التوجه التركي الجديد نحو دول الأركان العربية: لماذا وإلى أين؟
(قراءة من مدخل الاقتصاد السياسي)
مقدمة:
عندما نتحدث عن التوجه التركي الجديد فإننا نقصد توجه المصالحة مع الأطراف العربية التي كانت قد ساءت علاقات تركيا معها، على خلفية المواقف المتناقضة من الربيع العربي في موجته الأولى عام ٢٠١١، التي طالت أنظمة تونس ومصر وليبيا واليمن بتغيير رؤوسها، كما أصابت سوريا باحتجاجات تحولت لمواجهات دموية كارثية النتائج من دون تحقيق التغيير المنشود، كما أصابت المغرب والبحرين والأردن بموجات احتجاجية قوية قادت لتغييرات دستورية وقانونية محدودة مع تهدئة لا تزال قائمةً حتى الآن. هذا لنصل إلى الردة عن هذه الموجة ما بين عامي ٢٠١٣ و٢٠١٤ في مصر واليمن وليبيا ولاحقًا تونس، ثم تأتي الموجة الثانية للربيع العربي عامي ٢٠١٨ و٢٠١٩ التي غيرت رؤوس النظام في السودان والجزائر وأحدثت حالة احتجاج غير مسبوقة بالعراق ولبنان.
وبطبيعة الحال، لم يكن لتركيا موقف واحد من كل تلك التغيرات بالمنطقة، وإن كان ثمة ملامح عامة لمواقفها قادت لتعقيد علاقتها بالإقليم والتي كانت علاقات متميزة قبيل هذه التغيرات، وظلت كذلك مع أغلب دوله حتى الأزمة الخليجية في ٢٠١٦ ثم مقتل الصحفي السعودي الشهير سليل العائلة المالكة جمال خاشقجي، وما ترتب عليه من تحالف بعض الأنظمة الملكية العربية ودول الخليج ضد نظام أردوغان الذي استطاع تجاوز تلك الأزمات وإعادة ترتيب أوراق تركيا بالمنطقة وإن بصعوبة.
وإذا كنا بصدد دول الأركان العربية، فإننا إزاء مصطلح يدخل فيه دول وتخرج أخرى من وقتٍ لآخر، فلقد كانت الأركان هذه تشمل العراق وسوريا إلى جانب مصر والسعودية قبيل إسقاط نظام صدام حسين في ٢٠٠٣ وقبيل الثورة السورية في ٢٠١١، إلا أنه يمكننا القول بأن دول الأركان العربية الآن يدخل فيها بشكل أساسي السعودية ومصر والإمارات وقطر، دون تقليل من أوزان الدول العربية الأخرى في نظام إقليمي عربي هش بالأساس لكن تتحرك دوله فرادى وبترتيبات جماعية، أحيانًا تكون متناقضة وأخرى تكون منسقة، بغض النظر عما إذا كان اتجاه التنسيق هذا لصالح الشعوب أو يخدم فقط الأنظمة. علمًا أننا في هذا السياق لا نقلل من أوزان العلاقات التركية مع دول عربية أخرى وهو ما سنأخذه بالحسبان في التحليل قدر الإمكان.
في هذه الورقة نحاول أن نناقش الأسئلة المتعلقة بدوافع وحدود التغير في التوجه التركي نحو المنطقة العربية، من مقاربة اقتصاد سياسي، قائم على أن النظام التركي إنما يحكم دولة قومية لديها أوضاع اقتصادية منفتحة تمامًا على العالم الخارجي وتتأثر بأزماته وتؤثر فيها، وتسعى لتعزيز مكانتها في تقسيم العمل الدولي والتجارة الدولية. وتأني تركيا ضمن القوى الدولية المتوسطة، لديها مصالحها ولديها توجهات داخلية وخارجية، تتنافس عليها أحزاب قوية في نظامٍ سياسي يسعى منذ عقود لترسيخ ديمقراطيته المهددة دومًا بخطر الانقلابات العسكرية، وإن قطعت شوطًا في طريق الإجماع الوطني على الوقوف بوجه تلك الانقلابات.
أولًا- دوافع التوجه الجديد نحو المصالحة
يمكن القول بأن السياسة الخارجية التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية قبيل الثورات العربية كان يحكمها التوجه الذي صاغه منظرها الأساسي أحمد داود أوغلو ومفاده “تصفير المشاكل مع الجيران”؛ بحيث تصبح تركيا لاعبًا أساسيًا في المنطقة بما لها من قوة اقتصادية ودبلوماسية وجيوسياسية. لذلك حاولت صياغة علاقات ودية مع دول الشرق الأوسط بما في ذلك إيران وإسرائيل، وهي المنطقة التي لا تزال في نزاعات مع بعضها البعض، وفي هذا السياق حاولت أنقرة أن تصبح وسيطًا بين المتنافسين والمتصارعين في المنطقة. لكن السياسة الخارجية التركية في المنطقة كانت مدفوعة في كثيرٍ من الأحيان بالقضية الكردية، لذلك، فإن اهتمام تركيا باحتواء القومية الكردية كان يقربها من دول المنطقة التي تشترك في نفس المخاوف، وبالذات العراق وسوريا وإيران[1].
ظل أوغلو يُدير الدبلوماسية التركية بنظرةٍ ثاقبة إلى المنطقة العربية كعمقٍ استراتيجي، في الفترة من 2009 إلى 2016، سواء من موقعه كوزير للخارجية أو رئيس للوزراء قبل أن يحدث التوتر والانفصال بينه وبين حزب العدالة والتنمية أواخر مايو ٢٠١٦، والذي تزامن مع محاولة انقلاب فاشلة في ١٥ يوليو من العام نفسه والتي أعقبتها تغيرات كثيرة شهدتها البلاد. وقامت سياسة أوغلو على أربعة محاور رئيسية: أولها عدم تجزئة الأمن، ثانيها التحاور، وثالثها التضامن الاقتصادي، ورابعها التوافق الثقافي والاحترام المتبادل.
كانت الأزمة في العلاقات التركية العربية بالأساس مع أنظمة الإمارات والسعودية ومصر حول الموقف من ثورات الربيع العربي والقوى الإسلامية التي تصدرت المشهد فيما بعدها، حيث اصطفت السعودية والإمارات معًا في خندق ضد تلك الثورات باعتبارها ضد أنظمة حليفة وتُشكل تهديدًا محتملا لأنظمة الحكم فيها, هذا بينما، ورغم العلاقات القوية للنظام التركي والدولة التركية مع أنظمة سوريا ومصر وليبيا، فإنها أبدت دعمها لتلك الثورات وتبنتها لكونها هبات شعبية في مواجهة أنظمة استبدادية.
في المقابل، تحولت السعودية والإمارات من موقف الاستنكار إلى موقف دعم ما أُطلق عليه “الثورات المضادة” لاستعادة أوضاع ما قبل موجة الربيع العربي الأولى، فكان احتضان علي عبد الله صالح وإعادته لليمن، وكانتا من أوائل الداعمين لانقلاب خليفة حفتر على التوافقات والترتيبات السياسية الناجمة عن المؤتمر الوطني العام ولاحقًا الانتخابات الليبية. ولم تكتفيا بذلك، بل اختلقتا أزمة خليجية كبرى ضد قطر فقط من أجل وقف دعم وانحياز قناة الجزيرة للثورات العربية وتغطيتها لها.
ومع تصاعد التهديد الإماراتي السعودي البحريني لقطر، كان المدخل القوي لتركيا لتعزيز علاقاتها مع قطر إلى مستوى غير مسبوق؛ حيث إرسال قوات تركية وتوقيع مذكرات واتفاقات تفاهم استراتيجية وإمداد البلاد بما تستطيع لتعويض نقص السلع الذي أحدثته المقاطعة الخليجية، كان هذا عبر جسر جوي تركي بل وعُزز لاحقًا عبر الذهاب لترتيبات إقليمية أعمق بممر تجاري بين تركيا وإيران وقطر. جاء حصار قطر بالتوازي مقتل جمال خاشقجي في إسطنبول، وكانتا محطتين بارزتين في توتر العلاقات، ومع التطور البارز في العلاقات التركية -القطرية التي وصلت للتحالف الإستراتيجي بين الطرفين الذي فُهم أنه ضد دول الحصار بالضرورة، هنا كانت تركيا تتموضع ضمن المحاور الإقليمية بحذرٍ شديد.
ووفقًا لبعض التقديرات، فإن خيار الانحياز التركي لقطر في الأزمة الخليجية كان خيارًا مكلفًا، فبعد أن كانت تركيا تعمل جاهدةً طيلة سنوات الأزمة السورية وحتى اندلاع الأزمة الخليجية للحفاظ على طرق التجارة البرية مفتوحةً عبر سوريا للوصول إلى الأسواق الخليجية، غامرت بانحيازها لقطر بخسارة هذه الأسواق في هذه الأزمة[2].
أثناء تلك الأزمة، شهدنا جملةً من الحملات الإعلامية الخليجية منطلقةً من الإمارات والسعودية ضد تركيا، ففيما كان الإعلام العالمي يتحدث عن “فوضى الأخبار في تركيا”، إثر إعلان محاولة الانقلاب العسكريّ الفاشلة، كانت قناة “العربيّة” السعودية و”سكاي نيوز عربيّة” الإماراتية في موقع يحسم حصول الانقلاب العسكري في تركيا لا بل ينقل أخباره بحماس ويُهلّل لوقوعه، ما ظهر جليًا عبر تعليقات المذيعين والضيوف على تلك القنوات، الذين تحدثوا عن “حرب أهلية مرتقبة في تركيا”[3].
كما شهدنا حملة مقاطعة سعودية كبرى للمنتجات التركية عقب تفاقم الأزمة في العلاقات جراء الموقف التركي من مقتل الصحفي جمال خاشقجي في سفارة بلاده بإسطنبول في أكتوبر ٢٠١٨، بدأت الحملة بتغريدات لشخصيات رسمية سعودية مثل رئيس مجلس الغرف التجارية عجلان العجلان، يدعو فيها إلى مقاطعة شعبية للمنتجات والخدمات التركية انطلاقًا من الاستيراد مرورًا بالاستثمار والسياحة، وكذلك فعل بعض الأمراء بالأسرة الحاكمة ثم سرعان ما انتشرت دعوات المقاطعة على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولعل من دوافع التغير في السياسة الخارجية التركية في الفترة الأخيرة أن الدولة بُعيد زلزال 6 فبراير 2023 الذي ضرب عشر مدن تركية انهمكت في مشكلات الداخل وإعادة الإعمار، إذ خلف الزلزال خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، وكانت تقديرات أولية للبنك الدولي تُشير إلى أن الهزتين الأرضيتين الكبيترين في ٦ فبراير ٢٠٢٣ قد أحدثتا أضرارًا مادية مباشرة تُقدَّر بنحو ٣٤.٢ مليار دولار أو ما يعادل ٤٪ من إجمالي الناتج المحلي لتركيا، كما أن تكاليف التعافي وإعادة الإعمار ستكون أكبر بكثير، ومن المحتمل أن تزيد بواقع الضعف، وأن خسائر إجمالي الناتج المحلي المرتبطة بالاضطرابات الاقتصادية ستزيد أيضًا من تكلفة الزلازل[4]. في ظلال تلك الأحداث القاتمة توافدت قوافل المساعدات الإغاثية العربية، فقد دُشنت العديد من الحملات الشعبية والرسمية الإغاثية في كلٍ من قطر والسعودية والإمارات وبقية دول الخليج والدول العربية[5].
ثانيًا- واقع العلاقات التركية بدول الأركان العربية:
وفقًا لوزارة الخارجية التركية وللبيانات التي قدمتها الإدارة العامة للاستثمار في المملكة العربية السعودية، تبلغ قيمة الاستثمارات التركية في المملكة العربية السعودية حوالي ٦٦٠ مليون دولار أمريكي، تقوم بها أكثر من ٢٠٠ شركة تركية، وتحتل المملكة العربية السعودية المرتبة الثانية بين دول الخليج (بعد قطر) والسابعة على مستوى العالم من حيث عدد المشاريع التي يُنفذها المقاولون الأتراك في الخارج، كما تُقدر قيمة الاستثمارات السعودية في تركيا بحوالي ٢ مليار دولار أمريكي. في عام ٢٠١٧، اشترى المواطنون السعوديون ٣٥٤٥ عقارًا في تركيا، ولكن تأثرت التجارة البينية التي كانت تدور حول ٥.٦ مليار دولار في عام ٢٠١٥ بحيث تراجعت إلى أقل من ٥ مليار دولار في ٢٠١٨[6]. وذلك بالتوازي مع الأزمة السياسية بين البلدين جراء الموقف من الأزمة الخليجية وأزمة خاشقجي.
بالنسبة للإمارات، فقد كانت خصمًا لدودًا لتركيا بُعيد الربيع العربي وحتى قبيل الانتخابات الرئاسية التركية الأخيرة، وكانت تحركاتها في سوريا واليمن وليبيا ومصر تتناقض كليًا مع المصالح القومية والتوجهات التركية، وإن اتفقتا على تسليح أبي أحمد في إثيوبيا بالمسيرات ودعمه في مواجهة التيجراي التي أفضت إلى تفوقه وإنهاء الحرب هناك[7].
لكن سرعان ما حاولت الإمارات التقاط أطراف المحاولات التركية لتحسين العلاقات بالمنطقة، فقامت بتوقيع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة مع تركيا في ٣ مارس ٢٠٢٣ ودخلت حيز النفاذ في ١ سبتمبر ٢٠٢٣، تستهدف الاتفاقية الوصول بحجم التبادل التجاري بين البلدين إلى ٢٥ مليار دولار في غضون ٥ سنوات[8].
وفيما يخص العلاقة مع مصر، لم تتأثر العلاقات الاقتصادية كثيرًا بتدهور العلاقات السياسية، فقد ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدَين ثلاثة أضعاف تقريبًا بين العام ٢٠٠٧ والعام ٢٠٢٠، أي من٤.٤٢ مليار دولار إلى ١١.١٤ مليارًا، ما يُظهر بأن الجانبَين اتفقا ضمنيًا على إبقاء تبادلاتهما الاقتصادية في منأى عن التجاذبات السياسية، لكنها وخلال الأزمة السياسية التي امتدت لقرابة عقد منذ ٢٠١٣ لم تتطور كثيرًا وإن تم الحفاظ عليها ما بين ٥-٦ مليارات دولار بفضل اتفاقية التجارة الحرة فقط. وبحسب البعض، فإن نمط التكامل الاقتصادي المصري التركي عبر حركة التجارة الحرة لا يخلو من القصور، إذ يبدو أنه ينجح فقط مع الأشكال السطحية من التكامل الإقليمي، والتي تستند إلى تحرير التجارة من خلال التخلي التدريجي عن الحواجز الجمركية وغير الجمركية، لكنه لا يرقى إلى تحقيق المواءمة التنظيمية لضمان التدفق الحر للاستثمارات والعمالة[9].
بدأت العلاقات تتحسن تدريجيًا منذ عام ٢٠٢٠، مع تبادل الزيارات بين المسؤولين من البلدين، لتدخل العلاقات بين مصر وتركيا مرحلة جديدة من التطبيع، مع زيارة أردوغان القاهرة في ١٤ فبراير ٢٠٢٤ والتي عول الكثيرون عليها في محاولة تنسيق المواقف لفرض وقف لإطلاق النار بغزة وإدخال المساعدات وتنسيق الأدوار الإقليمية[10]، ثم زيارة السيسي لأنقرة في ٤ سبتمبر ٢٠٢٤، والتي كان الاقتصاد عنوانها الأكبر بالإضافة لمناقشة ملفات أخرى من ضمنها الحرب في غزة والوضع في ليبيا وسوريا واليمن[11].
أما بالنسبة لـ قطر فبحلول نهاية عام ٢٠١٨، ارتفع حجم التجارة بين البلدين بنسبة ٥٧ ٪ مقارنةً بعام ٢٠١٧، ووصل إلى مستوى ١.٤مليار دولار أمريكي، وكانت أكثر من ١٨٠ شركة تركية تعمل في قطر، وقد بلغت القيمة الإجمالية للمشاريع التي تنفذها الشركات التركية في قطر مستوى ١٧.٤مليار دولار أمريكي، بالإضافة إلى ذلك تحتل قطر المرتبة الأولى بين دول الخليج من حيث عدد المشاريع التي يقوم بها المقاولون الأتراك، كما شهد حجم استثمارات رأس المال القطري في تركيا زيادة مطردة[12].
ورغم الأسباب السياسية والأيديولوجية الكثيرة في تعثر علاقات تركيا بدول الأركان العربية، إلا أن الاقتصاد كان سببًا رئيسيًا في العودة لتحسين العلاقات؛ حيث منذ العام ٢٠١٣ وحتى ٢٠٢٠ شهد الاقتصاد التركي تراجعًا حادًا في الناتج المحلي الإجمالي من ٩٥٧.٨ مليار دولار إلى ٧٢٠.٣ مليار دولار ولم يتجاوز أزمته سوى عام ٢٠٢٣ عندما وصل إلى ١.١ تريليون دولار[13].
عقب أزمة كورونا عانت تركيا من أزمة كبرى تتعلق بتوقف سلاسل الإمداد والتوزيع، وبضعف قيمة العملة وتدهورها وارتفاع معدلات التضخم، وإن كان هذا لم يؤثر كثيرًا (وإن كان ذلك لا يعني انعدام التأثير) في الصادرات التركية التي تصاعدت عبر عقد إلى قرابة ٢٥٥ مليار دولار عام ٢٠٢٢ كما في الشكل التالي[14]:
إلا أن أزمة كورونا وتوتر العلاقات التركية بالمنطقة أثرت كثيرًا في الأوضاع الاقتصادية الداخلية، فقد انخفضت الصادرات حوالي ١٠ مليارات دولار في عامٍ واحد بدلا من مواصلة ارتفاعاتها، كما انخفضت الاستثمارات، وضُربت السياحة ضربةً قاصمة بفعل الإجراءات العالمية، وتفاقمت الأزمة إلى الحد الذي كاد أن يطيح بالرئيس أردوغان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة إذ نجح في جولة الإعادة بـ٥٢.٢٪[15] وبفارق بسيط جدًا عن منافسه في الجولتين، وبطبيعة الحال كانت هناك دعاية قوية لقنوات العربية وسكاي نيوز ضد أردوغان سرعان ما خفت صوتها قليلا بعد الانتخابات.
وبرغم أن تركيا تمكنت من تحقيق نمو قوي في الناتج المحلي الإجمالي في عام ٢٠٢٢، إلا أن ارتفاع أسعار الطاقة وسط التوترات الجيوسياسية ودورة التشديد النقدي العالمي أدت أيضًا إلى زيادة سريعة جدًا في التضخم، واتساع عجز الحساب الجاري وانخفاض الاحتياطيات، مما أثر بدوره على تصور المستثمرين للمخاطر بشكلٍ سلبي وزاد من الضغوط المالية الكبيرة في الفترة التي سبقت انتخابات مايو ٢٠٢٣. بعد الانتخابات، بدأت الحكومة الجديدة عملية التطبيع مع سياسات الاقتصاد الكلي المطلوبة من قبل المستثمرين والمؤسسات المالية الدولية، ففي عام ٢٠٢٣ حدث التخلي عن سياسة الفائدة المنخفضة[16]، وبدأ عهد تدوير أبناء المؤسسات المالية الدولية في مناصب محافظ البنك المركزي ووزارة المالية وقامت سياساتهما على تشديد السياسة النقدية لتحقيق خفض التضخم الذي لم ينخفض كثيرًا بعد عام من تلك السياسات.
كانت انتخابات 2023 وما صاحبها من خطابات شعبوية يمينية ويسارية حول الاقتصاد واللاجئين والعلاقات مع العالم، سببًا أكبر في توتر العلاقات العربية التركية شعبيًا أيضا؛ إذ تصاعدت موجات العنصرية تجاه العرب من قبل المعارضة التركية وربما تم جر الحزب الحاكم وبعض حلفائه إلى خطابات انتخابية أكثر قومية بالذات فيما يتعلق باللاجئين. وفي المقابل، كانت هناك محاولات لتهدئة العلاقات مع دول الخليج، وتحسينها مع نظام بشار الأسد لحلحلة أزمة اللاجئين، ومع نظام السيسي بمصر لتجاوز أزمة ممتدة منذ عقد.
تقول بعض وجهات النظر بأن خلق التنافس والعداء مع الدول المجاورة لا يُفضي إلى علاقات تركية طويلة الأمد مع تلك الدول ولا إلى استقرارها السياسي النهائي، كما تُفاقم عضويتها في حلف شمال الأطلسي العداء الذي من شأنه أن يعمل في نهاية المطاف ضد النفوذ الإقليمي لتركيا، وبالتالي فإن ضرورات الدولة القومية التركية تقف بشكلٍ كبير في طريق تحقيق طموحاتها الإقليمية.[17] لكن تظل الحاجة الموضوعية لمزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر وعوائد السياحة وتحسين العلاقات الأمنية، سواء ما يتعلق بأمن الطاقة أو الحدود المضطربة، سببًا موضوعيًا في الدفع باتجاه تحسين العلاقة مع البلدان العربية.
فبعد عقدٍ من التوتر، أتت جولة الرئيس التركي إلى عدة دول خليجية في مستهل ولايته الرئاسية الجديدة لتؤكد مسار التهدئة مع القوى الإقليمية، وتفتح باب العلاقات على مرحلة جديدة يُشكل التعاون الاقتصادي والتجاري عنوانها الأبرز ورافعتها الرئيسة، حيث زار الإمارات وقطر والسعودية وهي زيارات مرتبطة بأولوية الملف الاقتصادي في مرحلة ما بعد الانتخابات والاهتمام بالاستثمارات الخليجية على وجه التحديد في هذا الإطار، بحسب بعض التحليلات[18].
وخارج نطاق دول الأركان، كانت هناك عدة تفاهمات للتهدئة في ملفاتٍ مختلفة من بينها الملف السوري والليبي واليمني، وإن قادت إلى استقرارٍ هش وتجميد الأوضاع على ما هي عليه، على سبيل المثال كانت عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية تنبئ بإمكانية إعادة النظر التركية في العلاقة مع الرئيس السوري بشار الأسد.
ثالثًا- مستقبل علاقات تركيا مع دول الأركان:
في اجتماعه الأخير مع السيسي في أنقرة، وهي أول زيارة رسمية له لتركيا منذ توليه منصبه عام 2014، كان تركيز أردوغان الأكبر على العلاقات الاقتصادية بعد عقدٍ من التوتر السياسي في العلاقات بين النظامين، والذي نجحت فيه تركيا بسياسة فصل الاقتصادي عن السياسي إلى حدٍ بعيد بما سمح لعلاقات البلدين أن تتطور اقتصاديًا بمعايير حجم التبادل التجاري، وقد أفضت الزيارة إلى توقيع حوالي 20 اتفاقية تعاون بين مصر وتركيا، مع هدف واضح بزيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 15 مليار دولار، ارتفاعا من الرقم الحالي الذي يبلغ نحو 10 مليارات[19].
من الخطط والمستهدفات المعلنة للعلاقات التجارية والاقتصادية يبدو أن تركيا عازمة على تعزيز علاقاتها مع دول الأركان بالمنطقة العربية وخلق اعتمادية متبادلة قوية وتكون لتركيا فيها اليد الطولى، لكن الاستمرار بذلك يرتبط كثيرًا بالأوضاع السياسية الداخلية في تركيا واستمرار التوجهات التي تحكم السياسة الخارجية التركية. فالمعارضة التركية تميل إلى علاقاتٍ أقوى مع الغرب والابتعاد قليلا عن الشرق والجنوب ومشكلاته، بل وتحمل خطابًا عنصريًا تجاه العرب رأيناه في المبالغات في اقتلاع لافتات المحلات العربية من شوارع البلديات التي فاز بها حزب الشعب الجمهوري وبقية أحزاب المعارضة كأولوية لأعمال رؤساء تلك البلديات.
مع ذلك، يبدو أن تناقض المصالح بين المحاور الإقليمية القائمة يجعل من إمكانية الاستمرار بنفس السياسة تحديًا كبيرًا، خصوصًا أن العديد من عوامل عدم الاستقرار سواء في الداخل التركي أو في المنطقة لا تزال قائمة وتتفاقم، كما أن الملفات خارج نطاق دول الأركان لا تزال الخلافات حولها قوية وتغذيها تناقضات مصالح عميقة، بالذات في سوريا وليبيا وشرق المتوسط.
وبينما لا تزال الإمارات والسعودية ومصر تعتقد بأن توسيع التطبيع مع إسرائيل ممكنًا حتى بعد حرب السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ والتي مر عليها قرابة العام، فإن تركيا بدأت في الانحياز أكثر للقضية الفلسطينية سواء بقطع العلاقات التجارية مع إسرائيل وهو إجراء جاء متأخرًا، وخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي، أو بإعلانها حماس حركة تحرر وطني وإمكانية قيادة وساطة أو إدارة مفاوضات بينها وبين إسرائيل، الخطوات التي قد تدخل تركيا في تنافس إقليمي في القضية الأهم في المنطقة.
هناك إمكانية لتطوير العلاقات مع دول الأركان العربية في ضوء الموقف التركي الحالي الذي لا يختلف كثيرًا عن الموقف الرسمي العربي المعلن من القضية الفلسطينية، والداعي إلى الالتزام بمسار السلام وحل الدولتين والوقف الفوري لإطلاق النار، وهو ما بدا من محاولة التنسيق في القمة الإسلامية الطارئة وتصريحات وزير الخارجية التركي حول ارتباط الموقف التركي تجاه غزة بالموقف العربي[20]. لكن نتيجة هذا التنسيق حتى الآن لا تبدو كبيرة؛ ولذا فإن تنسيقًا عربيًا تركيًا في غزة قد يكون في حدود مشروعات إعادة الإعمار أو الضغط باتجاه اتفاق لوقف إطلاق النار ليس أكثر. أعلنت تركيا رسميًا قطع جميع العلاقات التجارية مع إسرائيل بعد أكثر من سبعة أشهر على بدء الحرب، وشددت أنه لن يتم التراجع عنه إلا بعد ضمان عدم انقطاع إمدادات المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة[21]، في حين أن دول الأركان المذكورة كانت وربما لا تزال تحتفظ بعلاقات تجارية وسياسية مع إسرائيل وتسعى لفرض تطبيع أوسع، أو تتشارك على استحياء نفس الموقف الإسرائيلي من حركات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، وهي تتحرر بشكل كبير من أية ضغوط من الرأي العام الداخلي حول القضية الفلسطينية، لكن ما يمكن التعويل عليه أن استمرار الأحداث قد يُفضي لتنسيق إقليمي أكبر ليس فقط حول المساعدات وإعادة الإعمار وإنما الوساطة وإدارة التفاوض حول وقف إطلاق النار والتهدئة وقضايا الحل النهائي.
خاتمة:
تتفاعل العوامل الاقتصادية والسياسية الداخلية لتشكيل السياسة الخارجية التركية وشبكة علاقات الدولة التركية، دونما إغفال لأدوار الأيديولوجيا والجغرافيا السياسية في تحديد أبعاد ومستقبل تلك السياسة، وينبغي تحليل التغيرات التي لا تزال في طور التكتيكية في هذا السياق. فالواقع المحلي التركي متغير إلى حدٍّ كبير وليس ساكنًا؛ فالحزب الحاكم يفقد سيطرته على الانتخابات البلدية ويتراجع لأول مرة منذ صعوده مطلع الألفية، كما أنه ينجرف شيئًا فشيئًا نحو سياسات أكثر قومية ونحو اليمين الشعبوي، في مواجهة خطاب متصاعد إقليميًّا ودوليًّا يتمركز حول تحميل اللاجئين والأجانب والسياسات الخارجية مسؤولية التدهور الاقتصادي والاجتماعي الحادث أو المتخيل في الأذهان.
كما أنه وبعيد عقد من الثورات العربية التي تعثرت وتبعثرت قواها في الداخل والخارج، وبعيد تعثرات تركية اقتصادية وسياسية محلية، فإن تغير المواقف قد يبدو مفهومًا وإن لم يكن متقبلا من قبل الجميع، إلا أنه يحتاج لإعادة تقييم الأوضاع والمواقف والتحالفات في بيئة إقليمية شديدة التغيير، وربما تغير نتائج معركة طوفان الأقصى توجهات الجميع وتحالفات المنطقة وتُعيد صياغتها من جديد.
ربما لا نكون بصدد توجه جديد أكثر منه عودة لتوجه قديم مفاده محاولة تصفير المشاكل مع دول الجوار، والتركيز أكثر على إعادة تقوية الداخل والعلاقات مع الدول التي ساءت معها العلاقات بالعقد الماضي، مع تحقيق اختراقات في بعض الملفات والمناطق كما هو الحال في دعم أذربيجان وحكومة الغرب الليبي وأبي أحمد في إثيوبيا، والتغلغل أكثر تجاريًا في بعض الدول الإفريقية وإعادة إحياء القومية التركية والاستفادة منها لتعزيز النفوذ بآسيا الوسطى عبر رابطة الدول التركمانية.
يتعزز التوجه التركي الجديد نحو التهدئة مع المنطقة العربية وتعزيز العلاقات الاقتصادية وتعظيم التبادل التجاري مع محاولة شبه ناجحة لفصل السياسي عن الاقتصادي في إدارة تلك العلاقات، لكن تظل هناك إشكاليات كبرى في هذه العلاقات، ومنها الانفصال بين الرسمي والشعبي في المنطقة العربية التي تحكمها نظم أوتوقراطية لا تكتفي بممارسة الاستبداد على شعوبها بل وتريد فرضه في دول جوارها، ويمكن القول بأن شعبية الرئيس التركي أردوغان تتضاءل كلما اقتربت مواقفه من المواقف الرسمية العربية.
لا تزال هناك تخوفات من بعض التغلغل الخليجي في الاقتصاد التركي، وبالذات مع العلاقات الشائكة للإمارات مع إسرائيل، وبالتالي صفقات الاستحواذ التي تسعى إلى الدخول فيها للسيطرة على بعض الشركات التركية العملاقة. ولا تزال هناك شكوك قوية من قبل الداخل التركي بكل أطرافه حول بعض الاستثمارات الخليجية، وبعض الحملات الدعائية التي تستغل الأحداث العنصرية التي تمس بالسياحة والاستثمارات العربية في تركيا، وهي أمور على أهميتهما لا تزال محدودة بالنظر إلى الروابط التاريخية بين تلك البلدان وتركيا أو حتى بالنظر لحجم التجارة الدولية لهذه البلدان.
_________________
هوامش
⁕ باحث في العلوم السياسية.
[1] Sarah Akram, Turkey and the Arab Spring, Strategic Studies, Vol. 31, No. 3, 2011, pp. 23-31.
[2] تركيا والخيارات المكلِّفة في الأزمة الخليجية، بي بي سي عربي، 12 يونيو 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://is.gd/p5uXU2
[3] الإعلام العربي منقسمًا إزاء محاولة الانقلاب في تركيا، العربي الجديد، 17 يوليو 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://is.gd/IKSPgZ
[4] بيان صحفي بعنوان “تقديرات أضرار الزلازل في تركيا تتجاوز 34 مليار دولار”، مجموعة البنك الدولي، 27 فبراير 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://is.gd/wdbSbJ
[5] وكالة الأناضول، الشعوب العربية “يد واحدة” مع تركيا بمواجهة الزلزال (محصلة)، 7 مارس 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://is.gd/Bm0HIo
[6] Türkiye-Saudi Arabia Economic and Trade Relations, Ministry of Foreign Relations of Turkey, available at: https://is.gd/i0PiSo
[7] مصطفى أحمد، بيرَقدار والمُهاجر: مُسيَّرات تركيا وإيران ترسم ملامح القرن الأفريقي، الجزيرة نت، 16 مايو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://is.gd/SY81zd
[8] وكالة الأناضول للأنباء، تركيا والإمارات تبدآن تنفيذ اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة، 21 أغسطس 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://is.gd/MSHV33
[9] عمرو عادلي، التجارة بين مصر وتركيا مستمرة وسط التوترات، مركز كارنيجي للشرق الأوسط، 17 نوفمبر 2021، متاح عبر الرابط التالي: https://is.gd/HlkurD
[10] عبد الله حامد وزيد اسليم، أردوغان في القاهرة.. أي انعكاسات على البلدين والمنطقة؟، الجزيرة نت، بتاريخ 15 فبراير 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://is.gd/rh0pMm
[11] ماذا على طاولة السيسي وأردوغان في أنقرة؟، قناة الحرة، 4 سبتمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://is.gd/6QtDHs
[12] Türkiye-Qatar Economic and Trade Relations, Ministry of Foreign Relations of Turkey, available at: https://is.gd/9Y80tw
[13] مجموعة البنك الدولي، إجمالي الناتج المحلي (القيمة الحالية بالدولار الأمريكي) – Turkiye، متاح عبر الرابط التالي، https://is.gd/rmPhoB
[14] أكثر من ربع تريليون دولار كيف عززت تركيا حصتها من الصادرات العالمية؟، تي آر تي عربي، 7 أغسطس 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://is.gd/EgsOgu
[15] الانتخابات الرئاسية تركيا النتائج العامة، صحيفة يني شفق، 29 مايو 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://is.gd/RSGYI5
[16] Türkiye Economic Monitor – On the Right Tack, World Bank Group, availble at: https://is.gd/sVPgcx
[17] Ibrahim G. Aoudé, Turkey and Its Immediate Arab Neighbors in the Twenty-First Century, Arab Studies Quarterly, Vol. 42, No. 1-2, 2020, pp. 91-108.
[18] سعيد الحاج، تركيا والخليج.. مرحلة جديدة قاطرتها الاقتصاد، الجزيرة نت، 31 يوليو 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://is.gd/C8VYuO
[19] بلغة الأرقام.. هذا ما يعوّل على زيارة السيسي لتركيا، الجزيرة نت، 5 سبتمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://is.gd/AwWYMS
[20] لقاء خاص مع هاكان فيدان وزير خارجية تركيا، قناة الجزيرة على اليوتيوب، ١١ نوفمبر ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي: https://is.gd/CGusOU
[21] تركيا تعلن رسميًّا قطع جميع علاقاتها التجارية مع إسرائيل، روسيا اليوم بالعربية، 2 مايو 2014، متاح عبر الرابط التالي: https://is.gd/acHLTp
- فصلية قضايا ونظرات – العدد الخامس والثلاثون – أكتوبر 2024