الحرب التجارية الأمريكية – الصينية والتنافس على الهيمنة الاقتصادية

مقدمة:

تبدو العلاقات الأمريكية الصينية أقرب للمواجهة منها إلى المنافسة في الآونة الأخيرة، وهو ما دفع الكثيرون للحديث بأن العالم على أعتاب حربٍ باردةٍ جديدةٍ توشك أن تندلع بين القوتين الاقتصاديتين العظميين، والتي تتجلى أبرز مظاهرها في السنوات الأخيرة في حرب تجارية ضارية تتهم فيها الولايات المتحدة الصين بالقيام بممارسات تنتهك قواعد منظمة التجارة العالمية، وترد عليها الصين برفضها للهيمنة ولعقلية الحرب الباردة التي تتعمد إثارة التوترات. ومن ثم، يتبادل أكبر اقتصادان في العالم فرض رسوم جمركية على بضائع بعضهما البعض تصل قيمتها لمليارات الدولارات. وبينما تنشغل العديد من الاتجاهات الأكاديمية والسياسية بمدى فعالية أو عجز التعريفات الجمركية في تحقيق نتائجها وتأثيرها على اقتصاد الدولتين، ومدى نجاح أو فشل آليات الاعتماد المتبادل في تذويب الخلاف بين الاقتصادين العالميين في ظل انعدام الثقة بينهما، يُرجع البعض الأسباب الحقيقية لتلك الحرب التجارية إلى التنافس على الهيمنة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، والذي يرافقه تنافس عسكري وجيوسياسي، وحتى تنافس على تقديم أنماط مختلفة للقيادة الإقليمية والعالمية. 

لقد شهدت العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين عبر تاريخها العديد من التقلبات والمنعطفات، تمثل آخرها في الأزمة التي يُمكن وصفها بالحرب التجارية. ففي عام 2018، رفعت الولايات المتحدة -دون تمهيد- التعريفات الجمركية على ما يقرب من 50٪ من الواردات من الصين، حيث زادت متوسط التعريفة الجمركية الأمريكية على الواردات الصينية من 3 إلى أكثر من 12٪، وهو ما أدى إلى رد فعل مماثل من الصين التي فرضت هي الأخرى تعريفات جمركية على واردات الولايات المتحدة، ورفعت متوسط التعريفة الجمركية الصينية على صادرات الولايات المتحدة من أقل من 10٪ إلى أكثر من 18٪. ويُطلق على هذه الأنواع من التبادل لفرض التعريفات اسم “الحرب التجارية”، ويتأثر بها النظام الاقتصادي الدولي والتجارة الدولية بشكلٍ ملحوظ. ويكمن خلف ذريعة الحرب التجارية، التنافس بين أكبر اقتصادين في العالم من أجل الهيمنة والمكانة والثروة العالمية، فالولايات المتحدة تتهم الصين بانتهاج سياسات تجارية غير عادلة مثل:

 أ- سرقة الملكية الفكرية: حيث اتهمت الولايات المتحدة الصين بسرقة الملكية الفكرية الأمريكية، مثل الأسرار التجارية وبراءات الاختراع، وادعت أن عمليات الاختراق والسرقة الإلكترونية لشبكات الكمبيوتر الخاصة بالشركات الأمريكية توفر للحكومة الصينية وصولًا غير مصرح به إلى الأسرار التجارية الأمريكية والمعلومات التجارية الحساسة. فقد قدرت تكلفة سرقة الصين للملكية الفكرية الأمريكية عام 2018 بنحو 225-600 مليار دولار سنويًا للولايات المتحدة، وهو ما أدى في أكتوبر 2018 إلى اعتبار الصين أخطر تهديد للولايات الأمريكية من قبل شركة تكنولوجيا الأمن السيبراني الأمريكية استنادًا إلى سجلاتها الخاصة بمحاولات التسلل إلى قطاعات متعددة من الاقتصاد الأمريكي من جانب الكيانات الصينية.

ب- التلاعب بالعملة: فقد اتهمت الولايات المتحدة الصين بالتلاعب بعملتها اليوان لجعل صادراتها أقل تكلفةً مقارنةً بالواردات الأمريكية الأكثر تكلفةً، وهو الأمر الذي أعطى الشركات الصينية ميزة غير عادلة في السوق العالمي -وفقًا للإدعاءات الأمريكية. ولعل أحد أبرز أسباب التوتر في العلاقات الأمريكية الصينية هو بداية تصنيف بعض الدول، على رأسها الصين، لعقودها التجارية بالعملة المحلية. ومع نية الصين تصنيف جميع عقود مبادرة الحزام والطريق باليوان الصيني، فإن وضع الدولار كعملة احتياط أصبح معرضًا للخطر. فقد كان استخدام الدولار الأمريكي كعملة احتياط وتقييم ما يقارب من 70٪ من التجارة العالمية خاصة العقود الكبيرة لواردات النفط من أهم أسباب التفوق الاقتصادي للولايات المتحدة. علاوة على ذلك، كانت غالبية العمليات الدولية للبنوك يتم تقييمها بالدولار الأمريكي، على الرغم من أن الدولار لم يكن هو العملة المحلية المستخدمة لدى البائع ولا المشتري. 

ج- الوصول إلى الأسواق: فقد اتهمت الولايات المتحدة الصين بعدم منح الشركات الأمريكية وصولًا عادلًا إلى أسواقها، مما جعل من الصعب على الشركات الأمريكية التنافس مع الشركات الصينية في الصين. كما اتهمت الولايات المتحدة الصين بفرض رسوم جمركية أعلى على الواردات الأمريكية، وبالقرصنة المدعومة من الدولة، والاستحواذ على شركات التكنولوجيا الفائقة في الولايات المتحدة وأوروبا، والتمييز ضد الشركات الأجنبية. في المقابل، نفت الصين هذه الاتهامات، واستكملت جهودها التي بدأتها منذ حوالي عقدين لتقليل اعتماد اقتصادها على الصادرات. فعلى سبيل المثال، تمكنت الصين من خفض حصة الصادرات في الناتج المحلي الإجمالي من 30٪ في 2007 إلى أقل من 20٪ في عام 2017. علاوة على ذلك، نجحت الصين أيضًا في تخفيض حصة الصادرات إلى الولايات المتحدة من 9٪ من اقتصاد الصين إلى ما يزيد قليلًا عن 4٪.

ويُركز التقرير، بعد استعراضه لأهم ملامح الحرب التجارية الأمريكية الصينية، على أبعاد هذا التنافس على الهيمنة الاقتصادية والذي يتخذ أشكالا عدة تتراوح بين التنافس على الريادة في المجال التكنولوجي، والتنافس على مسارات حيوية هامة ومناطق النفوذ الاقتصادي والجيوسياسي، وأخيرًا التنافس فيما يتصل بإرساء قواعد للنظام المالي والاقتصادي العالمي. 

ويُختتم التقرير باستشراف مآلات تلك المنافسة على الدول النامية والمتوسطة أو الصغرى، وعلى شعوب تلك الدول التي عادةً ما تنال النصيب الأكبر من الآثار السلبية لتنافس القوى الكبرى.

أولا– التنافس على الريادة في المجال التكنولوجي: حرب الرقائق الإلكترونية:

أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ في خطابٍ له عام 2021 أن “الابتكار التكنولوجي قد أصبح الساحة الرئيسية للمنافسة العالمية، وأن المنافسة على الهيمنة التقنية ستتصاعد بشكلٍ غير مسبوق في السنوات القادمة”. في هذا الإطار، يؤكد الكثيرون أن الخلاف الحالي بين الولايات المتحدة والصين “أكبر اقتصادين في العالم” يتجاوز فكرة الحرب التجارية والتعريفات الجمركية والأعمال الانتقامية المتبادلة، وأن الدافع الرئيسي لهذه المواجهات هو السباق على التفوق التكنولوجي العالمي، حيث تدخل الولايات المتحدة والصين في سباقٍ من أجل الهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية على المدى الطويل.

في هذا السياق، تعتبر الولايات المتحدة تحقيق الصين للتفوق التكنولوجي بمثابة تهديد خطير للقدرة التنافسية الأمريكية والغربية في مجال التكنولوجيا الفائقة. في المقابل، تعمل القدرة التكنولوجية للصين بدعم كبير من الحكومة الصينية، على إعادة تشكيل النظام التكنولوجي والاقتصادي العالمي، حيث لا يقتصر طموح بكين على تطوير واستخدام أحدث التقنيات، ولكن يتجاوز ذلك لوضع معايير التقنية الدولية، كما تقوم الصين بشن هجمات مباشرة واسعة النطاق على التكنولوجيا الأمريكية وقدرات الصناعة. وقد مثلت كل من خطة بكين الوطنية متوسطة وطويلة الأجل لعام 2006 لتطوير العلوم والتكنولوجيا، واستراتيجية “صنع في الصين 2025” التي أُطلقت عام 2015 بهدف توسيع قطاع التكنولوجيا الفائقة في مجالات مثل الفضاء والروبوتات وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، مثلت الاستراتيجيتين الضربتين الأولتين للتفوق التكنولوجي الأمريكي. حيث حدد كلاهما التقنيات الرئيسية التي سعت الصين من خلالها إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، ودعمت كلاهما القيود المفروضة على وصول الشركات الأجنبية إلى الأسواق في الصناعات الرئيسية، وانتشار سرقة الملكية الفكرية على نطاقٍ واسع، ونقل التكنولوجيا القسري، والإعانات الحكومية الهائلة المقدمة للشركات الصينية.

انطلاقًا من تلك المبادرات، بدأت الصين بتطوير قدراتها في مجال التكنولوجيا عالية التقنية، ممَّا منحها ميزة نسبية في المجالات العسكرية والاقتصادية وفي مجال الفضاء الخارجي، حيث تساعد استثمارات الصين في التكنولوجيا المبتكرة على دمج هذه القدرات وغيرها من التقنيات ذات الاستخدام المزدوج في المجال العسكري. كما قامت بكين بتعزيز قدراتها في مجالات مثل الطائرات من دون طيار، ونشر استخدام التقنيات الرقمية والأتمتة، وركزت بشكلٍ خاص على الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي، وتقنيات الكم، وجمع البيانات الضخمة. وبالرغم من استمرار التحديات التي تواجهها بكين في تطوير صناعة التكنولوجيا الفائقة وزيادة حصتها في السوق في مواجهة شركات أمريكية عملاقة، تحاول الحكومة زيادة قدرة الصين في منافسة عمالقة الصناعة من خلال طرح عدة شركات مثل “شاومي” و”هواوي” و”علي بابا”، وغيرها.

وتتنوع مجالات التنافس الأمريكي الصيني في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فعلى سبيل المثال يثير طريق الحرير الرقمي الذي يُعتبر جزءً من مبادرة الحزام والطريق التي أعلنتها الصين في عام 2013 مخاوف الولايات المتحدة، إذ يمر هذا الطريق بالبلدان الأقرب إلى الصين عبر تقنيات المعلومات والاتصالات، ويمنح الصين دورًا في التنمية التكنولوجية لدول جنوب شرق آسيا. كما تحتدم المنافسة بين الصين والولايات المتحدة على تطوير تكنولوجيا الجيل السادس بعدما تصدرت الصين الريادة في مجال تكنولوجيا الجيل الخامس، عن طريق العملاق الصيني شركة هواوي التابع للحكومة الصينية، وهو ما أدى لاستهدافها بالعقوبات الأمريكية. أيضًا تُعتبر الهجمات السيبرانية من أهم ملفات المواجهة بين الولايات المتحدة والصين في ظل الاتهامات الأمريكية لجهات سيبرانية مدعومة من الصين بشن هجمات سيبرانية على مواقع بنى تحتية حيوية أمريكية ومواقع عسكرية بهدف التجسس الإلكتروني وسرقة معلومات عسكرية هامة، بالإضافة لاتهام الولايات المتحدة الصين بقرصنة الأسرار التكنولوجية للشركات الأمريكية.

ويُركز التقرير على واحدة من أهم مجالات التنافس التكنولوجي الأمريكي الصيني وأبرز ساحاته في الفترة الأخيرة، وهو التنافس حول الرقائق الإلكترونية أو ما يُعرف بحرب الرقائق الإلكترونية.

في هذا الإطار، فإن هناك ثمة حرب تدور رحاها بين الولايات المتحدة والصين حول الرقائق الإلكترونية، تحاول فيها الأولى الحفاظ على ريادتها التكنولوجية، وتكافح الثانية لتحقيق الاكتفاء الذاتي. وتكمن أهمية الرقائق الإلكترونية أو أشباه الموصلات في كونها سلعة استراتيجية تدخل في صناعة كل شيءٍ تقريبًا، وتقف وراء كل منتج ذكي في العالم، بدءً من الهواتف المتحركة، ومرورًا بالسيارات، وصولًا إلى نظم التسلح الاستراتيجي، بما في ذلك الأسلحة النووية، فخبراء الصناعة وأشباه الموصلات يُشيرون إلى أن هناك ما يتجاوز 100 مليار رقاقة يتم استخدامها يوميًا في جميع أنحاء العالم.

وتُعد تلك الحرب اختبارًا حقيقيًا لقدرة واشنطن على الحفاظ على هيمنتها الدولية الآخذة في الانحسار، وقدرة بكين على مواصلة الصعود لقمة الاقتصاد العالمي، حيث ستلعب نتائج تلك الحرب دورًا رئيسيًا في إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي. وتُعد الولايات المتحدة الدولة الرائدة في سباق أشباه الموصلات في السوق العالمية، التي بلغت قيمة حصتها السوقية أكثر من 200 مليار دولار في عام 2020، وهي أيضًا تقوم بتصدير أشباه الموصلات بنسبة 50٪ من السوق العالمية، حيث تعد أشباه الموصلات أكبر صادرات الولايات المتحدة. من ناحيةٍ أخرى، أصبحت الصين الآن مشاركًا رئيسيًا ناشئً في سباق أشباه الموصلات، حيث تتوسع فيها تلك الصناعة بشكلٍ متنامٍ منذ عام 2015.

وكانت الولايات المتحدة قد وسعت خلال الأعوام الأربعة الماضية، حربها الاقتصادية على الصين، من خلال التعريفات الجمركية، وضوابط التصدير، والقيود المفروضة على الاستثمار الأجنبي، وأدرجت الإدارة الأميركية في عام 2020، الشركات العاملة في صناعة التكنولوجيا بالصين ضمن قائمة سوداء، يحظر على الشركات الأمريكية وتلك التابعة لحلفائها التعامل معها، كما صعّدت إدارة الرئيس بايدن حربها الاقتصادية بشكلٍ كبير في أكتوبر 2022، من خلال سن عقوبات بتقييد عملية تصدير أشباه الموصلات المتقدمة ومعدات صناعة الرقائق إلى الصين. ووضعت الولايات المتحدة ضوابط تصدير شاملة بحيث يصعب على الشركات بيع الرقائق ومعدات تصنيعها والبرامج التي تحتوي على التكنولوجيا الأمريكية إلى الصين، كما حظرت ومنعت المواطنين الأمريكيين والمقيمين الدائمين من دعم وتطوير إنتاج الرقائق في مصانع معينة في الصين، وفي الوقت ذاته قامت بتقديم 53 مليار دولار كمنح وإعانات للشركات التي تصنع أشباه الموصلات في الولايات المتحدة

في المقابل، كرست الصين أفضل عقولها ومليارات الدولارات لتطوير تكنولوجيا أشباه الموصلات الخاصة بها، في محاولة لتحرير نفسها من قيود الرقائق الأمريكية. وقد حفَّزت الجهود الأمريكية لإعاقة تقدم الصين في تكنولوجيا الرقائق الإلكترونية الرئيس شي جين بينج إلى السعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال، تحت ما أسماه، في مؤتمر الحزب الشيوعي الأخير أكتوبر 2022، “النزعة القومية التكنولوجية في الصين”، حيث يتم تعبئة جميع الموارد الوطنية لتحقيق الاكتفاء الذاتي في التكنولوجيا، من خلال تشجيع الشركات المملوكة للدولة ومعاهد البحوث والشركات الناشئة في القطاع الخاص على ابتكار تقنيات بديلة عن الأجنبية.

كما قدمت الصين شكوى لمنظمة التجارة العالمية بخصوص الاتهامات والممارسات الأمريكية ضدها، ورفعت تأمين سلاسل التوريد إلى أعلى أولوياتها، وعملت على تعزيز قدراتها التكنولوجية. ومع إعلان شركة “هواوي تكنولوجيز” مؤخرًا نجاحها باستبدال آلاف المكونات الإلكترونية الداخلة في تصنيع هواتفها، والتي كانت تحظرها الولايات المتحدة الأمريكية، ببدائل صينية، يبرز التساؤل حول ما إذا كانت الصين قد اقتربت خطوات من تحقيق الاكتفاء الذاتي في صناعة الرقائق الإلكترونية. فقد أوجدت هواوي بدائل صينية محلية لأكثر من 13 ألف مكون في منتجاتها التي تأثرت بالعقوبات التجارية الأمريكية، وأعادت تصميم أربعة آلاف من لوحات الدوائر الكهربائية لمنتجاتها. وتُخطط الصين لضخ استثمارات بقيمة نحو 143 مليار دولار في صناعة الرقائق المحلية، في خطوة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من أشباه الموصلات ولمواجهة التحركات الأمريكية التي تستهدف إبطاء التقدم التكنولوجي الصيني. حيث تتضمن خطط بكين إعفاءات ضريبية وحزم حوافز لمدة 5 سنوات، وإعانات وقروض لدعم أبحاث وإنتاج أشباه المواصلات، في حين استثمرت هواوي 23.8 مليار دولار في البحث والتطوير خلال 2022.

ولا تقتصر محاولات الولايات المتحدة على تقيييد وصول الصين لتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال صناعة الرقائق الإلكترونية على الإجراءات الوطنية أو الحرب التجارية الثنائية بينهما، بل تمتد الضغوط الأمريكية لتشمل الدول الأخرى التي تستطيع إنتاج تكنولوجيا الرقائق أو تصميمات الرقائق أو خطوط الإنتاج نفسها، مثل هولندا واليابان اللتان تمتلكان تكنولوجيا إنتاج وتصميم الرقائق، وتايوان وكوريا الجنوبية اللتان تمتلكان خطوط إنتاج الرقائق. وفي هذا الصدد، تسعى الولايات المتحدة لتحويل الضوابط أحادية الجانب إلى ضوابط متعددة الأطراف، من خلال إشراك أكبر الدول المنتجة لأشباه الموصلات في العالم، ولاسيما اليابان وهولندا، من أجل ضمان تأمين سلاسل توريد أشباه الموصلات ومنع الصين من الوصول إلى الطليعة في هذه التكنولوجيا. ففي مارس عام 2022، اقترحت الولايات المتحدة تشكيل تحالف (Chip 4) كجزء من مخطط أوسع يهدف إلى تعزيز أمن ومرونة سلاسل توريد أشباه الموصلات، وذلك عن طريق تقليل اعتماد العالم على الرقائق المصنوعة في الصين، وتشمل المبادرة اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، وكلها تتفوق في قطاعات معينة من صناعة أشباه الموصلات. حيث يهدف التحالف إلى إعادة هيكلة سلسلة التوريد العالمية لأشباه الموصلات، بحيث تصبح أقل اعتمادًا على الصين من خلال تنويع قدرات التصنيع جغرافيًا بعيدًا عن بكين، وحماية الملكية الفكرية للشركات من الدول الأعضاء، وتنسيق ضوابط محددة على الصادرات فيما يتعلق بالصين.

ومن النقاط الجديرة بالذكر أيضًا العلاقات الأمريكية التايوانية، وهي تقوم على الاعتماد المتبادل والمكثف في مجال صناعة الرقائق الإلكترونية؛ حيث تصدر الولايات المتحدة إلى تايوان 45٪ من معدات تصنيع أشباه الموصلات وبدورها، تصدر تايوان إلى الولايات المتحدة منتجات رقائق بلغت قيمتها في 2020 حوالي 28.8 مليار دولار. وتعد شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة (TSMC) أكبر شركة في العالم في صنع أشباه الموصلات، حيث تُسهم بحوالي 60٪ من الإنتاج العالمي، إلى جانب 90٪ من الرقائق المتقدمة على مستوى العالم.

لذا تعتمد الولايات المتحدة على تايوان في إنتاج الرقائق، والتي تم تصميمها وصناعة معدات إنتاجها مسبقًا في الولايات المتحدة واليابان وهولندا. كما تعد صناعة أشباه الموصلات المحطة الرئيسية للاستثمار الأجنبي المباشر الأمريكي في تايوان، حيث توظف هذه الاستثمارات 8 آلاف عامل تايواني سنويًا، بحجم ملياري دولار. وبسبب التوتر المتصاعد بين الصين وتايوان من جهة والولايات المتحدة والصين من جهةٍ أخرى، فإن شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات تريد توسيع وجودها؛ حتى يكون كيانها ممتدًا عبر القارات في حالة حدوث أي مشاكل في سلاسل الإمداد، وبالفعل بدأت الشركة بناء مصنعها في الولايات المتحدة، وتعتزم بناء مصانع في أوروبا واليابان، وذلك في إطار ما صار يُطلق عليه “دبلوماسية الرقائق الإلكترونية”.

في هذا الإطار، أشارت رئيسة تايوان تساي إنغ وين في مجلة فورين أفيرز، إلى أن صناعة الرقائق في الجزيرة هي “درع سيليكون” يسمح لتايوان بحماية نفسها والآخرين من المحاولات العدوانية من قبل الأنظمة التي قد تتسبب في تعطيل سلاسل التوريد العالمية. ومن ثم، يمكن فهم اهتمام الولايات المتحدة بالدفاع عن تايوان حيث أهميتها الخاصة لصناعة الرقائق وبالتالي إدراك تأثير تعرضها لخطر الغزو الصيني ليس فقط على الريادة الأمريكية في مجال الرقائق ولكن على الاقتصاد العالمي ككل.

كما كثفت واشنطن من ضغوطها على شركة ASML الهولندية، وهي واحدة من الشركات الرئيسية في العالم التي تُصنع آلات تصنيع الرقائق المتطورة والتي تحرص الصين على الوصول إليها وتعد من أكبر عملائها، حيث حاولت واشنطن قطع الإمدادات عن الشركات الصينية، خشية أن يبدأ رواد التكنولوجيا الصينية تصنيع أشباه الموصلات الأكثر تقدمًا في العالم، والتي لها تطبيقات ذكاء اصطناعي عسكرية ومتقدمة. وفي حالة اليابان، تُجري الولايات المتحدة محادثات مستمرة بشأن قيود التصدير الأكثر صرامة للحد من بيع تكنولوجيا تصنيع أشباه الموصلات إلى الصين. وقد استضاف الرئيس الأمريكي بايدن رئيس الوزراء الياباني “فوميو كيشيدا” في 13 يناير 2023 لإجراء محادثات متعمقة حول طرق وبدائل منع وصول الصين للتكنولوجيا اليابانية في صناعة الرقائق.

ثانيًا- التنافس على مناطق النفوذ والممرات الحيوية:

يُعد التنافس على السيطرة على مناطق النفوذ الاقتصادي والجيوسياسي والممرات الحيوية التي تمثل شرايين رئيسية للتجارة العالمية، أحد أبرز سمات التنافس الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين. فمن ناحية، احتدم التنافس وتنامى التوتر مؤخرًا بين واشنطن وبكين في منطقة شرق آسيا، وعلى وجه التحديد ثار النزاع وتراشق الاتهامات بين الطرفين بخصوص كلٍ من بحر الصين الجنوبي وتايوان. كما ازدادت حدة التنافس بين الطرفين حول بسط النفوذ في قارة أفريقيا والشرق الأوسط، خاصةً بعد عودة اهتمام الولايات المتحدة بهما في ظل تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية.

1- التنافس على النفوذ في شرق آسيا:

يُعتبر بحر الصين الجنوبي من أكثر الممرات المائية في العالم إثارةً للخلافات والنزاعات السياسية، حيث تتنافس على السيطرة عليه دول عدة بسبب أهميته الاقتصادية. وتكمن أهميته في أن ثلث بضائع العالم تمر من خلاله لتُنقل من جنوب الصين وشرق آسيا إلى غرب آسيا وأفريقيا وأوروبا، عبر كلٍ من مضيق تايوان ومالاكا. ويحتوي البحر كذلك على ثروة سمكية كبيرة، إضافةً إلى 11 مليار برميل من النفط، و190 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي غير المستخرج والذي تحتاج إليه دول المنطقة بشدة لاقتصاداتها. وتتنازع على السيطرة المباشرة على البحر سبع دول هي ماليزيا، وبروناي، والفلبين، وأندونيسيا، وفيتنام، والصين، بالإضافة إلى تايوان. حيث تُحاول تلك الدول باستثناء الصين وتايوان تحديد حدود مياهها الإقليمية والاقتصادية وفق تعريفات معينة في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، في حين تلجأ الصين وتايوان إلى ما يقولان إنها حقوق تاريخية لهما في البحر وفق ما يُعرف بخط القطاعات التسعة، وتتنازعان فيما بينهما على تلك الحدود أيضًا، ويسمح هذا الخط للصين بالسيطرة على حوالي 90٪ من البحر. كما تسعى الصين لبناء قواعد عسكرية على جزر داخل البحر كانت مغمورة بالماء فيما يُعرف بالجزر الصناعية، وهو ما يسمح للصين بزيادة نفوذها. في المقابل، تحرص الولايات المتحدة على بقاء بحر الصين مياه دولية، تسمح بحرية حركة الملاحة، بما يضمن ما تُسميه عمليات حرية الملاحة والتي تمر وفقها المدمرات الأمريكية في بحر الصين، ومنها ما يمر بالقرب من الجزر الصناعية التي بنت الصين قواعدها عليها. من ثم، بالإضافة إلى النزاع بين الدول المطلة على البحر، يُعتبر بحر الصين الجنوبي مثار نزاع بين الولايات المتحدة التي تدعي أن تحركاتها في البحر تستهدف الحفاظ على حرية الملاحة، وبين الصين التي تنفي اتهام الولايات المتحدة لها بعرقلة الملاحة في البحر وتتهمها في المقابل بإثارة التوترات في المنطقة

من ناحيةٍ أخرى، تعتبر تايوان رقمًا صعبًا في موازين القوى الدولية، والتنافس بين القوتين العظميين الولايات المتحدة والصين في هذا النطاق الاستراتيجي. فبالرغم من اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسياسة الصين الواحدة، إلا أنها تُعلن بشكلٍ مستمر دفاعها عن تايوان في حال تعرضت لأي هجوم، وهو ما تعتبره الصين تدخلا في شؤونها الداخلية واستفزازا صريحًا من واشنطن. وقد أثارت زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي لتايوان في أغسطس 2022، والتي أعقبتها بعدة أيام زيارة وفد من الكونجرس للعاصمة التايوانية تايبيه، أثارت توترًا كبيرًا بين البلدين، وهو ما دفع الصين للرد بأكبر مناوراتها العسكرية على الإطلاق حول تايوان واتهام سفارة الصين في واشنطن الولايات المتحدة بإثارة المواجهة بين الجانبين والتدخل في الشؤون الداخلية للصين

وتتضح أهمية تايوان في التنافس الاستراتيجي الصيني الأمريكي من الآتي: أصبح مضيق تايوان -الذي يُعتبر جزءً من بحر الصين الجنوبي- مؤخرًا مسرحًا متجددًا للتوتر الصيني الأمريكي. حيث يعد المضيق أحد أهم الممرات الملاحية في العالم وقنوات الشحن الدولية الرئيسية، كما يعتبر طريقًا رئيسيًا للسفن التي تحمل البضائع من أكبر الدول المصنعة الآسيوية مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية نحو الأسواق الغربية، فقد مرت منه حوالي 88٪ من سفن الحاويات في العالم فقط خلال عام 2022. وتعتبر الولايات المتحدة وحلفاؤها الجزء الأكبر من المضيق مياهًا دولية، ومن ثم تقوم العديد من الطائرات الحربية الأمريكية بالتحليق فوقه بسبب رفضها لمحاولات الصين السيطرة عليه، بينما تعتبره الصين من مناطق نفوذها الاقتصادي وتريد وضع حدود لنشاط السفن العسكرية الأجنبية فيه. 

2- التنافس على النفوذ في أفريقيا والشرق الأوسط:

على مدى العقدين الماضيين تزايدت المنافسة الأمريكية الصينية على النفوذ في القارة الأفريقية، خاصةً في ظل تعزيز الصين لوجودها في أفريقيا منذ تسعينيات القرن الماضي ونشاطها في التنقيب واستكشاف النفط والاستثمار في البنية التحتية، وصولًا إلى مبادرة الحزام والطريق لإحياء طريق الحرير التي أعلن عنها الرئيس الصيني شي جين بينج عام 2013، وإطلاق الصين مجموعة من المبادرات للتنمية والاستثمار، مثل الحزام الاقتصادي لطريق الحرير البري وطريق الحرير البحري لربط الصين بالوجهات التجارية التي تمتد من شرق آسيا إلى روسيا وأوروبا وتشمل منطقة الشرق الأوسط وشرق أفريقيا.

 وقد حدث ذلك بالتزامن مع انسحاب الولايات المتحدة جزئيًا من أفريقيا لتُركز على منافسة الصين في محور شرق ووسط آسيا، قبل عودتها ثانيةً للاهتمام بالقارة الأفريقية. من ثم، أضحت أفريقيا والشرق الأوسط من بؤر التنافس المشتعلة بين الولايات المتحدة والصين، وتتعدد أنماط بسط النفوذ من كلتا القوتين ما بين إرسال المساعدات التنموية إلى الاتفاقات الاستثمارية وحتى الأمن والدفاع. وتُرفق الصين مساعداتها في إطار القوة الناعمة باستثمارات مكثفة، ومشاريع اقتصادية ومنح وقروض شرطها الأساسي تحقيق المكاسب، على عكس الولايات المتحدة التي تربط المساعدات الاقتصادية بضرورة تحقق الديمقراطية وإحراز تقدم في ملفات حقوق الإنسان وغيرها من الشروط، بل وتفرض العقوبات على عددٍ من دول القارة في حالة عدم تحقيقها لتلك الشروط وهو ما أدى لتنامي النظرة العدائية تجاه الولايات المتحدة في تلك الدول.

 في المقابل، ينظر البعض إلى نهج الصين في أفريقيا باعتباره أكثر تهديدًا وخطورةً من الدول الأخرى التي تقدم مساعداتها باليمين وتأخذ أضعافها باليسار، حيث يعتمد نمط الصين أولا على تحقيق المكاسب الاقتصادية ثم يتطور بعد ذلك إلى كسب النفوذ.

ويمكن فهم تنامي الاهتمام الصيني بالشرق الأوسط، من خلال تتبع الصعود الاقتصادي للصين والذي اعتمدت فيه على الخارج لتأمين موارد النفط والمواد الخام اللازمة للصناعة. من ثم، توجهت الصين إلى منطقة الشرق الأوسط بوصفها من أهم مناطق العالم ذات الموارد الاستراتيجية المهمة، ساعدها على ذلك إجادتها لاستخدام مزيج من الأدوات الاقتصادية والقوة الناعمة. ففي مجال التجارة، تجاوز النشاط التجاري الصيني نظيره الأمريكي مع أفريقيا والشرق الأوسط، حيث تُعتبر الصين من أكبر الشركاء التجاريين لقارة أفريقيا، وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين الطرفين 282 مليون دولار عام 2022. وفي المقابل تتفوق الولايات المتحدة على الصين في مجالات التعاون العسكري والأمني مع الدول الأفريقية، فبالرغم من المحاولات الصينية لتطوير قدراتها الدفاعية والأمنية، إلا أن ميزانية الدفاع الأمريكية تتجاوز نظيرتها الصينية بفارقٍ كبير، إلى جانب التفوق الجوي الأمريكي مقابل الصيني.

ويُنظر لتنامي النفوذ الاقتصادي الصيني في الشرق الأوسط باعتباره تهديد للنفوذ الأمريكي التقليدي في تلك المناطق، فعلى مدى عشرات العقود استأثرت الولايات المتحدة والدول الغربية بغالبية العقود التجارية والاقتصادية في منطقة الخليج والشرق الأوسط. وقد دفع تنامي النفوذ التجاري والاقتصادي للصين في الشرق الأوسط الولايات المتحدة الى إحياء سبل التعاون والتقارب مع الدول الأفريقية في ظل توسع الوجود الاقتصادي الصيني في القارة الأفريقية من شمالها إلى جنوبها.

في هذا الإطار، جاءت القمة الأفريقية -الأمريكية في ديسمبر 2022، متزامنة مع القمم الثلاث “السعودية – الصينية، والخليجية – الصينية، والعربية – الصينية”، فضلا عن زيارة الرئيس الصيني شي جين بينج للسعودية قبل عدة أيام من نفس الشهر، والتي تم اعتبارها “أكبر حدث دبلوماسي صيني مع العالم العربي” سعيًا من الطرفين إلى تعزيز التعاون الاقتصادي في المنطقة. وهو ما دفع واشنطن للإعلان أثناء القمة الأفريقية – الأمريكية التزامها تقديم 55 مليار دولار لأفريقيا حتى عام 2025 لدعم مشاريع تطوير البنى التحتية ودعم كل من الطاقة النظيفة والزراعة والاقتصاد الرقمي في الدول الافريقية. وفي العام نفسه، كانت القمة العربية – الأمريكية، حيث اجتمع الرئيس الأمريكي جو بايدن في زيارته إلى الرياض، في يوليو 2022 مع قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي، والأردن ومصر والعراق، وأعلن خلالها عن تخصيص واشنطن مليار دولار في صورة مساعدات للأمن الغذائي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

ثالثًا- تأسيس نظام مالي واقتصادي بديل:

مثلت القوة الاقتصادية الصينية المتنامية تهديدًا لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على النظام الاقتصادي العالمي، خاصةً في ظل السعيً الصيني لتأسيس نظام مالي واقتصادي بديل عن نظام بريتون وودز الذي أنشأته الولايات المتحدة الأمريكية. ذلك النظام البديل الذي رأى البعض أنه يستهدف، في أدنى تقدير، منع منافسي الصين –وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية- من تحدّي الهيمنة الإقليمية الصينية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وهنا تدعي الصين أن تمددها الاقتصادي يُراعي العدالة والتعاون وعدم الاستغلال، بالإضافة لتأكيدها على مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول ومحاولة إبراز أن تمددها الاقتصادي سيتم من خلال الدولة، وليس من خلال التأثير على بيئة السلطة الداخلية. وذلك في محاولة لإظهار الفرق بين نمط تمددها الاقتصادي والهيمنة الاقتصادية الغربية

وقد اتبعت الصين عددًا من الاستراتيجيات من أجل تأسيس نظام اقتصادي ومالي بديل عن النظام الذي أسسته الولايات المتحدة. فمن ناحية، تصدرت الصين مجموعة من القوى الصاعدة التي تضغط من أجل إبداء رأي أكبر في كيفية عمل المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي، كما تدعو لإعادة هيكلة المؤسسات السياسية والمالية العالمية مثل مجلس الأمن الدولي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي لتكون أكثر تعبيرًا عن التحول العالمي للقوة ومكانة الصين الجديدة في هذا التحول. في هذا السياق، تدفع الصين بأن سعيها في هذا المسار يتأسس على مطالب مشروعة، حيث لم تعد حصص التصويت المخصصة لفرادى الدول في عمليات صنع القرار في صندوق النقد الدولي تعكس النظام الاقتصادي الدولي المعاصر، أو الأهمية النسبية للصين على وجه الخصوص. وبالمثل، فإن حق النقض (الفيتو) للولايات المتحدة وقصر منصب المدير الإداري على أوروبا يبدو للكثيرين أمرًا عفا عليه الزمن.

من ناحيةٍ ثانية، بدأت الصين في تطوير مجموعة منافسة أو موازية من المؤسسات الدولية، والتي من شأنها إعادة التوازن إلى الاقتصاد العالمي من وجهة النظر الصينية، فأنشأت مجموعة من الكيانات والتكتلات الاقتصادية وأطلقت مجموعة من المبادرات المختلفة. وقد شغلت منظمة شنغهاي وتكتل “بريكس” أنظار العالم، ولفتت انتباه الولايات المتحدة والغرب عمومًا، نظرًا إلى أدوار التكتلين في سحب البساط من التكتلات الغربية. وقد أثار انضمام السعودية لمنظمة شنغهاي للتعاون بصفة شريك للحوار الانتباه للأهمية المتزايدة للمنظمة وثقل دور الصين الاقتصادي عالميًا، وذلك بالنظر للتحالف التاريخي بين السعودية والولايات المتحدة. كما أعلنت الصين عن اتفاقها التجاري المسمى بالشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية (RCEP) والذي يُعد بمثابة منافس للشراكة العابرة للمحيط الهادئ (TPP)، والتي دعت إليها الولايات المتحدة عام 2016 قبل أن تسحب توقيعها عليها لاحقًا (علمًا أنها بمثابة توسيع مضاف لاتفاقية الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية العابرة للمحيط الهادئ التي وقعتها كل من بروناي، وتشيلي، ونيوزيلاندا، وسنغافورة في 2005). ففي عام 2012، ومن خلال قمة شرق آسيا في كمبوديا، تم عرض الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية بوصفها اتفاقية تجارة حرة بين الآسيان وشركائه للتجارة الحرة – أستراليا، ونيوزيلندا، والصين، وكوريا الجنوبية، واليابان، والهند. ويتمثل هدف اتفاقية التجارة الحرة في تحقيق شراكة اقتصادية شاملة وتبادل للمنافع مما يستلزم التجارة في السلع والخدمات، وتعزيز الاستثمار والمنافسة الإقليمية مع تقليل الحواجز التجارية مثل التعريفات.

في هذا الإطار، مكن عدم مشاركة الولايات المتحدة في مثل تلك الشراكة الاقتصادية الإقليمية، الصين من تحديد معايير اتفاقيات التجارة الحرة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. كما تُمكن تلك الشراكة، الصين من إقامة علاقات متعددة الأطراف مع جيرانها، والتي كانت سيصبح من الصعب تطويرها إذا تم تفعيل الشراكة عبر المحيط الهادئ. ومن ثم، فإن اتفاقية تجارة حرة تتجاهل المصالح الأمريكية في المنطقة، سوف تمكن الصين من التأثير في إقليمها على حساب الولايات المتحدة.

وإلى جانب الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية، أنشأت الصين بنك الاستثمار في البنية التحتية الآسيوية (AIIB)، والذي ساعد الصين على المساهمة في كتابة قواعد التجارة في القرن الحادي والعشرين من خلال استثمارات ضخمة في البنية التحتية. مثل الموانئ والطرق والسكك الحديدية ومحطات الطاقة، إلخ. وقد أدى افتتاح بنك آسيا للبنية التحتية للاستثمار، بدعم من 20 دولة، إلى إنشاء منافس لبنك التنمية الآسيوي.

من جانبها، تُجادل الصين بأنها لا تحاول استبدال النظام المالي الحالي بل تحسينه. وتشير إلى تقديرات العجز البالغ 8 مليارات دولار في تمويل مشاريع البنية التحتية الآسيوية للتأكيد على الحاجة إلى مصادر تمويل إضافية تتجاوز ما يمكن توفيره من قبل كل من البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومصرف التنمية الآسيوي، وغيرها من المنظمات متعددة الأطراف القائمة. يجدر القول إنه بالإضافة لعدم مشاركة الولايات المتحدة في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، فإنها لم تكن قادرة على منع حتى حلفائها التقليديين مثل انجلترا وأستراليا من الانضمام. وهو الأمر الذي يُدلل على الثقل الاقتصادي المتزايد للصين عالميًا، والذي تعجز الولايات المتحدة عن احتوائه.

هذا بالإضافة إلى مبادرة طريق الحرير الجديد والمسماه بمبادرة “الحزام والطريق“، والتي أعلن الرئيس الصيني شي جين بينج، عنها خلال انعقاد “دورة منظمة شنغهاي للتعاون” في سبتمبر 2013. وتتمثل تلك المباردة في مشروع صيني ضخم يرمي إلى ربط الصين بأوروبا الغربية عبر آسيا الوسطى وروسيا. كما يمكنها من الوصول بحرًا إلى أفريقيا وأوروبا عبر بحر الصين والمحيط الهندي، وذلك من خلال شبكة هائلة من البنى التحتية للنقل والاتصالات، والمبادلات التجارية، والتعاون الثقافي.

في هذا الإطار، يمكن فهم مبادرة الحزام والطريق ليس فقط باعتبارها مبادرة تهدف لتعزيز قدرة الصين على استثمار فوائضها المالية الضخمة، وتعزيز قدرتها على الدخول إلى الأسواق، وتمديد نفوذها الاقتصادي بطول طرق الحرير التي يتم تطويرها عبر تلك المبادرة؛ حيث يبدو أن لتلك المبادرة آثارًا أخرى مثل تعزيز انتشار القوة في المناطق التي تسهدف الصين التمدد خلالها، بما يُتيح بناء الشراكات المستقبلية بتوجيه صيني لتنظيم التفاعلات الإقليمية بعيدًا عن هيمنة أي طرف منافس للصين. 

ومن ناحيةٍ ثالثة، تشتد المنافسة الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة مع تشجيع الصين الدول للتخلي عن هيمنة الدولار على المعاملات الدولية، سواء من خلال اتفاقات التبادل بالعملات الوطنية بينها وبين بعض الدول، وكذلك دعمها إطلاق عملة بديلة ضمن تحالف البريكس. وقد تزايد عدد الدول المنضمة لمبادرة بكين الخاصة باستخدام العملة المحلية في التبادل التجاري الثنائي، بدلا من الدولار وأحدثها البرازيل. ويأتي هذا في إطار عدة اتفاقيات أبرمتها الصين في السنوات الأخيرة مع عدة دول لتقليص التعامل بالدولار وإضعافه، ومن تلك الدول روسيا وباكستان وإندونيسيا وبنجلاديش ولاوس ومؤخرًا البرازيل.

وتسعى الصين لتعزيز الدور الدولي لعملتها اليوان، مستفيدةً من الأوضاع الحالية الخاصة بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها على روسيا، حيث بدأت روسيا التعامل باليوان في مواجهة حرمانها من التعامل بالدولار نتيجة العقوبات.

خاتمة:

تمتد تأثيرات الحرب التجارية الصينية الأمريكية، والتنافس بين البلدين على الهيمنة الاقتصادية بأبعاده المتنوعة لتشمل الاقتصاد العالمي ككل، ولكنها تتميز بكونها تأثيرات غير متكافئة. حيث ينال نصيب الأسد من التأثيرات السلبية لهذا التنافس الشعوب في مقابل الدول، والدول النامية أو الصغرى والمتوسطة في مقابل الدول الكبرى. وحتى على مستوى الدول الكبرى أطراف النزاع، يدفع الأفراد والشركات ضريبة الحرب التجارية، حيث تشير الدراسات إلى أن الشركات الأمريكية والمستهلكين دفعوا تقريبًا التكلفة الكاملة للرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة على الواردات من الصين، ومن غيرها من دول العالم في عام 2018.

بيد أن الدول النامية ستكون الخاسر الأكبر، لاستمرارها في حلبة التبعية وعدم الاستفادة من زيادة القيمة المضافة لثرواتها من البشر أو الموارد الطبيعية، وحتى في حال التوصل لاتفاق بشأن الخروج من هذه الأزمة، فإن الاتفاقيات ستُصاغ لصالح القوى الكبرى. فقد أثرت الحرب التجارية على معدلات النمو والبطالة وأرباح الشركات في العديد من الاقتصاديات المرتبطة بالدول المتصارعة تجاريًا، مما رفع من التحديات الاقتصادية التي تواجه الاقتصاديات الناشئة حول العالم.

فكما هو متوقع، تدفع فاتورة هذه الأزمة الدول الصاعدة والنامية، حيث تتم إعادة تشكيل خرائط السلطة والثروة في العالم بعيدًا عن التفكير في مصالح الدول الصغرى، ناهيك عن الشعوب التي تدفع كعادتها فاتورة حرب لم تخضها. فالاقتصادات العربية على سبيل المثال، والتي تعتمد بشكلٍ كبير على الواردات من تلك الدول ستتأثر بشدة في ظل حرب العملات القائمة حاليًا، وهو أمر شديد السلبية بالنسبة للمشروعات التي تأمل في تنمية ونهضة تكنولوجية، أو الاهتمام بالنواحي الإنتاجية والبعد عن الأنشطة الريعية.

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثلاثون – يوليو 2023

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى