القرار الأمريكي بخصوص القدس.. وعبرة عقود من التراجع العربي أمام إسرائيل
برز من جديد -وهو لم يختفِ أبدًا- العامل الإسرائيلي في شكل فج قبل ذكرى الاحتفال بمرور مائة عام على وعد بلفور في ظواهر عديدة؛ مبعثها الهرولة المعتادة -ولكن المتكررة والحلقات المتتالية- من النظم العربية نحو إسرائيل. ومن ثم كان التفكير أن نتحدث عن قدر مسئولية السياسات والنظم العربية في نشأة واستمرار وتصاعد إسرائيل، في المنطقة العربية ابتداءً، وعلى مستوى العالم كله انطلاقًا من ضرورة الاعتراف بأن الأمر ليس مؤامرة خارجية فقط وليس مشروعًا استعماريًا فقط وما كان له أن يتمكن -أو يبدأ حتى- لولا بيئة إقليمية عربية وإسلامية وأوضاع داخلية في نظمنا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية -تتعدد مؤشراتها وأشكالها- ولكنها جميعًا صبت وما زالت تصب في مصلحة هذا المشروع الصهيوني الاستيطاني.
وبالتالي جاء من هنا عنوان “دور السياسات العربية في نشأة واستمرار إسرائيل”. ولكن حدث ما حدث مما كان متوقعًا ولم يكن مستبعدًا ولا مفاجئًا وهو ما يتصل بالاعتراف الأمريكي -ولم أقل اعتراف إدارة ترامب- بالقدس عاصمة لليهود وللدولة اليهودية -ولم أقل عاصمةً لإسرائيل-. وبالتالي من هنا تتراكم محاور الموضوع الذي هو في حاجة إلى تفكير واجتهاد من الجميع في مفصل تاريخي هام من مفاصل تطور الصراع العربي الإسرائيلي، هام لأني بنفسي عشت في عمري عدة مفاصل وسمعت دائمًا أنها الأكثر خطورة والأكثر تهديدًا ثم نعيش ونجد بعدها أن هناك مفاصل أكثر خطورة؛ فلا داعي أن نقول إنه الأخطر. ولكن ننظر إلى كل محطة باعتبارها محطة في عملية مستمرة يتحقق فهمها بطريقة أفضل على ضوء الذاكرة التاريخية لهذه الأمة ولتفاعلاتها فيما بينها وبين العالم على مر تاريخها الحديث والمعاصر على الأقل. والأوضاع الداخلية في أوطاننا، والأوضاع البينية بين أوطاننا، والوضع الخارجي وتأثيره وتدخله واختراقه وتآمره -أيًا كان الاسم- حلقات ثلاث تتشابك وتغذي بعضها بعضًا، والآن اعتقد أننا نصل إلى ذروة من ذروات هذه التفاعلات في هرولة ذليلة نحو الخارج بصفة عامة؛ ذروة بأسنا فيما بيننا، واقتتالنا فيما بيننا وليس تصارعنا أو تنافسنا فقط؛ ذروة الركوع للعدو وليس مجرد الخارج بمعنى النظام الدولي، بل للعدو الأساسي وهو إسرائيل للبقاء على الكراسي والحفاظ على الأنظمة.
إذًا إسرائيل منذ مائة عام، بعد موجات الاستعمار وبعد موجات الحروب الصليبية والمغول، تمثل ساحة هامة جدًا تختبر من جديد أمام أعيننا مصداقية الذاكرة التاريخية عن أن الخارجي والعدو لا يتمكن بقدر ما يكون بأسنا فيما بيننا أشد، وأوضاعنا الداخلية في ذروة الانقسام على المرجعيات والاغتراب ومفاهيم المصلحة القومية والوطنية الضيقة جدًا.
فنعتبر أن المشهد الراهن في القرار المدعو “قرار ترامب -قرار أمريكا أو الولايات المتحدة الأمريكية” كاشف بقسوة، وليس منشئًا لأوضاع جديدة؛ كاشف عن مسار السياسات العربية الفردية والجماعية منذ تدشين المشروع الإسرائيلي وحتى ما يعلنه نتنياهو الآن عن ذروة نجاحه والدور العالمي لإسرائيل بعد مائة عام.
الأخطر من وجهة نظري أن هذا القرار لترامب أو الإدارة الامريكية حول القدس، يعيد توجيه التركيز من الاقتتال فيما بيننا إلى إسرائيل مرة أخرى. نحن لم نغضَّ النظر عن إسرائيل أبدًا، سواء أكانت ظاهرة أم غائبة عن الساحة، ولكن هذا القرار يعيد تركيزنا مرة أخرى على إسرائيل من جديد وإن يكن ضمن سياق جديد وبـمعطيات جديدة.
لقد كشف القرار أنه مهما كان هناك تراجع تدريجي في مركزية الصراع مع إسرائيل طوال نصف قرن على أساس أنه لم يعد الصراع الوحيد في مقابل صعود أهمية صراعات أهلية وعربية-عربية أخرى، فإن القدس جديرة بأن تعيد المركزية للصراع مع إسرائيل من جديد؛ أي عندما تكون القدس هي محل الاستهداف.
لقد كانت عملية إزاحة واستبدال الصراعات البينة ومع الجوار الحضاري بالصراع مع إسرائيل، كانت استراتيجية إسرائيلية وأمريكية واضحة جدًا، وخاصة مع تصاعد اختراق إسرائيل نفسها (وليس فقط القوى الغربية) للتحالفات والسياسات العربية لتوظيفها بعيدًا عن المواجهة مع إسرائيل، ونحو قبول إسرائيل. والغريب -وإن لم يكن غريبًا تمامًا بل كان متوقعًا- أن أصبحت إسرائيل الآن الحكم والملجأ في المنطقة لعديد من الأنظمة الحاكمة، فبعد أن اجتمعت الدول العربية منذ أكثر من نصف قرن للقضاء عليها وعلى عدوانها واغتصابها للأرض العربية، ها هم الآن حكام الأنظمة نفسها يجتمعون في هرولة للتحالف مع إسرائيل، وهما مشهدان أو لحظتان تاريخيتان بينهما عملية مستمرة لابد أن فهمنا لها في وقتها كان من شأنه أن يقود إلى توقع ما يحدث اليوم.
آن الأوان أن ندرك هذا، وأن نركز عليه ونبرزه بأقصى ما نستطيع؛ بحيث نرفع صوتنا عاليًا: أن العدو الحقيقي مازال وسيبقى إلى أن يزول هو إسرائيل. فلتجتمع الشعوب هذه المرة ضد نظمها وإسرائيل في آن واحد، بعد أن كانت النظم -وخاصة التقدمية والثورية والشعبوية السابقةِ التي كانت في معظمها نظمًا عسكرية- كانت تعبئ الشعوب لمساندتها حول معركة زائفة مع إسرائيل باسم الوطنية والاستقلال وباسم التحرر الذي كان يهفو إليه الجميع. ولكن هذه التعبئة لم تكن إلا ستارًا لعنجهية وحماسة زائفتين دون استعداد حقيقي وبناء للقوة اللازمة للمعركة؛ لأن الاستبداد والفساد نخرا في كل نَفَسٍ ادعى الوطنية والاستقلال أو أراد أن يكون وطنيًا ومستقلًا، وما كان يمكن أن يكون وطنيًا أو مستقلًا وهو مستبد وفاسد.
هذه الرؤية الملخَّصة جدًا تدفعنا جميعًا ألا نركز فقط في الحديث على أدلة وشواهد على هذا المسار فقط، ولكن أن نفكر جديًا على ضوء هذا الفهم في تصور استراتيجي لكيفية استمرار مقاومة المشروع الصهيوني، بما هو لا يزال قائمًا من موارد و إمكانيات لدينا حتى لا نظل نكرر أو نستدعي ذاكرات تاريخية عن مسارات شديدة الخطورة عاشها بعضنا، وفهمها بعضنا، واختلفنا على بعضها أحيانًا، ولكن تفرض الآن -كما فرضت من عشر سنين ومن عشرين سنة ومن ثلاثين سنة، في مفاصل متتالية سابقة- أن نتوقف ونسأل عن ملامح مشروع استراتيجي لاستمرار المقاومة ضد الصهيونية والتصهين بما توافر لدينا من معرفة ورؤية وإمكانيات.
من تقديم لحلقة نقاشية عقدت بمركز الحضارة للدراسات والبحوث
11 ديسمبر 2017