الخصوصية الثقافية فى خطابات الإصلاح وسياساته فى مصر: الخريطة والإشكاليات

مقدمة*:

إن الاقتراب من الحالة المصرية في هذه الدراسة هو اقتراب كلي؛ يهدف لرسم خريطة هذه الحالة، ونمط العلاقة بين أبعادها من ناحية، وتحديد إشكاليات المناقشات حول أبعاد هذه الخريطة من ناحية ثانية، وطرح الدلالات بالنسبة لكيفية تفعيل “الخصوصية الثقافية” في السياق المجتمعي المصري، وعلى صعيد مجالات التغيير المختلفة الاجتماعية والسياسية والثقافية من ناحية ثالثة. والهدف من هذا الاقتراب هو محاولة بيان كيف أن قضية الخصوصية الثقافية على الساحة المصرية تتجسد فعليًّا على أكثر من مستوى؛ بحيث لا يمكن إسقاطها من حسابات الإصلاح الشامل، سواء باعتبارها عائقًا أو محفزًا؛ أي سواء بما فيها من سلبيات تحتاج لعلاج أو إيجابيات تحتاج لتوظيف وتفعيل.
هذا ولقد كانت المعايشة -طوال الخمسة أعوام الماضية- لحالة الإصلاح المصرية –في سياقها الإقليمي العربي، وسياقها الإسلامي، وسياقها العالمي؛ بمثابة المحفز للاهتمام بموضوع هذه الدراسة، وإذا كانت الدراسة تركز على أبعاد تأثير قضية الخصوصية الثقافية على خطابات وسياسات شهدتها هذه الحالة المصرية، إلا أن الاهتمام بهذا الموضوع ينبني على ما تطرحه قضية الخصوصية الثقافية من إشكاليات معرفية ونظرية ومنهاجية من ناحية، وإشكاليات الخبرات المقارنة من ناحية أخرى. فموضوع الخصوصية الثقافية يستدعي عدة مستويات تثير النقاش والجدل. وهي تتلخص في الآتي: الدوائر المتحاضنة للخصوصية (الوطنية، القومية، الأممية، الإنسانية العالمية)، مجالات الخصوصية (النخب، الشعب…) مرجعية الخصوصية ومصادرها (التاريخ، الدين، الجغرافيا…)، الثابت والمتغير في الخصوصية (النواة الصلدة التي لا خلاف على وجودها بالرغم من الامتداد التاريخي، المتغيرات بمرور الزمن استجابة لمتطلبات التجديد…)، الخصوصية العامة والسائدة (لدى الأغلبية) والثقافات الفرعية (لدى الأقل عددًا) وما نمط التفاعل بينهم؟، الخصوصية كمرجعية (متغير مستقل) أم مجرد محدد من المحددات (متغير تابع)، تجليات الخصوصية ومجالات وقضايا التعبير عنها (مجرد ديكور يثبت التعدد والتنوع أم هي توجه للبناء الحضاري والمقاومة الحضارية لأنها بمثابة روح الذات). ومن ثم نمط العلاقة بين مرجعيات كل من الخصوصية والعالمية: متنافسة أم متضادة أم متقاطعة، وما تثيره أنماط هذه العلاقة من مقولات إسقاط الخصوصية بدعاوى التحيز والانغلاق وعدم العلمية، أو مقولات استدعاء الخصوصية بدعاوى اكتشاف الذات والبناء الحضاري والأمن الحضاري…
وبالرغم من أن قضية الخصوصية الثقافية وإشكالياتها هي قضية قديمة ولكن متجددة، إلا أن المشكلة المنهاجية الأساسية تظل هي كيفية تحديد خريطة تجلياتها كخطوة أولى نحو تفعيلها من أجل تغيير سياسي ومجتمعي رشيد يستجب لهذه الخصوصية ولا يعتدي عليها على نحو قد يؤدي إلى اضطراب أو خلخلة ذلك لأن للخصوصية وظائف وأدوار**.
ومن ثم؛ فإن هذه الدراسة تتكون من ثلاثة محاور:
الأول- عن دوافع الحاجة لرسم خريطة أبعاد قضية الخصوصية الثقافية على ساحة النقاشات حول الإصلاح في مصر.
والثاني- يرسم هذه الخريطة على ثلاثة مستويات: منطلقات ومفردات القضية، ومجالاتها، وقضاياها.
والثالث- يقدم بعض النتائج التي تمثل منطلقًا للنظر في كيفية تفعيل التغيير السياسي والمجتمعي في مصر، آخذين في الاعتبار مقتضيات ما يجب استمراره من سمات الخصوصية وما يمكن تغييره من هذه السمات.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن هذه الدراسة لا تقدم توثيقًا شاملًا لموضع الخصوصية من خطابات وسياسات الإصلاح في مصر، بقدر ما تقدم نتائج القراءة في نقاشات دارت حول خطابات وسياسات الإصلاح في مصر، والتي تطرقت بصورة مباشرة أو غير مباشرة للقضية المعنية. وهذه النقاشات جرت على ساحات إعلامية وفكرية وأكاديمية متنوعة، شاركتُ فيها بصيغ مختلفة كباحثة أو مناقشة أو مراقبة أو محررة، وجمع خيوط هذه النقاشات الممتدة على هذه الساحات المتفرعة كان يمثل همًّا فكريًّا وأكاديميًّا تفاعلتُُ معه طوال خمس سنوات؛ أي منذ أحداث سبتمبر 2001، والتي كشفت الغطاء وبقوة عن إشكالية كانت كامنة؛ ألا وهي إشكالية العلاقة بين الديني والثقافي وبين السياسي في عمليات الإصلاح موضع الاهتمام في أبعادها الداخلية والخارجية.
ومن ثم؛ فإن جمع هذه الخيوط الممتدة والمتفرعة لتقديم رؤية كلية عن حقيقة موضع “الخصوصية الثقافية” من النقاشات حول التحولات والتغيرات على الساحة المصرية هو هدف هذه الدراسة وكمنطلق لا غنى عنه للاقتراب من مدخل تفعيل التغيير السياسي والاجتماعي الراهن في مصر.
ولا مفر من التأكيد مرة أخرى أن الرؤية التي تقدمها الدراسة هي الرؤية الناجمة عن خبرتي الذاتية في أنشطة متنوعة***، وهو الأمر الذي لا ينكر قدر أهمية الأدبيات المنشورة المتصلة مباشرة أو بصورة غير مباشرة بموضوع الدراسة، في مرحلته الراهنة، أو في مراحل تاريخية سابقة.

المحور الأول- دوافع الحاجة لرسم الخريطة وتحديد الإشكاليات

يشكل الاهتمام بهذه المحطة اعتباران أساسيان: الاعتبار الأول- يتصل بالدلالات العملية لهذه الحالة بالنسبة لمقولات نظرية، عن محددات تشكيل دوافع ومسار عمليات التحول السياسي والمجتمعي، وفي قلبها المحددات الثقافية وإشكاليات علاقتها بنظائرها السياسية، في ظل تجدد الاهتمام بدراسة تأثير الدين- الثقافة- الحضارة.
والاعتبار الثاني- يتصل بدلالة المرحلة الراهنة من التحولات المصرية –مقارنة بغيرها- فيما يتصل بإشكالية “الخصوصية الثقافية”، وكيف تقدم هذه المرحلة سمات جديدة مقارنة بسمات مراحل سابقة، شهدت أيضًا اهتمامًا بتأثير المتغيرات الثقافية على التحولات السياسية الداخلية، والعلاقات الخارجية في مصر، وغيرها من الدول العربية والإسلامية، ومن أهم هذه السمات التوظيف السياسي للخصوصية سواء في خطابات النظام أو قوى المعارضة أو قوى التدخل الخارجي في الموجة الراهنة من الإصلاح.
فمن ناحية- بالرغم من أن مستوى هذه الدراسة هو مستوى الممارسة وليس مستوى النظرية؛ إلا أن هذه الممارسة الوطنية المصرية لتمثل ساحة هامة من ساحات عديدة، يمكن أن تساعد على اختبار مقولات نظرية متنوعة، تموج بها أدبيات العلاقات الدولية، وأدبيات النظم المقارنة بصفة عامة، وتلك المتصلة بالجنوب بصفة خاصة، وهي المقولات التي تعكس تجدد الاهتمام وصعوده بدراسة دور الدين والثقافة. ولقد اقترن هذا التجدد في الاهتمام بملمحين أساسيين من ملامح المراجعة في علم السياسة بصفة عامة، والعلاقات الدولية بصفة خاصة، والذي ترتب عليهما هذا التقاطع الراهن بين مجالي العلاقات الدولية والنظم المقارنة.
وهذان الملمحان هما: اهتزاز الحدود الفاصلة بين الداخلي والخارجي (في ظل عمليات وسياسات وإيديولوجية العولمة) من ناحية[1]، وإعادة تعريف السياسي من ناحية أخرى[2] في ظل اهتزاز الحدود الفاصلة في الدراسات السياسية بين الديني/ الثقافي/ المجتمعي، وبين السياسي/ الاقتصادي، وكذلك فيما بين الدولة والفواعل من غير الدول؛ ومن ثم الاهتمام بمستويات أخرى للتحليل تتجاوز مستوى الدولة القومية إلى مستويات أكثر اتساعًا؛ مثل مفهوم “الجماعة العالمية” World community.
ومن ناحية أخرى: هذان الملمحان يتجسدان بأشكال متنوعة على أرض الممارسة والحركة، ومن أهم تجلياتهما المعاصرة ما يتصل بقضية العلاقة بين الثقافة وبين التحولات المجتمعية والسياسية الشاملة، التي تشهدها ليس مصر فقط، ولكن النظم والمجتمعات العربية والإسلامية برمتها في ظل الموجة الراهنة من موجات الإصلاح التي مرت بها من قبل هذه النظم والمجتمعات، ولو في ظل سياقات وطنية وإقليمية وعالمية مختلفة، وهذه الموجة الراهنة تشهد تدخلًا خارجيًّا في عملية الإصلاح الداخلية، غير مسبوق من حيث درجة وطبيعة توظيفه للأبعاد الدينية/ الثقافية في تدخلاته؛ مما أبرز الحديث عن “الخصوصية الثقافية” نتيجة اهتزاز الخطوط الفاصلة بين الداخلي والخارجي، ونتيجة إعادة تعريف السياسي.
وفي المقابل نرصد أيضًا التوظيف السياسي من جانب كل من نخبة القيادة المصرية وبعض من قوى المعارضة لخطاب الخصوصية الثقافية، وإن اختلفت بالطبع منطلقات كل من الجانبين، وغاياته من وراء هذا التوظيف، ولكن جمع بين الجانبين رفضهما (ولأسباب مختلفة) للتدخل الخارجي باسم الإصلاح.
ولهذا؛ فإن استكمال حديث دوافع الحاجة لرسم الخريطة وتحديد الإشكاليات يفترض -بعد الإشارة عاليًا إلى الاعتبارات التي تشكل الاهتمام بهذه الخريطة- التوقف عند أمرين أساسيين تكشف عنهما حالة النقاش حول المدخل الثقافي لخطابات الإصلاح ولسياساته.
الأمر الأول هو الاشتباك بين مفهوم الخصوصية الثقافية ومفهوم البعد الثقافي في حديث الإصلاح بصفة عامة (الشامل)، أو الإصلاح السياسي بصفة خاصة، أو الإصلاح الثقافي بصفة أخص.
الأمر الثاني- المنطلقات المختلفة لكل من النخب الحاكمة والنخب المعارضة (مع ملاحظة التنويعات أيضًا على صعيد تلك الأخيرة)، وكذلك غاياتهما المختلفة من وراء توظيف حديث الخصوصية في تقاطعه مع حديث التدخل الخارجي؛ وذلك في لعبة توازنات القوى السياسية حول عملية الإصلاح بصفة عامة والسياسي بصفة خاصة.
وإذا كانت إشكالية العلاقة بين الديني/ الثقافي، وبين السياسي تقع في صميم الأمر الأول؛ فإن إشكالية العلاقة بين الداخلي والخارجي هي التي يتمحور حولها الأمر الثاني، وهما إشكاليتان متقاطعتان كما سنرى.
الأمر الأول- يطرح قضية اشتباك مفهوم الخصوصية الثقافية مع المتغير الثقافي عند تناول التحولات السياسية والمجتمعية في مصر من مدخل ثقافي؛ فلابد وأن نتساءل: أين مناط التمييز الصريح؟ وكيف ولماذا يجب فك هذا الاشتباك؟ وكيف يتحقق هذا على ضوء رسم خريطة أبعاد النقاش حول الخصوصية؟
1- مما لا شك فيه أن النقاش الأكاديمي والسياسي حول تأثير العامل الثقافي على السياسة في مصر (وخاصة الداخلية) ليس بجديد، كما أنه اتخذ أشكالًا مختلفة، ابتداءً من حديث الثقافة السياسية والتنشئة السياسية (الذي بدأ في الستينيات والسبعينيات، وحقق قفزة منذ بداية الثمانينيات في ظل ظروف سياسية (بداية الديمقراطية المقيدة) وأكاديمية (تراجع المدرسة السلوكية) مغايرة، وصولًا إلى حديث العلاقة بين المجتمع المدني والتحولات الليبرالية والديمقراطية، وخاصة ما يتصل بما يسمى التربية المدنية وعلاقتها بهذه التحولات، في ظل السياق العولمي لقضية الديمقراطية الذي تحركه الولايات المتحدة. وهذه النقاشات سواء في شقها السياسي أو الأكاديمي؛ إنما تطرح إشكالية العلاقة بين السياق السياسي والمؤسسي للنظام السياسي، وبين السياق الثقافي والقيمي للمجتمع، وشروط التحول الديمقراطي، ومناط إحداث هذا التحول ابتداءً من النسق السياسي والدستوري والقانوني أم النسق المجتمعي الثقافي القيمي؛ أي أيهما المتغير المستقل وأيهما المتغير التابع[3]. ولم يقدم الأدب النظري إجابات حاسمة حول هذه الإشكالية بصفة عامة؛ أي لم يقدم قواعد يمكن تعميمها أو قبولها في كل الحالات، فضلًا عن تعدد أطروحاتها عن أنماط الديمقراطية المختلفة، وكيف أن الديمقراطية الغربية ليست إلا نمطًا واحدًا من بينها يستند إلى منظومة من القيم والمعتقدات تختلف عن نظائرها في الأنماط الأخرى.
ومن ثم؛ فإن اتجاهات النقاشات حول هذا الأمر تفرز توافقًا وسطيًّا حول أن التغيير الجذري نحو تحول ديمقراطي حقيقي لابد وأن يبدأ من الأبنية السياسية والدستورية والقانونية (التغيير قصير الأجل)، وبحيث يصبح التغيير المجتمعي في جانبه القيمي الثقافي (التغيير طويل الأجل) ضرورة وسبيلًا في نفس الوقت لترسيخ النظام الديمقراطي وتدعيمه.
ومن ثم؛ فإن الأدب النظري أيضًا لم يحسم الرأي حول نمط هذه الإشكالية على الساحة العربية والإسلامية بصفة عامة، والساحة المصرية بصفة خاصة. فإذا كان البعض قد أرجع صعوبة تحقق الديمقراطية في الوطن العربي لافتقاده ثقافة الديمقراطية؛ فإن البعض الآخر انتقد بشدة اتخاذ الثقافة السياسية كعامل مركزي في تفسير إمكانيات ومعوقات التحول الديمقراطي. ومن الأبعاد الثقافية محل الإشارة: ضعف المشاركة في الانتخابات، شروط إدماج الإسلاميين في الحياة السياسية، والعلاقة بين الإسلام والديمقراطية، مدى توافر توافق وطني حول نموذج الجماعة الوطنية، ثقافة الاقتصاد السياسي، ثقافة الحراك الشعبي والمدني.
هذا وتجدر الإشارة إلى أنه بمتابعة تيار من الأدبيات العربية –خلال النصف الأول من التسعينيات[4]- نلحظ ضآلة إن لم يكن انعدام الاهتمام بموضع البعد الثقافي من عمليات التحول الديمقراطي، التي بدأت إرهاصاتها في المنطقة ضمن إرهاصات التحولات العالمية على هذا الصعيد، سواء في شرق أوروبا أو أمريكا اللاتينية مثلًا وربما كان الاستثناء الوحيد هو ما يتصل بنقاشات الخصوصية العالمية، وخاصة في مجال حقوق الإنسان، أو نقاشات الأصالة والمعاصرة؛ وذلك عند الاقتراب من دراسة الحركات الإسلامية وتيارات التجديد الفكري الإسلامي في جدالها مع العلماني ثم العولمي.
هذا ولا يمكن بالطبع، إنكار الجهود التي تمركزت على المداخل الثقافية في حد ذاتها (المناخ الثقافي، السياسات الثقافية في مصر)[5]، ولكنها تمحورت حول ذاتها أكثر من سعيها لعبور الحدود الفاصلة بينها وبين مجالات معرفية أخرى؛ مثل تطور النظام السياسي المصري، وتغيراته أو إصلاحه.
وإذا كانت تداعيات الحادي عشر من سبتمبر قد دشنت موجة جديدة من التدخلات الخارجية، حركت أمواج ما يسمى سياسات ومبادرات الإصلاح في مصر وغيرها، وبالرغم من انكشاف تجدد الاهتمام بالأبعاد الثقافية والحضارية، وصعوده في الدراسات الدولية والنظم المقارنة منذ ذلك الوقت؛ إلا أن تيارًا من أدبيات الإصلاح في الوطن العربي ظل عازفًا عن الاقترابات والمداخل الثقافية من الإصلاح السياسي، أو عن العلاقة بين الأبعاد الثقافية والسياسية للإصلاح برمته[6].
وفي المقابل؛ فإن بعضًا من أدبيات أخرى وإن اهتمت بأبعاد ثقافية لسياسات الإصلاح[7] إلا أنها لم تطرح قضية الخصوصية الثقافية بصورة مباشرة.
وإذا كانت دراسات كلية وشاملة عن تطور الدولة والفكر السياسي في مصر[8] قد تناولت جوانب الحوار أو النقاشات بين التيارات الفكرية والحركات السياسية الكبرى في مصر، في محاولة لتقدير أنماط الاستجابة لمرحلة التحولات الكبرى، ولتحديد ملامح التجديد وسمات المراجعة ونقد الذات؛ إلا أنه من الملاحظ أن بحث العلاقة المباشرة بين الخصوصية الثقافية والإصلاح أو التغيير السياسي لم تكن محل تركيز أو اهتمام هذه الدراسات؛ مما يعني أن هناك حاجة علمية وعملية ضرورية للاقتراب من هذه المنطقة.
إذن ما الذي يبرر الاهتمام بالخصوصية الثقافية في الحالة المصرية؟ وما المقصود بها في هذه الورقة؟ وكيف تبلورت النقاشات حولها؟
يمكن القول إنه منذ ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتدشين الاستراتيجية الأمريكية العالمية ضد “الإرهاب” بصفة خاصة؛ فإن تجدد الاهتمام بالبعد الثقافي وعلاقته بالسياسي (سواء على الصعيد الداخلي أو الدولي) قد أخذ منحنى جديدًا أكثر بروزًا وأكثر صراحة في تناول “الخصوصيات الثقافية”، وليس مجرد البعد الثقافي؛ ذلك لأن اهتمام الخطابات الأمريكية والغربية بصفة عامة عند تفسير أحداث 11/9 وتداعياتها؛ قد تمحور حول “الثقافة الإسلامية” كأهم تجليات الخصوصية الثقافية للدائرة العربية والإسلامية، التي أضحت الساحة الأساسية للحرب الأمريكية ضد الإرهاب؛ وهي الحرب التي اتخذت أشكالًا مختلفة من التدخلات الخارجية من بينها الضغوط باسم التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان، والتي جاءت تحت مسميات مختلفة ابتداءً من مبادرة باول، وصولًا إلى مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، وجميعها كانت ذات أبعاد ثقافية واضحة. وفي نفس الوقت تبلور أيضًا الوجه الآخر للعملة؛ أي الخصوصية الثقافية في الولايات المتحدة الأمريكية، التي تنطلق منها أيضًا هذه الحرب على الإرهاب، والتي تبلور خلالها التحالف الأمريكي/الإسرائيلي في أقوى تجلياته وتفاعلاته. ومن أهم تجليات هذه الخصوصية الثقافية الأمريكية (التي كشفت عن نفسها ظاهرة واضحة في ظل الإدارة الأمريكية لبوش الابن) ما يسمى الأصولية المسيحية أو الصهيونية المسيحية، التي تمثل مكونًا قويًّا ونافذًا في نسيج المجتمع والسياسة في أمريكا[9].
وهكذا تبلورت في صورة جديدة إشكالية العلاقة بين الثقافي/ السياسي؛ وخاصة على الصعيد العربي/ الإسلامي ولم تعد هذه الإشكالية منفكة عن إشكالية العلاقة بين الداخلي والخارجي منذ ما بعد الحادي عشر من سبتمبر. وهذا الاشتباك بين الإشكاليتين هو الذي أبرز حديث الخصوصيات على الجانبين مشيرًا إلى خصائص هيكلية للثقافة الإسلامية؛ من حيث ارتباطها بقضايا عدة، على رأسها: قضية الديمقراطية، حقوق الإنسان، الإرهاب.. وباعتبار هذه القضايا قضايا عولمية؛ حيث إن التدخلات الخارجية وتفاعلاتها مع الداخل حول هذه القضايا الأساسية وما يتفرع عنها (مثل قضايا تجديد الخطاب الديني، التربية المدنية، المرأة، الحوار… وغيرها) لا تجعل منها قضايا داخلية بالمعنى التقليدي، كما لا تجعل منها قضايا ذات أبعاد ثقافية بالمعنى العام؛ حيث أضحت هذه الأبعاد أكثر تحديدًا والتصاقًا بالنواة الصلدة للثقافة والقيم؛ أي الدين والعقيدة بصفة عامة (كما سنرى لاحقًا).
بعبارة أخرى؛ فإن التيار العام لخطابات وسياسات القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة منذ ما بعد الحادي عشر من سبتمبر؛ قد أضحى أكثر سفورًا وأقل دبلوماسية (سواء لأسباب دينية حضارية أو لأسباب سياسية) في استحضار ما يتصل بالإسلام –ثقافة وقيمًا- سواء عند تفسير أسباب الإرهاب، أو سبل التغلب عليه الفكرية والسياسية؛ ولذا برزت مصطلحات حروب الأفكار والعقول والقلوب إلى جانب حروب الثروة والبترول والأرض. وأيًّا كانت الأسباب الحقيقية لهذا الاستدعاء للإسلام والثقافة الإسلامية (دينية– ثقافية أصلًا أو سياسية توظف الثقافي الديني)، هذا الاستدعاء الذي أثار نقاشات ممتدة حول أسبابه وعواقبه وتجلياته على صعيد السياسات التدخلية في العالم العربي والإسلامي من جانب الولايات المتحدة وأوروبا باسم الإصلاح[10]؛ فإن نمط الاستدعاء ذاته -من حيث درجة البروز والشيوع– قد جعل النقاشات عن العلاقة بين الثقافي/ السياسي تنتقل نقلة نوعية؛ وهي التي قدمت حديث الخصوصية بالمعنى السابق الإشارة إليه.
هذا، ولقد برزت الاهتمامات بالبحث في خطابات الإصلاح وسياساته في مصر والوطن العربي من مدخل العلاقة بين الثقافي/ السياسي، ومن مدخل العلاقة بين الداخلي والخارجي، بالتركيز على دوافع اهتمام القوى الخارجية وأهدافها بما أسموه آثار الخصوصيات الثقافية “الإسلامية” على شيوع حالات الاستبداد والتخلف والإرهاب في العالم العربي والإسلامي، وكيفية علاج هذه الحالات بأدوات مختلفة ينجدل على صعيدها الديني/ الثقافي/ السياسي وغيره…[11].
الأمر الثاني- يتعلق بالتوظيف السياسي من جانب بعض قوى المعارضة ومن جانب نخب حاكمة لمسألة الخصوصية الثقافية؛ وذلك في سياق مناقشة إشكالية العلاقة بين التأثيرات الخارجية وبين الأوضاع الداخلية فيما يتصل بقضية التحولات الديمقراطية، وعلاج جذور الإرهاب. ولقد برزت النقاشات حول الإصلاح بين ضغوط الخارج واحتياجات الداخل وبين مواجهة احتلال الخارج ومواجهة استبداد الداخل، ولقد اقترن هذا النقاش بالنقاش أيضًا حول دوافع التوظيف السياسي للخصوصية، ودلالاته، إلى جانب أمور أخرى بالطبع.
برزت هذه النقاشات في الدوائر الفكرية والإعلامية والسياسية منذ مبادرة باول في 2002؛ وما تلاها من مبادرات الشرق الأوسط الكبير أو الموسع أو الجديد[12].
وحيث إن ردود الفعل الداخلية قد تراوحت ما بين مرحب ومعارض بهذه المبادرات الخارجية الداعية للإصلاحات الداخلية سواء الفكرية أو الدينية أو الثقافية أو السياسية؛ فلقد جاء التوظيف السياسي من جانب المعارضين والمرحبين على حد سواء، ولكن اختلفت بالطبع الدوافع والمنطلقات والأهداف لدى الطرفين. وفي هذا الصدد يمكن تسجيل الأنماط التالية للتوظيف السياسي لمفهوم الخصوصية:
فمن ناحية هناك نمط التوظيف لمنع الإصلاح الرشيد والشامل المنشود.
ويعبر عن ذلك اعتذار جزء من النظام الحاكم (من خلال خطابات لقياداته أو للنخب الموالية له) عن عدم الإقدام على إصلاح سياسي جذري لغياب ثقافة الديمقراطية لدى القاعدة، وعدم استعدادها لهذه المسئولية بعد، ومن ثم؛ فإن احتجاج نخب هذا النظام بعدم توافر ثقافة وقيم الديمقراطية لدى الشعب ليس إلا ذريعة واهية لتأجيل التغيير الجذري من أعلى. ومن ثم؛ فإن الداعين للحاجة إلى الإصلاح من أسفل أولًا- باعتباره الأصعب والشرط المسبق للإصلاح السياسي- كانوا واحدًا من صنفين؛ إما موالٍ لاتجاه النظام الحاكم الذي يريد المناورة أمام الضغوط الخارجية حتى يجد منفذًا آخر لتأجيل أو وقف هذه الضغوط. والصنف الثاني هو الذي يتبنى بالفعل توجه التدخلات الخارجية، والتي وإن رفعت شعارات التحولات الديمقراطية، إلا أنها لن تقود إلا إلى استقرار النظم القائمة بعد تقديمها تنازلات في مناطق أخرى (مثل ساحة الصراع العربي الإسرائيلي والعراق)، في مقابل الانشغال في الإصلاح من أسفل أولًا، وعلى نحو شكلي لا يحقق تغييرًا جذريًّا مطلوبًا.
ومن ناحية أخرى هناك نمط قائل بأن التمسك بالخصوصية الثقافية برمتها عائق أساسي أمام الإصلاح السياسي أو الشامل، ويعبر عنه نخب علمانية أو يسارية بالأساس، سواء معارضة أو موالية لنظام الحكم تعكس توجهًا ليبراليًا يسقط موضوع الخصوصية لحساب مرجعية عالمية إنسانية. على أساس أن منظومة القيم القائمة هي مبعث أزمة التنمية وأزمة الحرية، وأنها في حاجة لتغيير كامل، بغض النظر عن مدى اعتذار النخب الحاكمة بها لعدم إجراء تغيير سريع من أعلى. ولذا؛ فإن هذا النمط يرفض فكرة مقاومة التدخل الخارجي باسم حماية الخصوصية؛ لأن من شأن هذه الخصوصية تكريس الاستبداد الداخلي، وعلى اعتبار أن الداخل أخطر من الخارج. ومن أهم حجج هذا الاتجاه أن النظام الحاكم لا يمانع التدخل الخارجي وضغطه في السياسة الخارجية والاقتصاد، بل وقضايا ثقافية هامة، ولذا؛ فإن الممانعة باسم الخصوصية الثقافية، ومن ثم عدم إمكانية نقل التجارب السياسية من الخارج لا تظهر إلا حين تواجه ركائز الاستبداد تهديدات تنال منها. وفي المقابل يتم توظيف آخر لهذه الخصوصية إذا كان يحقق توافقًا مع تفسيرات الغرب لجذور الإرهاب، بأنها نتاج خصائص هيكلية في الثقافة؛ حيث لم تتورع بعض النخب العلمانية عن القول إن الإرهاب هو نتاج الثقافة الإسلامية. ومن ثم؛ فهي تلتقي مع النظام في استعداء الخارج على المعارضة الإسلامية أساسًا، سواء منها التي مازالت تلجأ للعنف أم التي تقبل بالسبل السلمية للتغيير.
ومن ناحية ثالثة هناك نمط ثالث تعبر عنه قوى المعارضة الإسلامية بصفة خاصة، ويتوافق من نوع ما مع النخب القومية. فهي باسم الخصوصية الثقافية ترفض التدخلات الخارجية في مجالات الثقافة والتعليم والإعلام، وغيرها من المجالات التي تشكل منظومات القيم، ليس لأن هذه المجالات ليست في حاجة للتغيير، ولكن رفضًا لنمط المنظومة المطلوب نقلها ونشرها، ناهيك عن رفض التدخلات الخارجية لتغيير النظم الحاكمة، انطلاقًا من أن الحركات الوطنية ضد الاستبداد ومن أجل الحرية ذات جذور ممتدة في تاريخ مصر، ولم تبدأ مع دعوات الخارج للتحول الديمقراطي، وهي الدعوات التي تنمو من أحشاء مشروعات استراتيجية لخدمة مصالح القوى الخارجية. ويظهر لدى هذا النمط من التوظيف مفهوم للخصوصية الثقافية يركز على الحفاظ على النواة الصلدة لهذه الخصوصية؛ أي الدين والهوية بدرجة أساسية.
وهكذا نصل إلى خلاصة هذا المحور الأول؛ فعلى ضوء ما سبق شرحه من أمور تنبثق من التشابك بين إشكالية العلاقة بين الثقافي/ السياسي وإشكالية العلاقة بين الداخل والخارج وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، يمكن القول إن القراءة للساحة المصرية (طوال خمس سنوات والتي قمت على ضوئها بتحديد أبعاد خريطة الموضوع (كما يتضح في المحور الثاني) إنما انطلقت من مفردة أساسية ألا وهي موضع الدين (الإسلام) من الخصوصية الثقافية في مصر عقيدة وقيمًا وثقافة[13].
فالإسلام هو النواة الصلدة في هذه الخصوصية، والأخيرة أوسع منه، وتقع منظومة القيم في صميمها. بعبارة أخرى نحن نجعل الإسلام هو المحور، باعتباره مصدر مرجعية الخصوصية الثقافية، تمييزًا عن المتغير الثقافي الذي قد يكون له مصادر أخرى غير الدين؛ ومن ثم تصبح الخصوصية الثقافية أحد مكونات هذا المتغير الثقافي، حين يتصل الأمر بالدين. ومن ثم؛ فإن الدين له دور في التأزم (بمعنى منظومة القيم السلبية المرتدية ردائه)، كما أنه لابد وأن يكون له دور في الإصلاح (منظومة القيم التي يجب تفعيلها).
بعبارة أخرى، هذه النواة الصلدة التي تشكل ماهية الخصوصية الثقافية لها وجهان: ثابت يجب الحفاظ عليه لما ينبثق عن تفعيله من إيجابيات، مع الاستجابة للتحديات المحيطة من خلال التعامل مع الوجه الآخر للعملة، وهو المتغير الذي قد يحمل في ذاته كثيرًا من السلبيات والمعوقات أمام الإصلاح؛ بل قد يكون مصدرًا لكثير من تجليات الأزمة، ومن ثم؛ يكمن في تغييره إمكانيات كبيرة للإصلاح الرشيد. وفي حين تستند بعض قوى المعارضة (ذات التوجه العلماني) إلى الوجه الثاني لتبرير مطالبتها بإزاحة كل ما يتصل بالإسلام من المجال العام، أو على الأقل علمنته، أو لبرلته أو تحديثه في حالة ضرورة الإبقاء عليه؛ أي في المجال الخاص. وفي حين تستند أيضًا إلى هذا الوجه الثاني من العملة قوى النظام والنخب الموالية له لعدم تنفيذ إصلاحات جذرية، قد تأتي للسلطة بالقوى المعارضة الإسلامية؛ تلك القوى التي تكال الاتهامات لها بتوظيف الدين وتسييسه؛ فنجد أن هذه القوى المعارضة الإسلامية إما أن تستند إلى الوجه الثاني من عملة الخصوصية، سواء في معركتها ضد استبداد النظام الداخلي أو تدخلات النظام الخارجي.

المحور الثاني- أبعاد الخريطة وإشكاليات النقاش

شهدت الساحة المصرية خلال السنوات الخمس الماضية (بعد الحادي عشر من سبتمبر، واتساقًا مع الشرح عاليه في البند السابق من الدراسة) نقاشات حول المسار الاستراتيجي للإصلاح، في مجالات أساسية متنوعة وليس سياسية فقط، وحول قضايا محددة في هذا المسار. وليس بالطبع هدف هذه الورقة الخلفية التوقف عند كل من هذه المجالات والقضايا، وتناولها في حد ذاتها، ولكن الهدف في هذا الموضع من الورقة هو أمرين: من ناحية- رسم خريطة أبعاد عملية الإصلاح، والتي برزت جوانب للخصوصية الثقافية على صعيدها (سواء على صعيد الخطابات أو بعض السياسات)، وتحديد الروابط بين هذه الأبعاد، على نحو يقدم صورة كلية (من واقع قراءتي الذاتية المتراكمة عبر فترة زمنية ممتدة للجزئيات والتفاصيل).
ومن ناحية أخرى- توضيح الخيط الناظم بين جميع هذه الأبعاد -وخاصة من واقع النقاشات حولها- والذي يبين من واقع رصدي وتقييمي لهذه النقاشات كيف أن النواة الصلدة للخصوصية الثقافية هي التي تمثل هذا الخيط الناظم؛ حيث كانت المشترك الذي انطلقت منه أو دارت حوله أو تعاملت معه مباشرة أو بصورة ضمنية الخطابات والسياسات المعنية في كل مجال وتجاه كل قضية.
ويمكن رسم أبعاد الخريطة على النحو التالي:
1- المنطلقات والمفردات: حول هوية الإطار المرجعي للإصلاح: إطار مرجعي جامع أم أطر متنافسة: إشكالية العلاقة بين الثابت والمتغير (من يسقط الخصوصية، ومن يستعيدها لأغراض محددة، ومن يتخذها مرجعية؟).
2- مجالات الإصلاح: اقترابات جزئية من كل مجال، أم رؤية استراتيجية جامعة بين المجالات: إشكالية العلاقة بين الثقافي والسياسي.
أ‌- مجال تأسيس منظومة القيم وركائز التنمية الشاملة: التعليم، التربية، الثقافة، الإعلام (الإطار المجتمعي- التربوي: الإصلاح من أسفل).
ب‌- مجال تنظيم توزيع القيم وممارستها: النظام السياسي، الدستور، القوانين (الإطار السياسي- الدستوري: الإصلاح من أعلى).
ج- قضايا الإصلاح: أجندة الأولويات اختبارًا لموضع الخصوصية الثقافية من دوافع عملية الإصلاح وأهدافها: ما بين استدعاء أو إزاحة النواة الصلدة: في قضايا التربية المدنية، تجديد الخطاب الديني، حقوق الإنسان، المرأة والأسرة، العنف بين ثقافة السلام وثقافة المقاومة والإرهاب، المواطنة، اللغة العربية، تحديث الإسلام وعلمنته ولبرلته… إلخ من أنماط تصنيف القضايا.
وقبل الانتقال إلى طرح أهم إشكاليات النقاش حول جملة من هذه الأبعاد، وعلى النحو الذي يوضح الخيط الناظم بينها، وما يفرضه من تحديات أمام توجهات الإصلاح وسياساته في مصر؛ يجدر التوقف لتقديم بعض الملاحظات حول العلاقة بين أبعاد هذه الخريطة:
تبدأ خريطة الأبعاد من المنطلقات والمفردات ذات الطبيعة الفكرية والمعرفية، ثم تنتقل إلى بعدين مترابطين، أحدهما عن الإطار المجتمعي، والآخر عن الإطار السياسي للإصلاح، وأخيرًا نصل إلى شبكة أكثر تفصيلًا لقضايا تجمع كل منها بين أبعاد ثقافية/ مجتمعية، وبين أبعاد سياسية، على نحو يبين كم هي معقدة ومتداخلة عملية الإصلاح في مصر. والربط بين هذه الأبعاد، سواء على مستوى الفكر والممارسة من خلال النظر في أهداف الإصلاح وغاياته؛ لابد وأن يجسد ما آل إليه حجم “البعد الثقافي” في نقاشات الإصلاح، دون انفصال عن السياسي؛ ومن ثم لابد وأن يطرح السؤال التالي: هل أضحى تغيير الديني/ الثقافي غاية في حد ذاته لفرض نمط محدد من الإصلاح، أم يظل مجرد وسيلة وأداة بين وسائل أخرى لتحقيق إصلاح رشيد، يقتضي بالفعل بعض التغيرات الثقافية، أم هو مبرر أو عذر لرفض “الإصلاح” بحجة الخصوصية الثقافية. ومما لاشك فيه أن الانفجار المتزامن والمتراكم للنقاشات حول قضايا ساخنة على الساحة المصرية لهو أهم دليل على ضرورة التصدي لهذا الموضوع، وعلى النحو الذي يبين ما الجديد فيه بالمقارنة بمراحل سابقة. ومن أهم هذا الجديد: إنه بالرغم مما قد يبدو من استمرار حديث الديمقراطية من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، إلا أن الواقع يشير إلى أنه إذا كان الضغط العلني على النظم الحاكمة من أجل التحول الديمقراطي قد توقف على نحو أثار تساؤلات حول مدى مصداقية الدعاوى الغربية عن أهمية وضرورة هذا التحول في المنطقة، إلا أن ما يجري “على المستوى التحتي” من ضغوط وتدخلات ما زال مستمرًا وقائمًا ومتزايدًا على صعيد مكونات هذه البنية التحتية (المجتمعية، المدنية- التربوية).
وفيما يلي قدر من التفصيل حول بعض من هذه الأبعاد بما تسمح به مساحة هذه الدراسة[14].

أولًا- المنطلقات والمفردات: هوية الإطار المرجعي للإصلاح.. إطار جامع أم أطر متنافسة للنموذج المصري.. إشكالية الثابت والمتغير

في سلسلة من أربع مقالات كتبها فضيلة د. علي جمعة مفتي الجمهورية، تحت عنوان “التجربة المصرية”[15] حدد فضيلته موضوع المقالات بأنه تقييم تجربة الدولة الحديثة، بكل خبراتها السياسية والثقافية والقانونية والدينية والاجتماعية والعلمية، وسائر الجوانب التي تكون الحياة منذ عصر محمد علي وحتى الآن. وفي مستهل السلسلة[16] حدد فضيلته مجموعة من مفردات التقويم الذي اعتبره مهمًّا لمستقبل الثقافة في مصر، ولمستقبل الثقافة في العالم العربي والإسلامي. ولقد صاغ هذه المفردات في مجموعة من الأسئلة (20 سؤالًا) التي دعي لإجراء حوار حولها. ولقد جاء في بدايتها:
1) ما موقف التجربة المصرية من الليبرالية والديمقراطية؟ 2) وما مدى اعتمادها على السلطة الدينية؟ وهل مصر تحكم بالدين -كما يقول بعضهم- أو أنها دولة كافرة كما يقول آخرون؟ 3) وما مدى قبول الشعب المصري للمشروع العلماني؟ 4) وما مدى نجاح ذلك المشروع؟ 5) وما الفرق بين الدعوة إلى الحرية والدعوة إلى التغريب؟ 6) وما مفهوم الهوية والخصوصية؟
ثم توالت أسئلة أخرى ليصل إلى ما يلي: 1) وهل هناك أزمة تمر بها الثقافة المصرية وما ملامحها وأسبابها؟ 2) وهل هي أزمة دولة أو أزمة عصر أو أزمة شعب وكيف الخروج منها؟ 3) هل نحن في حاجة إلى الإصلاح؟ 4) وما برنامجنا إذا احتجنا إليه؟ 5) وهل هناك تجارب يمكن أن نستفيد منها؟ وما علاقة ذلك بالخصوصية والهوية والإبداع العلمي والثقافي؟
ليصل أخيرًا إلى السؤالين رقم 19، 20 وهما:
كيف نتعامل مع التراث الإسلامي ومع التراث الإنساني؟ وكيف نصوغ بعد ذلك نموذجنا المعرفي، وكيف يكون قادرًا أن يتواءم مع كل عصر على أساس أن ذلك النموذج نسق مفتوح له وعليه؟
ربما يقول قائل ما الجديد في هذه الأسئلة؟ فلقد سبق طرحها عبر ما يزيد عن القرنين، وتدفقت الإجابات عليها من مختلف الروافد والتيارات الفكرية والسياسية، والتي كونت في مجموعها ملامح الفكر المصري الحديث حول تجربة النهضة أو الإحياء أو التجديد أو الإصلاح (أيًّا كان المسمى الآن)؟
إلا أن ما يعنيني من هذه المقالات هنا أمرين:
أولهما- عن العلاقة بين سؤالي البداية وبين سؤالي النهاية في المقال الأول؛ فهما يعنيان أن محل اهتمام فضيلة المفتي هو الإطار المرجعي أو المكون الأساسي والمصدر الأساسي للثقافة السائدة، وهو –وفقًا لفضيلته- “الشريعة الإسلامية التي هي المكون الأساسي لجمهور الشعب في مصر”، في حين وصف فضيلته الثقافة السائدة بأنها هي التي “لا يجوز الخروج عنها بقدر تحقيق المصلحة؛ لأن الخروج عن الثقافة السائدة خاصة في صورة طفرات؛ يؤدي إلى ضياع المصالح، وإلى اضطرابات، أكثر مما يؤدي إلى تحقيق المصالح والمقاصد لشعب ما”.
والملاحظ هنا أن الإطار المرجعي المقصود هو إطار جمهور الشعب، وليس النخب فقط، حتى وإن تولت الأخيرة تكوين النظم والتنظيمات، ووضع السياسات اللازمة للإصلاح. كما أن الإطار المرجعي -من ناحية أخرى- مصدر أساسي لنموذج معرفي ليس منغلقًا، ولكنه مفتوح له وعليه تجارب الآخرين للاستفادة منها.
الأمر الثاني- هو توقيت هذه السلسلة من المقالات ذات الرسالة الخاصة.
فلقد انبرت السلسلة من مقالة الأخرى لبيان جانب أساسي؛ ألا وهو حرص حكام مصر ابتداء من محمد علي –وفيما يتصل بالقوانين والدستور- على بناء الدولة العصرية الحديثة، “بالتوازي مع الإبقاء على الثقافة السائدة وعلى الشريعة الإسلامية، التي هي المكون الأساسي لجمهور الشعب في مصر”[17].. وحرص القيادة السياسية (إسماعيل باشا) على عدم الانسلاخ عن الشريعة بالكلية ولكنها تريد أن تعيش العصر.. ألا ننسلخ عن أنفسنا وهويتنا وفي نفس الوقت ألا ننعزل عن عصرنا ومن حولنا أخطأنا أو أصبنا فلنا أجر إن شاء الله”[18].
… ونقلًا عن الدكتور السنهوري يورد د. علي جمعة قوله التالي: فالواجب أن تدرس الشريعة الإسلامية دراسة علمية دقيقة وفقًا لأصول صناعتها…[19] ولا يجوز أن نخرج عن هذه الأصول بدعوى أن التطور يقتضي هذا الخروج.. والذي نبغيه (استكمالًا للنقل عن د. السنهوري) من دراسة الفقه الإسلامي، وفقًا لأصول صناعته، أن نشتق منه قانونًا حديثًا يصلح للعصر الذي نحن فيه[20]. ويؤكد د. علي جمعة في مقاله الأخير[21] مدخله لدراسة التجربة المصرية؛ “وهو أن المصريين لم يريدوا ولم يفكروا في الانسلاخ من الشريعة، وأن موقفهم من البداية كان موقفًا علميًّا وعمليًّا يهدف إلى التطوير ومراعاة الواقع”.
وبالنظر إلى ماهية هذه الرسالة، التي حملتها المقالات الأربعة؛ يمكن إدراك مغزى توقيتها الراهن، في ظل تداعي النقاشات في آن واحد على جبهات عديدة، وعلى نحو يبين كم أضحى حجم التحدي ودرجة خطورته؛ الذي يواجه “الإطار المرجعي” أو الثقافة السائدة، أو الخصوصية الثقافية من حيث نواتها الصلدة ومصدرها الراهن. ومناط تحديد طبيعة هذا التحدي ودرجة خطورته يرتهن بتحديد من الذي يبادر بطرح القضايا ويفجر النقاشات حولها؟ وما هي أجندة هذه القضايا وكيف تعكس التغيرات التي تحتاج لاجتهاد جديد، وقبل هذا وذاك من الذي يحدد التغيرات التي تفرض التعامل معها؟ ومن الذي يحدد أولويات بعضها بالمقارنة بغيرها. على سبيل المثال لماذا يثور الآن أن المادة الثانية من الدستور هي ضد المواطنة؟
ولماذا هذا التزامن بين قضايا الارتداد وحرية العقيدة (البهائية) وحقوق الشواذ، ورفض التزايد في تديين المجال العام، وحقوق نسب طفل الزواج العرفي؟.. وذلك في وقت تثور فيه أيضًا قضايا المشاركة السياسية، والمطالبة تضيق نطاق السلطة التنفيذية، وضرورة تداول السلطة الرئاسية، وإدماج الإسلاميين.
بعبارة أخرى؛ فإن توقيت رسالة فضيلة المفتي ومحتواها ذات دلالة كبيرة بالنسبة لأمرين مرتبطين كم دارت النقاشات حولهما من قبل، وهو الحوار بين النخب ذات الأطر المرجعية المختلفة: الإسلامية، العلمانية، القومية حول ما أسماه البعض مثلًا[22]: المسألة الإسلامية المعاصرة، وهي الحوارات التي تعاملت بأكثر من طريقة، ومن أكثر من مدخل مع إشكالية العلاقة بين الثابت والمتغير في خصائص الثقافة العربية الإسلامية[23]، ومن ثم تعاملت مع تحديد كل من المتغير والثابت، وأنماط العلاقة القائمة بينهما، وهي العلاقة التي تقع في خلفية أو صميم التصورات العديدة المتباينة حول القضايا التي تثيرها المسألة الثقافية برمتها في العالم الإسلامي، وهي المسألة التي تناولتها حوارات عدة[24].
ويبقى السؤال التالي مطروحًا: هل يتم طرح هذه القضية على هذا النحو في وثائق الإصلاح والتغيير المتداولة، وما موضع النواة الصلدة بهذا المعنى أو بمعنى القيم والأخلاق التي تتسم بها خصوصيتنا على الأقل. وهنا نتوقف –على سبيل المثال- عند ثلاثة نماذج: النموذج الأول عن جهود بعض المؤسسات الفكرية التي أولت اهتمامها إلى قضية “تغير الثقافة أم ثقافة التغيير[25] فلقد عكست بحوثها ونقاشاتها، شكلًا ومضمونًا وسواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة (على الأقل وفق قراءتي لها) إشكالية العلاقة بين الثابت والمتغير في الثقافة العربية الإسلامية، وانعكاساتها بالنسبة لعمليات الإصلاح الجارية أو المنشودة، انطلاقًا من جهود وطنية، أو تحت ضغوط وتدخلات الخارج. ومن بين الرسائل المتداولة في هذه النقاشات كانت الرسالة الكامنة في بحث د. علي أومليل[26] وهو يقارن بين أسباب نجاح تجربتي الصين واليابان، وبين عدم نجاح تجارب العرب، وخاصة التجربة التي دشنها محمد علي لبناء الدولة المدنية في مصر.
وهذه الرسالة هي: هل التمسك بموضوع الخصوصية والهوية –في التجارب العربية- هو سبب فشلها واستنزاف جهودها مقارنة بالتجربتين الأخيرتين؟ ويتضح لنا أبعاد هذه الرسالة وجانب من الحوار حولها من الملاحظات التالية التي تقدم رؤيتين[27]:
– يعالج مضمون الرسالة دلالات المرجعية الإسلامية للإصلاح، سواء رافدها السلفي أو المحدث؛ أي يهتم بوزن المرجعية الإسلامية وتأثيرها، وقام أساسًا على نقد رؤية رافدي هذه المرجعية (السلفي والمحدث) عن طبيعة الإصلاح ومحدداته؛ أي من داخل الإسلام وبالإسلام أم بالتفاعل مع الخارج؟ فإن الدراسة على هذا النحو تمثل معالجة هامة للعلاقة النسبية بين تأثير مجموعتين من المحددات المتفاعلة ذات التأثير المتبادل؛ وهي: الهوية الثقافية والحضارية، والتدخلات الخارجية، ليس من حيث مركزية موضع الدين فقط، ولكن من حيث طبيعة الدين المقصود. ويتضح أن مقارنة د. أومليل بين المفهوم السلفي التقليدي للإصلاح، والمفهوم الإصلاحي المحدث في الخبرة العربية؛ إنما تفصح عن منهج خاص في نقد التراث العربي الإسلامي، وعن موقف محدد من كيفية توظيفه وحدود الرجوع إليه. ومن الملاحظ أن معالجة د.أومليل تراوحت ما بين التركيز على الأبعاد الفكرية لكل نموذج، أو على الأبعاد الحركية، على نحو عكس عمق الأزمة الفكرية التي بدأت تجتاح الأمة حينئذ (التنظيمات العثمانية) وقت تحديد الإطار المرجعي الأمثل لعملية التغيير والإصلاح، وهي الأزمة التي تمثل جذور الأزمة الراهنة؛ حيث مازال الإطار المرجعي للإصلاح محل شدًّ وجذب بين القوى الاجتماعية والسياسية على الساحة العربية والإسلامية، ولذا تظل قضية الهوية والانتماء موضوعًا للتنافس بين القوى السياسية المختلفة.
ومنطلقات هذا الطرح تقود إلى قضيتين أساسيتين:
القضية الأولى- قضية العلاقة بين الداخلي والخارجي في عملية الإصلاح، وهي تثير إشكالية الإصلاح بالذات أم من خلال التفاعل مع الآخر؟ ومن ثم قضية مرجعية الإصلاح، وماهية القوى المؤثرة عليه، وحدود التفاعل بين الذات والآخر خلال عملية الإصلاح. وهذه القضية –على مستوى دراسة د.أومليل- هي بمثابة عملة ذات وجهين.
الوجه الأول- الإصلاح السلفي التقليدي هو الذي يدور في مدار الفكر الديني وبدون وعي بالتأخر الحضاري مقارنة بالآخر المتغلب عسكريًّا، وعلى أساس أن الإسلام يُصِلحُ ذاته بذاته.
هل هذه الرؤية عن الفكر السلفي التقليدي مقصود بها هذا النمط من الفكر الذي يظهر الآن أم تنسحب على هذا الفكر في نطاق السياق التاريخي لظهوره (أي حقبة ما قبل الضغط الأجنبي)؟ ولذا أجدني هنا في حاجة للتوقف لمناقشة أمرين يثيران كل ما يتصل بالعلاقة بين ما يسمى الفكر الديني والفكر المجتمعي والسياسي، وهل يمكن الفصل بينهما على هذا النحو الذي يقدمه البعض؟ بل وما معنى الفكر الديني؟
فمن ناحية- أرى أن هناك مصداقية لهذا النمط من الفكر في نطاق السياق التاريخي لظهوره (أي حقبة ما قبل الضغط الأجنبي)؛ ذلك بالرغم من أن المسلمين تعرضوا في هذه المرحلة إلى هزائم عسكرية (كما في الحروب الصليبية)، إلا أن الهزيمة العسكرية ليست كافية ليتغير منطق الإصلاح، من إصلاح يُجدَّد به “الإسلامُ نفسَه بنفسه” إلى إصلاح يقتبس من الأجنبي القوي. ولم يقدم د. أومليل تفسيرًا لهذا المنطوق، واقتصر على شرح مفهوم الغزالي عن الإصلاح (عقب صدمة سقوط القدس) باعتباره نموذجًا من الإصلاح السلفي التقليدي، الذي -وفقًا له- يُصلح الإسلام ذاتَه بذاتِه، وعلى أساس أن صدمة الهزيمة العسكرية لم تنتج وعيًا لدى المسلمين بتأخرهم الحضاري تجاه الآخر المتغلب.
وهنا يجدر أن أشير إلى النقاط التالية:
فلم يكن هناك في هذه الحقبة -التي تناولها د.أومليل- تأخر حضاري للمسلمين بالمقارنة بالآخر يمكن أن يعوا به، ناهيك عن عدم توافر فرص الاحتكاك المباشر والكثيف ليتحقق إدراك هذا التأخر والوعي به بفرض تواجده.
ومن ناحية ثانية- لا أرى أن جوهر المفهوم الإصلاحي السلفي التقليدي -كما قدمه د. أومليل- سواء في سياقه التاريخي أو في امتدادته الآن كله شرًّا أو سلبًا؛ فإن ما أسماه د. أومليل إصلاح الإسلام بذاته والذي يعني إصلاح حال المسلمين بالرجوع إلى مصادر الإسلام لا يعدّ كلّه شرًّا أو سلبًا.. ولا يمكن رفضه على كلياته، شريطة أمرين: الأمر الأول- هو أن نفهمه على نحو يستند إلى مفهوم إسلامي آخر عن الزمان؛ وهو المفهوم السنني الشرطي.
والأمر الثاني- هو أن نفهم حقيقة الرؤية الإسلامية عن إشكالية العلاقة بين الثابت والمتغير عبر الزمان، فإن هذه الرؤية بحكم مصادرها الأصلية الثابتة (النص القرآني، والسُّنة النبوية) تفرض هذه الإشكالية على نحو لا تعرفه المرجعيات الأخرى ذات المصادر المتغيرة. فإن الرؤية الإسلامية بقدر ما تتمسك ببعض الثوابت فهي لا تنكر متغيرات الزمان التي تستوجب إعمال العقل لتحديد الاستجابات والحلول سعيًا نحو المستقبل، وعلى ضوء خبرات الماضي من دون إسقاطه تمامًا، أو الوقوع في أسره تمامًا.
بعبارة أخرى فإن هذين الأمرين يبينان أن النظر في الماضي (أو التاريخ)، وبالمثل النظر في “النص الحاكم” -وفق تعبير د. أومليل- لا يحمل في ذاته سلبًا أو شرًّا يجعل الأموات يتحكمون في مستقبل الأحياء، ولا يسقط الزمان لأنه لا يحب الزمان ولا يثق فيه، ولا يحكم نصوصًا جامدة لا تتبدل بالزمان، ولا يجعل حقبة مثالية فوق الزمان وضدًّا عليه أو يكسبها صفة القداسة كما يقول د.أومليل. ولكن يبين هذان الأمران أن طريقة النظر إلى التاريخ وطريقة النظر والتدبر والاجتهاد في النص على ضوء متطلبات فقه الواقع؛ هي المحك الأساس وهي المناط الأول والأخير، حتى لا نقع في خطيئة القول بضرورة إسقاط التاريخ، أو تاريخانية “النص المقدس”. وكذلك حتى لا نقع في خطيئة أخرى لا تقل خطورة؛ وهي أن يسقط الفكر الإصلاحي الإسلامي مستجدات الواقع وما تستوجبه من اجتهاد في ضوء مقاصد الشريعة. وإلى جانب إشكالية الثابت والمتغير هناك إشكالية العلاقة بين ما يسميه البعض الفكر الديني والفكر المجتمعي السياسي؛ حيث إن هذا الفصل بين مجالات الديني، المجتمعي، السياسي يعكس رؤيةً ما عن حدودٍ للعلاقة بين الدين والدنيا، في حين أن هناك رؤية أكثر اتساعًا لا تقتصر على الفقه، ولكن تنطلق من منظومة القيم الإسلامية وتعترف بأهمية القيمي المعنوي والأخلاقي وضرورته حتى في أقصى مراحل القوة المادية. كان انعكاسًا أيضًا للمفهوم الإسلامي الشامل عن الإصلاح والتجديد، الذي يجعل إصلاح الدين هو مناط إصلاح الدنيا وسبيلها، وليس البديل عنها، (كما أضحى الاعتقاد بعد ذلك لدى بعض روافد الحركات الإسلامية التي ركزت- تحت وطأة الضغوط على العقيدة في مرحلة الضعف الإسلامي- على الحفاظ على العقيدة أساسًا، بغض النظر عن حال الدنيا، وكما لو أن المسلم ليس مكلفًا بعمران الأرض بقدر ما هو مكلف بالحفاظ على عقيدته فقط؛ وهو الأمر الذي يعكس فصلًا بين أمور الدين والدنيا ليس من الإسلام في شيء.
الوجه الثاني للعملة يدور حول المقولة التالية: الفكر الإصلاحي الإسلامي الحديث ومفهوم الإصلاحيين المسلمين المحدَثين عن الإصلاح يعكسان الوعي بالتأخر الحضاري مقارنة بالآخر، ومن ثم أضحى الآخر بعدًا أساسيًّا في تشكيل هذا الفكر وهذا المفهوم، ولكن هنا يجب التمييز بين أمرين: زمان الضغط، والتدخّلات الخارجية التي لم تكن قد وصلت بعدُ إلى حد الاحتلال العسكري؛ أي الاستعمار التقليدي بعد. وهناك فارق بين الحقبتين: الأولى كان الاحتكاك بأوروبا غير مباشر، ولكنه وُلِد خلالها الوعي بالتأخر الحضاري الشامل، وحاولت القوى الإسلامية علاجه بأساليبها الذاتية، ولو المتأثرة بضغوط خارجية. إلا أن الحقبة الثانية في ظل الاحتلال العسكري؛ فلقد زاد فيها الاختلال، ولم يتم الإصلاح على النحو المطلوب من النخب الإسلامية، بقدر ما تم فرضه على النحو الذي يحقق مصالح المستعمِر؛ فلقد كانت الإصلاحات العثمانية في عصر التنظيمات من أخطر القضايا التي يتبين من تحليل دوافعها وآلياتها ونتائجها أنها لم تكن عملية إصلاح للقوة الإسلامية، بقدر ما سعت إلى استبدال النموذج الحضاري الإسلامي. فلم يكن النقل عن الغرب –على الصعيد المادي- منعزلًا عن نقل الأفكار والقيم والاتجاهات، في نفس الوقت الذي لم تكن فيه عملية الإصلاح عملية داخلية؛ بل كانت عملية دولية بين طرفين غير متكافئين في القوة المادية، ومن ثم لم يكن نقل الطرف الضعيف عن الطرف القوي سبيلًا للإصلاح ولكن سبيلًا للتصفية والاستبدال، ومنطلقًا نحو استكمال حلقات الاستعمار التقليدي.
أما عن الامتدادات الراهنة لهذا الفكر الإصلاحي المحدث الذي يتأثر بالغرب وأزمته الراهنة، والتي تمثل قمة المنحنى الذي وصل إليه منذ أن بدأت تداعيات مرحلة الاستعمار ثم مرحلة الاستقلال في ظل التبعية الثقافية، أنه في ظل الاحتلال العسكري، وتحت مسميات التحديث، بدأت مرحلة من مراحل العلاقة بالآخر اتسمت بالتشتت والانقسام حول العلاقة بين الثقافة العربية الإسلامية وبين الثقافة الغربية، وتنامي التأرجح ما بين الانبهار بالغرب وما بين السعي نحو التوفيق معه وما بين رفضه والغضب منه، ليعود الرافد الإصلاحي الإسلامي لينظر مرة أخرى ولو بأسلوب جديد هذه المرة نحو التراث بحثًا عن سبلٍ لتجديد الذات الإسلامية، بعد أن فشل الحل الغربي حتى الآن في تحقيق هذا التجديد.
النموذج الثاني يمثله أعمال موسوعية عربية رائدة مثل تقرير التنمية الإنسانية العربية الأول[28] -وكما اتضح من بعض جوانب النقد التي وجهت له- قد أسقطت ما يتصل بالنواة الصلدة في الخصوصية الثقافية؛ فإن مدخلًا لهذا النقد[29] كان يتصل بالرسالة التي يحملها التقرير عن ماهية التغيير وسبله؛ حيث أسقط جانبًا كبيرًا قيميًّا لصالح المادي. حقيقة من الجديد في رسالة التقرير تلك المؤشرات التي تربط بوضوح بين الحرية السياسية والمعرفة وبين التنمية، إلا أنه يتضح جليًّا من أبعاد الاستراتيجية الثلاثية المقترحة لتحقيق التغيير (لمواجهة انهيار الأمة وضرورة تحقيق تغيير جوهري) أنها تقدم نموذجًا عولميًّا واضح الدلالة من حيث محاورة: الحرية، المرأة، المعرفة. وجميعها تتصدى ومن منظور تنموي غربي ليبرالي لأعراض الأمراض وليس أسبابها.
ولذا فإن التقرير افتقر إلى التعبير عن منظومة القيم التي تعكس خصوصية باعتباره تقريرًا عربيًّا فلا يمكن أن نفصل الدائرة العربية الحضارية وأنساقها عن منظومة قيمه وفي قلبها الدين الذي يمثل النواة الصلدة لثقافة هذه الأمة وبجانبه التاريخ واللغة. بعبارة أخرى فإن قضية منظومة القيم كانت الحاضر الغائب في التقرير. فهي حاضرة بخصائص منظومة القيم الحداثية العولمية التي تتسم بالمادية المفرطة وإسقاط الدين (أو القيم) من حسابات التشخيص والتفسير؛ ولذا فإن هذه المنظومة القيمية الحضارية، هي الغائبة.
ومن ثم تصبح قضية الإطار المرجعي للتغيير غائبة، أو بمعنى آخر قضية خصوصية القيم والفارق بين قيم الحداثة الغربية وقيم المجتمعات الأخرى. ولذا فإن قضية الدعوة إلى عالمية القيم كانت واحدة من أهم القضايا التي أحاطت بالمؤتمرات العولمية للأمم المتحدة (حقوق الإنسان، المرأة، الطفل، الفقر..) وذلك من خلال تجريدها من الدين كعامل أساسي وكمرجعية في تشكيل وعي المجتمعات وفي بناء النظام القيمي إزاء قضايا التنمية الإنسانية.
النموذج الثالث: نواجه نفس السيناريو مرة أخرى مع وثيقتين من أهم وثائق الإصلاح العربي، وهما وثيقة الإسكندرية ووثيقة بيروت الصادرتين في مارس 2004، الأولى عن مؤتمر الإصلاح في العالم العربي الذي نظمته مكتبة الإسكندرية، والثاني الصادر عن المنتدى الأول الذي انعقد في بيروت في 19- 22/ 3/ 2004، والموازي للقمة العربية التي انعقدت في تونس في 29- 30 مارس 2004. فمضمون الوثيقتين وجانب كبير من النقاش حولهما بين إلى أي حد “النواة الصلدة للخصوصية الثقافية/ الدينية أو القيمية أو الأخلاقية” كانت غائبة. ولم تكن النقاشات التي فطنت إلى هذا الجانب ونبهت إليه إلا من قبيل الاستثناءات، ومنها الرؤية التي قدمت التعليقات التالية[30]: “بل إن الخط الأساسي في الوثيقتين هو تهميش كل ما له صلة بمصادر التكوين الروحي والأخلاقي والقيمي والديني للمجتمع العربي على وجه التحديد. وفي تصورنا أن إسقاط هذا الجانب من مبادرات المجتمع المدني بصفة عامة، ومن تلك المتعلقة بالإصلاح السياسي بصفة خاصة، يعتبر أحد أهم مواضع الخلل في هذه المبادرات، وحجتنا في ذلك هي أن أحد النقاط التي تحظى بشبه اتفاق بين المشاركين في المناقشات النظرية المتعمقة بخصوص مفهوم المجتمع المدني عالميًّا ومحليًّا هي تعددية أبعاده، وشمولها للبعد الديني أو الروحي والأخلاقي كأحد المصادر المكونة له على المستوى المعرفي، باعتبار أن القدرات البشرية الأساسية الثلاث (العقل، والمصلحة، والعاطفة) تستوجب ترجمة عملية لها في الواقع الاجتماعي حتى يمكن تفعيلها في هذا الواقع، وتأتي الدولة لتعبر عن منطق العقل، والقطاع الخاص عن المصلحة، أما المجتمع المدني فيأتي للتعبير عن الجانب الروحي والعاطفي، وما يضمن التماسك بين مكونات المجتمع والمحافظة على هويته.
وما كان ينبغي أن تغفل المبادرتان عن هذا الجانب الحيوي في سياق مجتمعنا العربي، وخاصة بعد أن وصل الجدل الفكري حول الإصلاح إلى مرحلة لم نعد فيها بحاجة إلى مزيد من الحديث عن ثلاثة أمور أساسية هي:
1- لسنا في حاجة لمزيد من توصيف علل الواقع وتشريح مشكلاته وتشخيص أمراضه.
2- لسنا في حاجة لمزيد من تزكية المدخل السياسي للإصلاح.
3- لسنا في حاجة كذلك إلى التأكيد كثيرًا على أن الدعوة للإصلاح لها تاريخ طويل في بلادنا، وأن من العبث ربطها بالمبادرات التي تقتحمنا من الخارج.
لقد حظيت مختلف مداخل الإصلاح السياسي والاقتصادي والقانوني بما تستحقه من الاهتمام النظري والفكري، ولم تغب مداخل الإصلاح الثقافي والاجتماعي عن أجندة الفكر الإصلاحي أيضًا وإن لم تنل القدر الكافي من الجدل والحوار بين التيارات الفكرية الأساسية؛ ربما تحاشيًا لما يولده الجدل في مثل هذه الموضوعات من توسيع شقة الخلاف فيما بين المتحاورين؛ كل حسب المرجعية التي يؤمن بها وينطلق منها ويحتكم إليها. وهذا هو بالضبط ما يستحق مزيدًا من البحث والتفكير من أجل التوصل إلى تحقيق توافق وطني عام بشأن القضايا التي يثيرها”.

ثانيًا- المجالات والقضايا
ما هي أنماط التحديات التي تواجه مسار عملية الإصلاح والتي تبرز معها الأبعاد الثقافية، وخاصة النواة الصلدة للخصوصية الثقافية.
وما هي ملامح النقاشات حول خطابات الإصلاح وسياسات تنفيذه في هذه المجالات على النحو الذي يبرز لنا إشكالية العلاقة بين الخصوصية الثقافية وبين الأبعاد السياسية. نقتصر في هذا الموضوع على ما يلي: من ناحية مجال التعليم والخطاب الديني والتربية المدنية، وذلك فيما يتصل بالإطار الاجتماعي/ الثقافي العام، ومن ناحية أخرى مجال تداول السلطة السياسية من خلال الانتخابات ومجال التعديل الدستوري، وذلك فيما يتصل بإطار تنظيم ممارسة النظام السياسي، وأخيرًا مجال العلاقة مع الآخر بين الحوار وبين الإرهاب والمقاومة.

أ- الإطار المجتمعي/ التربوي (الإصلاح من أسفل: بين التوظيف السياسي من الداخل وبين التدخلات الخارجية)

أ-1) التعليم والتحديات الحضارية: إشكالية العلاقة بين الهوية والعدالة وبين الجودة
إذا كان تطوير التعليم وإصلاحه قد أضحى مسألة أمن قومي بكل المعايير؛ فإن هذه المسألة ليست مسألة فنية إجرائية ترتهن بتوافر موارد وإمكانيات مادية وبشرية، ولكنها أكثر اتساعًا من ذلك؛ لأنها لابد وأن تنطلق من رؤية استراتيجية تعكس القناعة بأن هذا التطوير وهذا الإصلاح يجب أن يجيب أيضًا على مسائل من نوع آخر؛ أي مسائل ذات صبغة حضارية، هي مناط الفشل أو النجاح في تحقيق التطوير الحضاري المطلوب، ولم تحرز التجارب الناجحة إنجازاتها إلا لأنها استجابت لهذه المسائل:
وتتلخص هذه المسائل واتجاهات النقاش حولها فيما يلي[31]:
التعليم يقع في صميم الأمن القومي، وهو يعكس مستوىً حضاريًّا قائمًا كما يشارك في تطوير هذا المستوى. كما أن الحديث عن التحديات الحضارية والتعليم حديث ذو وجهين: أحدهما عن التحديات الحضارية التي تواجه التعليم في أوطاننا فتجعلنا نتحدث عن “أزمة تعليم” هي في جانبٍ كبيرٍ منها “أزمة هوية”، و”أزمة حضارية”. والوجه الثاني عن إمكانية مساهمة التعليم في اختراق هذه الأزمة ومعالجتها. ومن ثم فكما أن التحدي الحضاري قد يكون عائقًا أمام التعليم؛ فإن التعليم يمكن أن يكون سبيلًا لمواجهة التحدي الحضاري.
ويكتسب هذا الأمر أهمية كبرى في المرحلة الراهنة من تطور مجتمعاتنا؛ حيث تتسارع التحديات التي تواجهها وتبرز تلك التحديات الحضارية والثقافية في رداء جديد في ظل عواقب العولمة (وهي كاشفة وليس منشئة لهذه التحديات)، وما بعد الحادي عشر من سبتمبر التي أضافت المزيد من التعقيدات لوضع كانت قد أصابته الأزمة بالفعل من قبل.
ومن ناحية أخرى: تكتسب قضية “التعليم والتحدي الحضاري” أهمية أيضًا من كونها قضية تقع في صميم توازنات القوى السياسية حول العالم الإسلامي وعلى أرضه؛ حيث أضحت الأدوات الثقافية والحضارية هي أدوات فاعلة للسياسات الخارجية للقوى الكبرى تجاه دول العالم الإسلامي، وعلى النحو الذي يخدم الأهداف الاستراتيجية الكبرى لها. فلم تعد التدخلات الخارجية السافرة: سياسية أو اقتصادية أو عسكرية فقط، ولكن أضحت أيضًا جلية واضحة في المجال التعليمي والثقافي.
بعبارة أخرى هناك تحديات داخلية وخارجية تواجه مجتمعاتنا بصفة عامة، والتعليمَ في قلبها بصفة خاصة. وهذا كله يصب في صميم “الأمن القومي”، أو فلنقل الأمن الحضاري وتتدخل فيه الاعتبارات السياسية بقوة؛ فلم يعد التعليم عملية فنية ولكنه أضحى قضية سياسية بالدرجة الأولى يساهم في تشكيلها أبعاد خارجية وداخلية على حد سواء. بل ولقد تزايد اختراق وتأثير “الخارجي” بدرجة غير مسبوقة.
فما هي إذن خريطة هذه التحديات ومصادرها؟ وكيف تفرز أزمة هوية؟
كذلك ما هي أنماط الاستجابة المطلوبة الاستراتيجية منها، والآنية؟

(أ‌) عن البعد الأول: الخريطة والمصادر والتجليات: يبدأ تحديدها من واقع مناقشة عدة إشكاليات
أولًا- في فلسفة التعليم ورؤيته الاستراتيجية عن وظيفة ودور التعليم: إشكاليات العلاقة بين القيمي والمادي (كيف)؟
ثانيًا- في دوافع التطوير وتحدياته: إشكاليات العلاقة بين الداخلي والخارجي (لماذا؟).
ثالثًا- في مصادر خبرة التطوير وتمويلها (من؟): إشكاليات العلاقة بين الاعتماد على الذات وبين المساعدة الخارجية.
رابعًا- في بعض قضايا التطوير ومجالاته وآلياته: إشكاليات تحديد الأولويات لكسر الحلقة المفرغة من التأزم، ومن التأرجح، بين علاج الأعراض وعلاج الأسباب.
خامسًا- في تأثيرات بيئة منظومة التعليم الجامعي: إشكالية المدخلات (من منظومة تعليم ما قبل الجامعة، من منظومة القيم والأخلاق المجتمعية، من منظومة اقتصاد الدولة والمجتمع (الفقر والديون) من منظومة السياسة (الفساد، وقيود الحرية).
ويمكن مناقشة كل من هذه الإشكاليات، من واقع وحالة خبرة تطوير التعليم العالي في مصر والجارية منذ 2000 ووثائق هذا التطوير، ونكتفي في هذا الموضوع بعرض الخلاصات التالية عن الإشكاليتين الأولى والثانية:
1- أن الطرح عن فلسفة التعليم ورؤية الاستراتيجية يثير العلاقة بين المادي وبين القيمي في مجموعة من الثنائيات في الأولويات عن وظيفة ودور وأهداف التعليم الجيد ومحدداته، وهي تتلخص كالآتي:
مدخل في التنمية الشاملة ووسيلة/ مخرج من مخرجات التنمية .. دور تنموي اقتصادي/ دور في الحراك الاجتماعي ومساحة للتنشئة على المواطنة .. هدف معرفي (إنتاجًا ونشرًا وتوظيفًا)/ هدف إنتاجي .. وظيفة خدمية/ وظيفة مجتمعية .. إعداد المواطن القادر على خدمة الأمة وحمايتها/ إعداد المتخصص والمنتج البشري ذي العائد الاقتصادي .. وظيفة خدمية/ وظيفة إنتاجية ذات عائد اقتصادي .. متطلبات واحتياجات سوق العمل/ احتياجات العقل والمعرفة وبناء الأمة بالمعنى الشامل .. متطلبات مادية للتطوير/ متطلبات معنوية قيمية أخلاقية .. مواجهة تحديات التنمية الاقتصادية/ مواجهة تحديات العمران الحضاري.
ويجدر الإشارة إلى أن هذه الثنائيات التي تفصح عنها خطابات وثائق التطوير، إنما تشير إلى أن رؤى التطوير إنما تواجه مشكلة استراتيجية؛ وهي عدم الاتفاق على فلسفةٍ للتعليم وعدم وضوح الرؤية، وبذلك لن يصبح التعليم مخرجًا من الأزمة ولكن سيتعرض بدوره للأزمة.
2- وعن إشكاليات العلاقة بين الداخلي والخارجي فهي تقوم على إشكالية أساسية تنبثق من عمليات العولمة.
ومن أهم التعبيرات عن عواقب هذه الإشكالية ما يتصل بالهوية الحضارية، سواء على مستوى التوجه العام والاستراتيجية العامة، أو على مستوى مقررات ومناهج التعليم، على سبيل المثال وليس الحصر.
فمن ناحية نجد أن خطابات الدوافع والتبرير للتطوير تحفل بمفردات: “التعاون الدولي”، “المعايير الدولية”، “الانفتاح والاندماج فيما يحدث في الخارج من تطورات”، وفي المقابل نجد غياب مفردات أخرى تتصل بالذات الحضارية مثل: “اللغة العربية” و”الموروث الحضاري” و”العروبة والإسلام” و”الإرادة الوطنية والاستقلال الفكري”، و”القيم الأخلاقية” و”الوحدة والترابط”.. وهي المفردات التي تعكس تمسكًا بالهوية والشخصية القومية والذات الحضارية، في مواجهة توجهات التذويب والتنميط.
ومن ناحية ثانية فإن جهد التطوير في معظمه إنما يسبح في “مياه وافدة”، ويندر أن ينبع من روافد عربية وإسلامية أصيلة؛ حيث إن جميع العلوم التي تقدم للطلاب تنطلق من منهجية معرفية غربية بحيث سادت غربة العلوم التربوية مما أثر على الطلاب؛ إذ إن هذه العلوم تربيهم على التبعية الثقافية وعدم الاعتزاز بهويتنا الحضارية المتميزة.
ومن ناحية ثالثة احتلت أيضًا قضية “تحديات العولمة لمنظومة التعليم المصرية” اهتمام المختصين، وعلى نحو أبرز عدة ثنائيات خطيرة وهامة طرحتها التحليلات والتقارير، وهى ثنائيات تعكس إشكاليات مهمة تثيرها قضية العلاقة بين “الهوية” وبين تطوير التعليم الجامعي في مصر، وعلى النحو الذي يطرح معنى جديدًا للهوية غير المعنى السائد في الذهن.
إن الإشكاليات الأربع المشار إليها: الفلسفة، الدافع، الموارد والخبرات، البيئة، كل منها تجسد مستوى من التحديات الحضارية، وهي تشكل -في تجمعها- “أزمة هوية التعليم”. فعلى سبيل المثال، نظرًا لأنه ليس هناك فلسفة للتعليم تنطلق من بُعد حضاريّ واضح ونحو هدف حضاريّ محدد؛ نجد ما يلي:
· ارتفاع نغمة “مواجهة احتياجات السوق” كفلسفة.
· التحيز المعرفي للمنظورات الغربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية، وغياب “الإسلامي” منها؛ حيث يظل المنظور الإسلامي حبيس الكليات الشرعية منذ تم الفصل بين التعليم الديني والمدني.
· اكتساح اللغات الأجنبية للتعليم في الجامعات الحكومية، ناهيك عن الجامعات الخارجية الخاصة والأجنبية.
· تراجع وزن التاريخ، وغياب مقرر ثقافة أو تاريخ أو حضارة إسلامية.
· بعد الفصل بين الديني والمدني يأتي الآن أوان الحديث عن إلغاء التعليم الديني أو تقييده باعتباره منبعًا من منابع الإرهاب.
· المال الأجنبي والخبرة الأجنبية ماثلة بوضوح في برامج “التطوير” أو فلنقل: “برامج الاستبدال”، في غياب كبير لمصادر التمويل الذاتية المدنية، وفي مقابل تراجع الحكومي.
· تزايد الفجوة النوعية بين التعليم “المجاني” وبين التعليم “الخاص” والتعليم “الأجنبي” بما دعم الفجوة، ليس بين أغنياء وفقراء المجتمع الواحد، ولكن بين من أضحوا عولميين ومن ظلوا محليين؛ لأن “الخاص” أضحى هو الأجنبي، الدولي.
· غياب استقلال الجامعات تحت وطأة التعيينات والتدخلات الأمنية، والتي تجعل من الجامعة مجرد أداة من أدوات الحكومة لا منارة للشعب والمجتمع ككل؛ حيث تضغط السياسة والأمن والاقتصاد أكثر فأكثر على الوظيفة الحضارية العمرانية للجامعات، وبعد أن كان لدينا فقهاء السلطان أضحى لدينا “دكاترة السلطان”.

ب) وإذا كان حري بالبعض أن يتساءل ما علاقة كل ما سبق بالخصوصية الثقافية فيمكن القول إن هذه الأمور التي تتم باسم التطوير وكاستجابة لتغييرات عالمية، ليست في الواقع إلا تعبيرات عن أزمة هوية، حضارية؛ وليس فقط أزمة موارد وإمكانيات، وهذه هي الخطورة.
ولا يعني هذا القول خوفًا على هوية ناجزة ثابتة لا تتغير، بل العكس هو خوف على الهوية ألا تتجدد بطريقة صحية فتتبدد، فالتجدد يحدث بالانفتاح وتغير ما هو قابل للتغير مع الحفاظ على الثابت؛ أي النواة الصلدة للهوية، وإلا أضحى التجديد استلابًا، وهذا ما يقع لنا الآن ويتجسد بقوة في مجال التعليم. في حين أن “الهوية” هي فيض متجدد لا تمنعه نواته الصلبة من إمكانات التفاعل مع الواقع المتغير للتمكين لأصول الهوية وتجلياتها في الزمان والمكان والإنسان، وليصبح الوجود بالهوية وفي سبيل الهوية. وهذا الحديث عن الهوية بمناسبة الحديث عن التحدي الحضاري للتعليم ليس فائض كلام، ولكن الهوية هي واقع سواء في أزمتها أو فعاليتها؛ فالهوية: تستدعي: أصول المرجعية، وحقائق التمايز والاختصاص. كما تستدعي أيضًا ضرورات التعايش والتواصل والحوار مع الآخر، وفي هذا الاستدعاء تظل أداة المرجعية (اللغة) وذاكرتها (التاريخ).
إن الهوية الجماعية هي التي تتصل بالمقاصد الحضارية، والوجهة الحضارية (أين؟: المنهج)، وبالبوصلة الحضارية (إلى أين؟: المعيار)، وبالميزان الحضاري: (ماذا نأخذ؟ وماذا نرفض؟)، وبالبينات الحضارية (ماذا نملك من مصادر الاختصاص؟).
كما أن اضطراب هذه الهوية الجماعية يستدعي عكس كل ما سبق، وينعكس على أزمة الهوية في الأمة، التي تنعكس جلية واضحة على التعليم. وسمات هذه الأزمة كما تتجلى في أزمة التعليم:
· تهميش الثقافة الأصلية وأدواتها وخاصة اللغة، وذاكرتها التاريخية الفعالة، سواء بالترك أو بالإهمال أو بعدم التجديد.
· هجوم الوافد والاختراق من جانبه.
· الخصوصية الثقافية تصبح موضوع تساؤل.
· الفجوة بين القيم والسلوك: تمزيق الذات، تشتيت الوعي، فقد الثقة بالقيم.
· المقارنة الدائمة بين حال الأمة وحال غيرها (منظار الدونية).
· العجز عن اتخاذ القرار في المسائل الكبرى والمصيرية.
هذه الرؤية التي أطرحها الآن –وكما جاءت في المؤتمر السنوي في بحث د. سيف الدين عبد الفتاح- تجد بالطبع من ينتقدها بل ويرفضها باسم “العالمية” والتعاون الدولي والانفتاح وغيرها من المفردات، وهؤلاء الناقدون يوجدون في سدة اتخاذ القرار وصنع السياسات فما العمل إذن؟؟
هناك مستويان لهذا العمل: أحدهما آني والآخر استراتيجي، وسأركز على هذا الأخير وهو يطرح التساؤل التالي: هل نجد أندادًا لمن ينبرون لتأسيس الجامعات الخاصة والأجنبية باسم الانفتاح ومسايرة التقدم؛ أي أندادًا ينيرون لتأسيس (الجامعات الحضارية) فتكون نواة تحدث اختراقًا أو تعيد توازنًا قد اختل بقوة؟ هذا يقتضي أولًا الإجابة عن تساؤل: ما هي الجامعات الحضارية التي تؤسس للهوية وتفعلها؟
تبرز الإجابة فيما كتبه د. سيف الدين عبد الفتاح في تفعيله لتراث أستاذنا د. حامد ربيع. فلقد كتب د. حامد ربيع –منذ ما يقرب من العقدين أو يزيد- عن الجامعات الحضارية ما يلي:
الجامعة الحضارية: تشير إلى أن “أي جامعة لابد وأن تملك وظيفة حضارية..”؛ بحسبانها “معقل الثقافة القومية..”، وهي “تمثل علاقة ترابط ثابتة بين الماضي والحاضر والمستقبل عبر نظام القيم التاريخية للمجتمع السياسي”، وهي بهذا الاعتبار “.. كل نشاطها لا يدور سوى حول الوظيفة الحضارية..”، وتتمركز وظيفتها حول “..التعامل مع العالم المعاصر الفكري والحركي من منطلق واحد: بناء وتعميق، وإعادة تشكيل مفاهيم وقيم التعامل الحضاري…” وظيفة الجامعة الحضارية تختلف عن الصورة المتداولة للجامعات الأخرى، والهادفة إلى الارتباط بالنشاط المهني؛ فهي على العكس من ذلك تصير وظيفتها التعامل مع قيم حضارة معينة بغرض تطويرها أو إكمال ما يمكن أن يكون قد أصاب تلك الحضارة من نقص، أو مواجهة ما يعتريها من “جمود أو تيبس لسبب أو لآخر..”.
الجامعة الحضارية كذلك “… أداة من أدوات البناء الأيديولوجي، ولكن من منطلق جماعي منظم ومستتر وثابت..”. الجامعة الحضارية في هذا التصور جامعة لعناصر الوظيفة الحضارية وتفعيلها.
ومن نماذج الجامعات الحضارية- الجامعات الحضارية تؤسس لمشروعات حضارية كبرى، مفهوم الوحدة الأوربية إنما يستمد مصادره الحقيقية من جامعة باريس خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، جامعة اللايتران بروما من أكثر الجامعات الحضارية عراقة واتساعًا حيث الإيناع الحضاري دفاعًا عن الكاثوليكية السياسية، الجامعة العبرية في القدس والتي سبقت إنشاء الدولة الإسرائيلية بأكثر من عشرين عامًا، والتي لا تزال حتى اليوم تتميز بالاستقلال الكامل عن الدولة. الجامعة الأزهرية وحتى بداية الستينيات لم تكن سوى متابعة لتطور عملية الإيناع الفكري والتجديد الحضاري في المنطقة العربية والمجال الإسلامي، الوظيفة الحضارية والتجديد الفكري والحضاري مارستهما هذه الجامعة بفاعلية لتؤصل كيان هوية وفاعلية في آنٍ، إلا أن تراجع دور الأزهر كجامعة حضارية جعله كواحدة من الجامعات المتعارف عليها في هذا المقام.
من الواضح إذن أن الحاجة لهذه الجامعات لتأسيس الهوية -وفق طرح د. سيف الدين عبد الفتاح- ليس فائض كلام ولكنه مقدمة لازمة وواجبة لأصول التمكين الحضاري بأوسع معانيه في مواجهة التحديات الحضارية الممتدة؛ عن طريق تأصيل الذاكرة الحضارية وعمليات الإحياء والتجديد التي تفضي إلى تماسك وتجانس، وحيث تؤصل لثقافة الممانعة والمقاومة، وحيث تعمل على إعادة صياغة وتنظيم الحياة الحضارية والقيمية والعقلية في ضوء عناصر الثوابت الحضارية؛ مما يحقق درجة من الثقة والندية للأمم الأخرى، تكون بمثابة القاطرة لتحقيق العمران.
فإذا كانت أزمة الأمة المادية في جانب كبير منها أزمة ثقافية؛ فإن العمران منطلق تجديد الثقافة (راجع أعمال: مؤتمر “الأمة وأزمة الثقافة والتنمية”).
أما منهاج هذه الجامعة الحضارية فهو “غاية التعبير عن التفاعل بين الذات والآخر لتجديد الهوية وليس استبدالًا لها”.
إن الجامعات الحضارية على هذا النحو -كما يقدمها د. سيف الدين عبد الفتاح نقلًا عن د. حامد ربيع- ليست الجامعات الدينية التي لا تتجه إلا إلى المؤمن المنتمي إلى التقاليد الإسلامية، وتعيش في التاريخ وتنغلق عن العالم المعاصر، ولا تفهم معنى الوظيفة الحضارية، ولكنها شيء آخر ينطلق من الدين كنواة صلدة للثقافة والحضارة، ولكنه لا ينحصر في تقاليده فقط.
العالم العربي والإسلامي عرف نماذج تتفاوت قربًا أو بعدًا، ولكن أقصى ما تأمل إليه هذه النماذج هو تضييق الفجوة بين العلم الشرعي والعلم الاجتماعي، (راجع نماذج التأصيل والتوجيه الإسلامي للعلوم في: جامعة الأزهر، الجامعة الإسلامية في ماليزيا، جامعة دار السلام في إندونيسيا، الجامعة الإسلامية في باكستان).
ولذا يظل الاحتياج قائمًا لجامعة حضارية تساعد على مواجهة التحديات الحضارية للتعليم العالي.

أ-2- ما بين استدعاء الإسلام (تجديد الخطاب الديني) واستبعاده (التربية المدنية)
استكمالًا للدلالات المتصلة بالإطار المجتمعي، وتراكمًا مع الرسائل التي حملتها التحديات الحضارية التي تواجه منظومة إصلاح التعليم الجارية؛ فإن مجالي تجديد الخطاب الديني من ناحية، والتربية المدنية من ناحية أخرى؛ يمثلان وجهين لعملة واحدة، ألا وهي وضع الإسلام في منظومة الإصلاح من أسفل (الخصائص الهيكلية)، وانعكاساتها على منظومة الإصلاح من أعلى (المؤسسية والسياسية والدستورية). وهذه العملة تبين قدر التداخل بين الديني-الثقافي وبين السياسي في عملية الإصلاح الجارية. وكل من وجهي هذه العملة يحمل بصمات التدخلات الخارجية، ولو بطرق وغايات مختلفة؛ ومن ثم يحمل كل من إشكاليات جدال الداخل/ الخارج في عملية الإصلاح، كما يحمل بالطبع كل إشكاليات الجدال بين متطلبات الحفاظ على الثابت، وبين متطلبات الاستجابة للتغيرات المستمرة الداخلية والخارجية على حد سواء التي تواجه عملية الإصلاح.
موجة تجديد الخطاب الديني بعد 9/11: الدوافع والمضمون: من اقتلاع جذور الإرهاب إلى التجديد الحضاري لإرساء جذور العمران ومقاومة الاستبداد.
التجديد الديني، تجديد الفكر الديني، تجديد الفكر الإسلامي: عمليات فكرية وفقهية وعملية مستمرة لها جذورها وذاكرتها التاريخية عبر مسار الأمة، سواء في فترات صعودها وازدهارها، أو تراجعها وضعفها، ولم تنفصل هذه العملية متعددة الأبعاد عن طبيعة تأثير السياق الدولي المحيط.
مثلت قضية الخطاب الديني (الإسلامي) في مصر قضية من قضايا التغيير الاجتماعي والسياسي الهامة، التي ارتبطت بالمراحل التي مر بها تطور المجتمع والدول في مصر من ناحية، والعلاقات الخارجية المصرية من ناحية أخرى.
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتداعياتها على العلاقات الأمريكية الإسلامية؛ برزت هذه القضية في ثوب جديد يتسق والتحديات الخارجية والداخلية التي تواجهها مصر والدول العربية والإسلامية في بداية القرن الواحد والعشرين. فمن بين الاستراتيجيات المتنوعة لمكافحة الإرهاب، والتي دشنتها الولايات المتحدة؛ برز ما يسمى استراتيجية تجفيف منابع الإرهاب، وعلى رأسها الفكرية منها. وكان المقصود بذلك أساسًا المدارس الدينية، وخطاب الدعوة الدينية. حقيقة يجري منذ 9/ 11 تنفيذ هذه الاستراتيجية بأدوات أخرى عسكرية ومالية ودبلوماسية، ولكن يبقى لهذا السبيل المتصل بفكر ونظم تعليم المسلمين جاذبية خاصة في هذه المرحلة[32]. ويرجع ذلك للاعتبارات التالية:
· من ناحية ما أضحت عليه طبيعة الدور الجديد للأدوات الثقافية في السياسة الأمريكية، وذلك في ظل تزايد وزن الأبعاد الثقافية الحضارية في المواجهة الراهنة بين الإسلام والمسلمين وبين السياسات الغربية. وفي قلب هذه الأبعاد يصبح الدين هدفًا مباشرًا ومعلنا في الضغوط الخارجية على المجتمعات العربية والإسلامية، ومن هنا تبرز إشكالية العلاقة بين الضغوط الخارجية من أجل تغيير هذه النظم وخطاباتها، وبين الاحتياجات الذاتية للتغيير ونمط هذا التغيير.
· ومن ناحية أخرى حاجة الخطاب الديني في مصر للتجديد كسبيل لمواجهة التحديات المتجددة؛ وهو الأمر الذي يجري تصميم وتنفيذ استراتيجية لتحقيقه منذ عدة سنوات؛ أي منذ ما قبل أحداث 11 سبتمبر؛ وما بعدها. ولقد لاقت الجهود المبذولة على هذا الصعيد انتقادات واعتراضات متنوعة قبل وبعد الحادي عشر من سبتمبر؛ وهو الأمر الذي طرح السؤال التالي: ما هو نمط التجديد المطلوب؟ وما هي عناصره وضوابطه؟ وقبل هذا ما هي الدوافع للدعوة إليه[33]؟.
ولقد تصاعدت وتيرة المطالبة الخارجية بتجديد الخطاب الديني في مصر –وفي البلدان العربية والإسلامية بصفة عامة- خلال العقد الأخير، وزادت كثافة هذه المطالبة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وقد تعددت قنوات التعبير عن أفكار الغربيين بهذا الصدد من مقالات صحفية، ودراسات وبحوث في الدوريات العلمية، وندوات ومؤتمرات حول هذا الموضوع.
كما تعددت أيضًا زوايا النظر إلى قضية التجديد وموضوعاته وآلياته من وجهة النظر الغربية، ويمكن القول إنه بالرغم من تعددها؛ إلا أن ثمة عددًا من القواسم المشتركة بينهما لعل من أهمها: ربط القضية بظاهرة الإرهاب الدولي، وتحميل المؤسسات الدينية الإسلامية قسطًا أكبر من المسئولية عن الإرهاب، وعدم التطرق إلى الإرهاب الديني غير الإسلامي.
وبالنظر إلى ملامح خريطة الخطاب الفكري والثقافي حول قضية التجديد الديني في مصر خلال العقدين الأخيرين على وجه التحديد، ومنذ 11 سبتمبر بصفة خاصة؛ نجد أنه قد أسهمت كثير من الجهات والمؤسسات والشخصيات في رسم ملامح تلك الخريطة، سواء بإنتاج خطاب جديد يدعو للتجديد، أو بإعادة إنتاج خطابات سابقة أو قديمة وتقليدية بشأن هذا الموضوع. ولم يقتصر الأمر بطبيعة الحال على اتجاه فكري دون آخر، أو على مؤسسة معنية بقضايا الفكر والثقافة والإصلاح دون أخرى؛ بل شاركت مؤسسات متنوعة الاتجاهات (دينية ومدنية- رسمية وأهلية)، وكذلك أسهم مفكرون يمثلون تيارات مختلفة (إسلاميون- ليبراليون- يساريون- مسيحيون..) في تناول أمور عدة مثل:
– تحليل دواعي تجديد الخطاب الديني من وجهة نظر كل تيار أو مؤسسة أو مفكر..
– أهم القضايا التي طرحها المتجادلون حول تجديد الخطاب الديني: تجديد ماذا بالضبط؟ (مثلًا: تجديد مناهج التفسير والتأويل للنصوص الدينية –تجديد أصول الفهم والتفسير والاستنباط، أو ما يعرف بأصول الفقه- تجديد الأدوات والأساليب التي يجري تطبيق الأفكار والاجتهادات القديمة من خلالها في أرض الواقع –تجديد قضايا سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية أم قانونية..إلخ).
– الأهداف المعلنة من قبل كل جهة أو مؤسسة أو شخصية، فيما يختص بتجديد الخطاب الديني؛ بمعنى الإجابة على سؤال مؤداه لماذا نجدد: هل لأن الزمن قد تجاوز الاجتهادات القديمة؟ أم لأنها بحاجة إلى تعديل لتستوعب المتغيرات المستحدثة؟ أم لأننا بحاجة إلى تغيير مرجعية استنباط الأحكام والاجتهادات والأفكار والمشروعات الإصلاحية؟ أم لضرورات تتعلق بالتواصل مع معطيات حضارية متقدمة تمثلها الحضارة الغربية المعاصرة؟ أم أنه لا توجد أهداف واضحة ومحددة لدعاة تجديد الخطاب الديني؟ ولماذا …إلخ.
وتجدر الإشارة في هذه السياق إلى أن ثمة فرضية مؤداها أن هدف أغلبية المشاركين في الدعوة لتجديد الخطاب الديني (من أفراد ومؤسسات) هو تبرئة الذمة من تهمة الإرهاب، ونفيها عن أنفسهم أولًا، وعن الجهات أو المؤسسات أو التيارات التي يمثلونها أو ينتمون إليها ثانيًا؛ ومن ثم الاستجابة لضغوط وإملاءات خارجية في الاتجاه؛ أي إن ما أنتجوه من خطاب فكري بهذا الخصوص لم يكن استجابة واعية بضرورات التجديد انطلاقًا من اقتناع ذاتي بجدارة الخطاب الديني في أن يسهم في التصدي للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يعاني منها المجتمع، بقدر ما كان خطابهم الداعي للتجديد استجابة لتلك الضغوط الخارجية التي أشرنا إليها.
وانطلاقًا من نتائج مشروع بحثي جامع وشامل حول أبعاد هذا الموضوع الفكرية والعملية[34] يمكن تقديم مجموعة من الملاحظات ذات الدلالة فيما يتصل بموضوعنا أساسًا[35].
المجموعة الأولى من الملاحظات حول موضوعات وقضايا تجديد الخطاب؛ فبالرغم من تعدد استعمالات المفهوم، وتعدد المعاني بتعدد منظورات الباحثين ومستويات التحليل؛ فإن موضوعات الخطاب الديني وقضاياه متنوعة سواء تلك المطروحة بالفعل على الساحة أو تلك التي في حاجة لاستدعاء وتركيز عليها، أو تلك التي في حاجة لتجديد، ناهيك عن عدم وجود توافق أو رضاء على أكثر من مستوى؛ ففي حين ذهب البعض إلى التركيز على الفقه كميدان لعملية تجديد الخطاب الديني؛ ذهب آخرون إلى أن التجديد يجب أن ينصرف بالدرجة الأولى إلى الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وضرورة معالجتها في ضوء المرجعية الدينية، وعلى نحو يتجاوز معه الخطاب الجديد الإطار الفقهي/ القانوني بالمعنى الضيق. كذلك ومن أهم الموضوعات في الخطاب الديني التي تناولتها النخب الفكرية والثقافية المتجادلة على هذه الساحة موضوعات الهوية، علاقة الدين بالدولة والمجتمع، التنمية، العمل الاجتماعي والمدني المؤسس من منظور إسلامي، وجميعها لم يتحقق اتفاق أو رضاء عام بين الاتجاهات النخبوبة المختلفة حولها.
وفي المقابل فإن المفاهيم التي حازت الاهتمام في الخطابات الغربية هي مفاهيم: الجهاد والعنف، والنظرة الدونية للمرأة، والاستبداد والثيوقراطية. أما الجمهور العام من المواطنين المصريين؛ فالموضوعات التي تهمهم هي موضوعات المعاملات المدنية، وقضايا الأخلاق، والسلوكيات غير السوية، وبعض مسائل العبادات ومدى تأثرها بالتطورات التكنولوجية وثورة الاتصالات. خلاصة القول إن هناك تباينًا كبيرًا في تحديد أجندة الموضوعات في الخطاب السائد، وكذلك الموضوعات التي يجب تجديد الخطاب بشأنها؛ هذا الأمر الذي يفرض ضرورة الاتفاق على ترتيب للأولويات، فضلًا عن ضرورة الانتقال من المعالجات العامة إلى تقديم تصورات واضحة حول مناطق التجديد ذات الأولوية.
المجموعة الثانية من الملاحظات حول غايات ومآلات التجديد:
يرجع ذلك الوضع السابق تشخيصه إلى أمرين: أن المبادرات الداعية لتجديد الخطاب الديني –في السنوات الخمس الأخيرة- كانت بمثابة رد فعل على الضغوط الخارجية، كما يرجع في جانب آخر إلى تراكم مشكلات الخطاب الديني على المستوى الداخلي دون وجود جهد منظم ودائم في هذا المجال.
ولهذا فإن من أهم القضايا التي أثارتها مبادرات تجديد الخطاب الديني تتصل بدوافع وغايات هذه المبادرات: هل هي مجرد رد فعل للضغوط الخارجية، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أم أنها تأتي كتطور تلقائي للفكر الديني، وسعيه للاستجابة لضغوط الواقع وتحدياته؟ أم هي عملية شاملة وممتدة تستهدف التجديد الحضاري العام للأمة، وليس فقط الاستجابة لضغوط الخارج المتصلة بالحرب الأمريكية على الإرهاب؟ بعبارة أخرى فإن النقاشات على هذا الصعيد بينت أن عملية التجديد يجب أن تقع في صلب الجهود الرامية إلى التجدد الحضاري بثقافة العمران ومقاومة الاستبداد، وعدم الاقتصار على متطلبات ما يسمى اجتثاث جذور الإرهاب وفق النظرة الأمريكية. ولذا فإن الاستجابة للواقع الداخلي وليس مجرد الفعل للخارج؛ تتطلب الجمع بين قيم التوحيد والعمران؛ ليسهم التجديد في تحقيق الإصلاح والتقدم، ولا يكون مجرد وعظ أخلاقي، أو تحفيز للتدين بالمعنى الضيق، مع ضرورة أن يتشابك خطاب المقاومة للظلم والاستبداد الداخلي مع خطاب الجهاد ضد الاستغلال الخارجي والعدوان.
المجموعة الثالثة من الملاحظات حول موضع هذا التجديد من التشابك بين الثقافي والسياسي في عملية الإصلاح الجارية؛ فلقد ارتبطت النقاشات حول تجديد الخطاب الديني بعدة مستويات من النقاشات حول مدارس التجديد الأصلية في المجتمع، والحوارات الفكرية حول إسهام الدين في عمليات التغيير المجتمعي بالإيجاب أم السلب، والجدالات حول علاقة الدين بالدولة والمجتمع، سواء من منظور تحديثي ينزع إلى تحجيم دور الدين في الحياة العامة أو العكس.
هذا ولم يوجد اتفاق في الآراء خلال هذه النقاشات؛ مما يبين موطن ضعف آخر في الجماعة الوطنية المصرية. إلا أنه من الواضح أن هذه النقاشات –متعددة المستويات- قد جمعت بينها خلفية واحدة؛ ألا وهي التساؤل عن أسباب التحول من التركيز على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية (المادية) في تفسير الظاهرة الإسلامية، إلى إعطاء وزن أكبر للمكون الثقافي والمعنوي؟ وهل يعني ذلك أن الخطاب الديني –كما يرى البعض في الغرب- هو المسئول الأول عن حالة التدهور والضعف، وعما يسمى الإرهاب الإسلامي؛ ومن ثم فإن مفتاح الخروج من الأزمة (التي تمتد عواقبها إلى الغرب) هو تجديد هذا الخطاب، وفق وصفة معينة يضغط الغرب من أجلها (ضمن آليات ضغطه لتغيير منظومات القيم)؟
أم أن هذا الاهتمام بهذه المكونات الثقافية تعكس إدراكًا لقيمة الدين ودوره الحاسم في المجتمع والسياسة في مصر، وخاصة على ضوء ما آل إليه الخطاب الفكري العلماني والخطابات والسياسة الرسمية المصرية من جمود وتكرار وانفصال عن المجتمع ومشكلاته، فضلًا عن مسؤوليتهما عن كثير من مواطن الضعف والفشل التي حاقت بمسار تجربة التحديث في مصر.
التربية المدنية: التشخيص والتفسير والغايات: من أهداف التسامح الديني ومقاومة السلطة الأبوية وثقافة السلام إلى التربية على قيم المواطنة والديمقراطية.
عن الحالة العامة لتجربة التربية المدنية كما أفصحت عنها نتيجة أعمال أحد الملتقيات الحوارية[36] فهي تتلخص في المقولة التالية[37]: “إن عملية التربية المدنية في مصر – على الأقل بالمعنى المتعارف عليه حتى الآن عن هذه العملية لم تعد بعد جزءًا مندمجًا في نسيج العمليات المجتمعية التجديدية والإصلاحية، التي يجب أن تقودها المؤسسات التربوية الأصيلة؛ فهي ليست إلا مجرد تجارب موازية تقوم بها مؤسسات أخرى، على صعيد المجتمع المدني، أو مجرد تجارب مبعثرة وجزئية وغير ممتدة أو متصلة على صعيد فعاليات هذه المؤسسات التربوية، ناهيك بالطبع عن تنازعها بين المرجعيات الفكرية والسياسية المتنافسة؛ نظرًا لغياب تيار رئيسي للجماعة الوطنية المصرية. في حين أن تجارب الغرب في هذا المجال – سواء من حيث المفهوم أو التطبيق- هي جزء مندمج في مؤسسات المجتمع والدولة، هي روح النظام بكل مستوياته، وهي نتاج ومحصلة تراكم ممتد ومتصل، كما أنها تعبر عن فلسفة وعن رؤية وعن إطار مرجعي؛ ومن ثم فهي ليست فكرة أو خبرة تسوقها الحكومات، أو تدعي مساندتها لتأدية وظيفة ودور يخفف من أعباء يجب أن تلتزم بها أصلًا هذه الحكومات، ولا تفرط فيها. وبدلًا من ذلك يصبح مجرد تمويل برامج للتربية المدنية عبئًا في حد ذاته؛ حيث لا يجد بانتظام ما يكفي من مصادره الذاتية، بقدر ما أنه ينبع أيضًا من احتياجاتنا ومتطلباتنا الذاتية؛ ولذا ليست عملية التربية المدنية في مصر عملية مستمرة ومتراكمة، ولو بقدر مواردنا وقدراتنا؛ بل هي تتسم بمحدودية الانتشار والتأثير بالقياس لحجم المهمة والتغير المطلوب إحداثه”، ناهيك عن كونها –فكرة ومنهجًا- منقولة من الخارج.
وإذا انتقلنا من تشخيص الحالة العامة إلى التفسير[38] يمكن القول إنه إذا كانت برامج وخبرات التربية المدنية في مصر تطرح أيضًا إشكالية من أين ابتداء الإصلاح: من الثقافي إلى السياسي أو العكس؟ كما تطرح أيضًا إشكالية مدى قدرة المجتمع المدني على إحداث تحول نحو الديمقراطية؛ إلا أن هذه الساحة تطرح جدلًا آخر أكثر أهمية، يتفرع إلى مستويين: أولًا- مستوى الجدل حول مدى حياد المفهوم، وحول مدى كونه بديلًا فاعلًا لتنشئة جديدة نحو تحول ديمقراطي حقيقي، وحول أهدافه العولمية، وخاصة أنه مفهوم مستورد تُبنى عليه خبرات منقولة من الخارج، وثانيهما مستوى الجدل حول إشكالية الخصوصية والعولمية في مضمون البرامج وغاياتها ودوافعها؛ ومن ثم الدعوة لتوطين هذه البرامج ومراعاة موضع الدين منها بدلًا من اعتبارها -نظرًا لمدنيتها- مناقضًا أو معاكسًا للديني[39].
وعن المستوى الأول من الجدالات: فليس هناك اتفاق في الأدبيات المعنية حول ما إذا كانت عملية التنشئة هي بالفعل عملية محايدة تؤدي إلى تكوين وعي مستقل لدى الأفراد، ناهيك عن عدم وجود مفهوم واحد للتربية المدنية؛ وهذا ناتج في جانب منه عن العلاقة بين السياق السياسي والسياق المجتمعي الثقافي للتجربة المعنية.
فعلى سبيل المثال فلقد اقترن شيوع مصطلح التربية المدنية في تجربة التحول الديمقراطي في شرق أوروبا قبل سقوط النظام الشيوعي -وذلك في محاولة للالتفاف على استخدام مصطلح السياسة- بهدف محدد وهو القضاء على نظم قائمة وإعادة بنائها.
ومن ناحية أخرى؛ تختلف السياقات السياسية المقارنة لتجارب وخبرات التربية المدنية في مناطق العالم المختلفة؛ مما أثر على مضمون هذه التجارب ومحتواها استجابة لمنظومات القيم الجديدة التي يراد بثها، ولهذا كله يرفض البعض استخدام المصطلح انطلاقًا من الحاجة إلى مصطلح ذو ذاكرة وطنية يعكس الخبرة المصرية. كما يرفض البعض الآخر اعتبار التربية المدنية مجرد منهج للمعرفة، على أساس أن المنهج لا ينفصل بدوره عن فلسفة ورؤية ما قبل المنهج وما بعده، وهو الأمر الذي يقودنا إلى المستوى الثاني من الجدالات الخاصة بإشكالية الخصوصية/ العالمية).
فإن مجال التربية المدنية في مصر من المجالات التي يتضح فيها التأثيرات الخارجية في ظل العولمة بقيادة مشروع الهيمنة الأمريكية العالمية. ولذا يرفض البعض كونه مفهومًا محايدًا أو أنه مجرد تربية على منهاجيات سلوك ومنهاجيات معرفة؛ بل يرى أنه تربية على منظومة قيمية جديدة ذات إطار مرجعي، ولذا فالتربية المدنية ليست محايدة أو إنسانية عالمية كما يقول البعض، بل يرى البعض الآخر أن مفهوم التربية المدنية وإن بدا أنه يريد فض الاشتباك مع العسكري والرسمي والديني، إلا أنه يشتبك مع الديني، ويستهدف تطويع الطابع القومي العام، وصبغه بصبغة عولمية علمانية تنتزع هذا الطابع من سياقه الثقافي والحضاري كوسيلة من سبل الإذعان الجديدة؛ ومن ثم فالتربية المدنية ليست سبيلًا حقيقيًّا نحو تحول ديمقراطي كما يزعم البعض؛ بل هي سبيل لتحول على نمط الديمقراطية الغربية وفق فلسفتها ومنظومة قيمها الخاصة، وفي قلبها العلمانية. ولذا فإن برامج التربية المدنية. المنقولة إنما تتحيز لمنظومة قيم الديمقراطية الغربية.
بعبارة أخرى في مقابل الاتجاهات التي ترى في برامج التربية المدنية سبيلًا نحو تنشئة بديلة عن الديمقراطية ومقاومة الاستبداد؛ فإن فريقًا آخر يرى أنها يجب أن تتجاوز مجرد التحول الديمقراطي، وتمتد إلى نشر ثقافة النهضة بصفة عامة، وإلى اجتثاث جذور الاستقطاب الديني والسياسي في مصر، وإحداث ثورة ثقافية حقيقية في المجتمع المصري، وليس فقط ادعاء مداواة بعض العلل التي يجري تضخيمها (مثل عدم التسامح مع غير المسلمين، وعواقب ما يسمى السلطة الأبوية…)، أما فريق ثالث فينتقض مشروعية استخدام المفهوم وتطبيقاته المستوردة نظرًا لما يحمله من تحيزات معرفية وسياسية عولمية لا تستقيم ولا تتطابق بالضرورة مع احتياجاتنا ومنطلقات النموذج المعرفي والحضاري الإسلامي؛ لأن التربية المدنية كفلسفة وكعملية لا يمكن أن تكون محايدة أو إجرائية.
ولهذا كله؛ فإن الدعوة إلى توطين برامج التربية المدنية قد أثارت بدورها جدلًا آخر حول موضع الدين منها، من أجل إعادة بناء ثقافة مقاومة الاستبداد، وبناء العمران، ومقاومة الإذعان، وغيرها من الثقافات التي تعكس مفرداتنا الحضارية، وتعكس أولويات احتياجاتنا السياسية والمجتمعية، ووفق أولويات أجندتنا وليس أجندة التأثيرات الخارجية باسم قيم الإنسانية العالمية، التي تستبعد الديني (النواة الصلدة لخصوصياتنا)، أو تحاول على الأقل فرض المفهوم الغربي عن الدين.
ومن هنا أضحى موضع الدين من البرامج في صميم الجدال حول مدى مراعاتها للخصوصيات الثقافية وحول كيفية استدعاء هذا الديني دون فقدان صفة المدني أو التعدي على حقوق المواطنة. وبهذا الصدد تبلور اتجاهان أساسيان.
الاتجاه الأول- يرفض ارتباط التحول الديمقراطي والتربية المدنية والمواطنة بالدين، في حين يرى الاتجاه الثاني أنه يمكن أن يكون للدين موضعه على أكثر من مستوى من هذه العملية المركبة.
ومن أسانيد الاتجاه الأول ما يلي:
– عدم وجود مجتمع مدني فاعل في مصر؛ نظرًا لعدم قبول الاختلاف في الآراء والمعتقدات، مع وجود نظام غير علماني يوظف الدين ليصبغ الشرعية، ولا يتحقق دور للدين في التحول الديمقراطي إلا في ظل دور قوى اجتماعية أخرى.
– ضرورة عدم الخلط بين العلمانية والدين، على أساس أن العلمانية لا تقبل مرجعية دينية ولكن تقبل وجود دين، ولأن تحكيم مرجعية دينية ما في مجتمع متعدد الأديان يطرح التساؤل عن كيفية احترام الاختلاف في ظل المواطنة التي هي مرجعية الحقوق السياسية.
– لا وجود للديمقراطية بدون علمانية، والمنهج الديني يقوم على مسلمات يطبقها على الواقع، وعلى نحو يقدس سلطة النص كمصدر للمعرفة، في حين أن منهج التربية المدنية هو المنهج الاستقرائي والجدلي وليس القياسي أو الاستنباطي.
– ضرورة التمييز بين التربية الوطنية (ومصدر قيمتها هو أيديولوجية النظام الحاكم)، وبين التربية الدينية (ومصدرها النصوص المقدسة)، وبين التربية المدنية (ومصدرها عقد اجتماعي يصوغه المجتمع المدني وليس مرجعية فصيل واحد في هذا المجتمع).
أما الاتجاه الثاني الذي يتحفظ على صفه المدني إذا كانت تعكس التضاد أو الصراع مع الديني؛ فإن أسانيده تتلخص في الآتي:
– العلاقة بين المدني والديني كانت قائمة في الخبرات الأوروبية والأمريكية ذاتها.
– خطأ القول بتهديد الديني للمدني في التاريخ الإسلامي؛ لأنه قول مبني على رؤية انتقائية غير موضوعية لهذا التاريخ، تقوم على إلباس المفاهيم المعاصرة لخبرات تاريخية.
– عدم اتفاق الأدبيات المتخصصة على الآثار السلبية للثقافة العربية على التحول الديمقراطي، ورفض بعضها اتهام الإسلام باعتباره مكونًا أساسًا في هذه الثقافة.
– الأسرة والمؤسسة الدينية تقوم بدور إلى جانب المؤسسات الأخرى في التربية المدنية، والدين هو مصدر القيم والأخلاق التي تنطلق منها هاتان المؤسستان.
طالما أن مفهوم التربية المدنية غير محايد؛ إذن فيجب أن يكون له إطار مرجعي ومنظومة قيم قد يلعب فيها الدين دورًا أساسيًّا، فينعكس على المفاهيم الأساسية في عملية التربية؛ مثل المساواة، الحرية، العدل، المسئولية الاجتماعية، الجمال والخير، الأخلاق.
– الخبرة العربية الحديثة تبين أن العلمانية ليست بالضرورة ضمانًا للتحول الديمقراطي وحماية الأقليات أو قوى المعارضة؛ وهو الأمر الذي يفرض مراجعة علمية في مسألة علاقة كل من العلمانية والدين بالتطور الديمقراطي، وخاصة في الدول العربية والإسلامية.
– مغزى تراجع بعض أعلام العرب والمسلمين عن الدفاع وعن الأخذ بالأفكار والتجارب الغربية وزرعها في بلادنا؛ فبعد أن كانوا من غلاة العلمانية رجعوا إلى جذورهم، التراث الإسلامي مليء بقواعد هامة تستحق استدعائها بدلًا من استيراد نماذج غربية.
– وأخيرًا خطورة نقل خبرة معينة (مثل الأمريكية) استبعدت الدين لاعتبارات ظرفية خاصة بها إلى تربة أخرى ذات ظروف مغايرة مثل مجتمعاتنا؛ حيث الدين مصدر هام للقيم والتوجه والسلوك، فضلًا عن كونه مصدر للتوحد والالتحام؛ ومن ثم ضرورة مراعاة الخصوصية الحضارية حين استدعاء تجارب الآخرين؛ ذلك لأن القيم -وإن كان الجميع يتفق على مسمياتها- إلا أن لها مضامين تضعها التقاليد الفكرية والحضارية، ويتطلب تطبيقها التفاصيل التي تختلف من سياق لآخر؛ فالقيم الإنسانية ليست مطلقة، ولا تعكس مفهومًا واحدًا في السياقات الثقافية والحضارية المختلفة، ناهيك عن المفاهيم المقارنة بين منظورات مادية/ علمانية، وبين منظورات قيمية أو دينية.

ب- الإطار الدستوري والسياسي والمدني: تناقضات وازدواجيات الإصلاح
هل دستور بلا صبغة أو روح، وديمقراطية بلا إسلاميين، ومواطنة علمانية، ومجتمع مدني ليبرالي وحقوق إنسان عالمية (بلا دين)؟ هل هذا هو المطلوب؟ وهل هذا هو المآل الذي تقود إليه التدخلات الخارجية وتوازنات القوى الداخلية المفروضة من أعلى النظام السياسي؟
إن حلقات “التعديل الدستوري” من ناحية، والانتخابات التشريعية من ناحية ثانية، وتفاعلات المجتمع المدني وحقوق الإنسان والمواطنة من ناحية ثالثة -التي شهدتها الأعوام الثلاثة الماضية من عملية الإصلاح- قد أفرزت الأسئلة المطروحة عاليًا؛ وهي أسئلة تجسد أساسًا الأبعاد الثقافية لهذه الحلقات، والتي تزامنت مع أبعاد أخرى، وإن كانت تلك الأخيرة هي التي حازت اهتمامًا علنيًّا أكبر إلا أن دلالات الأبعاد الثقافية كانت شديدة الوضوح والمغزى أمام المراقب المهتم بدرجة تأثير إشكالية الخصوصية الثقافية من عدمها. والجدير بالذكر أن التدبر في هذا التأثير لابد أن يربط بين هذه الحلقات المشار إليها؛ فهي ذات دلالات متراكمة ومترابطة كما سيتضح من العرض التالي.

ب- 1- دستور بلا صبغة: مطالب تعديل المادة الثانية من الدستور
تظل مسألة التعديل الدستوري في مصر تثير نقاشات ساخنة، وخاصة بعد تعديل المادة 76، على اعتبار أن عامي 2006- 2007 عامين حاسمين في مآل هذه القضية وغيرها من مطالب الإصلاح.
وبدون الدخول في تفاصيل الاتجاهات المختلفة حول درجة التعديل أو التغيير المطلوبين، ومجالات كل منهما، وشروط تحققها… إلخ، وعلى ضوء التدبر في تطور المسألة الدستورية في مصر وتاريخها عبر ما يزيد عن القرن، وصولًا إلى المرحلة الراهنة من هذا التطور[40]؛ يمكن التوقف عند ثلاث مقولات (ربما اتفق عليها الجميع) ذات مغزى في هذا الموضع من الدراسة؛ فالمقولة الأولى هي: متى يتعين وضع دستور جديد، ومتى يتعين تعديل الدستور؟ وهما أمران يرتهنان بحالة شرعية النظام القائم في نظر الشعب والقوى السياسية والاجتماعية الفاعلة؛ فإن تغيير الدستور يحتاج إلى شرعية جديدة كما أن الدستور لابد وأن يجسد شرعية جديدة، ومن هنا كان تمسك النظام القائم (تأكيدًا لاستمرار شرعيته) بمجرد تعديل بعض مواد الدستور، وفي المقابل طالبت معظم قوى المعارضة بتغييره أو تعديله جذريًا تأكيدًا لرفضها شرعية النظام القائم. المقولة الثانية؛ هي: هل التعديل أو التغيير هو منحة من الحاكم الموجود؛ ومن ثم هو نتاج إرادة الحاكم وأجهزة النظام، أم هو نتاج فاعلية القوى المجتمعية والسياسية وقدرة المجتمع على التحرك وراء مطالبه من ناحية، وتفاعل التباينات بين مطالب هذه القوى في ظل طبيعة البيئة السياسية المحيطة داخليًّا وخارجيًّا من ناحية أخرى؟
والمقولة الثالثة: هل مجرد التعديل الدستوري أو حتى تغييره سيحقق الإصلاح الشامل؟ لأن النصوص بمفردها لا تكفي، والأمر بحاجة إلى إرادة سياسية وقوى مجتمعية فاعلة لتحقيق الأهداف الموجودة، ابتداء من المشاركة في التعديل أو التغيير المطلوب، وصولًا إلى تطبيق روح الدستور ونصوصه التي جمدت وتأزمت منذ فترة.
وإذا كان النظام يرفض تغيير الدستور لاعتبارات عدة من أهمها ما يتصل بتأكيد شرعيته؛ فإن بعض المواقف الفكرية[41] ترى أنه إذا كان الدستور يعكس الشكل القائم لتوازنات القوى السياسية في الدولة؛ فنحن لسنا الآن في حاجة لتعديل دستوري شامل؛ لأن التشكل الجاري لتوازنات القوى لم يكتمل بعد، ولذا؛ فإن أي تغيير دستوري في ظل هذه الحالة سيقود إلى أحد الأمور التالية: جمود أو عشوائية العمل السياسي اللاحق، أو تشكل التكوينات على عكس ما توقع المطالبين بالتعديل الشامل. ومن ثم -وفق هذا الرأي- فإن الاستعجال بتعديل المادة 76 لم يحقق المرجو منه؛ بل أبقى الوضع على ما كان عليه، بل وبدرجة أسوأ؛ ذلك لأن توازنات القوى الآن لا تتشكل بطريقة حرة، ولم تتبلور بعد بالطريقة المطلوبة لإحداث إصلاح رشيد وليس إصلاحًا زائفًا، ولأن شرعية النظام القائم ما زالت تأتي من أعلى وليس نتاج حراك اجتماعي.
ومن ناحية ثانية تساءلت مواقف أخرى فكرية وسياسية[42]: ما العلاقة بين البنية التحتية للاستبداد (سواء التي صنعها النظام بالقهر، أو التي تجد بعض جذورها في جوانب من ثقافة العامة) وبين استبداد النظام، بحيث لا يصبح مجرد وضع دستور جديد أو تعديله هو الضمان لنظام ومجتمع ديمقراطي حقيقي؟ ذلك لأن الخطر القائم هو أن الاستبداد يتم تقنينه وتحصينه بنصوص وأحكام دستورية، ويتم تكوينه نتيجة انعدام الإرادة العامة؛ ومن ثم فالأهم في جدالات الدستور الجارية هو الواقع السياسي والاجتماعي وليس القانوني فقط؛ حيث إن الدستور وتطبيقه إنما يعكس علاقات القوى ومدى فاعلية حركتها لحماية أهداف الدستور وتحقيقها. ولذا؛ فإن المهم هو كيفية تفكيك البنى التحتية والفوقية السلطوية للاستبداد.
وعلى ضوء ما سبق، وبالنظر إلى المادة الثانية ذات الدلالات المباشرة بالنسبة لإشكالية دراستنا؛ نجد أنها المادة التي تعبر عن خصوصية الثقافة العامة السائدة في الدولة؛ حيث إن من أدوار الدستور ووظيفته تحديد هذه الخصوصية، فضلًا عن تنظيم الحقوق والواجبات، وتنظيم توزيع السلطات وممارستها. وإذا كان تفسير ظهور هذه المادة في دستور 1971 يخضع لاعتبارات عديدة، من بينها لعبة توازنات القوى السياسية التي أدارها السادات بين الإسلاميين وغيرهم، وذلك في مرحلة وضع الدستور ومرحلة تعديله؛ حيث صوت الناخب 1980 على تعديلين متزامنين: الرئاسة مدى الحياة، والشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للقوانين في مصر؛ فإن فهم دوافع الجدال الراهن حول هذه المادة الدستورية ومآل هذا الجدال لابد وأن يرتهن أيضًا بلعبة القوى السياسية وتوازناتها.
فنجد أن النظام الحاكم -سواء النخبة الحاكمة أو الحزب الوطني- لم يعلن عزمه المساس بهذه المادة. ويرى البعض أن هذا الموقف يعبر عن نمط من التلاعب الرسمي بهذه المادة لمنع تغيير الدستور؛ حفاظًا على ما بقي من شرعية النظام القائم. وفي المقابل هناك المطالبات الصادرة من بعض الدوائر العلمانية الليبرالية واليسارية على حد سواء، وكذلك القبطية؛ بإلغاء هذه المادة على اعتبار ما في هذه المادة من مساس بالمواطنة التي تفترض المساواة بين الجميع من حيث الحقوق والواجبات، دون تمييز بسبب الدين أو غيره. ولا يمكن إدراك أهداف هذه المطالب ومآلاتها بدون الرجوع إلى الإطار المرجعي للإصلاح، الذي تستند إليه هذه القوى، والذي لم تعد تقتصر مقتضياته في هذه المرحلة على علمانية الجزئيات؛ بل اتجهت مباشرة إلى علمنة الكليات، تحت ذريعة الاستجابة لمتطلبات عصر “حقوق الإنسان والمواطنة والعولمة بلا مرجعية للخصوصية الثقافية”.
ولقد كان امتداد مطالب دوائر من الأقباط إلى هذا المجال من أبرز معالم التغيير في نطاق ما يسمى “المشكلة القبطية”؛ فلم تعد المطالب قاصرة على حل المشاكل المعتادة (في نطاق الدفاع المشروع عن حقوق دينية مشروعة يجب ضمانها واحترامها، ومنع انتهاكها تحت أي ذريعة)، ولكن امتدت للهجوم على مرجعية أغلبية وجمهور الشعب في مصر؛ وهو الأمر الذي تفسره عدة اعتبارات من أهمها الصعود السياسي الإسلامي، وما يسمى في نظر البعض تزايد تديين المجال العام. بعبارة أخرى إن تغيرات توازنات القوى السياسية تؤثر على جدالات: ما الذي يتم تعديله من بنود الدستور، وليس فقط حول الحاجة إلى نظام جديد برمته وفي القلب منه دستور جديد.
وإذا كانت المواطنة هي مرجعية الحقوق والواجبات السياسية بلا تمييز؛ فإن مرجعية الحقوق والواجبات الثقافية العامة تجد مصادرها في مرجعية الثقافة، أو ما يسمى مرجعية النظام العام. والمادة الثانية من الدستور تجسد هذا الأمر، وتعديلها على نحو يلغي النص على أن الإسلام هو دين الدولة؛ إنما هو افتئات على خصوصية الجمهور باسم عالمية حقوق الإنسان، أو باسم مخاوف بعض المثقفين الأقباط وهواجسهم من الخضوع لنظام قانوني ينبع من شريعة لا يؤمنون بها. كما أن التمسك بهذه المادة من الدستور، وأن تكون الشريعة الإسلامية مصدرًا أساسيًّا للقوانين، لا يعني على الإطلاق عدم الاستجابة للتطورات المعاصرة؛ بل هو سنة جرى عليها حكام مصر؛ مما حفظ بذلك خصوصية النموذج المصري مقارنة بغيره من نماذج الدول الإسلامية. ومن هنا مغزى سلسلة المقالات التي نشرها فضيلة د. علي جمعة مفتي الجمهورية في جريدة الأهرام في يونيو- يوليو 2006 (والسابق الإشارة إليها) خالصًا في نهايتها للقول[43]: “… إن مصر دولة إسلامية، ولا يعني هذا أنها دولة دينية تسيطر فيها السلطة الدينية على القرار السياسي، ولا يعني أيضًا أنها دولة كافرة قد أنكرت الدين وتخلت عنه، بل إنها تجربة فريدة استطاعت بها أن تبقي على دينها، وأن تبقى في ذات الوقت على حرية الاعتقاد المكفولة لأبنائها، واستطاعت أيضًا أن تستمر في موكب التاريخ، وألا تخرج أو تنسلخ عن هويتها…
ومن هنا الأهمية القصوى للحفاظ على المكتسبات التي اكتسبتها التجربة المصرية في دستورها وقوانينها ونظامها القضائي، وأنها مثال يحتذى؛ فإن أمثلة كثيرة حاولت الذوبان في العصر مثل التجربة التركية، أو حاولت الحفاظ على الهوية بطريقة معينة”.
بعبارة أخيرة ومهما كانت دوافع مواقف الأطراف المختلفة (النظام، قوى المعارضة الإسلامية، قوى المعارضة الليبرالية واليسارية ونخب قبطية) من تعديل المادة الثانية من عدمها؛ فإن الجدال حولها لا ينفصل عن حلقات أخرى: نتائج الانتخابات التشريعية، طبيعة المجتمع المدني وفعالية دورها كما سنرى لاحقًًا.

ب- 2- ديمقراطية بلا إسلاميين ومواطنة علمانية: هل هذا هو الحل؟ (قراءة في مغزى الانتخابات التشريعية (2005)[44]
قبل انتخابات نوفمبر– ديسمبر 2005 وبعدها؛ التحم بالحملة الانتخابية والعملية الانتخابية وما بعد نتائجها وأحاط بها جميعًا؛ سياق ذو ملامح ثلاث: تواتر غير مسبق من حيث سرعته وطبيعته لأحداث ما يسمى “الفتنة الطائفية” (ابتداء من أزمة وفاء قسطنطين إلى أحداث مسرحية الإسكندرية، ثم أحداث الإسكندرية الثانية، ومؤتمر أقباط المهجر).
ومن ناحية ثانية: تفجر أزمة الرسوم الدانماركية بكل ما تحمل من دلالات للنفق المظلم الذي وصل إليه حوار الأديان والثقافات والحضارات، في نفس الوقت الذي لم يكف فيه التدخل الخارجي المسلح –عدوانًا واحتلالًا- في العراق وفلسطين ثم في لبنان، كما لم يكف فيه حديث واشنطن ولندن عن الديمقراطية والانتخابات والمواطنة وحقوق الإنسان.
ومن ناحية ثالثة: انفجار قضايا رأي عام من قبيل حقوق البهائيين، الارتداد، إثبات نسب أطفال الزواج العرفي (هند الحناوي- الفيشاوي)، إلغاء خانة الديانة من البطاقة الشخصية، إلغاء البرامج الدينية الإسلامية من التلفزيون، ومن ثم تبلورت جدالات تستدعي محاكمة منظومة قيم المجتمعات الإسلامية بصفة عامة، والعلاقة بين الإسلام وحقوق الإنسان بصفة خاصة.
هذه الملامح الثلاثة -في اجتماعها- قد تزامنت مع كل من صعود الإخوان في قلب جدالات الانتخابات (قبلها وخلالها وبعدها)، وتصعيد مخاوف الأقباط على المواطنة.
إن القراءة الجامعة في هذا الاجتماع بين هذه الملامح وهذا التزامن مع هذين الصعودين لتقدم لنا مغزى أساسيًّا آخر عن قدر التشابك التي أضحت عليه الأبعاد الثقافية/ الدينية للإصلاح، مع الأبعاد السياسية للإصلاح، وعلى نحو يقدم لنا أيضًا رسائل واضحة عن موضع الخصوصية الثقافية الناجمة عن المرجعية الإسلامية (باعتبارها النواة الصلدة) في غمار معارك الإصلاح الجارية في مصر.
إن متابعتي لخريطة هذه اللقطة من سيناريو فيلم الديمقراطية/ المواطنة في مصر في بداية القرن الواحد والعشرين؛ كشفت عن أهم قضايا هذا السيناريو، كما ولدت عندي مجموعة من الرؤى.
وعن القضايا فهي:
(1) هل هيكل النظام السياسي من أعلى يعكس واقع خريطة القوى المجتمعية من أسفل؟
2- هل الجماعة الوطنية والاندماج الوطني لا يتحققان إلا بدون تديين المجال العام.
3- حدود العلاقة بين الديني/ المدني/ السياسي على الصعيد الحزبي والمجتمعي.
4- المواطنة وموضع الدين بين المجال العام والخاص.
5- العلاقة بين مرجعية الثقافة السائدة في الأمة ونظامها العام (الأسس الثقافية للمواطنة)، مرجعية الحقوق والواجبات السياسية (الأسس السياسية للمواطنة).
إن هذه القضايا الخمس تلخص –من وجهة نظري- أبعاد دراسة تأثير الخصوصية الثقافية على نموذج العلاقة بين الدين وبين الديمقراطية والمواطنة.
ومن ثم؛ فإن أطروحتها هي: أن نمط الديمقراطية ليس نمطًا واحدًا فقط؛ أي النمط الغربي الذي يستند إلى فلسفة ذات خصائص معينة، وهي العلمانية/ الحداثية؛ ذلك لأن الديمقراطية يمكن أن تتخذ أنماطًا أخرى، تنبثق من مرجعيات أخرى ومنها الإسلامية. ولذا، قد يكون من الأنسب أن نتحدث بهذا المجال بمصطلح آخر غير مصطلح الديمقراطية، حتى لا تتصادم المفاهيم، أو على الأقل نتحدث مثلًا عن أسلمة الديمقراطية.
أما عن مجموعة أفكاري؛ فهي تبدأ من مناقشة مغزى ودلالات صعود الإخوان السياسي؛ ومن ثم حملة التخويف منه، وتهديده للديمقراطية، وصولًا إلى مناقشة مغزى مخاوف الأقباط في هذه المرحلة من هذا الصعود، ودلالاتها بالنسبة لقضية المواطنة.
ومن ثم تتلخص أفكاري في المجموعتين التاليتين:

1- مغزى حملة التخويف من الإخوان، ومن حجم فوزهم في الانتخابات[45]: (ديمقراطية بلا إسلاميين؟)
– إن بعض الأصوات في الأحزاب المختلفة، وفي الأوساط الفكرية والمدنية، والتي وإن اعترفت بأسباب صعود الإخوان التنظيمية (ناهيك الآن عما قيل عن اللعب بورقة الدين أو الإسلام وهي الورقة ذات الجاذبية للشعب المصري)؛ إ لا أنها من ناحية أخرى أعلنت عن أسفها لهذا الصعود، أو عن خوفها من هذا الصعود، أو عن رفضها لهذا الصعود هذه الأصوات إنما تقع في تناقض كبير، عن وعي أو لا وعي؛ وهو تناقض وقعت فيه وهي تدعي الدفاع عن الديمقراطية، في حين هي بالفعل ليست إلا مع ديمقراطية من نوع خاص، ديمقراطية بلا دين أو بلا إسلاميين؛ ولذا لابد من الوقوف عند هذا التناقض بدرجة أكبر من التفصيل على نحو التالي:
(1) الاعتراف بالكفاءة التنظيمية للإخوان، وفعالية ربطهم بين الاجتماعي والسياسي؛ اقترن بإدانة الأيديولوجية القائمة على مرجعية إسلامية ورفضها؛ وهو الأمر الذي يعني خطأ معرفي وجوهري كبير يترتب عليه أخطاء أخرى فكرية وسياسية؛ ألا وهي عدم معرفة قواعد المرجعية الإسلامية ومتطلباتها في ما يتصل بالتنظيم المجتمعي والسياسي (الربط بين أبعاد الظاهرة المجتمعية على مستوى الفقه والفكر والحركة والمؤسسية)، وكذلك الربط بين الداخلي والخارجي، والربط بين الأبعاد الاقتصادية والسياسية وغيرها.
إذن كيف نوافق على المبدأ، ونرفض المرجعية المنبثق عنها، أليس هذا مرجعه الفصل بين العوامل المادية والعوامل القيمية الأخلاقية منها والدينية والموقف المتحيز من عدم إمكانية الجمع بينهم في تجربة ديمقراطية انطلاقًا من أيديولوجيات علمانية (بالمعنى الواسع) تحتكر لنفسها الصلاحية على ما عداها من الأيديولوجيات، وخاصة تلك التي تتخذ من المرجعية الإسلامية منطلقًا؟
كيف تتم مطالبة الأحزاب الأخرى بالنظر في نموذج الإخوان -من حيث الربط بين المجتمعي والسياسي، والنزول للشارع كما يفترض أي عمل حزبي- وفي نفس الوقت يتم رفض المرجعية المستند إليها هذا الأسلوب من إدارة العملية السياسية؟
(2) إذن هل الديمقراطية التي يتحدثون عنها هي ديمقراطية ما يسمى المرجعيات المدنية فقط؟ أليس هناك مجال للمرجعيات الإسلامية (دون الخوض الآن في تفاصيل العلاقة بين الدين والدولة والتي تتعدد مداخلها وتأويلاتها)؟ هل الإسلاميون غير أهلٍ لخوض معركة من أجل الديمقراطية؟ وهل هم دائمًا في مصاف “الإرهاب فقط”.
* لا أعتقد أن هذا سؤال جديد ولكنه سؤال قديم.
(3) في الحالة المصرية الراهنة اتسمت عملية طرح الأسئلة والإجابات عليها بملامح محددة، ساهمت في إبراز التناقض الكبير الذي وقعت فيه النخب العلمانية الفكرية والسياسية، والحزبية، والمدنية، وهذه الملامح هي:
· تحول سهام نقد بعض هذه النخب (المعارضة) من الحزب الوطني إلى الإخوان المسلمين، أو اتهامه بالتنسيق والتواطؤ مع الحزب الوطني.
· إن مناورة بعض هذه القوى المعارضة لاستبعاد الإخوان –أو على الأقل الموافقة الضمنية والمعلنة على استبعادهم من الحوار الوطني الذي أجراه الحزب الوطني- قد انكشفت بوضوح وبجلاء في شكل رفض تام لمشاركة الإخوان في العملية الديمقراطية؛ وهو رفض ليس لصعودهم السياسي بسبب فوزهم بنصيب هام في البرلمان؛ ولكنه رفض لطبيعة مشاركتهم بذاتها باعتبارهم كيانًا غير ديمقراطي؛ لأنه ذو مرجعية إسلامية ويربط بين الدين والسياسة، ولأمور أخرى (سنعود لمناقشتها لاحقًا)؛ ومن ثم وضع هؤلاء المهاجمون أنفسهم خصمًا وحكمًا ومرجعية في نفس الوقت، تحدد من هو الديمقراطي ومن هو الخطر على الديمقراطية، ناقضة بذلك أحد أهم قواعد الديمقراطية؛ ألا وهي أن الشعب والأمة هما مصدر الحكم، ويجب احترام اختياره، وبذا تكرست ازدواجية وتناقض خطير بين مسار تيار عام، وبين نخب محدودة ولكن متنفذة في الإعلام وفي السلطة.
وبدلًا من أن تعترف أن فشلها إنما يرجع لأسباب تنظيمية أو أسباب أيديولوجية؛ فنجدها تنبري لإسقاط فشلها على الحزب الوطني من ناحية، وعلى الإخوان المسلمين من ناحية أخرى. الحزب الوطني؛ لأنه رفض توسيع الحريات السياسية والقاعدة الانتخابية والنظام الانتخابي؛ وهي الأمور التي لو تحققت لانكسر وفق رؤيتهم صمت وعزوف كتلة انتخابية كبيرة كانت مشاركتها ستكشف حقيقة وزن الإخوان مقارنةً بغيره. كما اتهمت هذه النخب الإخوان باستغلال ورقة الدين ذات الجاذبية لدى الشعب المصري المقهور أصلًا لسلطة المال وسلطة القوة؛ فإذا به يتم قهره أيضًا بسلطة الدين.
· أضحت ساحات هامة للرأي المقروء والمسموع في مصر مفتوحة لحملة “الفزاعة من الإخوان” باسم الديمقراطية وخوفًا على الديمقراطية، ولكنها في نفس الوقت كانت الحملة التي انتهكت قاعدة أساسية من قواعد الديمقراطية؛ ألا وهي قاعدة إعطاء فرصٍ متساوية للقوى المتنافسة في حرية الرأي والتعبير، بل والأهم في الرد على سيل الاتهامات الموجهة أو على الحملة المنظمة من الاتهامات.
· اعتمدت الحملات المنظمة للتخويف من الإخوان على أفكار وأحداث من سلة التاريخ، ناسية أو متناسية أن الحركات الاجتماعية السياسية المنظمة –المحظورة منها أو غير المحظورة- إنما تمر بتطورات فكرية ومؤسسية خلال تفاعلها مع الأطر الوطنية والإقليمية والعالمية المحيطة؛ مما يعني أنه لا يمكن محاكمة الإخوان الآن وفق ميراث سابق فقط، ناهيك عن سوء نية عرض وتفسير هذا الميراث ذاته على نحو يستهدف بيان أن الإخوان يحيكون مؤامرة للاستيلاء (السطو) على السلطة، وإقامة دولتهم التي ستكون دولة القهر والاستبداد باسم الدين.
(4) كان هذا التخويف تخويفًا مزدوجًا، يحمل ضمنيًّا لدى القائمين عليه أكثر من معنى: من ناحية إمكانية تدخل الجيش لمنع”وصول” الإسلاميين للحكم”؛ مما يعني أن هذا الفوز سيكون محفزًا للارتداد عن الديمقراطية”، ومن ناحية أخرى إن هذا الفوز في حد ذاته دليل على عدم الديمقراطية؛ لأن الشعب المصري -وفق هذا الرأي- قد غُرر به باسم الدين، وهو شعب فقير وجاهل تم شراء أصواته بالخدمات المنظمة من جانب الإخوان؛ مما يعني انتهاكًا للديمقراطية ذاتها. ولذا وجدنا من يصرح متعجبًا هل هذه ديمقراطية تلك التي يتم فيها التلاعب بالدين، كما لو أن الديمقراطية لا تكون إلا إذا خرج الناخبون لانتخاب الحزب الوطني أو أحزاب أخرى، وأنه لا ديمقراطية إذا كانت المرجعية إسلامية، وهذا في حد ذاته تعميم وحكم سلبي على هذه المرجعية؛ وهي مرجعية الأمة، ودون تمييز بين حكم إلهي يتم فرضه باسم الله، وبين حكم ذي مرجعية إسلامية يتم اختياره بواسطة الأمة مصدر السلطات.
إن كل ما سبق يثير التساؤل التالي: هل تحت مخاوف صعود الإخوان سيئد المجتمع المدني والقوى السياسية، والناخبين في مصر؛ ما بزغ من فرص إعادة تأسيس النظام السياسي المصري على أسس تعددية وديمقراطية؟ والبعض الآخر يقول: مستويات الأداء تعني أن عملية الإصلاح قد انتهت وتحتاج لمحفزات جديدة؟؟ ولذا ظهرت نغمة الاهتمام بتدعيم القوى الليبرالية في المجتمع المدني قبل الاهتمام بالانتخابات، حتى لا يتكرر ما حدث ويقترب الإسلاميون من الوصول إلى السلطة عن طريق “الديمقراطية”. إن المحك الأساس لحماية عملية إعادة التأسيس هذه للنظام المصري الجديد، والذي سيثبت جدارة القوى السياسية على اختلاف أنواعها بحقوق الديمقراطية؛ هو أن تحترم هذه القوى الرسمية وغير الرسمية واجبات الديمقراطية التي يتشدق بها الجميع علنًا، في حين أنهم كمعارضة لا يدافعون إلا عن معنى واحد للديمقراطية، هي تلك التي تأتي بهم فقط دون غيرهم للسلطة، أو على الأقل تحتفظ لمجموعة أخرى بالكرسي الذي استبدوا به لعقود، بحجة أنهم الأقدر على الإصلاح والتغيير، والأقدر على حماية مصلحة مصر؛ وهي حجة وذريعة مريضة لا تعني إلا محاولة حفظ ماء الوجه أو الوجود على الساحة السياسية ذاته في حالة تغير السيناريو على غير ما يشتهون.

2- مغزى مخاوف الأقباط: (مواطنة بلا دين؟)[46]
ظهر قبل وخلال الانتخابات تحالف قوي جمع بين بعض العلمانيين المسلمين وبين “الانعزاليين والطائفيين” من مسيحي مصر؛ فإذا كان للفريق الأول دوافعه للهجوم على الإخوان؛ فإن الفريق الثاني يوظف المناخ لدعم مطالبة من مدخل انعزالي طائفي، لا ينظر لمسيحيّ مصر كمواطنين، ولكن كأقلية ذات مطالب. ولقد دعم من هذا التوجه (بل كان وراءه) التصاعد في الدور السياسي للبطريركية الأرثوذكسية؛ وهو الأمر الذي لا يستقيم وخبرة الجماعة الوطنية المصرية عبر تاريخها، ومع جهود الوطنيين المصريين من المسلمين والمسيحيين على حد سواء، الذين يتصدون بقوة للدفاع عن والتأكيد على روابط الجماعة الوطنية المصرية على أسس المواطنة ومساواة الحقوق والواجبات. وعلى العكس؛ فإن نمط تكرار بعض الوقائع عبر سنوات عدة ماضية وليس خلال الانتخابات فقط وبعدها؛ ليبين منحى آخر من جانب بعض أقباط مصر، هو الذي يثير مخاوف وهواجس مصر كلها حول مصير الجماعة الوطنية في مصر.
وأقصد بهذا مسلسل الأحداث التالية:
– المظاهرات الغاضبة العنيفة بعد النشر عن ممارسات أحد الرهبان في جريدة النبأ.
-تصعيد الغضب والعنف إلى حد الأزمة العنيفة مع إعلان بعض المسيحيات عن إسلامهن.
إنتاج مسرحية تنال من رموز الإسلام وعقيدته باسم مكافحة الإرهاب والتطرف الإسلامي.
– وتصاعد هجوم أقباط المهجر واتضاح تحالفهم مع التدخلات الخارجية باسم ورقة الأقلية المسيحية.
– إسقاط الفواصل بين “المتطرفين المسلمين، والإخوان، والإسلاميين المستقلين” عند محاكمة الإرهاب؛ بحيث تتحول هذه المحاكمة إلى محاكمة للإسلام والمسلمين على عمومهم.
– المطالبة بإلغاء مادة 2 من الدستور، والربط بين مشكلة الأقباط وبين إرهاب إسلامي، واستدعاء هذا الربط بمناسبة وغير مناسبة.
– الهجوم على رموز إسلامية طورت فكرًا إسلاميًّا تجديديًّا عن مفهوم المواطنة.
– وتجدر ملاحظة أن هذا النمط المتكرر من الأحداث لم يعد يتصل بمطالب الأقباط، ولكن تعداه إلى مجال آخر، ويبدو أنه نوع من التحرك الإرادي لدى البعض نحو وضع الطائفية والانعزال”، ونحو الاستقواء بالخارج، ونحو اعتبار كل ما يتصل بظهور المرجعية الإسلامية تهديدًا لوضع حقوق مواطنة المسيحي؛ وهو الأمر الذي يصعِّد بدوره من مخاوف المسلمين، بقدر يمكن أن يكون أكبر من مخاوف المسيحيين من جراء صعود الإخوان؛ ذلك لأن تصعيد مسألة مخاوف الأقباط؛ من الصعود السياسي للإخوان لا تمثل طفرة في مخاوف الأقباط لأن هذه المطالب خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة قد خرجت -كما سبق القول- عن نطاقها التقليدي الذي يوصف بمطالب حل المشكلة القبطية، إلى مطالب أكثر اتساعًا أضحت ذات صبغة سياسية واضحة، لدرجة تدفع للسؤال: لماذا الآن كل ظهور لمرجعية إسلامية -سواء في شكل مشروع سياسي أو حتى مشروع حضاري فكري على مستوى الجامعات ومستوى المجتمع المدني- يثير الخوف والتهديد عند الأقباط، ويدفعهم للتساؤل عن مستقبل المواطنة والديمقراطية، وعن عدم اكتمال الاندماج الوطني نظرًا للاحتقان لدى المسلمين.
وفي المقابل فإن القراءة في معنى أن يكون لحزب أو جماعة مرجعية إسلامية؛ يتطلب الوعي لأمرين هامين أولهما- أنه حزب أو جماعة اختارت اللعب السياسي وفق قاعدة التعددية والتداول السلمي للسلطة، ولكن انطلاقًا من مرجعية إسلامية، واستنادًا عليها؛ وهي مرجعية ذات أصول تؤسس وتنظر للتعددية وللإنسانية وللمساواة والعدالة، ولكن وفق منظومة قيمية ونسق معرفي يجد مصدره في نص مقدس، ويجتهد من حوله بشر في ظل أوضاع متغيرة، ووفق أصول منهاجية منضبطة.
ثانيهما- الفارق بين المرجعية الإسلامية، وبين الربط بين الدين والسياسة على نمط معين؛ هو الذي يحرك المخاوف؛ ألا وهو نمط الدول الثيوقراطية. ومن ثم فإن قبول المرجعية الإسلامية مرجعية للأمة هو أوسع بكثير من قضية العلاقة بين الدين والسياسة. الأخيرة هي التي تثير اتهامات المسيحيين باسم الخوف على حقوق المراطنة والمساواة، اعتقادًا أن مرجعية إسلامية لابد وأن تجهض بالضرورة التعددية السياسية والمجتمعية حتى لو قبلت بالتعددية الدينية.
ومن هنا نحتاج لمراجعة مقولة إن المواطنة، بل والعلمانية وإن احتملت الدين؛ فهي لا تحتمل مرجعية دينية؛ وذلك إذا كان الأمر يتصل بالإسلام نظرًا لاختلاف طبيعته كدين عن الأديان الأخرى، ونظرًا لموضعه من الخصوصية الثقافية الرشيدة للشعب المصري، مقارنة بشعوب أخرى لم يعد للدين موضع بين مصادر مرجعية نظامها العام، أو قيمها الثقافية، وإن وجد كمرجعية لبعض الأحزاب.
كما نحتاج من ناحية أخرى من جانب أصحاب المرجعية الإسلامية على الصعيد السياسي (الإخوان) أن يدعموا اتجاههم بتقديم توضيحات ومشروعات تفصيلية حول مواقفهم من كثير من القضايا التي تثير الالتباس، ويتم استخدامها ضدهم بقصد أو من دون قصد، سواء كانت قضايا تتصل بالموقف من النظام (الحزب الحاكم)، أو تجاه قوى المعارضة الأخرى، أو تجاه الأقباط، أو تجاه الشعب المصري، وأخيرًا تجاه العالم.
وعلى رأس هذه القضايا ما يلي: -عواقب استقطاب الحياة السياسية المصرية بين إخوان وحزب وطني، وضرورات الانفتاح على الأحزاب الأخرى لدعم مناخ تعددية حقيقية.
– تحمل الأغلبية المسلمة لمسئوليتها تجاه حماية الاندماج الوطني والطمأنة ضد المخاوف التي تثيرها الاتجاهات الانعزالية والطائفية القبطية والاتجاهات المتطرفة الإسلامية؛ ومن ثم ضرورة بلورة الأطروحات الفكرية والسياسية حول العلاقة من الديني/المدني/ الإسلامي من مرجعية إسلامية، ودلالتها بالنسبة لحقوق المواطنة.
– تعبئة الجهود ليس فقط من أجل الخدمات الاجتماعية الاقتصادية لقاعدة الناخبين؛ ولكن من أجل علاج أمراض المجتمع الثقافية، وعلى رأسها التعصب والتطرف الديني، وعدم المبالاة والإذعان للاستبداد.
-كذلك الاهتمام بمناقشة الثقافة التحتية القبطية، والمطالبة بمساحة عامة للخطاب المسيحي؛ حتى يمكن التعرف على أركانه وركائزه؛ ومن ثم مدى مسئوليته بدوره عن خلق حالة الاحتقان بين المسلمين والمسيحيين.
إن جهودًا فكرية ومجتمعية وسياسية على هذه الأصعدة السابقة؛ لابد وأن تعيد صياغة الصورة عن كون “مشروع إسلامي” للقوى السياسية (أو الفكرية) ذات المرجعية الإسلامية، هي بالضرورة ضد المواطنة، وغير حقوقية وغير إنسانية على الأقل وفق المفاهيم العلمانية الحداثية التقليدية. علمًا بأن قد بدأت منذ عقود مراجعة موضع الدين من المواطنة والعلمانية في المدارس المعرفية والفكرية والنظرية الغربية، على نحو يشير إلى استدعاء الدين مجددًا إلى هذه الدوائر[47].
فهل سنظل ملكيون أكثر من الملكيين… ولماذا..؟

ج- العلاقة مع الآخر: بين الحوار وبين الإرهاب والمقاومة
ولم تقتصر إشكاليات الخصوصية الثقافية على الداخل؛ لأن الإصلاح لم يعد داخليًّا فقط ولكن لامتداداته الخارجية أكثر من مستوى؛ فإلى جانب التأثيرات والضغوط الخارجية على قضايا وموضوعات وعمليات الإصلاح (كما سبق شرحه)؛ فإن هذه القضايا والموضوعات في معظمها هي أيضًا في صميم الحوار مع الآخر.. ومن أهمها قضية العنف بين الإرهاب/ المقاومة. وفي أحيان أخرى يبدو العنف –أو الإرهاب- كنقيض للحوار.
ويتوقف الأمر بالطبع عند نمط الحوار المقصود ونمط كل من العنف المقصود. وإذا كان الغرب هو الذي يبادر دائمًا بالدعوة إلى الحوارات ومأسستها مع العالم الإسلامي، باعتبارها أداة من أدوات إدارة الصراعات سلميًا؛ فإن هذا يعني -ضمنيًّا وصراحة- أنه يلقي بمسئولية الصراعات على الطرف الذي يدعوه للحوار، أملًا أن يمارس عليه تأثيره على مستوى الفكر، في نفس الوقت الذي لا تكف أدواته العسكرية عن العمل ضد من يتهمهم بالعنف أو الإرهاب؛ ومن ثم فإن التوقف عند هاتين القضيتين بعدما تناولناه من قضايا الإصلاح ليحمل في حد ذاته دلالة عن مغزى العلاقة بين الخصوصية الثقافية والإصلاح؛ فالخارج يتدخل تحت ذريعة وقف ما يسمى بالإرهاب ضده، في حين أن النظم الحاكمة ما زالت تستعدي الخارج على قوى المعارضة ضدها باسم ما يمثلونه من إرهاب ضدها.
فمن ناحية، هل الحوار هو حوار الأكفاء أو الحوار النقدي؛ أم هو حوار بلا سيادة؛ أي حوار الاعتذار والدفاع أو الإذعان والاستسلام. في كلتا الحالتين الخصوصية الثقافية للطرف المدعو للحوار تكون هي المحك على الطاولة؛ سعيًا نحو تعديل منظومة قيمها أو تغييرها. وخطوة البداية هي توصية الاتهام والإدانة لها. وأول خطوط اتهام الثقافة الإسلامية هو أنها ثقافة عنف وموت وإرهاب (إلى جانب أمور أخرى بالطبع)؛ ومن ثم يصبح الحوار هو مجرد حوار اعتذار ودفاع وتبرير، في حين أن الأمر يتطلب منهجًا مغايرًا: الحوار النقدي وكذلك حوار السلاح (حين تقتضي الظروف ذلك)، ثم حين يتخطى الاتهام حدوده ليصبح هجومًا على العقيدة الإسلامية ورموزها وإساءة وتحقير إليها باسم حرية التعبير؛ أي حين يبرز التسييس المتعمد للحروب الثقافية، هنا لا يصبح الاستمرار في الحوار إلا استسلامًا وإذعانًا يستوجب الإدانة، ولا يقبل الاستمرار فيه إلا بشروط ألا وهي شروط تجريم المعاداة للإسلام مثل تجريم المعاداة للسامية[48]، وكذلك شرط عدم تسييس الحوار بين أطراف غير متكافئة من حيث توازن القوى المادية.
ومن ناحية أخرى: فإن قضايا العنف/ الإرهاب/ المقاومة تقتضي توقفًا أكبر عند ما تثيره من إشكاليات الخصوصية الثقافية.
فمن واقع متابعة النقاشات التي تراكمت منذ الحادي عشر من سبتمبر، وتجددت مع توالي التفجيرات الكبرى عبر أرجاء العالم: سواء في الغرب (مدريد، لندن)، أو في العالم الإسلامي (تركيا، إندونيسيا، السعودية، اليمن، مصر، الأردن، وتونس، والمغرب)؛ وهي النقاشات التي تركزت حول تشخيص هذه الأحداث وتفسيرها ودلالتها؛ نجد أنفسنا مرة أخرى أمام رؤى مختلفة حول العلاقة بين الثقافي والسياسي[49]. ومن الواضح أن تفجيرات لندن وشرم الشيخ (يوليو 2005) قد أبرزت ملمحًا جديدًا في هذا الجدال؛ هو مزيد من الضغط على المسلمين والاتهام لهم بعدم الإدانة الكافية للتفجيرات، وبعدم التحرك الفعلي لوقف التطرف بل والمساندة الكافية له مما يخلق قنبلة موقوتة (من مسلمي الغرب) لا أحد يعرف متى تنفجر ضد المجتمعات الغربية.
فمنذ تفجيرات لندن في يوليو 2005 ثم شرم الشيخ ازدهرت التعليقات والتحليلات حول ما إذا كان العرب والمسلمون يُدينون الأعمال الإرهابية بدرجة كافية، وبدون تبرير سياسي لها. فإذا كانت تصريحات الإدانات لم تتوقف من جهات رسمية وغير رسمية من مسلمي الغرب وبالطبع من الدول الإسلامية، حاملة الإدانة لكل أنواع قتل المدنيين؛ إلا أنه في المقابل تصاعدت التساؤلات عن مدى فاعلية مثل هذه الإدانات المعلنة، حتى لو لم تكن ترتبط بتبرير أو تحفظات كما كان يحدث من قبل، طالما لا تصدر من جهات أكثر ثقلًا مثل مكة والأزهر، وطالما لا تتضمن ضغطًا كافيًا على المسلمين في كل مكان لاعتبار الإرهابيين خارجين عن الملة. هذه الحالة التي يمكن استكشاف ملامحها من متابعة ورصد التعليقات في بعض الصحف الغربية الكبرى؛ بل وتصريحات رسمية في الغرب، ومواقع الشبكة الإليكترونية، وكان يقابلها حالة أخرى تلقي اللوم على السياسات الأمريكية والبريطانية، وكذلك الإسرائيلية، في العالم الإسلامي.
وفي حين وجدت التعبيرات عن الحالة الأولى من يركز الضوء عليها ويبرزها؛ لم تحظ الحالة الثانية بمثل هذه الفرصة؛ مما يعني أمرين: استمرار ما يسمى الإرهاب بالرغم من كل السياسات المتبعة لمواجهته، واستمرار حكومات القوى الكبرى في تحميل المسلمين مسؤولية هذه الظاهرة، في وقت استمرت فيه جيوش وسياسات هذه الدول في الاعتداء الصريح والضمني على أراضي وشعوب العالم العربي والإسلامي؛ مما جعل من العرب والمسلمين الضحية والجاني في نفس الوقت.
وحول العلاقة بين الإرهاب/ المقاومة، وحول تفسير الأحداث من حيث وزن كل من العوامل الثقافية والسياسية بصفة عامة، وفيما يتصل بالحالة المصرية بصفة خاصة؛ يمكن التمييز على صعيد النقاشات التي تراكمت حولها[50] بين ثلاثة اتجاهات أساسية:
الاتجاه الأول- يقدم الرؤية التي تُعلي من قدر “الثقافي” في تفسير الإرهاب وعلاجه، ولو بدون الانفصال عن “السياسي”؛ لأن ثمة أسبابًا سياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية (مثل الظلم والقهر والمعاناة وغياب العدالة، وعدم تكافؤ الفرص) تطرح بالضرورة صياغة عقد اجتماعيّ جديد، وبناء نظم تربوية وتعليمية واجتماعية جديدة، تضمن قيام مجتمع قائم على العدالة والمساواة وقبول الآخر. ويتضح من هذا المدخل وعدم الاقتراب من الأبعاد الخارجية المتمثلة في سياسات القوى العظمى (الولايات المتحدة وحلفائها) وأوضاع النظام العالمي بصفة عامة، والتي تلقى –في دوائر عربية وإسلامية بل وكذلك غربية- اتهامًا بالمسئولية عن الإرهاب قدر مسئولية العوامل الداخلية؛ وعلى رأسها العوامل الثقافية والدينية.
كما أن هذا الاتجاه الأول يركز على الصياغات العقلية للأفكار؛ أي الأفكار والتصورات التي تفرز العنف المادي؛ لأن الإرهاب –في نظره- ثقافة، والحديث عن أبعاد سياسية لا يعني أنه ظاهرة سياسية؛ فهو يعني استئصال المختلف فكريًّا أو دينيًّا.
الاتجاه الثاني- يركز على الطابع السياسي للقضية ويقدم الأسانيد التالية:
– تعدد الدوافع السياسية للإرهاب (بمعنى ترويع المدنيين لأسباب سياسية) مثل: تحرير الأرض، الاستقلال القومي، مقاومة راديكالية عالمية ضد الهيمنة والعولمة، وتقوم بها جماعات .. ناهيك عن دول تمارس أو كانت تمارس أيضًا الإرهاب مثل ألمانيا النازية، شيلي (بينوشيه)، جنوب إفريقيا، إسرائيل.
– الإرهاب لا دين له ولا أيديولوجية، والتوظيف السياسي للإرهاب تمارسه الولايات المتحدة وإسرائيل من جانب، والنظم الاستبدادية من جانب آخر، وذلك بالتركيز على نمط معين دون غيره من الإرهاب؛ وهو الإرهاب الإسلامي والتخويف منه؛ تحقيقًا لأهداف محددة مثل: وصم المقاومة بالإرهاب، أو الاستمرار في الحكم، أو لصرف النظر عن قضايا أكثر خطورة وأهمية على المستوى العالمي أو الوطني والإقليمي.
– خطأ الاعتقاد أن الإرهاب هو مصدر التهديد للعالم الآن؛ لأن وزن ما يمثله من تهديد لا يقارن بوزن مصادر أخرى تريد القوى العالمية صرف النظر عنها، مثل: الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة العربية. فلم يشهد العالم الإسلامي منذ بونابرت وبداية الاحتكاك المباشر مع الغرب أعمالًا إرهابية مرتبطة بالغلو الإسلامي؛ مما يدفع للتساؤل: لماذا لم يؤدِّ الغلو- الموجود في كل زمان ومكان- إلى أعمال عنف وإرهاب حتى عام 1974؟
– القاعدة وابن لادن بداية مرحلة جديدة من الإرهاب المرتبط بالإسلاميين، ولكن على الساحة العالمية وليس الوطنية فقط، وبهدف إحداث تغيرات عالمية كمدخل لتغيرات داخلية؛ مما يشير إلى أن مكمن الإرهاب وجذوره في النظام الدولي المهمين، وعلى عكس ما يحاولون إيهامنا به من أن جذور الإرهاب ومنابعه إنما تكمن فينا نحن. ولقد راكم على هذه الأطروحات مجموعة أخرى من الأسانيد.
وبالنظر إلى موضع البعد الثقافي وتأثيره، وخاصة ما يتصل بالدين من هذه الاتجاهات؛ يمكن التمييز بين موقفين: الموقف الأول اقترب ولو بصورة ملتفة من تأكيد كون هذا التطرف تجاه الآخر أو التعصب والتمييز ضده هو صفة هيكلية في فكر وعقول المسلمين، وعلى نحو لا يمكنهم إخفاءه بما أسماه هذا الفريق بـ”الخطاب الإسلامي المراوغ”، الذي وإن أدان التطرف والعنف ضد المدنيين؛ فهو يبرره إما بالفهم الخاطئ للإسلام، أو بالسياقات الداخلية والإقليمية والعالمية المحيطة. وفي حين اجتمع إسلاميون على مدخل الفهم الخاطئ للإسلام الذي يقود للتطرف؛ فلقد اجتمع على المدخل الأول علمانيون مسلمون ومسيحيون يتطرفون في تشخيصهم وتفسيرهم لما أسموه “الإرهاب الإسلامي”، ولما يسمونه “المشكلة القبطية في مصر”؛ حيث من الملاحظ أن حديثهم عن الإرهاب قد اتجه إراديًّا أو لا إراديًّا إلى الحديث عن العلاقة بين مسلمي مصر ومسيحييها.
الاتجاه الثالث بين هذين الاتجاهين؛ وهو الاتجاه الذي وإن لم ينكر تأثير البعد الثقافي للتطرف، ولكنه رأى أن طبيعة السياق المحيط داخليًّا وخارجيًّا هي التي تحركه ليتجسد في شكل مادي عنيف، أو يظل كامنًا، على اعتبار أن التطرف سمة قائمة في كل الأزمان والأماكن والعصور، ويظل السؤال: ما أسباب تكوينها وكيف تنفجر؟ وتراوحت الإجابات عن هذا السؤال ومن بينها ما يلي:
من ناحية: خطأ الاستقطاب الثنائي بين تأثير عامل ثقافي، وتأثير عامل سياسي داخلي وخارجي عند تفسير أعمال الإرهاب؛ فلا يمكن إنكار تأثير أحدهما لحساب الآخر، مهما كان منطلقنا السياسي أو الفكري أو الأيديولوجي؛ وذلك لاعتبارين أساسيين: أولهما أن المرحلة الراهنة من تطور العلاقات الدولية تشهد بروز أهمية البعد الثقافي على الساحة الدولية، وكذلك تجدد الاهتمام بحقيقة تأثير هذا البعد وأنماطه، وبالطبع يقع في قلب هذه الاهتمامات منطقة العلاقة بين الإسلام والغرب. ولذا لا يمكن النظر الآن إلى “الثقافي” بالمنظار التقليدي الذي لم يكن يعتبره في صميم تفاعلات السياسة أو دراستها، فلقد أضحى “الثقافي” سياسيًّا بأشكال عدة، وخاصة في ظل إعادة تعريف “السياسي” على صعيد العلم والحركة على حد سواء؟ ولعل السؤال الذي يجدر الإجابة عنه بموضوعية وعلمية هو: لماذا صعد “الثقافي” إلى ساحة أولويات القوى السائدة في النظام الدولي؟ ولماذا تهتم مثلًا بمتطرفي العالم الإسلامي ولا تنظر إلى المتطرفين السياسيين المتحالفين مع المتطرفين الدينيين في الإدارة الأمريكية منذ عام 2000؟ ولهذا فإن التوازن في النظر والتدبر ضروري وهام؛ لأنه لا يمكن التركيز على البعد الثقافي لدى المسلمين عند تفسير الإرهاب ونسقطه لدى الآخر عند تفسير سياساتهم تجاهنا وتجاه العالم.
بل يجب علينا أن نعي أن الاتهام ليس للمسلمين فقط الآن بل للإسلام أيضًا هو اتهام ثقافي ذو وظيفة سياسية أساسية، وعلى نحو يستكمل مشوار السياسة الأمريكية في توظيف “الثقافي”، وفي قلبه “الدين”، بأنماط متعددة وفي حالات متتالية لتحقيق “السياسي والاقتصادي”، وذلك بالرغم من كل المقولات عن أهمية العلمانية وعن فصل الدين عن السياسة، وعدم توظيف الدين في السياسة؛ وهي المقولات التي تبرز أساسًا في مواجهة “الإسلاميين” بكل تياراتهم الوسطية والراديكالية على حد سواء.
– ومن ناحية أخرى: القول إن النقد للفكر السياسي الإسلامي ليس نقدًا للإسلام يستوجب من البعض الثورة عليه أو الحساسية ضده. والفكر المتطرف موجود دائمًا، على اعتبار أنه نمط من أنماط الفكر لا يمكن إنكاره، ولكنه الاستثناء في كل الأحوال. وما يدفعه للبروز والتجسد المادي هو ظروف محددة؛ ولذا فلو لم تكن هناك سياسة الولايات المتحدة وإسرائيل لأضحى الفكر والسلوك الإرهابي أكثر ضيقًا وأكثر تقييدًا. وفي المقابل فالفكر المتطرف ليس مجرد رد فعل للاستعمار أو السياسات الظالمة، فتلك الأخيرة لا تنشئه ولكنها تكشف عنه. ولذا فلو كان الإرهاب مجرد رد فعل لكان اليابانيون والفيتناميون أولى بالقيام به بعد 1945، و1965 على التوالي. وبالمثل تفجيرات شرم الشيخ ليست مجرد انتقام أو رد فعل لما حدث من انتهاكات أمنية بعد تفجيرات طابا؛ ولذا فإن الإرهاب هو نتاج ثقافة عنف من ناحية، ونتاج عوامل عديدة محيطة من ناحية أخرى تجعله يبرز في مرحلة دون أخرى. ومواجهة الإرهاب على هذا النحو تحتاج لثقافة مضادة، بقدر ما تحتاج لتغيرات مجتمعية وسياسية.

المحور الثالث- نتائج التحليل حول كيفية تفعيل التغيير السياسي والمجتمعي: المنطلقات والإجراءات

إذا كان الربط بين الأبعاد السابق عرضها في خريطة واحدة يكشف –على الأقل من منظور قراءتي الذاتية- عن الخيط الناظم (النواة الصلدة) في حديث العلاقة بين الخصوصية الثقافية والإصلاح السياسي ليس في مصر فقط، بل والعالم العربي والإسلامي؛ فإن إشكاليات هذه الأبعاد والجدال بينها تبين ثلاثة أمور أخرى.
الأمر الأول هو: خطأ الرؤية القائمة على الاستقطاب والثنائية بين الجانبين الثقافي والسياسي (سواء في تشخيص وتفسير الدوافع للإصلاح، أو في تصميم السياسات وتحديد أولوياتها)، ومع الأخذ في الاعتبار الفروق بين المواقف المعرفية التأصيلية والفكرية، وبين المواقف السياسية؛ فإنه لا يجب -وفق منظور حضاري قيمي- الفصل التعسفي بين هذين الجانبين أو اعتبار أحدهما متغيرًا مستقلاًّ والآخر تابع؛ ذلك لأن السياسي / الاستراتيجي لابد وأن يكون قيميًّا، كما أن الديني/ الثقافي ليس بالضرورة منقطعًا عن المصالح، كما أنه أيضًا وبمعناه الواسع (غير المحصور في العقيدة فقط أو الثقافة بالمعنى الضيق) في صميم السياسات وإدارة المصالح والصراعات.
ومن ثم؛ فإن النظر والتدبر في الإصلاح يقتضي الرؤية الشاملة والكلية والاستراتيجية، باعتبارها الأساس في الإصلاح الرشيد والفاعل؛ فهي التي تساعد على تجاوز الثنائيات في المجالات والأدوات (ديمقراطية أولًا أو عدالة اجتماعية، ديمقراطية أولًا أم تنمية اقتصادية، ديمقراطية أولًا أم تغيير ثقافي أو العكس في هذه الثنائيات).
وبناءً عليه يصبح “الثقافي/ الحضاري” بمعناه الواسع هو البيئة والإطار، وهو المتغيرات الوسيطة الفاعلة في إنجاز العمليات الجامعة بين المدخلات والمؤدية إلى المخرجات.
الأمر الثاني: إن التفاعل بين قوى الحفاظ على الثابت، مع الاستجابة للتغيرات بما لا ينال من هذه الثوابت وبين قوى الاستجابة للمتغيرات دون اعتبار للثابت؛ إنما ترتهن بسياق التفاعل ومحدداته: هل هو سياق التثاقف والتفاعل التلقائي الذي ينساب عبر عمليات التفاعل الإنساني والحضاري الهادئة، والذي تتشكل في ظلها موازين العلاقة بين المجموعتين من القوى، على النحو الذي يعكس أوزانها الفعلية في المجتمع، عبر عملية تاريخية ممتدة، أم هو سياق الضغوط والتأثيرات (من الداخل أو من الخارج)، التي تدفع لحدوث طفرات مصطنعة أو فجائية لصالح نخبة أو أخرى، يكون من شأنها الإخلال بالثقافة السائدة، على نحو يفرز اضطرابات ويحول دون حدوث الإصلاح الرشيد بمعناه الشامل، ذلك بالرغم من ارتداء هذه الطفرات أردية ما يسمى الإنساني المشترك عالميًا؟
فإن لكل من هذين السياقين تأثيراته على مفهومنا عن “الإسلام” النواة الصلدة في خصوصيتنا، وعن موضعه من الإطار المرجعي للإصلاح الشامل أو للإصلاح السياسي والإصلاح المجتمعي كل على حدة، مقارنة بمفهوم “الخبرة الغربية” عن الدين وموضعه من الدولة والمجتمع؛ ذلك لأن النموذج المعرفي الإسلامي هو نموذج مفتوح على المتغيرات، وإن كان مغلقًا على الثوابت. ولقد تعرض دائمًا للتأثيرات الخارجية، ولكن الجديد في المرحلة الراهنة من ضغوط العولمة على هذا النموذج، متضافرة مع ضغوط الحرب الأمريكية على الإرهاب؛ هو امتداد التحديات إلى جمهور الناس وليس النخب فقط.
ولذا لم يعد حديث الخصوصية الثقافية (بوجهها السلبي المسئول عن التأزم أو بوجهها الإيجابي الذي يكمن في تجديده وتفعيله إمكانيات للخروج من هذه الأزمة) هو حديث خاص بخريطة النخب وتوازن علاقاتها، ولكن أضحى حديث مستقبل أمة بعد أن امتدت الضغوط والتأثيرات إلى خط الدفاع الأخير (وخط التجديد المرتقب)، وهو الفضاء الثقافي لجمهور الناس، في محاولة للتغير ليس هناك رضاء عام على أنها من قبيل الإصلاح الرشيد، بل الإصلاح الضال[51].
وإذا كان فريق يرى أن عمليات الإصلاح والتغيير تحركها عادة النخب، وليس الجماهير؛ فإن المرحلة الآنية من الخبرة المصرية تبين أن ميزان القوى ليس في صالح مطالب الإصلاح الرشيدة والسريعة، ومن ثم –وفي مقابل- سيناريو الانفجار الشعبي الذي لن يبقي على شيء، أو سيناريو استمرار الإرهاب وتصاعده؛ فإن السيناريو الوسيط هو حراك مدني وشعبي يساند بفعالية نخب المعارضة، ويخلق طاقة ضغط حقيقية على النظام القائم من أجل إصلاحات مجتمعية وسياسية رشيدة. ولكن يظل السؤال: ما هو مصدر هذه الطاقة وهذا الحراك المرتقب، وما هو إطاره المرجعي ومن الذي يقوده؟ وكيف؟
الجدير بالذكر أن البعض[52] يتحدث عن أسلمة الديمقراطية على اعتبار أنها السبيل لتحقيق الاستقرار والتنمية ومقاومة الإرهاب في العالم الإسلامي، ويعني بذلك صياغة ركائز الديمقراطية (وهي الاختيار، التنافس، حكم القانون) بمفردات إسلامية يعينها جمهور الناس.
الأمر الثالث: إن التمسك بالخصوصية الثقافية بصفة عامة، وبالنواة الصلدة في خصوصيتنا بصفة خاصة (الدين)، ليس بالضرورة ضد متطلبات الإصلاح أو عائقًا أمامه.
وإذا كانت تجربتي الصين واليابان –التي يجري دائمًا المقارنة بينهما وبين تجربة مصر- قد حقَّقتا نجاحهما على عكس مصر لأنهما –وفق رؤية البعض[53]- قد أسقطتا قضية “النواة الصلدة” أي الدين؛ إلا أنه وفق رؤى أخرى فالمحك ليس عامل الدين فقط، ولكن أي نمط من الأديان؛ لأن البوذية والكونفوشية، وإن كانت أديان وضعية، إلا أنها النواة الصلدة للخصوصية الثقافية لهاتين التجربتين، ولقد كانت هذه الخصوصية –فيما عرف بالقيم الآسيوية- من أهم مفسرات نجاح هذا التجارب وفق رؤية اتجاهات بحثية متنوعة[54]. وبناء عليه فلا محل لقبول فكرة عدم التمسك بالخصوصيات باعتبارها عائقًا، إلا أن موضع النواة الصلدة في خصوصيتنا (المرجعية الإسلامية) هو الذي يجب أن نفطن إلى تميزه وتفرده سواء في مناورات قوى داخلية، أو ضغوط قوى خارجية، أو عبر قنوات التحالف بينهما.
وبناء على كل ما سبق؛ فإن إشكالية كلية وجامعة بين الصفحات السابقة في الدراسة تتلخص في الآتي[55]:
هل إعطاء أولوية للدفاع عن الخصوصية الثقافية والهوية والدين يؤثر على فرص إصلاح القوى المادية، على النمط الغربي التحديثي وأخذًا منه ونقلًا عنه؟ وهل الحفاظ على الهوية والمقومات الحضارية هو الشكل الوحيد للإصلاح من الداخل وبالداخل؟ وما معنى إذن الإصلاح من الداخل: هل يقتصر على الهوية فقط، أم يمكن أن يمتد إلى غيرها من القضايا؟ وما هي حدود العلاقة الصحّية مع الخارج وضوابطها، بفرض عدم إمكانية فصل الداخلي عن الخارجي في عمليات الإصلاح الفكرية والسياسية والمجتمعية؟
هل نحن في الدائرة الحضارية العربية الإسلامية، ونظرًا للإرث التاريخي المعقد لعلاقاتنا مع أوربا والغرب بصفة عامة؛ أكثر اهتمامًا من غيرنا بالتهديد ضد الهوية والثقافة والدين؟ وهل ذلك نظرًا لموقعنا الجغرافي الحضاري في قلب الدنيا، والذي يجعل من منطقتنا عقدة استراتيجية تعرضنا دائمًا -وعلى عكس غيرنا- لضربات التدخل الخارجي بكل صوره وأشكاله بدون توقف، طالما لم يتحقق تطويعنا الحضاري الكامل؟
وهل يفسر هذا الوضع تركيز روافد إصلاحية أساسية –وهي القومية والإسلامية- على قضية مدى تأثر الهوية والخصوصية والاستقلال سلبيًّا بالإصلاحات التحديثية المفروضة تحت ضغوط الخارج؟ وهل هذا التركيز، وما ترتب عليه من انقسامات بين القوى الاجتماعية حول مرجعية الإصلاح؛ يفسر –كما ينحو البعض- فشلَ عمليات إصلاح القوى المادية، نتيجة استنزاف الجهود في صراعات الهوية والثقافة والدين، وما يترتب عليها من اتجاهات الانغلاق والتعصب والتطرف؟ أو العكس، أي أن تنجح إصلاحات مادية –في ظل التبعية- وإن ظلت أبواق الدفاع عن الخصوصية تدق بدون صدى أو مردود إيجابي ملموس.
وإذا كان البعض قد أجاب ضمنيًّا بالإيجاب عن هذه الأسئلة فإن هذا يجعلنا نتساءل صراحة: هل استبعاد قضية الهوية والخصوصية من جدالات الإصلاح هي سبيل نجاحه في منطقتنا؟ وما معيار النجاح عندئذ؟ إلا أن البعض الآخر كان أكثر وضوحًا وصراحة في الإجابة بالسلب. فعلى سبيل المثال يقول د. محاضير محمد في كتاب يجمع خطب وكلمات مختارة له تحت عنوان “الإسلام والأمة الإسلامية”(ص51- 52):
“في وقت لاحق من التاريخ الإسلامي؛ نجد أنه ما من مجتمع إسلامي أو دولة بعينها بدأت سعيًا حثيثًا لإحداث التنمية وامتلاك المعارف والمهارات المختلفة لتعزيز قدراتها، بما يوفّر لها إمكانية حماية الأمة الإسلامية، إلا وثار الجدل الديني العنيف والخلافات الحادة حول توجهها الجديد، الأمر الذي يؤدي إلى صرف العقول وتبديد طاقات المجتمع من خلال الانجرار وراء حملات الدفاع عمن يسمون أنفسهم بالمسلمين المتقدمين في مواجهة هجوم السّلفيين. وحتى إذا كان أعداء الإسلام يقفون على الأبواب، فإن المسلمين لن يجدوا حرجًا في تصعيد الخلافات والصراعات التي تعصف بمجتمعهم، وهي صراعات لم ينجحوا على مدى التاريخ في حلّها”… “فإن الدفاع عن المسلمين وبلدانهم، والدفاع عن الأمة في مواجهة المجدِّفين وأعدائها الحقيقين، سينتهي إلى الإهمال والنسيان… وهكذا نلاحظ أن انشغال المسلمين بخلافاتهم بين بعضهم بعضًا واندفاعهم باتجاه تصعيدها، غالبًا ما يقودهم إلى الاستعانة بالكفار للقضاء على أعدائهم من إخوانهم المسلمين”… “نتيجة لانشغال المسلمين بالجدل العقيم حول أيهم أحق بادّعاء تمثيل الإسلام الصحيح؛ فإن مسيرة بلداننا الإسلامية تمضي في اتجاه عكسي، متراجعة عن ركب التطور في العالم؛ لأنها عاجزة عن مواكبة التحولات التي تجري من حولها، مما يسهل على الآخرين الهيمنة عليها. وفيما تحاول الأطراف إلقاء اللائمة على المستشرقين بزعم أنهم ضلّلوا المسلمين عن النهج الإسلامي القويم؛ فإنه لا يوجد أي طرف من بينها يجرؤ على تجاهل المستشرقين. أنا على يقين بأنه حتى إذا لم يكن هناك مستشرقون، فإن المسلمين لن يعدموا سببًا للاختلاف والجدل حول التفاصيل التافهة بشأن الدين والعقيدة”…
كذلك وفقًا للبعض الآخر (د. عواطف عبد الرحمن: “التحديات الثقافية للعولمة”) فإن التيار الذي يركز على الأصول الثقافية ويعتبر الرجوع إلى الأصول الأولى للإسلام، الدرع الحقيقي الذي يحمي المجتمعات العربية الإسلامية من كل حروب التبعية والغزو الثقافي؛ هذا التيار الذي يرفض التحديث باعتباره المكافئ للتغريب هو التيار الذي غلَّب البُعدَ الثقافي ذا الطابع الديني. وبذا فلقد كفى نفسه مشقة التصدي للمشكلات القومية والمحلية، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، مكتفيًا بالتركيز على جبهة الهوية والثقافة والدين على حساب القضايا الاجتماعية والاقتصادية.
إلا أنني أرى –من ناحية أخرى- أنه يمكن النظر للأمر بمنظار آخر تقدم خبرات التاريخ وخبرات الزمن المعاصر الأدلةَ عليه.
فمن ناحية: لقد أجمع العديد من المفكرين المسلمين والغربيين على حد سواء على ما في النظم التحديثية الغربية من مساوئ قيمية وأخلاقية وإنسانية تقترن بالتقدم المادي الذي تحقَّق؛ مما يقدّم سندًا لانتقادها، والبحث عن أنماط أخرى للتجديد والإصلاح تراعي الحفاظ على هذه الجوانب القيمية والإنسانية، دون تخلٍّ عن أسباب التقدم المادي. (ولعل كتاب أبو الحسن علي الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، والذي سجل فيه رؤيته لوضع العالم الإسلامي مقارنة بغيره عند منتصف القرن العشرين؛ من بواكير الإنتاج المعاصر لهذا الاتجاه).
ومن ناحية ثانية- لا يمكن إنكار أن التحديث متحيّز، فهو يحمل معه فلسفته ومنظومة قيمه ورؤيته للعالم، ويفرضها على المجتمعات التي تنهج التحديث. وإذا كانت الجذور العربية الإسلامية في مجتمعاتنا تضرب في أعماق التاريخ وترتبط بالعقيدة الدينية؛ فإن عمليات الإصلاح المصحوبة بقيم وعادات غربية لن تقدم إلا مزيجًا غير متجانس لا يمكن أن يستند عليه نهضة أو إصلاح حقيقيان.
ومن ناحية ثالثة– لا يمكن الفصل بين مشاريع السيطرة الاستعمارية والإمبربالية، وبين أدواتها للاختراق الثقافي؛ وهو الاختراق الذي يقوم على مفهوم التفوق الثقافي الأوربي أو الغربي على الثقافة العربية، مما حالَ دون نمو مشروع ثقافي حضاري عربي إسلامي جديد، ناهيك عن مخاوف التفكك الثقافي الناجم عن ضرب الأواصر والروابط، وعلى رأسها اللغة العربية والتاريخ. ومما لا شك فيه أن من أقوى الأدلة على ذلك المرحلة الراهنة من الهجوم الخارجي على أمتنا من خلال مدخل ثقافتنا، باعتبارها -هذه المرة– حاملة جذور الإرهاب وعدم الاستقرار في العالم؛ ومن ثم الحاجة لتغييرها تحقيقًا لأهداف الحرب الأمريكية على الإرهاب؛ وهي الحرب التي تقوم تحقيقًا لأهداف أخرى تتخفّى في رداء هدف محاربة الإرهاب. ومن بين هذه الأهداف أهداف دينية تتصل بالعداء للإسلام، الذي تحمله الأصولية المسيحية الحاكمة الآن في الولايات المتحدة.
هذا ويجب علينا أن نواجه أنفسنا بهذه الحقيقة؛ أي كيف أضحى الدين يلعب دوره بوضوح وصراحة في تبرير السياسة الأمريكية، وتشكيل دوافعها وأهدافها؛ ومن ثم يجب أن نكف عن إنكار أن هناك بعدًا دينيًّا واضحًا في السياسات الإقليمية والعالمية الآن. فهناك فارق بين أن نعترف بهذه الحقيقة، وبين أن نحذر من مخاطرها، وخاصة إذا كانت ترتدي رداء الصراع، في حين أن دور الدين في العلاقات الدولية ليس بالضرورة دائمًا دورًا صراعيًّا انقساميًّا، أو سلبيًّا.
ومن ناحية رابعة- من أخطر المشاكل التي يجب مقاومتها مشكلة الثنائية والازدواج بين الوافد والموروث، ولا يمكن أن يكون الحل لصالح الوافد على حساب الموروث، ولكن لصالح تجديد الموروث في ظل تفاعل ثقافي صحي مع الوافد. فإن إعادة النظر في التراث بنظرة نقدية تمثّل رافدًا أساسيًّا في عملية تجدد الثقافة العربية الإسلامية، فهناك فارق بين الرجوع للتراث لتمجيده والتجمد في إساره، وبين الرجوع إليه من أجل تحرير الذات؛ ومن ثم يصبح تجديد الذات بالذات عملية نقدية بنائية، وليس فقط عملية نقل واسترجاع. فعلى سبيل المثال: كيف يمكن أن نجدّد الخطاب الديني المعاصر، والذي أضحى ضرورة ملحة تفرضها متطلبات إصلاح مجتمعاتنا وليس المتطلبات الأمريكية لمحاربة الإرهاب؟ هل وفقًا للوصفات الأمريكية المتكررة والمتتالية تحت مسميات الإسلام المدني الليبرالي الديمقراطي، أي تحديث الدين الإسلامي وفق الرؤية الأمريكية، وهو الأمر الذي يثير جدالًا واسعًا يقع في قلب الجدالات الدائرة حول الإصلاح، على نحو وسَّع من هذا الدائرة، بحيث لم تعد قاصرة على الأبعاد السياسية أو الاقتصادية فقط، ولكن امتدت إلى الثقافية منها، ولكن بدون انفصال عن هذه الأبعاد الأخرى؟
ولذا من ناحية خامسة فإن الاهتمام بالأبعاد الثقافية المتصلة بالهوية والدين، حتى بفرض أنه يثير انقسامًا بين مرجعيات الإصلاح؛ لا يمكن النظر إليه باعتباره يأتي على حساب السياسي والاقتصادي والمجتمعي؛ لأن مثل هذا القول ينطلق من رؤية مادية أو علمانية ترفض الاعتراف بما للثقافي /القيمي والديني من تأثير على السياسي والاقتصادي، وهو ما لا يتسق مع رؤية إسلامية أو رؤية قيمية أخلاقية إنسانية. فإن رؤية إسلامية للإصلاح لا تبنى على هذا الفصل بين القيمي/ الديني من ناحية، وبين السياسي الاقتصادي من ناحية أخرى. وإن غلبت بعض هذه الرؤى الديني أو الأخلاقي، ولو على حساب أسباب القوة المادية، أو غلبت القديم دون أخذ متغيرات الواقع في الاعتبار؛ تكون قد انحرفت عن مسار رؤية إسلامية رشيدة؛ مما يستدعي تجديدها وإصلاحها لتحقيق فاعليتها في النهوض بالواقع.
ومن ناحية سادسة- أعتقد أن هذا الحاضر الغائب في المقارنة بين تجارب العرب وتجارب الصين واليابان؛ هو: دور القوى الاجتماعية التي سادت عملية التغيير في اليابان والصين، وقادتها على نحو يعكس الرضاء والتوافق المجتمعي العام، وانطلاقًا من مراعاة خصوصيات الثقافة والإطار الحضاري.. فهذا الدور الذي تحقق في خبرتي اليابان والصين على اختلافهما، والذي كان وراء نجاحهما لم يتحقق في الخبرات العربية؛ ذلك لأن الذي قاد عمليات الإصلاح والتغيير –وخاصة بعد الاستقلال- هي نخب حاكمة لم تعبر عن القاعدة الاجتماعية الواسعة، سواء العلمانية منها التي ورثت الاستعمار في مرحلة ما بعد الاستقلال، أو القومية أو اليسارية أو الإسلامية المعارضة. وهذا يعني أنه بالرغم من أهمية تأثير الإطار الدولي والقوى التدخلية؛ إلا أنه يظل للداخل تأثيره الهام، وخاصة ما يتصل بالقاعدة الاجتماعية الواسعة، وتأثيرها على احتمالات التغيير؛ وهو التأثير الذي يتوقف -كما يرى د.أومليل– على نمط العلاقة بين هذه القاعدة، وبين ما أسماه الفكر التقليدي الديني. حيث يرى أن هذه القاعدة التي لا ترى لها مصلحة في الحداثة؛ إنما تهيئ بنية واسعة للفكر التقليدي؛ مما يفسّر القبول الواسع لهذا الفكر. ولكن هنا يثور السؤال التالي: هل هذا الفكر يكرس تهميش هذه القاعدة الاجتماعية الواسعة التي لا تستفيد من الحداثة، أم أن هذه القاعدة هي التي تلجأ لهذا الفكر ليبرر لها فشلها وجمودها؟
مما لا شك فيه أن الفكر التقليدي الديني الذي لا يدفع للتغيير؛ هو ذلك الفكر الذي تسانده النخب الحاكمة الاستبدادية؛ لأنه يمكّنها من استمرار تفرّدها بالسلطة دون معارضة. ولهذا فإن هذا الفكر الديني ليس بحاجة لإلغاء أو إقصاء، ولكنه بحاجة “لتجديد”؛ ليصبح قوة محركة لهذه القاعدة نحو مزيد من التغيير والإصلاح؛ لأن آفة دعاوى الإصلاح الراهنة هي تفكك وضعف القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في الإصلاح، وحاجتها لتحويل مطالب الإصلاح إلى قوة حركة سياسية فعالة. فهل يمكن أن يصبح الفكر الديني التجديدي قوة دافعة في هذا السبيل؟ ولكن كيف يمكن إصلاح وتجديد هذا الفكر؛ ولتحقيق هذه الغاية أساسًا، وليس غايات أخرى، تلك التي يسعى إليها الداعون من الخارج الآن إلى ما يسمى تحديث الدين الإسلامي، والذين يرفعون شعار الإسلام الليبرالي، المدني الديمقراطي، والذين يقترحون سبلًا للتجديد أصبحت تثير الغضب والرفض، ليس من جانب الإسلاميين فقط، ولكن من جانب القوى الوطنية جميعها، لأنها لا تنبع من الإسلام فقط؛ بل تسعى إلى تغييره وليس تغيير المسلمين؟
خلاصة القول: إن إشكاليات الواقع الراهن للعملية الإصلاحية في مصر، وفي الوطن العربي والعالم الإسلامي برمته؛ إنما تحمل في طياتها دلالات هامة بالنسبة لعددٍ هامٍّ من الإشكاليات التي يطرحها الواقع الراهن: حجم التدخل الخارجي في العملية الإصلاحية، ونمط توظيفه للبعد الثقافي، ونتائجه المحتملة، وموضع الدين والهوية من السجالات بين الأطر المرجعية المتنافسة للإصلاح، وموقف هذه الأطر من أطروحات الضغط الخارجي، وسبل تحويل مطالب الإصلاح إلى خطط عمل وحركة تضغط من أجل تنفيذها قوى اجتماعية واسعة، تقدم المساندة اللازمة لهذه الإصلاحات، على أساس أن تلك الأخيرة تعبر حقيقة عن مصالح هذه القاعدة الواسعة، وليس عن مصالح نخب ضيقة سواء الحاكمة أو المتحالفة معها باسم التحديث، والتي تقصي ما عداها من النخب القومية والإسلامية، بالرغم من اتساع قواعدهم الشعبية مقارنة بقواعد النخب الحاكمة.
كل هذا يحدث في المرحلة الراهنة الحافلة بتحديات السياسة الأمريكية –تخطيطًا وتنفيذًا- في نطاق ما يسمونه تحديث الدين الإسلامي كسبيل من سبل مكافحة ما يسمونه الإرهاب، وكذلك في نطاق العدوان العسكري والاحتلال العسكري الذي يسعى لاقتلاعنا ابتداء بنموذج فلسطين ثم العراق ثم لبنان، والذي يتم تحت دعاوى فرض وليس نشر الديمقراطية في العالم ومحاربة الإرهاب.
فهذه التحديات الخارجية الأمريكية بصفة خاصة؛ هي التي تحمل معها الآن الطبعة الأخيرة لما درجت عليه التدخلات الخارجية من توظيف الثقافة في تحقيق أهدافها، سواء من حيث الادعاء بأن ثقافتنا في حاجة لتغيير لتصبح أكثر ملائمة مع متطلبات التحديث، أو من حيث الادعاء أن التغيير في مجتمعاتنا يحتاج لتبنّي ثقافة التغيير، على اعتبار أن مجتمعاتنا لتمسكها بقيمها وتقاليدها تبدو كأنها مجتمعات جامدة لا تقبل التغيير.
إن الدراسة على هذا النحو تكون قد قدمت للقارئ تحفيزًا للتفكير المقارن في إشكاليات تغيير الثقافة أو ثقافة التغيير، أملًا في الوصول إلى رؤية شاملة عن فلسفة الإصلاح المطلوب، وموضع الثقافة من سياسات تطبيقه، ومن جهود مقاومة الضغوط الخارجية الراهنة؛ حيث أضحت ساحة الثقافة هي آخر ساحات الهجوم علينا باسم التحول الديمقراطي ومكافحة الإرهاب والتعصُّب والانغلاق ومقاومة التغيير، كما أضحت أيضًا الثقافة آخر خطوط دفاعنا، فهي في حاجة لتجديد وليس لتغيير أو استبدال. ولهذا فنحن في زمن لا يحتمل ترفة التدريبات الذهنية، فنحن في حاجة لآليات وإجراءات لإصلاح يستند إلى تيار أساس في الجماعات الوطنية، يعبر عن ثوابت هذه الأمة، ويتمسك بها من ناحية، ويقود من ناحية ثانية عملية تجديد وإصلاح شاملة لكل ما يفرضه الواقع من تحديات استجابة لمصالح الأمة في العدالة والحرية والاستقلال.
إن هذا التيار الأساسي في الجماعة الوطنية ما زال مفقودًا، والحل الرشيد للوصول إليه يكون من خلال الحوارات الوطنية بين القوى الوطنية جميعها، دون استبعاد لبعضها، ومع تخليق روابط الصلة بين نخب هذه القوى وبين قواعدها، وعلى نحو يسمح بدوره بتوليد فرص للحراك المجتمعي والمدني والشعبي، في ظل ممانعة حضارية جماعية ضد الاستبداد والتخلف الداخلي وضد التدخل والاستغلال الخارجي، تعكس رضاءً عامًّا لن يتحقق إلا بهذه الحوارات الوطنية المستدامة.
والحمد لله
*****

الهوامش:

* تم أيضًا تقديم هذه الدراسة إلى المؤتمر الذي نظمه برنامج حوار الحضارات (11- 14/ 9/ 2006) تحت عنوان “الخصوصية الثقافية: نحو تفعيل التغيير السياسي والمجتمعي”.
** إن أعمال مؤتمر “الخصوصية الثقافية: نحو تفعيل التغيير السياسي والمجتمعي” من بحوث ومناقشات وحلقة للنقاش تتناول جميع هذه المستويات من منظور عام فكري ونظري مقارن أو بالتطبيق على بعض الحالات، أعمال المؤتمر (تحت الإعداد للنشر)، تحرير د. محمد بشير صفار، د. سيف الدين عبد الفتاح.
*** بعضها المشروعات والندوات يمكن توثيقه، وبعضها الآخر (حلقات النقاش والمداخلات) وهو كثير وغني لا يمكن توثيقه لأنه غير منشور. ولكن شارك في تشكيل هذه الخبرة؛ لأنه كان بمثابة الساحة الحية للحوارات. هذا، وأعتقد أن حجم ونطاق وطبيعة غير المنشور هذا من النقاشات يبين أنه الأهم في رسم خريطة الاتجاهات الفكرية لدى النخب والجمهور؛ فهي خريطة “السياسات الدنيا Low Politics وليس السياسات العليا High Politics، والتي بمقدورها أن تقدم من الدلالات ما لا تكشف عنه أبدًا الصورة من أعلى.
[1] د. نادية محمود مصطفى: العولمة وحقل العلاقات الدولية (في): د. سيف الدين عبد الفتاح، د. حسن نافعة (محرران)، العولمة والعلوم السياسية، سلسلة السمينار الثقافي لقسم العلوم السياسية، 2000.
[2] د. نادية محمود مصطفى، د. حازم حسني، أ. هبة رءوف: إعادة تعريف السياسي (في) د.نادية محمود مصطفى (إشراف وتحرير) علم السياسة: مراجعات نظرية ومنهاجية. سلسلة السمينار الثقافي لقسم العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2004.
[3] انظر كل من:
– د. عماد شاهين: قراءة فى أدبيات التحول الديمقراطي والمجتمع المدني.
– د. حسنين توفيق: التحول الديمقراطي والمجتمع المدني في مصر: قراءة تحليلية في الأدبيات 1981 ـ 2005.
ضمن أعمال مشروع “التربية المدنية في مصر”، (إشراف وتحرير) د. نادية محمود مصطفى، إصدار مركز البحوث والدراسات السياسية، (تحت الطبع). وانظر أيضًا: د. نادية محمود مصطفى: التقرير الختامي للمشروع، قضايا واتجاهات المناقشة (في) المرجع السابق.
[4] انظر على سبيل المثال: نيفين عبد المنعم مسعد (محرر)، التحولات الديمقراطية في الوطن العربي: أعمال الندوة المصرية- الفرنسية الثالثة، القاهرة 29 سبتمبر- 1 أكتوبر 1990، مركز البحوث والدراسات السياسية، 1993.
– حمدي عبد الرحمن (محرر)، التحول الديمقراطي في العالم العربي خلال التسعينيات: أعمال الندوة العلمية التي عقدت بجامعة آل البيت في الفترة 30/ 11- 1/ 12/ 1999م، منشورات جامعة آل البيت، 2000م.
[5]انظر على سبيل المثال وليس الحصر بعض إصدارات المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في نطاق برنامج بحوث تقويم السياسات الاجتماعية، بحث السياسة الثقافية ومنها: السيد ياسين (إشراف وتحرير): المناخ الثقافي في مصر، من مرحلة ما قبل الثورة إلى مرحلة التعددية والانفتاح، القاهرة 2000.
[6] انظر على سبيل المثال: د. مصطفى كامل السيد (تحرير) الإصلاح السياسي في الوطن العربي، مركز دراسات وبحوث الدول النامية، 2006.
– (مجموعة مؤلفين): الديمقراطية والتنمية الديمقراطية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2004.
– د. ثناء فؤاد عبد الله: مستقبل الديمقراطية في مصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2005.
[7] انظر على سبيل المثال: السيد ياسين: الإصلاح العربي بين الواقع السلطوي والسراب الديمقراطي، ميريت للنشر، القاهرة، 2005، الفصل الرابع.
– د. طلال العتريسي: دولة بلا رجال: جدل الإصلاح والسيادة في الشرق الأوسط، دار الهادي، بيروت، 2005 (الفصل الثالث: فساد في الأرض، الفصل 2: حوار بلا سيادة).
[8] انظر على سبيل المثال:
– د. نازلي معوض (محرر): الخبرة السياسية المصرية في مائة عام، مركز البحوث والدراسات السياسية، جامعة القاهرة، 2001.
– د. علا أبو زيد (محرر): الفكر السياسي المصري المعاصر، مركز البحوث والدراسات السياسية، جامعة القاهرة، 2003.
[9] حول الأبعاد الثقافية الحضارية في تفسير أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتداعياتها وخاصة ما يسمى الحرب الأمريكية على الإرهاب ودلالاتها بالنسبة للتحديات التي تواجه العالم الإسلامي
انظر على سبيل المثال:
– د. نادية محمود مصطفى: أولى حروب القرن الواحد وعشرين: السياسة الدولية، 2003.
– د. نادية محمود مصطفى (محرر): السياسة الأمريكية تجاه الإسلام والمسلمين، برنامج حوار الحضارات، جامعة القاهرة، 2002.
– د. نادية محمود مصطفى: الأبعاد الثقافية للعولمة السياسية/ الاقتصادية، حوار العرب، مارس، 2005.
[10] حول موقف الاتحاد الأوروبي ومفاهيمه عن الإصلاح في العالم العربي مقارنة بمفاهيم ومواقف الولايات المتحدة، وكيف يظهر فيها الوسط بين الأبعاد الثقافية والسياسية، وعلى نحو يفسح مساحة “للإسلام” على أكثر من مستوى انظر على سبيل المثال:
– د. نادية محمود مصطفى: أبعاد الدور السياسي لأوروبا وحدوده: إشكالية الاستمرارية والتغيير، شئون عربية، 121، ربيع 2005.
– د. نادية محمود مصطفى: البعد الثقافي للشراكة الأوروبية المتوسطية، بحث مقدم إلى ندوة أوروبا وإدارة حوار الثقافات الأورومتوسطية، برنامج حوار الحضارات، إبريل 2005، تحت الطبع.
– د. عمرو حمزاوي: الاتحاد الأوروبي وقضية الإصلاح السياسي في الوطن العربي. (في) د. مصطفى كامل السيد (محرر) مرجع سابق.
– د. سمعان بطرس فرج الله (محرر) مصر والمتوسطية: مشروع مصر 2020، منتدى العالم الثالث.
– د. جان نويل فرييه: الاستقرار أو الديمقراطية: في الصعوبة التي تواجهها أوروبا بين تشجيع الديمقراطية أو استقرار الأنظمة السلطوية (في) د. وفاء الشربيني (محرر) الاتحاد الأوروبي والوضع السياسي الجديد في الوطن العربي (1991- 2003)، مركز البحوث والدراسات السياسية، 2005.
[11] انظر على سبيل المثال:
أعمال مؤتمر “مشروع الشرق الأوسط الكبير والأمن في المنطقة العربية” الذي نظمه مركز البحوث والدراسات السياسية في ديسمبر 2005، تحرير د. نادية مصطفى، د. باكينام الشرقاوي (تحت الطبع). وبالرغم من أن بحوث المحور الأخير قد خصصت لموضوعات ذات أبعاد ثقافية أساسًا إلا أن بحوث المؤتمر الأخرى قد تناولت هذه الأبعاد بمدخل أو آخر.. انظر أيضًا:
أعمال مشروع التربية المدنية الذي أجراه مركز البحوث والدراسات السياسية، (تحت الطبع) وخاصة البحث الختامي في المشروع: د. سيف الدين عبد الفتاح: بين الصيغ العالمية للتربية المدنية والصيغ التي تعكس الخصوصيات الثقافية: إشكاليات أجندة الموضوعات ، ومنظومة القيم. والذي حلل فيه الدوافع والأهداف العولمية للسياسات الأمريكية والغربية بصفة عامة التي توظف الأبعاد والأدوات الثقافية والدينية تجاه العالم العربي والإسلامي.
[12] انظر جانب من هذه النقاشات على سبيل المثال في:
– د. نادية محمود مصطفى، د. باكينام الشرقاوي (محرران) أعمال مؤتمر “مشروع الشرق الأوسط الكبير والأمن في المنطقة العربية، مرجع سابق، (تحت الطبع).
– د. وفاء الشربيني: سياسة مصر تجاه قضية التحرير السياسي والاقتصادي وتطوير التعليم في مصر والدول العربية، ما بين رد الفعل للمبادرة الأمريكية والحاجة للإصلاح (في) د. نادية محمود مصطفى، د. زينب عبد العظيم (محرران): الدور الإقليمي لمصر في مواجهة التحديات الراهنة، مركز البحوث والدراسات السياسية، 2003.
– مجموعة من الباحثين: مناظرة حول: الإصلاح السياسي…. بين مبادرات الخارج وضغوط الداخل. رواق عربي، العدد 34، شتاء 2004، كتاب غير دوري يصدره مركز القاهرة لحقوق الإنسان.
– د. طلال عتريسي: مرجع سابق.
– د. عمرو دراج (محرر): الإصلاح الوطني المنشود المتطلبات والآليات، رؤية الأحزاب والقوى الوطنية المصرية. سلسلة قضايا الإصلاح (2) منتدى جامعيون من أجل الإصلاح، لجنة الشئون العامة والثقافة والإعلام، نادي أعضاء هيئة التدريس، جامعة القاهرة، مايو 2004.
[13] وعلى هذا النحو يمكن أن تساهم نتائج هذه القراءة في بناء مفهوم الخصوصية ومؤشراته؛ حيث اتضح من أعمال المشروعّ البحثي الذي يقدم المؤتمر نتائجه، صعوبة الاتفاق على مفهوم ومن ثم صعوبة الرضا حول مجموعة محددة من المؤشرات والإجراءات. فهل تتفق قراءة من منظور آخر مع نتائج قراءتي؟)
[14] تم انتقاء النماذج التي توافرت للباحثة حولها خبرة مباشرة (سواء منشورة أم لا).
[15] الأهرام: من 26/ 6 وحتى 17/ 7/ 2006.
[16] الأهرام، 26/ 6/ 2006.
[17] الأهرام، 26/6/2006.
[18] الأهرام، 3/ 7/2006.
[19] الأهرام، 10/7/2006.
[20] الأهرام، 17/7/2006.
[21] الأهرام، 17/7/2006.
[22] طارق البشري في سلسلة المسألة الإسلامية المعاصرة من ست كتب من إصدار دار الشروق.
[23] انظر على سبيل المثال المحاضرات والحوارات التي قدمها عدد من المفكرين من مختلفي الاتجاهات في: د. نادية محمود مصطفى (محرر)، خصائص الثقافة العربية والإسلامية، برنامج حوار الحضارات، جامعة القاهرة، 2005.
[24] انظر على سبيل المثال: سلسلة حوارات لقرن جديد التي تصدرها دار الفكر في دمشق ومنها على سبيل المثال: – رضوان السيد، أحمد برقاوي: المسألة الثقافية في العالم العربي/ الإسلامي، 1998.
[25] مجموعة مؤلفين: العرب وثقافة التغيير أم تغيير الثقافة، بحوث المؤتمر السنوي الثالث لمؤسسة الفكر العربي الذي عقد في المغرب 4/7/ 2004.
[26] د. علي أومليل: نماذج التغيير عند العرب وغيرهم: التجربة العربية وتجربتي اليابان والصين (في) المرجع السابق.
[27] من واقع التعليق المكتوب الذي قدمته د. نادية محمود مصطفى على هذا البحث والذي قدم إلى المؤتمر (غير منشور في أعمال المؤتمر التي اقتصرت على البحوث).
[28] نادر الفرجاني (محرر): تقرير التنمية الإنسانية العربية الأول لعام 2002.
[29] د. نادية محمود مصطفى (في) حلقة نقاش: رؤى نقدية لتقرير التنمية الإنسانية العربية عام 2002، المستقبل العربي، يناير 2003.
[30] د. نادية محمود مصطفى (في) حلقة نقاش: رؤى نقدية لتقرير التنمية الإنسانية العربية عام 2002، المستقبل العربي، يناير 2003.
[31] انظر: د. سيف الدين عبد الفتاح (محرر) التعليم العالي في مصر: خريطة الواقع وآفاق المستقبل، مركز البحوث والدراسات السياسية، 2006.
انظر أيضًا:
– د. نادية محمود مصطفى: في خبرة تطوير التعليم العالي: المسارات والإشكاليات (في) المرجع السابق.
– د. سيف الدين عبد الفتاح: التعليم والهوية: نحو تأسيس جامعات حضارية (في) د. سيف الدين عبد الفتاح (محرر)، مرجع سابق.
– كذلك انظر: د. نادية محمود مصطفى: التعليم العالي والتحدي الحضاري، بحث مقدم إلى مؤتمر التعليم العالي: رؤية مستقبلية الذي نظمته مؤسسة الفكر العربي بالتعاون مع الإيسيسكو والألكسو، بيروت، سبتمبر 2005.
[32] انظر على سبيل المثال:
– Alexander Lennon: The Battle for hearts and Minds: Using Soft power to undermine terrorist networks, CSIS, 2003.
– Gilles Kepel, The war for Muslim Minds: Islam and the West (2004).
[33] المقدمة العامة لمشروع تجديد الخطاب الديني، مشروع بحثي جماعي نفذه مركز البحوث والدراسات السياسية (2004- 2005)، تحت إشراف وتنسيق د. نادية محمود مصطفى ود. إبراهيم البيومي غانم (أعماله تحت الطبع).
[34]تناولت بحوث هذا المؤتمر الموضوعات التالية: تجديد الخطاب الديني من الحملة الفرنسية إلى الحملة الأمريكية:خطاب الهوية وهوية الخطاب (د. سيف الدين عبد الفتاح)، تجدد الجدل النظري حول الدين والعلمنة: ما قبل تجديد الخطاب الديني (أ. هبة رءوف)، اتجاهات الجدل حول تجديد الخطاب الديني في مصر(د. علي ليلة)، خريطة الخطاب الديني في مصر (د. أحمد زايد)، تجديد الخطاب الديني الإسلامي في الكتابات الغربية: ضرورة حضارية أم مناورة سياسية (د. أماني مسعود)، تجديد الخطاب الإذاعي في شبكة القرآن الكريم (د. فوزي خليل)، تجديد الخطاب الديني في مقررات التعليم (د. أحلام فرهود)، تجديد الخطاب الديني في مصر: تحليل آراء عينة من الجمهور العام (د. إبراهيم غانم).
[35] تقرير عن قضايا واتجاهات المناقشة في الندوة التي نظمها مركز البحوث لمناقشة المشروع البحثي ضمن أعمال المشروع، من إعداد د. إبراهيم البيومي غانم، أعمال المشروع تحت الطبع.
[36] د.علا أبو زيد (محرر): التربية المدنية في مصر: حاضرها ومستقبلها، مركز البحوث والدراسات السياسية، جامعة القاهرة، 2005.
[37] انظر التقرير الختامي في المرجع السابق: إعداد د. علا أبو زيد، د. نادية محمود مصطفى، ص ص 373- 374.
[38] انظر أعمال مشروع التربية المدنية “تشخيص تقييم إصلاح، إشراف وتحرير د. نادية مصطفى، مركز البحوث والدراسات السياسية (تحت الطبع).
[39] انظر تفاصيل هذه الجدالات في التقرير الختامي للمشروع إعداد د. نادية محمود مصطفى في: المرجع السابق.
[40] عقد مركز البحوث والدراسات السياسية بالتعاون مع المركز الفرنسي للوثائق والدراسات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية سلسلة من حلقات النقاش تحت عنوان تاريخ المسألة الدستورية في مصر، تناولت على التوالي المراحل التالية: الدستور الإسلامي، المشاريع الليبرالية، دستور 23 ومشروع 1953- 1954، مشاريع اللجان الحكومية- صدقي- عبد الناصر- السادات، دستور 1971، الجدل الراهن حول التعديل الدستوري.
وشارك في هذه الحلقات مجموعة خبراء من الأكاديميين والناشطين المدنيين وأصحاب الأدوار السابقة في وضع مشروعات الدساتير محل الاهتمام. أعمال هذه الحلقات تحت التحرير من جانب منسقيها أ. محمد حاكم، أ. هبة رءوف.
[41] انظر على سبيل المثال مداخلة المستشار طارق البشري في الحلقة التي نظمها مركز البحوث والدراسات السياسية بعنوان التعديل الدستوري وقانونا تنظيم مباشرة الحقوق السياسية ونظام الأحزاب في نوفمبر 2005، شارك في مناقشة موضوع التعديل الدستوري كل من أ.د. علي الدين هلال، المستشار طارق البشري (تحت التحرير والطبع).
[42] على سبيل المثال: محصلة مداخلات المشاركين (في) الحلقة النقاشية بعنوان: “الجدال الراهن حول تعديل الدستور في “تاريخ المسألة الدستورية في مصر”، مرجع سابق؛ وهم: د. محمد نور فرحات، د. عاصم الدسوقي، د. محمد السيد السعيد، أ. السيد ياسين، د. أسامة الغزالي حرب، د. سيف الدين عبد الفتاح، د. نادية مصطفى، د. يحيى الجمل، د. إبراهيم درويش.
[43] د. علي جمعة، التجربة المصرية (4)، الأهرام، 17/ 7/ 2006.
[44] أفكار هذا الجزء من الدراسة تبلورت ونضحت عبر سلسلة من الأنشطة التي مارستُ فيها تفاعلًا حيًّا ومباشرًا مع خريطة غنية من التوجهات والرؤى لا يمكن مقارنتها –من حيث دلالالتها الحية– مع القراءة عن هذه الموضوعات، فاللقاءات المباشرة تكشف عما لا يمكن أن تكشفه كلمات الصفحات عنه أذكر منها:
1- ندوة “الإرهاب” التي نظمتها الهيئة القبطية الإنجيلية في شرم الشيخ في 27-28 أغسطس 2005.
2- ندوة التعديل الدستوري التي نظمها مركز البحوث والدراسات السياسية فى 29/11/2005.
3- حلقة نقاش: المسلمون والمسيحيون بين العزلة والتطرف: تحديات الجماعة الوطنية التى نظمها برنامج حوار الحضارات في 26 نوفمبر 2005.
4-مؤتمر الاحتفالية بمرور مائة عام على وفاة محمد عبده في مكتبة الإسكندرية 4/12/2005.
5- ندوة فى نادى أعضاء هيئة التدريس في 18/12/2005 عن الانتخابات البرلمانية وما بعدها – نظرات نحو المستقبل.
6- ندوة حوار الأديان وحل المنازعات الدولية بالتعاون بين برنامج حوار الحضارات والفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي في القاهرة 20/12/2005.
7- ندوة مركز سواسية لحقوق الإنسان عن الأقباط والصعود السياسي للإخوان في 20/12/2005.
8- المؤتمر السنوي التاسع عشر لمركز البحوث والدراسات السياسية فى 26-29 ديسمبر 2005 تحت عنوان مشروع الشرق الأوسط الكبير وأمن المنطقة العربية.
9- ندوة الاحترام المتبادل نظمها الفريق العربى للحوار الإسلامي المسيحي في القاهرة في مارس 2006.
10- ندوة التحولات في الخريطة السياسية المصرية: قراءة في الأداء السياسي للقوى والأحزاب السياسية في الانتخابات التشريعية التي نظمها مركز البحوث والدراسات السياسية فى إبريل 2006.
[45] حول هذه الانتخابات بصفة عامة، وموضع الإخوان منها بصفة خاصة انظر على سبيل المثال :
– أعمال ندوة “التحولات في الخريطة السياسية المصرية: قراءة في الأداء السياسي للقوى والأحزاب السياسية في الانتخابات التشريعية، التي نظمها مركز البحوث والدراسات السياسية في إبريل 2006 (تحت الطبع)
– خليل العناني “الصعود السياسي للإخوان المسلمين أسبابه ودلالاته، في المرجع السابق.
– مجموعة مشاركين: حلقة نقاشية: الأقباط والصعود السياسي للإخوان، مركز سواسية لحقوق الإنسان ومناهضة التمييز، القاهرة، 2006.
– عمار علي حسن: الإصلاح السياسي في محراب الأزهر والإخوان المسلمين، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، سلسلة قضايا الإصلاح (5)، القاهرة 2006.
– د.عمرو الشوبكي (محرر) إسلاميون وديمقراطيون، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، الأهرام، 2005.
[46] وحول “المشكلة القبطية وحول العلاقة بين المواطنة والدين والهوية انظر على سبيل المثال:
– سامح فوزي: رؤى المثقفين الأقباط في المواطنة (دراسة استطلاعية)، في د.علا أبو زيد، هبة رءوف (محرران) المواطنة المصرية ومستقبل الديمقراطية، رؤى جديدة لعالم متغير، مركز البحوث والدراسات السياسية، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2005.
– د. أندرية زكى: الإسلام السياسي والمواطنة والأقليات: مستقبل المسيحيين العرب في الشرق الأوسط . مكتبة الشروق الدولية، القاهرة ، 2006.
– طارق البشري: الجماعة الوطنية، العزلة والاندماج، كتاب الهلال، القاهرة، 2005.
– د. عمرو حمزاوي: ثنائيات المجتمع –الدولة والدين– المواطنة: مساحات التوافق المجتمعي وفضاءات المسكوت عنه (في) د.علا أبو زيد، أ. هبة رءوف، مرجع سابق.
– د. سيف الدين عبد الفتاح: الزحف غير المقدس … تأميم الدولة للدين: قراءة فى دفاتر المواطنة المصرية (في) المرجع السابق.
[47] Heba R. Ezzat،Co-Citizenship : Bringing Religion Back In, Working Paper Presented To International Consultation on: ” Christians and Muslims in Dialogue and Beyond Geneva , October 16-18, 2002 “Convened by :The World Council of Churches.

[48] حول رؤية عن تطور مسار خبرات حوار الحضارات والثقافات والأديان ونتائجها خلال السنوات الخمس الماضية، انظر: د. نادية محمود مصطفى: جدالات حوار/ صراع الحضارات في خطابات عربية وإسلامية، المسلم المعاصر، سبتمبر 2006م.
[49] يتوازى مع الجدال حول هذه الإشكالية ويتقاطع معه جدال آخر تكتمل معه الصورة عن موضع الإسلام في خطابات العلاقة مع الآخر. والمقصود هنا الجدال حول الأصل في الإسلام عن العلاقة مع غير المسلمين: حربًا أم سلمًا. فإذا كانت الآراء تتدفق حول الإسلام والحرب، الإسلام والعنف، الإسلام والجهاد، الإسلام والإرهاب، كما تتفق آراء أخرى حول الإسلام والسلام والتعاون وقبول الآخر؛ إلا أن الأمر يقتضي خطابًا ثالثًا وسطيًّا يتحدث عن القوة في الإسلام: حربًا وسلامًا، وعن الجهاد في الإسلام: حربًا وسلامًا، على اعتبار أن كل من الحرب والسلم حالة من حالات العلاقة، وليسا أصل هذه العلاقة، في حين أن الأصل هو “الدعوة”. انظر أبعاد الجدال بين هذه الاتجاهات في:
Nadia M. Mostafa: The missing logic in discourses of violence and peace in Islam: The need for a middle view after the 9/ 11. (in) Abdulaziz Said, M. Abu Nimer, Mena Sharify- Funk (eds): Contemporary Islam, Dynamic, not static, Routledge, 2006.
[50] من واقع متابعتي التفصيلية على سبيل المثال للندوة التي عقدتها الهيئة القبطية الإنجيلية في شرم الشيخ في 27/ 8/ 2005 عقب تفجيرات شرم الشيخ في يوليو 2005. ولقد حضر الندوة نخبة من رموز الأكاديميا والفكر والإعلام والمجتمع المدني الممثلين لكافة التيارات الفكرية والسياسية في مصر، ومن المسلمين والمسيحيين.
كذا تكرر هذا النمط من النقاشات في مناسبات أخرى انظر على سبيل المثال: الندوة الدولية التي نظمها مركز البحوث والدراسات السياسية مع مركز الحوكمة العالمية Global Governance Center في جامعة لندن للاقتصاديات. تحت عنوان العنف والتمدن (Violence and civility) في سبتمبر 2005 (انظر نص موجز للبحوث والنقاشات على موقع المركز البريطاني).
[51] حول هذين المفهومين ودلالة كل منهما وموضعه في خبرة الإصلاح المصرية والعربية والإسلامية عبر القرنين الماضيين: انظر: طارق البشري، سلسلة في المسألة الإسلامية المعاصرة.
[52] Dr. Mohamed Berween: Islamization of democracy, paper presented to: Center for the study of Islam and democracy’s 7 th Annual conference “The challenge of democracy in the Muslim world held May 5-7-2006 in Washington. And published in: International journal of civil society law, volume IV, No.3, July 2006.
[53] د. علي أومليل: مرجع سابق.
[54] انظر على سبيل المثال، محمد السيد سليم، نيفين مسعد (محرران) العلاقة بين الديمقراطية والتنمية في آسيا، مركز الدراسات الآسيوية، 1997.
– ماجدة صالح (محرر): الإسلام والتنمية في آسيا، مركز الدراسات الآسيوية، 1999.
– مختار الجمال: نماذج التنمية في شرق آسيا: سلسلة أوراق آسيوية، 1995.
– ياشيتاكا أوكادا: الخبرة اليابانية في التأليف بين الأصالة والمعاصرة في مجال التنمية، سلسلة أوراق آسيوية، 1999.
[55] تعليق د. نادية محمود مصطفى على بحث د. علي أومليل، مرجع سابق.

نشر في حولية أمتي في العالم، عدد 2006

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى