المحاور الاستراتيجية في المنطقة العربية وجوارها الحضاري: طوفان الأقصى وما بعده
اللقاء الثاني من منتدى الحضارة (جديد العلم والعالم)
تقديم د. نادية مصطفى:
إن طوفان الأقصى لا يغادرنا على الإطلاق، والقضية الفلسطينية دائمًا في قلب التحولات الاستراتيجية، ودائمًا ما تختبر هذه المساحة الوطنية، العقيدية، القومية. وفي قلب هذه التحولات يقع القائمون على القضية، التي يختلط فيها البعد الدبلوماسي بالسياسي بالعسكري بالعقيدي بالتاريخي بالمصلحي.
والذاكرة التاريخية هي التي تمكِّننا من اكتشاف كثير من الأمور التي تميِّز طوفان الأقصى بالنسبة لقضية المحاور الاستراتيجية وجوارها الحضاري، وذلك من قبل نشأة إسرائيل، حتى الصراع حول القضية، والحروب المؤثرة، والتغيرات المؤثرة في دول الجوار، وحتى المراحل والمفاصل الزمنية المختلفة للقضية والمقاومة ومحاورها الاستراتيجية. ففي كل مرحلة كانت المحاور تختلف من حيث طبيعة نظمها وأوضاعها الداخلية، وعلاقاتها الخارجية. ومع ذلك ظلَّت القضية قضية الأمة وإن كانت لا تستطيع أن تعبِّر دومًا عن ذلك بنفس الطريقة والدرجة.
ولم تكن القضية الفلسطينية على الإطلاق قضية النظم العربية، حتى في أكثر فترات المد القومي والثوري كانت القضية أداة توظَّف لصالح هذه النظم. ولكن عادت القضية مرة أخرى للواجهة، وأضحت قضية العالم، بعد أن أوشكت النظم العربية بمختلف محاورها أن تَئِدَ هذه القضية؛ سواء من دول محور القاومة أو المواءمة والتطبيع. ولذلك كشفت ذاكرة مسار القضية كيف أن المحاور الاستراتيجية لم تكن جادَّة في خدمة القضية الفلسطينية بقدر أنها كانت توظفها، وأن من يحافظ عليها هم أصحابها.
إن خصوصية هذا اللقاء تأتي حين تستمع لموضوع في قلب اهتمام الأمة والعالم من إنسان ذي خبرة يحمل همًّا كبيرًا، نشاركه معه، وشخصية إنسانية تحمل الوطنية برحابة، ولديها تأسيس أكاديمي ومعرفي متميز، مضافًا إليها الخبرة الدبلوماسية، وبمصداقية تتوخَّى الأمثل والأفضل للأمة والعالم. فالمتحدث الرئيس في هذا اللقاء هو السفير/ معتز أحمدين خليل، وهو دبلوماسي مصري، شغل منصب سفير مصر الدائم لدى الأمم المتحدة سابقًا (25 مايو 2012 حتى فبراير 2018).
مداخلة السفير معتز أحمدين:
يوفر لنا طوفان الأقصى فرصة نادرة لوضع التحالفات الدولية القائمة في الإقليم العربي وتفاعلاته، مع جواره الجغرافي والحضاري، ومع النظام العالمي كله الذي طاله الطوفان منذ بدأ، وما يزال، بما يشمله ذلك من تمحيص وتأكيد لحقائق قائمة ومعروفة؛ ومن ثم الكشف عن روابط خفية أو مشبوهة. هذا كله مع تحريك ومراجعة بعض العلاقات والمحاور القائمة المعروفة بفعل الاجتياح الذي أحدثه الطوفان، وأثره في العناصر الأولية المُحَفِّزَةِ لتشكيل هذه التفاعلات، بما في ذلك التأثير على أوزانها النسبية في معادلات إنشاء مثل هذه المحاور أو التحالفات.
ويتناول هذا العرض التحالفات والمحاور القائمة –بشأن طوفان الأقصى والقضية الفلسطينية- من خلال توضيح مكوناتها (أطرافها)، ثم دوافعها، ثم مظاهرها، وسلوكها. كما سيتناول التفاعلات التي نتجت عن الطوفان بما في ذلك الشروخ التي أحدثها، والقوى الدافعة التي قد تزيد من هذه الشروخ أو تُرَمِّمُهَا، أو تُفضي لتطورات أخرى نحاول ملاحظتها ومحاولة تصور ما يمكن أن تؤدِّي إليه، وصولًا إلى كيفية العمل على الاستفادة منها أو توجيهها لما يمكن أن يؤثر على الواقع في المستقبل.
وبذلك تنقسم المداخلة إلى محورين، يتناولان محور المواءمة والتطبيع، ومحور المقاومة والإسناد، بالإضافة إلى المحاور الشعبية، وخلاصة تحمل نتائج عامة بشأن هذه المحاور.
أولًا– محور المواءمة والتطبيع:
- أطراف المحور الأساسية:
ويقسم هذا المحور الأطراف العربية وموقفها من الطوفان إلى ثلاث مجموعات:
أ) الدول ذات معاهدات السلام مع إسرائيل: وهي مصر والأردن والسلطة الفلسطينية.
ب) دول الاتفاقات الإبراهيمية: وهي الإمارات والبحرين والمغرب والسودان.
ج) دول تنتظر التطبيع: ومنها السعودية. ويمكن إضافة الكويت التي لم تشملها الاتفاقات الإبراهيمية، لكن التطورات السياسية فيها بعد تولي الأمير الجديد، تشير إلى سلوك نفس الطريق المؤدِّي للمواءمة أو التطبيع. وسأعود لذلك عند تناول دوافع المواءمة. وكذلك تونس، التي تبدَّلت سياساتها منذ تولِّي الرئيس الحالي، من النقيض إلى النقيض وفقًا لدوافع مستقرة تحرُّكها.
د) دول البين بين: وتضم قطر، وبدرجة ما العراق ولبنان، اللتيْن تتجاذبهما دوافع واعتبارات متضاربة تضطر المواقف الرسمية للاقتراب من محور المواءمة لتأمين الحد الأدنى من استمرارية النظامين؛ لكنهما مضطران لعدم الغلوِّ في ذلك لنفس السبب، في ضوء وجود أغلبية مذهبية لديها قدرات عسكرية مهمة ضمن محور المقاومة.
- دوافع التطبيع والمواءمة لدى دول المحور:
أ) بالنسبة لدول التطبيع الأصلية: مصر والأردن، فإن الدافع الأول الظاهر هو دافع اقتصادي، إذ تُعاني الدولتان من أزمات اقتصادية مزمنة متفاقمة نتيجة عوامل عدَّة، منها عدم كفاية الموارد المتاحة، والأثر المتراكم للأزمات الدولية المتواصلة من غزو الكويت –بالنسبة للأردن- إلى هجمات الحوثيِّين وتأثيرها على الملاحة البحرية بالنسبة لمصر بدرجة أكبر من الأردن، مرورًا بأزمة كورونا، وغزو أوكرانيا، وغيرها.
لكن لا شك أن العامل الأساسي هو اتباع سياسات اقتصادية فاسدة، تؤدي إلى تدهور الاقتصاد بصورة مستدامة، وتدفع إلى الاعتماد على الخارج من أجل تأجيل الانهيار؛ ومن ثم مراعاة المطالب السياسية لمن يقوم بتلك المهمة بصورة مستدامة كذلك.
ويمكن إضافة السودان وكذلك تونس إلى هاتين الدولتين في أهمية الدوافع الاقتصادية. وإن كانت الموضوعية تستدعي ملاحظة أن السودان خارج الخدمة منذ ما قبل الطوفان بعدَّة أشهر نتيجة الحرب الأهلية. وأن تونس تكاد تكون مرفوعة مؤقتًا من الخدمة بسبب المعارك الدونكيشوتية للرئيس قيس سعيد على الصعيد الداخلي.
ب) أما عن دوافع الإمارات، والبحرين، والسعودية فترتبط بالخوف المُصطنع من إيران؛ مصطنع لأنه في ناتج عن مجموعة من العوامل الفعلية مثل ما تعتبره الإمارات احتلالًا لجزر ثلاث تابعة لها، وخشية البحرين من تطلُّع الأغلبية الشيعية لنصيب أكبر في إدارة البلاد، إن لم يكن الاستيلاء على الحكم بأكمله، وتحسُّب السعودية من أطماع إيرانية إمبراطورية في عهد الشاه، أو ثورية شيعية منذ نجاح الثورة الإيرانية عام 1979.
وهو ناتج كذلك عن تأجيج تلك المخاوف والتحفُّظات منذ السبعينيَّات من خلال دراسات مستشرقين مرموقين في الجامعات الغربية على رأسهم برنارد لويس، التي ركَّزت على عناصر الفرقة والاختلاف في العالمين العربي والإسلامى، وابتدعت المفهوم الفسيفسائي لوصف العالم العربي بتصويره على أنه مكوَّن من عناصر متنافرة نتيجة الاختلافات العرقية، والدينية، والمذهبية وغيرها، بما يجعل من إسرائيل عنصرًا طبيعيًّا ضمن ذلك التكوين الفسيفسائي، إن لم يكن العنصر الأكثر تماسكًا من بين العناصر المتنافرة، وأن العداء الطبيعي يجب أن يكون بين السنة -مثلًا- والشيعة، وليس بين العرب وإسرائيل.
ثم تَتَابَعَ تأجيجُ تلك العداوات والتحفُّظات والمخاوف من قبل الولايات المتحدة، وتابعتْها المملكة المتحدة، عبر تضخيم التهديد الإيراني لكل النظم الخليجية، بل وحتى مصر في مرحلة ما، حتى وصل الأمر الآن إلى تضخيم “التهديد النووي” الإيراني المُحتمل، والدفع بأهمية التحالف مع إسرائيل لمواجهته، وعدم الحديث عن الخطر النووي الإسرائيلي القائم.
ج) تتشابه المغرب في دوافعها –من حيث المنطق، وليس من حيث هوية التهديد– مع المجموعة السابقة، إذ إن دافعها الرئيسي إن لم يكن الوحيد لتوقيع الاتفاق الإبراهيمي كان تأجيج الولايات المتحدة للخلاف بين المغرب والجزائر حول الصحراء الغربية / المغربية وغيرها، وتضخيم الإمكانات العسكرية الجزائرية في نظر المغرب، واشتراط التطبيع من أجل تحديث الجيش المغربي وإمداده بما صُوِّرَ له أنه يحتاجُ من سلاح.
د) بالنسبة لقطر ربما يكون الدافع الرئيسي هو الاحتفاظ بدور دولي يتجاوز القدرات المالية المتولِّدة عن إنتاج وتصدير النفط والغاز، ليكون بمثابة وثيقة تأمين ضد أي تهديد وجودي للدولة أو النظام على غرار الأزمة التي امتدَّت من 2017 إلى 2021.
والدافع الإضافي المشترك –باستثناء قطر- لكل هذه الدول هو ما تعلنه ليل نهار من عداوة للإسلام السياسي، بمختلف تجلياته، وسعيها لتطوير خطاب ديني معدل، أو كما يطلقون عليه معتدل، يشيطن من يتحدَّى شرعيَّتها، ويُوظَّفُ لدعم سياساتها الداخلية، بل والخارجية عند الحاجة.
لكن إذا أمعنَّا النظر في الدوافع المختلفة التي ذكرت للتوِّ، نجد أنها كلها تعكس هشاشةً سياسية ما ترتبط بالخوف من عدم الاستقرار الناتج عن إدراك لوجود تحديات جسيمة للشرعية السياسية. حتى يمكن القول إن مسألة التطبيع، والوفاء باستحقاقات المواءمة ناتج أساسًا عن دافع البقاء في السلطة رغم ضعف الشرعية. ومن ذلك تقديري أيضًا أن التطبيع سيتم بين إسرائيل والسعودية بصرف النظر عن فيلم أو مسرحية أو مسلسل الدولة الفلسطينية، لأنه مرتبط أصلًا بمسألة الخلافة في السعودية، وتثبيت الأمير محمد عند وفاة والده؛ على غرار تثبيت خلافة الأمير عبد الله من خلال مبادرة توماس فريدمان المعروفة بالمبادرة العربية.
- مظاهر سياسات أطراف المواءمة:
مظاهر المواءمة كثيرة، أذكر منها:
أ) انتقاد الطوفان نفسه، و”مرتكبيه” علنًا كما فعلت الإمارات من خلال وزير خارجيتها، وبياناتها الرسمية، وبعثتها في الأمم المتحدة وفي مجلس الأمن بالتحديد في الوقت الذي كانت تحتل المقعد العربي في مجلس الأمن، وتترأس المجموعة العربية في الأمم المتحدة بنيويورك. وكما فعل رئيس السلطة الفلسطينية في القمة العربية الأخيرة في البحرين. وكما فعل بيان القمة العربية ذاته، عندما انتقد ما أطلق عليه الجماعات الإرهابية. وكما تفعل وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية والقنوات الفضائية المصرية، والسعودية، والإماراتية.
ب) انتقاد جميع أعمال المساندة من استهداف حزب الله في لبنان لأهداف إسرائيلية، أو حتى الاستهزاء بضعف رد فعله، ونفس الشيء بالنسبة لاستهداف الحوثيين للملاحة في البحر الأحمر، والميليشيات العراقية للأهداف الإسرائيلية والأمريكية، والرد الإيراني على استهداف قنصليتها في دمشق.
ج) الدعوة الصريحة أو المبطنة و/ أو تشجيع إسرائيل على استكمال المهمَّة، مثل تصريح السيسي الشهير بتهجير الفلسطينيين إلى صحراء النقب إلى حين تحقيق الأهداف الإسرائيلية. وقول أحد المذيعين في قناة سكاي نيوز إن هناك اتفاقًا مع إسرائيل على الأهداف لكن الاختلاف على الوسيلة.
د) الحديث عن عدم إمكانية القضاء على حماس، وليس عن عدم مقبولية ذلك.
ه) انتقاد رئيس وزراء إسرائيل بسبب ما يطلق عليه تمويل حماس، في الوقت الذي يعرفون فيه أن التمويل الذي كان يوجَّه لحماس من قطر كان بناءً على تفاهمات بين قطر وإسرائيل والولايات المتحدة ومصر ضمن ترتيبات وقف عدوان 2014 على غزة.
و) بلغت ذروة تلك المظاهر في المشاركة الفعلية، أو على الأقل السماح باستخدام أراضيها أو مجالها الجوي، في إسقاط الصواريخ، والمسيرات الإيرانية الموجَّهة لإسرائيل؛ ردًّا على ضرب القنصلية الإيرانية في دمشق.
ز) استمرار مباحثات السعودية مع الولايات المتحدة بشأن التطبيع مع إسرائيل دون كلل، مع تطور الموقف السعودي تدريجيًّا من التمسُّك بإنشاء دولة فلسطينية أولًا، إلى تطوير أفق سياسي ومسار في ذلك الاتجاه؛ كل ذلك رغم تماسك الموقف الإسرائيلي الرافض لهذه الأفكار.
- الشروخ في محور المواءمة:
أ) أهم مصادر الشروخ هو وجود رأي عام في عدد من الدول الرئيسية في ذلك المحور معادٍ لإسرائيل، ويعتبر أن وجودها في المنطقة أصلًا غير شرعي. وينبني ذلك على مصادر منها الثقافية التاريخية الدينية، أو لِنَقُل الحضارية، وينطبق ذلك على دول الخليج، عدا الطبقات الحاكمة التي تتجاوز تلك الاعتبارات وتنظر إلى مصالحها الآنية على النحو الذي أشرنا إليه من قبل. ومنها كذلك المصادر العملية المرتبطة بالأصل الفلسطيني لمعظم سكان الأردن، والحروب التي تمَّ خوضها ضد إسرائيل في مصر والأردن.
ب) المصدر الثاني أن أفعال إسرائيل ذاتها، وتصريحات مسؤوليها تزيد من ذلك الشعور المُعادي، وتؤكِّد الانطباع بأنها ليست دولة ديمقراطية كما تدَّعي، بل دولة “بلطجية”، لا يردُّها شيء عمَّا تعتزم القيام به سوى القوة، ولا تأْبه بمصالح حلفائها خارج المنطقة، والمطبِّعين معها داخلها؛ بل تسعي لتوريط هؤلاء وفضح مواقفهم عن حق أحيانًا وعن مبالغة غالبًا، مثلما تعلنه من تنسيق وثيق مع مصر في كل ما تفعل، بما يؤدِّي إلى إحراج مصر أو ابتزاز المزيد من التنازلات على سبيل المثال، وهو ما يؤدِّي إلى آثار عكسية أحيانًا حين يضطر الأخيرة إلى اتباع مواقف معلنة على الأقل تحاول دفع ذلك الحرج. ومن ذلك أيضًا عدم قدرة السعودية على إبرام اتفاق التطبيع حتى الآن رغم أن قرار التطبيع قد اتُخذ منذ ما قبل الطوفان كما صرح بذلك ولي العهد السعودي ووزير خارجيته.
ج) المصدر الثالث هو وجود منافسات قومية -حتى لا نقول شخصية- تطْفو على السطح أحيانًا بين مسؤولي هذه الدول؛ ممَّا يدفعها للمزايدة بعضها على بعض أحيانًا، والتنافس على التنسيق مع الولايات المتحدة راعية محور المواءمة، كما هو الحال بين السعودية والإمارات (عدم حضور رئيس الإمارات القمة العربية الإسلامية في جدة، ولا القمة العربية في البحرين).
د) المشكلة فقط أنه رغم كل ذلك، فإن العنصر الرئيسي الذي يمكن أن يحوِّل الشروخَ إلى تصدُّعات، يتمثَّل في تحول الرأي العام إلى عنصر مؤثر على التطوُّرات السياسية الداخلية في بلدان المواءمة، وذلك بعيد عن التحقق، إذ إن قنوات تحويل الرأي العام إلى قوة مؤثِّرة على النظام السياسي مسدودة؛ ويتم اتخاذ إجراءات على الدوام من قبل النظم السياسية القائمة لضمان استمرار ذلك، مثلما يحدث في كل تلك الدول، وآخرها الكويت.
- رعاة محور المواءمة:
الراعي الرئيسي هو الولايات المتحدة، وتسانده بالكامل المملكة المتحدة –خصوصًا بعد “تحرُّرها” من الاتحاد الأوروبي- ثم الاتحاد الأوروبي، بصفة عامة، لكن مع تبايُن المواقف حسب السياسات والاعتبارات التقليدية من جهة: ألمانيا، ودول أوروبا الشرقية الشعبوية، المتأثِّرة بالنُّفوذ اليهودي مثل بولندا، والمجر، والنمسا بدرجة أقل، والجمهورية التشيكية. وحسب تطوُّرات الطوفان ورد الفعل الإسرائيلي الانتقامي من جهة أخرى. وحسب تطورات ردور الفعل الداخلية، وآثارها المتدافعة، من جهة ثالثة.
الدافع التقليدي للولايات المتحدة، يتمثَّل في استراتيجيَّتها الكونية التي تتمثَّل في بناء نظام إقليمى جديد في الشرق الأوسط ينبني على توطيد العلاقات بين حلفائها في المنطقة، وعلى رأسهم إسرائيل، والتصدِّي لأي مقاومة لتلك التوجهات. وتسليط هؤلاء الحلفاء، المعززين بإسرائيل، على الأطراف التي تتحدَّى تلك الاستراتيجية، بما في ذلك مصالح إسرائيل وهي باختصار إيران، والأطراف من غير الدول المتحالفة معها: حزب الله، وأنصار الله، والحركات الشيعية المسلحة في العراق؛ حتى تتفرَّغ الولايات المتحدة للتنافس الكوني الأهم مع الصين، وبدرجة أقل مع روسيا التي برز ما تمثِّله من تحديات عند غزو أوكرانيا.
أما الدافع الأهم فهو قوة التأثير السياسي والمالي اليهودي في الولايات المتحدة الذي يساهم بدرجة كبيرة في تنصيب وعزل الرؤساء، من خلال توظيف الاستثمارات، والتبرعات المالية، والدعاية الإعلامية والصحافية.
وقد بدت مظاهر تلك الرعاية في تسابق قادة ووزراء الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى زيارة إسرائيل في بداية الطوفان للعزاء، والمواساة، والأهم تأكيد الالتزام بالحفاظ على أمن ووجود إسرائيل، وتوريد المساعدات العسكرية من سلاح، وذخائر، ونشر الأساطيل لردع المقاومة والتصدِّي لها، وكذلك جبهات الإسناد المتعدِّدة، بل والرد عليها مباشرةً عند الحاجة؛ على نحو ما حدث بعد تعرض القاعدة الأمريكية على الحدود الأردنية مع سوريا والعراق للهجوم الذي أدَّى إلى مقتل ثلاثة عسكريِّين أمريكيِّين في فبراير. ثم التصدِّي للرَّدِّ الإيراني على استهداف قنصليَّتها في دمشق. هذا بالإضافة إلى إطلاق ومساندة فكرة تعميم التطبيع مع إسرائيل، وربط التعاون في المجالات الأخرى بذلك مثلما يحدث مع السعودية؛ وكذلك المكافآت أو المساعدات الاقتصادية التي تتم مباشرةً عن طريق القروض الثنائية، والمؤسسات الدولية، أو عن طريق الحلفاء الأثرياء العرب لدول مثل مصر، والأردن، وتونس.
أمَّا أسباب الشروخ لدى رعاة المواءمة فهي نفسها التي لدى المحور الإقليمي ذاته: الرأي العام المحلي، وتطور الممارسات الإسرائيلية الانتقامية. لكنها بدت أكثر اتساعًا وتأثيرًا منها في المحور الإقليمي، لسبب رئيسي هو فعالية الرأي العام في تلك الدول، وفاعلية قنوات تأثيره على الواقع السياسي.
ففرنسا مثلًا بدأت بدعم غير مشروط لإسرائيل، وإدانة تامة لحماس؛ حتى إن رئيسها زار إسرائيل في الأسابيع الأولي، وتوجه منها إلى الأردن ثم مصر على هامش زيارته الأساسية لإسرائيل، وأعلن من تل أبيب ثم القاهرة عن مبادرة لإنشاء تحالف دولي ضد حماس على غرار التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، بل أعلن في المؤتمر الصحافي أمام وسائل الإعلام الفرنسية بعد الزيارة أن ملك الأردن ورئيس مصر متفقان معه على ذلك، وعلى القضاء على حماس لكنهما لا يعلنان ذلك لاعتبارات الرأي العام الداخلي. ثم تطور موقفه مع تطور أحداث الطوفان، وردود فعل إسرائيل وما ارتكبته من جرائم حرب، وتطور مظاهر تأييد الرأي العام في فرنسا، سواء من الفرنسيين ذوي الأصول العربية، أو الشباب من طلاب الجامعات، أو السياسيين اليساريين، حتى أصبح الآن يفكر في الاعتراف بدولة فلسطين، وأصبح من أكبر الداعين للوقف الفوري للحرب. بل إن حركة فرنسا غير الخاضعة (العصية) اليسارية الشعبوية تبنَّت إدانة إسرائيل، والدعوة إلى تحرير فلسطين، خلال حملتها للانتخابات النيابية الأوروبية التي تنعقد بعد أيام. وسنرى تأثير ذلك على نصيبها من المقاعد المخصَّصة لفرنسا في البرلمان الأوروبي.
ومن ذلك أيضًا قوة الدفع داخل الاتحاد الأوروبي نحو الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، التي بدأت بإسبانيا، وأيرلندا، وامتدَّت إلى سلوفينيا، وربما تمتدُّ إلى بلجيكا، وفرنسا. علمًا بأن كل دول الاتحاد الأوروبي صوتوا داخل مجلس الأمن لصالح انضمام دولة فلسطين لتكون عضوًا كامل العضوية في الأمم المتحدة، وصوت معظمهم بذلك في الجمعية العامة. ومن المفارقات في هذا الموضع أن إسبانيا والنرويج كانتا ضمن الدول الثلاث التي نسَّقت للمبادرة بالاعتراف بدولة فلسطين؛ وهما الدولتان اللتان استضافتا ونظَّمتا أهم مبادرتين للسلام بين فلسطين وإسرائيل في القرن الماضي، في مدريد وأوسلو ولم تسفرا عن النتائج المرجوَّة بعد ثلاثين عامًا، ممَّا يوحي بشعورٍ ما بالذنب بالمشاركة في هذه الخديعة، ولو عن غير دراية بأنها خديعة.
وقد حدثت تطوُّرات متشابهة، وإن كانت أقلَّ حدَّة في مواقف ألمانيا، التي بدأت بالسعي مع الولايات المتحدة نيابةً عن إسرائيل للسماح بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وتوريد الأسلحة والذخائر لإسرائيل دون شروط، والانضمام إلى إسرائيل في التصدِّي لدعوى جنوب أفريقيا التي تتَّهم فيها إسرائيل بخرق اتفاقية منع الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية؛ ثم تحوَّلت إلى رفض التهجير، وإدانة ما ترتكبه إسرائيل، وصولًا إلى إعلان التزامها بالقبض على رئيس وزراء إسرائيل إذا صدر أمر بتوقيفه من المحكمة الجنائية الدولية، رغم اعتراضها على طلب إصدار ذلك الأمر.
ونفس الأمر بالنسبة للولايات المتحدة التي تجد فيها الإدارة الديمقراطية الحالية نفسها في مأزق شديد بسبب مواقفها المؤيِّدة لإسرائيل نتيجة النفوذ اليهودي الذي أسْفر عن أن كلًّا من وزير الخارجية، ومستشار الأمن القومي، والمبعوث الخاص للبنان من اليهود، والرئيس نفسه يعلن بمناسبة وبدون مناسبة أنه صهيوني. لكن في ضوء مواقف الأمريكيين من ذوي الأصول العربية، والحراك الطلابي الواسع المساند لفلسطين، وانعقاد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في نوفمبر المقبل، وتهديد الجاليات العربية بعدم مساندة إعادة انتخابه في منصبه، إلى جانب ما ترتكبه إسرائيل وعدم اهتمامها بمصالح حليفتها الرئيسية، بما في ذلك توسيع الحرب إقليميًّا، ومنع دخول المساعدات الإنسانية، والتمادي في ارتكاب جرائم الحرب، وتسفيه الأفكار الأمريكية المتعلقة بحل الدولتين مقابل التطبيع مع السعودية؛ اضطر الرئيس الأمريكي إلى الإعلان عن إدانة تصرفات إسرائيل، ووقف تصدير صفقة محدودة من الذخائر الثقيلة، وتوبيخ نتنياهو أكثر من مرة على الهاتف، وحث إسرائيل على السماح بدخول المساعدات، وضرورة تقليل تقتيل المدنيين.
لكن من جهة أخرى، فإن ردَّة فعل إسرائيل وجماعات الضغظ اليهودية، وكبار الممولين من رجال الأعمال اليهود تجبر الرئيس الأمريكي على مراجعة القرارات التي تؤثِّر على مصالح إسرائيل، وتخفيف نبرة الإدانة أو حتى العدول عنها حسب تقديره ومساعديه لتأثير ذلك على فرص إعادة انتخابه، حتى كاد يكون في وضع من الخسارة المزدوجة بعد أن أغضب الناخبين من الشباب والجاليات العربية الذين أعلنوا أنهم لن يشاركوا في التصويت لصالحه، وهو ما يحرمه من أصوات مهمة ويصب في مصلحة منافسه حتى لو لم يصوتوا له. كما أغضب مؤيدي إسرائيل من أثرياء اليهود الذين بدأوا يحجبون أموالهم عن حملته الانتخابية، إن لم يمولوا حملة ترامب أملًا في توليه الرئاسة وتبنِّيه سياسات منحازة تمامًا لإسرائيل على نحو ما يصرِّح، وما سبق أن اتبع من سياسات أثناء فترة رئاسته الوحيدة السابقة.
لكن المفارقة التي يبرزها لنا الطوفان هي أنه رغم اختلاف بايدن عن ترامب في الأسلوب، وربما في مضمون بعض السياسات، فإن استراتيجية بايدن للشرق الأوسط مبنية على مواصلة تنفيذ خطة ترامب الأصلية المعروفة بصفقة القرن –أو إذا شئتم خدعة القرن أو صفعة القرن- من خلال توسيع الاتفاقات الإبراهيمية لتشمل السعودية، من أجل المساهمة في تحقيق أفق دولة فلسطينية، وتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة، رغم أن خبرة الاتفاقات الإبراهيمية ذاتها أثبتتْ أن علاقة ذلك السلام بالأفق أنه سلام أفَّاق “يضرب في الأرض مكتسبًا لا ينتمي إلى وطن، ولا يثبت على رأي، مختل الذمة كذاب” أو كما في تعريف الأفَّاق في معجم المعاني.
والملاحظة الأخيرة الجديرة بالاهتمام بشأن التطوُّرات والتقلُّبات المستمرَّة في مواقف محور رعاية المواءمة، أن الحكومات طوَّرت مواقفها لأسباب سياسية: بما في ذلك احتواء إمكانيات توسُّع الصراع بصورة أكبر في المنطقة بشكل متعدِّد الجبهات ولا يمكن احتواؤه؛ إلى جانب اعتبارات تحول الرأي العام الداخلي وأثره على بقاء تلك الحكومات في المستقبل؛ فاتخذت مواقف تركِّز أكثر على الأبعاد الإنسانية من حيث إدانة الحصار، وإعاقة دخول المساعدات، والخسائر البشرية؛ ربما لإدراكها أن تلك الأبعاد الإنسانية هي الأقل تكلفة من الناحية السياسية. هذا، مع الإقرار بالاتجاه مؤخرًا إلى خطوات سياسية رمزية مثل الاعتراف بفلسطين، ومساندة حل الدولتين، وبحث عقد مؤتمر سلام.
هذا بينما تحرك الرأي العام في تلك الدول بعد أسابيع من الطوفان، بدوافع إنسانية نتيجة أعمال القتل والحصار التي تمادت فيها إسرائيل بغير حساب. ثم تطورت مطالبه إلى مطالب سياسية لا تطالب فقط بوقف الحرب، ومحاسبة إسرائيل، بل تطالب بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وتشكك في شرعية إسرائيل؛ وتمتد مطالبها إلى محاسبة الحكومات الوطنية على مساندتها لإسرائيل، وتقاعُسها عن الضغط عليها لوقف الحرب.
- موضوع التطبيع والمواءمة: إسرائيل
لن أستطرد في شرح ما أحدثه فيها الطوفان، وأكتفي فقط بالإشارة إلى أن الطوفان كشف هشاشة قدراتها الذاتية؛ ومن ثم اعتمادها المطلق على الدعم الخارجي؛ مالًا وسلاحًا، وهو ما يضرب الاستراتيجية الأمريكية الخاصة بالشرق الأوسط الجديد في مقتل، إذ كيف يمكن الاعتماد على إسرائيل لردع إيران في الوقت الذي لا تستطيع هي الاعتماد على نفسها للقضاء على حركة مقاومة مُحاصَرة منذ سنوات؟
فضلًا عن هشاشة التماسك الاجتماعي والسياسي، إذ رغم الحدث الجلل الذي لا شك أنه ساهم في توحيد المجتمع أو أغلبيته العظمي ضد الفلسطينيين، بل ضد العالم كله، ومؤسسات النظام الدولي، من الأمم المتحدة وأجهزتها بما في ذلك الجمعية العامة، ومجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية، وكذلك المحكمة الجنائية الدولية؛ بل رغم تشابه جوهر مواقف الساسة الإسرائيليين في نقاط مهمة، نجد الانقسامات فيما بينهم تستمر وتتفاقم. كما تتفاقم الخلافات بين أهالي الأسرى من جهة، وبين المستوطنين والمتشدِّدين الدينيِّين من جهة أخرى، بل بين أهالي الأسرى أنفسهم بين مؤيِّد لوقف الحرب، ومؤيِّد لاستمرار الضغط العسكري والحصار. تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتَّى، بأسهم بينهم شديد.
ثانيًا– محور المقاومة، والإسناد:
- الشروخ داخل المحور:
إن الشروخ الممكنة في هذا المحور مصدرها عدم أولوية مسائل الطوفان ضمن سياسات تلك الأطراف، عدا حركات المقاومة الفلسطينية، بالطبع. إذ تأتي الأولوية الأولى للاعتبارات المحلية، بل إن معظم حركات ودول المساندة (كلها عدا أنصار الله، والفصائل العراقية بدرجة أقل) تحرص على عدم التصعيد مع إسرائيل قدر الإمكان، وتعلن تكرارًا أنها لا تسعى لتوسيع النزاع، ولا المبادأة بخوض حرب مباشرة ضد إسرائيل. بل إنها تدرك أن مسألة إسناد المقاومة ربما تعرِّضُها لضغوطٍ دولية مرتبطة بذلك على وجه التحديد، وهي على استعداد لِتَحَمُّلِهَا حتى الآن لكن بقدر. كما أن اعتمادها المفرط على إيران يجعلها مضطرة للالتزام بالتنسيق مع إيران وربما الامتثال لأولوياتها.
أما المصدر الأكثر أهمية لحدوث انشقاقات في ذلك المحور هو حدوث تحولات في الحكومات نتيجة الانتخابات في المستقبل، ما يجعلها تتحوَّل نحو اليمين الشعبوي المتطرف على غرار الأرجنتين.
كما تجدر ملاحظة أن المساندة العمليَّاتية للمقاومة، وحركات المقاومة ذاتها هي من الفاعلين الدوليين من غير الدول، الذين تصنفهم مجموعة من الدول الهامة كحركات إرهابية.
- الأطراف:
أ) الطرف المباشر: حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحركة الجهاد الإسلامي، اللتان بادرتا بإطلاق الطوفان، وما زالتا تقاومان رَدَّ الفعل الإسرائيلي، وتكبِّدان قوَّات الاحتلال خسائر متواصلة، رغم قلَّة الإمكانيات، وضعف وسائل المساندة والإمداد.
ب) الأطراف المساندة عملياتيًّا:
على رأسها حزب الله في لبنان الذي أعلن قائده حسن نصر الله في بداية الطوفان أنه يساند أهداف الطوفان وعمليات المقاومة المباشرة في غزة، وأن حزب الله يعتبر نفسه جبهة إسناد للمقاومة وليس جبهة قتال مباشر، إلا إذا أقدمت إسرائيل على كسر القواعد التي ينبني عليها التوازن الهش على الحدود. وقد جَرَتْ مياهٌ في النهر منذ ذلك، وقام الحزب بقصف أهداف إسرائيلية، وقامت إسرائيل بالرد، وبتحريك القواعد بضع مرات، وإن كان بصورة حذرة للغاية، وحمَّالة أوجه، مثل استهداف أحد قادة حماس في بيروت، وتوسيع مدى القصف داخل الأراضي اللبنانية. وقد تمَّ حتى الآن تفادي توسُّع المواجهة إلى حرب شاملة بين إسرائيل وحزب الله، رغم التهديدات الإسرائيلية المستمرة بأنها قد تضطر للتوغُّل في لبنان للقضاء على إمكانات حزب الله، لإعادة سكان المستوطنات على الحدود مع لبنان بالعودة إلى قُراهم. لكنها لم تُقْدِمْ على ذلك حتى الآن لعدم قدرتها على فتح جبهتين في ذات الوقت، فضلًا عن ضغوط حلفائها الرئيسيين لعدم توسيع الحرب.
يُضاف إلى حزب الله جماعة أنصار الله في اليمن، المعروفة باسم الحوثيين نسبة إلى زعيمها عبد الملك الحوثي، التي بادرت باستهداف السفن المتَّجهة إلى إسرائيل عبر مضيق باب المندب، ما أثر بشكل بالغ على حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر. وأدَّى إلى إعاقة وصول أسلحة، ومنتجات هامة لإسرائيل عبر ذلك الممرِّ الملاحي. كما أحرج الولايات المتحدة، التي ما زالت تُعتبر القوة الأكبر في العالم لعدم قدرتها حتى الآن على إنهاء هذه الهجمات، وبالتالي عجزها عن ضمان حرية الملاحة البحرية، رغم قيامها وحلفائها بقصف أهداف عسكرية في اليمن أكثر من مرة.
وكذلك الفصائل المسلحة الشيعية في العراق التي قامت من جانبها باستهداف إسرائيل بصواريخ ومسيرات، بل واستهدفت التواجد العسكري الأمريكي في الأردن، وتعرَّضت نتيجة ذلك لضربات انتقامية من الولايات المتحدة.
ج) الأطراف المساندة سياسيًّا:
على رأسها إيران التي توفِّر الدعم العسكري والمالي للحركات السياسية والعسكرية المساندة للمقاومة؛ والتي اضطرَّت لتوجيه أسلحتها مباشرةً إلى إسرائيل ردًّا على تدمير قنصليَّتها في دمشق وقتل عدد من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني الذين كانوا مجتمعين هناك. ولم أعتبر إيران من الأطراف المساندة عملياتيًّا لأنها رغم هجومها على إسرائيل مباشرة مرة واحدة، فإن تلك الهجمة لم تأتِ مسانِدَةً للمقاومة بل ردًّا على هجوم من إسرائيل، التي ما فتئت تختبر حدود رد الفعل الإيراني.
هذا بالإضافة لسوريا التي تُصَنَّفُ رسميًّا ضمن محور المقاومة لكنها في تقديري معطَّلة تمامًا نتيجة الأوضاع السياسية والعسكرية والاحتلال الروسي.
كما تأتي تركيا في مرتبة متقدِّمة من المساندة السياسية، إذ تكاد تكون الدولة الوحيدة إلى جانب إيران التي وصفت حماس بأنها حركة مقاومة مشروعة للاحتلال الإسرائيلي، بعكس معظم الدول العربية التي إما تصمت وتكتفي بالإشارة إلى أنه لا يمكن القضاء على حماس، أو حتى تُعزي إسرائيل، وتعتبر أن حماس حركة إرهابية. كما اتخذت إجراءات هامَّة للمساندة الاقتصادية من خلال حظر التعاملات الاقتصادية مع إسرائيل إلى حين انتهاء الحرب الانتقامية التي تشنها على غزة، وهو قرار لم تقدم عليه دولة عربية واحدة من الدول التي طبعت بالفعل علاقاتها السياسية والاقتصادية مع إسرائيل، أو تلك التي تحتفظ بتعاملات اقتصادية سرية معها، بل ساهمت في تخفيف الحصار الناتج عن هجمات أنصار الله بتوفير طريق للنقل البري إلى إسرائيل.
وتأتي بعد ذلك الجزائر التي تؤدِّي دورًا مهمًّا من خلال تمثيلها للمجموعة العربية في مجلس الأمن خلفًا للإمارات، وإصرارها على إعداد مشروعات قرارات تدعو لوقف إطلاق النار، وقبول عضوية فلسطين في الأمم المتحدة دون الاكتراث بالتحفظات الغربية والفيتو الأمريكي.
وتأتي في مرحلة متقدمة كذلك جنوب أفريقيا التي بادرت برفع دعوى اتهام إسرائيل بممارسة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني أمام محكمة العدل الدولية؛ وأصرت على المتابعة النشطة للدعوى من خلال مطالبة المحكمة أكثر من مرة بالأمر باتخاذ إجراءات احترازية مهمة لوقف العدوان الإسرائيلي إلى حين البت في الدعوى.
وتأتي بعد ذلك دول فاعلة في أمريكا اللاتينية مثل البرازيل، وكولومبيا، والمكسيك، وتشيلي، ونيكاراجوا، وبوليفيا، وفنزويلا، التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، أو سحبت سفراءها منها، أو انضمَّت لدعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، أو أقامت دعوى أخرى ضد ألمانيا لحظر توريد السلاح لإسرائيل، أو تقدَّمت للمحكمة الجنائية الدولية بطلبات لملاحقة المسؤولين الإسرائيليِّين بسبب ما يرتكبون من جرائم ضد الإنسانية.
أما الدول الكبرى المساندة سياسيًّا: وتتمثَّل في دولتين هما الصين وروسيا اللتان تصوِّتان لصالح المقاومة داخل مجلس الأمن، وتستخدمان حق الفيتو ضد المحاولات الأمريكية لإصدار قرارات تدين المقاومة. وتصولان وتجولان في انتقاد الولايات المتحدة، وازدواجية معايير الدول الغربية بشأن فلسطين.
- الدوافع:
تتمثَّل دوافع المقاومة واضحة في رفض الاحتلال، وما يستتبعه من حصار على غزة، واعتداءات مستمرة على الفلسطينيين والتضييق عليهم، ومصادرة أراضيهم لصالح المستوطنين، والأهم من ذلك كله التصدي للتجاوزات المستمرة بشأن المسجد الأقصى.
أما دوافع القوى المساندة عسكريًّا فمشابهة لها، وإن كانت أكثر تعقيدًا لأنها تُدْخِلُ في المعادلة اعتبارات محلية مثل الاحتلال الإسرائيلي المستمر لجزء من الأراضي اللبنانية، والخلاف القائم حول ترسيم الحدود البرية والبحرية، وتنفيذ قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، ووضع حزب الله في الخريطة السياسية اللبنانية، والعلاقة العضوية مع إيران، وكذلك وضع الحزب في سوريا.
وينطبق ذلك على أنصار الله في اليمن الذين يمكن أن نعتبرهم قد ضحوا ببارقة للتوصل إلى تسويةٍ ما مع السعودية برعاية دولية ربما تحسِّن من وضعهم دوليًّا قبل الطوفان، وآثروا الدفع بما لديهم من إمكانيات لمساندة المقاومة دون تحفظات، وتحمُّل وصمهم بالإرهاب، وتعرُّضهم لغارات أمريكية بريطانية، اتساقًا مع مبدأ المقاومة، واستجابةً للعلاقة مع إيران، وقبل ذلك، تعزيزًا لوضعهم الداخلي في ضوء المكانة التي تتمتع بها فلسطين لدى الرأي العام العربي عمومًا، وفي اليمن بصفة خاصة. ونفس الأمر ينطبق على الفصائل العراقية.
أما إيران فالدافع الرئيسي إلى جانب الاعتبارات الدينية المتعلقة بتحرير القدس، والصراع المستمر مع إسرائيل لهذا السبب، والعداء الأمريكي والإسرائيلي الشديد للثورة الإيرانية منذ إزاحة نظام الشاه عام 1979، وسعي الاثنتين بمختلف الوسائل لهدم النظام الإيراني، فإن الطوفان منح إيران فرصة مهمة لتعزيز مكانتها في المنطقة، وإضعاف عدوها الرئيسي إسرائيل، وإشغال الولايات المتحدة والدول الغربية. وقد استغلَّت هذه الفرصة بتحريك قواعد التعامل مع إسرائيل عندما بادأت الأخيرة بتدمير القنصلية الإيرانية في دمشق، فأقدمت على مهاجمة إسرائيل من إيران لإرسال رسالة ردع واضحة، مع تأكيد أنها لا تعتزم التصعيد أو الانضمام كطرف في الحرب بين إسرائيل وفلسطين.
وربما تكون قد فعلت ذلك بعد الاتصال والتنسيق مع أقطاب المحور الآخر: محور التطبيع، لاكتساب النقاط ومحاولة إدارة العلاقة مع الولايات المتحدة بصورة عقلانية منضبطة. وقد أثمر ذلك عن مواصلة الاتصالات السرية مع الولايات المتحدة برعاية عُمان لبحث جملة من الأمور الأخرى، بما فيها البرنامج النووي الإيراني، ممَّا أدَّى إلى مبادرة الولايات المتحدة بالضغط على حلفائها الغربيين في الوكالة الدولية للطاقة الذرية لعدم المبالغة في انتقاد إيران بعد صدور تقرير من الوكالة مؤخَّرًا يؤكِّد زيادة كمية ودرجة تخصيب اليورانيوم المتوفر لدى إيران.
أما سوريا فتصنف ضمن محور المقاومة ربما بغير إرادتها، لكنها مجْبرة على ذلك بسبب استمرار احتلال إسرائيل لجزء من أراضيها؛ واعتمادها على إيران وعلى حزب الله لحماية النظام. وهي كما ذكرْتُ معطَّلة أو مرفوعة من الخدمة بسبب أوضاعها الداخلية، وشبه الاحتلال أو التواجد الروسي فيها باستدعاء من الحكومة. وتكتفي بتلقِّي الهجمات الإسرائيلية التي تستهدف عناصر تابعة لإيران أو لحزب الله أكثر ممَّا تستهدف سوريا، وتظل محتفظةً بحقِّها في الرَّدِّ في الموعد والمكان المناسبيْن.
أمَّا تركيا فتشمل دوافعها دوافع فكرية تتعلَّق بالخلفية الفكرية الإسلامية المشتركة مع حركة حماس، إلى جانب مكانة فلسطين لدى القاعدة الشعبية لحزب الرئيس التركي، والتوتُّر المزمن مع إسرائيل منذ تولِّي حزب العدالة والتنمية للسلطة، الذي يتفاقم مع تصعيد العدوان والجرائم المرتكبة ضد الشعب الفلسطينى؛ وأخرى عملية ترتبط بتطلُّع تركيا للقيام بدور إقليمي وعالمي.
أمَّا الجزائر فتتضمَّن دوافعُها اعتبارات تاريخية تتعلَّق بتجربتها الاستعمارية، والتوتُّرات المزمنة مع فرنسا بالذات والغرب عمومًا. هذا بالإضافة إلى استغنائها اقتصاديًّا ممَّا لا يجعلها مضطرة للاستجابة لمساعي أو ضغوط الولايات المتحدة أو فرنسا أو المملكة المتحدة لتخفيف مواقفها في مجلس الأمن.
وتجدر هنا مقارنة أداء الجزائر حتى الآن، بأداء سالفتها الإمارات التي سارعت بإدانة الطوفان من داخل مجلس الأمن، أو مصر التي سحبت مشروع قرار كانت قد طرحته للتصويت في مجلس الأمن بشأن المستوطنات بناءً على اتصال هاتفي بين المرشح الرئاسي الأمريكي الفائز في الانتخابات (دونالد ترامب) قبل تولِّيه المنصب رسميًّا بالرئيس المصري، تمهيدًا لما أطلق عليه الأخير صفقة القرن.
أمَّا دوافع جنوب أفريقيا فتتشابه مع دوافع الجزائر في البُعد التاريخي لتجربة جنوب أفريقيا المريرة نتيجة الاحتلال العنصري الاستيطاني، والعلاقات الوطيدة التي تربط الحزب الحاكم بالقضية الفلسطينية، وتعاطف الأغلبية الأفريقية مع القضية الفلسطينية. كما تتشابه الدولتان في التطلُّع لتبوُّء مكانة متميزة داخل القارة الأفريقية ودول الجنوب بصفة عامة كدول داعمة لقضايا إصلاح وموازنة النظام الدولي القائم، ربما تمهيدًا للسعي للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن إذا نجحت الدول الأفريقية في فرض موقفها الموحَّد تجاه مسألة إصلاح مجلس الأمن، الذي ما زال يصر على تخصيص مقعدين دائمين لأفريقيا يشملان جميع حقوق ومزايا أصحاب المقاعد الدائمة، بما في ذلك حق النقض الفيتو، وإن كانت مسألة توسيع العضوية الدائمة للمجلس لن تتحقَّق بالقطع في تقديري.
أمَّا الدول اللاتينية المساندة للطوفان فتنبع دوافعها المناهضة لإسرائيل، أساسًا من الاتجاهات الأيديولوجية لحكوماتها التي خلفت حكومات يمينية أو عسكرية متطرِّفة في سعيها للاندماج في الغرب، والتقرُّب من الولايات المتحدة وإسرائيل مثل البرازيل، وكولومبيا، وتشيلي، والمكسيك، إضافة إلى نيكاراجوا، وفنزويلا، وبوليفيا اللاتي حدثت فيها الطفرة نحو اليسار قبل جيلين. لكن المجموعة الأولى تتميَّز بأن لديها مؤسسات ديمقراطية تسمح بتداول السلطة عبر الانتخابات، ممَّا يثير التساؤل عمَّا إذا كانت التحولات الانتخابية هناك يمكن أن تؤثر على تماسك المساندة للطوفان أو القضية الفلسطينية عمومًا. ويبرز السؤال بإلحاح أكبر إذا قارنَّا بين هذه المواقف وموقف الأرجنتين التي كانت في بداية الطوفان مؤيدة للحقوق الفلسطينية، ثم نكصت على أعقابها بعد انتخاب الرئيس الحالي اليميني الشعبوي المتطرف، الذي يتشابه مع الرئيس البرازيلي السابق بولسنارو.
أما روسيا والصين فرغم العلاقات التاريخية القوية بينها وبين الدول العربية والقضية الفلسطينية؛ فإن الدوافع الرئيسية التي توجِّهُهُما هي دوافع أنانية مرتبطة بالمنافسة مع الغرب، ومع الولايات المتحدة بشكل خاص، واستغلال فرصة تخبُّط المواقف الأمريكية، وتمادِي الجرائم الإسرائيلية لفضح ازدواجية المعايير الغربية التي تنتقد الغزو الروسي لأوكرانيا، والسعي الصيني لضم تايوان، وانتقادات الغرب لانتهاكات حقوق الإنسان في البلدين في الوقت الذي يَغُضُّ فيه الطرف عما ترتكبه إسرائيل، إذ لم تتأثر العلاقات الاقتصادية بين الدولتين وإسرائيل نتيجة الطوفان، ولا تمَّ تصعيد التصريحات السلبية المتبادلة، بل ركَّزت مواقف الدولتين على الولايات المتحدة أساسًا، ومن بعدها الدول الأوروبية الغربية.
وتجدر الإشارة إلى أن روسيا، والصين، وجنوب أفريقيا، وتركيا استقبلت وفودًا من حماس، وأن روسيا وتركيا تبنَّت جهودًا للمصالحة الفلسطينية.
ثالثًا– المحاور الشعبية:
وتنقسم هي الأخرى إلى محورين؛ محور التطبيع ومحور المساندة:
أما محور التطبيع فمدفوع بقوى الأمر الواقع Establishment التي تدخل فيها: إدارات الجامعات بالتعاون مع السلطات التنفيذية، والشرطة، والأغلبيات التشريعية القائمة، التي تُترجم في مقولة “الوجوه السوداء في المناصب العالية Black faces in high places”، والشركات الكبرى التي تتعرَّض للإضرابات وللمقاطعة، بالإضافة إلى كبار المموِّلين والاستثمارات اليهودية. وكلها دوافعها مصلحية نظامية على غرار حركة جعل أمريكا عظيمة مُجددًا (MAGA) والنخب السياسية والاقتصادية والجماهير المتعاطفة معها، وتوظف إمكاناتها لتحقيق أهداف سياسية تضمن استدامة مصالحها وتردع من تسوِّل له نفسه مناقضتَها.
أما محور المساندة، المُتمثل في الحركات الطلابية في الولايات المتحدة، والدول الأوروبية، والعالم أجمع، وممثلي الشعب المساندين للقضية، وإن كانوا أقلية، والجاليات العربية، والجاليات اليهودية غير الصهيونية. وقد بدت مساندتها في تنظيم تحركات واسعة النطاق شبيهة بالانتفاضات الطلابية في نهاية الستينيات. ودوافع هذا المحور إنسانية فطرية نتيجة لما ترتكبه إسرائيل، وتتسع أهدافها لتشمل مختلف المجالات السياسية.
ومن الملاحظ أن لدى الطرفين دوافع قوية ووجودية، مع عدم تكافؤ في الإمكانيات المادية، لصالح جانب مقاومة المقاومة (محور التطبيع)، وعدم تكافؤ في الأعداد والقيمة الأخلاقية أو لِنَقُل الحضارية لصالح محور المقاومة. والعبرة بالمثابرة، وبتوفير الدعم المادي والشعبي، وتوظيفه سياسيًّا. وكذلك الاختبارات القادمة: الانتخابات الأوروبية، والانتخابات في الولايات المتحدة. كما أن انتخابات جنوب أفريقيا مهمة لمعرفة ما إذا كانت النتيجة ستؤثِّر على حجم المساندة، بل ما إذا كانت الاستثمارات اليهودية والمساعي الغربية قد أثرت في النتيجة. كذلك انتخابات المكسيك مهمة لمعرفة الإجابة على نفس الأسئلة، بالإضافة إلى سؤال آخر مهم هو مدى تأثُّر المرشحة المقربة من الرئيس اليساري الحالي بديانتها اليهودية، إذا فازت في الانتخابات؟
رابعًا– استنتاجات:
1) الطوفان كان كاشفًا للمحاور لا منشئًا لها، إذ ساهم في كشف واقع التحالفات أو بالأحرى المحاور القائمة في المنطقة العربية، وتقاطعاتها مع الجوار الحضاري، والمسرح العالمي المتَّسع، وفي إبراز سماتها الأساسية على مستوى الدول والحكومات، وكذلك الكيانات المنظمة شبه الحكومية، وإن كانت غير حكومية تمامًا مثل حركات المقاومة في فلسطين، وحزب الله، وأنصار الله، لكنه لم ينشئ محاور جديدة أو مختلفة عما كان قائمًا، أو متوقَّعًا.
2) أظهر الطوفان أشكالًا مستحدثة من التحركات على المستوى الشعبي في الجوار الحضاري وعلى مستوى العالم بدرجة أكبر ممَّا أظهر في المنطقة العربية؛ سبب ذلك في تقديري توفُّر درجات أكبر من حرية التعبير والتنظيم في الجوار الحضاري مقارنة بالدول العربية. وإن كانت تلك التحركات تواجه إجراءات مضادة عندما تبلغ مستوى معينًا يُشْعِرُ القائمين على السلطة، أو أصحاب المصلحة في استمرار الوضع القائم بالتهديد الجِدِّيِّ لمصالحهم.
3) يبدو لي محور المواءمة والتطبيع أكثر تماسكًا على مستوى الحكومات والأنظمة بسبب أهمية المصالح محل التهديد، إذ يمكن مقارنة طوفان عامي 2023 و2024 بالثورة الإيرانية عام 1979، أو بالربيع العربي عام 2011، كحدث مستمر الأثر يمكن أن تكون له تداعيات على نموذج التعامل مع القضايا السياسية والاقتصادية الرئيسية في المنطقة من منطلق مختلف، يعتمد على رفض الواقع القائم على الظلم والاستغلال، ومحاولة تغييره باليد، واللسان، بدلًا من الاكتفاء بأضعف الإيمان. ويثير ذلك تهديدات لنماذج الحكم القائمة، واختياراتها، ومنطقها، عند المقارنة؛ بل ربما يثير التساؤل حول هشاشتها، ممَّا يشكل تهديدًا وجوديًّا لها.
أمَّا محور المقاومة، فيقتصر التهديد الوجودي فيه على المكون الرئيسي: أي حركات المقاومة في فلسطين، وفي غزة بالتحديد، إذ إن عنصر الإسناد وليس التداخل المباشر هو العنصر الغالب في باقي أطرافه أو مكوِّناته. وهي تكتسب نقاط قوة من الإسناد، لكنها تستطيع الاستمرار من دونه، كما أن دوافعها متنوِّعة تكاد تكون مصلحية عملية، ترتبط بقضايا أخرى مثلما هو الحال بالنسبة لروسيا والصين على سبيل المثال، بل ربما إيران، وتركيا، والجزائر وغيرها.
4) تتطوَّر مواقف دول الجوار الحضاري أو المسرح العالمي الراعية لمحور المواءمة نتيجة عاملين رئيسيين متفاعلين: الأول رد الفعل الإسرائيلي الانتقامي الهمجي تجاه فلسطين بصفة عامة، وغزة على وجه الخصوص، الذي يتعمد جعل عاليها سافلها، وإخراج أهلها من ديارهم، ببجاحة ممجوجة ودون أي اعتبار للقواعد التي ساهمت تلك الدول في تطويرها للنظام الدولي، ولقوانين الحرب، وغيرها؛ بما يهدِّد بانفراط تلك القواعد، خصوصًا وأن النظام الدولي يشهد تحديات صارخة لها في أماكن أخرى من مصلحة تلك الدول تطبيقها فيها مثل أوكرانيا، والصين، وغرب أفريقيا؛ وفي الوقت الذي يُجمع المحلِّلون فيه على أن النظام الدولي في مرحلةِ تحوُّل تنتظر حَسْمَ شكل أو نتيجة الصعود المتأنِّي للصين، واهتزاز مكانة الولايات المتحدة مع حرصها على الحيلولة دون ذلك. والعامل الثاني التحركات الشعبية التي تعترض على المواقف التقليدية المساندة لإسرائيل ظالمة أو مظلومة من منطلق إنساني يتطوَّر إلى مطالب سياسية بالتغيير قد تهدِّد الحكومات المنتخبة في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وربما دول أخرى في العام الجاري أو الأعوام القادمة.
والطريف أن المنطلق السياسي للمعسكر الحكومي دفعه للتركيز على المنهج الإنساني في التعامل مع القضية، أي انتقاد الانتهاكات لقوانين الحرب، ودرجة التدمير، والحصار، وإعاقة المساعدات، والعمل على معالجة كل ذلك باعتباره المنهج الأقل كلفة سياسيًّا فيما يتعلَّق بالتأثير على الناخبين. وإن كنتُ لا أغفل عن المحاولات المكمِّلة لمعالجة القضية الفلسطينية سياسيًّا من خلال إعادة تدوير وطرح نفس الأفكار السابقة التي فشلت مرارًا من قبل، مثل حَلِّ الدولتين، والمؤتمر الدولي، وخرائط الطريق، وغيرها.
بينما المنطلق الإنساني للتحرُّكات الشعبية الطلابية والعمَّالية والجاليات العربية واليهودية المناهضة للصهيونية، تحوَّل إلى مطالب سياسية بالتغيير.
5) ربما يساهم كذلك عامل التحركات الشعبية في تشكيل مواقف الدول المساندة لمحور المقاومة من خارج المنطقة العربية؛ لكن يجب ملاحظة أن العامل الرئيسي في معظمها هو التوجه السياسي لحكوماتها قبل الطوفان، وينطبق ذلك على جنوب أفريقيا، ودول أمريكا اللاتينية المؤيدة. بل كذلك على الدول الأوروبية التي اعترفت بدولة فلسطين. ويدفعنا ذلك لمتابعة مدي استمرار نفس السياسات المساندة إذا تغيرت الحكومات في الانتخابات المقبلة. وتوفر لنا المكسيك وجنوب أفريقيا نموذجين للمتابعة؛ خصوصًا وأن نموذج الأرجنتين لم يكن مبشِّرًا بالمرة.
وختامًا، أخلص من ذلك إلى أن ما يَسَّرَهُ الطوفان من كشف للتوازنات الإقليمية، والدولية المرتبطة بقضاياه؛ وإبراز الشروخ الكائنة فيها، والتوجُّهات الناشئة داخلها؛ يتيح الفرصة لحلحلتها وإعادة تشكيلها تدريجيًّا. لكن ذلك يتطلب مواصلة العمل خلال مراحل الطوفان المتتابعة، والمثابرة في العمل، وتوظيف الإمكانيات المادية، والمعنوية المتاحة بعد الطوفان من أجل تحقيق تلك الأهداف. وتتضمَّن تلك الإمكانيات حَثَّ الجاليات العربية على إبراز بصمتها في مختلف الانتخابات في أوروبا، والولايات المتحدة، وتوظيف أو سحب التعاملات، والاستثمارات، والتبرعات المالية لهذه الجاليات وللدول العربية في مجالات التعليم والصحة والتجارة لصالح هذه القضايا، والتصدي للجهود المضادة التي يبذلها المموِّلون اليهود المساندون لإسرائيل؛ وفقًا لشعار الحملات الشعبية: “قاطع، اسحب الاستثمار، لن نتوقف لن ننهار – Boycott, Divest. We will not Stop, We will not Rest”؛ فالصمود والاستقلال والتمسُّك بمفاهيم واضحة، والحديث عن الأهداف النهائية، وكشف عدم منطقية الطلبات الإسرائيلية هو الذي يؤدِّي لتقوية موقف المقاومة، والمحور المساند لها.
تعقيب د. مدحت ماهر:
كان هذا اللقاء الثاني من منتدى الحضارة الذي ينظمه مركز الحضارة للدراسات والبحوث لتتبُّع الجديد في المنطقة والعالم؛ ففي تمهيد هذا المنتدى (اللقاء الأول) تحدَّثنا عن الجديد في النظم العربية، وما أحدثه فيها طوفان الأقصى من تأثير. ويُذكر أنه منذ اندلاع الطوفان وللمركز جهد بحثي بدأ بالرصد والمتابعة ثمَّ بالتحليل والمدارسة عبر مجموعة من الحلقات النقاشية. والمنتدى هو استكمال لهذا الجهد الذي يحاول فهم جديد العالم وتحوُّلاته على ضفاف طوفان الأقصى، الذي هو تعبير عن العالم العربي بعد موجات الربيع العربي.
وجاء هذا اللقاء تحت عنوان “المحاور الاستراتيجية في المنطقة العربية وجوارها الحضاري: طوفان الأقصى وما بعده”، إذ رسم خريطة كبيرة للمحاور الرئيسية ومواقفها من هذا الطوفان وتحتها خرائط صغيرة؛ جسَّدها في محورين؛ الأول: محور المقاومة، والثاني: محور المواءمة، وذلك بما يتضمَّنه كلُّ محور من فاعلين رسميين وغير رسميين، فشرح تكوينه (أطرافه)، ودوافع أطرافه، والشروخ فيما بينهم؛ ليكون بمثابة تقدير موقف للأطراف المختلفة المعنيَّة بالطوفان، شديد الدقة والوضوح والتركيز، ويراكم -في نفس الوقت- حول مواقف هذه المحاور من الطوفان والقضية الفلسطينية.
كما يُظهر أن المقاومة إشكاليتها خارجية بالأساس، بينما العدو إشكاليته الحقيقية داخلية، وأن الواقع صعب والمستقبل القريب ربما أصعب، وهو ما يحملنا على ضرورة المتابعة والمثابرة. كما يجعلنا نقول إن المحك الرئيس للقضية هو المستوى غير الرسمي؛ فكيف نحافظ على مستوى الاهتمام والفاعلية على المستوى الشعبي الداخلي (الغربي)؟ وكيف نحفِّز الداخل العربي على الفعل والتأثير؟
يمكن مشاهدة المحاضرة من خلال الرابط التالي
إعداد تقرير اللقاء: الباحث/ أحمد عبد الرحمن خليفة