السياسة والحقوق في النظم الديمقراطية والنظم التسلطية

وجهت أزمة وباء كوفيد 19 ضربات -لا تخطئها العين- للإجماع حول أفضلية النظم الديمقراطية، وفرضت تحديات غير مسبوقة على عملية صنع السياسات واتخاذ القرارات في مختلف النظم السياسية، إلا أن التحدي كان أكبر أمام الديمقراطيات حول العالم. فكثير من الإجراءات المطلوبة لمواجهة تداعيات هذا الوباء تتناقض جذريا مع فلسفة تلك النظم وآليات عملها. فقد أعادت الأزمة الجدل العالمي حول مزايا كل من الديمقراطية والسلطوية، وأيهما الأقدر والأجدر على مواجهة هذه المحنة. ولكن بنظرة أعمق لتداعيات وباء كورونا، يمكن ملاحظة أنه رغم ما قادت إليه هذه الأزمة لأول وهلة من اهتزاز صورة الديمقراطيات وتلميع صورة الديكتاتوريات، إلا أنه بعدما هدأ غبار المعارك الدعائية الإعلامية (خاصة بين الصين والولايات المتحدة)، وتراجع الاهتمام بماكينة عدِّ المصابين والمتوفِّين، بدأت تظهر التحليلات الأكثر عمقًا والتي تنظر للأزمة من مختلف أبعادها وتقيِّم النتائج بشكل أكثر موضوعية. فبانت كثير من نقاط القوة ومظاهر إيجابية أداء النظم الديمقراطية، والعكس صحيح أيضًا: فيما يخصُّ مكامن ضعف النظم السلطوية؛ وليتضح أن عامل مصداقية النظم الديمقراطية والثقة فيها -رغم المشاكل التي ظهرت- هو محدد رئيس في الحكم على أداء النظم وإدراتها للأزمة.

هذا لا يمنع أن ضغوط أزمة كبرى مثل وباء كوفيد 19 تركت آثارها على عملية صنع السياسات والقرارات في مختلف النظم وخاصة الديمقراطية منها؛ لأن الفيروس ترك بصماته على مرتكزات مهمة للحكم الديمقراطي؛ مثل: العمليات الانتخابية، سيطرة المدنيين على العسكريين، استقلالية المجتمع المدني، التماسك السياسي/المجتمعي، العلاقة بين المحلي والمركزي، حقوق الإنسان وخاصة الحريات. وهو التغير الذي ستتناوله هذه الورقة؛ بالنظر في آثار كوفيد 19 على أربعة محاور أساسية؛ كل منها يمثل ركيزة من ركائز الحكم الديمقراطي يتأسس عليها حقٌّ من الحقوق الأساسية للإنسان. فبعد الإشارة إلى ما كشفت عنه الأزمة من إشكاليات بنيوية تعاني منها نظم ومجتمعات عدة منها الغربية، سيتم تناول أبعاد أربعة لانعكاس كوفيد 19 على سياسات وقرارات النظم من جانب وحقوق المواطنين من جانب آخر: أولها- الانتخابات وحق المحاسبة السياسية، ثانيها- سياسات الطوارئ وتقييد الحريات، ثالثها- تماسك الداخل سياسيًّا ومجتمعيًّا، ورابعها- عامل الشفافية وحق المعرفة.

مقدمة: كورونا كأزمة كاشفة

كشفت أزمة فيروس كورونا عن محاور هامة للتوتر والصراعات داخل النظم السياسية وفيما بينها، فخرجت للعلن عملية الشدٍّ والجذب المستمرة ما بين مؤسسات الدولة العميقة وبين المؤسسات المنتخبة، وما بين أيديولوجيات النظم الديمقراطية والسلطوية وما بين التيارات السياسية الأيديولوجية في داخل النظام الواحد. فتداعيات انتشار كوفيد 19 ألقت الضوء على بنية الصراعات السياسية بركيزتيها المؤسسية والفكرية.

أولا- لقد كانت أزمة كورونا أزمة كاشفة للخلل الكامن والخفي في أغلب نظم العالم ما بين السلطات التنفيذية من جانب والتشريعية من جانب آخر؛ فهى لم تُنشئ تلك الحالة من الشدِّ والجذب بين طرفي عملية صنع القرار في النظم السياسية، وإنما كانت واجهة جديدة لها. وهي إشكالية تتعلق بالنظم الديمقراطية أكثر من السلطوية، فالأخيرة تتكامل مؤسساتها في اتِّساق داخلي لإحكام السيطرة على المجتمع ولا تعاني مثل الديمقراطيات من تلك المعركة الخفية بين من يملك إدارة دفة كواليس مؤسسات الدولة العميقة وبين من يمثل الشعب؛ بين المعيَّن والمنتخب، بين من يملك القوة بنوعيها الصلدة والناعمة من قوة عسكرية واقتصادية وتكنولوجية وإعلامية وبين يملك القوة الناعمة بالأساس ممثلة في الشرعية السياسية والقبول المجتمعي. خرجت للعلن هذه العلاقة الصراعية المركبة التي لا يخلو منها أي نظام مهما بلغت درجة ديمقراطيته. فكثيرًا ما أقرَّت الدراسات الأكاديمية بما لدى السلطات التنفيذية من مزايا تجعلها أقدر على إدارة دفَّة الأمور ولو بشكل غير مرئي، وبما لدى مؤسسات الدولة (غير المنتخبة) من أفضلية بسبب ما تملكه من مصادر قوة تتعلَّق بقوة المعرفة والاستمرارية، والتي نادرًا ما تتوافر للمؤسسسات المنتخبة، بل الأولى هي التي تقرِّر ما تتيحه من معلومات وما تحجبه. وجاءت أزمة كورونا وكانت المشكلة في البداية: من يملك المعرفة الأدق حول الفيروس (نشأته وطرق مكافحته)، ثم في تحديد الإجراءات الوقائية اللازمة، ثم من سيملك اللقاح للقضاء عليه، وصولًا إلى من يملك الرقابة على عمل مؤسسات الدولة حتى لا تقصر أو تطغى أو تنتهك الحقوق.

ثانيًا– لم يحتكر نموذج حكم بعينه الإدارة الناجحة للأزمة؛ حيث تفاوت الأداء في داخل كل معسكر (ديمقراطي أو سلطوي) وما بين المعسكرين. وبدا السباق على أيِّهم أفضل صراع أيديولوجيات أكثر منه صراع نظم، ولا يمكن فيه ادعاء أن فريقًا احتكر النجاح دون غيره، وكما تفاوت الأداء تفاوتت معايير تقييم النجاح. ولعل التنافس الدولي والتدافع في داخل النظم إبان الأزمة أعاد أهمية العامل الأيديولوجى إلى الواجهة مرة أخرى وبقوة. في تغريدة لبِن رود نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق قال: “ليس مصادفة أن الدول التي يديرها القوميون اليمينيون هي الأسوأ في التعامل مع كوفيد 19 (انظر: الولايات المتحدة، روسيا، بريطانيا، البرازيل)”. إلا أنها ملاحظة لا تمثل إلا جزءًا من الصورة. وهو ما نبَّه إليه البعض باعتبار أن مثل هذا القول يتجاهل أمثلة أخرى تدل على العكس مثل: إيطاليا، السويد، المجر أو الإكوادور([1]). مثل هذا الجدل الدائر في الأروقة السياسية وأيضًا الأكاديمية يعكس أمرين، تسييس النظرة للدول استنادًا على موقف أيديولوجى أو سياسي أكثر من موقف موضوعى ينظر لواقع الأداء بإيجابياته وسلبياته، ثانيًا أنه لا يمكن ربط أداء معين (إيجابى أو سلبي) للاستجابة لأزمة كوفيد 19 بنمط بعينه من النظم أو بأيديولوجية بعينها للإدارة الحاكمة.

تباينت الدول في درجة نجاحها في مواجهة فيروس كورونا: فنجحت بعض الدول السلطوية نسبيًّا مثل سنغافورة وفيتنام، بينما دول أخرى مثل إيران كان أداؤها سيئًا. ومن بين الدول الديمقراطية، كانت إدارة حكومات كوريا الجنوبية وتايوان من أفضل النماذج –بحسب معظم التقارير-، بينما لم يكن الوضع كذلك في إيطاليا والولايات المتحدة. لم يكن نمط النظام السياسي هو العامل الحاسم بقدر ما هي عوامل أخرى أهم مثل: خبرات سابقة في مواجهة أزمات صحية مماثلة، ومستوى قدرات وإمكانيات الدولة، الشرعية، وثقة المواطن في الدولة، وهى العوامل التي حدَّدت مستوى الاستجابة ومستوى النجاح في مواجهة الأزمة. وهذا لم يمنع من انتشار مقولة إن اليد الحازمة التي يتمتع بها النظام السلطوي باتت ضرورية للتعامل الناجح مع وباء خطير مثل كوفيد 19، وتكررت المقارنة الشهيرة بين نتائج أداء الإدارتين الصينية والأمريكية للتدليل دوما على ذلك؛ حيث بدت مثل هذه المقارنة لصالح الصين([2]). إلا أنه اذا ما تم إدخال عنصر الشفافية والمصداقية، فإن البوصلة تتغير في اتجاه مزيد من التشكيك في حجم وثمن الإنجاز الذي حققته كثير من النظم السلطوية؛ حيث تمتاز الديمقراطيات عن الديكتاتوريات بعامل الثقة([3]). وساعد على ذلك أن الآليات الديمقراطية تسمح بتصحيح الأخطاء –حال وقوعها- عبر الانتخابات والحوار المجتمعي وحرية تداول البيانات والشفافية وحرية الإعلام([4]).

ثالثا- ليس هناك توافق أكاديمي حتى الآن حول الآثار السياسية لكوفيد 19 على النظم من داخلها؛ فقد أثبتت الدراسات الراصدة للرأى العام على شبكات التواصل الاجتماعي تباينًا واضحًا في تأثير الأزمة على الدعم السياسي للنظم أو للأحزاب الحاكمة؛ ففي بعض الدول كانت النتيجة لصالح مزيد من تماسك القاعدة السياسية والمجتمعية للنخب الحاكمة؛ وفي أخرى: العكس. فعلى سبيل المثال، في كندا زاد تماسك القاعدة السياسية للحزب الحاكم والدعم المجتمعي للحكومة، وأيضًا على المستويات المحلية الألمانية في بافاريا أفادت الأزمة شعبية الحزب الحاكم. وخلصت هذه الدراسات إلى أن أزمة الوباء دعمت من الوضع الديمقراطي القائم. كما أظهرت دراسات إحصائية في 15 دولة أوروبية أن نسبة التأييد لأحزاب الزعماء الحاليين (رؤساء أو رؤساء وزارة) قد زادت بنسبة 4% بعد الإغلاق، وأن نسبة الرضاء بالديمقراطية والثقة في الحكومة زادت بنسبة 3%. ولم يكن الموقف من الإغلاق مؤثرًا على أو متأثرًا بأيديولوجية الأفراد، فبدا أن الأغلبية أدركت أن الإغلاقات كانت ضرورية وأنها راضية عن المسؤولين عنه. في حين أنه على الجانب الآخر فإنه بالعكس، أشارت دراسة أخرى إلى ظهور نزعة قومية في إسبانيا مع مطالب متزايدة لنمط “تكنو-سلطوي” في صناعة القرار. أما في الولايات المتحدة فإن مساندة قرارات العزل والإغلاق ارتبطت بقوة بالانتماء الحزبي. ومن الأدلة على ذلك أن الانتماء الحزبي لحاكم الولاية الذي يعلن عن الإغلاق كان مفتاح درجة الالتزام به وقبوله من عدمه. وجميعها نتائج تشير إلى بداية تحول في السلوكيات الديمقراطية([5]).

 

أولًا- العملية الانتخابية وحق المحاسبة السياسية

تداول السلطة والرقابة الدورية على الحكومات عبر العمليات الانتخابية هي الضمانة الأولى لإنزال حق الشعوب في المحاسبة السياسية لحكامها على أرض الواقع. حيث تظل الانتخابات ركيزة هامة (وإن كانت غير وحيدة) للأداء الديمقراطي لأي نظام سياسي. فرغم كثير من المآخذ المرصودة في العمليات الانتخابية حول العالم -حتى الجزء الديمقراطي منه-، تظل الآلية الأفضل لتحقيق تداول سلمي للسلطة وفرض رقابة الشعب على الحاكم وتمكينه من محاسبة حكومته. وتعرضت هذه الآلية لتحديات كبرى على إثر الإجراءات المفروضة لمواجهة انتشار فيروس كورونا، وذلك على أكثر من مستوى، مستوى إجرائها من عدمه، ومستوى كيفية إجرائها، ومستوى مشاكل إجرائها، ومستوى مصداقية نتائجها.

بسبب الإجراءات الوقائية تعثرت بشكل كبير الانتخابات حول العالم. ففي الفترة من 21 فبراير إلى 20 سبتمبر 2020 قرَّرت على الأقل إحدى وسبعين دولة تأجيل عمليات انتخابية كان من المقرَّر إجراؤها سواء انتخابات عامة أو محلية، منها حوالي 38 انتخابًا رئاسيًّا أو برلمانيًّا أو استفتاءات. وفي المقابل قرَّرت إحدى وستون دولة أخرى إجراء الانتخابات في موعدها رغم المخاوف من انتشار المرض، منهم على الأقل 46 انتخابًا عامًّا أو استفتاءً([6]). ومن ناحية أخرى، رصدت كثير من الدراسات تراجعًا ملحوظًا في نسب المشاركة في الانتخابات التي عُقدت في فترة الوباء، منها الانتخابات المحلية الفرنسية في 15 مارس 2020([7])، حيث بلغت نسبة المشاركة فيها 46% مقابل 63.5% في 2014. وبالمثل في إيران انخفضت المشاركة في الانتخابات البرلمانية من 62% في 2016 إلى 43% في 2020 -وانخفضت النسبة أكثر في طهران إلى 25%-، وفي الولايات المتحدة انخفضت في بعض الولايات معدلات المشاركة في الانتخابات الأولية بحوالي 25% عن المرات السابقة). ولا تؤثر المخاوف من الفيروس على الناخبين فحسب، بل على الكوادر المنظمة للانتخابات أيضًا، حيث ينسحب كثيرون منها، حتى إنه تم تأجيل انتخابات أوهايو الأولية عدَّة ساعات حتى يمكن تعويض من اعتذر من المشرفين على التصويت. ومما يزيد الأمور تعقيدًا عدم كفاية المستلزمات الوقائية التي ترسلها اللجان الانتخابية مثل الكمامات والمطهرات، وغياب التدريب لاستخدامها([8]).

ومن بين الدول أيضًا التي أجَّلت انتخاباتها جاءت كل من إيطاليا وصربيا وإسبانيا والمملكة المتحدة وإثيوبيا، ومن المتوقع تأجيل انتخابات أخرى في دول أخرى في المستقبل القريب. وهو ما يعني تجميد حق أصيل للمواطنين في كثير من دول العالم، وهو حق اختيار الحاكم ومحاسبته سياسيًّا. وحتى في حال انعقاد الانتخابات في موعدها يظل لأزمة كورونا تأثيرها على سير العملية الانتخابية ذاتها مثل انخفاض نسب المشاركة خاصة بالنسبة للفئات المهمشة أو لكبار السن. وهذا لم يمنع من ظهور جهود إبداعية للتغلُّب على مقتضيات تلك اللحظة الاستثنائية عبر ابتكار وتطوير أساليب جديدة في الانتخاب مثل التصويت المبكر أو التصويت عبر البريد. وتتَّخذ كوريا الجنوبية الخطوات للسماح لمواطنيها بالتصويت من المنازل أو المستشفيات في الانتخابات البرلمانية القادمة. إلا أن للتصويت الإلكتروني مشاكله، منها تزايد المخاوف من التدخلات الخارجية وتفاوت مستويات البنية التحتية التكنولوجية ما بين الدول([9]). ويتم تقييم التصويت الإلكتروني وفق خمس معايير: التكلفة، المشاركة، الكفاءة، الثقة والأمن. وبسبب الحاجة إلى مستويات متقدمة من التخطيط والإعداد والاختبار، سيكون من الصعب على الدول التي لا تمتلك متطلبات الشبكات الإلكترونية أن تطبق نظام التصويت الإلكتروني حتى لو استمرت مخاطر انتشار الفيروس([10]).

كما تأثَّرت الحملات الانتخابية بغياب المؤتمرات الدعائية بشكلها التقليدى، وتغيرت البرامج الانتخابية بالتركيز على السياسات الصحية كقضية محورية لها الأولوية القصوى، وتراجعت مختلف القضايا الهامة الأخرى. وفي بعض الاحيان سمحت الإجراءت الاستثنائية للحكومة بالتضييق على مرشحي المعارضة وعلى حرية الصحفيين([11]).

كانت الانتخابات الأمريكية من أكثر الانتخابات التي تأثرت بكوفيد 19 على أكثر من مستوى: سواء من حيث القضايا المثارة بالتركيز على السياسات الصحية وعدم المساواة الاقتصادية والعنصرية، أو من حيث أساليب الدعاية وجمع التبرعات التي أضحت تتم عبر الإنترنت. كما اضطرت كثير من الولايات إلى تغيير الكيفية التي يحصل بها سكانها على بطاقاتهم الانتخابية. وتتَّجه حاليًّا العديد من الولايات للتحوُّل إلى نظام الانتخاب عبر البريد، وتسمح بذلك للمواطنيين بالتصويت غيابيًّا بدون تقديم أعذار أو بتحديد كوفيد 19 كسبب طبي مقبول. إلا أن الأمر ما زال يكتنفه الغموض والتباين فيما بين الولايات، ففي يونيو 2020 حكمت المحكمة الأمريكية العليا برفض قضية قدَّمها الديمقراطيون لجعل التصويت في كل أنحاء ولاية تكساس بالبريد. وفي جورجيا، تم إرسال طلب انتخاب لكل ناخب بالبريد في الانتخابات الأولية، إلا أنه لا يمكن تكرار مثل ذلك في الانتخابات الرئاسية. وبعض الولايات مثل كاليفورنيا ونيفادا وفيرمونت سترسل بطاقات الانتخاب بالبريد لكافة الناخبين، لتنضم بذلك لخمس ولايات أخرى تتبع مثل هذا الإجراء، وأخرى سترسل طلبات التصويت غيابيًّا لكافة الناخبين. وبالإضافة إلى مشكلة اختلاف الإجراءات ما بين الولايات، يحذر الخبراء من أنه قد لا يمكن التعامل بسهولة مع فيض البطاقات المتوقع، خاصة وأن متطلبات البريد والأختام والتوثيق تختلف بشكل كبير من ولاية إلى أخرى. كما تتفاوت الميزانيات اللازمة لتوفير الإجراءات الوقائية وملايين الطوابع، ولم يقدم الكونجرس إلا نسبة من التمويل الذي طلبته الولايات. لقد فرض الوباء نقلة مفصلية في أداء الديمقراطية الأمريكية قد لا تعود بعدها إلى سابق عهدها، فالأمر تعدَّى المسألة الإجرائية، لأن التغيير في هذه التفاصيل فتح الباب للتوترات الكامنة أن تخرج إلى العلن، فمسألة تفصيلية مثل التصويت بالبريد كشفت عن أزمة كبرى متوقعة بعدما استخدمها رئيس برؤية وشخصية ترمب للتشكيك في النتائج، أي في العملية الانتخابية برمَّتها. ليظلَّ أكبر تحدٍّ متمثلًا فيما يمكن أن يُثار من شكوك حول نتائج الانتخابات، خاصة وأنه قد لا يمكن تحديد فائز بشكل نهائي في ليلة الانتخابات كما هو معتاد، بل قد يمتد الأمر لأسابيع بل لشهور لإجراء إحصاء دقيق لجميع الأصوات. وأهم فارق بين الانتخابات الرئاسية في نوفمبر القادم وما حدث في الانتخابات الأولية في الشهور الماضية، أنه رغم ما حدث من اضطراب وتأجيل النتائج لأسابيع في الانتخابات الأولية، إلا أنه لم يكن هناك مرشَّح يكرِّر دومًا أن الانتخابات تمَّت سرقتها أو تزويرها كما يفعل ترامب منذ مدة طويلة مشككًا في شرعية التصويت في الانتخابات الرئاسية ومصرًّا على أن التصويت غير مؤمن وأنه سيتم تزوير الانتخابات. حيث يميز ترامب ما بين إرسال بطاقات التصويت لكافة الناخبين وبين التصويت الغيابي عندما يتقدَّم المصوت بطلب للحصول على بطاقته الانتخابية، وهو عكس آراء الخبراء الذين لا يرون فارقًا بين الاثنين يمكن أن ينتقص من درجة تأمين العملية الانتخابية. ولا شك أن تقليل ترامب من الثقة في نزاهة الانتخابات الأمريكية يزيد من احتمالات تعرُّض الولايات المتحدة لأزمة دستورية أو ربما أسوأ([12]).

ثانيًا- السلطوية الجديدة وتقييد الحريات

ظهر اقترابان في التعامل مع فيروس كورونا: الأول- استجابة أمنية سلطوية والثاني استجابة تعلي من حماية المصالح الاقتصادية على حساب اعتبارات الصحة العامة. ويتحرك المعسكر الأمني السلطوي في اتجاه ما يمكن تسميته ب”غلق الديمقراطية”. واعتبرت كثير من الدراسات أن سياسات وسلوكيات كل من أوربان رئيس وزراء المجر ومودى رئيس وزراء الهند مثالين صارخين على ذلك. فقد ضحَّيا بالحريات السياسية تحت مزاعم محاربة الوباء. وبالمثل سمح رئيس الوزراء الكيان الصهيوني نتنياهو بسلطات ضخمة لتتبع ومراقبة المواطنين بدون أي رقابة على مثل هذا الإجراء، وفي الفلبين هدَّد رئيس وزراء دوتيرتو بقانون الطوارئ وأعلن أنه أعطى الأوامر لقوات الأمن بقتل من يخرق حظر التجول. وبخلاف هذا الاقتراب اتجه البعض داخل ذات المعسكر السلطوي إلى التهوين أيضًا من كوفيد 19 ويأتي كل من الرئيسين الأمريكي والبرازيلي في مقدمة هذه الفئة من الحكام، حيث تغلبت مراعاة المصالح الاقتصادية على حماية الأرواح، واستخدم هؤلاء الزعماء توليفة تجمع بين الحديث عن المؤامرات بالإضافة إلى اعتبار الاستهانة بمخاطر هذا الفيروس شكلا من أشكال الرجولة والقوة. ودعت ممارسات هذا المعسكر إلى أن تطفو على السطح ما عرف بالسلطوية الجديدة، والتي قامت في العقد الأخير على تحالفات يمينية منتخية (يمين الوسط واليمين المتطرف) في ديمقراطيات عدَّة خاصة في أوروبا وآسيا، وتتَّسم هذه النظم بثلاث سمات كبرى: رأسمالية الأصدقاء حين تهيمن العلاقة الوثيقة بين المسؤولين السياسيِّين والنخبة الاقتصادية على عملية صنع السياسات وتبدو السلطة أكثر ميلا لمؤيديها، والتآكل الديمقراطي بإضعاف مؤسسات المراقبة، والخطابات إثنية قومية “ذكورية” بتعبئة شعوبية للمجتمع. وقد تجلَّت تلك التوليفة بوضوح في ردِّ فعل الرئيس ترامب على مظاهرات “حياة السود مهمة”، والذي نقل فيها أزمة الديمقراطية الأمريكية إلى مستويات غير مسبوقة من تهديد لثوابت الهوية الثقافية-السياسية. حيث كانت هذه أول مرة يتحدث رئيس أمريكي عن تحريك الجيش لاستعادة الأمن والنظام، كما شجَّعت خطاباته ميليشيات اليمين المتطرِّف على تهديد المحتجِّين من الأمريكيِّين الأفارقة، وعلى الاحتجاج على سياسات الإغلاق. ولكن في المقابل، شكَّل عداء مؤسسات الدولة العميقة لترامب خيطًا رفيعًا واقيًا حاميًا للشعب، مما صعَّب من تعبئة الجيش عسكريًّا ضد مناطق الاحتجاجات، ومنع ذلك الأوضاع من التفاقم في أكبر أزمة يمر بها النظام الديمقراطي الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية([13]). فما زال التحدِّي كبيرًا مع توالي خطابات ترامب المشكِّكة في نتائج الانتخابات الرئاسية القادمة، وهو التشكيك وثيق الصلة بأزمة كوفيد 19، وكلمة السر هنا التصويت بالبريد.

وكرَّس التوسُّع عبر العالم في إعلان حالة الطوارئ من التوجُّه السلطوي الجديد، حيث أعلنت أكثر من خمسين دولة حالة الطوارئ. وكثرت المؤشرات الدالة على محاولات الحكومات حول العالم زيادة قوتها بقدر يفوق الحاجة لمواجهة الأزمة الصحية، ووصل الأمر أحيانا إلى التضييق على المعارضة والتقليل من فرصتها للوصول إلى السلطة، في ظل تراجع آليات الرقابة. وبذلك قد يؤدِّي الوباء في نهاية الأمر إلى زيادة سلطوية النظم الديكتاتورية وتراجع الديمقراطية في الديمقراطيات الهشَّة، وزيادة قوة السلطات التنفيذية في مواجهة السلطات الأخرى في الدول الديمقراطية. وهو ما يمكن اعتباره اتجاهًا عامًّا نحو مركزة السلطة. فقد اتجه كثير من  الزعماء إلى استغلال الأزمة من أجل إضعاف آليات المحاسبة والرقابة المتبادلة، مما أضرَّ بتوازن السلطات. ومن أبرز الأمثلة على ذلك القانون الجديد الذي يسمح لرئيس الوزراء المجري أن يحكم بالمراسيم بدون أي رقابة برلمانية ولأجل غير مسمى. وفي الفلبين مرَّر البرلمان قانونًا يمنح الرئيس دوتيرتي قوة استثنائية غير مسبوقة، وبالمثل في كامبوديا يعطي قانون الطوارئ الجديد للحكومة سلطات غير محدودة كحاكم عسكرى مع تحجيم كبير للحقوق السياسية للمواطنين. وبالفعل استخدمت كثير من أمثال هذه الحكومات الظرف الاستثنائي للجور على الحقوق الأساسية مثل حرية التعبير وحرية الإعلام بذريعة مكافحة “المعلومات المغلوطة” عن الفيروس. فالحكومة الصينية -على سبيل المثال- فرضت رقابة صارمة على أي معلومات تتناول كيفية استجابتها وإدارتها للأزمة وقامت باعتقال الصحفيِّين الذين تحدَّثوا عن القصور وغياب الشفافية خاصة في بداية الأزمة. كما تعرَّض المواطنون والصحفيُّون المنتقدون لأداء الحكومة التايلاندية في محاربة الفيروس لمضايقات وقضايا في المحاكم. وأضحى لرئيس الوزراء الأردني السلطة لتعليق حرية التعبير.

وكرَّس هذا الاتجاه توسُّع الدولة في الرقابة على المواطنين مستخدمة تكنولوجيات جديدة. ففي إسرائيل وكوريا الجنوبية استخدمت الحكومات تحديد المواقع بالتليفونات الذكية لتعقب من تعرَّضوا للعدوى. وفرضت هونج كونج على زائريها الجدد ارتداء أسورة التتبُّع. بينما قامت سنغافورة بعملية مكثفة من اتصالات التتبُّع ونشر البيانات المفصلة عن كل حالة. ورغم أن الرقابة في حدِّ ذاتها ليست ضدَّ القواعد الديمقراطية، إلا أن الخوف يظل من مخاطر سوء استخدامها سياسيًّا، خاصة إذا لم تكن مصحوبة بشفافية وضوابط رقابية تمنع استغلالها لأغراض سياسية. في الهند على سبيل المثال، ضغطت السلطات الرسمية على الصحافة المحلية لتقديم تغطية إعلامية إيجابية عن أداء الحكومة في الأزمة، بالرغم من تطبيق استراتيجيات مثيرة للقلق مثل الطلب من الأشخاص الخاضعين للحظر أن يرسلوا صورًا لأنفسهم “سيلفى”، واستخدام تتبُّع المواقع للتأكُّد من أن هذه الصورة التُقطت في منزل المريض. بل إن الوباء أعطى مبررات لدول مستبدة مثل الصين وروسيا لتطبيق أنظمة تدخلية مثل تكنولوجيا التعرُّف على الوجه والرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي. ومن ناحية أخرى، فإن مخاوف لها وجهاتها ظهرت من إمكانية استغلال النظم الحاكمة لسياسة العزل ومنع التجمُّعات لوقف أي أنشطة احتجاجية، وهو ما حدث بالفعل في الجزائر، فبعد أن أجبرت المظاهرات المستمرة لشهور الدولة على إجراء اصلاحات سياسية هامة، قامت الحكومة بإلغاء جميع اشكال الاحتجاج من وقفات ومظاهرات([14]).

مثَّل عودة الحكومات إلى البؤرة المركزية نهاية مرحلة تراجع الدولة لصالح السوق. فخلال أزمة الوباء حظي رؤساء الحكومات بسلطات لم تتوافر لهم إلا في زمن الحروب. لقد كشفت أزمة الفيروس عن مثالب سياسات السوق الحر، والتي تجلَّت في نهاية الأمر في انهيار النظام الصحى الأمريكي في أزمة صحية كبرى ككورونا. وبدأ الناخبون في أكثر الديمقراطيات تقدما يشعرون بأنهم يدفعون ثمن التصويت لأيديولوجية تفضل “دولة أقل وضريبة أقل”. وتحتاج السوق الليبرالية إلى توافق سياسي كي يستمر ويعمل، ولذا اعتبر البعض أن كوفيد 19 بمثابة هدية للنظم الشعوبية ويكرِّس من الاتجاه ناحية السلطوية القومية. فبدى المناخ مواتيًا لتفضيل إغلاق الحدود للحماية من العالم الخارجي، خاصة مع ميل الرأى العام في أغلب الدول إلى تفضيل الأمن على الحرية([15]).

في أغلب الدول الأوروبية، جاء قرار إعلان الطوارئ وأي من الإجراءات الاستثنائية مثل إجراء الانتخابات أو تأجيلها بناء على توافق سياسي ومجتمعي وأحيانًا في إطار إجماع ، وبمشاركة ودعم المعارضة. ولكن لم يحدث مثل هذا التوافق في بعض الدولة مثل المجر وبولندا –وهي التي اعتبر قرار الاتحاد الأوروبي الصادر في 17 أبريل أن ممارستها منافية للقيم الأوربية. ففي الأولى تم مد حالة الطوارئ لأجل غير مسمى مع إعطاء الحكومة حق الحكم بالمراسيم في ظل إضعاف سلطة البرلمان الرقابية. في حين أن الحكومة البولندية قامت بتغيير القانون الانتخابي بالمخالفة لحكم المحكمة الدستورية، وأقرت قانونًا يقرِّر إقامة الانتخابات الرئاسية وسط وباء ما زال مستشريًا، معرضة حياة المواطنين للخطر ومنتهكة مفهوم الانتخابات السرية المباشرة والحرة والعادلة التي ينص عليها الدستور البولندى([16]).

هذا بالإضافة إلى أن دولًا كثيرة قامت باستدعاء الجيش للمساعدة في جهود مكافحة الفيروس ولفرض حظر جزئي أو كلي مثل إيران وإسرائيل وبيرو، وهو ما قد يفتح الباب أمام مزيد من التدخل العسكرى في الحياة المدنية والاقتصادية. وفي دول أخرى مثل باكستان التي تعاني بالفعل من خلل في توازن القوة بين المدنيِّين والعسكريِّين قد يزداد الصراع بينهما حول أنسب الوسائل لمكافحة الفيروس، وهو ما حدا بالقيادات الأمنية إلى تجاهل رئيس الوزراء المدني والعمل مباشرة مع إدارات المقاطعات على المستوى المحلي. كما بدا في إيران أن الجيش يكتسب مساحات أكبر من النفوذ في اتخاذ قرارات التعامل مع الأزمة. وفي الدول ذات تاريخ في انتهاكات حقوق الإنسان، شهدت الأيام الأولى من مواجهة انتشار الفيروس خروقات من رجال الشرطة والجيش في فرض حظر التجول في دول مثل كينيا([17]).

لقد قيَّدت سلطات الطوارئ في دول العالم -حتى الديمقراطية منها- كثيرًا من الحقوق الأساسية مثل حرية الحركة والتجمع. كما أن لنظام تتبع جهات الاتصال وتعقُّب المواقع  تأثيرات سلبية على مبدأي احترام الخصوصية وحماية المعلومات. وقد استحدثت عقوبات الغرامة والسجن للمخالفين للإجراءات الوقائية المفروضة من الدولة، وتم تعليق اللجوء في كل أوروبا، وحتى السجناء عانوا من انتهاك لعدد من حقوقهم منها منع الزيارات عنهم. وتم تعليق عمل القضاء في كثير من البلدان. واستغلت بعض الحكومات مناخ الأزمة الضاغط لتمرير قوانين جدلية تنتهك حق حرية التعبير. وتقدَّمت بعض الدول في الاتحاد الأوروبي مثل إستوانيا ورومانيا ولاتفيا بطلب للمجلس الأوروبى للخروج من مجلس حقوق الإنسان الأوروبي. وسواء تم إعلان حالة الطوارئ أم لا، فقد اتبعت جميع الدول نفس السياسات التقييدية. وما ضاعف من وطأة هذه الإجراءات على حقوق الإنسان هو غياب البرلمانات، والتى اضطر كثير منها لتعليق أو تأجيل أو تخفيض عدد جلساتها في إطار عملية إعادة هيكلة أنشطتها ليس لإعلان حالة الطوارئ فحسب ولكن لأسباب الوقاية الصحية أيضًا. وكثير منها لجأت إلى الاجتماعات عبر الإنترنت وللتصويت عن بعد([18]).

وأصدرت كل من بلغاريا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا وإسبانيا قوانين جديدة تجبر مقدِّمي خدمات الاتصالات على مشاركة بيانات عملائها مع سلطات الدولة. على سبيل المثال تم تحديد شركة تليكوم بشكل خاص في بلغاريا وسلوفاكيا لإجبارها على إعطاء البيانات الشخصية مثل تحديد المواقع عند طلب الجهات الرسمية، وفي جمهورية التشيك وحدها يُتطلب موافقة المستخدم على ذلك. وفي كل من النمسا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا تم الإعلان عن أن شركات الاتصالات ستشارك بيانات المواقع المُجهلة مع السلطات الحكومية من أجل رصد خريطة الحركة وأماكن تركز الأفراد. في حين طوَّرت بولندا تطبيقًا إجباريًّا يحدد مواقع الأشخاص الخاضعين للعزل مع إرسالهم صورًا ذاتية لأنفسهم “سيلفي”. أما قبرص فعمَّمت تطبيقًا لتتبُّع الأشخاص العاملين خارج منازلهم. ويتم استخدام الطائرات المسيرة في بلجيكا وفرنسا وإيطاليا لإعلام الناس عن أماكن التجمعات ومراقبة مدى الالتزام بسياسات التباعد الاجتماعي([19]).

وتظل إشكالية الموازنة ما بين محاربة تضليل الرأى العام من جانب وبين عدم انتهاك حرية التعبير من جانب ثان قائمة. ففي الوقت الذي تبنَّى فيه الاتحاد الأوروبي حملات لمواجهة الأخبار الزائفة والمعلومات المضلِّلة (التي اعتبر مصدرها دولًا أجنبية مثل روسيا والصين) وتعاون في تلك الحملات مع الشركات الخاصة لإكسابها الفعالية المطلوبة، أظهر أيضًا قلقه من بعض الحملات الوطنية التي تهدف إلى تجريم “الأخبار الزائفة”. وانتقدت المنظمات الدولية أحد القوانين الصادرة في بلغاريا باعتباره ينتهك حرية التعبير ويساهم في جمود الصحافة. وبالمثل، أصدرت رومانيا مرسومًا يسمح للسلطات بمحو أي محتوى على مواقع التواصل الاجتماعى وحظر المواقع التي نشر عليها مع سلب حق استئناف هذا القرار. كما تم رصد منع الصحفيِّين من الحصول على المعلومات من الجهات الصحية في كل من إيطاليا والتشيك. وفي المقابل دافعت كل من إيطاليا والدنمارك عن حرية التعبير ضد التدخلات الخارجية كرد فعل رافض لتهديدات السلطات الروسية  لصحفي حقَّق في المساعدات الروسية المقدَّمة لإيطاليا([20]).

لا يمكن اعتبار أي تدخُّل حكومي مهما كان قاسيًا بأنه غير ديمقراطي، إذ العبرة بمدى الحاجة إليه وقوة السبب الدافع لمثل هذا التدخُّل، والسؤال يصبح هل هذا الإجراء يخدم عملية مكافحة الفيروس؟ وهل سيظل تشريعه وتنفيذه محكومًا بحكم القانون؟ فالتوافق وعدم احتكار جهة بمفردها لاتخاذ القرار من ضوابط تدخُّل الدولة حتى  لا يتنافى تدخُّلها مع القيم والأعراف الديمقراطية. على سبيل المثال أراد وزير الصحة النمساوي أن يُصدر ما عرف “بقانون عيد الفصح”، والذي بمقتضاه يحق لرجال الشرطة دخول المنازل بدون إذن للتأكُّد من أن العائلات غير مجتمعة للاحتفال بهذا العيد. وهذا الإجراء رغم انتهاكه الواضح للخصوصية، إلا أنه يمكن اتخاذه في نظام ديمقراطي على شرط موافقة البرلمان وقبول الرأي العام، وهي شروط لم تتوافر لهذا القانون ولذا تم إلغاء هذا المشروع بسبب الاحتجاجات الكبيرة عليه من المعارضة ومن المجتمع المدنى([21]).

فعند تقييم مدى تأثير إجراءات مكافحة كوفيد 19 على حقوق الإنسان ومنها حرية الحركة والتعبير والخصوصية وغيرها، من المهم التمييز بين النظم بحسب مستوى الديمقراطية، ففي الدول راسخة الديمقراطية مثل فرنسا والنرويج والدنمارك يتم صياغة هذه الإجراءات عبر عملية ديمقراطية وتقوم بتطبيقها مؤسسات ديمقراطية ويكون لها تاريخ محدَّد، تعود الأمور لطبيعتها بعده. بينما يختلف الوضع في الديمقراطيات الهشة أو التي شهدت تراجعًا حسب بعض التقارير، فالتحديات تكون في هذه الحالة أكبر، بالنظر إلى المستويات الأعلى من عدم المساواة والمستويات الأقل من شبكات الرعاية الاجتماعية والخدمات العامة، بالإضافة إلى مشاكل متعلِّقة بالشرعية، ولذا قد تتراجع مؤشرات الديمقراطية، لأن مثل هذه الإجراءات ستضعف أكثر مؤسسات مثل البرلمان والإعلام وأحزاب المعارضة والمحاكم([22]).

رغم أن تطبيقات التعقُّب هي التي سمحت بإعادة فتح الاقتصاد وتخفيض المخاطر الصحية، إلا أن الخوف من آثارها السياسية يظل قائمًا، ومن بين هذه المخاوف سبل تأمين البيانات، وهل يمكن جعل هذه التطبيقات إجبارية في المستقبل، وهو ما يؤثر سلبًا على الحريات والحقوق الدستورية للمواطنين. ولذا أثيرت المخاوف من أنه باستمرار تطبيق تلك الأنظمة قد يكون إيذانًا بتغيير نمط الحياة الغربية ذاتها، فيجد الأوروبيون والأمريكيون أنفسهم يعيشون مثل الصينيِّين، حيث كل شيء مراقب ويتم بإملاء فوقي مركزي يحدِّد من له حق السفر أو حتى من له أولوية الحصول على الخدمات الصحية([23]).

ثالثًا- تماسك الجبهات الداخلية.. تحديات سياسىية ومجتمعية

في مناخ أزمة كوفيد 19، طفت على السطح بقوة الانقسامات السياسية والمجتمعية والتجاذبات ما بين مستويات إدارة الدولة المركزية والمحلية. فقد مثَّل الوباء ضغطًا على التماسك السياسي والمجتمعى في بعض الدول، حيث تباينت وطأة الأزمة الصحية على ثنائيات رئيسية مثل الفقراء والأغنياء، والمدن والريف، والمناطق في مواجهة بعضها لبعض داخل الدولة، والمواطن والمهاجر، وجميعها مثَّلت حدودًا لصراعات تمَّ شحذها للكشف عن شروخ كامنة في المجتمعات على اختلاف درجة تقدُّمها أو مرجعيَّتها الثقافية. فقد كشف الوباء عن استقطابات سياسية واجتماعية موجودة بالفعل، لم يُنشئها ولكنه بلورها. فكثير من الديمقراطيات مثل الهند وبوليفيا وبولندا والولايات المتحدة تعاني من تنامي التوتُّرات ما بين المعسكرات السياسية المتنافسة. وتزداد الأزمة سوءًا مع اختلاف الأطراف السياسية حول مدى خطورة الوضع أو حول أنسب الطرق للتعامل معه، وتتصاعد أجواء التوتُّر مع اعتماد الأفراد بشكل متزايد على التواصل عبر الإنترنت بينما يظلُّون في عزلة في منازلهم، وبينما تستخدم الحكومات الأزمة لتطبيق أجندات حزبية. وهو ما حدث في الولايات المتحدة حيث إن الانتماءات السياسية الحزبية حدَّدت إلى حدٍّ كبير درجة الثقة في الحكومة وكيفية تقييم المخاطر التي يمثلها الفيروس. وفي البرازيل، كان إنكار الرئيس بولسونارو لخطورة الأزمة سببًا في احتقان الانقسام السياسى في البلاد([24]).

ومن الأوجه الأخرى للتماسك الداخلي: العلاقة بين المحلي والمركزي، حيث أعادت الأزمة تشكيل العلاقة بين السلطات المحلية والحكومة المركزية أو بين المقاطعات الإقليمية والحكم الفيدرالي في كثير من الدول. فقد وجد المسؤولون المحليون أنفسهم في الخطوط الأمامية لمواجهة الأزمة على الأرض، يدعمون السياسات المركزية أحيانًا ويتحدُّونها أحيانًا أخرى أو ينافسونها. في أفغانستان حيث حضور السلطة المركزية ضعيفًا في الأطراف، اتجه حكَّام الولايات إلى تقديم مساعدات عاجلة للمرضى للبقاء في منازلهم، وقاموا بدعم السياسات المركزية. بينما في مناطق أخرى من العالم ظهرت انقسامات ما بين المسؤولين المحليين والحكوميين. في بلغاريا حيث يسيطر حزب المعارضة على المحليات في المدن الرئيسية، اتخذت الحكومة المركزية عدة إجراءات تقلِّل من سلطات العُمد خلال فترة الطوارئ. في المقابل، هاجمت الإدارات المحلية خطة الحكومة في مواجهة الفيروس، فتراجعت عنها الأخيرة حتى لا يؤثِّر هذا الخلاف سلبيًّا على فاعلية التعامل مع الأزمة. وفي تركيا عادت للظهور التوترات ما بين أردوغان وعمدة إسطنبول القادم من حزب المعارضة، والذي فرض إغلاقًا للمدينة بخلاف توجيهات الحكومة المركزية، وأطلق حملته الخاصة لجمع التبرعات. وبالمثل كرَّست الأزمة من الخلافات بين ترامب وعدد من حكام الولايات الديمقراطيِّين المنتقدين لطريقة تعامله مع أزمة كورونا. وتعدَّدت أشكال الشدِّ والجذب بين المستويات المحلية والمركزية للحكم. وتؤثِّر هذه التجاذبات على علاقات القوة الداخلية في الدولة، إما في اتجاه تقوية السلطات المحلية وشرعيتها على حساب المركزية، أو في اتجاه مزيد من التشرذم، خاصة إذا ما تطابقت هذه الانقسامات ما بين الحكومات والقيادات المحلية مع الخطوط الأيديولوجية أو الإقليمية أو ما بين الريف والمدن أو ما بين الأغنياء والفقراء أو ما بين الأجناس، وهنا يزداد الاستقطاب السياسي الموجود بالفعل([25]).

ومن الأبعاد الأخرى الهامة للعلاقة بين المحلي والمركزي، دور القوى المجتمعية أو الفواعل من غير الدولة، حيث قامت مؤسسات المجتمع المدني على المستويات المحلية بأدوار هامة في مواجهة الفيروس مثل ما حدث في سيراليون وأيضًا أفغانستان التي أطلقت فيها طالبان حملة للتوعية بسبل مكافحة الفيروس، وتعاونت هذه الفواعل مع منظمة الصحة العالمية. بل إن عصابات المخدرات في ريودي جانيرو كان لها دور حاسم في فرض حظر التجول في بعض المناطق، وأمَّدت القيادات المحلية بكميات من الصابون لتوزيعها، حتى إنها انتقدت أيضًا تقصير الحكومة البرازيلية. ومن تلك المشاهد أيضًا أنه في لبنان قام حزب الله -عبر شبكة متطوِّعين بلغت حوالي 25 ألف متطوِّع- بجهود ملحوظة في مكافحة الفيروس عبر الإمدادات الطبية، وتنظيم مراكز الاختبار الجديدة وسيارات الإسعاف وتجهيز إحدى المستشفيات للتعامل مع مرضى كورونا، وأعلن الحزب أن تلك الجهود مكمِّلة للجهود الحكومية([26]).

لقد زادت مساحات التعبير والمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي خاصة من قوى المجتمع المدني، إلا أنها تظل متأثِّرة بمستوى تقدُّم الخدمات السيبرانية في الدولة وبمستوى الرقابة والتحكُّم في وسائل التواصل الاجتماعي. فقد وفرت الأزمة فرصًا متفاوتة للفواعل من غير الدولة للعمل، وبشكل أوضح على مستوى المجتمعات المحلية. ففى الصين على سبيل المثال، نظم الطلاب حملة على وسائل التواصل الاجتماعي لجمع تبرعات للمستشفيات، ونشروا شكوى عن أن المساعدات الحكومية تؤول للمسؤولين الحكوميين أكثر من المستشفيات. وبالمثل نظَّمت الجامعات في الفلبين مع بعض مؤسسات المجتمع المدني حملات لمساعدة الجماعات المهمشة التي تأثرت بالإغلاق الحكومي. وظهرت حركات مماثلة في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا والكونغو وأفغانستان. ولكن من الملاحظ أن معظم هذه الأنشطة تمَّت على المستويات المحلية أكثر منها على المستوى المركزي في الدولة([27]).

إلا أنه في الدول الهشَّة أو منخفضة الدخل، قد تتَّجه الحكومات المركزية للسيطرة على قوى المجتمع المدني التي إن زاد دورها عن حدٍّ معيَّن قد يكون ذلك بمثابة إدانة لتقصير الحكومة المركزية ويعيد تشكيل شرعيَّتها في عيون المواطن وتوقُّعاته منها([28]). من جانب آخر، ساهم نشاط قوى المجتمع المدني كصفوف أمامية في مواجهة الفيروس في تقوية الحياة الديمقراطية خاصة على المستويات المحلية. وهو ما يوازن نسبيًّا التوسُّع المتسارع في السلطات التنفيذية حول العالم والذي يؤثِّر سلبًا على مساحات الحرية في المجال العام([29]).

تختلف أنماط العلاقة بين المستويات المركزية والمحلية في الدول الفيدرالية، وغالبًا ما تكون العلاقة تعاونية كما اتَّضح في الحالتين الإيطالية والإسبانية. ولكن في دول أخرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والبرزيل أجبرت الحكومات الفيدرالية السلطات المحلية على لعب أدوار رئيسية خلال الأزمة. على سبيل المثال، في البرازيل لم يكن لحكام الولايات لعقود نفوذ في السياسات العامة، إلا أن خلافاتهم مع الرئيس البرازيلي حول إجراءات التباعد الاجتماعي وحَّدت كثيرًا من الناس حولهم وحازوا ثقتهم، بينما تراجعت شعبية الرئيس. ومن ناحية أخرى، سمح هيكل توزيع السلطات في النظم الرئاسية للرؤساء خلال الأزمة أن يتَّخذوا قرارات لإبعاد من يعارض رؤيتهم من داخل الحكومة. فقد أقال الرئيسُ البرازيلي وزيرَ الصحة -المختلف معه في كيفية معالجة الأزمة- ليقوم بتعيين عسكري مكانه قريب من فكره، وسعى لسحب البساط من تحت أقدام قادة السلطات المحلية([30]).

أما فيما يخص العلاقات بين المركز والأطراف، فقد مثَّلت الولايات المتحدة أيضًا حالة كاشفة لأزمة بنيوية كامنة في التفاعلات والعلاقات البينية للدولة الفيدرالية. فقد أعادت أزمة كورونا الجدل حول العلاقة بين الولايات والسلطة الفيدرالية، كانت حكومات الولايات هي أول من تحرَّك لمكافحة انتشار الفيروس، فقد جاء تحركها أسرع من الحكومة الفيدرالية في إعلان حالة الطوارئ وفرض قيود على الانتقال. وحتى بعد أن بدأت إدارة ترامب في التعامل مع الأزمة بجدية أكبر واتَّجهت للتعاون مع الكونجرس، كثيرًا ما غاب الاتفاق بينها وبين السلطات المحلية على مستوى حكام الولاية أو المقاطعات أو المدن حول الإجراءات الواجب اتباعها. وزادت الفجوة لكون الديمقراطيِّين أكثر دعمًا من الجمهوريِّين لدور أكبر للحكومة الفيدرالية. ومثَّل النموذج الأمريكى ما يشبه الاستثناء بين أغلب الدول -حتى تلك التي تطبق نظمًا غير مركزية مثل ألمانيا وإيطاليا-، فالاتجاه في هذه الدول مالَ بقوة ناحية نموذج مركزية صنع القرار، الذي فيه تصنع السياسة من أعلى إلى أسفل.

ولكن من ناحية أخرى، لم يكن الاقتراب الحزبي للنظر إلى أداء الدولة (على المستوى المركزي أو المحلي) وانتشار المعلومات المغلوطة واستخدامها لأغراض سياسية حكرًا على الساحة الامريكية، إنما ظهرت مثل هذه الأمور أيضًا في البرازيل وتركيا وروسيا وأيضًا بين بعض الأحزاب الصغيرة في أوروبا. لقد انتشرت الأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة، منها على سبيل المثال: ربط انتشار الفيروس بتكنولوجيا الجيل الخامس وهو ما تسبَّب في مئات الحوادث مثل إشعال النار في الأبراج اللاسلكية في عدَّة بلاد([31]).

لقد كشفت أزمة كورونا عن بداية تفكُّك القاعدة المشتركة للهوية السياسية والثقافية داخل المجتمعات الغربية، خاصة الولايات المتحدة التي تزامنت تداعيات الأزمة فيها مع وجود رئيس شعبوي مثل ترامب، الذي انطلق من مخاوفه من التصويت بالبريد إلى الحديث لأول مرة في التاريخ الأمريكي عن احتمالات عدم تسليمه للسلطة لشكِّه في تزوير التصويت عبر البريد (وهو التزوير الذي يحدث فقط حال خسارته وليس فوزه بالطبع). إن التباين الأيديولوجي ما بين الأحزاب تخطَّى مرحلة الخلاف السياسي إلى شقِّ الصف الحضاري والنسيج المجتمعي، فالاجتماع حول ثوابت حضارية كان الضمانة لإدارة أكثر عدالة للخلافات السياسية وهو الأمر الذي بات مهددًا الآن في ظل انتخابات رئاسية أمريكية مع كورونا والأخطر مع رئيس شعبوي ذي توجُّهات سلطوية.

كما كشفت الأزمة أيضًا عن عمق الانقسامات الاجتماعية والثقافية، وهو الانقسام الذي اتَّضح أكثر في الدول الغربية لأن المناخ الديمقراطي سهَّل أكثر من رصده وسمح بارتفاع الأصوات بالاحتجاج والاعتراض. وقد كرَّست عدم عدالة السياسات الاجتماعية من هذه الانقسامات لتظهر تداعياتها بوضوح عند مواجهة وباء مثل كوفيد 19. وهو الأمر الذي أبرز انتهاك حق أصيل من حقوق المواطنة وهو حق المساواة، ليس في الدول الاستبدادية فحسب ولكن في أعْتى الديمقراطيات أيضًا. ودلَّت خريطة الإصابات الجغرافية والعمرية والفئوية على فروقات خطيرة تجسَّدت في تفاوت الخدمة الصحية في داخل هذه الدول.

وللتداخل ما بين المجتمعي والسياسي، كان لخريطة القوى السياسية في المجتمع دلالاتها أيضًا في قضية عدم المساواة. ومرة أخرى مثَّلت الحالة الأمريكية مثالًا واضحًا على ذلك. فهناك فروقات في الواقع بين المناطق المؤيدة للديمقراطيِّين والأخرى المؤيِّدة للجمهوريِّين. فالأولى أكثر تضرُّرًا بالوباء، بينما الجمهوريون غالبًا ما يعيشون في مناطق لم ينتشر بها الفيروس، ولذا فإن المعسكر الجمهوري هو الأكثر شعورًا بالثمن الاقتصادي للإجراءات الوقائية والعزل. فوفق تحليل “نيويورك تايمز” لم يُسجل في المقاطعات التي انتخبت ترامب إلَّا 27% من الإصابات و21% من الوفيات رغم أنه يعيش بها حوالي 45% من الأمريكيِّين، كما أن الأمريكيِّين من أصول أفريقية أو من أصول لاتينية هم الأكثر إصابة بالفيروس وموتًا به، وأكثرهم محسوبون على المعسكر الديمقراطي. وساهم هذا التباين في نسب الوفيات إلى الخلاف الكبير حول مخاطر المرض والسياسات الواجب تبنِّيها للتقليل من انتشاره([32]).

رغم إنفاق الولايات المتحدة على الصحة ضِعف النسبة من الناتج القومي التي تنفقها الدول المتقدِّمة الأخرى، إلَّا أن أداء نظامها الصحي كان سيئًا خلال الأزمة. ورغم أن الولايات المتحدة بدأت حملات للحرب على الفقر منذ أكثر من ستين عامًا وأنفقت مليارات الدولارات عليه، إلَّا أن المجتمعات المستهدفة من هذه البرامج ظلَّت ترزخ تحت نير الفقر، وظلَّت الفجوة في الدخول وما بين المناطق بل زادت. ووجَّه الوباء مزيدًا من الانتباه إلى معضلة عدم المساواة وإلى الحاجة لزيادة دخول الأُسر والمناطق المهمَّشة([33]).

لقد احتلَّت مسألة عدم المساواة في الخدمات الصحية أولوية كبرى في أجندة الديمقراطية الاجتماعية في دول أوروبية مثل بريطانيا والسويد. إلَّا أن اتجاه سياسات الليبرالية الجديدة لتقليص الإنفاق أثَّر على النُّظم الصحية التي أنشأها الديمقراطيون الاجتماعيون في الأربعينيات. على سبيل المثال عانى نظام الرعاية الصحية الإيطالي جرَّاء سياسات الخصخصة وتخفيض الميزانيات المتكرِّر، هذا بالإضافة إلى أن الكساد ساهم في تكريس عدم المساواة. فلم يعد الفقراء قادرين على البقاء في المنازل حتى لو ظهرت أعراض المرض عليهم. وفي نفس الوقت تحُول المشاكل الاقتصادية دون توفير المتطلبات التكنولوجية اللازمة للعمل من المنازل ومساعدة الأطفال الذين أغلقت مدارسهم. وإلى جانب ذلك فقد كشف النقص الكبير في أجهزة التنفُّس عن عيوب هيكلية في ترتيب أولويات صنع قرار الحكومات الغربية، الذي أعطى الأولوية لإنتاج ما هو مربح على حساب ما هو ضروري وأساسي. وجميعها عوامل تشجع على عودة التيار الديمقراطي الاجتماعي بقوة على الساحة السياسية، فآليات السوق لم تستطع أن تتكيَّف مع مقتضيات الأزمة، وبدت الحاجة أكبر لتدخُّل الحكومة أكثر من أي وقت مضى. وفي بعض الدول مثل السويد تم استحضار القيم الديمقراطية الاجتماعية مثل التضامن والرعاية المجتمعية، وإيمانًا بقوة هذه القيم لم ترَ الحكومة السويدية ضرورة التطبيق الصارم لسياسة الإغلاق لفرض التزام المجتمع. وحكومات ديمقراطية اجتماعية أخرى مثل الدنمارك كانت أول من قدَّم أجورًا لدعم من فقد عمله. ولكن لعل الحاجة إلى حكومات ديمقراطية اجتماعية لن تكون ملحة كما هو متوقَّع بالنظر لما قامت به حكومات محافظة مثل تلك الموجودة في بريطانيا وألمانيا وأستراليا التي تخلَّت عن قيود السياسات المالية لليبرالية الجديدة واتجهت لإنفاق المليارات على مواجهة الوباء ودعم الاقتصاديات المنهارة.

ولا يمكن تجاهل حدوث عملية تسييس للوباء في بعض الدول، منها: الولايات المتحدة والهند والبرازيل، مثال ذلك رفض ترامب مد حكام الولايات الديمقراطيِّين بالمستلزمات الطبية المطلوبة، بل حتى عمل على إعاقة تلك المرسلة من قبل القطاع الخاص. كما أنه دعم التيارات التي تقاوم فكرة البقاء في المنازل -خاصة في الولايات تحت سيطرة الديمقراطيِّين مثل ميتشيجان ومينيسوتا-. وبالمثل، اتَّبع الرئيس البرازيلي نفس السياسات ولكن بطريقة أكثر مباشرة وبشكل أوتوقراطي واضح. أما عن رئيس وزراء الهند مودي، فإلى جانب تطبيق سياسات إغلاق غير مدروسة تركت ملايين من الهنود الفقراء بدون عمل أو طعام بين ليلة وضحاها، استخدم الفيروس لخدمة سياساته المعادية للمسلمين([34]).

رابعًا- الشفافية وحق المعرفة:

في التقييمات المبكرة لنماذج إدارة أزمة كورونا، غاب عامل هام هو مدى وضوح سياسات الدولة واتِّساقها وعدم تخبُّطها. إنه معيار الشفافية الذي يحمي حقًّا أصيلًا من حقوق المواطن وهو حقه في المعرفة. ومع غياب هذا المعيار (الشفافية) وانتهاك هذا الحق (المعرفة)، يهتزُّ مبدأ أصيل من مبادئ الإدارة الرشيدة اللازمة وهو الثقة، فالثقة هي التي تيسِّر من عملية احتواء خطر المرض بالتزام أكثر سلاسة من المواطنين بالإجراءات الوقائية المطلوبة، وبالتالي أقل كلفة، مع قدرة أكبر على رقابة الأداء وتقييمه بموضوعية أدق.

لقد ظهرت أصوات عدَّة ترى أن امتلاك الدولة السلطوية ميزة التحرُّك السريع للتعامل كان عاملًا حاسمًا في نجاح الصين في القضاء على الوباء، إلا أنه في المقابل تغفل تلك النظرة أنه لو كانت الشفافية حاضرة منذ البداية لما كانت إجراءات الغلق والعزل ضرورة من الأساس. واتَّضحت أهمية الشفافية في مكافحة الفيروس في النمسا أيضًا، فعندما لم يتم الغلق السريع لأماكن قضاء العطلات في الجبال التي ظهر بها المرض ومنع السفر منها وإليها، كانت النتيجة انتشار الفيروس في مناطق أخرى بأوروبا([35]).

ففي الإجابة عن تساؤلٍ رئيس: هل النظم السلطوية أم الديمقراطيةكانت أنجح في إدارة أزمة كوفيد 19؟ ظهر سيل من الدراسات والتقارير والتغطيات الإعلامية التي ترجِّح كفَّة النمط الأول من النظم مستخدمين في أغلب الأحوال النموذج الصيني كدليل على النجاح في احتواء الوباء. ويتبلور هذا النجاح أكثر إذا ما قورن بمؤشِّرات فشل تعامل النمط الثاني من النظم. إلا أن هذه الخلاصة تجاهلت عاملًا رئيسًا آخر بخلاف القدرة على السيطرة وفرض السياسات بالسرعة المطلوبة التي تمتاز بها النظم السلطوية، ألا وهو عامل الشفافية الذي له تأثير على مستوى احتواء الأزمة منذ بدايتها لمنع انتشار المرض في المقام الأول، وله تأثير أيضًا في الكشف عن الأعداد الحقيقية للإصابات والوفيات التي هي من أهم مؤشِّرات قياس النجاح في التعامل مع الوباء في مراحله المختلفة. فأرقام دول مثل الصين وروسيا تظل دوما محل شك، كما أنه من المؤكَّد أن تأخُّر الصين في الاعتراف بالمشكلة يظل من الأسباب الجوهرية لانتشار المرض خارجها بهذه المعدلات، بل وانتشار المرض في الصين ذاتها خارج مقاطعة ووهان. وتعدَّدت الدلائل على عدم دقَّة البيانات الحكومية الصينية، منها تقارير أشارت إلى رفض المستشفيات استقبال مرضى جدد بعدما أعلنت الحكومة عن “صفر إصابات” حتى تحافظ على إنجازها المعلن. كما أن استمرار بكين وشنغهاى ومناطق صينية أخرى في حظر دخول سكان ووهان يشكك في صحة تلك الدعاية الحكومية. هذا بالإضافة إلى أن الأرقام الرسمية محل شك كبير سواء الخاصة بالمصابين أو بالوفيات، حيث إن الصين لا تحصِي إلَّا من تظهر عليهم الأعراض بينما باقي العالم يحصي من جاءت نتائج اختباراته إيجابية بغض النظر عن ظهور أعراض من عدمه. أمَّا عن الوفيات، فمن الملاحظ أنه في أواخر مارس 2020 بعد السماح لأهالي المتوفين في ووهان بدفن أقربائم تحت رقابة أمنية مشدَّدة، اتَّضح الفارق الشاسع بين الأرقام المقدَّرة بناءً على الأعداد التي تمَّت لها مراسم الجنازة وهي حوالي 64 ألفًا في ووهان وحدها وبين الرقم الرسمى المعلن وهو 2535 حالة وفاة. وإذا كانت الإحصائيات السابقة تشير إلى أن عدد الوفيات في ووهان في الظروف العادية عن نفس الفترة تدور حول رقم خمسة آلاف حالة وفاة، يصبح الرقم الأقرب للواقع هو 59 ألف وفاة بفيروس كورونا، وبتطبيق هذا التصور على باقي أنحاء الصين فإن الرقم المقدَّر للوفيات في الصين هو مليون ومئتي ألف([36]).

ثم إذا ما قارنَّا الأداء الصيني بما تمَّ في تايوان، وهي المقارنة التي لها دلالتها حيث تشترك تايوان مع الصين في الجغرافيا وفي ميراث تاريخي وثقافي واحد بل وصحي أيضًا حيث تعرَّضت تايوان مثل الصين لأزمة فيروس سارس، وتعرَّضت سابقًا لمعلومات مضلِّلة أو لحجب معلومات من الصين مما خلق عندها منظومة تحذير مبكِّر جيدة؛ سنلاحظ أن تايوان كنموذج ديمقراطي كان أداؤها لا يقل عن الصين بل يفوقها في نواحي كثيرة. حيث أسرعت الحكومة التايوانية بإنشاء مركز لإدارة أزمة الوباء، وأوقفت الرحلات من ووهان منذ 26 يناير. ووزَّعت مستلزمات الوقاية بكميات كبيرة مع وضع عامل الزمن وحجم السكان في الحسبان (6.5 مليون كمامة و84 ألف لتر مطهِّر)، وفعَّلت أنظمة المراقبة في المطارات وتكنولوجيا التعقُّب وتوفير بيانات طبية دقيقة، ونجحت بالفعل في منع انتشار المرض. وكان اتسام تايوان بالشفافية والتواصل المفتوح هو ما سمح بالاستجابة المرنة الناجحة والأكثر فعالية في مواجهة الفيروس من اقتراب الصين الذي وصفه البعض “بالتدخُّل الغازي”. وقد أفاد هذا الأسلوب التايواني المنفتح في إدارة الأزمة، ليس في تايوان وحدها بل بالنسبة إلى العالم أيضًا، حيث تشاركت معه المعلومات والخبرات، وذلك في الوقت الذي أصدر فيه الحزب الشيوعي الصيني أوامره بأن تكون كافَّة الأبحاث عن الفيروس مشروطة بموافقته أولًا. لقد نجح النظام الديمقراطي في تايوان في فرض سيطرة سريعة وهي الميزة التي رُوِّجَ أنها خاصة بالنظم السلطوية وحدها. ونجحت في مراقبة مدى التزام المواطنين بالإجراءات الوقائية، وطبقت أيضًا برنامجًا للرعاية الاجتماعية للمواطنين المضارِّين من التداعيات الاقتصادية للأزمة، مما مكَّنهم من البقاء في منازلهم دون الخوف من الجوع([37]).

وفي المقابل، فشلت الصين في التنبيه المبكر من الفيروس، بل إنها عاقبت الأطباء الذين حذَّروا مبكرًا منه. إن النجاح النسبي لتايوان وكوريا الجنوبية واليابان يوكِّد أن المسؤولية أمام الشعب في الديمقراطيات تظل مفتاح الاستجابة الفعَّالة للأزمات، وإن الأزمات لا تستدعي الديكتاتوريات لكي تكون الإدارة كفؤة وناجحة([38])، خاصة وأن التزام وطاعة المواطنين ليس رهين الخوف وحده، بل يمكن أن يكون أفضل لو كان رهينًا بالثقة والتواصل الجيد بين الحكومة والشعب، بالإضافة إلى مراعاة عوامل الاقتصاد السياسي التي وفَّرت للمواطنين سبل البقاء في المنازل بدون أن يخافوا على أرزاقهم. وهنا تزداد الاستفادة من التدفُّق الجيد للمعلومات وتوفُّر الثقة العامة في الدولة. بينما تعاني النظم السلطوية من قصور كبير في توفُّر المعلومات الصحيحة داخليًّا وخارجيًّا والمثال كان واضحًا في الصين وروسيا. وهذا لا يمنع من الإشارة أيضًا إلى تشابه أداء الزعماء ذوي الاتجاهات السلطوية في النظم الديمقراطية مع النموذجين الروسي والصيني، حيث أعاق رؤساء مثل الرئيسين الأمريكي والبرازيلي التدفُّق السلس للمعلومات الموثوق بها، وكانت خطاباتهم مصدرًا لإثارة البلبلة والتشويش وعدم وضوح الرؤية. وهي التي مثَّلت أحد معوقات التعامل الناجح مع أزمة وباء كورونا([39]).

وفي أوروبا استطاع الزعماء الذين تحدَّثوا بصراحة وشفافية لشعوبهم أن يستعيدوا الثقة في الحكومة، مثال ذلك الخطاب الصريح لكلٍّ من رئيس الوزراء الإيطالي كونت والرئيس الفرنسي ماكرون والمستشارة الألمانية ميركل، حيث حظوا جميعًا بمساندة مجتمعية للإجراءات القاسية المتَّخذة عبر المصارحة والمكاشفة لحجم المخاطر وكيفية مواجهتها. ولكن في المقابل فشل الاتحاد الأوروبي في إظهار إجراءات حقيقية للتضامن ومساعدة أعضائه الأكثر تضرُّرًا من الوباء مثل إيطاليا. وأضحى واضحًا أنه من السهولة بمكان لمن رفع راية العالمية أن يتقهقر خلف حدوده الوطنية عند الضرورة([40]).

*****

الهوامش

([1]) Dhruva Jaishankar, What does COVID19 tell us about democracy vs authoritarianism?, observer Research Foundation, May 16 2020, available at: https://bit.ly/33LhaJG

([2]) Frances Z. Brown, Saskia Brechenmacher, Thomas Carothers, How Will the Coronavirus Reshape Democracy and Governance Globally?, Carnegie Endowment for International Peace, 6 April 2020, available at: https://bit.ly/2Fl0D68

([3]) Coronavirus: A stress test for democracy, DW, 8 April 2020, available at: https://p.dw.com/p/3aeUJ

([4]) Ilan Alon, Matthew Farrell, Shaomin Li, Regime Type and COVID-19 Response, FIIB Business Review 9 (3), 2020, p. 153.

([5]) Damien Bol , Marco Giani , André Blais, Peter John Loewen, The effect of COVID‐19 lockdowns on political support: Some good news for democracy?, European Journal of political research, 19 May 2020, available at: https://bit.ly/2SERPer

([6]) Global overview of COVID-19: Impact on elections, updated on 25 September 2020, available at: https://bit.ly/33Jz93r

([7]) Erik Asplund, Toby James, Elections and Covid-19: making democracy work in uncertain times, 30 March 2020, available at: https://bit.ly/3lyx68b

([8])Fernanda Buril , Staffan Darnolf , Low Voter Turnouts, Fear, Disinformation and Disrupted Supply Chains: How Election Commissions Are Unprepared for COVID-19, International Foundation for electoral systems, 27 Mar 2020, available at: https://bit.ly/34EKssW

([9]) Frances Z. Brown, Saskia Brechenmacher, Thomas Carothers, Op. cit.

([10]) Meredith Applegate, Thomas Chanussot, Vladlen Basysty, Considerations on Internet Voting: An Overview for Electoral Decision-Makers, International Foundation for electoral systems, 7 April 2020, available at: https://bit.ly/3nuCsU5

([11]) Erik Asplund, Toby James, Op. cit.

([12]) How COVID-19 Changed Everything About the 2020 Election, Time, 17 August 2020, available at: https://bit.ly/34HaTyc

([13]) Luke Cooper, Guy Aitchison, Covid-19,Authoritarianism and Democracy, LSE Conflict and Civil Society Research Unit, June 2020

([14]) Frances Z. Brown, Saskia Brechenmacher, Thomas Carothers, Op. cit.

([15]) Philip Stephens, How coronavirus is remaking democratic politics, Financial Times, 28 June 2020, available at: https://on.ft.com/30R1kvl

([16]) Ottavio Marzocchi, The impact of Covid 19 measures on democracy, rule of law and fundamental Rights in the EU, Briefing, European parliament, Policy Department for Citizens’ Rights and Constitutional Affairs, 23 April 2020.

([17]) Frances Z. Brown, Saskia Brechenmacher, Thomas Carothers, Op. cit.

([18]) Ottavio Marzocchi, Op. cit.

([19]) Ibid.

([20]) Ibid.

([21]) Coronavirus: A stress test for democracy, Op. cit.

([22]) Annika Silva-Leander, The devastating effects of COVID-19 on democracy – but what if there is a silver lining?, 14 April 2020, available at: https://bit.ly/33GVz5f

([23]) Guy Verhofstadt, Is COVID-19 killing Democracy?, Project Syndicate, Brussels, 18 May 2020.

([24]) Frances Z. Brown, Saskia Brechenmacher, Thomas Carother, Op. cit.

([25]) Ibid.

([26]) Ibid.

([27]) Ibid.

([28]) Ibid.

([29]) Ibid.

([30]) Scott L. Greer , Elizabeth J. King , Elize Massard da Fonseca, Andre Peralta-Santos, “The comparative politics of COVID-19: The need to understand government responses”, Global Public Health, 20 Jun 2020, pp. 1414 -1415, available at: https://cutt.us/nLmmu

([31]) Philippe Dauba-Pantanacce, The political implications of COVID-19, Standard Chartered, 20 April 2020, available at: https://bit.ly/3daJx7s

([32]) Jennifer Medina, Robert Gebelof, The Coronavirus Is Deadliest Where Democrats Live, The New York Times, 25 May 2020, available at: https://nyti.ms/2SCBeI6

([33]) John Raidt, Coronavirus has exposed the United States’ own political virus Beyond COVID-19, Atlantic Council, 29 April 2020.

([34]) Guy Verhofstadt, Op. cit.

([35]) Coronavirus: A stress test for democracy, Op. cit.

([36]) Ilan Alon, Matthew Farrell, and Shaomin Li, Op. cit., p. 155.

بل إنه في روسيا تم إلقاء ثلاثة أطباء من النوافذ بشكل غامض وجميعهم ممن ينتقدون سياسة التعامل مع أزمة كورونا، انظر المرجع التالى:

– Guy Verhofstadt, Op. cit.

([37]) Ilan Alon, Matthew Farrell, and Shaomin Li, Op. cit., p. 156.

([38]) Ibid, p. 157.

([39]) Scott L. Greer, Elizabeth J. King, Elize Massard da Fonseca, Andre Peralta-Santos, Op. cit.

([40]) Philip Stephens, Op. cit.

فصلية قضايا ونظرات – العدد التاسع عشر – أكتوبر 2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى