التعليم السيبراني: الفرص والتحديات نماذج وحالات
مقدمة:
لقد كان مما يتنافس فيه العلماء قديمًا وحديثًا الرحلة في طلب العلم والبحث عن الأكابر لحمل العلم عنهم، فيُحَصِّلون في رحلتهم فوائد عظيمة ويتعلمون خبرات وفيرة، ويقابلون غير من رحلوا إليه ابتداء فيتعلمون منه أيضًا، ثم يتعلمون من سمت هؤلاء الأكابر وأخلاقهم وكلامهم وسكوتهم وحكمتهم وغير ذلك كثير، فيرحل نبي الله موسى عليه السلام في رحلة طويلة ذكرها الله تعالى في كتابه في سورة الكهف ليتعلم رشدًا، قال عز وجل:“هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا”(الكهف: 66)، وهو كليم الله تعالى فأعد عدته وحمل طعامه ومعه فتاه في قصة كلما تدبرتها ونظرت فيها تعلمت ما لم تكن تعلم، هذه واحدة.
أما الثانية: فلا تستطيع وأنت تلهث خلف الإنترنت -محاولًا اللحاق بهذا الركب المنطلق بسرعة الضوء يمنةً ويسرةً في شتى الموضوعات المتلاحقة تارة فكرية وأخرى رياضية وثالثة سياسية ورابعة أدبية وفنية ودينية…وغيرها- أن تُغفل تساؤلاً أراه مهما وهو: هل كان يغني موسى عليه السلام ذلكم الإنترنت في تعلمه ما تعلَّم لو كان موجودًا آنذاك؟، وتساؤلٌ آخر: لماذا علماؤنا الأوائل أعمق تناولًا وأغزر علمًا وأكثر بركة مع غياب الشبكة العنكبوتية آنذاك؟.
ليس هذا استباقًا للنتائج ولا ردًا لمنجزات التكنولوجيا الحديثة، ولكنها محاولة للنظر من زاوية أخرى لهذا المنجز الجديد للحضارة المادية الحديثة، والذي لم يترك كبيرًا ولا صغيرًا ولا عالمًا ولا جاهلًا إلا وقد وضع بصمته عليه وألزمه باتباعه والنزول تحت سلطانه والانصياع لرغباته وإلا فقد انزوى عن هذا العالم انزواء كبيرًا، فمع غياب طرق التواصل الاعتيادية، وامتداد جائحة كورونا صار الانعزال عن الإنترنت انعزالاً عن الدنيا تقريبًا.
ومن جهة ثالثة، فلسنا مطالبين في كل مرة إزاء تناولنا لقضية أو إشكالية من منظورنا الحضاري التربوي أننا ولا بُدَّ سنأخذ من الغرب ما يوافق أصولنا وقيمنا وديننا وثقافتنا، ولن نعيش منغلقين عن العالم؛ فمن بدهيات العقول أننا وغيرنا في عالم واحد، والمفترض أن نستفيد من بعضنا البعض، ولا نحب ولا نريد أن نظل تبعًا وظلاً لغيرنا مهما كان هذا الغير آخذًا في ركاب التقدم المادي، وليس من الصواب ولا من الرشاد نقل كل ما يمكن نقله هذا ضرب من الهذيان، بل ننقل ما ينفعنا نقله.
إن عملية الإصلاح الحضاري التربوي ليست بالأمر الهين خاصة إذا ما تجذر الفساد وصار له جذوع كجذوع النخل، ولا يستطيع زاعم أن يزعم أنه يملك ناصية الإصلاح وحده وأنه لم يُفد من قريب أو بعيد من أحد هنا أو هناك، فخريطة الإصلاح متشعبة الطرق والوديان مترامية الأطراف؛ إذ نحتاج فيها لتضافر الجهود وَائتِلاف القلوب، فلا شك أنا نطلب مشورة كل ذي مشورة وخبرة ودراسة وحكمة كل ذي حكمة، وكما يُقال: «الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا»[1].
ولذا، فعلينا أن نستمر في البحث عن كل ما يمكن أن يساعدنا في الوصول إلى تربية أقوم، وتعليم أفضل؛ فمعرفتنا بطبيعة النفس الإنسانية تتحسن، كما أن تجاربنا تزداد ثراء، مما يجعل إمكانات تقديم رؤى أكثر رشدًا في حالة من الاتساع الدائم[2].
فـ “الحُكْمُ على الشَّيء فَرْعٌ عن تَصَوُّرِهِ”، وتوظيف هذا الوافد السيبراني فيما يصلح له لا يمكن أن يحدث إلا بحسن التصور لما يملكه من طاقات، وعلاج ما قد يظهر منه من خلل علي الوجه الأمثل، وإلا فلا جديد تحت الشمس!.
وفي هذه الوريقات أحاول جاهدًا تتبع شيئ من الفرص والعقبات والحسنات والسيئات التي سبَّبها ذلكم التعليم السيبراني، وأرجو من الله التوفيق.
1-من التغير السريع إلى الفضاء المفتوح:
تمتد عملية التربية بامتداد الحياة، وتتسع باتساعها، وتتنوع بتنوعها، وبالتالي فعملها لا يمكن أن يقتصر فقط على ما يجري في معاهد التعليم بصورتها النظامية المعروفة من مدارس ومعاهد وكليات وجامعات؛ إذ إن كل ما يحيط بالإنسان من قوى وعوامل له دوره في التأثير إيجابًا وسلبًا- على الإنسان وتشكيل شخصيته، وبالتالي له فاعليته التربوية في تكوين وتربية وتنمية الشخصية[3].
ومن ناحية أخرى، فمن الملاحظ أن الحياة على الأرض تموج بالتحديات والعقبات، إن لم تكن من الإنسان وتعامله وعَلاقته به، فمن الموجودات الحيّة الأخرى على الأرض، ومن الموجودات غير الحية وثوراتها المتتابعة، وسُنن بناء وجودها وكينونتها، والإنسان إذ استخلفه الله تعالى في الأرض وكلّفه بعمرانها، واستثمار خيراتها وخيرات ما في الكون لصالحه، فقد زوده بقوى وقدرات وطاقات ومواهب، يستطيع إذا استثمرها الاستثمار الأمثل أن يهزم كل التحديات والعقبات[4].
ولعل من أهم التحديات التي يجب أن نتصدى لها بأسلوب علمي رصين، والتفكير في طرح مجموعة بدائل بالنسبة لمواجهتها هو تحدي الفضاء السيبراني.
