التسوية الخليجية بين الضغوط الخارجية والممارسات البينية

مقدمة:

شهدت قمة العُلا في الخامس من يناير ٢٠٢١ الإعلان عن تسوية الأزمة الخليجية، التي كانت قد حدثت منذ أكثر من ثلاث سنوات ونصف عندما قطعت كل من السعودية والبحرين والإمارات بالإضافة إلى مصر علاقاتها مع دولة قطر في ٥ يونيو ٢٠١٧ وفرضت حصارًا بريًا وبحريًا وجويًا عليها[1]، بعد أيام فقط من أول جولة خارجية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ٢١ من مايو ٢٠١٧ وعقب تسلمه السلطة في الولايات المتحدة في يناير من العام نفسه.

لم تكن الأزمة وليدة اللحظة بل كانت ثلاث من هذه الدول هي السعودية والإمارات والبحرين سحبت سفرائها من الدوحة في مارس ٢٠١٤، على خلفية الموقف القطري مما جرى في مصر في الثالث من يوليو ٢٠١٣ وتغطية قناة الجزيرة للأحداث التالية له[2].

شكلت الدول الأربع المقاطعة تحالفًا رباعيًا حاول فرض شروط قاسية على الدوحة التي رفضتها جميعًا طيلة أكثر من ثلاثة أعوام، وركزت الدول الأربع في شروطها الثلاثة عشر على “دعم قطر للجماعات الإرهابية”، وعلاقاتها مع إيران وتركيا وحركات الإسلام السياسي والتغطية الإعلامية لشبكة الجزيرة، وهي الاتهامات التي رفضتها الدوحة.

على هذا الأساس دخلت المنطقة في استقطاب حاد بين قطر وحلفائها من جهة والمحور الإماراتي السعودي المصري البحريني من جهةٍ أخرى، إذ تبعت الحكومات الأربع المقاطعة حكومة اليمن المقيمة بالرياض وجزر المالديف، وجزر القمر، في  قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة قطر. وفي يوم ٦ يونيو ٢٠١٧، أعلن الأردن تخفيض التمثيل الدبلوماسي مع قطر، وإلغاء تصريح مكتب قناة الجزيرة لديه[3]، كما أعلنت سلطات موريتانيا قطع علاقاتها الدبلوماسية رسميا مع دولة قطر[4]، وفي ٧ يونيو أعلنت جيبوتي تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي معها كذلك[5].

اتجه طرفا الأزمة للتصعيد إلى حد التهديد بعمل عسكري خليجي ضد الدوحة أكثر من مرة، وتوترت العلاقات الخليجية إلى حدٍ غير مسبوق منذ تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربي في عام ١٩٨١. وقد مورست وساطات وضغوط إقليمية ودولية على طرفي الأزمة للوصول لتسوية لها على مدار سنوات، لكن يتبقى سؤال حول كيفية التوصل لتسوية لهذه الأزمة، وهل كانت الضغوط الخارجية أم الممارسات البينية هي العامل الأكبر في التوصل لتلك التسوية؟ وما مدى إمكانية أن تعود العلاقات لما كانت عليه قبلها في ظل التغيرات التي جرت في علاقات الدول الأطراف في الأزمة بأطراف من خارج المنطقة؟

أولا: تأثيرات المقاطعة على مجلس التعاون الخليجي والمنطقة العربية:

تعد المؤسسة الخليجية قوية نوعًا ما إذا ما قورنت ببقية الأطر التنظيمية والمؤسسية في المنطقة العربية، لكن أصابت الأزمة مع قطر هذه المؤسسة بما يُشبه الشلل التام سواء في تبني مواقف موحدة في ملف العلاقة مع إيران، أو القضية الأكبر بالنسبة لدول المجلس منذ سنوات وهي اليمن، أو حتى ضبط العلاقة مع مصر التي لطالما احتفظت دول المجلس بما يشبه حق النقض الفيتو على سياستها الخارجية تجاه إيران، أو حتى ضبط التفاعلات الخليجية مع الأزمات المشتعلة في المنطقة العربية في سوريا وليبيا.

وأدى هذا الجمود إلى ضرورة البحث عن بدائل وآليات تملأ الفراغ المؤسسي الذي أوجده هذا الوضع، ومن ثم، جاء التفكير في تدشين آليات للتعاون الثنائي فيما بين الوحدات الرئيسة في المجلس، حيث تم الإعلان عن تأسيس “مجلس التنسيق السعودي– الكويتي” في ١٨ يوليو ٢٠١٨، ومن قبله “مجلس التنسيق السعودي– الإماراتي” في ٦ يونيو ٢٠١٨[6]. مثل هذه الترتيبات الثنائية تزيد من التباعد بين الدول التي استُبعدت منها مثل عمان والبحرين لصالح علاقات أقوى بين دول الحصار.

هددت الأزمة مفهوم الأمن الجماعي الخليجي الذي هو أهم أسس بناء مجلس التعاون، حيث ساهمت المقاطعة في تعزيز سياسة المحاور الإقليمية وزيادة التفتت الحاصل في دول المنطقة وضعف الأدوار الجماعية في القضايا المحورية، أي أن الخلافات بدت بمجمل التصور الذي يبدو أن الرياض وأبو ظبي بدأتا في تشكيله لمنطقة الخليج خاصة، وللشرق الأوسط على وجه العموم، بما ذلك العلاقة مع إيران وتركيا والموقف من قوى الإسلام السياسي ومسألة التحول الديمقراطي، ومستقبل القضية الفلسطينية والعلاقة مع إسرائيل، بل أيضًا امتدت الأزمة لتناول الشأن القطَرَي الداخلي، ومن يتولى مسؤولية المؤسسات الوطنية وتحديد السياسات الإعلامية، وهو أمر اعتبرته قطر ماسًا بسيادتها الوطنية ويتخطى حدود الخلافات بين الدول ذات السيادة، وتشاركت كلا من الكويت وعمان التخوف ذاته من أن تصبح الأزمة سابقة لتهديد استقلالهما السياسي النسبي عن السعودية[7].

ففي مقابل سعي التحالف الرباعي لتسريع وتيرة التطبيع مع إسرائيل واستقطابها ضمن محور أشد عداء لإيران تارة تحت مسمى المحور السني في مواجهة إيران وتارة تحت مسميات أخرى، فإن قطر عززت تحالفاتها مع كلا من تركيا وإيران إلى الحد الذي أصبح الحديث معه عن عودة تامة للعلاقات كما كانت سابقًا أمرًا شديد الصعوبة. فلئن عادت العلاقات على المستوى السياسي والدبلوماسي تدريجيًا في المدى المنظور، فإن التوجهات الاستراتيجية تظل متباينة وكذلك أطر التعاون العسكري والأمني والاقتصادي أصبحت أكثر تباعدًا عما كانت عليه من قبل وأكثر ارتباطًا بمحاور وقوى أخرى.

فلقد تعززت علاقات التعاون العسكري والاقتصادي بين قطر وتركيا كما لم تكن من قبل؛ إذ عقدت الدولتان عددًا كبيرًا من الاتفاقات العسكرية والاقتصادية والتجارية وضاعفتا حجم علاقاتهما في وقت قياسي وتكثفت الزيارات كما لم تكن من قبل. فقد نمت الاستثمارات القطرية بشكلٍ كبير في تركيا، لتصل إلى ٢٢ مليار دولار في عام ٢٠١٩، وتنشط أكثر من خمسمائة شركة تركية في قطر تعمل في مشاريع البنية التحتية. وفي الوقت نفسه، كانت قطر والصين الدولتين الوحيدتين اللتين أنشأتا خطوط تبادل عملات مع تركيا لمساعدة اقتصادها المتعثر، ففي مايو ٢٠٢٠، ضاعفت قطر اتفاقاتها السابقة لدعم الاقتصاد التركي ثلاث مرات، ورفعتها إلى خمسة عشر مليار دولار لدعم الاستقرار المالي والتجارة، وفي نوفمبر ٢٠٢٠ خلال زيارة أمير قطر إلى تركيا، وقع البلدان عشرة صفقات جديدة أي أننا نتحدث عن علاقات غير قابلة للتراجع بعد المصالحة لتعدد أوجهها ولسيرورة جانب من التوافقات الدولية والإقليمية في نفس اتجاهاتها بشكلٍ كبير[8].

عززت الأزمة من تشتت الموقف الخليجي تجاه كلا من الأزمة السورية واليمنية التي كانت الدول الثلاث المقاطعة متوافقة إلى حدٍ بعيد فيها قبيل الأزمة، لتعود الإمارات لاستعادة علاقتها بنظام بشار الأسد واتهام قطر وتركيا بدعم الإرهاب على خلاف الموقف السابق من النظام السوري، ثم تنشئ المجلس الانتقالي الجنوبي وتدعمه في اليمن وتذهب بعيدًا عن الأهداف السعودية وربما المصرية ضمن التحالف بإقامتها مزيدًا من القواعد العسكرية في الجزر اليمنية أو في الجهة الأخرى من البحر الأحمر عبر القرن الأفريقي، لتنقل الصراع مع المحور التركي القطري لساحة أخرى وبأدوات أكثر حدة وتًرتب مزيدًا من التناقضات في المحاور الإقليمية وتعقد التسويات للأزمات القائمة.

كما ساهمت الخلافات البينية بين دول المقاطعة في أن تظهر بيانات قمة العلا والإجراءات اللاحقة عليها كما لو كان هناك محور مصري إماراتي يغرد بعيدًا عن السعودية التي بدت أكثر تحمسًا للمصالحة من حليفتيها التين بدتا كمجبرتين. يتضح هذا سواء من ضعف مستوى التمثيل في القمة أو من تصريحات وزراء الدول الثلاث عقب انعقادها، ثم تضارب المصالح بين النظامين في أبو ظبي والقاهرة رغم استراتيجية العلاقات، وهنا فإننا إزاء محاولة إماراتية خالصة لقيادة المنطقة على حساب كلا من الدورين المصري والسعودي وليس بالتنسيق معهما.

ثانيًا: الكويت والدور الإيجابي في التسوية:

منذ اللحظة الأولى للمقاطعة بدت الكويت منزعجة منها باعتبارها تُضعف مجلس التعاون الخليجي وتهدد الأمن والاستقرار في المنطقة، ولذا كثفت الكويت مساعيها لحلحلة هذه الأزمة سواء بمبادرات منها أو بالتنسيقات مع الولايات المتحدة والفاعلين الإقليميين لإنهاء هذه الأزمة بأسرع وقت. برز دور الكويت وأميرها الراحل، الشيخ صباح الأحمد الصباح، للوساطة وإنهاء الأزمة، حيث زار الأمير الدوحة في الثامن من يونيو ٢٠١٧، بعد زيارة السعودية والإمارات، وخلال الزيارة عقد محادثات مع أمير قطر، أطلعه خلالها على مساعيه في محاولة حل الأزمة في العلاقات بين دولة قطر وكل من السعودية والإمارات والبحرين، من أجل عودة العلاقات إلى طبيعتها ووحدة صف دول مجلس التعاون الخليجي، ورحبت قطر بالوساطة الكويتية التي ابتدأها الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، مع تأكيداتها أن الحل عبر الحوار المباشر، وفي إطار مجلس التعاون الخليجي، شريطة رفع الحصار أولا[9].

نجحت الكويت لاحقًا في تمديد المهلة التي أعطتها دول الحصار لقطر للرد عليها لمدة ٤٨ ساعة أخرى بعد انتهاء مهلة الأيام العشرة للرد على الشروط الثلاثة عشر التي وصفتها الدوحة في ردها بأنها وُضعت لترفض[10].

وفي ٨ سبتمبر ٢٠١٧، جرى اتصال هاتفي بين أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وذلك بتنسيق مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتم خلال الاتصال بين ترامب وأمير قطر، وفق ما نشرته وكالة الأنباء القطرية (قنا)، بحث التطورات المتعلقة بالأزمة الخليجية في ظل مساعي دولة الكويت لحلها عبر الطرق الدبلوماسية وعن طريق الحوار بين جميع الأطراف لضمان أمن واستقرار المنطقة، الوكالة أكدت أيضًا أن الاتصال بين أمير دولة قطر وولي العهد السعودي جاء بناءً على طلب من الرئيس الأمريكي[11].

رغم الاتصال بين أمير قطر وولي العهد السعودي، أعلن أمير الكويت الراحل، الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، في اليوم نفسه، عن أن جهود بلاده الدبلوماسية أثمرت عن إيقاف تدخل عسكري ضد قطر، وخلال مؤتمر صحفي جمع حينها الشيخ صباح الأحمد مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في العاصمة واشنطن قال: “الحمد لله، المهم أوقفنا أن يكون شيء عسكري”، وهو التصريح الذي قوبل باستنكار دول الحصار التي أصدرت بيانًا مشتركًا قالت فيه إنها “تأسف على ما قاله أمير الكويت عن نجاح الوساطة بوقف التدخل العسكري”، مؤكدة أن “الخيار العسكري لم ولن يكون مطروحًا بأي حال، وأن الأزمة مع قطر ليست خلافًا خليجيًا فحسب، لكنها مع عديد من الدول العربية والإسلامية”[12].

لم تتوقف المساع الكويتية لحل الأزمة الخليجية، فخلال القمة الخليجية الـ٣٨ في الكويت، التي حضرها أمير قطر، في ٥ ديسمبر ٢٠١٧، وغاب عنها زعماء السعودية والإمارات والبحرين،  دعا أمير الكويت الراحل إلى إنشاء آلية لفض النزاعات بين دول مجلس التعاون الخليجي[13]، وهو تطور جيد لضمان ألا تتكرر مثل تلك الأزمة وأن تكون هناك آليات خليجية لحلحلة نظيراتها.

على الرغم من هذه الجهود، فإن السعودية عادت مجددًا للتهديد بالحل العسكري ردًا على مساعي قطرية للحصول على منظومات روسية للدفاع الجوي، حيث إن قطر وروسيا وقعتا اتفاقًا للتعاون العسكري والفني في ٢٠١٧، ونُقل عن سفير قطر لدى روسيا قوله في يناير ٢٠١٨، إن بلاده تجري مباحثات لشراء أنظمة صواريخ روسية للدفاع الجوي من طراز إس-400[14].

في النصف الثاني من العام ٢٠١٩ تكثفت الجهود الكويتية لجمع الفرقاء وظهرت بعض المؤشرات الإيجابية حول قرب التوصل إلى تفاهم خليجي، في مقدمتها حضور رئيس الوزراء القطري السابق عبد الله بن ناصر آل ثاني اجتماع دول مجلس التعاون الخليجي الطارئ في مكة، في مايو ٢٠١٩، لمناقشة المخاوف الأمنية الجماعية لدول الخليج أعقاب الهجمات على ناقلات النفط وخطوط أنابيب النفط السعودية، في زيارة هي الأولى لمسؤول قطري إلى المملكة منذ بدء الحصار، لاحقًا، تداولت صحف غربية أنباء حول زيارة سرية قام بها وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى السعودية في نوفمبر، كما وُجهت دعوة من المملكة لأمير قطر لحضور القمة الـ ٤٠ لمجلس التعاون إلا أنه أوفد رئيس وزرائه. وبشكل عام كانت التوقعات لا تزال مرتفعة لدى الطرف الآخر الذي ظل متمسكًا بشروطه القاسية وانهارت مؤشرات التقارب[15].

ظل الوضع أشبه بالمجمد إلى أن دفعت إدارة ترامب بجاريد كوشنر لزيارة طرفي الأزمة لمحاولة دعم الجهود الكويتية لإنجاز المصالحة قبل مغادرته البيت الأبيض، حيث أعلن وزير الخارجية الكويتي الشيخ أحمد الناصر الصباح، في ٤ ديسمبر ٢٠٢٠، أن الجهود التي بذلتها القيادة السياسية الكويتية لحل أزمة الخليج أدت إلى نتائج مثمرة. وأوضح الوزير الكويتي، في بيان مقتضب، أن “مباحثات مثمرة جرت خلال الفترة الماضية، بشأن جهود تحقيق المصالحة الخليجية”. وأشار إلى أن “كل الأطراف التي شاركت في مباحثات المصالحة أعربت عن حرصها على الاستقرار الخليجي”، معربًا عن تقديره لجاريد كوشنر كبير مستشاري الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وعقب البيان، رحبت قطر والسعودية وعُمان ومجلس التعاون الخليجي بالجهود التي بذلت لحل الأزمة.

كما أعلن وزير الخارجية الكويتي، الشيخ أحمد الناصر الصباح، عن اتفاق لفتح الأجواء والحدود البرية والبحرية بين السعودية وقطر، اعتبارًا من مساء الاثنين 4 يناير 2021، بعد أن أجرى أمير البلاد، الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح، اتصالين مع أمير دولة قطر وولي العهد السعودي؛ من أجل توقيع بيان القمة الخليجية بمحافظة العُلا.

دعمت عمان وتركيا الوساطة الكويتية بشكلٍ كبير[16]، كما أن الإدارة الأمريكية كانت تدعم تلك الوساطة بشكلٍ أو بآخر. فهي لم تكن تريد أن تبدو منحازة لأي طرف بما يمكنها من استغلال الأزمة في الحصول على مزيد من العقود والمزايا الاقتصادية ومزيد من الضغوط على الطرفين لزيادة صادرات الأسلحة والحفاظ على تزايد التخوف من إيران.

ومع ذلك، وبرغم ترحيب غالبية دول المنطقة بالتسوية، تبقى مساراتها متباينة ورهينة قدرة السعودية على تحجيم الدور الإماراتي في المنطقة، ورهينة للتطور في العلاقات الثنائية بين الدوحة ودول الحصار.

ثالثًا: التطورات الإقليمية المؤثرة والدافعة باتجاه التسوية:

خلال سنوات المقاطعة شهدت المنطقة عدة أحداث شديدة التأثير على سياساتها ومجريات الأمور فيها، ففي نهاية العام ٢٠١٨ انطلقت الموجة الثانية من الربيع العربي في كلٍ من السودان والجزائر والعراق ولبنان، وفي كل هذه الانتفاضات كان واضحًا الهتاف ضد المحور الإماراتي السعودي المصري ورموزه بشكل أو بآخر. وكانت التغطية الإعلامية للجزيرة للأحداث سببًا في تعزيز قطر لنفوذها الإعلامي وتعاطف الشعوب معها، وهو ما اتضح بشكلٍ كبير على مواقع التواصل الاجتماعي إلى الحد الذي جعل دول الحصار تتخذ مواقف متشددة ضد مواطنيها المتعاطفين مع قطر سواء بفرض عقوبات كما هو الحال في الحالة الإماراتية أو بالتضييقات الأمنية في مصر والسعودية.

على جانب السياسات، برغم ما تقدمه الإمارات من مغريات اقتصادية للجانب العسكري في السودان مقابل تأييد مواقفها، فإنها فشلت في الحصول على ما تريد حتى الآن. وقد كان للثورة في السودان تأثير كبير على التحالف العربي في اليمن إذ سحبت سودان ما بعد البشير ١٠ ألاف جندي من إجمالي قواتها المشاركة في الحرب في اليمن ليتبقى فقط ٥ آلاف جندي، وبالتالي فقد عززت تلك الخطوات الرؤية القطرية القائلة بأن لا حل عسكري للوضع في اليمن ما أضعف موقف التحالف[17].

أيضًا فإن أحد أهم أوجه الخلاف بين قطر والإمارات، وهو الأزمة في ليبيا، بدت في طريقها للحل مع فشل حفتر في السيطرة على الغرب الليبي وحل الأمر عسكريًا، وبالتالي فشل المنظور المصري الإماراتي الداعم له، وإعلان أطراف الأزمة الليبيين عن وقف متبادل لإطلاق النار في أغسطس ٢٠٢٠ بسبب تداعيات أزمة كورونا، ونجاح المسار الأممي في الضغط على الأطراف الإقليمية من أجل الاعتراف باستحالة الحل العسكري ووقف الدعم للحرب.

كما حدث تباعد بين السعودية والإمارات بعد اعتماد الأخيرة مقاربة تحقيق مصالحها عبر ميليشيات موالية في اليمن بدلا من التورط بنفسها وتجنبًا لضربات مماثلة لتلك التي حدثت للمنشآت النفطية السعودية، حيث أعلنت الإمارات على نحوٍ مفاجئ في فبراير ٢٠٢٠ سحب قواتها من حرب اليمن في خطوة من الواضح أنه لم تقم بتنسيقها مع السعودية، التي كانت مضطرة في المقابل لتخفيف تعنتها وقبول الدخول في مفاوضات غير مباشرة مع الحوثيين، رغم مواصلتهم استهداف منشآت المملكة وأراضيها بالصواريخ والطائرات المسيرة، وفيما قادت سياسات الإمارات المملكة لموقف متشدد تجاه إيران فإنها ظلت محتفظة بعلاقات قوية معها[18].

استغلت تركيا الأزمة لتمتين علاقتها بقطر كما لم تكن من قبل، على سبيل المثال: الإسراع بتزويدها بالنواقص الأولية من السلع والمنتجات الغذائية، حيث قامت تركيا، بصفتها الحليف الإقليمي الرئيس للدوحة، بإنشاء جسر جوي لكسر الحصار الاقتصادي المفروض على قطر. وخلال الساعات الأولى من الحصار في ٦ يونيو ٢٠١٧، بدأت البضائع التركية بالتدفق إلى الدوحة عبر طائرات الشحن الجوي التابعة للخطوط الجوية التركية محملة بالمواد الغذائية، وفي غضون٤٨ ساعة، كانت البضائع التركية قد تدفقت إلى السوق القطرية، منهية بذلك أية إمكانية لخنق قطر بشكل فجائي من قبل رباعي الحصار.

وفي أقل من عشر أيام، كانت طائرات الشحن العملاقة التركية والقطرية قد أجرت ما لا يقل عن٤٠ رحلة نقلت خلالها حوالي ٢٨٠٠ طن من المواد الغذائية. بالتوازي مع ذلك قامت تركيا بإرسال أولى سفنها البحرية المحملة بـ4 آلاف طن من الأغذية والبضائع إلى الدوحة في ٢١ يونيو٢٠١٧، وذلك لتخفيف التكاليف والحفاظ على تدفق البضائع بشكل مستمر، تم بعد ذلك تدشين خط بحري تركي-قطري مباشر من ميناء إزمير إلى ميناء حمد وذلك ضمن سلسلة من الخطوط البحرية الجديدة المباشرة التي تم افتتاحها بين الدوحة وعدد من مدن العالم في الكويت وعُمان والهند وباكستان، كما سعت تركيا للتفاهم مع إيران لتسهيل نقل البضائع والسلع برًا إلى قطر[19].

قامت تركيا أيضًا بالإسراع في إقامة قاعدة عسكرية في قطر وتعزيز التعاون العسكري بين البلدين لتجنب أية عملية عسكرية لدول الحصار، إذ إن قطر كانت وقعت مع تركيا عام ٢٠١٤ اتفاقية بشأن إنشاء قاعدة عسكرية تركية في الدوحة، وصادق البرلمان التركي على الاتفاقية واعتمدها في يونيو ٢٠١٧ بعد أيام من الأزمة الخليجية، وعلى أساسها أرسلت أنقرة دفعتين من القوات التركية إلى قطر في مهام تدريبية[20]. كما أُعلن عن إنشاء قاعدة أخرى في نهاية عام ٢٠١٩. وإن هذا التطوير للعلاقات بين قطر وتركيا بقدر ما هو مهم بالنسبة لتركيا لتعزيز نفوذها في الخليج العربي، فإن إقرار البرلمان التركي نشر الجنود في قطر والتصريحات الرسمية الصادرة عن أنقرة أفادتا الدوحة معنويًا وسياسيًا بشكل كبير، بل وساهما في تخطي الأزمة مخاطر الانزلاق نحو تصعيد عسكري أو حلول خشنة غير مرغوبة، بعد أن كانت بعض التصريحات الأولية توحي بذلك أو تهدد به[21]، وهو ما عزز من جهود الكويت ودفع بعض دوائر الإدارة الأمريكية للضغط على حلفائها بتخفيض التوتر خاصةً أن القاعدة الأمريكية في قطر تعد الأكبر في الخليج، وأن توسع الوجود التركي العسكري خارج حلف الناتو يعد تطورًا تتحفظ عليه الولايات المتحدة.

كما انتهزت إيران الفرصة لتعزيز علاقتها مع الدوحة؛ سواء بفتح أجوائها أمام الطيران القطري الذي هو أحد عناصر تميز نفوذ قطر التي تملك واحدة ضمن أفضل خطوط الطيران العالمية، وبشكل أو بآخر فإن دول الحصار خسرت بعض الرسوم الخاصة بعبور الطيران القطري في أجوائها جراء هذا الحصار. على جانب آخر، سارعت إيران بعرض تزويد قطر بكل ما تحتاج من سلع ومنتجات غذائية كانت تزودها بها دول الحصار، لكن  قطر اختارت الانفتاح الانتقائي ذي الطبيعة الاقتصادية بالذات على إيران مع تحقيق التوازن بينها وبين تركيا، وقد دخلت إيران في اتفاق ثلاثي مع قطر وتركيا لتسهيل نقل السلع والبضائع التركية برًا إلى قطر لتخفيض وقت النقل البحري بين تركيا وقطر.

أيضا فإن إسرائيل استغلت الأزمة في الترويج لكونها حليف لدول المنطقة سواء في مواجهة إيران أو الإرهاب، بما في ذلك الحركات الإسلامية وعلى رأسها حركات المقاومة التي كانت قطر تستضيف مكاتبها والعديد من مسئوليها. علمًا أن قادة دول الحصار كانوا يستخدمون ذات المصطلحات الغربية في الحديث عن الإرهاب الإسلامي ويتبنون أقصى الخيارات في مواجهة كافة حركات الإسلام السياسي، حتى أن الشروط الثلاثة عشرة لدول الحصار تضمنت التوقف عن دعم الدوحة واحتضانها واستضافتها قادة المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس، وهو الأمر الذي دفع قيادات إسرائيلية عديدة للترحيب بالحصار وتأييد تطوراته واستخدامها للترويج لصفقة القرن وما يمكن أن تلعبه إسرائيل من أدوار في إطار تحالف سني لمواجهة إيران[22].

في هذه الأثناء عززت قطر موقفها عبر كافة الوسائل الدبلوماسية؛ إذ ضمنت تحركاتها تحالفات استراتيجية مع تركيا وتعزيزًا لعلاقاتها مع إيران والاتحاد الأوروبي، وقد صعدت الموقف في قضية اختراق موقع وكالة الأنباء القطرية وصفحات وزير الخارجية على مواقع التواصل الاجتماعي، كما صعدت في قضية القنوات الرياضية السعودية وحقوق بث مجموعة بي إن سبورت، بالإضافة للتحقيقات الإعلامية المتميزة التي قدمتها الجزيرة لقضايا الفساد داخل الإمارات، كما استغلت الدوحة القنوات الدبلوماسية الثنائية والجماعية لإدانة هذا الحصار على نطاق واسع، وهو ما شكل أدوات ضغط إقليمية ودولية جيدة على دول الحصار على نحوٍ ساهم في تفكيك الموقف وحلحلة الأزمة دون استجابة قطرية لمشروطيات دول الحصار.

رابعًا: الجهود الأمريكية: أية سياقات لنجاح الضغوط؟:

منذ بداية الأزمة الخليجية لم تتوقف أيضًا الجهود الأمريكية لإنهائها، ففي بداية الأزمة طلبت واشنطن من دول الحصار إعلان الشكاوى والشروط التي تطلبها من قطر، وبعد تأخر دام حوالي ثلاثة أسابيع، أعلنت الدول الأربعة ١٣ شرطًا قالت إنها مطالب لا تخضع للتفاوض وينبغي على قطر أن تستجيب لها بشكل كامل خلال عشرة أيام (على نحو ما ذُكر).

كانت الدوحة تدرك أن وجود القاعدة العسكرية الأمريكية على أراضيها هو الضامن الأكبر لعدم التصعيد وصولا لعمل عسكري، فيما كانت تراهن الرياض وأبو ظبي على موقف ترامب وشعاراته في مكافحة الإرهاب، وصفقاتهما الكبيرة مع الإدارة الأمريكية من أجل التصعيد لأقصى مدى والذي بدا واضحا في الشروط التعجيزية التي سلمتها دول الحصار لواشنطن، فيما سلمت قطر ردها عليها للكويت وذلك ترسيخًا لمبدأ الحلول الخليجية للمشكلات الخليجية، وجاءت تصريحات وزير خارجيتها عن عدم قدرتها على التجاوب مع المطالب لأنها غير حقيقية وتجرد الدوحة من حقوقها السيادية وأدوات سياستها الخارجية وتدمغها فعلا بتهمة دعم الإرهاب، ومن ثم كان التصعيد ثم تجميد الأزمة لمدة زمنية هو الخيار الأكثر منطقية في بداية الأمر[23].

في الأيام الأولي للأزمة لوحظت الفجوة بين مؤسسات صنع السياسة الخارجية الأمريكية؛ إذ بدا تضارب واضح بين وزارتي الدفاع والخارجية من جهة والرئاسة من جهةٍ أخرى. الأمر الذي اتضح في تصريحات الرئيس ترامب، الذي قرّر أن يصبّ الزيت على نار الأزمة، إذ أطلق سلسلة من التغريدات بعد يوم واحد من قطع العلاقات مع قطر تبدو تبنيًا للموقف السعودي الإماراتي، إلى الحد الذي فُسرت به الأزمة كثمرة من ثمار زيارته للسعودية وتنسيقه مع كلٍ من ولي عهد الإمارات محمد بن زايد وولي عهد السعودية محمد بن سلمان.

وفي المقابل، فإن وزارتي الخارجية والدفاع خاضتا مسيرة مكوكية لتجاوز التأثير السلبي لتصريحات ترامب. فقد أعادت السفيرة الأمريكية لدى الدوحة التأكيد على الشراكة بين البلدين، ودعا وزير الخارجية ريكس تيلرسون ووزير الدفاع جيم ماتيس، إلى ضبط النفس والحوار، وأعربا عن ثقتهما بأن قرار قطع العلاقات مع قطر لن يقوّض العمليات العسكرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وكان من الطبيعي أن يشكّل هذا الأمر مصدر قلق لهما، باعتبار أن قاعدة العُديد الجوية في قطر هي مركز العمليات العسكرية الجوية الأمريكية في الشرق الأوسط. كما عقد كلٌّ منهما على حدة سلسلة من اللقاءات في واشنطن مع وزيرَي الخارجية السعودي والإماراتي، ووزير الدفاع القطري، ومستشار الأمير القطري، وبديا مُصمّمَين على الإشارة إلى أن العلاقات مع الدوحة لم تتضرّر.

وفي ١٢ يونيو٢٠١٧، قال ماتيس في كلمة أمام الكونجرس إن قطر “تسير على الدرب الصحيح” في الجهود التي تبذلها لكبح جماح تمويل الإرهاب. وبعد يومين، وقّعت قطر والولايات المتحدة صفقة بقيمة 12 مليار دولار تقضي ببيع قطر ٣٦ طائرة مقاتلة من طراز بوينغ F-15، كما باشر الطرفان تدريبات بحرية مشتركة كانت مقرّرة مسبقًا ودامت ثلاثة أيام[24].

في ٢٢ أكتوبر ٢٠١٧ استقبل أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في الدوحة، وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون، حيث جرى بحث آخر مستجدات الأزمة الخليجية، واستعراض المساعي الأمريكية والدولية الداعمة لوساطة دولة الكويت لحل الأزمة، وتداعياتها الإقليمية والدولية، أي أن الولايات المتحدة كانت أقرب إلى التسليم بضرورة حل الأزمة خليجيًا عبر الوسيط الكويتي وفي إطار مجلس التعاون الخليجي.

وقد واصلت الولايات المتحدة تحركاتها لحل الأزمة الخليجية، إذ التقى وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو في ٢٩‏ أبريل ٢٠١٨، العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده محمد بن سلمان، وأجرى معهما مباحثات، حول سبل حل الأزمة الخليجية.

واستمرت الأزمة قرابة العام تراوح مكانها بعد توتر العلاقات بين واشطن والرياض بسبب مقتل خاشقجي، لم يتخلله سوى لقاء بومبيو بنظيره القطري في ١٣ يناير ٢٠١٩ ثم بولي العهد السعودي في اليوم التالي. ورغم التوتر في العلاقات بين واشنطن والرياض بسبب قضية مقتل خاشقجي إلا أن إدارة ترامب وتحديدًا وزارة الخارجية كانت تدفع باتجاه إقناع السعودية وقطر بتجاوز الأزمة بينهما، بهدف التركيز على الهدف الأهم لواشنطن في المنطقة وهو التصدي للنفوذ الإيراني، لكن تعنت دول الحصار أفشل هذه المحاولات. إذ سبق هذا اللقاء بأيام استقالة أنتوني زيني المبعوث الأمريكي للوساطة بين قطر وبعض جيرانها، وكبير المفاوضين لتشكيل التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط أو ما يُسمى التحالف السني، والذي كان سيُلزم الحكومات السنية في السعودية والكويت والإمارات وقطر وعمان والبحرين ومصر والأردن بمعاهدة أمنية وسياسية واقتصادية بقيادة الولايات المتحدة للتصدي لإيران[25].

عادت الولايات المتحدة للوساطة لحل الأزمة الخليجية بعد ما يزيد عن العام من جمود الموقف الأمريكي، فقد حث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد على اتخاذ خطوات لحل الأزمة الخليجية، وخلال اتصال هاتفي بين الجانبين، ٢٣‏ أبريل ٢٠٢٠، أكد ترامب أهمية حل الأزمة الخليجية والتعاون للتغلب على فيروس كورونا، والتخفيف من تداعياته الاقتصادية، والتركيز على القضايا الإقليمية الحساسة، وظلت الأزمة الخليجية رهينة خطابات المرشحين للانتخابات الأمريكية طيلة هذا العام وعولت أطرافها على مرشحين مختلفين للفوز بهذه الانتخابات.

وبرغم من كثافة جهود الولايات المتحدة الأمريكية لحلحلة الأزمة في عهد ترامب إلا أنها كانت مستفيدة من استمرارها إلى حدٍ كبير، فالإدارة الأمريكية استطاعت استغلال الأزمة في عقد صفقات كبرى مع دول الخليج العربي فرادى تارة وجماعات تارة؛ بدعوى ضرورة أن تدفع للولايات المتحدة كلفة حمايتها لها من إيران أو من الإرهاب وكلفة الحرب عليه في المنطقة، فقد مارست إدارة ترامب ابتزازات غير مسبوقة على السعودية وتخلّى عن كل واجب للتحفظ أمام تجمع انتخابي في ولاية فرجينيا الغربية، عندما طلب ترامب مالا أكبر من الرياض نظير ما يقدمه لها من دعم عسكري: “قُلت للملك سلمان لديك تريليونات من الدولارات ومن دوننا الله أعلم ماذا سيحدث.. السعودية معنا في أمانٍ تام، لكننا لا نحصل في المقابل على ما يجب”. واستطرد قائلا: “نحن ندعم جيوشهم لذلك دعوني أسأل: لماذا ندعم جيوش هذه الدول الغنية؟ أمر مختلف أن نقدم الدعم لدول تعيش وضعًا صعبًا وخطيرًا مع فظائع قد تؤدي إلى مقتل الملايين، لكن عندما تكون لديك دول غنية كالسعودية واليابان وكوريا الجنوبية، فلماذا إذن ندعم جيوشها؟ لأنهم سيدفعون، المشكلة أن لا أحد طالب بذلك من قبل”[26].

ورغم أن إدارة ترامب وقعت أكبر صفقاتها مع دول الخليج قبيل الأزمة بأقل من شهر أثناء القمة الإسلامية الأمريكية بالرياض في ٢١ مايو ٢٠١٧، والتي قُدرت بـ ٤٠٠ مليار دولار، في إطار التوافق السعودي الأمريكي على التصعيد ضد إيران وعزلها واحتوائها، إذ صرح ترامب خلال القمة “أن النظام الإيراني هو الممول الأساسي للإرهاب الدولي”، وأنه “يغذي الكراهية” في منطقة الشرق الأوسط كلها، ولا سيما في سوريا، وأن كلا من “حماس” و”داعش” و”حزب الله” و”القاعدة” تمثل أشكالا مختلفة للإرهاب، داعيا الدول ذات الأغلبية المسلمة إلى أن تتزعم الجهود العالمية لمحاربة الإرهاب، “من الضروري ألا تنتظر دول الشرق الأوسط من الولايات المتحدة أن تحارب الإرهاب نيابةً عنها”، وفي تطابق تام مع موقف الرئيس الأمريكي، قال الملك سلمان، الذي انطلقت بخطابه أعمال القمة العربية الإسلامية الأمريكية، إن “النظام الإيراني يشكل رأس حربة الإرهاب العالمي منذ ثورة الخميني وحتى اليوم”[27].

لكن الإدارة الأمريكية وفقًا لبعض التحليلات كانت منقسمة بين رؤية البيت الأبيض المتشددة تجاه قطر وإيران، ورؤية وزارة الدفاع ووزارة الخارجية الأمريكية التي كانت تقوم على ضرورة منع تدهور الأوضاع إلى حد الحرب على قطر (كما سبقت الإشارة)، مع ضرورة الدفع باتجاه تسوية سياسية للأزمة حتى لو مورست ضغوط على قطر من أجل الاستجابة لبعض الشروط المطروحة من الجانب الآخر[28]، وربما كان هذا التفاوت في المواقف سببًا جيدًا في الدفع باتجاه التهدئة ومحاولة الحلحلة قبيل الانتخابات الأمريكية نهاية ولاية ترامب، خاصةً عقب الإحراج الذي طاله بالاستقالات المتتالية للعديد من مسئولي البيت الأبيض والبنتاجون ومن ضمنهم وزير الدفاع جيم ماتيس وجون كيلي كبير موظفي البيت الأبيض السابق وبريت مكجورك المبعوث السابق للتحالف الدولي للتصدي لتنظيم الدولة الإسلامية.

كما كان تزايد الانتقادات الداخلية للانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني في ٢٠١٨، وفرضه عقوبات مضاعفة عليها واتباع سياسة حافة الهاوية معها كأحد أوجه الاستجابة الأمريكية لتوجهات دول الحصار التي كانت تتبنى أقصى ضغوط ممكنة على طهران وخصوصًا بعد الصفقات الاقتصادية الضخمة مع تلك البلدان.

علمًا أن هذه التطورات أدت إلى نتائج عكسية فيما يتصل باستمرار التصعيد في المنطقة والانقسام بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، كما أن الولايات المتحدة لم تتخذ أي فعل دفاعي عن حلفائها، الذين لم يسهم تحالفهم معها فعليًّا في حمايتهم عندما تعرضت منشآت النفط في السعودية مثلًا لهجوم صاروخي من قبل الحوثيين في سبتمبر ٢٠١٩، وكانت تعتقد الإدارة الأميركية أن إيران تقف خلفه، لكنها لم تقم بأي رد عسكري، بل على العكس استغلت تصاعد تلك التهديدات للضغط على دول الخليج لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل بذريعة مقاومة الخطر الإيراني، ونجحت في ذلك مع الإمارات العربية والبحرين. وهو ما يؤكد أن إدارة ترامب استغلت الأزمة الخليجية ولم تتراجع عن التوجهات السابقة التي تقول بالانسحاب من المنطقة، والتركيز على احتواء الخطر الصيني في المحيط الهادئ الأمر الذي جعل الشركاء في الخليج وبالذات السعودية تحاول إعادة حساباتها للتعامل مع التوجهات الأمريكية الجديدة لإدارة بايدن التي كانت تعلن أنها بصدد العودة للاتفاق النووي مع إيران[29].

على جانب آخر، وضعت التقارير الأممية حول الأوضاع في اليمن، الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين في موضع حرج إزاء الدعم العسكري الكبير للتحالف العربي في اليمن بقيادة السعودية والإمارات، مع ذلك كانت الدولتان تعولان على نجاح ترامب في الانتخابات الأمريكية فيما كان التفكير الأمريكي في أن دول الخليج لا تزال قادرة على دفع مزيد من المال لإدارته من أجل حل المشكلات الاقتصادية الداخلية وتعزيز فرص ترامب في الفوز في الانتخابات القادمة حينذاك. ولكن مع استمرار الأزمة الخليجية رأت واشنطن أنها أثرت عليها سلبياً في مجالات متعددة منها العسكري والمالي والأمني، إذ قادت لتقوية تحالفات إيران مع كلا من قطر وتركيا وروسيا بشكلِ ملحوظ.

إزاء هذه النجاحات غير المكلفة لإيران في اختراق المنطقة أكثر، فإن الإدارة الأمريكية كانت تأمل في تكثيف التعاون والاستمرار في حلفٍ يواجه تحديات كبيرة، يضم جبهة معادية لإيران تجمع السعودية والإمارات والسعودية وإسرائيل والولايات المتحدة، ويحاول إبعاد السعودية عن أهداف تنويع علاقاتها العسكرية ويضمن حصرها في الدوائر الغربية الحليفة لواشنطن سواء كانت المملكة المتحدة أو فرنسا أو ألمانيا[30]. هذا التحالف الذي عُرف لاحقًا بالتحالف السني في مواجهة إيران، الأمر الذي وضع السعودية في موقف حرج أكثر مع الشعوب العربية إذ أصبح هذا التحالف موضع سخرية كبرى على مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية.

في الوقت نفسه كانت واشنطن تضغط باتجاه عدم تعزيز قطر علاقاتها أكثر مع إيران وتركيا، حيث كانت قطر قد انسحبت من التحالف العربي في اليمن بعد المقاطعة بأيام، وهو الموقف الذي برره وزير خارجيتها باختلاف الأهداف عما كانت عليه الحملة في بدايتها وانتقالها من الدفع باتجاه تسوية سلمية للأزمة إلى حرب ممتدة تمارس فيها القوة التي تدمر البنى التحتية وتنتهك حقوق اليمنيين وتسيء لسمعة التحالف، بالإضافة إلى التباعد في أهداف المتدخلين وتحديدًا الانقسام بين الموقفين السعودي والإماراتي في هذه الحرب ما أدى لابتعادها عن تحقيق أهدافها[31].

خاتمة:

برغم وجود جهود أمريكية وعمانية وبعض الجهود الأوروبية الأخرى للتسوية الخليجية، فقد كانت الجهود الكويتية هي الأنجح في هذا المسار من أجل التسوية. وقد وظفت الجهود الأخرى بشكل ناجح على الرغم من وفاة أمير الكويت قبل إتمام المصالحة، فإن أميرها الجديد استأنف جهود سلفه للتأكيد على الدور الكويتي الحكيم في حلحلة الأزمات الخليجية داخل البيت الخليجي.

على الرغم من ذلك، قادت التطورات الإقليمية بشكلٍ مباشر وتفاعلاتها مع التغير في الإدارة الأمريكية إلى تسهيل هذا الدور الكويتي لحلحلة الأزمة الخليجية، لكن هذه العلاقات الخليجية لن تعود لسابقتها بسهولة إما لتعزيز أطرافها لتحالفاتهما بعيدًا عن المحور الخليجي نفسه أو لاستغلال القوى الإقليمية من خارج المنطقة العربية لهذه الأزمة في تعزيز نفوذها وعلاقاتها بأحد أطراف الأزمة، أو لاتجاه أطرافها لبناء علاقات ثنائية وكذلك لأن قمة العلا تركت تطوير العلاقات لمسارات ثنائية.

كانت النتائج التي أدت إليها الأزمة الخليجية في عكس اتجاه وتقديرات دول الحصار، فلقد أصبحت قطر أكثر اقترابًا من إيران وتركيا اللتين ساهمتا في إفشال مفاعيل الحصار بريًا وبحريًا وجويًا وأثبتتا نجاعة التحالفات معهما، بل إن سلوكهما خلال الأزمة يعد نموذجًا قد يشجع أطراف أخرى بالمنطقة على إنشاء وتطوير علاقات أقوى معهما، وربما كان هذا واضحًا لحكومة الوفاق الوطني الليبية وقد يصبح كذلك بالنسبة لتونس أو الجزائر أو حتى دولا أخرى في المنطقة العربية وخارجها.

في هذه الأزمة قدمت قطر نموذجًا فريدًا يدرس في التعامل مع الأزمة واستبدال تحالفات تقليدية وتعزيز توازن بين حلفائها الجدد، كما قدمت تركيا نموذجًا لعلاقات استراتيجية في وجه تحديات إقليمية ودولية جمة، ومن ثم فإن هذا النموذج قد يجري الترويج له لتعزيز سياسة المحاور الإقليمية التي رسختها الأزمة والتي هي أكبر من أن تُحل بمجرد توافقات ثنائية جماعية تكتيكية للحل.

 ومن ثم على المنطقة العربية أن تعزز أطرها الجماعية للتعامل مع المشروعين التركي والإيراني بما يحد من الصراعات، ويعزز المصالح المشتركة، ويقدم نماذج للممارسات البينية التعاونية في حل الأزمات.

يمكن للمنطقة البناء على الأدوار الكويتية والعمانية البناءة في إدارة حوار حقيقي حول الخلافات في التوجهات الاستراتيجية للتعامل مع قضايا المنطقة الرئيسية، وأهمها: موجات الربيع العربي التي لا تزال قائمة وقابلة للتجدد في أي وقت، وكذلك تطوير آلية للتعامل مع تيارات الإسلام السياسي المعتدلة كمكون وطني بديلا عن شيطنته، بل واستخدامه في عزل التيارات العنيفة وترويضها بدلا من استدعاء حلفاء من خارج المنطقة بتكلفة مرتفعة تخصم من استقلالها وتنميتها.

أثبتت الأزمة والتطورات اللاحقة لها أن لا يمكن الركون للولايات المتحدة كحليف دائم في مواجهة التحديات الأمنية والسياسية التي تحدق بالمنطقة، ومن ثم على دولها البحث عن آليات وتحالفات أكثر توازنًا والبحث عن تواصل مباشر مع إيران أقل كلفة من سياسات حافة الهاوية التي اُتبعت أمريكيًا وتم تشجيعها سعوديًا وإماراتيًا، مع تطوير آليات دفاع وتعاون مشترك بين دول المنطقة باتفاقات استراتيجية تكون رادعًا لأية مشروعات توسعية.

_______________________

الهوامش

[1] البيان الختامي للقمة الخليجية الـ41: عودة للعلاقات الدبلوماسية مع قطر وتأكيد على احترام مبادئ حسن الجوار، الجزيرة نت، بتاريخ ٦/١/٢٠٢١: https://bit.ly/3vR13p4

[2]خلفيات سحب ثلاث دول خليجية سفراءها من الدوحة: ثمن البقاء خارج المحاور وأفضليته، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بتاريخ مارس ٢٠١٤: https://bit.ly/3j3JK1b

[3] الأردن يقرر تخفيض التمثيل الدبلوماسي في قطر وسحب تراخيص الجزيرة، سي إن إن عربي، بتاريخ ٦/٦/٢٠١٧: https://cnn.it/3zUTBMy

[4] موريتانيا تعلن قطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، وكالة رويترز، بتاريخ ١٢/٦/٢٠١٧: https://reut.rs/3gNSiHZ

[5] جيبوتي تخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي مع قطر، الجزيرة نت، بتاريخ ٧/٦/٢٠١٧: https://bit.ly/3gQyrI3

[6] مهاب عادل حسن، التأثيرات المحتملة لمجالس التنسيق الثنائية على مجلس التعاون الخليجي، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، بتاريخ ٤ نوفمبر ٢٠١٨: https://cutt.us/D5ucR

[7] محمد الراجحي وآخرون، حصار قطر: سياق الأزمة الخليجية وتداعياتها، مركز الجزيرة للدراسات، أكتوبر ٢٠١٧، ص ص ٢٣-٣٤: https://cutt.us/iZXZv

[8] Meliha Benli Altunışık, The end of the Gulf rift may not signal the end of Turkey-Qatar relations, Atlantic Council, APR 5, 2021, https://bit.ly/3gYkcRt

[9] محمد أبو رزق، قادتها الكويت.. هذه أبرز الجهود الدبلوماسية لحل أزمة الخليج، موقع الخليج أونلاين، بتاريخ ٥ يناير ٢٠٢١:  http://khaleej.online/EKbQZ2

[10] أحمد المصري، الدول المقاطعة لقطر توافق على طلب الكويت تمديد مهلة الدوحة ٤٨ ساعة، وكالة أنباء الأناضول، بتاريخ 3 يوليو 2017: https://bit.ly/3q0Y5wI

[11] اتصال هاتفي بين أمير قطر وولي العهد السعودي، الجزيرة نت، بتاريخ ٨ سبتمبر ٢٠١٧:  https://bit.ly/2S0RCFu

[12] هل كان الخيار العسكري مطروحاً في الأزمة القطرية؟، قناة سي إن إن بالعربية، بتاريخ ٨ سبتمبر ٢٠١٧: https://cnn.it/3cLAACw

[13] أمير الكويت يدعو لإيجاد آلية لفض المنازعات في مجلس التعاون الخليجي، وكالة رويترز، بتاريخ ٥ ديسمبر ٢٠١٧:  https://reut.rs/2TGsuUQ

[14] تقرير: السعودية تهدد برد عسكري إذا نشرت قطر أنظمة دفاع روسية، قناة دي دبليو بالعربية، بتاريخ ٢ يونيو ٢٠١٨:  https://bit.ly/3iN9sHc

[15] عارف عبد البصير، مصالحة حقيقية أم سلام بارد.. ما الذي ينتظر الأزمة الخليجية في قمة الرياض؟، الجزيرة نت، بتاريخ ٣٠ ديسمبر ٢٠٢٠:  https://bit.ly/2SExY2u

[16] سلطنة عمان تعرض مساعيها لحل الأزمة الخليجية، العربي الجديد، بتاريخ ١٣/١/٢٠١٩: https://bit.ly/3xJYrKQ

وبالنسبة للموقف التركي يمكن مطالعة صحيفة المصري اليوم، أردوغان: تركيا تدعم الوساطة الكويتية لحل أزمة قطر، بتاريخ ١٩/٩/٢٠١٧: https://bit.ly/2UrNFKN

[17] عمر سمير، الإمارات وسودان ما بعد البشير: الموانئ والتطبيع والحرب، نون بوست، بتاريخ ٨ أبريل ٢٠٢٠: https://bit.ly/3ou5Nht

[18] عريب الرنتاوي، نظرة من علوٍ منخفض للعلاقات السعودية الإماراتية وأثرها على “مجلس التعاون”، موقع قناة الحرة، بتاريخ ٥ ديسمبر ٢٠٢٠: https://arbne.ws/3vwFYjA

[19] علي حسن باكير، فك الخناق: الدور التركي والإيراني في إسناد قطر، مركز الجزيرة للدراسات، بتاريخ ٢٩ مايو ٢٠١٨: https://bit.ly/3vs99nH

[20] بالصور: قطر تعلن وصول دفعة تعزيزية جديدة من القوات التركية إلى قاعدة العديد، ترك برس، بتاريخ ٣٠ يونيو ٢٠١٧: https://cutt.us/A429d

[21] سعيد الحاج، القاعدة العسكرية التركية بقطر.. السياق والدلالات، الجزيرة نت، بتاريخ ١٢ يونيو ٢٠١٧: https://bit.ly/2Sv0CTL

[22] عدنان أبو عامر، الموقف الإسرائيلي من الأزمة الخليجية، الجزيرة نت، بتاريخ ٧ يونيو ٢٠١٧: https://bit.ly/3gvuPLn

[23] سعيد الحاج، الأزمة الخليجية وسيناريوهات المستقبل، المعهد المصري للدراسات الاستراتيجية، بتاريخ ٣٠ يونيو ٢٠٢٠: https://bit.ly/3iMj3On

[24] بيري كاماك، هل السياسة الخارجية الأميركية قائمة على تجاهل ما يقوله دونالد ترامب؟، مركز كارنيجي للشرق الأوسط، بتاريخ ٢٠يونيو ٢٠١٧: https://cutt.us/0XPcA

[25] بومبيو من قطر: سنطلب من ولي العهد السعودي “محاسبة” المسؤولين عن مقتل خاشقجي، قناة فرانس ٢٤، بتاريخ ١٣ يناير ٢٠١٩: https://bit.ly/3xnLCWv

[26] انظر قناة مجلة تايم على اليوتيوب بتاريخ ٣/١٠/٢٠١٨: https://bit.ly/2TByzBW

[27] اختتام القمة الإسلامية الأمريكية.. ترامب يدعو إلى عزل إيران والملك سلمان يصفها برأس حربة الإرهاب، موقع قناة روسيا اليوم، بتاريخ ٢١/٥/٢٠١٧: https://bit.ly/3zwT4k6

[28] MARWAN KABALAN, The Gulf Crisis: the U.S. factor, Insight Turkey, Vol. 20, No. 2, (Spring 2018), pp. 33-50, accessed: 16 June 2021, https://www.jstor.org/stable/26390306

[29] محمد ياغي، مراجعات الشركاء: موقع دول الخليج في توجهات بايدن الخارجية، مركز الجزيرة للدراسات، بتاريخ ٨ مارس ٢٠٢١، https://bit.ly/3cK8NCg

[30] يريد مالاً أكثر.. كيف ستتعامل السعودية مع “ابتزازات” ترامب؟، قناة دي دبليو عربية، بتاريخ ١/١٠/٢٠١٨: https://bit.ly/3xodg5D

[31] بعد الكشف عن سبب الانسحاب من تحالف اليمن… قطر توجه تحذيرا جديدا، وكالة سبوتنيك، بتاريخ ٦/٨/٢٠١٨:  https://bit.ly/3qnosgD

فصلية قضايا ونظرات- العدد الثاني والعشرون ـ يوليو 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى