فلوْ كنت فقيرًا ورغبتَ في تغيير ذلك؛ كلُّ ما عليك أن تفكِّرَ في الثراء، وسوف تُبَثُّ أفكارُك هذه كطاقةٍ إيجابية إلى الدنيا التي ستَتفاعل معك كردِّ فعلٍ لهذا البث، وتجذبُ إليك كلَّ ما يحقِّقُ لك هذا الثراء.

وهكذا من خلال قانون الجذب، تم اختزال السعي والاستعانة بالله، إلى مجرد رغبة تبث في الكون!

لقد انتشرتْ فكرةُ قانون الجذب في العديدِ من الكتب والأفلام، وأشهرُها كتابٌ وفيلم يَحملان نفسَ العنوان (السِّر The secret) وقد لاقى الكتابُ نجاحًا باهرًا، وتُرجمَ إلى عِدَّةِ لغاتٍ من بينها العربية، وأقاموا له الندواتِ الثقافيةَ والمآدبَ في شتَّى بقاع الأرض ومِن بينها مصر، واستشهدَ به عددٌ لا بأس به من مدرِّبي ومعلِّمي التنمية البشرية؛ بهدفِ زرعِ طاقة إيجابيةٍ في النفوس، وإليكم أقوالًا مِن بين أقوالٍ عديدة ذكرتْ في كتاب (السِّر) على هذا المنوال:

“معظمُ الناس يعرفون أنفسَهم من خلال أجسادِهم المحدودة، ولكنك لستَ هذا الجسدَ المحدود، فأنتَ تحت المِجهر (الميكروسكوب) مجالٌ من الطاقة، وإذا سألتَ فيزيائيًّا، ما سببُ وجود العالَم سيقولُ لك الطاقة، حسنًا صفْ لي هذه الطاقة، الطاقةُ لا تَفنى ولا تُستحدَث، وإذا ذهبتَ إلى رجلِ دينٍ وسألته مَن خلق العالَمَ فسيقولُ لك الله، وإذا سألتَه صفْه لي فسيقولُ لك دائمًا كانَ ودائمًا يكون، لا يمكنُ أن يَفنى، كما ترى وصفًا واحدًا، ولكن مصطلحاتٌ مختلفة”([3]).

“أنتَ اللهُ في جسدٍ مادي. أنتَ روحٌ في الجسد. أنتَ الحياةُ الأبدية التي تعبِّر عن نفسها فيك. أنتَ كائنٌ كوْني. أنتَ القادر، الحكيم، الكامل، الرائع، المبدع، الخالق، وتخلق واقعَك على هذا الكوكب”([4]).

يجبُ أن أشيرَ إلى أنَّ هناك -أيضًا- مِن بين أقوالهم ما يُفيد، فأنا لستُ ضدَّ الاستفادةِ ممَّا ينفعُ من الحضارة الغربية، كما فعلَ عالمُنا الجليلُ الشيخ محمَّد الغزالي في كتابِه الرائع (جدِّد حياتك) عندما كان يرجعُ إلى ما وصلَ إليه الكاتبُ الأمريكي والمفكر ديل كارنيجي Dale Carnegi ما دام يتفقُ معَ ما جاء في القرآنِ والسنة، ولكنَّني ضدُّ أن نأخذَ كلَّ ما وَصلوا إليه بما فيه من شططٍ ونَستبدلُه بديننا القيِّم.

  • التقييمُ من حيث المستوى العملي:

“إذا لم يكنِ الإله موجودًا فكلُّ شيء مباح (فيودور دوستويفسكي)

في ظلِّ الهيمنة العلمانية وطمْسِ الدين ضاعتِ الأخلاقُ وإن ادَّعوا غيرَ ذلك، فترى علمَهم وتفوقَهم يُكرَّس في صناعة الأسلحةِ المحرَّمة، وانتشارِ الفيروسات، ووسائل للتتبُّع والتصنُّت، وتقييد الحريات، وإذلال الناس والتحكُّم في ثرواتهم، وافتعال أسبابٍ للحروب واجتياح أراضٍ بعيدة، واستعباد الشعوبِ في مختلف أنحاءِ العالم، والتدخُّل في شؤونهم الداخلية، قد رأينا ذلكَ كلَّه في فيتنام وأفغانستان، والعراق، وفلسطين، وغيرها.

والضررُ تعدَّى الحروبَ والدمار، وطالَ نواحٍ أخرى لا تخطُر على بال، مثل العلاج النفسي، فالرؤيةُ المادية البَحتة ترى أنَّ الإنسانَ ما هو إلا جسد، وتَتجاهلُ النفسَ فيه، وتُرجئ المرضَ النفسي إلى اضطرابٍ كيميائي في المخ، ومن ثمَّ إنهاكه بعَقاقير لتُحدث توازنًا في بعض المواد الكيميائية، ولكن نجدُ فيما بعد أن هذه العقاقيرَ أفسدتْ أكثرَ ممَّا أصلحت؛ لأنها تخطَّت جزءًا مهمًّا في الإنسان؛ ألا وهو نفسُه التي بين جنْبَيْه، ماذا لو كانتِ العلةُ في النَّفس، وينعكس تأثيرُها على المخِّ باضطراباتٍ في إفراز موادِّه الكيميائية؟

ومعَ الأسف، في بلادنا -حيث الانبطاحُ الكامل- لا يَجرؤ طبيبٌ أو دارس على تقييمِ ما نستوردُ منهم من علم. أمّا غربًا، فقد بدأت بعضُ الأصوات تُنادي بالتغيير، ففي مقالٍ بعنوان: لماذا العقلُ أكبرُ من المخ؟([5]) (مُغالطة اختزالِ علم النفس في علم المخِّ والأعصاب) كتبَ ستيف تيلور -وهو محاضرٌ أوَّل في علم النفس بجامعةِ ليدز بيكيت Leeds Beckett- “إذا كان الاكتئابُ مرتبطًا بانخفاض مستوى السيروتونين في المخ (على الرغمِ من عدم إثباتِ هذا الارتباط بأيِّ حالٍ من الأحوال) فقدْ يكون هذا بسبب أنَّ حالةَ الاكتئاب تسبِّب مستوًى منخفضًا من السيروتونين، بدلًا من أنَّ انخفاض مستوى السيروتونين هو الذي يسببُ الاكتئاب. والاكتئابُ قد يكون ناجمًا عن عواملَ وجوديةٍ أو معرفية -مثل الافتقار إلى الإحساس بالهدف والمعنى، أو بسبب أنماط التفكير السلبية- فمِن السهل أن نرى كيف تنشأ حالةُ الاكتئاب أولًا كحالةٍ نفسية، والتي يكون لها بعدَ ذلك تأثيراتٌ عصبية. إنَّ معالجةَ المشاكل النفسية كمشاكل طبيةٍ هو أمرٌ مُضلِّل مثل استخدام العلاج النفسي لعلاج إصابات الجسم”.

وذكرَ في المقال نفسِه -أيضًا- عنِ الأدوية ما يلي: “ويبدو أنه يوجَد في بريطانيا حيث أعيشُ وعيًا متزايدًا بأنَّ الأدويةَ النفسية فاعليتُها محدودة، وأنه حتى عندما يبدو أنَّها تُقَلِّلُ الأعراض، غالبًا تفوق آثارُها الجانبية السلبية فوائدَها، يزداد أعدادُ الأطباء النفسيِّين وعلماء النفس الذين يدْعمون العلاجاتِ غيرَ الطبية Non medical therapies ليس فقط العلاج المعرفي السلوكي Cognitive behavioral therapy CBT ولكن اليقظة الذهنية Mindfulness وحتى أشكال العلاج البيئي Ecotherapy”.

نَراه يبحث عن طرقٍ أخرى للعلاج غيرِ العقاقير، وقد ذكرَ الدكتور مصطفى محمود قبلَه بزمَن: “كلُّ عقاقير الأعصاب تداوي شيئًا، وتفسدُ معه ألفَ شيء آخر. وهي تُداوي بالوهْم، وتريح الإنسانَ بأن تُطفئ مصابيحَ عقله وتنوِّمه وتخدِّره وتُلقي به إلى قاعِ البحر موثوقًا بحجرٍ مُغْمًى عليه شبه جثة، أما كلمةُ لا إله إلا الله فإنها تطلقُ الإنسانَ من عقاله، وتحرِّره من جميع العبودياتِ الباطلة، وتبشِّرُه بالمغفرة، وتنْجِيه من الخوف، وتحفظُه من الوسواس، وتؤيِّدُه بالملأ الأعلى، وتجعله أطولَ من السماء هامَةً، وأرسخَ من الأرض ثباتًا… فمَن استودع همَّه وغمَّه عند الله باتَ على ثقة، ونامَ ملء جفنيه”.

لا أنكرُ المرضَ النفسي، وأعلم أنه كأيِّ مرضٍ يصيب المؤمنَ وغيرَه على سواء، ولكن أختلفُ مع الرؤية الماديةِ في علاجه، فهُم ينكرون جوهرَ الإنسان، وذِكْرُ الله في عُرفهم يعدُّ جهلًا، وأتفقُ مع ما ذكرَه عالمُنا الدكتور مصطفى محمود، وأرى أنَّ الوقايةَ المثلى لجميع أمراض النفس تتمثَّلُ في القرب من الله، وإحياءِ قرآنِه فينا؛ إذ يقول اللهُ تعالي في كتابه الكريم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 57]، وأعتقدُ كلَّ الاعتقاد أنْ لو كان المسلمون لهم الريادةُ في العلم اليومَ لوَضعوا الثقةَ في الله ورحمتَه كعلاجٍ وقائي لكلِّ الأمراض النفسية.

وهكذا تجد الغربَ بعد استبعادِ الدين، واختزالِه في شعائر تمارَس داخلَ كنائسهم؛ أنهكوا أنفسَهم في بحثٍ عن بدائلَ مثل: اليوجا، والتنويم المغناطيسي، والمانترا، والعلاج بالموسيقى، وغيرها من بدَعٍ قد تُشعر الإنسانَ براحةٍ مؤقتة كراحةِ شاربِ الخمر أو مُتعاطي المخدر، ولكنَّ الراحةَ الحقيقية، والاتزانَ الحقيقي للإنسان؛ يدركها المؤمنُ، وهي في قربِه إلى ربه، ولكنْ مع الأسف، بسببِ الهيمنةِ العلمانية تجدُ شبابَنا يلهثُ وراءهم، وأصبحوا مُقَلِّدين، غافلين عنِ الكنزِ الحقيقي الذي بين أيديهم.

ولأنَّ الدين هو البوصلةُ الحقيقية لاستقامةِ الحياة على الأرض فإن تَجَاهُلَهُ أَسْفَرَ عن ظهورِ ما يُدْعَى حركة “ما بعدَ الإنسانية Transhumanism”، وتؤكدُ هذه الفلسفة أنَّ الإنسان يمكن أن يخضعَ لجميع أنواع التعديلات الجسديةِ باستخدام العلمِ والتكنولوجيا، وذلك من أجل تحسينِ النَّوع البَشري تدريجيًّا بالقضاءِ على الشيخوخة وتَعزيز القدرات الفكرية والجسدية والنفسية للإنسان، كما نرى، فهُم يكرِّسون ما وَصلوا إليه من علمٍ في الهندسة الوراثية والذكاء الاصطناعي، وغيره، لتغييرِ خلق الله، ويعملون ضدَّ الطبيعة، ويَنزعونَ الإنسانيةَ من الإنسان، ويقول اللهُ تعالى فيهم: (.. لَعَنَهُ اللَّهُۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا، وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا) [النساء: 118-119].

من أجل الإنسانية

العلمُ والتِّكنولوجيا أدَاتانِ مثلُ أيِّ أداة؛ كسكّينٍ إذا انتزعَها مُجرمٌ استخدمَها في قتلِ بريء، وإذا نالَها صالحٌ فكَّ بها قيدَ أسير، ولذلك أدعو اللهَ لا من أجل المظلومين والمُستضعفين في شتَّى بقاع الأراضي الإسلامية فحسب؛ بل من أجلِ الإنسانيةِ كلِّها، أن تنحصرَ هذه الهيمنةُ العلمانية، وأن نردَّ هجمتَها الشَّرسة، ولكن نعلمُ أنَّ الدعاء وحدَه لا يكفي، واللهُ يأمرنا بالعملِ والجهاد، وأن نعقلَ ونتوكَّل، ولذلك أوصي بالآتي:

  1. الانتباه: على المريضِ أن ينتبهَ إذا ما عانَى من مرضٍ ما حتى يبحثَ عن سُبُلٍ لشِفائه. ولا نخلطُ الشواهدَ بالمرض، كالذي يُعالج تَسُوَّسَ ضرسِه بقرصٍ مُسَكِّنٍ ليُذهِب الصداع، والمرضُ الذي ابتُلينا به هو انبطاحٌ كاملٌ للحضارة الغربية الحالية بكلِّ أشكالها -سياسيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا- ومِن شواهد المَرض تحدُّثُ أولادِ النُّخبة باللغة الإنجليزية، ورَكاكةُ اللغة العربية وازْدراؤها، والاحتفالاتُ الصّاخبة والمُبالَغ فيها بأعيادِ الغرب، واحتقارُ كلِّ ما هو إسلامي، وربْطه بالتخلُّف أو الإرهاب، ومُحاولة تفسير القرآن ليتواءمَ مع ما جاءَ به دارون، وظهورُ الفكر الإلحادي بينَ شبابنا على أنه فكرٌ تَنويري، واتجاهُ بعضِ الشباب إلى المانترا واليوجا، وفتح بعض المراكز للتنويم المغناطيسي لتَحقيق السلام مع النفس، واللجوءُ إلى التنمية البشرية كحلٍّ أوْحد للمشاكل. ومِن شَواهد الانبطاح أيضًا التَّطبيع، وعدمُ الاهتمام بالقضية الفلسطينية، بل وإسنادُ مسؤولية الجرائمِ الصهيونية إلى المَنكوبينَ من إخواننا، كلُّ هذا فكرٌ غربيٌّ غزَا العقولَ بسببِ الانبطاح الذي ليسَ له مثيل.
  2. علاجُ المرض: وذلكَ عن طريق الآتي:
    • التقدم: لا سبيلَ إلا أن تنهضَ الأمةُ من سُباتها، وأن نأخذَ بأسباب النهوضِ بالعلم، والتحرُّر من كلِّ ما يُكبِّلنا.
    • التحررُ من التَّبعيَّة: وذلك في كلِّ مَناحي الحياة، سياسيًّا وعلميًّا وتكنولوجيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا، وهذا لن يتمَّ إلا بتحقيقِ النقطة السابقة؛ ألا وهي النهوضُ والأخذُ بأسباب التقدُّم، والاستعانةُ بأولي العلمِ والخبرة في كلِّ المجالات لوضْعِ خارطةِ طريقٍ في كلِّ تخصصٍ للتحرُّر من هَيمنتِهم، ومن ثمَّ الانطلاق.
    • الاتحاد: البعدُ عن كلِّ ما يُحدث فُرقةً بينَنا، فالغربُ استوعب الدرسَ؛ وأنشأ اتحادَ ألمانيا الشرقية والغربية، واتحادَ الدول الأوروبية تحت مظلَّةِ الاتحاد الأوروبي European Union رغمَ اختلاف ألسنتهم! أمَّا نحن، فنزدادُ فُرقةً ومَقْتًا؛ هذا شيعي، وهذا سنِّي، هذا سلفيٌّ، وهذا متصوِّف، ولا أنسى عندما التقيتُ إحدى الفتياتِ العرب منذُ سنين، وقالت بالحرفِ الواحد إنَّ عداءها للشيعةِ أشدُّ من عَدائها لإسرائيل! تعجَّبت منها، وشعرتُ أننا قد نَسينا أنَّ الحدودَ بين بلادنا وهميةٌ وُضِعَت بيدِ العدو، كما نسينَا قولَ الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103].
    • فهمُ جوهرِ الدين والعملُ به: ويبدأ من تغييرِ نَظرتنا لأنفسنا من ذلٍّ وانهزامٍ إلى عزَّةٍ وقوة، فالعزةُ لله وللمؤمنين، وتجديدُ ثقتنا بالله، وإحياءُ مراقبته فينا؛ لأنَّك إذا رصدت تَعاملاتِنا تَجدُنا في غربةٍ دينية رغمَ حفظِنا للقرآن والسنة، وترديدِهما ليلَ نهار، فأحوالُنا أبعدُ ما تكون عمَّا جاء به الوحي، والأمثلةُ كثيرةٌ في ميدانِ العمل والتجارة، وميدانِ الأسْرة والمجتمع، حتَّى في المرور!
    • تقديمُ الرموز والبدائل: وقد كنَّا نفتقرُ الرموزَ في صورة شخصٍ أو مجتمع، والمجتمعاتُ الإسلامية في عصرنا بعيدةٌ -في رأيي- كلَّ البُعد عمَّا جاء به الإسلام، فالإسلامُ جاء ليحرِّرَ الإنسان، والمجتمعاتُ الإسلامية استعْبَدت شعوبَها على كلِّ المستويات، وما زالت مُستعْبَدَةً وإنْ أقاموا الحفلاتِ والمسارحَ ظنًّا منهم أنها دليلُ الحريات، وأخيرًا قدَّم إخوانُنا في غزة -بإيمانِهم وتحرُّرهم رغمَ حصارِهم- رمزًا عظيمًا لشبابِ الأمة الإسلاميةِ كلِّه، وسيظلُّونَ صحوةً للإنسان المسلم؛ بل للعالمِ أجْمع.
    • التجديد: إعادةُ تفسير بعضِ آيات القرآنِ وبعضِ الأحاديث، وخاصَّة ما يخصُّ العلم، والتي اجتهدَ علماؤنا في زمنِهم على تَفسيرها، فقدَّموا أقصى ما توصَّلوا إليه في عَصرهم، أعلمُ حساسيةَ الحديثِ عن التجديد، في زمنٍ رغبَ أعداءُ الإسلام في زَعزعةِ أركانِه تحت مظلَّة تغييرِ الخطاب الديني، ولكنَّ هذا لا يعني أن نتركَ القديمَ على حالِه، وإن كانتْ أخطاؤه تُزعزعُ إيمانَ بعض الشباب.

وما ذكرتُه يعدُّ اجتهادًا قد يتَّفق البعضُ فيه معي، وقد يَختلف، وقد يطوِّر، وقد يُضيف؛ ولكنْ دَعونا نتَّفق ألا نَتنازعَ بسببِ اختلافِ رأي؛ لأنَّ المشكلةَ عَويصة، وتحتاجُ إلى اتِّحادنا، وتَماسُكنا، واجْتهادِنا، وتقبُّلِنا للآخر حتى نتحرَّرَ من استعبادِهم، ونخرجَ بسلامٍ من زمنِ الانبطاح، وقد وعَدَنا اللهُ بنَصره إذا نَصَرْناه، ومَن أصدقُ مِن الله قيلًا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7].

 

_____________

هوامش

([1]) Seven heavens, Wikipedia, last edited on 14 December 2023, available at: https://en.wikipedia.org/wiki/Seven_heavens

([2]) AuthorAlison McCook, Hands are the “proper design by the Creator,” PLOS ONE paper suggests, Retraction Watch, 2 March 2016, available at: https://bit.ly/3v3wNMW

([3]) Rhonda Byrne, The secret, (New York: Beyond words publishing, 2006), pp. 158-159.

([4]) Ibid., p. 164.

([5]) Steve Taylor, Why the Mind Is More Than the Brain.. The fallacy of reducing psychology to neurology, Psychology Today, 18 January 2017, available at: https://bit.ly/4asCx2K

 

  • نُشر في فصلية قضايا ونظرات- العد الثاني والثلاثون- يناير 2023

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى