العدوان على غزة ومعضلة ما بعد الحرب: آفاق المقاومة الصامدة
الحرب كلمة تحمل معانٍ عديدة ومتضاربة، يعبر عنها بإيجاز شديد وعمق بالغ قول الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، وتصبح مساحة الحديث عن، والتدبر في “ما بعد الحرب” هي الكاشفة عن المعاني والدلالات في هذه الحرب.
ولكن الحروب ليست سواء فهي متنوعة ومتعددة وفقًا لأطرافها وأهداف كل منهم وحلفائهم وطبيعة قضيتها، والأهم المرجعية التي تنطلق منها وتبني عليها… فهل تستوي الحروب “الاستعمارية” مع حروب “التحرير” هل تستوي حروب “الفتوحات” مع حروب “الاستيطان العنصري أو الديني”؟ هل تستوي الحروب “العالمية” مع “حروب إقليمية أو أهلية”؟. هل تستوي حروب “العمران الحضاري” مع حروب “الإبادات والاستعلاء العنصري”؟ وبالمثل تظل ما بعد الحروب ونتائجها شديدة الإثارة للاختلاف، في حينها، وعند استدعائها كذاكرة تاريخية للتدبر أو التذكر… إلخ.
إن خبرات التواريخ الإسلامية وغيرها من التواريخ تقدم لنا نماذج ودلالات عدة تبين أن حديث “ما بعد الحرب” هو في حد ذاته معضلة، رغم أنه دائم التكرار، بل ربما يكون حاضرًا مع أول معركة في الحرب لأنه تصب فيه دوافع شن الحرب وأهدافها. إلا أن طبيعة “ما بعد” الحرب تظل محكومة ومشروطة بمحددات “واقع” شديد التعقيد وشديد التغير، تخضع “التوقعات” حول مساره لحسابات عقلانية مادية بالأساس تتصل بعناصر القوة وتوازناتها. إلا أنه لا يمكن إسقاط أو إغفال عوامل أخرى تخضع لحسابات وموازين أخرى تتجاوز المادي الملموس وتظهر نتائجها ولو بعد حين متحدية كل حسابات توازنات القوى التقليدية.
وبقدر ما تقدم الذاكرة التاريخية دلالات عامة هامة بقدر ما يظل “لما بعد الحرب” في الذاكرة عن فلسطين خصوصيتها، وبقدر ما يكشف “طوفان الأقصى” والعدوان على غزة عن دلالات “راهنة” عن “ما بعد هذه الحرب” المفصل الهام في تطور الصراع مع الصهيونية.
(1)
لقد حمل لنا تاريخنا العربي الإسلامي الحديث والمعاصر، عبر القرن العشرين وحتى الآن نماذج عدة من الحروب في مرحلة ضعف وتجزأ الأمة والتداعي عليها: تسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة العثمانية، ما بعد حروب التحرير من الاستعمار (بعد حروب مقاومة الاحتلال في قرن التاسع عشر)، ما بعد الحروب الاستقلالية أو الانفصالية (في البلقان، الشيشان، آسيا الوسطى)، ما بعد حروب إقليمية ثنائية (العراقية-الإيرانية، العراقية-الكويتية، الجزائرية-المغربية…)، ما بعد حروب أهلية (أفغانستان، لبنان، السودان، …). وتقدم دراسة هذه الأنماط والنماذج المقارنة مادة تاريخية نظميه ثرية لبناء نظريات حول “ما بعد الحرب”. وليس حول “الحرب” فقط.
وتظل حروب فلسطين قصة أخرى لأن فلسطين ليست قضية ككل قضايا الأمة إنها القضية الأم. إنها القضية الكاشفة –عبر تاريخها الممتد منذ الفتح الإسلامي للشام– عن أن “معضلة ما بعد الحرب”- لا تخضع (كما في قضايا أخرى) إلى الحسابات التقليدية عن موازين القوى المادية التي تحكم وتحدد دوافع وأهداف الحروب وآلاتها ودوراتها كرًا وفرًا لأن فلسطين في رباط دائم، لأنها في قلب عقيدة الأمة ووجودها الحضاري سواء في فترات قوتها ووحدتها أو ضعفها وتجزأتها.
إن حروبا كبرى أو صغرى تثير جدالات فكرية وسياسية حول أبعادها ومآلاتها بعد انتهائها، وتختلف الجدالات حول أولويات “المادي” و”غير المادي”؛ حيث تلبس هذه الحروب أردية متباينة تخفي أو تجمل حقيقتها: أردية دينية أو مذهبية أو أيديولوجية تحيط بأطماع ومصالح استراتيجية اقتصادية وسياسية. فعلى سبيل المثال وليس الحصر من التاريخ الحديث: نشر الثورة الفرنسية ومبادئها رداءً للحروب النابليونية، المجال الحيوي للهيمنة النازية على أوروبا والعالم، الأممية الشيوعية العالمية للثورة الشيوعية الروسية، مهمة الرجل الأبيض والحروب الاستعمارية، الطموحات والصراعات القومية أو المذهبية رداءً ودوافع لصراعات إقليمية من أجل النفوذ والهيمنة… إلخ. وتنتهي حروب وتبدأ أخرى، وتستمر حروب كامنة حتى تندلع من جديد، ويتغير الفاعلون والسياقات وتستمر الدورات التاريخية الواحدة تلو الأخرى.
وفي المقابل، وعلى العكس من جميع هذه التنويعات القديمة أو الحديثة أو المعاصرة، تظل فلسطين في قلب عملية تاريخية ذات خصوصية تصبغ جولات الحروب حولها ومن أجلها. وعلى نحو يبرز خصوصية معضلة العلاقة بين الثابت والمتغير، المرجعية والواقع، العقيدة والسياسة، الإيمان والقوة، المقاومة والشعوب؛ وجميعها معضلات تصب في فهم وتدبر معضلة “ما بعد الحرب” أيضًا من حيث العلاقة بين المسار العسكري للحرب ومسار السياسة والتفاوض خلالها.
كما أن “حديث ما بعد الحرب” خلال كل جولة من جولات المعارك من أجل فلسطين وحولها عبر “التاريخ”، ليس إلا استعدادًا لجولة أخرى من المعارك. لأن فلسطين في رباط دائم، النواة الصلدة التي تتصدى للتحديات المتتالية على الأمة وتكشف مناطاتُها ثباتَ أو تراجعَ الأمة عن ثوابتها.
وتقدم لنا خبرات جولات الصراع الحديث والمعاصر حول فلسطين، مع بداية الهجوم الصهيوني والاستعماري الأوروبي عليها منذ نهاية القرن التاسع عشر، مرورًا بتسويات الحرب العالمية الأولى، ثم مرحلة الانتداب البريطاني وتأسيس قواعد الكيان الصهيوني وعمليات المقاومة المستمرة له، وصولاً إلى جولات الحروب النظامية العربية الإسرائيلية، ثم جولات المقاومة الفلسطينية من دول عربية ثم من الداخل الفلسطيني؛ تقدم لنا هذه الخبرات دلالات عديدة حول مسارات المعارك ونتائجها وما بعدها، وهكذا في مسلسل متصل. والتدبر في هذا المسلسل يقودونا إلى مجموعة من القواعد الأساسية حول أمرين أساسين:
أولهما أن القضية حية لا ينال منها هزيمة سياسية أو عسكرية، فسرعان ما تثور جذوة نار بعد أن تخبو جذوة أخرى، مهما اختلفت السياقات الوطنية أو الإقليمية أو العالمية …. لأن الجهاد والمقاومة الحضارية مستمرة لا تتوقف رغم وحشية وعنصرية وقسوة الاستيطان الصهيوني في الإبادة والتهجير.
الأمر الثاني: أن الخذلان وعدم النصرة العربية أو الإسلامية أقسى في تأثيرها من تأثير تضافر الحلفاء وقواهم مع العدو الصهيوني.
هذا وتقدم لنا الذاكرة التاريخية دلالات مناظرة عن الأمرين وعكسهما، سواء عند سقوط القدس بعد توالي سقوط إمارات الشام في يد الصليبيين ولمدة تزيد عن قرن ونصف، ثم كيف تم ميلاد جيل صلاح الدين الذي حرر القدس. أو سواء عندما فشلت مقاومة وعد بلفور (1917) ثم ثورة البراق (1929) ثم الثورة الوطنية الفلسطينية (1936- 1938)، أو سواء عندما فشلت جيوش سبع دول عربية في هزيمة إسرائيل 1948… إلخ من جولات الفشل في مواجهة الكيان الصهيوني حتى استأسد وخلق أسطورة إسرائيل التي لا تُهزم.
ولكن وفي المقابل تتعدد دلالات الذاكرة عن استمرار المقاومة دائمًا من داخل فلسطين وخارجها، لأنه جهاد… نصر أو استشهاد.
إن التوقف دائمًا عند معضلة “ما بعد الحرب” عبر هذا المسلسل الطويل، تقدم لنا العِبر والخبرات الكاشفة عن “خصوصية قضية فلسطين” كما سبقت الإشارة.
ويقدم أحدث مفاصل تطور هذا المسلسل، أي طوفان الأقصى والعدوان على غزة، إضاءات أخرى عن موضع إشكاليات “ما بعد الحرب” في هذا الصراع الحضاري الشامل (الوجودي العقيدي القومي الاستعماري).
(2)
بدأ طوفان الأقصى في 7 أكتوبر بكل ما يعنيه حينئذ، وبدأ العدوان الإسرائيلي الجوي مباشرة، وأعقبه بدء العمليات البرية في شمال غزة منذ 24/10 وحتى انعقاد هدنة مؤقتة 23/ 11- 30/11)، ثم انتقل العدوان البري إلى وسط القطاع، ثم انتقل إلى خان يونس، ومستمر حتى الآن (بعد 170 يومًا) مصحوبًا بتهديدات مستمرة باجتياح رفح. ولم تتوقف طوال هذه الأشهر المقاومةُ الباسلةُ في التصدي للعدوان على كافة المحاور القتالية عن بُعد وعن قرب.
وأحاط بهذه الساحة العسكرية ساحة أخرى سياسية دبلوماسية حبلى بالمناورات والدعوات والمفاوضات والقرارات الأممية… لوقف النار، أو إطلاق الأسرى، أو إدخال المساعدات الإنسانية وانتهاء الحصار؛ دون نجاح يُذكر منذ فشل قرار مجلس الأمن في 8/ 12 وما تلاه من مشروعات قرارات وجولات مفاوضات متقطعة ولكن مستمرة بدون وقف الحرب.
لم ينتهِ العدوان بسرعة، فلقد استمرت المقاومة دون تنازلات، ولم يحقق العدوان أهدافه أو يحسم المعركة لصالحه بسرعة كما كان يعتقد. ولذا ظل سيناريوهات “ما بعد الحرب” والتوقعات عنها حاضرة بقوة ولكن محاطة –وعبر ما يقرب من الأشهر الستة حتى الآن- بعلامات الاستفهام أو الأمنيات، أو التحذيرات والمخاوف. فالحدث في ذاته مركب معقد ومفصل نوعي من ناحية، ومساره الممتد حتى الآن يثير الكثير حول ما بعد الحرب من ناحية أخرى.
بعبارة أخرى، وبقدر ما ينبثق عن الحدث المفصلي منذ 7/10 بشقيه: المقاومة الصمود/ العدوان البربري منظومة من المسائل (يتناولها ملف العدد) بقدر ما يظل “ما بعد الحرب” الخيط الناظم الذي يجمعها ويوجه التفكير بشأنها، رصدًا وتحليلاً، لمن النصر ولمن الهزيمة وما نمط النصر أو الهزيمة، ما الحد الأقصى للتكلفة وثمن الحرب التي يمكن لكل طرف أن يتحملها؟ وما المحددات الحاسمة لوقف الحرب من عدمه؟
ولذا الإجابة عن السؤال: متى يقف إطلاق النار ولماذا؟ مرهونة بفهم عملية إدارة الحرب ذاتها سياسيًا وعسكريًّا من حيث الآتي:
- الأهداف المعلنة عند بداية الحرب، ومدى ثباتها أو تغيرها طيلة فترة الحرب، فما بعد الحرب يبدأ استدعاؤه مبكرًا وبصوت عالٍ.
- مسار الحرب ومفاصلها العسكرية وامتدادها (غير المحسوب أو المحسوب): حالة توازن القوى العسكرية، استمرار أو تغير الاستراتيجية القتالية، تغيير خريطة الأرض.
- مفاوضات وقف الحرب أو الهدنة المؤقتة واختبارها لمدى الثبات على الأهداف ومن ثم لحالة توازن القوى ودرجة تأثير الضغوط الخارجية أو الداخلية.
- أوراق القوة والضغط ونقاط الضعف لدى المتحاربين.
- دور العوامل الخارجية والداخلية في التأثير على مسار الحرب، استمرارًا أو توقفًا، وعلى أهداف ما بعد الحرب المعلنة في بدايتها.
- التغير في خرائط الأرض بشريًا وماديًا وهل تفرض واقعًا جديدًا هو الذي يحدد شكل “اليوم التالي للحرب”.
- وأخيرًا شكل الحل السياسي النهائي ووضع غزة في نطاقه.
خلاصة القول:
أن ما بعد العدوان على غزة ليس شيئًا واحدًا، ولكن منظومة من ثلاثة مستويات متراكمة: قصيرة الأجل وهي وقف إطلاق النار، متوسطة الأجل وهي مآل الجيش الإسرائيلي في غزة والإغاثة وإعادة الإعمار، طويل الأجل: الحل السياسي لوضع غزة في ذاتها وفي نطاق حل شامل للقضية يشمل الضفة أيضًا والقدس (وماذا أيضًا؟).
ومن ثم فإن “ما بعد الحرب” ليس عسكريًا فقط ولكنه سياسي وإنساني أيضًا، وليس في سياقه الفلسطيني فقط ولكن الإقليمي والعالمي أيضًا.
فهل ستؤتي الحرب بأكلها للطرفين المتحاربيْن؟ هل يحقق التفوق العسكري الوحشي والغاشم نصرًا سياسيًا؟ أوليس الثبات على الأهداف الكبرى وعدم خذلانها نصرًا ولو في ظل غلبة عسكرية. فهل “ما بعد الحرب” يتحدد على ضوء نتائج المعارك فقط؟
وستظل الإجابات الحاسمة النهائية صعبة، في ظل تداول الرؤى والسيناريوهات عن أثر طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلي على غزة بالنسبة للوجود الإسرائيلي ذاته الذي يواجه التحدي الأكبر الآن منذ 1948، أو بالنسبة لطبيعة الصراع العالمي بين الشمال والجنوب العالمي في ظل مستقبل “الغرب” بصفة عامة.
فإن طبيعة ما بعد الحرب في غزة ليس قاصرًا على مستقبل القضية الفلسطينية فقط ولكن تمتد أيضًا إلى مستقبل النظام العربي الرسمي والشعبي وفي قلبه تحديات السلطوية والاستبداد من ناحية، ومستقبل النظام العالمي الشامل من ناحية أخرى وفي قلبه حالة هيمنة الغرب المتداعية وتحديات مساره الحضاري أخلاقيًا وماديًا ومحاولات تجديده من داخله وخارجه.
إن المتابعة التفصيلية لمجريات جميع هذه الأمور عبر ستة أشهر تساعد على تكوين رؤية كلية جامعة الآن عن معضلة “ما بعد الحرب”، وهي رؤية ذاتية قد تختلف عن رؤية غيري من المراقبين والمحللين، وقد تتطور إذا استمرت الحرب لأشهر أخرى قد تشهد مستجدات جذرية التأثير.
(3)
أولاً- منظومة “ما بعد الحرب” من الجانب الإسرائيلي:
- الوضع الذي تواجهه إسرائيل منذ 7 أكتوبر فريد من نوعه في تاريخ العسكرية والدبلوماسية الصهيونية من حيث امتداد أجل الحرب، واتساع نطاقها الإقليمي، وتداعياتها على السياسة الداخلية واقتصاد الدولة وتماسكها المجتمعي، والاستنزاف المادي والمعنوي في العمليات العسكرية، ومن حيث معاداة الرأي العام العالمي وانتكاس مشروع التطبيع الإقليمي الذي تم تدشينه بالاتفاقات الإبراهيمية 2020، وانكشاف أقنعة وسرديات المشروع الصهيوني التقليدية أمام العالم، والتحدي العسكري الذي تمثله فصائل مقاومة مسلحة لصورة إسرائيل بوصفها قوة لا تقهر أو تهزم، في مقابل ترسيخ صورة عن “إسرائيل” الدولة الإرهابية “العنصرية” التي ترتكب إبادة جماعية ضد المدنيين في غزة، وهي الصورة التي تزيد من عزلة إسرائيل على صعيد المجتمع المدني العالمي. بعبارة جامعة إسرائيل تواجه أزمة وجود لم تختبرها منذ تأسيسها.
- أهداف حكومة نتيناهو المعلنة ثابتة: القضاء على حماس واستعادة الأسرى، وألا تصبح غزة مصدر تهديد لأمن إسرائيل من جديد. ولكنها تخفي أكثر مما تعلن، ألا هو التهجير وإعادة احتلال غزة ورفض أي حلول سياسية للقضية الأساس وخاصة حل الدولتين.
ولهذا فإن الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية قامت بوضوح وصراحة على الانتقام الوحشي والإرعاب والإبادة وتدمير كل صور الحياة ومقوماتها المدنية في غزة من بنية تحتية أو كافة أنواع الخدمات التعليمية والصحية والإغاثية والإدارية.
واستمرت هذه الاستراتيجية على نهجها الأساسي دون أية استجابة لضغط الرأي العالمي، أو المحاكمة أمام محكمة العدل الدولية، أو محاولات بعض الحلفاء والشركاء في الحرب إقناع إسرائيل بتجميل الصورة من خلال توخي الحرص على عدم إضرار العمليات العسكرية بالمدنيين!
ورغم تزايد أشكال المعارضة الداخلية في إسرائيل، من جانب حزب العمل واليسار، ضد تأثير اليمين المتطرف على نهج حكومة نتيناهو في إدارة الحرب والمفاوضات، ورغم ضغوط أهالي الأسرى في غزة، فلم يتغير الخط الرئيسي للاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية. كما أن هذه الضغوط، سواء الداخلية والخارجية، لم تكن من أجل تغيير الأهداف ولكن لتغيير الوسائل والتكتيكات؛ حيث اجتمع الكل على الانتقام وحماية أمن دولة إسرائيل واستعادة هيبتها العسكرية.
وصاحب استمرار هذا الخط الاستراتيجي الرئيسي تكتيكات في إدارة الحرب مرحليًا وفق رؤية وتصور عما يجب أن تكون عليه غزة (اليوم التالي).
ومن هنا كانت الهدنة المؤقتة الأولى اختبارًا لكثير من الأمور اللوجيستية والاستخباراتية والسياسية، انعكست نتائجه على تكتيك إدارة الحرب الإسرائيلية بعد ذلك؛ ابتداءًمن الانسحاب من شمال غزة استعدادًا للهجوم على الوسط والجنوب، وتنفيذًا لتقسيم قطاع غزة بين ثلاثة مناطق من ناحية وإعداد ما يسمى حزام وغلاف الأمن من ناحية أخرى، والحيلولة دون انتظام وكثافة المساعدات الإنسانية بل وتصفية المنظمات والقنوات القائمة عليها من ناحية ثالثة، وأخيرًا إعداد البدائل السياسية والإدارية لإدارة غزة تحت سلطة الاحتلال.
وبغض النظر عن تفاصيل الخسائر العسكرية الإسرائيلية، وعن أشكال صمود الفصائل الفلسطينية وإنجازات مقاومتها العسكرية، فإن استمرار الحرب لشهور دون أن تعلن إسرائيل تحقق أهدافها الكبرى المعلنة، وخاصة تحرير الأسرى، ودون أن تقبل وقف إطلاق النار، بل ودون أن تنجح في فرض قبول حماس هدنة مؤقتة لتسلم الأسرى؛ إنما كان يعني أن هناك حالة من توازن القوى “غير المعتاد” في الحروب النظامية، ولكن المشهود من قبل في حروب غير نظامية بين جيش مهني وفصائل عسكرية. فلقد تبين أن المقاومة الفلسطينية على قدر كبير من الاستعداد والتدريب والفاعلية في تخطيط وتنفيذ التصدي للعدوان بقدر ما أبدعت في تنفيذ هجوم السابع من أكتوبر؛ فهي الأدرى بأرضها وحاضنتها، وهي الأكثر دارية بعدوها نفسيًا وعسكريًا. ولهذا لم يكن ما تعلن عنه إسرائيل من نصر إلا مزيدا من التدمير لشعب غزة وأرضه بوحشية سادية وعنصرية من ناحية، وتوجيه رسائل تخويف ورعب لمن تسول له نفسه “تهديد” أمن إسرائيل من ناحية أخرى.
ولعل من بعض أهم علامات حالة التوازن غير التقليدي في القوى هذه، أن إسرائيل لم تحقق أهدافها في شمال أو وسط أو جنوب غزة؛ حيث امتد أجل الهجوم على خان يونس على غير ما كان متوقعًا، ويظل التهديد باجتياح رفح قائمًا عبر شهرين، منذ بداية الإعلان عن التوتر مع مصر حول محور فيلادلفيا من أواخر يناير ومع توالي الإعلان الإسرائيلي عن استمرار الاستعداد لتنفيذ الاجتياح، تفشل خلال الأشهر الثلاثة (يناير – مارس) المفاوضات من أجل مجرد هدنة مؤقتة –كما تريد إسرائيل- أو من أجل وقف إطلاق النار كما تريد حماس. وفي نفس الوقت تعود إسرائيل إلى عمليات عسكرية في شمال قطاع غزة (الهجوم الثاني على مجمع الشفاء مثلاً) وفي وسطه. مما يعني عدم إحكام السيطرة العسكرية على كامل القطاع.
ومن ثم إذا كانت الساحة العسكرية ما زالت تبين أن النصر الإسرائيلي العسكري صعب المنال، فإن التحليلات العسكرية والسياسية من أرجاء شتى تبين بعد ستة أشهر من الحرب ثلاثة أمور: من ناحية، غموض وعدم واقعية الهدف المعلن “القضاء على حماس”: قيادة أم هياكل أم بنية تحتية أم حاضنة أم فكرة؟ ومن ناحية أخرى: عدم قدرة إسرائيل على أو رغبتها في خوض حرب مفتوحة مع حزب الله وإيران في لبنان وسوريا واليمن وأنها تكتفي بالهجمات النوعية (الاغتيالات، وضرب مواقع محددة بالتعاون مع الولايات المتحدة، الرسائل الدبلوماسية الاحتوائية من خلال وسطاء سواء للحكومة اللبنانية أو إيران…).
ومن ناحية ثالثة: إن المساعدة العسكرية والاقتصادية الأمريكية والأوروبية لإسرائيل، هي من قبيل المشاركة الفعلية في الحرب التي لا تستطيع إسرائيل الاستغناء عنها، بل وتعتمد عليها اعتمادًا كبيرًا، ومن هنا خطورة إعلان كندا مؤخرًا عن وقف بيع السلاح لإسرائيل. ومع ذلك يظل رفض نتيناهو قائمًا لما يبدو للبعض أنه ضغوط أمريكية لوقف الحرب، تزايدت خلال شهري فبراير ومارس تحت وطأة ضغوط الرأي العام الأمريكي ومتطلبات الانتخابات الأمريكية. فإن واقعة توتر العلاقات الأمريكية الإسرائيلية ليست بجديدة على هذه العلاقات، وهي من قبيل المناورات حول وسائل ودرجات ونطاقات “الإبادة” وليس وقفها تمامًا.
- موقف حكومة إسرائيل عن وضع غزة بعد الحرب من أكثر المسائل التي تعرضت للتغيير في التصريحات الرسمية لنتنياهو أو أعضاء في حكومته، وهو الأمر الذي يعكس محصلة أمور عدة مما سبق تناوله (مسار الحرب، مواقف الأطراف الإقليمية والدولية الضغوط الداخلية، المعارضة الداخلية…).
فبعد الإعلان خلال الشهر الأول من الحرب عن هدف احتلال غزة وإدارتها بعد الحرب، بل واستيطانها من جديد بعد تهجير أهلها والقضاء على حماس وحكمها، ظهر خلال الشهر الثاني إعلان عن إدارة غزة بواسطة السلطة الفلسطينية في رام الله بعد تجديدها وتحت السيادة الإسرائيلية وفي ظل وجود عسكري إسرائيلي كما هو الوضع في الضفة والقدس، مع بناء غلاف أمني ومنطقة عازلة حول غزة. ثم ظهر خلال الشهر الثالث إعلان رفض إدارة السلطة الفلسطينية والبحث عن إدارة محلية تحت سيادة إسرائيلية من جانب قادة محليين ورؤساء عشائر، ثم منذ الشهر الرابع رفض تام وصريح وحاسم لحل الدولتين أو الدعوة للاعتراف السريع بدولة فلسطينية.
وأخيرًا فإن الاستمرار في بث الفوضى في أرجاء قطاع غزة، وتصفية دور المنظمات الدولية وخاصة الأونروا بعد اتهامها بالتواطؤ مع حماس من ناحية، وإغفال دور مصر بشأن معبر رفح بعد أن تم تقليصه دون مقاومة من مصر لتفعيله، وبعد تغطية الخلاف حول ممر فيلادلفيا وإسدال الستار مؤقتًا على تفاهمات وراء الكواليس من ناحية أخرى، وتخليق طرق جديدة للمساعدات، ولو المحدودة، مثل الإنزال الجوي وشاحنات مساعدات على الساحل من أجل شمال غزة والممر البحري من قبرص من ناحية ثالثة، والبحث بين العشائر الفلسطينية عن إدارة محلية للمساعدات من ناحية رابعة؛ جميعها مؤشرات تسبق الإعلان المستمر عن الاستعداد للاجتياح البري لرفح. ولا تعني جميع هذه المؤشرات إلا أمرًا واحدًا هو أن التصور الإسرائيلي عن وضع غزة ما بعد الحرب (بعد ستة أشهر من قيامها) مبهما ومتخبطًا بين ضرب الحاضنة الشعبية وبين ضرب قيادة المقاومة وهياكلها وقدراتها العسكرية، بين القبول بالتفاوض غير المباشر مع حماس عبر الوسطاء وبين هدف القضاء عليها وبين رفض دور السلطة الفلسطينية في غزة إلا بشروط تضمن ولاءها وتبعيتها لما يسمى “السلام الإسرائيلي” وبين العودة لرفض هذا الدور.
ويحاول نتيناهو أن يفرض أمرًا واقعًا على الأرض لا تتحكم إسرائيل بعد في معطياته كسلطة احتلال كاملة، وخاصة مع استمرار صمود المقاومة على الأرض وثباتها على مبادئ معركتها وأهدافها. فرغم كل عناصر القوة العسكرية الإسرائيلية الباطشة والإفراط في استخدامها إلا أن إسرائيل لا تستطيع إعلان انتصارها، ومن ثم يمثل احتلالها غزة مأزقًا دون نهاية… فما زالت حماس قائمة بل وتدير مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل طيلة عدة أشهر باعتبارها طرفًا قائمًا ومؤثرًا ومتحكمًا في ورقة الأسرى التي يناور بها نتيناهو ليطيل من أمد الحرب. ولذا يبدو أن الحركة الإسرائيلية العسكرية تستهدف الآن بث الفوضى وضرب التماسك في غزة بين المقاومة وحاضنتها من خلال أوراق عدة: مثل ورقة المساعدات ومن يقوم على تنظيمها وتوزيعها من قيادات أمنية ولجان شعبية يتم استهدافها بالاغتيالات، ومثل ورقة العلاقة بين حماس والسلطة الفلسطينية، ناهيك بالطبع عن ورقة انعدام النصرة العربية الرسمية بل على العكس التعاون والتنسيق مع إسرائيل حول مسار الحرب وما بعدها.
فهل ستستمر إسرائيل في سياسة تكسير العظام إلى ما لا نهاية؟ أين يكمن أفق الحل السياسي الذي يجب أن يعقب كل حرب مهما طال أمدها؟ أم أن إسرائيل ستظل عالقة في غزة إذا ما قررت استمرار عدوانها واحتلالها؟
(4)
ثانيًا- منظومة “ما بعد الحرب” جانب المقاومة الصامدة:
شعار هذه المنظومة وخيطها الناظم هو: “أنه جهاد.. نصر أو استشهاد”؛ ثلاث كلمات تلخص مسار المقاومة الفلسطينية، صعودًا وهبوطًا عبر قرن من الزمان وليس فقط عبر الستة أشهر الماضية منذ 7 أكتوبر 2023. ويصدق عليها قول الله سبحانه وتعالى في مواضع عدة من كتابه الكريم، من قبيل: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (سورة الحج: آية 39).
- الأهداف المعلنة ثابتة وركيزة أساسية في التصور السياسي والعسكري لحماس عن إدارة الحرب الراهنة مع إسرائيل ردًا لعدوانها على غزة. وظلت قيادات حماس تعلنها جلية واضحة في البيانات المتعاقبة طيلة الأشهر الماضية بلا تغيير: وقف النار، انسحاب إسرائيل من القطاع، عودة النازحين، إدخال المساعدات بانتظام واستدامة وكفاية، إعادة الإعمار، أفق للحل السياسي بالمشاركة مع باقي الفصائل في إطار منظمة التحرير، الإفراج عن الأسرى الإسرائيلين مقابل الأسرى الفلسطينيين وفق مرحلية وصولاً إلى وقف النار والحل السياسي.
- الصمود والإبداع في تخطيط وتنفيذ الاستراتيجية العسكرية للمقاومة منذ العدوان العسكري مرتكز أساسي لاستمرار المقاومة وتنوع أهداف معاركها وأسلحتها خلال الكر والفر، سواء في شمال غزة أو وسطها أو خان يونس. وكان هذا الإبداع محصلة العنصر الأساسي من عناصر قوة حماس والمقاومة، ألا وهو الإيمان والثقة وحسن الظن بالله تعالى، فهو النصير والوكيل وهو صاحب الوعد للمجاهدين بالنصر؛ إنه عنصر قوة الحق، وصدق الإيمان، والثبات على الجهاد. وتنضح مقدمات كافة بيانات قادة حماس بمفردات التعبير عن هذا اليقين بالنصر من الله.
وتمثلت عناصر القوة الأساسية الأخرى لعملية الصمود في الآتي:
- عنصر الاعتماد على الذات في التصميم وتصنيع أنواع من الأسلحة يمتلكون بمهارة زمام استخدامها وتطويعها على ساحة المعارك من بيت إلى بيت ومن شارع إلى آخر، وعبر شبكة الأنفاق التي أفقدت العدو رشده وصوابه.
- عنصر الحاضنة الشعبية المدنية من سكان غزة من شمالها لجنوبها، وصمودهم على أرضهم دون نزوح بعضهم ودون فوبيا الهجرة من جانب معظمهم؛ مما مثل ضربة قاصمة لهدف إسرائيل الأساس (التهجير) وزاد تنفيذه صعوبة حتى الآن.
ولذا لا عجب أن تبدأ دائمًا بيانات قيادات حماس المتعاقبة بتحية شعب غزة الصامد وشعب الضفة والقدس المنتفض ضد الاحتلال.
- توسيع نطاق الحرب إقليميًا بانضمام حزب الله والحوثيين لمساندة المقاومة في غزة من خلال عمليات عسكرية متنوعة، والاستمرار عليها رغم محاولات إسرائيل وشركائها وحلفائها تقييدها عسكريًا ودبلوماسيًا.
- وأخيرًا، مساندة الرأي العام العالمي غير المسبوقة.
هذا، وكانت استراتيجية المقاومة العسكرية ومسار عملياتها استراتيجية دفاعية وهجومية في الوقت نفسه، ترصد وترقب وتهجم. ولقد لعب الإعلام العسكري دورًا إبداعيًا في شرح ملامح الخطط والتحركات العسكرية للمقاومة وإبداعاتها في نصب الفخاخ العسكرية، متناغمة مع الأرض المحروقة، متحاضنة مع الأبنية المدمرة، زاحفة ولو بأرجل حافية على تراب الوطن المشرب بدماء الشهداء.
حقيقة، تراجعت تدريجيًا الرشقات الصاروخية للعمق الإسرائيلي، إلا أن نطاق العمليات الدفاعية والهجومية العسكرية لم يعد قاصرًا على الشمال ولكن امتد إلى الوسط وإلى الجنوب. واستمرت العمليات متزامنة على جميع هذه الأصعدة ولم تتوقف أبدًا حتى الآن، تتصدى بثبات وتؤدة وانتظام للهجمات الإسرائيلية الوحشية على المنازل والمستشفيات ومقرات توزيع المساعدات ومفترقات الطرق حيث يتجمع الغزويون انتظارًا لشاحنات المساعدات أو الإنزال الجوي البائس.
- وفي المفاوضات الدولية متعددة المستويات (على صعيد مجلس الأمن، والثنائية بين المبعوثين الأمريكيين والأوروبيين ونظرائهم في جوار غزة، وبين الوسطاء المصريين والقطريين وبين حماس وإسرائيل…)؛ كانت حماس حاضرة دائمًا، ممثلة بصورة غير مباشرة، فهي طرف فاعل ومؤثر لا يمكن إسقاطه أو إغفاله سواءً من المؤمنين المعترفين بشرعية قضيتها أو المتآمرين المناورين من وراء الكواليس حول تصفيتها وإخراجها من اللعبة.
منذ نهاية الهدنة الأولى والفشل في تجديدها أول ديسمبر، ومنذ فشل أول قرار لمجلس الأمن بوقف النار في 8/12/2023، وصولاً إلى أول قرار من مجلس الأمن بوقف النار في 25/ 3/ 2024 لم تتوقف المفاوضات من أجل وقف الحرب، سواء في شكل هدنة جديدة لتبادل الأسرى، أو وقف دائم مع استسلام حماس، أو وقف دائم في نطاق حل أوسع وبمشاركة من حماس والفصائل الأخرى.
والمتابعة التفصيلية لجولات هذه المفاوضات المكوكية طوال ثلاثة أشهر والمبادرات المصرية أو القطرية، وما تخللها جميعًا من مواقف كافة الأطراف ضغطًا أو تهديدًا أو توفيقًا، تبين عدة ملامح راسخة لسلوك حماس وفصائل المقاومة:
من ناحية: الثبات مهما علت الآمال أو انخفضت عن قرب الاتفاق، ومهما تصاعدت التهديدات الإسرائيلية بأوراق الضغط المختلفة (السابق بيانها)؛ الثبات على المبادئ والركائز الأساسية لموقف المقاومة من الحرب والتمسك بشروطها المعلنة منذ ما بعد الهدنة الأولى والأخيرة. فلقد كان المساران العسكري والسياسي مرتبطين لدى حماس، فإن وقف الحرب ليس مجرد هدنة لتبادل الأسرى كما تريد إسرائيل لتعود بعد ذلك للحرب من جديد، ولكن وقف إطلاق نار وصولاً بالتدريج إلى أفق لحل سياسي، عبر خطة زمنية لانسحاب إسرائيل وعودة النازحين لمنازلهم وإدخال مساعدات وإعادة إعمار وصولاً إلى شكل إدارة وحكم غزة.
من ناحية ثانية: وفي مقابل عدم التقدم حول طبيعة وقف النار وفق رؤية حماس (وحتى آخر فشل أعلن عنه أسامة حمدان في 20/3)، كانت حماس تلقي المسؤلية على الموقف الإسرائيلي رغم ما أبدته حماس من مرونة تمثلت في مقترحات مرحلية تدرجية لتنفيذ الصفقة الكاملة. ولم تنجح التهديدات المستمرة لنتيناهو (الهجوم على رفح، رفض مبادرة الاعتراف من جانب واحد بدولة فلسطينية، عودة الجيش الإسرائيلي مرة أخرى إلى شمال ووسط غزة في فبراير ومنع النازحين من العودة بعد الانسحاب منها في يناير، عرقلة المساعدات البرية…) في دفع حماس للتنازلات، بل استطاعت حماس توظيف عدة أوراق ضغط ومناورة للتأثير على مسار المفاوضات. ففي نفس الوقت الذي تستمر المقاومة في الصمود عسكريًا، كانت حماس تكشف للرأي العام أمرين:
الأمر الأول حقيقة تلاعب نتيناهو بورقة الأسرى لإطالة أمد الحرب؛ فإذا كانت إسرائيل قد احتجت مثلاً بعدم قدرة حماس على تقديم قائمة الرهائن الباقين لترفض الهدنة وتتوقف المفاوضات، فإن حماس كانت تستهدف أُسر الرهائن والداخل الإسرائيلي ببياناتها عن تعذر تقديم قوائم كاملة عن الأسرى بسبب فقدان الاتصالات وسقوط بعضهم قتيلاً بسبب القصف الإسرائيلي.
الأمر الثاني: حقيقة أهداف إسرائيل من عرقلة المساعدات البرية بل واستحداث سبل جديدة لها وعرقلة سبل أخرى، وأنها تندرج في نطاق خطة إسرائيلية عن إدارة غزة –كما سبق البيان. فلقد كشف أسامة حمدان (20/3) كيف أن استهداف إسرائيل قيادات أمنية ومحلية في غزة تتولى الإشراف على المساعدات من ناحية، واستهداف لجان إدارة وتنظيم وتوزيع المساعدات من ناحية أخرى، بل واستهداف الأونروا من قبل؛ جميعها تهدف إلى بث الفوضى وتكريس حالة التجويع في غزة تمهيدًا وتهيأة لاستبدال كوادر حماس بكوادر وأبنيه أخرى لإدارة غزة مدنيًا في ظل احتلال إسرائيلي وفي ظل مخطط إسرائيل لاستمرار احتلال غزة بعد تصفية حماس أو نزع سلاحها.
- مسألة إدارة غزة وموضعها من حل سياسي تشارك فيه السلطة الفلسطينية، بعد انتهاء الحرب، تحوز اهتمام حماس بالطبع ولكن كأولوية تالية لأولويات أهم سابقة، وهي وقف النار والمساعدات والانسحاب وإعادة الاعمار؛ باعتبار أن حماس هي التي كانت قائمة على حكم غزة ولا بد أن يتجدد شكل هذا الحكم ولكن بعد تنفيذ شروط معينة. لتجديد السلطة الفلسطينيه وتحقيق توافق وطني فلسطيني جديد بمشاركة حماس وكانت هذه الرؤية تعكس إيمانا بالنصر، على عكس أهداف إسرائيل وشركائها؛ حيث كانت رؤاهم تقوم أساسًا على تصفية حماس، أو نزع سلاحها، وقيام إدارة مدنية محلية بديلة لها. تحت إشراف السلطة الفلسطينية أو بدونها.
وفي المقابل كانت علاقة حماس بالسلطة الفلسطينية مسألة شائكة معقدة، فلم يحدث تواصل رسمي طوال شهور الحرب بين الطرفين بصفة عامة حول الحرب أو حول ما بعد الحرب، ولم يكن هناك إلا حديث عام من جانب الدول العربية عن ضرورة ترتيب البيت الفلسطيني، أو حديث من جانب “الغرب” عن تجديد السلطة الفلسطينية وأدوارها المحتملة في إدارة غزة بعد الحرب، وهو الأمر الذي كانت ترفضه حماس بقدر ما ترفضه إسرائيل ولو لأسباب مختلفة.
وفي المقابل كانت حماس تبادر على النحو الذي يُظهِر الحرص على توحيد وتنسيق صفوف المقاومة؛ كما حدث عند إعلان قادتها عن المشاركة في اجتماع موسكو في مارس لكل الفصائل بما فيها فتح لتنسيق المواقف الفلسطينية، وكذلك إعلانهم في 23/2 عن اتفاق لفصائل لتكوين حكومة وفق مرجعيتها وذلك لتدير وتعيد إعمار غزة بعد الحرب والإعداد لانتخابات فلسطينية. وكان هذا الإعلان بمثابة مناورة وضغط من حماس في مواجهة السلطة ومنظمة التحرير، وذلك في وقت تزايدت تصريحات من قادة في فتح أن حماس وإن كانت جزءًا من النسيج الوطني الفلسطيني ولا بد من التنسيق معها إلا أنه لا يمكن أن تشارك في حكومة فلسطينية بحكم عدم شرعيتها ووصفها بالإرهاب لدى الدول الكبرى.
ورغم البيان التوافقي من موسكو الصادر عن الفصائل الفلسطينية، إلا أن استقالة حكومة محمد اشتية وتكوين حكومة تكنوقراط جديدة في رام الله صعد المواجهة بين حماس وبين السلطة الفلسطينية لدرجة وصف بها أسامة حمدان هذه الخطوة بأنها انحياز من السلطة لمواقف الاحتلال من إدارة غزة بعد الحرب ومن حماس بالطبع. وبناء عليه تصاعدت الاتهامات المتبادلة بين ممثلي حماس والسلطة.
خلاصة الأمر أن حماس كانت فاعلة عسكريًّا ودبلوماسيًّا أيضًا، لا تتوانى عن المبادرات السياسية التي هي بمثابة إلقاء بالونات اختبار وأضواء كاشفة عن نوايا ومخططات نتيناهو والسلطة الفلسطينية والمجتمع الدولي.
ولقد كان بيان “أبو عبيدة” في 8/3، وبيان هنية في 10/3 وبيان أسامة حمدان في 20/3 تجسيدًا حيا لأمرين هامين في هذه الآونة (170 يوم تقريبًا على العدوان):
- الثبات والصمود دفاعًا عن الحق مهما كانت التكلفة… “إنه جهاد.. نصر أو استشهاد”؛ فالحرب الحالية -مهما كانت طبيعة نهايتها- ليست نهاية للصراع ولكن بداية لمرحلة أخرى من الجهاد.
- لن تدع حماس إسرائيل تحقق بالمكائد السياسية ما لم تحققه بالقوة العسكرية الغاشمة.
فما زالت الرؤى عن السلام والأمن في المنطقة لدى حماس “الجهادية” شديدة الاختلاف عن نظائرها لدى حلفاء إسرائيل من النظم العربية التي تدين بأيديولوجية “السلام الإسرائيلي” وفي قلبها أسطورة “حل الدولتين”. وإذا كانت النظم العربية استدعت الأسطورة في ردائها الجديد، الذي اقترحته دول أوروبية: “اعتراف مسبق بدولة فلسطينية”، فإن حماس ترفض استدعاء هذه الأسطورة كأولوية وكمخرج من المأزق كما تفعل النظم العربية. ولكن هي تضع لمجرد استدعاء فكرة “حل الدولتين” منظومة شروط مسبقة تعطيها الأولوية (وقف النار، الانسحاب الإسرائيلي، عودة النازحين، إنهاء الحصار، إعادة الإعمار)، كما تضع لتنفيد الحل ذاته وطبيعته شروطًا أخرى سبق وأعلنت عنها وثيقة لحماس 1997 وأهمها دولة كاملة السيادة لا تعترف بإسرائيل.
(5)
ثالثًا- منظومة “ما بعد الحرب”: جانب بيئة التواطؤ الفلسطينية والعربية الرسمية:
تمثل هذه البيئة نقطة ضعف للمقاومة وشوكة في ظهرها، ومن ثم تمثل لإسرائيل ساحة مناورة وتفاهمات من وراء الكواليس حول وضع غزة بعد هزيمة حماس المرتقبة والمأمولة منهم جميعًا.
وإن لم تعترف فصائل المقاومة بذلك الوضع المخزي صراحة إلا أنه من أكثر الدلالات عليه وضوحًا وتجسيدًا هو إسقاط بيانات قادة حماس (هنية، أبو عبيدة، أسامة حمدان) مخاطبة النظم العربية والسلطة الفلسطينية، وظهر ذلك جليًا في بيان أسامة حمدان في 20/3 حول فشل آخر جولة من المفاوضات، فلم يأتِ على ذكر كلمة نظم عربية أو أسماء دولها.
هذا، ومن أكبر ساحات التواطؤ العربي الفلسطيني الرسمي تلك المتصلة بالمواقف المعلنة عن طبيعة وقف إطلاق النار من ناحية، وعن وضع غزة في نطاق حل سياسي شامل وموضع حماس في هذا السياق من ناحية أخرى. وهي مواقف دبلوماسية فقط، منزوعة من استخدام أي أوراق ضغط وقوة على إسرائيل ولو من أجل تحقيق وقف إطلاق نار لازم لإدخال المساعدات كما يجب أن تكون: بانتظام واستدامة وبالقدر المطلوب.
وكان مفتاح هذه المواقف وركيزتها ما يسمى “حل الدولتين”، ولقد ظلت المواقف العربية والإسلامية، منذ 7 أكتوبر وعبر الأشهر الستة من العدوان، حبيسة هذه الدعوة؛ رغم أن السياقات المختلفة قد بينت وبطريقة تدريجية تصاعدية منذ 1993 كيف أن “هذا الحل” قد أضحى ميتًا، أو تأكد موته، على ضوء المعطيات الجديدة التي أفرزتها نتائج ودلالات العدوان على غزة وصمود المقاومة له طيلة ستة أشهر والرفض الحاسم من اليمين الإسرائيلي لهذا الحل.
ولقد تفرع عن هذه الركيزة وانتظم حولها مجموعة من المواقف الفرعية التي تعكس رؤية عن ما بعد الحرب:
- ماذا عن طبيعة “وقف النار”؟ كان الوسيطان المصري والقطري في المفاوضات منذ البداية يعملان من أجل هدنة مؤقتة تحققت لمدة أسبوع (23/11- 30/11)، واعتبرها النظامان نصرًا كبيرًا. ولم تنجح اللجنة السباعية المنبثقة عن مؤتمر القمة العربي الإسلامي في الرياض 7/11 ولمدة ما يقرب من شهر في تعبئة مساندة غربية من أجل وقف إطلاق نار، وتجسد الأمر في الفيتو الأمريكي على قرار مجلس الأمن في 8/12، وعلى قرارات لاحقه طيلة الأشهر التالية. واستمرت جولات المفاوضات بلا توقف بين موقفين متناقضين حول طبيعة وقف النار وموضعه من حل سياسي شامل يصل إلى دولة فلسطينية –كما سبق البيان. وحتى كانت موافقة مجلس الأمن في 25/3 لأول مرة على قرار وقف إطلاق نار فوري حتى نهاية رمضان، وهو ما لم يتحقق.
والسؤال الأول الذي يطرح نفسه هو: هل كان الوسطاء المصريون والقطريون محايدون كما يجب أن يكون الوسطاء؟ وكيف؟ وهل يمكن لهما في مثل هذه القضية الحياد، وخاصة بعد استمرار العدوان الوحشي شهورًا بدون توقف ومع تصاعد الأزمة الإنسانية لدرجة وصفت بالإبادة الجماعية؟!
والسؤال الثاني الذي يطرح نفسه: إذا كانت الدول العربية لم تضغط بقوة منذ البداية من أجل وقف إطلاق النار كاملاً أو مساندة المقاومة أو ضخ الإغاثة الإنسانية، فلقد استمر نفس النمط السلوكي وبرتابة شديدة رغم تزايد العدوان والمأساة الإنسانية والإبادة الجماعية على نحو لا يمكن تفسيره إلا بالتواطؤ وانعدام الإرادة السياسية الفردية أو الجماعية للضغط بأي صورة فعالة.. لماذا؟ ظلت الدول العربية تطالب المجتمع الدولي بالعمل من أجل كل شيء: وقف النار، الإغاثة، حل الدولتين…، في حين أن “هذا المجتمع الدولي” في جزئه الفاعل والمؤثر (الغربي الرسمي) ليس إلا شريكا لإسرائيل، وحتى كشف “الجنوب العالمي” -ممثلا في جنوب إفريقيا- عن وزنه حين رفع قضية اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية. ويظل نفس السؤال قائمًا: لماذا عدم الضغط العربي الرسمي على إسرائيل، بل ولماذا كما اتضح مع امتداد العدوان، التوجه نحو التنسيق والتعاون معها (الممر البري من السعودية، عبر الإمارات والأردن إلى إسرائيل، الممر البحري للإغاثة الإنسانية من قبرص، محور فيلادلفيا وإشكاليات التهديد الإسرائيلي باحتلاله).
والسؤال الثالث هو: هل يساند الوسطاء العرب في المفاوضات هدنة أخرى مؤقتة أم وقف إطلاق النار –ولو بالتدريج- يقود إلى أفق حل سياسي؟
من الواضح من المشروعات المصرية والقطرية المعلن عنها عبر الشهور الثلاثة السابقة أن مسلك الوسيطين يحاول إيجاد توفيق بين الموقفين الإسرائيلي والمقاومة (السابق شرحهما) دون قدرة، رغم تدخلات أمريكية شكلية، في الوصول إلى اتفاق حتى الآن (27/3/2024)؛ ذلك لأن الموقف الإسرائيلي يبرز تحركًا دؤوبًا لتغيير خريطة الأرض وفرض أمر واقع للاحتلال العسكري لغزة وإعلان موت حل الدولتين رسميًا بعد أن نكل به طيلة 30 عام.
ويزداد الأمر وضوحا من المواقف من “حل الدولتين”.
(2) طبيعة أفق الحل السياسي “حل الدولتين”:
عند بداية العدوان الإسرائيلي بعد “طوفان الأقصى”، كان المشترك في كل الخطابات العربية الإسلامية الفردية والجماعية هو “حل الدولتين” كمناط لحل سياسي شامل. ظهرت بعد ذلك تباينات في المواقف حول عدة أمور تنبني في الواقع على حقيقة الموقف من حماس ورؤيتها لإدارة الصراع ودورها في حل سياسي مقبل مقارنة برؤية النظام العربي الرسمي والسلطة الفلسطينية لما يسمى “السلام الشامل والعادل” في المنطقة.
الأمر الأول: كان الإسراع عند بداية طوفان الأقصى، باستثناء إيران، إلى الدعوة إلى حل سياسي والعودة إلى مفاوضات التسوية من أجل حل الدولتين. إلا أنه مع امتداد العدوان واستمرار صمود المقاومة ازداد الوضع تعقيدًا وتركيبًا بعد أن أصبحت حماس ركيزة في المعادلة وعلى نحو يفرض الكشف عن الموقف من مشاركتها السياسية المستقبلية.
ومن ثم كان الأمر الثاني هو موضع حماس من الحل السياسي، جزء منه أم خارجه؟ وطبيعة العلاقة بينها وبين السلطة الفلسطينية، ناهيك بالطبع عن الموقف من وجود حماس ذاتها أو إنهائه.
تباينت مواقف الدول العربية والإسلامية من “حماس” عبر الأشهر الستة، منذ بداية العدوان وحتى الآن. ففي حين نجد مواقف بعض الدول (إيران، تركيا، قطر) حاسمة في نفي صفة الإرهاب عنها وتأكيد كونها حركة مقاومة ضد الاحتلال تمثل جزءًا من نسيج المجتمع والنضال الفلسطيني ولا بد أن تكون جزءا من حل سياسي، بل وإدارة غزة ما بعد الحرب، فإن مواقف دول أخرى -خاصة مصر- تأرجحت تصريحاتها عبر الأشهر الستة تجاه حماس على نحو وإن لم يصفها مباشرة بالإرهاب فهو لم ينفهِ عنها صراحة وبقوة، ودون حسم واضح من حيث طبيعة العلاقة بينها وبين السلطة الفلسطينية في العملية السياسية الشاملة. وعلى العكس فإن البعض الآخر رسميًا (البحرين) أو غير رسمي (الإمارات) وجه الاتهامات لمسؤلية حماس عما أصاب غزة من دمار وعدم استقرار في المنطقة.
ولقد ظلت السلطة الفلسطينية في رام الله في نظر النظام العربي الرسمي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وبالنظر إلى انقطاع التواصل الرسمي بين حماس والسلطة منذ العدوان، والحملات الإعلامية التي يشنها بعض منتسبي فتح أو منظمة التحرير الفلسطينية على حماس وعلى نهج المقاومة العسكرية بصفة عامة وعواقبه على أهل غزة، وبالنظر إلى مناورات الولايات المتحدة وقوى أوروبية بالتواصل مع السلطة واستنطاقها عدم مسؤليتها عما ارتكبته حماس في 7/10 بل وإدانتها له؛ بالنظر إلى هذه التوجهات (وتفاصيلها عديدة ومتراكمة) يتضح كيف أن شركاء إسرائيل في العدوان على غزة –من الغربين أو العرب- إنما يريد الاحتفاظ بكيان السلطة الفلسطينية المترهل شريكًا في أي عملية سياسية مقبلة أي كانت طبيعتها، وذلك على حساب المقاومة وحماس بصفة خاصة. إلا أن صمود المقاومة هذه الشهور الممتدة، ومشاركتها في المفاوضات –غير المباشرة- من أجل اتفاق وقف إطلاق النار، قد فرض واقعًا آخر على الدول العربية، وخاصة مع تبلور وارتفاع صوت تيار وطني فلسطيني قوي من بين صفوف فتح ومنظمة التحرير يدعو إلى توافق وطني فلسطيني لا يستبعد حماس بل ويعتبرها شريكًا أساسيًا في كيان جديد لمنظمة التحرير ولأي سلطة فلسطينية قادمة.
ولم تنهِ التجديدات في الحكومة الفلسطينية (استقالة حكومة اشتية وتكوين حكومة جديدة تكنوقراط) الاتهامات المتبادلة بين أجنحة السلطة الفلسطينية المعتنقة لأيديولوجية السلام المتهاوية وبين حماس وفصائل المقاومة الأخرى المعتنقة لأيديولوجية المقاومة العسكرية وتحرير الأرض.
هذا ولم تبذل الدول العربية أي جهود للمواءمات أو التفاهمات أو التوفيقات بين جناحي الحركة الفلسطينية، السلمية والعسكرية، بل ربما يقوم البعض بمناورات من وراء الكواليس لاستمرار الخلافات وعدم تجميع الصفوف، على النحو الذي يصب في الموقف الإسرائيلي ويتماهى معه. ذلك لأن هذه الدول العربية تعتنق أيديولوجية “السلام الإسرائيلي”، ولا ترى في أيديولوجية المقاومة إلا مهددًا لاستقرار المنطقة ومدمرًا لفرص التنمية والرفاه والتعاون مع الغرب، وبالطبع مع إسرائيل، في إطار استراتيجية شاملة للتطبيع مع الكيان المحتل.
هذا علمًا بأن الموقف الإسرائيلي، منذ أن تزايدت المبادرات الأوروبية الداعية منذ يناير 2024 إلى “الاعتراف بدولة فلسطين”، قد تصاعد تجديد رفضه لحل الدولتين ابتداءً ورفضه أي دور فلسطيني (السلطة أو غيرها) لإدارة غزة بعد وقف النار في ظل احتلال عسكري إسرائيلي. وهو الأمر الذي يضرب في الصميم استراتيجية النظام العربي الرسمي وركيزتها؛ أي حل الدولتين.
الأمر الثالث: هو طبيعة الدولة الفلسطينية المأمولة: رغم الإفشال الإسرائيلي المتكرر والمتراكم عبر 30 عاما، منذ اتفاقية أوسلو، لمشروع “حل الدولتين”، ومن ثم فشل مسار التسوية السلمية المأمولة، أو المتوهمة، من جانب السلطة الفلسطينية والدول العربية، فإن تلك الأخيرة ما زالت تدعو إلى “حل الدولتين”. ولكن أي دولة فلسطينية؟ ليست بالطبع تلك التي تفاوض حولها السلطة الفلسطينية منذ 30 عاما، وليست بالطبع التي أعلنت وثيقةُ حماس 1997 قبولها لها، والتي حدد هنية قبول حماس لها دون اعتراف بإسرائيل. ولكن –على العكس- لا تمانع مصر أن تكون دولة منزوعة السلاح، ولا تتحدث الدول العربية عن “حل الدولتين” مربوطًا صراحة بمنظومة وقف الحرب، وانسحاب من غزة وإعادة إعمار وإغاثة، أو محل ضمانات دولية لتنفيذه في أجل محدد. فقط يعلنون رفض التهجير القسري حفاظًا على القضية الفلسطينية وعدم انتهائها، ولكن أين الرؤية عن كيفية هذه الحماية وتنفيذها؟ هل بالصمت عن مخطط إسرائيل الجاري تنفيذه؟ هل بعدم نصرة المقاومة؟ هل بترك أهل غزة للجوع بذريعة تعنت إسرائيل ضد المساعدات؟؟؟ هل بمراقبة التهديد الإسرائيلي باجتياح رفح والتحذير منه دون ضغط حقيقي معلن لمنعه؟؟
(3) مآل وقف العدوان: بين تواطؤ عربي وبين صمود فلسطيني
يمثل شعار “حل الدولتين” غسلا لوجوه النظم العربية، ودرءًا للذنب، وتجميلاً للنفاق العربي الرسمي حتى يتم تجاوز أزمة والعودة مرة أخرى إلى وضع يحفظ النظم القائمة ويحميها من عواقب اشتعال روح المقاومة والجهاد ضد الاستبداد والظلم وضد الاحتلال الإسرائيلي على حد سواء.
هل يرجع هذا الحال لإيمان النظم العربية -في ظل تغلب عقيدة الواقعية- بعدم قدرة المقاومة على تحقيق النصر أو الرغبة في عدم انتصارها، ومن ثم الانتظار للالتفاف حول حماس وأيديولوجيتها تحت غطاء ما يسمى “السلام الدائم والعادل والشامل” في طبعته الصهيونية؟
كيف يستمر التمسك بمبدأ عقيم ثبت فشله، ويتأكد الآن –مع تداعيات العدوان الغاشم- استحالة تطبيقه أو تدشين طريق تطبيقه؟
هل تعمقت الفجوة إلى هذا الحد بين رؤيتي المقاومة والنظام الرسمي العربي عن مستقبل حماس وعن مستقبل القضية ومستقبل الكيان الصهيوني، إلى درجة عدم الوثوق أو عدم الرغبة في نصر عسكري لحماس يدعم مواقفها التفاوضية عن الحل السياسي من ناحية، ومن ثم القبول من ناحية أخرى بتفكيكها والقضاء على قيادتها ونزع سلاحها واحتوائها وتهجينها وإدماجها في عملية سياسية أخرى مزيفة وتلفيقية؟
وفي مقابل تداعيات هذا التواطؤ العربي الرسمي على مسار “ما بعد الحرب” والوصول إليه، هناك تحدي صمود المقاومة على الأرض؛ فهي المناط الأساسي لتحديد طبيعة الأفق السياسي. فهي مستمرة وثابتة رغم تجدد أشكال العدوان ومخططاته لاستمرار الاحتلال والهجوم على رفح، ورغم فشل ما يسمى المجتمع الدولي في تطبيق قرارات لمجلس الأمن والجمعية العامة بضرورة وقف فوري إنساني لإدخال المساعدات، ورغم تزايد إدانات الأمين العام للأمم المتحدة للسياسات الإسرائيلية ورغم استمرار تدفق الوفود الدولية الرسمية والأممية الإغاثية على المنطقة، وأخيرًا ورغم كل الجهود الغربية لتلميع وتجديد وهن السلطة الفلسطينية باعتبارها السلطة الشرعية، استعدادًا لما بعد هزيمة غزة وهزيمة فصائلها العسكرية، ورغم كل أشكال الابتداع في أنماط جديدة من الإغاثة (جوًا وبرًا) لإغلاق المعبر البري الأخير أمام غزة، ورغم كل الجهود الغربية والعربية الدبلوماسية والعسكرية لاحتواء وتقييد نطاق الحرب إقليميًا؛ رغم كل هذا تظل المقاومة صامدة ثابتة تستثمر جهود نصرتها ومساندتها ولا تأبه بمؤامرات خذلانها والتواطؤ عليها…
ومن ثم، كيف يلعب الوسطاء دورهم؟ يتوسطون حول ماذا؟ أي وقف نار وأي ما بعد وقف النار؟ وإلى أين؟ ما زالت أسئلة كثيرة تدور حول دوافع وأهداف التواطؤ العربي وأثره على مسار “ما بعد الحرب” بل والوصول إليه أولاً.
(6)
خاتمة: أيهما يحدد “ما بعد الحرب”: مسار الحرب العسكري والسياسي ونتائجه على الأرض أم الرؤية عن ما بعد الحرب؟
معضلة العلاقة بين حسابات القوة الصلدة وحسابات قوة الحق والإيمان
يقترب شهر رمضان على الانتهاء ولم تنفذ إسرائيل بعد تهديدها باجتياح رفح عسكريًا، الذي سبق وتحدد ميعاد له قبل بداية رمضان، وتأجل عدة مرات تحت ذرائع انتظار نتائج المفاوضات، التي ما أن يعلن فشل جولة منها إلا ويعاد الإعلان عن بداية جولة أخرى. فلقد أضحت المفاوضات غاية في حد ذاتها وليست وسيلة، أضحت غطاء لاستمرار إسرائيل في توظيف أوراق ضغط مختلفة على أرض الواقع لفرض واقع جديد عسكريًا لا بد أن يلقي بثقله على نتائج المفاوضات، لإعداد مقاصات من وراء الكواليس تلقي بدورها بثقلها على مسار المفاوضات.
هكذا يقول لنا أولاً مشهد الأسبوع الأخير من شهر مارس (20 – 27/3)، الذي تزامنت خلاله وبكثافة عدة تفاعلات هامة تُنبىء عن ما أضحت عليه خطورة الوضع بالنسبة للجميع، لدرجة تفرض توظيف كل أوراق، سواء “العصا” أو الجزرة للتوصل إلى نوع من وقف النار… حتى ولو قبل أن تستقر إسرائيل على شكل إدارة غزة.
فمن ناحية: جاءت جولة بلينكن السادسة في المنطقة من الرياض إلى القاهرة إلى تل أبيب؛ حيث التقى في القاهرة بوزراء خارجية مصر والسعودية والإمارات والأردن وأمين سر منظمة التحرير الفلسطينية في محاولة لاستعادة المفاوضات بعد إعلان حماس فشلها 20/3. وفي حين استمع السادة العرب كعادتهم للأمريكي، لم يصدر في تصريحاتهم أي جديد، من تهديد أو وعيد جاد، بقدر ما تكررت التحذيرات من اجتياح رفح رغم كل ما يجري على الأرض وينبئ بقرب وقوعه. وفي المقابل كان بلينكن يفصح -في تمثيلية هزلية- عن “الجزرة” المقدمة لإسرائيل لتمتثل ولو قليلاً وتقبل أن “القضاء على حماس ممكن” بدون اجتياح بري ينال من المدنيين في رفح، والجزرة الأساسية هي التبشير بأن اتفاق التطبيع السعودي الإسرائيلي قد اقترب. في نفس الوقت قدمت اللجنة السباعية العربية الإسلامية مقترحات بتكوين قوة عربية ودولية لضمان وضع “ما بعد الحرب”.
ومن ناحية أخرى، وفي حين وافق الكونجرس الاستمرار في عدم تمويل الأونروا لعام قادم، فإن الولايات المتحدة قدمت لمجلس الأمن قرارا من أجل وقف النار والمساعدات يرتدي مفردات وصف حماس بالإرهاب وغيرها مما ترفضه المجموعة العربية، كما أعلنت عن مبيعات سلاح جديدة لإسرائيل. وهو القرار الذي تم تعديله بعد الفيتو الروسي والصيني على نحو سمح بالموافقة عليه لاقتصار الولايات المتحدة على الامتناع عن التصويت.
وفي المقابل، حاول الاتحاد الأوروبي في قمته المنعقدة 21- 22/3 أن يضفي سمات من “الاعتدال الرسمي” المعتادة في مواقفه الجماعية فأصدر دعوة لهدنة فورية إنسانية يقود إلى وقف نار مستدام، وطالب بعدم شن عملية عسكرية في رفح، وأعلن استمرار دعم الأونروا، وأدان الاستيطان الجديد في الضفة وطالب بوقفه. ولكن من ناحية أخرى كافأ مصر على جهودها في حفظ الاستقرار والأمن في المنطقة على ضوء سياستها تجاه “أزمة غزة” والهجرة غير الشرعية إلى أوروبا. وجاءت المكافأة بصورة سريعة وغير مسبوقة خلال ما عرف بتدشين التحالف الاستراتيجي الأوروبي المصري الذي أعلنت عنه في القاهرة (17/3/2024) رئيسة المفوضية الأوروبية ورؤساء وزراء خمس دول أوروبية (إيطاليا، اليونان، أسبانيا، بلجيكا).
ومن ناحية ثالثة: تستمر الساحة السياسية الإسرائيلية تفرز متغيرات الصدام بين حكومة نتيناهو والمعارضة، بل فيما بين مكونات حكومة نيتناهو ذاتها (مجلس الحرب، مجلس الوزراء…). كما تستمر الساحة الفلسطينية على انقسامها بين سلطة رام الله التي تحارب من أجل البقاء كذراع أمني لإسرائيل، وبين شعب الضفة والقدس المنتفض ضد الاحتلال، وبين شعب ومقاومة غزة، على نحو يختبر مدى جدية إعادة بناء الشرعية الفلسطينية على أسس مرجعية وطنية جديدة تتجاوز أوسلو فقط أو المقاومة العسكرية فقط.
ومن ناحية رابعة: تظل الساحة السياسية والدبلوماسية تشهد مواقف إسرائيلية وأمريكية وفلسطينية وعربية مختلفة حول “ما بعد الحرب” وكيفية الوصول إليه.
إذن ما المآل والمفاوضات تقترب من عنق الزجاجة، ولا هزيمة أو نصر حاسم لأحد الطرفين؟
- هل آن الأوان لحماس أن تقبل هدنة تقود إلى وقف نار مستدام؟ أم أنها ترى أن امتداد الحرب ليس لصالح إسرائيل رغم ضخامة الثمن المدفوع في غزة ومن ثم لن توافق حماس على وقف نار إلا بشروطها؟
- هل معطيات القوة لدى الطرفين، ومعطيات الضعف أيضًا تسمح باستمرار الحرب؟ وحتى متى؟ وكيف سيكون شكل هذا الاستمرار؟
- حتى متى تستمر سياسة تكسير العظام، والعض على النواجز؟ أين يمكن كسر الحلقة الدائرة منذ ستة أشهر؟
- إلى متى يتحمل النسيج الفلسطيني في غزة هذا النزيف المدني؟ وما مصادر تهديد أو تدعيم استمرار الصمود العسكري للمقاومة؟
- هل يمكن أن يزيد ضغط خارجي أو داخلي على إسرائيل مع تزايد انكشاف حقيقة مشروعها عالميًا؟ متى يمكن أن تتدخل الولايات المتحدة لتضغط بجدية على إسرائيل ومن أجل ماذا؟ وهل يمكن أن يُحدِث تغيير حكومة نتيناهو فرقًا في المسار نحو ما بعد الحرب؟
- هل يمكن أن تزداد فعالية أو نطاقات نصرة حزب الله والحوثيين، أم أن مقاصات ما وراء الكواليس السياسية مع إيران من خلال السعودية مثلاً وغيرها قد تُحدِث أثرًا عسكيًا؟ متى ولماذا؟
- هل ما زال حل الدولتين جاذبًا أم يجب إعلان موته، أم أنه ما زال يلعب دورًا في تغطية عورة تواطؤ النظام العربي الرسمي مع إسرائيل ضد حماس؟
جميعها أسئلة عقلانية تستدعي معايير الرشادة عند طرحها أو التفكير في إجابتها، جميعها أسئلة ترتكن إلى المادي وإلى حسابات توازنات القوى التقليدية في تقدير معضلة العلاقة بين مسار الحرب ومآل ما بعد الحرب.
إلا أن حالة فلسطين، وحالة مقاومة وصمود غزة شعبًا وفصائل لا بد أن تستدعي -بل تفرض استدعاء- ما يتجاوز هذه العقلانية والرشادة والواقعية بمفردها التي قد تصيبنا ببعض الإحباط أو اليأس أمام مظاهر القوة العسكرية الإسرائيلية الباطشة ومظاهر النزيف المستمر لأهل غزة ومظاهر التواطؤ العربي الرسمي على حماس. ونجد أن هذا التجاوز يقع في صلب مرجعية المقاومة، النواة الصلدة لرؤيتها للعالم ولموضع فلسطين والجهاد من أجلها، وفي الرؤية العسكرية والسياسية لحماس ولكل فصائل المقاومة في غزة وفصائل المقاومة الوطنية في منظمة التحرير الفلسطينية، كما نجده في الذاكرة التاريخية للمقاومة الفلسطينية عبر قرن مضى من الزمان.
والآن ومن واقع مشهد في العشرة الأخيرة من رمضان (28/ 3 – 2/4)، تجتمع لدينا وتتراكم دلالات أخرى عن هذا الثبات والصمود أمام المكائد والجرائم الصهيونية الجارية للإسراع بتغيير خريطة الأمر الواقع سياسيًا وعسكريًا بالتعاون مع شركائها.
وتتعدد خيوط المشهد وتتلاقى في محاولة لإحكام القبضة على حماس وغزة دون جدوى:
- قرار مجلس الأمن في 25/3، لم يجد من يُلزِم بتطبيقه، بل سارع البعض بشرح عدم إلزامه (وفقًا للفصل 6 من ميثاق الأمم المتحدة).
- تتسارع الاعتداءات الإسرائيلية النوعية في شمال ووسط وجنوب القطاع، مدعية النيْل من قواعد وأعضاء المقاومة (مجمع الشفاء ثانية…!) استعدادًا وتمهيدًا للهجوم البري على رفح الذي لا تحيد عن ضرورته من أجل النصر على حماس.
- استمرار إسرائيل الإسراع في إعداد البديل الإداري والأمني لحكم غزة؛ فبعد فشل التوجه نحو قادة العشائر والقبائل ظهر مسار التنسيق الأمني مع استخبارات السلطة الفلسطينية في رام الله على مستويين: إدخال عناصر أمنية من شمال غزة ومن معبر رفح في إطار قوافل مساعدات، وصفتها حماس في 31/3 بأنها قوة مشبوهة تم القبض على قياداتها التي استهدفت بث الفوضى داخل غزة لضرب لُحمة العلاقة بين المقاومة وحاضنتها.
- بعد أداء الحكومة الفلسطينية الجديدة يمين القسم أمام عباس (29/3)، والذي أعلن خلاله رئيس الحكومة الجديدة استعداد حكومته لتحمل مسؤليتها في قطاع غزة أيضًا، تسارعت الاتهامات المتبادلة بين قادة حماس وفتح. وخاصة مع تزايد مطاردة قوى الأمن الفلسطيني لعناصر المقاومة (من حماس وفتح على حد سواء) في الضفة والقدس … بل بدأ الاستعداء الواضح ضد حماس بعد زيارة هنية لطهران بعد النداء الذي وجهه قادتها لاستنهاض الشعوب العربية لمساندة غزة ومقاومتها. على اعتبار أنها تدعو للفوضى في الدول العربية وعدم احترام مشروعية المعاهدات والاتفاقات الدولية، وظهر ذلك الاستعداء واضحًا في الحالة الأردنية بعد أن تعاظمت واستمرت المظاهرات أمام السفارة الإسرائيلية في عمان داعية لإلغاء معاهدة السلام وفتح الحدود.
- سفور وانكشاف مؤشرات الترصد العربي الرسمي بحماس وترقب تصفيتها والتي كانت كامنة إلى حد ما من قبل.
فمن ناحية: تم تداول مقترح بتكوين قوة عربية ودولية لضمان ما بعد وقف النار وهو الأمر الذي سارعت حماس بإعلان رفضه.
ومن ناحية أخرى: استخدم الأمن الأردني العنف ضد المتظاهرين والمعتصمين أمام السفارة الإسرائيلية في حماس، مع ارتفاع نبرة أذرع الإعلام الرسمية المصرية والعربية باتهام حماس بالتحريض على الفوضى وتهديد الدول الوطنية من خلال أذرعها الإخوانية في هذه الدول. ولقد وقع إخوان الأردن تحت طائلة هامة من الاتهامات والتحذيرات. كما تم من جديد في مصر –كالعادة في مثل هذه المناسبات- استدعاء فزاعة إخوان مصر. وصاحب ذلك الاستعداء في مصر الاحتفال في 2/4 بتنصيب السيسي لولاية ثالثة لمدة ستة أعوام بعد إعادة انتخابه في ديسمبر 2023.
ولقد اصطبغت زيارة السيسي السريعة للأردن في 1/4 بدلالات هامة، نظرًا لتوقيتها التالي لتولي حكومة جديدة فلسطينية من ناحية، ولأحداث المظاهرات ضد إسرائيل في الأردن وأعمال القمع الأمني الفلسطيني للمقاومة المتزايدة في الضفة والقدس من ناحية أخرى.
فلقد اعتبرت هذه الزيارة رسالة تضامن مع الأردن والسلطة الفلسطينية في مواجهة دعوات حماس للشعوب للانتفاض في مواجهة إسرائيل. هذا رغمًا عن أن سلوكيات إسرائيلية ظاهرة تبدو وكأنها تسقط مصر وتقيد دورها تجاه القطاع، وخاصة ما يتصل بمعبر رفح ومحور فيلادلفيا، فماذا يعني عدم اعتراض مصر بقوة على ذلك؟!
هذا وكانت مصادر إسرائيلية قد أعربت أيضًا عن فرحتها بفشل حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية في تركيا، معتبرة إياه نتيجة العداء لإسرائيل والهجوم عليها من جانب أردوجان.
- ولا تقتصر خيوط إحكام القبضة على المقاومة دائرة غزة أو الضفة أو الجوار العربي الأردني المصري، ولكن امتدت بالطبع إلى الجوار السوري واللبناني المساند للمقاومة؛ حيث الوجود والنفوذ الإيراني. ومن هنا خطورة دلالة القصف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق في 1/4 الذي أوقع ست قيادات من الحرس الثوري الإيراني، هذا في نفس الوقت الذي استمرت المناوشات بانتظام ولكن بمحدودية مع حزب الله اللبناني ومع ملاحظة تراجع هجمات الحوثيين على الملاحة في بحرب العرب ونحو باب المندب. ولقد تزامن كل هذا بعد زيارة وفد قيادات حماس لإيران.
- في مقابل كل الخيوط السابقة المتضافرة في ضغطها على حماس وفصائل المقاومة، يظل صمود المقاومة عسكريًا؛ فهي لا تدافع فقط ولكن تبادر على كل محاور الوجود الإسرائيلي، معلنة عن أسلحة جديدة وعن خطط إبداعية هجومية. كما يظل الصمود السياسي في جولات المفاوضات التي لم تنقطع منذ قرار مجلس الأمن في 25/ 3؛ حيث ترفض حماس تقديم أي تنازلات حول قواعد وركائز مواقفها الأساسية.
فما زالت مقاومة غزة تتحدى كل أوراق الضغط عليها وهي ثابتة على ركائز أهدافها، لم يفتُّ في عضدها تكالب الغرب أو تواطؤ العرب لفرض “ما بعد الحرب”. فإن إسرائيل إلى زوال، فلقد دشن طوفان الأقصى مفصلا أساسيا في نهاية المشروع الصهيوني، ورغم أن النظام العربي والإسلامي الرسمي لم يستغل الفرصة، إلا أن “ما بعد الحرب” لن تفرضها آلة البطش الصهيونية وإنما صمود واستمرار المقاومة وظهيرها من الشعوب وبعون من الله.. ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ {27/69} وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ {27/70} وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {27/71} قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ﴾ (سورة النمل: الآيات 69- 72).
الحمد لله
2/4/2024
- نُشرت في فصلية قضايا ونظرات- العدد الثالث والثلاثون- أبريل 2024