إننا نعيش اليوم في عالم متغير، ويُعدُّ هذا التغير ظاهرة ملموسة في المجتمع المعاصر؛ إذ إنه قد أصبح أوسع شمولاً، وأبعد تأثيرًا من أي وقت مضى، ولذا ينبغي ألا يكون التغير مجرد حقيقة نسلم بها، وإنما يكون نهجًا يرشدنا إلى معالجة القضايا المعاصرة حاضرًا ومستقبلاً، ومن الواضح أن ذلك التغير السريع الذي يشهده العالم ما هو إلا مقدمة لتطور أسرع وأشمل يشمل جُل مجالات الحياة مستقبلاً، ولذا فلم يعد التجديد مجرد حِلية أو ترف، وإنما أصبح ضرورة تقتضيها متغيرات العصر، والعَلاقات الجديدة في هذا العالم الذي يتغير بسرعة مذهلة.
وإن المهمة الجديدة للتربية ليست أن تُعد الأجيال لقبول التغييرات الكثيفة القادمة والتكيف معها فحسب؛ وإنما السيطرة عليها، واستخراج خير ما فيها؛ إلى جانب المقاومة العنيدة للسيئ والضار منها[5]، وإن مما لا يخفى أن العالم كله قد تعوَّد عبر تاريخه الطويل أن يُربي صغاره في بيئات مغلقة، حيث ينطلق المربي من تربيته معتمدًا على ما يسود فيها من قيم وعادات وتقاليد، ومؤسسًا على النماذج الحية في أسرته وجيرانه وأقربائه… وغيرها، وهي بيئات مكتفية بعقائدها ومفاهيمها وعاداتها أيضًا. اليوم تغير كل هذا؛ حيث إن تسارع معدلات التقنية والتطوير فيها لم يترك لنا أي شيء نبني عليه، أو نتمسك به، فقد صرنا فعلاً نربي في فضاء مفتوح على كل العالم، وكل ما فيه من فضائل ورذائل، وخير وشر[6].
إن من الوصايا التربوية المتوارثة حث الآباء على “أن يربوا أبناءهم غير تربيتهم؛ لأنهم خُلقوا لزمان غير زمانهم”(*)، وهذه الحكمة التربوية العظيمة لم تكن الحاجة إليها في أي يوم أكثر من هذه الأيام؛ حيث إن التطور التقني السريع سرَّع من التغيرات الاجتماعية في كل نواحي الحياة، وصارت الفوارق بين جيل وجيل كبيرة للغاية، وهذا أوجد ارتباكًا شديدًا لدى كثير من المحاضن التربوية، بل إننا نعاني من صراع خفي بين أصول وتقاليد تربوية راسخة وبين تطلعات الأجيال الجديدة، كما أن التغيرات في (سوق العمل) هي الأخرى تتطلب الكثير من التجديد بُغْيَة تأهيل أبناء الغد للعمل فيها[7].
وفضلاً عن ذلك، فإن هذا الفضاء السيبراني قد طرح العديد من المشكلات والتحديات التي ترتبط بأساليب التفاعل عبر وسائطه، وبالقِيَم التي جنتها الإنسانية من تطور تكنولوجيا المعلومات، وما قدّمته من أشكالٍ جديدةٍ من الاتصال والتعامل مع البيانات والمعلومات[8]، وبالتالي يجد المتابعون لهذا الفضاء السيبراني بعض المنافع، ويلمسون بعضًا من أضراره، وهم فعلاً حائرون في تقييم هذه وتلك، لكن الجميع يدرك أنهم ليسوا اليوم مُخيَّرين بين متابعته أو هجره، فقد صار هذا الفضاء جزءًا من حياتنا؛ إنه مثل الفراش والوسادة والثلاجة والكرسي والملعقة، بل إن التصاقنا به أشد بكثير؛ لأن الإنسان لا يدمن حمل الملعقة بيده، لكن كثيرين منا قد أدمنوا متابعة هذا الفضاء، ومتابعته كل خمس دقائق، أو أكثر، أو أقل[9].
فما هو ذلك الفضاء السيبراني؟، إنه بيئة إنسانية وفضائية جديدة للتعبير والمعلومات والتبادل، يتشكل فيه مجتمع الإنترنت بمختلف مظاهره، ويتكون من مجموعة من الأفراد بينهم عَلاقات خاصة يتم بناؤها أساسًا على المنظمات أو المؤسسات الطبيعية الإنسانية: التعليم، والبحث العلمي، والتجارة والتسويق، والاستثمار، والإعلام، والصحافة والاتصال والثقافة بأنواعها[10].
2-الفضاء السيبراني والتربية والتعليم:
إن إحدى المعضلات الكبار التي تواجه علماء التربية والتعليم تلكم البيئة التي نحيا فيها، وهذه الرويبضات التي ملأت الفضاء السيبراني، والتي صارت مواجهتها أمرًا صعب المنال جدًا؛ إذ كيف ترد على مئات الأشخاص الذين يتكلمون بغير علم، ويهرفون بما لا يعرفون، فمع التقدم التكنولوجي صار بإمكان أي أحد أن يقول ما شاء فيما يشاء، أو أن ينشئ أية قناة في أي تخصص علي اليوتيوب مثلاً، ويوجه خطابه ونصائحه وخبراته للناس هذا ليجمع المال فقط، أو ظنًا منه أنه يُحسن شيئًا، ومع فساد الأجواء صار لهؤلاء أتباع ومحبون في شتى المجالات: ابتداء من الفن الهابط البذئ الذي اعتمد الخبط والرزع) سيمفونيات موسيقية)، ومرورًا بالطب والصيدلة من العطارين والعشابين، وانتهاء بمن يتكلمون في الفكر والتربية والدين، وكثيرٌ جدًا منهم لا يعرف كوعه من بوعه لا في تخصصه ولا في غيره. ولذا، فليس هناك علاج حاسم لهذه المشكلة، سوى نشر ثقافة التَّخصُّص، وثقافة الإعراض عن أولئك الذين يتحدثون في كل شيء دون أن يتقنوا أي شيء!.
ومن ناحية أخرى، فمن المستقر لدى البشرية جمعاء أن الإنسان أعجز من أن يدرك الحقائق دفعة واحدة، وإنما على سبيل التدرج، وهو إلى جانب هذا لا يعرف مآلات أعماله وعواقبها؛ كما أنه كثيرًا ما يعمل أعمالاً تخالف معتقداته ومبادئه وفكره، وهذا كله –وغيره كثير- يجعل موضوع المراجعة والمحاسبة والمراقبة المجتمعية شيئًا جوهريًا لكل جوانب تعاملات ومعاملات وأفعال الإنسان. ومن ثم، فإن من واجب كل محضن من المحاضن المجتمعية أن يحاول اتباع أسلوب جديد –في ظل الانفتاح السيبراني المشاهد -في التربية الرقابية والتربية المحاسبية، يقوم على المتابعة والمفاتحة والمناقشة، على ما يقتضيه الأدب الحضاري في النقد والحوار والمراجعة[11].
إن عملية البناء الآن صارت وكأنك تضع أساس بيتك في حقل ألغام، فكيف لهذا البناء أن يتم أو أن تقوم له قائمة؟، إننا إذا وجدنا تربية لا تثمر نموًا علمنا أنها تربية عقيم، وإذا رأينا جهودًا تستهدف تنمية شيء ما، لكنها لا تتسم بالتدرج والتعاهد المتتابع، علمنا أن تلك الجهود لا تستحق أن تُسمى (تربية)، فالتربية نوع من (الحرب) الدائمة على كل أشكال الانحراف والتبلد والقصور الذاتي، وإن التربية كالحرب تحتاج إلى الرجل المكِّيث الذي يملك فضيلة الصبر على بذل الجهد، مع التطلع إلى الفرص المواتية[12].
إن أمر التربية والتعليم عندنا جد خطير؛ إذ به صلاح البلاد والعباد، فإذا استطعنا تثبيت هذه الفكرة ونشرها بين عامة الناس وكما يقول العامة: “أعط العيش لخبازه”، فإننا قد وضعنا أقدامنا علي أول طريق البناء الحضاري المنشود؛ حيث يقود الناسَ في هذا الفضاء السيبراني علماؤُهم، وليس رويبضاتهم.
3-قطار الطلقة السريع:
تناقلت وكالات الأنباء العالمية خبر القطار السريع الذي أنشأته اليابان ضمن أسطول قطاراتها والذي بلغت سرعته التجريبية 600 كم/الساعة، وسرعته التشغيلية 320كم/الساعة، وتتنافس دول العالم شرقًا وغربًا في إنتاج مثل هذه النوعية من القطارات السريعة لأغراض شتي اجتماعية واقتصادية وغير ذلك.
وللأسف الشديد فقد انتقلت عدوى سرعة التنقل إلى بعض الجامعات الإلكترونية والتي انضمت إلى الفضاء السيبراني حديثًا، فلا تتعجب إذا رأيت أو سمعت عن حاصل على الماجستير والدكتوراه في ثلاث سنوات، مهما ارتكب صاحبنا هذا من جنايات في حق نفسه وفي حق العلم والتعليم والمتعلمين، فالمهم هو المحطة القادمة والحصول على (الدال) ، ثم (الألف)) قبل الدال)، ثم استقبل القبلة وكبر على العلم والتعليم والأجيال القادمة أربعًا.
لا أدري أهي عادة البشر التي جُبِلوا عليها من العجلة في الأمر، أم هوس الشهرة والتصدر، أم بطيب نية وقلة خبرة من القائمين على هذه الجامعات، أم غير ذلك، والذي دفع هذه الجامعات إلى مثل هذا السلوك الذي سنذوق مرارته عاجلاً وآجلاً إن من النعم العظيمة والجليلة على كل متعلم أنه يستطيع التواصل مع أي عالِم له نشاط على الشبكة العنكبوتية، بل تستطيع أن تتنقل بينهم بضغطة إصبع، لكن مع عدم التوفيق وسوء النية وقلة التخطيط والعجلة وغير ذلك مما ذكرنا صار الأمر على ما نراه الآن، فبعد أن كنا نشكو من ضعف مستوى الخريجين، انتقل الضعف إلى القائمين على العملية التعليمية وهذا فساد وإفساد عريض.
4-الحسابات الشخصية وحقوق الأجيال:
لا تُخطئ العين المتابعة لمجريات الأمور نشأة كثير من الشباب على أحادية العلم؛ حيث لا يعرفون إلا جانبًا واحدًا ولا يطلعون إلا على اتجاه واحد في شتى المجالات اجتماعية واقتصادية وسياسية ودينية وغير ذلك، ويحمل وزر هذه الخطيئة بقدر ليس بالقليل المتصدرون للعملية التعليمية؛ إذ يخلطون بين آرائهم الشخصية وبين ما يجب أن يتعلمه النشء من اختلاف الرؤى والطرح.
ومع تغول الإنترنت وأسباب أخرى -ربما نتعرض لها في ثنايا حديثنا- ظهر جليًا هذا الخطأ المنهجي في التعامل مع العلم والمتعلمين، فلكل أحد أن ينشئ حسابًا –عبر الفضاء السيبراني- على أي وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي المرئية والمسموعة والمقروءة، وينشر آراءه الشخصية متجاهلاً غيرها من الآراء والاتجاهات والأفكار التي لها قيمتها، وكذلك متجاهلاً أصحاب هذه الآراء الذين لهم ثقل ما ينبغي أن يُهمَل، وكلامنا عن أهل الشأن من المعلمين والأساتذة وغيرهم من المتخصصين وليس عن الأدعياء والدجالين ومرتزقة الإنترنت.
وقد كانت جائحة كورونا مثالاً واضحًا غاية الوضوح مدللة على صدق ما أقول، حيث كانت صفحات الكثيرين تحكي لنا تجاربهم الشخصية في علاج داء جديد تئن البشرية تحت وطأة شدته، ولا تتوافر الكثير من المعلومات المهمة حول تحور هذا الوافد الجديد لكرتنا الأرضية، لا أريد أن أستفصل في أثر ذلك علي عموم الناس، فهذا له مقام آخر، إن الجناية العظيمة هنا على العلم والأجيال القادمة والحالية إذ نكتم ما ينبغي لهم أن يعرفوه، ونحدد لهم مسارات أحادية ضيقة الأفق لا تنتج لنا إلا عُلبا فارغة تصدر ضجيجًا ولا تحمل شيئًا نافعًا.
فما الذي يضير هؤلاء الأكارم لو أنهم عرضوا الأمر كما ينبغي له أن يُعرَض، فيذكرون توصيات الهيئات العلمية المنوط بها الكلام في هذا الشأن، ثم يذكرون خبراتهم وتوصياتهم إن كان عندهم توصيات سواء خالفت أو وافقت غيرها من الهيئات المعتبرة عند الجميع، هكذا مقتضى الأمانة التي حملها أهل العلم في أعناقهم، وبدلاً من أن نستفيد من هذه الفرصة العظيمة في نقل الخبرات والعلوم وإثراء العلم وتدريب الأجيال على البحث العلمي الرصين صارت صفحات كثيرين إلا ما رحم الله مصدرًا جديدًا لفيروس جديد أراه لا يقل خطرًا عن كورونا؛ تلك التماثيل التي نصنعها بمثل هذه التوجهات والمسالك التي سلكها هؤلاء، فلئن كان كورونا يقتل من الأحياء، فكيف بمن يقتل من لم يأت بعد!
5-بين التعقيد والتفريط:
المشهد الأول:
يدخل الأستاذ قاعة التدريس المكتظة بالطلاب ثم ينادي بصوت فيه حدة: “الغياب”، وينادي على الطلاب واحدًا تلو الآخر في إهدار متعمد للوقت ولطاقة طلابه ولمدة نصف ساعة أو يزيد يستمر هذا العبث في قاعات العلم، ولا يخلو الأمر من فكاهة إذ يقوم بعض الطلاب بالرد مكان زملائهم المتغيبين، ويتقمص بعض الأساتذة دور المحقق الكرتوني الشهير كونان، فينادي في أثناء شرحه على بعض الأسماء وكأنه سيناقشها؛ وليس الأمر كذلك، إنما ليتأكد من حضوره، وقل على العلم السلام.
المشهد الثاني:
داخل إحدى غرف المنزل يجلس أحد الأساتذة مرتديًا ملابس البيت أمام جهاز الحاسوب منتظرًا اجتماع الطلاب في إحدى غرف التواصل على الإنترنت، وليس على الطالب سوى أن يضغط زرًا ليثبت حضوره، ولو قام أحدٌ آخر في البيت بهذه المهمة لكفاه، إن متابعة الطلاب عبر الفضاء السيبراني أكثر صعوبة من ذي قبل، خاصة لو كان التواصل صوتيًا فقط، ومن الممكن أن يذهب الطالب ويجئ وأن يفعل أي شيء دون أن يشعر أستاذه بذلك.
وهنا لا بُدَّ من الالتفات إلى قضية غاية في الأهمية؛ وهي أن الأساس والركين الركين في العملية التعليمية هو الرغبة، وليس الخوف، ولا تقوم الأعمال الحضارية العظيمة –والتربية والتعليم في مقدمتها- على الخوف والتوجس والمنع والتهديد، وإنما تقوم على الإيمان والحب والشغف والأمل والعمل والمبادرة الذاتية والالتزام الذاتي والتضحية، فهلا وضعنا ذلك البعد التربوي في وضعه حال تعامل المعلم مع طلابه سيبرانيًا؟
إننا بين تعقيد وتفريط، تعقيد بعض الأساتذة والمعلمين وتشديدهم، وربما يكون لهم مغزى من إلزام الطلاب بالحضور لعلهم يتعلمون شيئًا ينفعهم، ولبعضهم في ذلك مآرب أخرى، ويمكن للأستاذ أن يؤخر الغياب إلى ما قبل آخر المحاضرة إن كان محتاجًا لذلك، ويمر كل طالب بنفسه يكتب اسمه في الورق المُعَدِّ لذلك بدلاً من نزيف العمر هذا.
ذلكم التعقيد في قاعة المحاضرة يقابله التساهل في غرفة الإنترنت من جهة الأستاذ والطالب، إذ المطلوب صوتهما فقط، فلا يكترثان بهيئتهما ولا ملبسهما ولا بيتهما ولا بالاستعداد الجيد للمحاضرة، وقد كان الإمام مالك رحمه الله يلبس من أجود الثياب ويتطيب من أفضل الطيب في مجلس الحديث تعظيمًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذن فللعلم ملبسه وهيئته وطيبه ولو كنت في قعر بيتك، وبدلاً من الاستفادة من التيسير الذي تسببت فيه التكنولوجيا الحديثة، وتسهيلها التواصل وتوفيرها لجو صحي في زمان كورونا حيث قلة الاختلاط مطلب صحي، فبدلاً من ذلك أُصيب الكثيرون بالتراخي والتكاسل والتفريط في حق العلم، نَعم للعلم حق في السلوك والخُلُق والهيئات والإدراكات والتصورات، فإن لم يكن للعلم على السلوك تأثيرٌ فليس علمًا نافعًا، بل هو نقش على الماء سرعان ما يمضي، ولا تزال الجناية على العلم والأجيال مستمرة.
6-أهل الحديث وميثاق الشرف:
لا تملك حين تطالع منهاج أهل الحديث في ضوابطهم وشروطهم فيمن يأخذون عنه الحديث إلا أن تُقر لهم بالعلم والديانة والفطنة والأمانة، إذ لم يدفعهم حرصهم على نقل كلام رسول الله صلي الله عليه وسلم لأن يقبلوا الحديث من أي أحد كان؛ صيانة لدين الناس وخوفًا من رب العالمين، فكان من أمرهم ألا يقبلوا حديث الكذاب، ولا المتهم بكذب، ولا الغافل غفلة شديدة، ولا الذي كثر خطؤه فصار لا يضبط، ولا يقبلون من اختلط كأن احترقت كتبه فصار يحدث من صدره ولم يكن هو من أهل ضبط الصدر، وكذلك المبتدع الذي يدعوا لبدعته، ولهم في ذلك قواعد وأصول تحار فيها العقول وتذعن لإمامتهم وورعهم، حتى إن بعض رواة الأحاديث كانوا يضطربون أشد الاضطراب إذا حضر مجلسهم أهل الجرح والتعديل من الأئمة العدول، ولقد حافظ هؤلاء الأكابر على هذا الميثاق حتى وصلنا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيا مُصفى.
فما أحوج القائمين على التعليم لمثل هذا الميثاق صيانة للعقول والأفهام وحفظًا لحق الأجيال الحالية والقادمة في علم نقي لم تلوثه أطماع الشهرة وتحقيق الأمجاد الشخصية، فلا يقبلون الانتماء لجامعة تبيع أوهام الماجستير والدكتوراه على حساب جودة التعليم وإهمالاً لكفاءة خريجيها، لا تنتمي إليها ولا تشاركها مؤتمراتها ورسائلها، ولا تتابعها، بل وحذر منها، ولا ندعوهم لجامعاتنا ولا لمناقشة رسائلنا ولا نحتفي بهم ولا نذكرهم.
إن نمط التعلم والتعليم السيبراني -شأنه شأن النمط التقليدي- تحكمه مجموعة من القیم والأخلاقيات والضوابط التربوية والحضارية التي لا بُدَّ من بيانها والتحدث عنها بشكل صريح في بداية كل مقرر سيبراني، وتوضيحها للطلاب حتى يتم الالتزام بها، وتحقيق الأهداف المنشودة من ورائها، ومن ناحية أخرى، فإن انتهاك هذه القيم وتجاوزها يُعْدُّ تصرفًا لا أخلاقیًا له عواقب وآثار وخيمة بدءًا من الآثار الشخصية الى انعدام مصداقية وجدوى العملية التعليمية والتعلمية.
إننا اليوم في حاجة ماسة إلى التركيز على قيم دينية صارت ذكريات من الماضي، لا بُدَّ أن نستعيد روح الأمانة، والمصداقية، والديانة التي اختصرت في مادة ليست بأساسية تُدَرَّس في بعض مراحل التعليم رسب فيها من رسب ونجح من نجح، لا بُدَّ أن يتكاتف الجميع لاستعادة الأخلاق في هذه الأمة، فيجلس الطالب خلف حاسوبه وكأن الأستاذ يراه وينظر إليه، لا، بل يستحضر مراقبة الله له سبحانه وتعالى، فيهتم لدرسه ويستعد ويعلم أنه مسئول، وهكذا أستاذه خلف حاسوبه يراقب الله تعالى في تلامذته وفي علمه من أين اكتسبه وكيف يعلمه غيره؟
وليعلم الجميع أننا إن قصرنا في ذلك اليوم -وللأسف هو الحاصل- فسنجني حنظلاً، فتلامذة اليوم أساتذة الغد، فانظر لتلميذك هذا أتحب أن يكون أستاذ ولدك وطبيبه والحرفي الذي سيدخل بيته وهو الذي سيصلح سيارته، ويبيعه في سوقه طعامه وشرابه، وهو نائبه في المجالس النيابية وهو جيشه وشرطته.
7-تبرعوا لبناء شبرا:
في أحد أفلام الراحل إسماعيل ياسين (1912م- 1972م) وكان في دور كمسري الأتوبيس وهو يعاني مع الركاب الذين يتهربون من دفع التذكرة بشتي الطرق، وهذا الأتوبيس يعرض شرائح مختلفة للمجتمع، وكان من ضمن أحدها رجل مهندم الثياب يجمع التبرعات قائلا: تبرعوا لبناء مستشفي نفق شبرا، بنينا المستشفي وباقي النفق، ثم بعد فترة وجيزة لم يتبرع أحد بشئ قال هذا الشخص: تبرعوا لبناء مستشفي نفق شبرا، بنينا المستشفي، وبنينا النفق، باقي شبرا؛ تبرعوا لبناء شبرا.
لم أتمالك نفسي من الضحك أمام هذا الاستغفال الواضح، ولكن سرعان ما تبدد هذا الضحك حينما تذكرت محاولات الكثيرين للاستفادة من التكنولوجيا السيبرانية الحديثة في نهضة التعليم، والتي من المفترض أنها موجهة للطلاب والتلاميذ في مختلف المراحل العمرية، فنتناقش في المناهج الحديثة وكيفية تدريب الطالب عليها وكيف ندفع الطلاب للبحث العلمي، وكذلك نبحث في العقبات التي تواجه الأساتذة والمعلمين، ونتحاور في كيفية التغلب على إشكاليات التعلم عن بُعد وقلة التلاقي الحقيقي بين الطلاب وأساتذتهم في المدارس والجامعات، وكثير من الأطروحات والأفكار، والتي هي من قبيل تبرعوا لبناء مستشفى نفق شبرا، فلقد تم بناء المستشفى والنفق، لكن أين شبرا هذه التي نبني من أجلها ونجمع الأموال والأفكار والخبرات والرؤى، وشبرا هنا هي الطالب والتلميذ، أين هو في معادلاتنا وحواراتنا ودراساتنا؟
هل عندنا إحصاءات بمستويات الطلاب من حيث إدراك التعامل مع التكنولوجيا الحديثة والاستفادة الفعلية منها؟، وهل لدينا إحصاءات بأعداد من يملكون هذه التكنولوجيا فعليا؟، وهل نملك خطوات حقيقية لتلافي هذه العقبات بتحسين مستوى الإدراك وإيصال التكنولوجيا لمن لا يملكها؟، وهل يمكن أن يندمج هؤلاء المعلمين والتلاميذ في عملية تعليمية ناجحة رغم كل الملهيات التي يعج بها ذلك الفضاء السيبراني أم سيقعون أسرى تحت وطأة شتى الملهيات النفسية والعقلية والروحية؟، وهل شاركنا هؤلاء الطلاب من مختلف الفئات العمرية والتعليمية في حوار مجتمعي بين الأساتذة والمربين وبين الشباب والصغار لنستوضح تصوراتهم وإمكاناتهم ورغباتهم والعقبات التي يستشعرونها وكذلك رؤاهم وأفكارهم التي قد تكشف لنا وتبين ما لم نكن نعلم؟
ولعل من المفيد الإشارة في هذا السياق إلى ملامح تميز تجربة التعليم السيبراني في سنغافورة، فهناك عدد من العوامل التي ساعدت مجتمعة على نجاح وازدهار ذلك التعليم السيبراني ومنها: أن أكثر من 75% من المدارس لديها نظم لإدارة التعليم السيبراني، كما تزيد نسبة المقررات المتاحة عبر الفضاء السيبراني إلى أكثر من 80%، وكذا يوجد مركز متخصص لقياس كفاءة هذا النوع من التعليم، وفضلاً عن توافر متطلبات البنية التحتية للتعليم السيبراني، وأخيرًا وليس آخرًا، وجود طلب في سوق العمل على المهارات المتصلة بالتكنولوجية السيبرانية؛ مما يُشكٍّل حافزًا للمؤسسات التعليمية على تبني مثل هذا النوع من التعليم[13].
إن عملية إصلاح الأجيال والاستفادة من العلم الحديث وإن كان مهمة المتخصصين من العلماء فرادى وجماعات لكنهم لا يستطيعون القيام بذلك وحدهم، بل لا بُدَّ من مشاركة الجميع، وأنا أعني الجميع بكل ما تحويه الكلمة من كلية واجتماع وترابط وتعدد.
8- تخوف مشروع:
لم أكن أتصور وأنا أُقَلِّب محطات ذلك الراديو الصغير والذي كان يعمل بالبطاريات الصغيرة تحمله معك حيث شئت، لم أكن أتصور حينها أنه سيتحول إلى ذكرى من الذكريات، فلم يعد يستعمله أحد الآن إلا ما نَدُر، فلم يعد له مكان مع الجوالات وأجهزة الكومبيوتر على اختلاف أشكالها وأنواعها، بل تسارعت التكنولوجيا جدًا حتى اختفت النسخ الأولى من الجوالات والتي كنا نعد مَن يملكها أول ما صُنعت مِن الأغنياء، فلو ظهر أحد من الناس يحملها الآن لكان محط سخرية الكثيرين للأسف الشديد.
والسؤال الذي لا بُدَّ منه الآن: هل نحن على القدر الكافي من الاستعداد للتطور السريع في هذه التكنولوجيا؟، وهل نحن قادرون على مواكبة ما قد يستجد من تطور هو غاية الخطورة والسرعة؟، أم أننا سنكتفي بدور رد الفعل البطئ الذي لا يقدم شيئًا بل يستهلك الأوقات والأعمار والطاقات في محاولة فهم الواقع فقط لا التعامل معه ومواكبته فضلاً عن مسابقته وتجاوزه.
ولا يخفى على الكثيرين ذلكم الذكاء الاصطناعي وصناعة الروبوتات التي تحاكي نمط تفكير الإنسان بل تتخطاه سرعة ودقة وتنوعًا في الإمكانات والقدرات، ولا تزال هوليود تعرض لنا أعمالاً سينيمائية تعرض فيها تخوفات من تسلط هذا الذكاء الاصطناعي على الجنس البشري وإخضاعه لتصرفاته ورغباته، وليس هذا مجال حديثي لكن ما أقصده أن التسارع الشديد في التكنولوجيا الحديثة لا بُدَّ أن يواكبه جاهزية ومرونة حتى لا نظل قابعين في مقاعد المتفرجين بين الأمم المتقدمة.
وأخشى أن يأتي يوم نتناقش فيه عن سلبيات الروبوتات الحديثة والتي تمثل الذكاء الاصطناعي في أبهى وأخطر صوره في عملية التعلم عن بُعد، وعدم قدرتها على الانسجام مع الطلاب والتلاميذ، وقد قل عدد الأساتذة القادرين على مواكبة التقدم التكنولوجي فلذلك استعاض القائمون علي التعليم بالذكاء الاصطناعي بديلاً عن المدرس البشري، محاولين إيجاد حل لذلك الخلل.
والمقصود هو الاستعداد اللائق وإنشاء أجيال قادرة على المواكبة والتأقلم وإحداث التغيير، فلم يعد إعداد قوالب جامدة مجديًا في شئ البتة.
وتساؤل آخر هو شبيه بصاحبه: ماذا لو تعطلت هذه التكنولوجيا السيبرانية؟، ولا يدعي مدعٍ أن هذا غير ممكن، فعالم تحيط به القنابل النووية يكفيه أخرق واحد كي يكتب آخر سطر في قصة نهاية هذا التقدم والتهور البشري، والذي مع استمراره تعاني البشرية ويلات الأمراض والحروب والمجاعات، حيث الموتى بالملايين.
وأنا فيما سبق أحكي ما تراه أعين أولي الأبصار لا أصدر أحكامًا سلبًا ولا إيجابًا، فهل نحن على استعداد إذا ما ذهبت هذه التكنولوجيا أدراج رياح التهور البشري أو على أقل تقدير لم يعد في إمكاننا الاستفادة منها لسبب أو لآخر، وأخشى أن يتفلسف متفلسف ويقول نعود كما كنا قبل هذه التكنولوجيا، أقول: وهل كان لنا مكان نطل منه قبل هذه الطفرة!، أم أن هؤلاء يعشقون مقاعد المتفرجين؟
9-“الواد بلية” و On Line:
ليس هذا العنوان من عندياتي، بل هو أحد مقالات المفكر ذائع الصيت سعيد إسماعيل علي في كتابه المعنون بـ (تعليم للبيع..؟!2020م)؛ إذ يرى أنه كأستاذ جامعي من الآباء التربويين –إن صح هذا التعبير- فهو أسير تقاليد وعادات درج عليها عشرات السنين، ومن ثم فقد وجد نفسه في حيرة شديدة، أمام أساليب تعامل استجدت، يرى من المستحيل أن تقوم بالمهام التي تكون مطلوبة في بعض المجالات، ولبعض المستويات، كيف؟
إن العَلاقة التي تجمع بين المربي والمتربي عَلاقة خاصة متميزة “وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي”؛ فهي عَلاقة تغيير وبناء متكامل للشخصية في كل أبعادها؛ إذ إن ذلكم الأستاذ -والذي للأسف لا يتكرر كثيرًا- لا يتعامل مع تلميذه معاملة عادية، بل يجعل تلميذه همه وشغله الشاغل، يحوطه ويرعاه، ويسقيه مع العلم شرابًا من الخُلُق والنضج والرشاد وحُسن التوجيه، ويختلط هذا الشراب بقلبه وعقله ووعيه ودمه.
لا نريد أن نحكم هنا حكمًا مطلقًا، ففي بعض التخصصات، وبالنسبة لبعض الدارسين، ووفقًا لبعض الظروف والملابسات، يكون التعليم “السيبراني” سبيلاً فعالاً، لكن لا بُدَّ أن نضع في الاعتبار أن هناك قطاعات في التربية والتعليم بصفة خاصة، تحتاج إلى التواصل المباشر بين المعلم وطلابه؛ فالتعليم والتعلم ليسا مجرد عمليتين آليتين، أو جهازين يصلان بين معلم ومتعلم، فهناك سياقات تمتلئ بالمشاعر والعواطف والإنسانيات تصاحب كلاً منهما، ويوم أن “تُعتقل” عمليتي التعلم والتعليم في قنوات صُلبة، مادية فقط، فإننا نقوم بهذا بعملية “تبريد” للعلاقات بين المعلم والمتعلم، فمن المهم للغاية بالنسبة للمعلم والمربي أن يشعر بأنفاس تلاميذه تتردد في حضوره، وأن يقرأ عيونهم ونظراتهم، وأن يشعر بدفء أصواتهم أو برودتها[14].
ومن المهم الانتباه إلى أهمية (المحيط) و(المجال) و(البيئة) التي تمتلئ بكبار الأساتذة والعلماء، والذي في أحضانهم تتربى وتتكون أجيال جديدة.
10-التعليم السيبراني والتعليم للجميع:
في أحد أفلام الإنمي[15]، والذي تدور أحداثه حول طباخ شهير ماهر ألَّف كتابًا في فن الطبخ والوجبات غير المعتادة، وكان من أشهر مقولاته: “الطبخ للجميع”، وحدث أن تعلم فأرٌ من كتاب هذا الطباخ الماهر ومشاهدة حلقاته عبر التلفاز، وتقود الصدفة ذلك الفأر لممارسة الطبخ في مطعم شهير جدًا، ويحاول الكاتب التركيز على هذه الفكرة من حق الجميع تعلم الطبخ، ومن حق الجميع مزاولة هذه المهنة ما دام يملك المقومات والأدوات.
ذكرنا هذا الفيلم بشيء مما يدور في جامعاتنا، إذ قد لا تتاح للطالب الفرصة للتعلم على يد بعض خبرائنا من الأساتذة الأفذاذ –كـ سعيد إسماعيل علي… وغيره؛ وذلك لأنه يدرِّس في غير جامعته، يزيد الأمر صعوبة عدم تواجد هؤلاء الأساتذة على موائد الإعلام المرئي والمسموع إلا نادرًا، والأشد ألا يعرف الطالب بأمثال هؤلاء النبلاء أصلاً.
هناك مثلٌ مشهورٌ وهو “الأساتذة المتفرغون وخيل الحكومة”؛ يضرب لبيان عدم التقدير وقلة الوفاء، فهذه الخيل أمضت عمرها في خدمة هذه البلاد ليلاً ونهارًا، ولم تفتر يومًا في أداء رسالتها، فإذا ما كبر سنها أو أصابها ما يصيب الخلق، ربما قتلوها وألقوها طعامًا للسباع في حدائق الحيوان. فهذا الأستاذ المتفرغ أمضى زهرة شبابه وريعان قوته في العلم والتعليم، حتى إذا ما كبرت سنه وضعفت أركانه جلس في بيته في إهدار تام لهذه الثروة القومية التي تتقاتل عليها الأمم القوية، فبدلاً من الاعتناء بهم وتخير الوسائل المناسبة للاستفادة من علومهم، إذا بنا نهملهم ونخسرهم أشد الخسارة.
ومن هنا، فلمَ لا يكون التعليم السيبراني تعليمًا للجميع، وقد نكأت الكورونا ذلك الجرح مرة أخرى، فمع فرصة التعلم عبر الفضاء السيبراني، صار هذا الأمر متاحًا، فلا عبرة بالتوزيع الجغرافي، ومن حق هذا الأستاذ أن يصل علمه للجميع، ومن حق الجميع أن يتعلم، وما المانع أن يكشف لنا هذا الأستاذ الخبير عن أمثال له أو حتى يسيرون على منواله ومنهجه؟، فلا يموت علمه بموته، بل يمتد أجيالاً وأجيالاً.
فيكون من دور القائمين على أمر التعليم الجامعي تيسير التعليم والتعلم لأولادنا من هذه الكوكبة من الأساتذة، والذين بدورهم سيقومون بدور المدرب الذي يبحث هنا وهناك في الأزقة والشوارع عن موهبة دفينة يضمها للفريق الأول، فكم في الزوايا من خفايا؟
11- التعليم السيبراني والعدل التربوي:
لا أحد يرفض الثورة التعليمية السيبرانية التي تحدث الآن وتأمل الارتقاء بالوطن، ولكن ينبغي مراعاة جُل الشرائح، خاصة الفقراء والمهمشين، وعدم تجاهلهم، وتوفير البيئة التعليمية المناسبة لهم؛ لتمكينهم من التعليم دون عوائق.
وفي محاولة لتسطيح منحنى فيروس (كوفيد- 19) المعروف بـ “كورونا”، ونتيجة لتطبيق سياسة التباعد الاجتماعي، تم غلق المدارس والجامعات بشكل كامل في معظم دول العالم، وتحول الطلاب والعاملين في القطاع التعليمي إلى وسائل التعلم التكنولوجي، وإجراء كل المعاملات عبر الإنترنت، وكانت عملية انتقال نظام التعليم عبر التكنولوجيا نقطة تحول أساسية وردة فعل إيجابية من قبل القطاعات التعليمية؛ لمواجهة جائحة “كورونا” في مختلف دول العالم. ونظرًا لاحتمالية استمرار مثل هذا الفيروس مستقبلاً، فقد أصبح من الضروري بالنسبة لهذا القطاع وللجهات الخاصة والعامة التفكير في استثمارات جادة للبنية التقنية الفنية للتعلم عبر الفضاء السيبراني، كما يجب المضي قُدُمًا بطرق التدريس الجديدة المواكبة لهذه المستجدات[16].
وفي السياق العالمي، فقد نفذت حكومة مقاطعة أونتاريو الكندية مشروعًا رائدًا حديثًا عُرف بـ (مشروع اتصال الشمال Contact North)؛ بهدف زيادة إمكانية وصول سكان شمال المقاطعة -الذين يعيشون في مناطق بعيدة لا تتاح لها فرص التعليم التقليدي- إلى المؤسسات التعليمية، وإتاحة فرص التعليم أمامهم، وذلك عبر توفير البرامج التعليمية السيبرانية لطلاب المرحلة الثانوية وما بعدها؛ ولذا قامت الحكومة بتوفير مراكز لتقديم فرص التعليم السيبراني من بُعد، وكذا عمل دورات تدريبية للطلاب الذين لا يحسنون التعامل مع هذه التكنولوجيا السيبرانية، فضلاً عن تمويل عمل هذه الشبكات السيبرانية وشراء الأجهزة والتعاقد مع المؤسسات التعليمية؛ بغية تحقيق وتيسير سُبُل التعليم السيبراني العادل لهذه الفئات المحرومة من هذه الخدمات[17].
وفي السياق المحلي، ونظرًا لأن المنصات التعليمية عبر الفضاء السيبراني مصممة لإعمال حق أساسي من حقوق الإنسان في التعليم، فقد سعت مؤسساتنا التعليمية لإزالة الحواجز الحائلة دون الوصول إلى التكنولوجيا، حتى يتسنى الاستفادة من عاملي الزمان والمكان، ومن انخراط أكبر عدد ممكن في العملية التعليمية في وقت قصير متجاوزًا بمراحل بيئة التعليم المثالية، وهكذا تتضمنت وسائل التعلم المرنة- في الفضاء السيبراني المصري- المنصات التعليمية، من أجل تلبية احتياجات كل الفئات خاصة المهمشة، والتي تعاني من الوصول لشبكة الإنترنت. ومن هنا، كان افتتاح المنصة التعليمية السيبرانية المعروفة باسم “ادمودو” edmodo، وهي واحدة من المنصات الإلكترونية المجانية، التي تقدم دروسًا للطلاب عن بُعد، كما تسمح بإيجاد بيئة فصل دراسي سيبراني على الإنترنت؛ ليتواصل فيها الطالب بالمعلم لتلقي الشرح، ويستطيع المدرس عقد اختبارات إلكترونية من خلالها.
خاتمة:
يُشكّل الفضاء السيبراني اليوم جانبًا ورافدًا ذا تأثير كبير على سلوك الإنسان وقيمه ومفاهيمه؛ وربما كان هذا الفضاء من أكثر الوسائل التي أدخلت تغييرات جذرية على تفاصيل الحياة اليومية لكثير من البشر على امتداد الكرة الأرضية، وهذا شيء لا يحتاج إلى برهان، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه دائمًا يكمن في كيفية استثمار إيجابياتها والحد من سلبياتها تعليميًا وتربوًيا.
وقد حاولت الورقة أن تكون بمثابة خطوة على الطريق لتشخيص حال التعليم السيبراني؛ حتى يتمكن كل واحد من معالجة مشكلاته الجديدة، وما يطرأ عليها من تحديات، واستحداث أساليب فعالة لمواجهتها. ومن ثم كان التوجه نحو معالجة بعض الإيجابيات والسلبيات المتعلقة بالتعليم السيبراني، وقد اتخذنا من المنظور التربوي والتعليمي إطارًا للكشف عن هذه الجوانب.
إن هذا الزمان هو زمان (المواطن العالمي) الذي يجوب الكون معلمًا ومتعلمًا، وآخذًا ومعطيًا، ومؤثرًا ومتأثرًا، ولا بُدَّ للتربية أن تسعى –مستفيدة من هذا الفضاء السيبراني الممتد- في تكوين هذا الإنسان فكرًا وثقافة وروحًا وخلقًا.
*****
الهوامش
[1] قول مأثور، وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
[2] عبد الكريم بكار، حول التربية والتعليم، (دمشق، دار القلم، ط 3، 2011م)، ص 6.
[3] سعيد إسماعيل علي، فقه التربية: مدخل إلى العلوم التربوية، (القاهرة، دار الفكر العربي، ط 2، 2005م)، ص 253.
[4] أحمد رجب الأسمر، فلسفة التربية في الإسلام: انتماء وارتقاء، (عَمان، دار الفرقان للنشر والتوزيع، 1997م)، ص 562.
[5] عبد الكريم بكار، حـــول التربيـــة والتعليــم، مرجع سابق، ص 19.
[6] عبد الكريم بكار، أولادنا ووسائل التواصل الاجتماعي: التوجيه والحماية، (القاهرة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، 2018م)، ص 5.
(*) هذه العبارة لم يتم الوقوف عليها مسندة عن علي رضي الله عنه، وقد نسبها بعضهم إلى سقراط، كالشهرستاني في الملل والنحل، وابن القيم في إغاثة اللهفان، بلفظ: لا تُكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم، وكذلك نُسِبت إلى أفلاطون ـ كما في التذكرة الحمدونية بلفظ: لا تجبروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. ومن حيث المعنى: فيمكن أن تحمل المقولة على معنى صحيح، فالفضائل غير الواجبة شرعًا لا يُكرَه عليها الأبناء، ومن موجبات ذلك: اعتبار تغير الزمان؛ فمثلاً، حينما يكون الناس في زمن تشيع بينهم فضيلة معينة من الفضائل يسهل عليهم امتثالها والعمل بها، بينما في زمن آخر قد يتغير الحال ويضيق مجال امتثالها، أو تطرأ موانع تعسر التزام تلك الفضائل، فهذا وجه لعدم إكراه الآباء للأبناء على الآداب التي كان الآباء يلتزمون بها، وأما الأخلاق الواجبة شرعًا فهذه ينبغي للآباء أن يلزموا بها أبناءهم قدر المستطاع، ولا يؤثر في وجوبها تغير الزمان .متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/396m0DJ
[7] عبد الكريم بكار، ابن زمانه: التربية من أجل المستقبل، (القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، 2015م)، ص ص 3- 4.
[8] أحمد زايد، الفضاءات الإلكترونية: من المعضلات الأخلاقية إلى الآثار السلبية، التفاهم، مسقط، وزارة الأوقاف والشئون الدينية، العدد 63، شتاء 2019م، ص 256.
[9] عبد الكريم بكار، أولادنا ووسائل التواصــل الاجتماعـــي: التوجيــه والحماية، مرجع سابق، ص 6.
[10] علي محمد رحومة، الإنترنت والمنظومة التكنو-اجتماعية: بحث تخيلي في الآلية التقنية للإنترنت ونمذجة منظومتهــا الاجتمــاعية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005م)، ص 70.
[11] عبد الكريم بكار، حول التربية والتعليم، مرجع سابق، ص 65.
[12] المرجع السابق، ص ص 11-12.
[13] Mohamed Iqbal Bashar & Khan Habibullah, E-Learning In Singapore: A Brief Assessment, U21Global, No. 003/2007, April 2007, Electronic copy available at: http://ssrn.com/abstract=1601611
[14] سعيد إسماعيل علي، تعليم للبيع..؟!، (القاهرة: عالم الكتب، 2020م)، ص 94.
[15] أنمي: هي أعمال الرسوم المتحركة اليابانية، ولها شهرتها حول العالم. كلمة أنمي كلمة يابانية، وهي اختصار من كلمة (Animation)، والتي تشير لجميع الرسوم المتحركة، ومنها الكرتون.
[16] ألما ماريا أوسلفادور، التعليم الإلكتروني واستمرارية إيصال المعرفة وقت الأزمات، موقع إسلام أون لاين، 31 مارس 2020، متاح على الرابط التالي: https://islamonline.net/34323
[17] Terry Anderson, Ontario,s Distance Education Network: Contact North, Alberta Journal of Continuing Education, 18, 1990, 37-55. available at: https://bit.ly/2QsRPQO
فصلية قضايا ونظرات- العدد الحادي والعشرون – أبريل 2021