التراث السياسي الإسلامي وحقوق الإنسان

مقدمة:

عسيرٌ هو وضخمٌ سؤال هذه الورقة: ما عناصر رؤية التراث السياسي الإسلامي لحقوق الإنسان؟ وذلك بالمقارنة مع التناول المعاصر لهذه الحقوق؟

مصدر الشعور بالعسر والضخامة هو –من ناحية أولى- ما يتراءى للدارس من اتساع مساحة التراث السياسي الإسلامي وتشابك خريطته وتعدد مداخله وكثرة مصادره[1]، ثم -من ناحية أخرى- ما تبدو عليه قضية حقوق الإنسان في واقعها المعاصر من تعقد وتركيب وتداخل للأبعاد الفكرية والعملية، واختلاف مستويات التناول والتعامل وزوايا النظر المتعلقة بها بين الدارسين والممارسين والمراقبين.

وأمام هذا المفترق ينبغي الاجتهاد في تخير المدخل الأنسب للإجابة عن السؤال، وبالأخص أن يكون مناسبًا لقدر ما يعرفه الناس عن طبيعة هذا التراث وخصائصه ومشتملاته بالعناية بالتعريف والبيان، ومناسبًا لما في الرؤية المعاصرة له من سمات تؤثر على التعاطي مع مقولة “حقوق الإنسان في التراث السياسي الإسلامي”.

فكثيرون -من إسلاميين وعلمانيين مع الفارق[2] يرون أن هذه مقولة لا مفهوم لها؛ بمعنى أنه لا يوجد في التراث الإسلامي ما يمكن أن يسمى “حقوق إنسان” بالمعنى الحديث، وأنه لا اشتراك في المعنى بين تعابير التراثيين –القدماء- عما هو “حق” أو “إنسان” وبين التناولات الحديثة لهذه المفاهيم. فالقضية في تصورها وماصدقاتها مُحدَثة تمامًا لا قديم لها لا سيما في الرؤية الدينية التي تدور حول الإله والمقدس الديني ويترتب فيها مقام الإنسان الأجرد[3] متأخرًا عن أن يكون هو المركز في رؤية العالم كما يتصورها هذا الفريق.

ومن العلمانيين والغربيين كثيرون يرون أن التاريخ السياسي الإسلامي –وكذلك تراثه الفكري غالبًا- هو أبعدُ مادةٍ يمكن أن يُستقى منها كلام أو شواهد على اعتراف بحقوق إنسانية أصيلة من قبيل حريات التفكير والتعبير والاعتقاد والانتقال عبر الأديان والمشاركة السياسية والمعارضة والتمكين للمرأة سياسيًّا، ومفاهيم مثل المواطنة والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن “الدين أو الجنس أو اللون أو النسب أو اللغة أو الرأي والاتجاه السياسي وغير السياسي”[4]. فهذا التراث كان ذكوريًّا أبويًّا لا يفلح فيه قوم ولوا أمرهم امرأة[5]، وعشائريًّا نَسَبيًّا الأئمةُ فيه من قريش[6]، تراثًا كرَّس التمييز الديني باسم أهل الذمة ونظم الملة[7] وأحكام الديار وتقسيمها[8]، وأقصَى إمكانَ بروز معارضة سِلمية بدعوى أنها من عمل الخوارج والبغاة[9]، وبرَّر الانقلابات والاستيلاء غير القانوني على الحكم بمقولات الاستيلاء والتغلب والانقهار للسلطان القاهر[10]، وأكد على مفاهيم السمع والطاعة المطلقيْن وإن أخذ الحاكم مالَك وجلدَ ظهرك، وأن السلطان الغشوم خير من فتنة تدوم، وأن لا تنابذوهم ما أقاموا فيكم الصلاة، وما نجم عن عقيدة القضاء والقدر من التراخي والتواكل والعزلة والاكتفاء بلعن السياسة ورهبة الساسة[11]. إلى غير ذلك من المزاعم التي بثها الاستشراق[12] وخاض فيها أبناء هذا التراث وخَلَفه ممن نقموا عليه وحمّلوه تبعة ما آلت إليه أحوالهم الراهنة من ضعف وفقر وفرقة، وتأخر عن ركب الغربيين المتمكنين.

وللوهلة الأولى يتراءى بين ثنايا هذا الكلام مواطن صدق وحقائق لا يسوغ جحدها، ولا تصح المماراة فيها بل إن بعضها نقول به غير مبالين بهذه الصياغة الاتهامية[13]، لكن تتبدى كذلك مشكلة خطيرة وأسئلة وانتقادات كثيرة. فالمشكلة الخطيرة أن الكثير مما يأخذه هؤلاء الآخذون على التراث السياسي الإسلامي نظريِّه وعمليِّه هو من منطوق الشرعة الإسلامية نفسها ومن كلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وإن كان بعضهم يتجمل فينكر هذه الأحاديث أو يرد السّنة برمتها، ويكتفي من الإسلام بالقرآن أو بعضه، ولكن هذه قضية أخرى. وأما الأسئلة والانتقادات فتدور حول أمرين: صدق الخبر وعدالة التقويم، وأيضًا تفصيل هذا له موضع آخر.

المقصود أن جزءًا مهمًّا وزاعقًا من الرؤية المعاصرة للتراث السياسي الإسلامي فكرًا وتاريخًا ونُظمًا يشتمل على أفكار سلبية رافضة إزاء هذا التراث تتراوح بين الاعتقاد الشمولي وبين التصور القائم على معلومات جزئية، وأن هذه الرؤية قد جرت لها عمليات من التشييع والتعميم لا سيما في الساحات الأكاديمية والثقافية؛ أي عند النخبة المتصدرة في التعليم والإعلام وإنتاج الخطاب العام لعامة الناس. عبر عقود القرن المنصرم تجد أن أقسام السياسة والتاريخ والفلسفة والاجتماع والأدب والقانون والتربية في جامعاتنا، وكثيرًا من الكتب السيّارة والصحف والمجلات ذات الطابع الثقافي، والبرامج الإعلامية الثقافية وما يسمى بالدراما التاريخية والدينية، تجد أن كثيرًا من تلك الجهات ترسخ هذه الرؤية السلبية في عقول الناشئة والأجيال الصاعدة، وتحفرها في أذهانهم[14].

الأئمة في المساجد عبر الأمة والتدريس في الجامعات والمعاهد الدينية وكِتاب التاريخ في التعليم الأساسي ومادة التربية الدينية الإسلامية والبرامج الدينية وبعض الفضائيات المستحدثة وبعض الجهود الأكاديمية[15] والعملية، تقدم رؤية أخرى: إن هذا الدين هو الحق المبين الذي لا يكون الإنسان إنسانًا يستحق حقوقًا إلا به وفيه، وقد أنشأ أمة وسطًا هي خير أمة اخرجت للناس، تراثها العلمي والفكري، وتاريخها العسكري والسياسي والاجتماعي والعمراني، وحضارتها ومنهاجها في التعامل مع غير المسلمين في الداخل والخارج ومع النساء والأطفال والشيوخ وذوي الاحتياجات الخاصة … كل هذه شواهد عدول على عظمة التراث الإسلامي، مهما اعتوره من استئناءات ومخالفات، وأن فيه مادةَ تقدُّمِ الأمة ونجاة الإنسانية؛ فإن هذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها؛ ألا وهو الدين والتمسك به.

وأيًّا كان الموقف المذهبي أو الأيديولوجي من التراث السياسي الإسلامي، فلا شك أنه تعرض –كما يقرر بالأرقام والوثائق د.نصر عارف[16] لمتسلسلة من المظالم المنهجية بدءًا من الإهمال، إلى التعامل القاصر والمستخف والمتساهل، إلى التعامل العشوائي المتسربل بشكلانية علمية زائفة، إلى منتهى المسألة المتمثل في إصدار التعميمات وتكرارها واجترارها، وأغلبها تعميمات سلبية بخصوص هذا التراث، دون إعمال للقاعدة المنهجية العلمية الأساسية: “قاعدة الاستقراء قبل التعميم التي أجمع عليها مفكرو الشرق والغرب قديمًا وحديثًا، معتبرين أن التعميم دون مبرّر أو مسوّغ من استقراء وحصر، تفكير غير علمي وغير منطقي. فمن هذه الفكرة توصّل د.نصر لنتائج خطيرة أهمها:

  • أن جميع من كتب عن الفكر السياسي الإسلامي، أو التراث السياسي الإسلامي، أو إحدى ظواهره لم يطلع على أكثر من (6%) من المصادر المباشرة لهذا التراث، في حدود ما أحصاه المؤلف.
  • أن أكثر الكتب التي لعبت دورًا محوريًّا في حياتنا الثقافية المعاصرة وأثرت على تصورات الكثيرين ومواقفهم من الفكر السياسي الإسلامي.. لم تستقرئ “شيئًا” من مصادر هذا التراث[17].
  • أن 80% ممن كتب في علم السياسة الإسلامي لم يرجع لأكثر من عشرة مصادر، أي 3,5% مما توصلت إليه هذه الدراسة، ورغم أنهم يكررون المصادر نفسها دون اختلاف بنسبة تكرار كبيرة[18].
  • أن الصُّدفة والعشوائية والانتقائية والاستسهال واستقراب المصادر والمراجع مكانيًّا (مكتبة، مدينة، قطر ما..) والتأثر بالمنشور والمشهور والمحقق، وربما بما اهتم به المستشرقون وأذاعوه … كل هذه، هي العوامل التي حكمت التعامل المعاصر مع مصادر التراث السياسي الإسلامي[19].

أمام هذه الحالة والجدل الدائر بين الرؤيتين المتعارضتين يتجلى ما أشير إليه من صعوبة الطريق الذي ينبغي أن تشقه هذه الورقة للإجابة عن سؤالها الذي طرحه الأكارم المسئولون عن المؤتمر. لكن لعل مما ييسر الأمر ويساعد على انتهاج السبيل الأنسب هو التأمل في طبيعة الجواب المطلوب وخصائصه ومقصده. فهل يُقصد بالورقة حسم هذ الجدل أو بعضه بالحكم على التراث والتاريخ وتقدير ما له وما عليه من زاوية حقوق الإنسان؟ الحقيقة أن هذا المقصد غير مناسب لأنه –وللعجب- لا يتحقق على صورته المثلى إلا بالعدول عنه أولًا إلى غيره: أي بالاتجاه إلى الدراسة والاستكشاف والتعلم والتعرف والاستقراء قبل الحكم والتقويم والتعميم واتخاذ المواقف أو تصحيحها، على نحو ما تبيّنت الحاجة الماسة إليه.

بناءً على ما سبق، فإن المقصد الأمثل لهذه الورقة –في تصوري- هو استكشاف ما إن كانت ثمة حقوق إنسانية في التراث السياسي الإسلامي أم لا، مقارنةً بما هي عليه في الوقت الحاضر؟ وإن وجدت فما هي؟ وكيف تصورها أهل تراثنا؟ وكيف تعاملوا بها في واقعهم؟ ومن ثم تكون دراسة التراث الفكري المكتوب هي الأساس مع الإلماح إلى جانب النظم والحركة ودلالاته على عموم التجربة التراثية فيما يتعلق ببناء الإنسان وتحديد حقوقه ومستحقاته.

إذًا، فالتركيز يقع على الشق الأول من المعادلة: التراث الإسلامي وبالأخص في المجال السياسي؛ إذ هو مقام الدراسة ومادتها الأساسية، بينما يتم عرض مجمل الرؤية الغربية والدولية عن حقوق الإنسان، عند المقارنة من واقع النظر في أهم المواثيق الحديثة والأدبيات السابقة. فما المقصود تحديدًا بهذا التراث؟ وكيف نقرأ قضية حقوق الإنسان فيه؟

  • بين يدي التعريف بالتراث السياسي الإسلامي:

فيما يتعلق بمدلول “تراث إسلامي” تتبنى الورقة المفهوم الذي يُخرج من مقصود التراث الإسلامي، الأصليْن الموحَى بهما: الكتاب والسُّـنَّة؛ ليقتصر مدلول التراث السياسي الإسلامي على المنتَج الفكري للمسلمين في الشأن السياسي، مع التسليم بارتباط ذلك بالأصول أو بالأصليْن تحديدًا إن إيجابًا أو سلبًا[20]. وذلك على خلاف من يرى هذا الفكر “مجموعة النصوص المباركة للقرآن الكريم والسنة المطهرة وما جاءت به قرائح علماء المسلمين… عبر رؤية إسلامية متميزة متكاملة…[21].

ومن ناحية المدخل إلى هذه الأفكار، يفضل البعض –من أمثال مونتجمري وات- أن يدرس هذا الفكر من خلال الممارسات العملية للمسلمين الأوائل، أو التراثيين، وهذا هو دأب المدارس الاستشراقية: أن تعتمد على الممارسات التاريخية أو تدمجها مع النصوص[22]، وهذا ما ترفضه قواعد المنهج كما سيتضح. يحبذ آخرون الاقتراب من هذا الفكر من طريق “الموروث الكتابي”، مع الميل للتمييز بين ما يسمى بـ”فكر إسلامي أصيل” يتصل بالمثل السياسية التي تفرضها متطلبات الشرع الإسلامي، وبين “فكر إسلامي دخيل” اتصل بثقافات الساسانيين واليونانيين القدماء[23]. وهذا الاتجاه هو الأقرب إلى دراستنا غير أننا لا نسلم بالتمييز المذكور.

فـ”الفكر السياسي عامةً” –أيًّا كان التصور الذي يقدمه له الباحثون- لا يتسنى الإمساك به مجرَّدًا ولا يستحسن الإصرار على ذلك، بل يُدرَك أو يتميز حين يتجسّد في “”نصوص” تعبر عن مضمون هذا الفكر، وتفصح عن مغازيه وخصائصه.

وعليه يتم تحديد المقصود بالفكر السياسي في التراث الإسلامي بـ: الأفكار والطرائق التفكيرية  التي عبَّر عنها أدبٌ معنيٌّ بالمجال السياسي والظاهرة السياسية كشأن عام مرتبط بظاهرة الحكم، كتبه مسلمون في ظل مناخ عام مرتبط بمرجعية إسلامية، في الفترة السابقة على بروز علم السياسة بصورته الحديثة.

ومن ناحية أخرى، فإن مفهوم “السياسة” في التراث السياسي الإسلامي -مقارنة بالمفهوم الوضعي السائد اليوم في الساحة الأكاديمية والفكرية والتطبيقية في الغرب والمروَّج له في عالمنا العربي والإسلامي- مختلف، ولا يقتصر على تلك العلاقة القانونية التي تقوم اليوم بين الحاكم فردًا ونظامًا وبين المجتمع كلًا وأفرادًا، والمتعلقة بأداء وظائف السيادة والإدارة والخدمة العامة. وخلاصة التعريفات الإسلامية الحديثة للسياسة والتي اجتهد أساتذة معاصرون في بنائه وبيانه، أنه قيام عام على الأمر العام بما يُصلح منه[24]، يشارك في عملية القيام هذه كل صاحب سلطان وولاية ورعاية من باب أن كل الناس راع لرعية، وكلًّا من الرعاة مسئول عن رعيته. وفي المجال السياسي العالي يقوم بالرعاية للأمر العام الحاكم والوزير والقاضي والعالِم والمحتسب وأمير الإقليم وأمير العمل من الأعمال العامة مثل الشرطة والمالية والحرب والحراسة والسفارة وغيرها. ولها قوانينها وقيمها ومقاصدها، التي تصب في خانة الإصلاح: (بما يصلحه). كل ذلك في إطار المرجعية الشرعية الإسلامية.

لقد اتفقت مقالات الإسلاميين من القدماء والمحدثين –بما فيهم الفلاسفة كما سيتبين- أن السياسة عمل نبوي بالأصالة؛ وإذ لا يُخلّد الأنبياء فالإمام يجب أن يكون نائبًا عن النبي في إنفاذ منهاجه وتحقيق مقاصده من هذا المقام الرفيع، كما أن العلماء ورثة الأنبياء في العلم والتعليم. فالأقوام السابقة كانت تسوسهم الأنبياء، كلما ذهب نبي خلفه نبي، ولا نبي بعد خاتمهم سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، لكن الأمراء نواب الأنبياء، ومن أطاع أمير النبي المتبع له فقد أطاع النبي، كما أن من أطاع النبي فقد أطاع الله تعالى على ما جاء به الوحي ويقر به العقل.

فالسياسة –في الرؤية الإسلامية- من أعمال الدين الذي هو المظلة الفكرية والخلفية المعنوية الموجَّهة والهادية لشئون الدنيا. وهي ليس من المعاملات الإنسانية المنقطعة عن العبادات، بل هي مما يتخذ قُربة يتقرب بها إلى الله تعالى بتعبير ابن تيمية رحمه الله تعالى (وأكثر كُتّاب التراث السياسي الإسلامي)؛ ففيها الجهاد وحماية البيضة، وأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل، وتحكيم الشرع الإلهي، والإصلاح بين الناس وإقامة الوحدة والألفة، وإعداد القوة، ومكافحة الفساد والإفساد في الأرض، وتعليم الناس أمور دينهم وإقامة الشعائر في الأرض، والدعوة إلى الله تعالى وسبيله القويم، وإبلاغ المنافع، ورفع الحرج عن الخلق، إلى غير ذلك من تفاصيل القيام على الأمر الجامع للناس بما هو أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد. ومن ثم فهي تاج أمور الدنيا المكنوفة بهداية الوحي. وكذلك فإن السياسة -وإن وقعت أساسًا فيما هو تشريعي وتعاملي- فإنها تقوم على قاعدة من التصور الاعتقادي بأنَّ لله تعالى الأمر كما أن له الخلق، ومن ثم فالجميع له محكومون قبل أن يكون ثمة حاكم من الناس أو محكوم. وهذا مما ذاع تميز الرؤية الإسلامية به ولم يعد في حاجة لتنبيه ولا تفصيل.

والخلاصة أن بين مفهوم السياسة في الرؤية الإسلامية وبين نظيره الغربي الرائج بونًا يجب اعتباره، كما أنه بلا شك هناك بين الجانبين مشتركٌ لا يسوغ إهداره أو التغاضي عنه؛ إذ هو مما تكتمل به صورة العلاقة بين الخطابين وما ينبني عليهما من نُظم وهيئات وسلوك. ولا غرو أن يقوم على هذا التمييز أثر في النظر إلى قضية حقوق الإنسان بالمضاهاة بين التصوريْن.

منهجية الورقة:

وبالنسبة لمادة هذه الورقة، فينبغي التنبه إلى أن سؤال البحث متضمن لحركتين: حركة في الزمان باتجاه تراثنا الممتد لأكثر من ثلاثة عشر قرنًا، وأخرى في المكان (البيئة) بالمراوحة بين الغرب (مصدر أفكار حقوق الإنسان المعاصرة) وعالمنا الإسلامي المستقبِل لهذه الأفكار. وكلا الحركتين يتطلب مراعاة السبيل التي تليق به. بيد أن المفارقة المهم إبرازها في هذا المقام أن المراوحة الأساسية لا تقع بين ماضينا وماضي الغرب ولا بين حاضرنا وحاضرهم، بل بين ماضينا وتراثنا –رغم امتداده فينا- وبين حاضر الغرب المنبت عن عامة ماضيه والمنقلب عليه.

فالمقارنة تنعقد بين نصوص حقوق الإنسان الحديثة غربية المشرب وما يحيط بها من سياق، وبين نصوص من التراث السياسي الإسلامي وما اكتنفها كذلك من ملابسات واقعية؛ مع التركيز على النصوص. ومن هنا تأتي ضرورة المجانسة بين عناصر المقارنة وبناء الإطار المرجعي المتعلق بالتقويم.

فالمجانسة بين عناصر المقارنة تعني أن يقارن الفكر بالفكر: أي يضاهى فكر حقوق الإنسان المعاصر بالتراث الفكري لا بالتاريخ العملي، بينما يقارن هذا التاريخ العملي بالسياسات الدولية والداخلية الراهنة المتعلقة بحقوق الإنسان، وأن تقابَل نوبات الصعود الحضاري بما يجانسها بين الحضارتيْن، بينما تقارن محطات الهبوط ببعضها البعض. كذلك تقارَن الشواهد العامة؛ أي أحوال العصر وخصائصه بما يكافئها على الضفة الأخرى. وكذلك يميز بين الأفكار والممارسات المعبّرة عن التكوين الحضاري وثوابته وبين ما هو من باب النتوءات والمخالفات التي تعبر عن أشخاص أو أحوال غير ثابتة. بدون هذا يمكن أن نشيد رؤيةً ما، لكن لا يمكن القول برشادها وعدالتها.

وأما الإطار المرجعي المنشود للحكم والتقويم فلا يكون –ويا للمفارقة- إلا معتمدًا على أصولٍ من هذا التراث نفسه متخيَّرة بوعيٍ من قِبل أبنائه وورثته أو من شاركهم من المنصفين؛ لأنه لا يُتصور أن يكون الإطار المرجعي لباحث متجاوزًا جذوره وأصوله برمتها. وهذا دونه دعوة وجهاد واجبان لردّ الشاردين عن ديارهم وآبائهم إلى حيث ينبغي أن يبدءوا وينطلقوا.

هذا، وتتضمن منهجية التعامل جانبين: الأول- النص الحقوقي المرجعي المعاصر (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) وتحليل مضمونه وخطابه؛ بغية الوقوف على شبكة مفاهيمة المعبرة عن فلسفته، وأجندة قضاياه الدالة على مجال الاهتمام ومقاصده ومنهاجه.  والجانب الثاني- هو التراث السياسي الإسلامي -في تجليه الفكري- الذي يجري تناوله على مستويين: مستوى كليّ، وآخر جزئيّ.

فعلى المستوى الكليّ يتم التركيز على أربعة مداخل أساسية يمكن أن تمثل بعض أهم تصنيفات هذا التراث؛ وهي: المدخل الفقهي، والمدخل الفلسفي، والمدخل الأخلاقي، والمدخل العمراني. ولدواعي المساحة والبيان يتم تناول نماذج ممثلة ومعبرة عن كل مدخل منها؛ تتراوح تقريبًا بين القرنين الثاني والتاسع الهجرييْن مما يجعلها أكثر اقترابًا من التعبير الموضوعي والتطوري عن هذا التراث. ولا شك أن هذا لا يكفي للتعبير الأتم صدقًا وعدلًا عن التراث السياسي الإسلامي، لكنه قد يمثل مرحلة أولية أليق بجِدَّة الدراسة ودواعي الاستكشاف؛ ومن ثم تفتح المجال أمام مراجعات عليها وإضافات واجبة.

وعلى المستوى الجزئيّ، يتم النظر في هذه النصوص وقطف الأجزاء التي يتجلى فيها التعبيرات المختلفة المناظِرة لمفهوم “الإنسان” ومفهوم “الحق” والمفهوم المركّب منهما، ومحاولة تبين دلالاتها المعنوية، ودلالتها في السياق السياسي كما تصوره النصوص، وتبين امتدادات هذه الدلالات في ما وراء النصوص من المدركات العقدية (التصور)، والمنهجية (الكيف)، والسياسية (المضمون).

ومن ثم فإن المنهج المتخير في الدراسة يتألف من مقتربين أساسيين: المقترب المفاهيمي، والمقترب الموضوعي، فيتم تعريض النص التراثي لنوعين من الأسئلة:

  • أسئلة المفاهيم: ما أهم المفردات والتراكيب المستعملة في التراث للتعبير عن حقوق الإنسان؟ وما دلالاتها؟ وما المقابل المعنوي للمفاهيم الأساسية الحديثة المتعلقة بحقوق الإنسان في هذا التراث: من قبيل الحرية، والكرامة، والمساواة، والتمييز، وإرادة الشعب، والعالمية..؟
  • وأسئلة الموضوع: ما الدلالة التراثية لقضايا ومسائل حقوق الإنسان المطروحة اليوم؛ مثل: الحريات الأساسية: حرية القول والعقيدة، وتساوي الرجال والنساء في الحقوق، ورفض التمييز في الحقوق الأساسية بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو المولد أو أي وضع آخر، وحق الحياة، وحق الأمان على النفس (على شخصه)، وقضية الاسترقاق والاستعباد وتجارته، والتعذيب والعقوبات القاسية واللاإنسانية الحاطّة بالكرامة، والاعتراف بالشخصية القانونية لكل فرد، والمساواة أمام القانون، وحق الحماية القانونية، وحق التحاكم الوطني والمساواة التامة فيه، ورفض التعسف الحكومي، وشروط المحاكم: من الاستقلال والحياد، وحقوق المتهمين، ومسألة المعاملة بأثر رجعي، والتدخل في الشئون الخاصة للأفراد وحق الخصوصية، وحق التنقل داخل البلد ومغادرتها والعودة إليها، وحق اللجوء للدول الأخرى، وحق الجنسية وحق تغييرها، وحق التزوج وتأسيس أسرة للبالغين “دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين”[25]، وحقوق الأسرة، وحق التملك وحفظ المِلك، وحرية الفكر والوجدان والدين: “ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو في جماعة، وأمام الملأ وعلى حدة“، وحرية الرأي والتعبير، وحق حرية اعتناق الآراء والتماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها من الآخرين “بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود“، وحق حرية الاجتماع السلمي، وحق عدم الانتماء لجمعية ما، و”حق المشاركة في إدارة الشئون العامة لبلده، إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون في حرية“، و”حق تقلد المناصب العامة في بلده” لكل شخص بالتساوي مع الآخرين، وحق الانتخابات النزيهة الدورية بالاقتراع العام “على قدم المساواة بين الناخبين“، وحق الضمان الاجتماعي، والحق في العمل وحرية اختياره، والحماية من البطالة، والعدل في ظروف العمل وأجره، و”الحق في أجر متساوٍ على العمل المتساوي” دون تمييز، وحق إنشاء النقابات، وحق الراحة وأوقات الفراغ بعد العمل، والحق في مستوى معيشة لائق وفي التأمين ضد “الغوائل”، وحقوق الأمومة والطفولة الخاصة، والحق في التعلم الأساسي المجاني والإلزامي(!) في الابتدائية، وحق المشاركة الحرة في الحياة الثقافية للمجتمع، وحقوق حماية المصالح المعنوية والمادية للإنتاج العلمي والأدبي أو الفني، والحق في نظام اجتماعي ودولي إنساني[26]؟

ولكن قبل أن نقرأ النص التراثي من واقع هذين المستويين، فإنه يلزم أولًا الوقوف بهما أمام الخطاب الحقوقي المعاصر، وبالأخص الوثيقة التي تعد أساسًا ونبراسّا له؛ ألا وهي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تمثل ذكرى صدوره الستين مناسبة اقتضاء هذه الورقة.

أولًا- قراءة عامة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: المفاهيم والرؤية:

عبر ستين عامًا، قُدمت قراءات عديدة –من مرجعية إسلامية- لقضية حقوق الإنسان، تميزت كثير منها بالتركيز على نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر 1948م، باعتباره خطابًا ذا فحوى، وأشارت إليه بملاحظات عامة وسَمَته بالإطلاقية وبالطابع العمومي. ولاحظت بعض القراءات اندراج نصوص هذا الإعلان ضمن ثلاث دوائر أساسية: دائرة الفكر الغربي المتعلق بالإنسان والسياسة والقانون، ودائرة فلسفة القانون والتشريع في مسارها الغربي أيضًا؛ بحيث لا يمثل الإعلان تقنينًا محددًا بقدر ما يوجه توجيهًا عامًّا إلى تبني أفكاره ومقاصده، ودائرة المجال العام مع ميل واضح للمستوى السياسي منه المتعلق بالعلاقة بين فرد محكوم (المواطن) وهيئة حاكمة (الدولة القومية). وعلى الجانب الآخر، جرت أعمال علمية وعملية شتى لخدمة المفاهيم المنبثقة عن هذا الإعلان، والتعريف والتبشير بها، وإقامة فعاليات تتبناها وتنقلها إلى شعوب الأمة العربية والإسلامية، حتى باتت إحدى العلامات الفكرية المميزة للنصف الثاني من القرن العشرين.

بيد أن القليل من الكتابات هو الذي وقف عند المفاهيم والتصورات التي تضمنها الإعلان، فضلًا عن محاولة وصلها بالمرجعية القانونية والفكرية الدولية العامة التي يعد ميثاق الأمم المتحدة (1945م) أحد أهم تجلياتها في الحقبة الراهنة، ومقارنتها برؤية العالم والنماذج المعرفية الخاصة بالحضارات الأخرى غير الغربية، وبالتحديد الحضارة العربية الإسلامية.

لقد اشتمل الإعلان على ديباجة وثلاثين مادة. وفي ديباجته ورد عدد من المفاهيم والأفكار التي يمكن أن تدل على المحضن الفكري للإعلان والكثير من خصائصه، من مثل: “الأسرة البشرية، قومية وعالمية، بصورة عالمية، الإدراك العام، الأمم المتحدة، القانون، الميثاق، الاعتراف، التعهد، الكرامة، الحرية، الحق، ..”، فكيف تكوّن هذه المفاهيم جملة مفيدة؟

إن الإعلان يبدأ بالإنسان ومفهوم الإنسانية من اللحظة الراهنة، وهذه اللحظة ليست لحظة زمنية ميقاتية، بل هي لحظة فكرية تصورية، لحظة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتأسيس الأمم المتحدة في نيويورك 1945م[27]، لحظة التبشير بأسرة بشرية جامعة تتعايش فيها الدول-القومية بصورة عالمية تحت مظلة الميثاق الذي أضحى يمثل الإدراك القانوني العام، باعتراف الدول وبما تعهدت به من حين انضمامها إلى الرَّكْب الليبرالي الذي قوامه مفاهيم الكرامة والحرية في الاعتقاد والقول والحق للإنسان الفرد، في مقابل السلم والأمن في عالم الدول.

فهذه الحقوق هي بالأساس للفرد في مقابل الآخرين وبالأخص: نظام الحكم، تجعل “غاية ما يرنو إليه عامة البشر انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة“، وعلى أساس أن “شعوب الأمم المتحدة قد أكدت في الميثاق من جديد إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء من حقوق متساوية[28].

يبدو الإعلان لأول قراءة وكأنه مغلق الطرفين ولا تتبين له حدود: أول بلا بداية، وآخر بلا نهاية، لكن محاولة فتح طرفيه (فقراته وسياقه) تكشف عن حدوده: الفلسفة الإنسانية المادية، العلمانية الشاملة، الليبرالية المغالية، التعاقدية القانونية النصية من جهة والاستحلالية مترامية الأطراف باسم الحرية الأصيلة من جهة أخرى. هذا هو السياق المعرفي والعقدي الذي أحاط بقادة الدول في هذه اللحظة. فالحرب العالمية الثانية كانت حربًا غربية بالأساس، ومهما تكن قد قسمت الغرب بين منتصرين ومنهزمين، فإنها أعلنت للجميع أن الغرب أكبر من الجميع، وأنه حين يذهب الغرب يرتب أوراقه لما بعد الحرب فعلى سائر الدول –سواء من كانت استقلت لتوها أو هي في طور الحصول على استقلالها- أن تصطف في الساحة التي أضحت بفعل عالمية الحرب تسمى ساحة السلم العالمي؛ ومن هنا تأسست “العالمية السياسية الراهنة” بقيادة الغرب.

نعم انتهت الحرب العالمية، لكنها تركت بصمة مهمة على عالم ما بعدها: إنها آذنت بقيام “عالم أضيق من ذي قبل”، ليس لأفراده (الدول) حرية الاستقلال التام بمساحة خاصة بهم، بل على جميع أفراد القطيع أن يأووا إلى الحظيرة الدولية التي أضحت تعرف بالمجتمع الدولي والتي تجسدت أيضًا في بناية نيويورك الساحقة: هيئة الأمم المتحدة. لقد مهدت عولمة الفكر الغربي -أو ما عرف بالغزو الفكري والتغريب- منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مهدت لإسباغ ملمح شبه اختياري على عملية الإدماج الكبرى هذه التي تمت للدول عبر القارات الست[29].

إن الذي يُجمع عليه الكافة أن الإعلان ما جاء ليقرر علاقة بين الإنسان وخالقه، بل هو تجاوزَها لتأسيس علاقة أفقية فقط بين بني الإنسان لكي “يعامل بعضهم بعضًا بروح الإخاء“(مادة 1). فاللفظة الأولى في المادة الأولى “يُولد” المبنية لفاعل غير مسمى لا يمكن مثلًا أن تحمل دلالة مثيلتها الواردة في الحديث النبوي المشهور: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة”[30]؛ لأنها بوضوحٍ تتجاوز قضية “يُولد على…” لصالح “يولد حرًا”؛ أي تتجاوز العلاقة مع الأعلى (الخالق) لصالح العناية بالعلاقة مع النظير (الإنسان). وكذلك لا تبلغ اللفظة الثانية “وُهبوا عقلًا وضميرًا..” أن تقوم مقام فطرة الله التي فطر الناس عليها، فالبناء لغير مسمى هو أداة التجاوز الأساسية..

وشأنها شأن المواد الأوائل من العهود والمواثيق، كان للمادة الأولى في الإعلان وظيفة التأسيس لما بعدها والدفع بالمخاطب إلى الدائرة التي تتوخاها الوثيقة. فقد تم -في كلمات قليلة- وضع حجر الأساس الفكري المتجاوز لقضية “ما قبل الإنسان” و”ما قبل الاجتماع الإنساني”[31]: (يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلًا وضميرًا وعليهم أن يعامل بعضهم بعضًا بروح الإخاء). لا يهم إن كانوا يولدون خلقًا من لدن خالق أم ترتيبًا من قبل الطبيعة، ولا يهم أن يولدوا لآباء مؤمنين أو لآباء غير مؤمنين، والمهم أنهم يولدون متحررين من أن يقيد أحدهم الآخر بقيد من عنده، ويولدون على قدم المساواة في مقاماتهم النسبية والحقوق –والواجبات- المتبادلة بينهم. وبعد أن يتسرب هذا التصوير إلى المتلقي يشرع يتَّبع خطوات الإعلان.

لا تقل المادة الثانية[32] من الإعلان أهمية عن الأولى في وظيفتها المشتملة على المقصد والوسيلة معًا: من المساواة العامة إلى التسوية التامة بين كل الأفراد: تسوية بلا “تمييز”، و”دون أية تفرقة”[33]. فالذكر هاهنا كالأنثى، والمؤمن كالملحد، والشيوعي كالليبرالي، والوطني كالأجنبي، والعربي كالعبري، هكذا مطلقًا وعمومًا. تتجلى في أهم مواد الإعلان ومنطلقه الأساس سمتا الإطلاق والتعميم التي يتأخر الاستدراك الواقعي والبديهي عليها إلى الفقرتين الأولى والثانية من المادة قبل الأخيرة؛ المادة (29): (1)على كل فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه وحده لشخصيته أن تنمو نموًا حراُ كاملًا. (2)يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي“.

وفيما بين المادة الثانية وهذه التاسعة والعشرين لا تجد سوى التقريرات التالية: “لكل إنسان حق…“(م2)، و”لكل فرد الحق في…“(م3، 14/1، 21/1، 27/1-2، 28)، و”لكل إنسان أينما وجد الحق في…“(م6)، و”كل الناس سواسية…”(م7)، و”لكل شخص الحق في…”(م8، 17/1، 18، 19، 20/1، 23/1، 23/4، 24، 25/1، 26/1)، و”لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، في…“(م10)، و”لكل فرد حرية…”(م13/1)، و”يحق لكل فرد أن…“(م13/2)، و”للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج…“(م16/1)، و”لكل شخص نفس الحق الذي لغيره في…“(م21/2)، و”لكل شخص بصفته عضوًا في المجتمع الحق في …“(م22)، و”لكل فرد دون أي تمييز الحق في…“(م23/2)، و”للأمومة والطفولة الحق في…“(م2/2)، و”للآباء الحق الأول في …“(م26/3).  و”لا يجوز…“(م4، 9، 15/2، 17/2، 20/2)، و”لا يُعرَّض أي إنسان لـ…“(م5، 12)، و”لا يُدان…“(م11/2)، ولم ترد العبارة الوحيدة: “على كل فرد واجبات نحو المجتمع …” إلا في المادة التاسعة والعشرين على نحو ما أشرنا.

ومن هنا فالميزان يبدو بكل وضوح غير متكافئ بل إنه لا يحوي سوى كفة واحدة: تسع وعشرون مادة لبيان الحقوق وتفصيلها والإلزام بها وتشريع ضمانات حمايتها وإعمالها، ومادة واحدة هي التي تتحدث عن “واجبات” الإنسان (الشخص، الفرد) تجاه “الغير” و”المجتمع” و”النظام العام والمصلحة العامة والأخلاق”، على حد تعبير الإعلان. فهل تتحمل الحياة الإنسانية الحقة هذا التوجه المائل؟ وهل تقر أخلاق الإنسان وطبائع العمران وسنن الاجتماع والسياسة هذه الرؤية؟ كثير من النقد اعتبر هذا التوجه غير واقعي؛ ومن ثم هو إلى اليوتوبيا أقرب منه إلى الحقيقة الموضوعية؛ أي إنه مستبعَد الإنفاذ والتحقيق على أرض الواقع. لكن هل هو حائد عن ميزان العدل والاعتدال؟ وهل فيه نزوعُ إطلاقٍ لعنان الشهوات الفردية ودعوة إلى التجرد من الضوابط؟ قال بهذا بعض الناقدين.

لا شك أن مراجعةَ ما قامت به الفاشية والنازية فيما بين الحربين العالميتين يمكن أن يفسِّر ذلك الجنوحَ تفسيرًا داخليًّا؛ أي تبريريًّا؛ فيقال إن ذلك الجنوح لصالح الفردانية وبعيدًا عن الشمولية التي مسخت الفرد الحقيقي لصالح كلٍّ موهومٍ أو مبتدَع، كان هذا الجنوح واجبًا لإعادة الأمور إلى نصابها، وشد الحبل في الاتجاه المقابل لاستعادة وضع التوازن. لكن هذا التبرير هو نفسه ينّبه إلى نسبية الإعلان: مقاصده ورؤيته، ومن ثم ضرورة مراجعة مشتملاته من زاويتين: زاوية المطلق الذي تشتمل عليه كل حضارة ومن ثم مراعاة الخصوصيات الثقافية والحضارية، وزاوية النسبي العالمي؛ أي متطلبات اللحظة التي يمر بها العالم اليوم؛ وهي لحظة إعلان الهيمنة الأمريكية واستراتيجية حرب الأفكار والصراع بين الحضارات الذي تتبناه القوى الكبرى باسم الحرب على الإرهاب[34].

هذا من حيث التحليل المفهومي المختصر. أما من حيث موضوعات الحقوق التي اشتمل عليها الإعلان وفتح بها الباب نحو إصدار فيض من الاتفاقيات والإعلانات والمبادئ الحقوقية الصادرة عن الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة وعن المنظمات الإقليمية والمجالس الوطنية عبر أنحاء العالم، فيمكن إجمالها وتصنيفها إلى ثلاث فئات:

  • عامة-سياسية: فيما بين الأفراد وتدخل فيه الدولة أيضًا: حفظ البقاء (الحياة) والسلامة الشخصية، والاسترقاق وتجارته وتحريمهما، وحرمة الحياة الخاصة والمسكن والمراسلات والشرف والسمعة وحمايتها قانونًا، وحق التملك الفردي أو المشترك، وحرمة الملكية الخاصة، وحرية التفكير والضمير والدين، (ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سرًا أم مع الجماعة)(م 18)، وحرية الرأي والتعبير (ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.)(م19).
  • سياسية صرفة، يُخاطَبُ بها الدولة والحاكمون: تحريم التعذيب والعقوبات الوحشية، والمساواة القانونية والقضائية ودورها في حماية سائر الحقوق الإنسانية واستقلال القضاء، وحظر التعسف في الحجز الحكومي لشخص، وقواعد حماية حقوق المتهم، وحريات التنقل (الداخلي) والإقامة ومغادرة الدول والعودة إليها (الخارجي)، وحق اللجوء السياسي للمضطهدين، وحق الجنسية وتغييرها، وحرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية، والحق في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده، وتقلد الوظائف العامة في البلاد. وتتمتها: حق الضمان الاجتماعي الدولي الضامن لتحقق الحقوق السابقة “تحققًا تامًا”(م28).

ج- اجتماعية-سياسية تتعلق بالأسرة والعلاقات بين أفراد المجتمع: حق التزوج لكل بالغين بإرادتهما (دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين)، والمساواة بين الزوجين،  ثم حقوق العمل والضمان الاجتماعي والمعيشي والصحي والتعليمي والتربوي (الفردي والأسري)، وحق المشاركة الثقافية والفنية العامة.

تحليل: الإنسان وحقوقه ضمن الدولة والسياسة والعلمانية:

إذًا، فالحقوق الإنسانية هي بالأساس حقوق سياسية أو تقع تحت مظلة السياسة ودولتها القومية الحالية، تعبر عن تغول واستفحال لمساحة “السياسي” المتعلق بالسلطان ونظام الحكم[35]. وهو تغول سلطوي يرتبط بما يسمى عملية اتخاذ القرار واختيار البدائل ضمن سياسات عامة سيادية وخدمية تفتات على الكثير من الفعاليات التي صادرت عليها نظريات التمدين والتحديث ونبذتها باسم القوى “التقليدية”. هذا التغول لا يكافئ بالضرورة التغلغل المسئول المؤمِّن الذي يشير إليه مفهوم “السلطان القاهر” كما سيرد في الرؤية التراثية الإسلامية، فضلًا عن مفاهيم الرعاية والحياطة والإصلاح وأداء الأمانات والنصح لكل مسلم بمضامينها التي تعبرعنها الأصول والشروح الإسلامية.

الدولة-القومية مشروع مصنع قوامه ضرورة تسخير الداخل وعناصره من أجل الحضور المشرّف في الساحة الدولية. ليس هذا من مزاعم السلطات المتآمرة فقط والتي تعلن ذلك لتحشد المقهورين وراءها من باب الحمية الوطنية، بل إنه وازع ومطلب شعبي تتحدد بناء عليه درجة شرعية نظم الحكم. لقد صار الكبرياء الوطني الخارجي الذي لا يمكن حفظه إلا من خلال السلطة العامة الوطنية مبررًا أساسيًّا لتسليم أزمّة الحياة العامة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية، لهذه السلطة لتمارس دور “المدير العام” المتصرف بأمره (وقد يكون أمره هو اللائحة أو القانون الذي يُشرَّع حسب الحاجة كما تراها النخبة الحاكمة وباسم الجماهير)، يتصرف في كل تفاصيل الحياة العامة التي تؤثر بدورها على المجالين الخاص والشخصي.

في هذه الدولة الصُّندوق، تصبح السياسة وظيفة واسعة النطاق ممتدة إلى أضلاع الصندوق وأركانه بل محيطة به من خارجه. وانتقلت الدولة من الهيئة المعاونة والمكمِّلة لما تتراجع عنه قدرات فئات المجتمع العادية، وتقتصر مهامها الأساسية على عدد محدود من الوظائف الرئيسة التي لا تقوم إلا بالسلطان كالجهاد وإعداد قواته والقضاء حكمًا وتنفيذًا وتيسير سبل العمل والعيش الحر العادل للأفراد والجماعات، انتقلت إلى أن تكون تاجرًا وصانعًا ومصدّرًا ومستوردًا. وأضحت الأعمال العادية للناس لا تتم إلا بتصريح وترخيص إداري وإذن سياسي وموافقة أمنية ومراقبة مالية (ضريبية). وليس الإشكال في هذه الصورة للدولة التي تبدو تارة عائلية محافطة كما في الخبرات الماركسية والقبلية-القومية، ولا في التي تبدو أحيانًا عائلية متحررة في خبرات أخرى، إنما تقع المشكلة في تقييدها قدرات الإنسان والجماعة في إطار مفهوم مضيَّق للسياسة والإنسان السياسي (المواطن).

لقد صار الإنسان –في الدولة القومية- “مواطنًا” يرتبط بالناس من حوله برباط تجسده الدولة نفسها، لا يتجاوزه، غير ممكّن من ممارسة كثير من مظاهر الروابط الدينية والثقافية والإنسانية الأسمى وبالأخص الخارجية، إلا عبر القنوات الرسمية المرخّص بها، والتي تصبغ نشاطه الإنساني بسمة “العضوية” ضمن كيان مصطنع. تأبى الدولة-القومية العلمانية (غير الرسالية) إلا أن تتغافل عن كونها صناعة وضعية محدودة المعنى لكي تتغول وتدعي حلول المعنى فيها. ومن ثم فالدولة لها “السيادة” المطلقة من كل قيد، والكلية التي لا تقبل التجزئة، والشاملة لكل إقليمها والتي لا تقبل التفريط في شبر منه، والعامة التي لا يجوز تخصيصها، والدائمة التي لا يسمح بالتنازل عنها أو عن جزء منها. وبعد ذلك يقال للفرد أنت حرّ داخل هذا الصندوق حرّيةً مطلقة.

نعم تكفل المواطنة –دستوريًّا وقانونيًّا- المساواة العامة بين أعضاء الدولة، لكنها لا تكفل لهم الحرية المتساوية والحقيقية في الحياة الواقعية. والأهم من ذلك أنها حين تكون مواطنة حابسة فإنها تُعرِض عن روح الإنسان الفرد وأشواقه الخاصة لصالح التعاقد المبرم مع المجتمع، والذي تغلب عليه روح النفعية والحسابات غير المتراحمة. وفيما تسود في المجتمعات الليبرالية نظم قانونية صارمة وربما بدت قاسية، وبينما يحفظ التنفيذ الصارم للقواعد القانونية استقرار النظام العام ونوعًا من العدالة في التنفيذ، فإنه قليلًا ما تستصحب روح القانون في الحكم به وتنفيذه؛ لأن القانون نفسه لا روح له غالبًا. بل هو جسد وحسب وإن بدا متناسق الأجزاء. وسوف تجلي المقارنة بالتراث الإسلامي هذه التشخيصات.

نحن إذًا أمام حقوق إنسان تحمل من خصائص تُرْبتها الكثير: صندوقية الدولة القومية، نفعية الحقوق وماديتها مهما عُبِّر عنها بتعبيرات قيمية وأخلاقية إلا أنها في النهاية تتلبس الصيغة التعاقدية التي تجسدها مقولة (حقّي وحقّك)، وإنسان مواطن عضو في جماعة وظيفية غير إنسانية، تمنحه هذه الجماعة حزمة من المواصفات التي يتكيف بها مع ديناميات العيش الحديث، معرضة عن سائر مكوناته التي لا يمكن إثباتها أمام القانون والقضاء ولا يمكن البرهنة على إهدارها في الحلبة السياسية.

لم تتسلم الدولة-القومية نسخة حقوق الإنسان كما أذاعها الإعلان، بل حمّلتها بالكثير من القيود. تلقت الدول الإعلان من ذيله؛ من نفس المادة التاسعة والعشرين (مادة الضوابط والقيود القانونية) واستنسخت من هذه الضوابط على قدر الاستحقاقات والمزايا الممنوحة للفرد في سائر مواد الإعلان، ثم وضعتها –أي الضوابط- بإزاء كل استحقاق؛ لكي تجعله أدنى للواقعية والإمكان. وفي هذا تفاوت المتفاوتون. وعاد الإنسان إلى وعيه: مواطنًا في دولة (لا أسرة إنسانية كما بشَّر الإعلان منذ ستين حولًا) ذات نظم جادة وقوانين لا تدلِّلـه. ويوضح الكثير من النظّار والمتأملون في الخبرة الغربية خصائص وضع “الإنسان” في هذه الحياة الغربية باعتبارها منظومة علمانية مادية لا إنسانية، ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب.

حقوق علمانية لإنسان علماني وحضارة علمانية:

وفي هذا الصدد قد يحسُن استعراض رؤية خبير بهذا الشأن، يُجلي حقيقة إنسان الحضارة الغربية في نوبتها الراهنة التي وصفها بالعلمانية الشاملة. يشير د.عبد الوهاب المسيري رحمه الله -تعالى- إلى إنسان الحضارة الغربية الراهنة المزعوم عولمته باعتبارهنموذج إنسان العلمانية الشاملة[36]. فمن مدخل التعريف الرصين بالعلمانية مفهومًا وظاهرةً، وبالأخص في نسختها وخبرتها الغربية الممتدة لنحو ثلاثة قرون، يقدم الدكتور  المسيري في هذا المقام عملية تأملية منهجية عميقة الأغوار واسعة الأطراف، امتدت إلى سائر القضية الإنسانية: الدين والوجود، والغيب والشهادة، والعقل والوجدان والحواس، والحضارة والثقافة، والفكر، والمعرفة والعلم والقيم والمعنى، والمادة والروح، … وفي وسط كل ذلك يقع “الإنسان“: الإنسان بين حقيقة إنسانيته وزيفها، بين كليته وتقطيعه إربًا، بين تواصل عناصر تكوينه والفصامات النكِدة التي أُحدثت بين جوانيّه وبرّانيّه، بين إعلاء قيمة عناصر الإنسانية فيه وتقديم مقتضيات طينيته على ما عداها؛ أي بين الأنسنة والعلمنة.

ففي منظور فريد، يفرق د.المسيري بين ما يسميه “العلمانية الجزئية” (أي فصل الدين عن الدولة) و”العلمانية الشاملة” (فصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الحياة في جانبيها العام والخاص)[37]؛ محاولًا إعادة تعريف “العلمانية” بطريقة أكثر تفسيرية من التعريفات المتداولة؛ وذلك بتفكيكها ثم إعادة تركيبها لكي يجرّد منها نموذجًا تحليليًّا يتضمن (التعريف- العمليات- الآليات- المؤشرات- المراجعات على المفهوم)، متعرضًا لمطلقها (المطلق العلماني)، وتجليها الأبرز (اللحظة العلمانية النماذجية) وقضايا التمركز الصلب والسائل للعقل الغربي حول بؤرة معينة؛ وصولًا إلى النموذج الكامن وراء العلمانية الشاملة حيث تتبدى فيها الوحدة الكامنة خلف التنوع[38]. فما علاقة ذلك بالإنسان؟

يقع الإنسان في قلب التعريف الأوليّ للعلمانيتيْن: الإنسان السياسي (المواطن باللغة المعاصرة) في قلب العلمانية الجزئية الفاصمة بين الدين والدولة، والإنسان الشخص العام أو الخاص في دائرة العلمانية الكلية الشاملة.

وإذا كان د.المسيري –في هذا المقام- يركز على “الإنسان الغربي”؛ فليس ذلك لقصر الرؤية عليه، بقدر ما يعتبره “الإنسان النموذج” لإنسان العلمانية الشاملة المروّج له والمنادَى بعولمته وتعميمه على إنسان الكوكب؛ ومن ثم يمكن تجريده إلى مواصفات للعقل والوجدان العلماني الشامل. إن “المقدرة والتفسيرية والتصنيفية لنموذج العلمانية الجزئية [أصبحت] ضعيفة إلى أبعد حدّ“، “فلم تعد هناك رقعة للحياة العامة مستقلة عن الحياة الخاصة. فالدولة العلمانية [جزئيًّا] والمؤسسات التربوية والترفهية والإعلامية وصلت إلى وجدان الإنسان، وتغلغت في أحلامه، ووجهت سلوكه وعلاقته بأعضاء أسرته النووية، وقوضت  ما تبقى من أخلاقيات مسيحية أو حتى إنسانية (هيومانية humanist) (هي في حقيقتها أخلاق مسيحية تمت علمنتها). ولم يعد بالإمكان الحديث عن فصل هذا عن ذاك، وبخاصة بعد عام 1965، حين انتقلت الحضارة الغربية الحديثة من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة[39].

إن رؤية الإنسان لنفسه ولله –تعالى- وللطبيعة والتحولات التي تطرأ عليها هي العامل الحقيقي لصناعة العلمانية، “وكل المجتمعات الإنسانية ليست بمنأى عن هذه التحولات[40].

وليست هذه العلمنة –من ثم- قاصرة على عالم الأفكار المجرّدة، بل هي حشو عالم الأشياء؛ إذ إن “كل الأشياء المحيطة بنا، المهم منها والتافه، تجسّد نموذجًا حضاريًّا متكاملًا يحوي داخله إجابة عن الأسئلة الكلية النهائية“، ومن ثم فهي “تخلق جوًّا خصبًا مواتيًا لانتشار الرؤية العلمانية الشاملة للكون، ويصوغ سلوك من يتبناها وتوجهه وجهة علمانية” وهذا هو معنى بنيويتها: أي داخلة في تركيب الشيء، وكامنة فيه غير واضحة[41].

ولذا يلفت النظر إلى إشكالية مهمة وهي: ممارسة الرؤية بلا وعي، وتقمص النموذج بلا شعور، وأن يصنع الإنسان منتجاتٍ ويقدم أفكارًا تغرس العلمانية وهو لا يعي العنصر البنيوي الكامن في هذه المنتجات والأفكار والمتعلق بالعلمانية[42]. المهم في هذا كله أن هذه العلمنة –بعناصرها وتجلياتها الحضارية البارزة والكثيرة– هي التي تشكل إنسان العصر: تصورَه لذاته والحياة والكون والغاية، تجعله إنسانًا وظيفيًّا: وجدانًا وتفكيرًا، يتكيف مع وتيرة الحياة ونوعيتها المادية، يتدروَن (من داروين)، يصير نسبيًّا في قيمه ومعياريته ومقاصده، لا يؤمن بمطلق متجاوز، ولا يعترف بثابت أصيل.

إن تطور الظاهرة والفكرة العلمانية في الخبرة الغربية منذ عصر النهضة قد شهد واكتنف صراعًا بين ثنائيتين متقابلتين تتابعتا، تتألف كل منهما من علاقة سيادية بين الإنسان والطبيعة، فالأولى تتمركز حول الإنسان باعتباره مطلقًا ومركزًا ومقدَّمًا على الطبيعة: “فالمرجعية النهائية إنسانية“: عقلية أو وجدانية. والثانية تتمركز حول الطبيعة، فهي المطلق والمرجعية ولها الأسبقية على الإنسان، بل الإنسان جزءٌ لا يتجزأ من الطبيعة المادة… صراع حُسم لصالح التمركز حول الطبيعة المادة وإعادة إنتاج الإنسان من منظورها. … لماذا؟

لأن الإنسان –في النموذج الأول: الإنساني– لم يكن يستند إلى أرضية فلسفية راسخة، خاصة مع غياب المرجعية المتجاوزة وانسحابها من العقل والوجدان الغربي شيئًا فشيئًا، فلم تبقَ إلا المادة؛ “وهو ما أدى إلى ظهور الفلسفات المعادية للإنسان (البنيوية، ما بعد الحداثة) تعبيرًا عن هذا. كما أن معظم المصطلحات السلبية التي طورتها العلوم الاجتماعية الغربية تدور حول موضوع واحد، هو إزالة الإنسان كظاهرة مركبة مستقلة حرة[43].

إذن فالعلمانية ليست فقط موقفًا من الدين بإزاء الدولة أو الحياة العامة/الخاصة، بل هي أيضًا موقف من “الإنسان” وموقعه من الكون والحياة. إنها إطار معرفي (عقدي) ومرجعي (أشبه بالبُعد التشريعي الموجّه للسلوك). لقد صرنا أمام إنسان عاجز عن استيعاب –ليس الإيمان نفسه فحسب- بل عاجز عن استيعاب مقدمات الإيمان نفسها: أي أن يتصور أنه إنسان لا مجرد شيء أو قطعة لحم، وأن الحياة فيها قيم ومُثُل كما فيها ملابس وسيارات، وأن الكون وراءه قوة عليا كما أنه تكمن فيه قوى كهرومغناطيسية ونووية وجاذبية تفعل فعلها ولا نراها.

هكذا يصير الإنسان بائسًا تعيسًا مقهورًا إذا ما اختار كسر قيد الإنسانية –كما يتخيله العلماني- لصالح تحرر علماني موهوم. والتجربة شاهدة في الغرب في طوره الأخير يقول د.المسيري: “فقد ازدادت الدولة العلمانية قوة وتغولًا، وأصبحت “الدولة التنين” التي تنبأ بها هوبز، وأحكمت بمؤسساتها الأمنية قبضتها على الفرد من الخارج. كما أحكمت مؤسساتها التربوية قبضتها عليه من الداخل، تساعدها في ذلك قطاع الإعلام وقطاع اللذة، اللذان تمدَّدا وتغوَّلا بطريقة تفوق تغُّول الدولة و”تنينها”، كما أن حركات العلمنة البنيوية ازدادت تصاعدًا ونشاطًا، وبالتالي اتسع نطاق العلمنة وتخطى عالم السياسة والاقتصاد ووصل إلى عالم الفلسفة (فلسفة الاستنارة والعقلانية المادية)، ومنها إلى كل مجالات الحياة العامة والخاصة، أي إن الإنسان تم ترشيده وتدجينه تمامًا من الداخل والخارج. ولم يعد هناك أي أثر للمرجعية المتجاوزة، ولم يعد هناك أي أساس لأية معيارية[44]. مشيرًا إلى الدور الخطير الذي بات يلعبه قطاعا الإعلام واللذة “لإعادة صياغة صورة الإنسان لنفسه بشكل جوهري، وبإشاعة مجموعة من القيم خارج أي إطار قيمي أو معرفي، ودون التزام اجتماعي أو حضاري“.

ويشير د.المسيري إلى أهم متعلقات الإنسان التي تأكلها العلمانية: إنه القضاء على التمييز المنهجي والوصل الجميل بين الحياة العامة والحياة الخاصة: فالحياة هي أهم متعلقات الإنسان، فهي محله، ومجاله، وميدانه، ومنها معاشه ومقامه إلى أن يلقى وجه الكريم سبحانه. وهي واقعة بين الشأن الشخصي، والشأن الخاص والشأن العام، وقد يتميز ضمن الفضاء العام ما يسمى بالشأن االسياسي. فقد قوضت العلمانية رقعة الحياة الخاصة حتى تكاد تختفي بالنسبة لبعض البشر، وغوّلت من السياسي، وجعلت العام المشترك ماديًّا نفعيًّا ربحيًّا سلطويًّا تبادليًّا لا تراحم فيه ولا إحسان.

إن الحياة بمنطلقاتها وغاياتها (وعلى رأسها السعادة) وخصائصها ومستوياتها ودوائرها المتعددة، وظواهرها المتداخلة، باتت تُرى ماكينة دقيقة منضبطة، لكنها سطحية جافة متحكمة، ولم يعد الإنسان ذلك العامل المراقب للماكينة المستفيد من خيرها، بل أمسى هو السلعة التي تتقلب في أحشاء هذه الماكينة لكي تخرج نمطًا متشيِّئًا [اسطامبة] في عملية تنميط كبرى.

لقد كان نصيب الإنسان والنفس الإنسانية والحياة الإنسانية من “متتالية العلمانية” وأزماتها في الغرب السبّاق كبيرًا: أزمة الإنسان الحديث، أزمة الحضارة الإنسانية، أزمة التحديث، الاغتراب، أزمة المعنى، ضمور الحسّ الخلقي، هيمنة القيم النفعية، غياب المركز، تفّشي النسبية المعرفية والأخلاقية، الأنومية/اللامعيارية، تفتت المجتمع، تآكل الأسرة، تغول الدولة البيروقراطية والأمنية، .. بداية اختفاء ظاهرة الإنسان،.. ظهور فلسفات معادية للإنسان، العدمية الفلسفية، الإحساس بالعبث، تراجع الفردية والخصوصية، التنميط، سيطرة أجهزة الإعلام على البشر، ظهور الحتميات المختلفة (البيولوجية، والبيئية والوراثية والتاريخية)، العالم الحديث كقفص حديدي (عبارة ماكس فيير) التسلع (أي تحول الإنسان إلى سلعة)، التشيؤ (تحول الإنسان إلى شيء)، دعوى موت الإله (أي سقوط مفهوم الكل”، موت الإنسان[45].

وكلها مصطلحات ظهرت في الدوائر الغربية بلا تفسير كلي جامع واصل بينها؛ حيث إن علم الاجتماع الغربي نفسه قد عانى نفس العلة التي يبحث عنها، فكانت على رأسه وهو لا يدري وكان كالطبيب الذي أصابه الرمد بينما هو يفحص عينًا مصابة به[46]. وهكذا أنتجت “الاستنارة المظلمة” التي يتحدث عنها غربيون تآكلًا في “العقل النقدي“، وعقلًا تكيكيًّا وآخر “أداتيًّا” لا يكترث بالإنسان ولا قيمه ولا أخلاقه. ومن ثم أفرزت “الإنسان ذا البعد الواحد“: المسطّح بلا عمق، و”الإنسان الشيء” والإنسان الهامش المستبعد من مركزية الرؤية للحياة، حتى تكللت بإكليل شوك شارته العداء للإنساني: “أنتي-هيوماينزم anti-humanism”.

تتعدد أبعاد الحياة الغربية: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية والفنية والأدبية التي تشهد لهذه الحقيقة: اكتساح العلمانية الشاملة الكامنة للعقل والوجدان الغربي وآثارها المأساوية: الأرض الخراب لـ ت. س. إليوت، ومسرح العبث، ومسرح القسوة لأنطوان أرتو… في عملية صامدة من تفكيك الإنسان ونزع القداسة عنه في طريق السوق لبيعه خردة أو “روبابيكيا“.

علمنة السياسة ثم الإنسان: الطريق إلى الإعلان:

لقد بدأ الاستعمال العام للفظ سكيولار secular مع صلح ويستفاليا المشهور 1648 الذي أنشأ ظاهرة الدولة القومية، وكان مختصًّا بعلمنة ممتلكات الكنيسة بمعنى نقلها إلى سلطات سياسية غير دينية، ثم اتسع على يد جون هوليوك John Holyooke (1817-1906) ليكون أول من سكّ المصطلح بمعناه الحديث، فعرف العلمانية بأنها “الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض“. ويعلق د.المسيري: و”هو يتحدث عن الإنسان دون تعريف للسمات الأساسية لما يشكل جوهر الإنسان الذي ستتم العملية الإصلاحية عليه وباسمه (هل هو إنسان طبيعي/ مادي؟) وهل الإصلاح من خلال الطرق المادية فقط لا يعني الرفض الكامل للإيمان وليس فقط عدم التصدي له كما يدعي هوليوك؟[47]. هل يمكن في إصلاح حال الإنسان أن يُترك الإيمان الديني وشأنه؟ يرى د.المسيري أنه “أمر مستحيل في هذا الإطار الشامل[48].

قلت: ولعل الأخطر في ذلك هو اختلاق “أخلاق” جديدة لادينية… فالأخلاق من جواهر الأديان، والأديان هي مصنعها الأساس، فإذا تم تجاوز حقوق الملكية الخاصة بالأخلاق والمعترف بها سابقًا للأديان، والسماح بالتقليد وإعادة بناء الأخلاق من خارج الأديان على غرار المنافسات التجارية بين المنتج الأصلي ومقلداته في الأسواق، فماذا تكون النتيجة؟ تفريغ الأديان من مضمونها، وصراع قُوى بين فلسفتيْن حول “الأخلاق”.

لقد نفت العلمانية الدين والميتافيريقا في البداية لصالح حياةٍ وفكرٍ سطحييْن أملسيْن مصمتين لا جوف لهما، ثم لم تلبث أن صنعت لنفسها –بقانون الضرورة الذي يحكم السلوك والعيش للأشخاص والأفكار ويقرر: أنه لابد من فكر يصنع الاتساق والتبرير الجواني، ولابد من جوانية لكل برانية- فصنعت لنفسها روحها ودينها وميتافيريقاها. ينقل د.المسيري عن شاينر تأكيده: “إن ذروة هذا النوع من العلمنة هو ظهور عقيدة ذات طابع داخلي [جواني] محض، لا تؤثر [فقط] لا في المؤسسات ولا في الأفعال الجماعية[49].

هذا هو المآل: استبعاد “الديني” من المجال العام/ المشترك/ الجماعي لقصره على بقعة “الخاص“، كأنه يسهل في منطق الحياة الإنسانية التفرقة بين الإنسان الفرد والإنسان الجمع فصلًا جراحيًّا؛ بحيث يدخل المرء بيته أو مسجده فيذكر الله تعالى واليوم الآخر ويقرأ القرآن (أو إنجيله) وسير الأنبياء والمرسلين والصديقين، فإذا خرج من بيته أو مسجده (أو معبده) تعهد وأقسم والتزم ألا يذكر شيئًا من ذلك أو ينفعل به، بشكل لطيف.

ولو تابعنا د.المسيري ومنطقه سنجد أن العلمانية ومفاهيمها قد ادّعت الحياد والتجرد للحق والحقيقة؛ لكي تتسرب إلى كرسيّ القضاء، وتجلس على السُّدّة تحكم في ذات قضيتها وتصادر على المطلوب. ومن هنا اتسمت العالمية الغربية التي أعلنتها الحرب العالمية الثانية بسمة خفية تلبّسها العالم هكذا دون مراجعة أو نقد؛ ألا وهي سمة العلمانية التي سرت في فلسفة القانون الدولي ومؤسساته ومواثيقه وسائر شئونه، وبالأخص في مجال حقوق الإنسان. فلسان حال الإعلان العالمي  يقول: يولد الإعلان علمانيًّا، يبدأ جزئيًّا، وينتهي شاملًا.

من تبني الحقوق “العلمانية” إلى محاكمة التراث “الديني”

وبانتقال الفكرة العلمانية إلى الشرق العربي والإسلامي منذ أواسط القرن القرن التاسع عشر الميلادي برزت طبقات من العلمانيين الجزئيين والشاملين والمتراوحين بينهما، وكانوا هم الأسرع في تبني مقولات حقوق الإنسان وحرياته الأساسية حين برزت على الطريقة الغربية ومفهومها الخطي للتاريخ والتقدم الإنساني؛ ومن ثم اندلعت ملحمة التراث والمعاصرة ومعاركها التي ما برحت تكبح عجلات النهوض والتقدم في الأمة أن تتحرك إلا إلى الوراء.

وهكذا، فلقد تم تفسير أكثر الحقوق الواردة في الإعلان وتوابعه على أنها دعوات انعتاق من أسر الدين أو التراث أو التقاليد المرتبطة بهما، وبدأ فاصل من محاكمة الدين والتراث من منطلق هذه الحقوق وفلسفتها.

  • فحفظ البقاء (الحياة) والسلامة الشخصية، وتحريم التعذيب والعقوبات الوحشية: مقولة تستعمل ضد تطبيق الحدود الشرعية التي رميت بكل كبيرة من عبارات الاستبشاع التي قد تلمز بها عبارة “الوحشية” المذكورة؛ سواء القطع أو الجلد أو الرجم أو القصاص بالقتل أو المس بشيء من الإيلام الجسدي لأصحاب التهم الكبيرة للضرورة. وظهرت مقولات تحريم انتهاك الجسد البشري، وتحريم الإعدام، وما إليها.
  • وتحريم الاسترقاق وتجارته وتحريمهما: علامة على السبق الغربي والحداثي لتحرير العبيد وهي مناسبة لانتقاد التشريع الإسلامي والتراث والتاريخ الذي امتلأ بحكايات الرقيق العبيد والجواري وملك اليمين والسراري والسبايا والموالي والتشريعات التي لم تصرح بتحريم الاسترقاق بل جعلت الحرب والأسر من أبوابها المشروعة.
  • وحرمة الحياة الخاصة والمسكن والمراسلات والشرف والسمعة وحمايتها قانونًا: وهذه شارة فخر الليبرالية التي لم يعرفها التراث الشمولي الطامس للشخصية الفردية.
  • وحق التملك الفردي أو المشترك، وحرمة الملكية الخاصة: هي دفع ضد التاريخ الإسلامي الذي كان السلطان فيه المالك الوحيد والناس بين منتفعين أجراء، وجباة أتباع.
  • وحرية التفكير والضمير والدين، (ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سرًا أم مع الجماعة)(م18): دعوة ضد كبت الحريات وعقوبة الردة أو حدّها الذي يفيد الإكراه على البقاء في ديانة موروثة وإلا فالقتل بحجة أنه “من بدَّل دينه فاقتلوه”-الحديث. وهنا تثار قضايا المحنة الحنبلية ومصارع المتهمين بالزندقة باعتبارها سمة متكررة ومسيَّسة في الخبرة الإسلامية بزعمهم.
  • وحرية الرأي والتعبير (ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.)(م19): وهي القيم التي لم يعرفها لا التاريخ ولا الحاضر الإسلاميان. بل صودرت كتابات العقلانيين من الفلاسفة والمتصوفة وأوذوا بسبب آرائهم وكتاباتهم من أمثال ابن المقفع وابن رشد والحلاج ومحيي الدين بن عربي وابن تيمية وتلميذه ابن القيم، فالكواكبي وطه حسين وسيد قطب ومحمود محمد طه السوداني وسلمان رشدي ونصر حامد أبو زيد، وغيرهم من الذين اضطهدوا وطوردوا.
  • والمساواة القانونية والقضائية ودورها في حماية سائر الحقوق الإنسانية واستقلال القضاء: وليس كما جرى في التعامل قانونًا مع الذمي والمرأة والعبيد وعدم مساواتهم في الكثير من الأحكام بالمسلم الذكر الحر. وأنها ليست كما كان يجري من تعيين الأمير للقاضي؛ ومن ثم بروز ظاهرة “فقهاء السلطان”.
  • وحظر التعسف في الحجز الحكومي لشخص، وقواعد حماية حقوق المتهم، وحريات التنقل (الداخلي) والإقامة ومغادرة الدول والعودة إليها (الخارجي)، وحق اللجوء السياسي للمضطهدين، وحق الجنسية وتغييرها، وحرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية: وهي كلها قيم وأفكار مستحدثة لا قبل للتراث بها؛ إذ سيطرت عليه فردانية السلطان، يحبس وينفي من البلاد، ولا يعرف المواطنة ولا الجنسية بل الملة والذمة، والبقية دار حرب وحربيون، ولا يعرف التعددية ولا الأحزاب بل يراهم من الخوارج والبغاة الذين يحل له استئصالهم.
  • والحق في الاشتراك في إدارة الشئون العامة لبلاده، وتقلد الوظائف العامة في البلاد: وليس كالذي كرسه التراث من نظم ولاية العهد والتوريث والارستقراطية في إدارة الدولة ومنع الذمي والمرأة منها.
  • وحق التزوج لكل بالغين بإرادتهما (دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين) والمساواة بين الزوجين: بلا وصاية من ولي أو وصي يقيد حرية المرأة ويقرر هو مصيرها، ولا قوامة من رجل يطالب المرأة بالسمع والطاعة ويرث ضِعف نصيبها ويتحكم في تصرفاتها، ويطلقها متى شاء.
  • وحقوق العمل والضمان الاجتماعي والمعيشي والصحي والتعليمي والتربوي (الفردي والأسري)، وحق المشاركة الثقافية والفنية العامة: وهي من ميزات الدولة القومية الليبرالية الحديثة ومكاسبها التي ناضلت من أجلها البشرية، والتي صار للإنسان الفرد فيها مكان ومقام لا ينكر.
  • وتتمة الأمر: حق الضمان الاجتماعي الدولي الضامن لتحقق الحقوق السابقة “تحققًا تامًا”(م28): وهو ما يحقق البعد العالمي الذي يرفع الحواجز فيما بين الغرب وقيمه والعالم ودوله وشعوبه. فقيم حقوق الإنسان قيم إنسانية عالمية مطلقة عامة لا تنازعها خصوصيات ولا تقيدها قيود اللهم إلا من ذات منطقها.

حزمة من أصناف الحقوق الإنسانية يدفع بها الإعلان -وقراءاته العلمانية البارزة في بلادنا- في وجه التراث الإسلامي بعامة والسياسي منه بخاصة، ولسان حالها يقول: هل لديك مثل هذه الحقوق؟ وألست متلبسًا بما يقابل أكثرها من انحرافات واعتداءات على الحقوق الأساسية والحريات العامة التي هي أصيلة وطبيعية لكل آدمي؟[50] فبماذا عساه يجيب؟ هذا ما نحاول استكشافه في الجزء التالي من هذه الورقة.

والخلاصة أن الحق هو اسم يعبر عن المشروعية القانونية للقيام بأفعال أو الامتناع عن أخرى في ظل الدولة التي ينبغي عليها التمكين من فعل الأولى وعدم الإجبار على فعل الأخرى. وهذه المشروعية بعضها تجويز لصاحبها أن يمارسها وإيجاب على الآخرين وبالأخص السلطة الحاكمة بعدم فعل المضاد أو التأثير سلبًا على قدرة الفرد في أدائها، وبعضها أشبه بالإيجاب على الفرد أن يمارسه من باب الحفاظ على إنسانيته وحقوقها الأصيلة في ظل عالم اليوم.

تُمنح هذه الحقوق للإنسان الفرد أصالة. ذلك الإنسان الذي بات يعيش في عالم من “الفزع والفاقة” لا مخرج منه إلا بدولة القانون على ما تراءت معالمها في غرب أوروبا والولايات المتحدة آنئذٍ: سعيًا لأن تكف هذه الدولة عن الأفراد شرّها وشرهها، وأن تلتزم معهم بمعنى الديمقراطية الليبرالية الصائنة لحقوقهم العاملة لمصالحهم. هذه هي الحقوق الإنسانية، وهذا هو إنسانها كما نقرأهما من الإعلان الصادر منذ ستين سنةً. فماذا عن التراث السياسي الإسلامي الذي ظهر منذ نحو ألف وأربعمائة عام واستمر ينمو لقرون عديدة؟

ثانيًا- حقوق الإنسان في التراث السياسي الإسلامي:

توطئة:

متى برزت قضية حقوق الإنسان في التاريخ الإسلامي: فكرًا وممارسة؟ برزت منذ بدء نزول الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وفي أول آيات نزلت عليه بغار حراء، كان “الإنسان” حاضرًا بوضوح: (اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم . كلا إن الإنسان ليطغى . )-الآيات 1-6 من سورة العلق. واستمر القرآن من بعد ذلك والسُّنة يتحدثان في الإنسان بلا انقطاع وعبر منظومة شديدة الاتساع والتكامل. ثم بدأ ميلاد التراث الإسلامي عقب انتقال النبي (صلى الله عليه وسلم) سنة 11 هـ، وبدأ عمليًّا وشفاهيًّا إلى أن انبلج فجر عصر التدوين والتصنيف؛ حيث نشأ الكيان المقيّد الحافظ للتراث الفكري عبر العصور: الكتب والقراطيس.

لم يتأخر الأدب السياسي كثيرًا، بل إن أدب الحقوق الإنسانية نفسه برز في أواخر القرن الأول الهجري واستمر بعده. فكتب مبكرًا حفيد الرسول (صلى الله عليه وسلم) زين العابدين علي بن الحسين (ت: 95هـ) رسالة سماها “رسالة الحقوق” تتضمن ذكرًا لخمسين (50) حقًّا من حقوق العباد على أنفسهم وفيما بينهم، خاطب بها ابن سبط النبي صلى الله عليه وسلم الإنسانَ المسلم ومن ورائه سائر الآدميين بمنطومة حقوق جامعة، ووصفها بأنها “محيطة لك في كل حركة تحركتها أو سكنة سكنتها أو منزلة نزلتها أو جارحة قلبتها وآلة تصرفت بها[51]؛ مكللة بالتوحيد الذي هو حق الله الأول على جميع العبيد، شاملة حق نفس الإنسان عليه، وحقوق الجوارح من اللسان والسمع والبصر واليد، إلى العبادات من الصلاة والصوم والحج وما لها من حقوق التأدية والتكميل وتحقيق المعنى والمبنى، إلى حقوق المُعلم والسلطان والدولة، إلى حقوق الأرحام من الأم والأخ والأب: توقير الكبير، ورحمة الصغير، والعفو عن المسيء، ثم الحقوق التي بين الراعي بالسلطان والرعية بالسلطان –وهي تقابل تلك التي يركز عليها الخطاب الحقوقي المعاصر- … انتهاءً إلى حقوق أهل الإسلام وحقوق أهل الذمة.

ونظرًا للبكور الباكر الذي تتميز به هذه الرسالة؛ وحيث لم تكن العمليات السياسية والتشريعية المتعلقة بالدولة الأموية قد تعقدت وتجلت تفاصيلها على النحو الذي وقع من بعد، بما أسهم في تمييز الأدب السياسي –أو بالتعبير المعاصر: تمييز الظاهرة السياسية- بكتابات مخصوصة ومستقلة، فيمكن اعتبار مثل هذه الرسالة تمهيدًا حقوقيًّا عامًّا ومجملًا قبل التفصيل الذي عُني به الفقه العام ثم الفقه السياسي الخاص، فأدبُ النصيحة والفلسفة السياسية من بعد. وقد يتطلب الأمر وقفة تعريفية موجزة أمام هذه الرسالة الصغيرة –باعتبارها توطئة- لتبين مفهوم حقوق الإنسان فيها كما كان مفهومًا في تلك الفترة (منتصف العهد الأموي تقريبًا).

فدلالة “الحق” هنا واسعة المجال، تشمل ثلاثة مستويات أساسية: حقوق الله تعالى على الإنسان، وحقوق الإنسان على الإنسان على تنوع واسع في أحدهما عن الآخر، وبينهما الحقوق التي للإنسان –كلًا وأجزاءً- على نفسه. ولا شك أن هذا المفهوم للحق أوسع من نظيره في الإعلان ومن العهدين الدوليين الخاصّيْن بالحقوق المدنية والسياسية[52] والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية[53]. والحق هنا قد يستعمل بمعنى الواجب؛ أي إنه قابلٌ للتحرك في الاتجاهين، غير متصلب في اتجاه الفرد بإزاء الآخرين وبالأخص السلطان على النحو الوارد في الإعلان.

إن النظرية الإسلامية العامة التي أطبق عليها التراث الإسلامي سياسيه وغير سياسيه وفقهيه وغير فقهيه- ترى أن الحقوق صنفان متصلان: حقوق الله تعالى والتي تسمى بالحق العام وبالحدود بالمعنى الواسع ومن ثم تتحول إلى حقوق للجماعة، وحقوق العباد والآدميين[54] (لاحظ أن التعبيرات مفعمة بالصبغة الدينية التي اعتز بها هذا التراث بأشد مما فخر الليبراليون المُحدَثون بليبراليتهم، فتعبيرات الإنسان والناس والأشخاص والأفراد والبشرية يعبر عنهم غالبًا بالعباد والخلق والمؤمنين والمسلمين والآدميين، وكذلك تستعمل كلمات الناس والإنسان التي لا يلزم منها الاقتصار على المعنى الفرداني، و فيما يتراءى للباحث يقل استعمال “الفرد” لصالح “العبد” ثم “المرء”)، وحقوق العباد يثبتها لهم الشارع أو ما يتعاقدون عليه مما لم يمنعه الشرع.

فحق الله تعالى –كما يعرضه سيدنا زين العابدين- أعظمه حق الله الأكبر: التوحيد؛ الذي هو المعنى الأكبر في التصور الإيماني للمسلمين والقيمة العليا مطلقًا في سُلم قيمنا. فماذا يقابله للإنسان: هل له حق على الله؟ الجواب عند أهل السُّنة واضح: للعبد (للإنسان) حق “عند” الله لا “على” الله جعله الله تعالى على نفسه تفضّلًا. يقول: “فأما حق الله الأكبر، فإنك تعبده لا تشرك به شيئًا. فإذا فعلت ذلك بإخلاصٍ جعل الله على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة، ويحفظ لك ما تحب[55].

إذًا فهذا مقام اختلاف عريض بين الرؤية الإسلامية –التراثية والحديثة- بل سائر الرؤى الدينية، وبين الرؤية العلمانية (التي يتبناها أغلب الخطاب الحقوقي الغربي والمتغرب) المكتفية والمستغنية بالإنسان والأرض عما وراءهما. فالرؤية الإسلامية “دينية” تمامًا بالمعنى الذي ما فتئ العارفون يفهِّمونه للمتعلمنين ويميّزونه عما رسخته كتابات النهضة والتنوير عن الخبرة الكاثوليكية الوسيطة وحاولت تعميمه على سائر الأديان.

ثم إن على الإنسان حقوقًا لصالح نفسه: حق نفسك (عليك):وأما حق نفسك عليك فأن تستوفيها في طاعته (طاعة الله)، فتؤدي إلى لسانك حقه، وإلى سمعك حقه، وإلى بصرك حقه، وإلى يدك حقها، وإلى رجلك حقها، وإلى بطنك حقه، وإلى فرجك حقه، وتستعين بالله على ذلك…[56].  وهي كما نرى متصلة بحقوق الله تعالى مكتنفة بها، موصولة بالأفراد والهيئات من سائر الخلق. فعلى سبيل المثال: ما حق اللسان؟ إنه كفٌّ عن أعراض الناس، وإكرامٌ للمخالطين، وإعفاءٌ وحسنُ سيرة[57]. وحق السمع: تنزيهه إلا عن الكريم “فإنه باب الكلام إلى القلب“. وحق البصر: “غضّه عما لا يحل لك”… “فإن البصر باب الاعتبار[58].

قارن هذا بحديث حرية الرأي والتعبير وحق النشر والمعلومات والحصول عليها الذي يطلقه الخطاب الحقوقي إطلاقًا بلا قيد. ويعلق الشارح عباس علي الموسوي على حق اللسان فيقول: “الكلمة سكين ذو حدين بأحدهما نبني الحضارة الإنسانية ونساهم في توفير السعادة للناس والرفاهية لهم، وبالثاني نقضي على كل المعالم الشامخة من تراث هذا الإنسان وحضارته كما نقضي على وجوده بالذات…“.

قِسْ على هذا أشياء مثل حق رجليك: “فأن لا تمشي بها إلى ما لا يحل لك،” “فإنها حاملتك وسالكة بك مسلك الدين…”[59] وقارنه بحق التنقل الأجرد. وكذلك حق يديك. وحق بطنك: “فأن لا تجعله وعاء لقليل من الحرام ولا لكثير، وأن تقتصد له في الحلال[60]. وحق الصدقة: “فأن تعلم أنها ذخرك عند ربك، ووديعتك التي لا تحتاج إلى الإشهاد… ثم لا تمتّن بها على أحدٍ لأنها لك” والامتنان دليل على أنك “لم ترد نفسك بها ولو أردت نفسك بها لم تمتن بها على أحد[61].

حين نقارن هذا المنطق بالفلسفة التي حكمت الجانب الاقتصادي من الحقوق المعاصرة، يتجلى لنا فارق أساس بين رؤية للإنسان مركبة متعددة الأبعاد والوجوه مفعمة بالعلاقات الواقعية والوصل بين داخلية الإنسان وحركته في الحياة، وأخرى أحادية مسطحة على ما سبق بيانه بشأن الحضارة الغربية وإنسانها من كلام الدكتور المسيري رحمه الله تعالى.

ذلك إلى أن يصل إلى السياسة والسائسين: إلى حق سائسك بالسلطان: “فأما حق سائسك بالسلطان فأن تعلم بأنك جُعلت له فتنة، وأنه مبتلى فيك، بما جعله الله له عليك من السلطان، وأن تخلص له في النصيحة، وأن لا تماحكه وقد بسطت يده عليك، فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه. وتذلل وتلطف لإعطائه الرضى ما يكفّه عنك ولا يضر، وتستعين عليه في ذلك بالله. ولا تغارّه ولا تعانده فإنك إن فعلت ذلك عققته وعققت نفسك فعرضتها لمكروهه وعرضته للهلكة فيك، وكنت خليفًا أن تكون معينًا له على نفسك وشريكًا له فيما أتى إليك ولا قوة إلا بالله”[62].

رؤية مختلفة كثيرًا عن تلك التي تحيط بالحقوقية والمجال السياسي الراهن، رؤية متصالحة مع نفسها ومع إنسانها حاكمًا ومحكومًا، لم يأكل النزوع الصراعي قلبها، ولم يأسرها التشاؤم الهوبزي ولا المونتسكي الذي عمّ العالمين منطقُه. السلطان والرعية كلٌّ بصاحبه مُبتلَى. وهذه ليست مبنية للمجهول الذي لا يُراد تسمية فاعله، بل هي مبنية للمعلوم بداهةً والمذكور دائمًا مِنْ قبلُ ومِنْ بعدُ، بل هو أول وأعظم مذكور في هذه الرسالة: الله رب العالمين: هو الذي ابتلى كلًا بصاحبه “ولا قوة إلا بالله“. ومن ثم فالحقوق التي بين أرباب الدولة والرعية (المواطنين) هي بالأحرى واجبات أمام الله تعالى. هذا المنطق الذي تراه مبثوثًا في التوراة والإنجيل والقرآن، وأكده أنبياء بني إسرائيل الذين ينتسب الغرب إليهم، ويكفي فيه قوله تعالى لنبيه داوود عليه السلام: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ {38/26}).

لذا يخاطب هذا الإعلان الإيماني الطرف الآخر: السلطانَ: حق رعيتك بالسلطان: “وأما حق رعيتك بالسلطان فأن تعلم أنك إنما استرعيتهم بفضل قوتك عليهم، فإنه إنما جعلهم محل الرعية لك ضعفُهم وذلُّهم، فما أولى من كفاك ضعفه وذله -حتى صيّرة لك رعية وصيّر حكمك عليه نافذًا لا يمتنع منك بعزة ولا قوة ولا يستنصر فيما تعاظمه منك إلا (بالله)- بالرحمة والحياطة والأناة، وما أولاك إذا عرفت ما أعطاك الله من فضل هذه العزة والقوة التي قهرت بها أن تكون لله شاكرًا، ومن شكر الله أعطاه فيما أنعم عليه، ولا قوة إلا بالله”[63].

خطاب توصية ونصح تراحمي، يحتضن التعاقدية في مهد من الرحمة والتقوى والقيم التي هي قوام الإنسانية الحقة لا الإنسانية المصطنعة. قد يقال إنه خطاب وعظي لا يسمن ولا يغني من جوع، لكن الذي أثبته التاريخ القديم والحديث أنه كان الأكثر كفاءة وفعالية. ولكن الملاحظة الأساسية هنا هي في اختلاف نوعية المطالب الحقوقية في هذا الخطاب عنها في خطابنا المعاصر. فلا يسوغ عندنا أن يطلب الناس (المواطنون) من الحاكم “الرحمة والحياطة والأناة”، وكأن فيها نوعًا من الاستجداء والذلة والمهانة، إنما عليهم فقط أن يطالبوا بحقوقهم ومستحقاتهم التي كفلها الدستور وفصلتها القوانين. فما الحاكم سوى موظف عندهم، يتعين بإرادتهم، ويُعزل باختيارهم، وليس له إلا أن يفعل ما فيه مصالحهم وكما يراها نوابهم وممثلوهم؛ ومن ثم فلا معنى لطلب الرحمة من بشر أصلًا. والحقيقة أنه سواء كان الحاكم فردًا أم مؤسسة فإن أكثر مقامات الحكم وسياساته عرضة للاختيار بين الرفق بالناس أو الشَّق عليهم، وهذا هو الواقع حتى في النظم الديمقراطية، والخير في الرفق، بلا شك. وهذا يحتاج إلى بسْط ليس هذا موضعه.

ثم إن السياسة –في هذه الرؤية- لا تقتصر على السلطة العامة وظاهرة الحكم السلطاني، فهناك حق سائسك بالعلم، وحق رعيتك بالعلم، وحق رعيتك بالنكاح، وحق رعيتك بملك اليمين… وحقوق الأم والأب والولد والأخ[64]، إلى سائر العناصر التي تشكل المجتمع الحاضن للإنسان الفرد، وتقيم بينه وبينهم علاقات متنوعة من الجار والصاحب والشريك وغيرهم، في منظومة لا أرى أن هذه المقارنة العاجلة بينها وبين الإعلانات المعاصرة ستكون وافية ببيانها بحال، فهي لا شك في حاجة لدراسة خاصة.

ثم جاءت كتابات أمثال ابن المقفع في الأدب الكبير والأدب الصغير وأبي يوسف في الأموال ومحمد بن الحسن الشيباني في كتبه الستة وبالأخص السير الكبير الذي عُدّ بمثابة التأسيس الأهم للقانون الدولي[65] … هذا، إلى أن تراءت عبر القرون ملامح أدب سياسي متخصص متعدد المداخل والمستويات، تراكمت فيه جهود العلماء والفلاسفة والمفكرين والدعاة المصلحين. وفيما يلي نتعرض لنماذج من هذا التراث تحاول أن تقدم إجابات عن سؤال حقوق الإنسان السالف؛ بما يمكن أن يسفر عن خصائص لهذا التراث وقيمة معرفية وعملية له وبما قد يسهم في إعادة بناء الخطاب الحقوقي عبر المقارنة بنتائج القراءة العامة السالفة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

ومما يلاحظ تعدد المداخل التي كتب بها التراث السياسي الإسلامي، ولذا فيمكن  أن نتخير منها –كما أسلفنا- أربعة أساسية تعبر عن مساحة معتبرة من منظومته، نتلمس منها ما يشير إلى القضية الحقوقية؛ وهي المداخل: الفلسفي، والفقهي، والأخلاقي، والعمراني. وفيما يلي عرض موجز وأوليّ لنصوص من هذه النماذج مع قليل من التعليق عليها ومع التركيز على الجانب السياسي السلطاني منها.

أ) المدخل الفلسفي (الفارابي نموذجًا):

اعتاد الفلاسفة والمناطقة على تعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق؛ على أساس أن “الحيوانية” تنفي عنه الجمادية وتثبت له الحياة؛ فمعناه أنه كائن حيّ، وأن “الناطقية” تميزه عن سائر الكائنات الحية؛ وهي تعني لازم النطق والمنطق؛ وهو التفكير. فالإنسان عندهم هو الكائن الحي المفكِّر أو القادر على ممارسة التفكير. والفكر هو حركة النفس أو الذهن في الأشياء والأمور، وهو التفكر وهو النظر، وترتيب معلومات لإدراك مجهولات أو للحكم على أمر ما أو إثباته أو تقويمه. فهو إعمال القدرة الذهنية في أمور الإنسان. ومن الواضح أن كل أرباب مجال يعرّفون المفاهيم بما يناسب ويخدم مجال اهتمامهم؛ ومن هنا برزت سمة “التفكير” في التعريف الفلسفي للإنسان على سمات مثل الصحة والمرض كما في الطب وسمات الحاجة وطلب الإشباع كما في الاقتصاد مثلًا.

أما أهل النظر السياسي فعادتهم أن يعرفوا الإنسان تعريفًا تأسيسيًّا وافتتاحيًّا بأنه مدني واجتماعي بطبعه؛ باعتبار أن “الاجتماعية” تعني الإيناس والاستئناس المتبادل بين أفراد النوع الإنساني واستيلاء النقص على أفرادهم؛ وبالتالي حاجة كل منهم للآخر وحاجتهم الطبيعية والغريزية للاجتماع، وأن “المدنية” تعني التميز بالتمدن؛ أي المقام في مكان جامع (مدينة) وتنظيم العيش المشترك فيها. وهذا هو المفهوم التأسيسي للنظرية السياسة التي يكاد يُطبق عليها كافة النُّظار مسلمين وغير مسلمين.

أما المفهوم السياسي العملي للإنسان الذي يتصوره حال سير العملية السياسية وحركة الإنسان فيها، ففي هذا اتسع النزاع والخلاف بين المدارس والمشارب؛ بين من يتصور إنسانًا حاكمًا مالكًا أشبه بالإله المطاع بإطلاق وإنسانًا آخر إنْ هو إلا عبد مطيع كالرؤية الفرعونية والنموذج الإمبراطوري الروماني وقد تقاربه النظرية الهوبزية، وبين من يقدم تصورًا آخر يركز على كون الإنسان طرفًا في علاقة تعاقدية ثنائية بين حاكم ومحكوم، وراعٍ ورعية (كتصور القانونيين الرومان وأكثر الفقهاء المسلمين والحقوقيين المعاصرين) وبالتالي يبرز فيه قضايا الحقوق والواجبات المتبادلة وفاءً واستيفاءً، وحفظًا وإهدارًا، وبين من يرى الإنسان عضوًا في فريق باعتبار الرسالية والوظيفية (كالتصور الأيديولوجي الإسلامي الحديث وقد يقاربه الماركسي) أو باعتبار المواطنة المتساوية والحرية الفردية والتشارك المتساوي في الوطن بلا فارق بين حاكم ومحكوم (كالتصور الليبرالي الغربي والمعولم).

وبين المتفلسفة المناطقة ونُظَّار السياسة تقع نظرة أبي نصر الفارابي[66] –باعتباره نموذجًا للفسلفة السياسية الإسلامية-، الواصلة بين تصور العالم (الوجود) وموقع الإنسان منه، وتصور النفس البشرية ومكوناتها التي بها تقوم النفس بالقوة (أي بالاستعداد)، والمجال السياسي وموقع الإنسان منه من خلال السلوك السياسي المتنوع الذي هو تجلٍّ لما بالنفس من استعدادات. ومن ثم فإن الأصل عند الفارابي هو الوصل بين التصور العالي والتصور السياسي، وبين موقع الإنسان من الإله والأكوان العالية وموقعه داخل الدولة والنظام السياسي الخاص بها. وهذه إحدى أهم مشتركات -إن لم يكن ثوابت- التراث السياسي الإسلامي بموارده ومصادره: أن الدين والسياسة قضية واحدة موصولة الأجزاء، على خلاف السياسة في الرؤية الوضعية العلمانية حيث تنفصل بدايةً عن الدين والعقيدة، ثم يعاد النظر فيها لبناء علاقة مناسبة ونسبية يستفيد الطرفان فيها كلٌّ من الآخر[67].

الإنسان عند الفارابي منظومة من كوامن وتجليات: استعدادات وهيئات وسلوكيات. إنها “نظرية ما هو بالقوة وما هو بالفعل” التي يطبقها التراثيون في حديثهم عن الوجود الكلي وسائر الموجودات الجزئية. فكل موجود -وبالأخص الإنسان- يحتوي على مكونات مادية وأخرى معنوية يسمونها “قوى وطاقات لطيفة”، وهذه المكونات تمثل استعدادات كامنة في الإنسان، وهي التي تحدد إمكانات فعله وما يتبدى عليه الإنسان من هيئات. فالأكل موجود في الإنسان بالقوة؛ أي إن عنده القدرة عليه والاستعداد له في الأحوال العادية، وحين يتناول الإنسان طعامًا فإن وصف الأكل يوجد فيه بالفعل. والعدل والظلم، والخير والشر، والإيثار والأثرة، والوفاء بالواجبات واستيفاء الحقوق، والسلمية والحربية، والتسامح والانتصار، والفجور والتقوى[68].. إن هي إلا صفات إنسانية كامنة في الإنسان بالقوة، فإذا فعل أيًّا منها قيل: هي موجودة فيه بالفعل؛ أي واقعًا ملموسًا. والمرجّح بين الصفات المتعارضة في ظهورها إما داخلي: وازع النفس والعقل والقوى المتحكمة، وإما وازع من خارج: العلم والتربية والتدين، وظروف الواقع ووازع السلطان.

والإنسان في التمدن السياسي تتباين استعداداته الفطرية بين فطر الرئاسة وفطر الخدمة، ثم تتمايز بين النزوع الخيري والنزوع الشرّي، وبين التسالم والتغالب وكل ذلك تؤثر فيه التربية. ومن طبائع الإنسان تتشكل خصائص العمران، فإما دولة فضيلة وتعاون وتسالم وإما دولة قهر وكيد وعدوان. فالإنسان هو صانع الدولة وهو الذي يصبغها بأخلاقه ويشكلها على شاكلته.

والإنسان هنا ليس هو الفرد على نحو ما كرست الليبرالية الحديثة التي تعبر عنه بالفرد وبالشخص وبالمواطن وتضعه بمقابلةٍ من الجماعة كما أسلفنا، إنما هو جنس إنسان الدولة؛ أي الغالب على حال أهلها من استعداداتهم وهيئاتهم العقلية والنفسانية والاجتماعية، ونمط سلوكياتهم المنبثق عن هذه الاستعدادات والهيئات، وأثر ذلك في إنتاج الواقع والحال العام الذي يصير هو سمة النظام السياسي والدولة. فالدولة بما غلب عليها من طبائع أهلها من استعدادات وقابليات؛ ومنها استعداد الحاكم للظلم وقابليات المحكومين لعيش حال الظلم والخضوع له. ولا تأتي الدولة الفاضلة من حاكم فاضل حكيم شعبه متوَّق إلى الرذيلة والسفول، ولا العكس، وإلا فتستقر الدولة عند النقطة التي تتوازن فيها استعدادات الغالبين وقابليات المغلوبين. والدولة الكاملة هي التي يكمل إنسانها، وبقدر نقص حاله يتناولها النقص حتى يغلب عليها الفساد والخبث[69].

ومن ثم فقد اجتمعت في الفلسفة السياسية الإسلامية مجموعة من السمات الأساسية التي أسهمت في الاتجاه بها إلى النظر في الشأن الإنساني بعمومه، على خلاف أكثر المداخل التراثية التي غالبًا ما كان “الإنسان المسلم” و”الأمة المسلمة” هو محل نظرها الأساس. ففي كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة حين يتحدث الفارابي عن الوجود فإنه ينطلق من وجهة نظر فلسفية لا تتدثر بعباءة دينية ظاهرة، بل ببرهانية منطقية، وتداعيات عقلية يرتبها، وبالمثل يكوّن تصوره عن “الإنسان”:  جنس الإنسان، وقواه وطاقاته ومنازعه وإراداته. وبالنسبة للإسلام والإنسان المسلم، فإن الفارابي -عبر آلية الاستيعاب والتجاوز- يعيد صياغته في صورة القيم: الفضيلة والإنسان الفاضل؛ ليستوعب التشريع والتعاليم في منظومة قيميّة ومقاصديّة صيغت عموميًّا وتمت تخلية ظواهرها من النسبة الدينية اكتفاءً بالمقدمات التي عرفت رؤوسها تعريفًا عقديًّا كالسعادة والعدل.

ففي جداله عن أسس بناء الدول الفاضلة وغير الفاضلة، يدافع الفارابي عن رؤيته للطبيعة الإنسانية على حدّين: حد كمالها (الأقصى)، وحدّ ملاءمتها وتوسطها بين متطلبات القيمة الإنسانية وضغط الواقع الذي هو رهين النقص والخروج عما هو طبيعي للإنساني (الحد الأدنى). ففي الحد الأقصى تنبني الدولة على معرفةٍ عالية بالحق (السبب الأول والأكوان العلوية والطبيعة الإنسانية وسنن الحياة وحقائق السعادة والفضيلة ووسائل تحقيق ذلك)، وحفظ تامٍ لهذه المعرفة، ونزوع إلى المعروف (الحق)، وهِمَّة عالية تحرك الفكر والحواس والموارد باتجاه إحقاق الحق واستقضاء مقتضى المعارف… وهذا أمر ممكن -بدرجاته- لكافة نوع الإنسان مع اختلاف أدوات تمكين الإنسان منه: فبالنسبة لأهل الحكمة والمثل العليا يستعمل البرهان والعرفان؛ حيث تبلغ نفوسهم مشاهدة الحقائق من أقصر طريق، أما العوام فطريقهم استعمال نماذج المحاكاة أو “المثالات” والتشبيهات والمقرّبات.

وفي الحد الأدنى (وهو قيمي واقعي عند الفارابي) فإن الدولة الفاضلة ليست أقل من أن تنبني على المعنى الإنساني داخليًّا وخارجيًّا على نحو ما أشرنا قبل. يقول: “فالإنسانية للناس هي الرباط، فينبغي أن يتسالموا بالإنسانية[70]، “فإذا كان كذلك، فإن الخيرات التي سبيلها أن يكتسبها بعضهم عن بعض، فينبغي أن تكون بالمعاملات الإرادية، والتي سبيلها أن تُكتسب وتُستفاد من سائر الأنواع الأخرى [أي غير الإنسانية] فينبغي أن تكون بالغلبة… فهذا هو الطبيعي للإنسان[71].

هذا في الحال الطبيعي كما يصفه… فماذا إذا كان الواقع يشتمل على أُناس أو أُمم تخرق الحدود الطبيعية للإنسان؟ يقول الفارابي إنه في حال وجود “أمة أوطائفة خارجة عن الطبيعي للإنسان، تروم مغالبة سائر الطوائف على الخيرات التي بها [أي التي عندها]، اضطرت الأمة والطائفة الطبيعية إلى قوم منهم ينفردون بمدافعة أمثال أولئك إن وردوا عليهم يطلبون مغالبتهم…[72]… وهذه رؤيته لما أسماه الدولة المسالمة.

فالعدل الإنساني المطلق سمو روحي ومعرفي، وفي أقل حدوده الواقعية لا يخرج عن مطلق العدل[73]، ويأبى الفارابي أن يتحول الظلم إلى عدل، بل عند الضرورة يتحول العدل إلى المناسبة والملاءمة مع واقع الناس ومراداتهم، فما كان بالإرادة والحرية والاختيار بين الناس ويحقق خير الكافة فهو أولى، وإلا فلابد من كسر إرادة الظلم والشر… فإن العدل ها هنا هو مقاومة الظلم والعدوان[74].

وفي هذا المقام، تلاحظ تقاربًا بين هذا التنظير من الفارابي للمعنى الإنساني في المجال السياسي وبين الإعلان ومواثيق حقوق الإنسان وعلاقات الدول، وتحريم الإكراه وتجريم العدوان من منطلقٍ لا يميز بين أصحاب أديان أو ألوان أو أعراق أو غيره. واليوم نجد مفكرين إسلاميين كثرًا ينتهون إلى هذه التوفيفية أو التوافقية، لكننا لا نكاد نجد في دائرة الفكر الإسلامي الحديث من يصل إلى هذه النتيجة بطريقة فارابية إلا أقل القليلين حيث تتقدم النزعة التأصلية الدينية اليوم على الممارسة الفلسفية. وربما تمثل بعض كتابات الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله تعالى المشار إليها أعلاه مشاكلة فريدة للتفلسف السياسي ومنهجيته.

فلا يزال الفكر الإسلامي الحديث متأرجحًا ومستقطبًا إزاء هذه النزعة “الإنسانوية” “العالموية” بين طرفين: بين طرف أول يرى أن هذا هو جوهر الرؤية الإسلامية، ويحبذ هذه الصياغة المتحررة من الطرز الدينية والأصولية (بمعنى التحرر من استصحاب التعبيرات القرآنية والنبوية والتراثية المميزة لنا)، ويدافع عما أضحى يسمى “المشترك الإنساني” الذي يوافق النظر والدين ولا يخالف صحيحهما، وفي نفس الوقت يفتح المجال نحو خطاب إنساني عالمي جامع للبشرية ومحقق للتعارف والتفاهم والاحترام المتبادل. هذا بينما يرى طرف آخر أن هذا المسار ذا القوالب المتحررة من الصيغة التأصيلية الدينية هو تلبيس وتدليس، قوامه التخلي عن الضوابط ومن ثم يؤدي إلى التفريط في المضامين والجواهر تباعًا. وأنها لا تعدو كونها دعوة لتغليب مشترك موهوم على تمييز معلوم.

الطريف أن هذا الجدل أثير بعينه أو بنحوه في اللحظة الفارابية، بين مستوعِب لطريقة الفلاسفة متفهّم لها: ناظرٍ في فوائد لها، وبين ناقم عليها، متهِم للفلاسفة بالعمالة الفكرية والفسوق المنهجي… الأمر الذي لم تكن الجدالات الكلامية مجال حسمه، بقدر ما كانت التطبيقات هي التي ذهبت بزبده وغثائه جفاءً واستبقت منه ما ينفع الناس: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ﴾ (سورة الرعد: آية 17).

ومما يقترب من الرؤية الفلسفية التي ورد الفارابي نموذجًا لها، يمكن الإشارة إلى فكر تراثي جمعي غلبت عليه كذلك المسحة العقلانية وعُني بتأصيل المسألة الإنسانية وحقوقها في المجال السياسي؛ ألا وهو الفكر المعتزلي. فالمعتزلة هم أهم من أخذ عن الفلاسفة وهم أئمة الكلام، سموا بأصحاب العدل والتوحيد ولقبوا بالقدرية (نفاة القدر) وبالعدلية[75]. وقد امتزج علم كلامهم بالسياسة امتزاجًا قويًّا، ونتجت عن طريقتهم آراء أظهر تحيزًا إلى تحرير الإرادة الإنسانية وإطلاق العنان لقدرات العقل البشري في بناء رؤيته للأمور، الأمر الذي حدا ببعض العلمانيين المعاصرين إلى دعوى أنهم من أبناء التراث الاعتزالي[76].

فمن بين الأصول الخمسة التي قام عليها منهج المعتزلة يأتي التوحيد والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكشف البعد السياسي لكل منها عن مذهب تحريري عميق. فبالتوحيد تتأسس السلطة على مرجعية إسلامية باعتبارها شرطًا ضروريًّا، وتتشكل الوظيفة العقدية للسلطة السياسية والتي تدور حول مفهوم “حراسة الدين” وحفظه[77]. والعدل الإلهي (الأصل الثاني) إنما هو نفي مطلق لمفهوم الجبر وتأييد مطلق لمفهوم الاختيار، ومنه جاء انتقاد كبارهم الشديد للدولة الأموية: شرعيةً، وممارسةً، وفكرًا. فقد عزا الجاحظ في رسائله نشأة الجبر إلى ولاية زياد بن أبيه بالعراق، واتهم أبو علي الجُبّائي سيدنا معاوية بن أبي سفيان بأنه أول من أشاع هذا اللون من الفكر حتى يدعم سلطانه ويوهم الناس أن انتقال الخلافة إلى بني أمية إنما هو قدر الله وقضاؤه الذي يجب التسليم به، وتابع القاضي عبد الجبار رأي الجبائي ونسب إلى معاوية مقولة الجبرية: “لو لم يرني ربي أهلًا لهذا الأمر ما تركني وإياه، ولو كره الله ما نحن فيه لغيره”، وقوله: “أنا خازن من خزان الله تعالى، أعطي من أعطاه الله، وأمنع من منعه الله، ولو كره الله أمرًا لغيَّره”[78]. هذا والظاهر أن أكثر المعتزلة قد غالوا في الكلام في القدر ومتعلقاته تنطعًا مما غبَّش على الكثير من جيّد أفكارهم وساعد على خلط غثها بسمينها.

نفس الأمر فيما يتعلق بأقوالهم في المشاركة الإيجابية للفرد في الحياة العامة والميدان السياسي؛ إعمالًا لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[79]، فقد بدا على كثير منهم غلو في الدعوة إليه بكل الوسائل ولو جرَّ إلى الفتنة (رغم أنه لم يتحول إلى سلوك بارز لهم على عكس الخوارج)؛ ومن ثم انصرف عن متابعتهم التيارُ الرئيس من الأمة، وإن كان في أصول أفكارهم ما لا يزال قابلًا للاستفاد منه علمًا وعملًا.

والخلاصة أن ثمة اشتراكًا مهمًّا وظاهرًا بين لغة المدخل السياسي الفلسفي لتأصيل حقوق الإنسان وبين الطرح المعاصر؛ لذا فإن الأرضية القيمية والغائية التي يقف عليها هذا المدخل ترشِّح نفسها للمساهمة في تنقيح الرؤية والخطاب المعاصريْن من واقع الحاجة إلى إعادة قراءة مفهومي الإنسان والحق والعلاقة بينهما.

ب) المدخل الفقهي وحقوق الإنسان:

ويطلق عليه أيضًا المدخل الشرعي والتشريعي؛ وهو المعادل المجالي للخطاب الحقوقي المعاصر (أي القانوني)، مع سعة في أداء المدخل الفقهي يضفيها عليه ارتباطه بالدين ومشتملاته من العقيدة والأخلاق والقيم والمقاصد والسير والأمثال والسنن، بالإضافة إلى بُعد مهم وهو البُعد الحضاري الذي تمثله “أمة” و”حضارة” أرحب وأشمل من الدولة-القومية الراهنة[80]. ونظرًا لضخامة المكتوب في هذا المدخل يتم التقاط مادته من عدد من المصادر المشهورة للماوردي والجويني وابن تيمية وابن القيم، على أن يكون الإعلان الحقوقي وقضاياه هو أداة التوجيه لما ينبغي التقاطه والوقوف عليه.

فبالنسبة لتصور الإنسان في الفضاء السياسي، يقول ابن تيمية: “وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال: الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة ، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة ، ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد، والناهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم لا بد لهم من طاعة آمر وناه. فمن لم يكن من أهل الكتب الإلهية ولا من أهل دين فإنهم يطيعون ملوكهم فيما يرون أنه يعود بمصالح دنياهم، مصيبين تارة ومخطئين أخرى، وأهل الأديان الفاسدة من المشركين وأهل الكتاب المستمسكين به بعد التبديل أو بعد النسخ والتبديل: مطيعون فيما يرون أنه يعود عليهم بمصالح دينهم ودنياهم. وغير أهل الكتاب منهم من يؤمن بالجزاء بعد الموت ، ومنهم من لا يؤمن به، وأما أهل الكتاب فمتفقون على الجزاء بعد الموت، ولكن الجزاء في الدنيا متفق عليه أهل الأرض، فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى: الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة[81]. فالفرد متعاون بفطرته (وبالطبع) ولذا يشكل الجماعة المتعاونة، والتعاون تحكمه المقاصد التي هي ثابت إنساني عام يستوي في أصل معناه والاضطرار إليه المؤمنون وغير المؤمنين: دفع مضرة أو جلب مصلحة، وهذا لا استمرار له إلا بالسياسي، ولكن “نوعية” السياسي نفسه لا محيص لها عن التقيد بالمقاصد والقيم وعلى رأسها العدل.

وبمثل هذا يسوغ إمام الحرمين ضرورة السلطان تسويغًا إنسانيًّا جبليًّا طبيعيًّا مصلحيًّا، لكن مع تغليب جانب درء المضرة: “ثم لما جبلت النفوس على حب العاجل والتطلع إلى الضنة بالحاصل والتعلق في تحصيل الدنيا بالوصائل والوسائل والاستهانة بالمهالك والغوائل والتهالك على جمع الحطام من غير تماسك وتمالك، وهذا يجر التنافس والازدحام، والنـزاع والخصام، واقتحام الخطوب العظام، فاقتضى الشرع فيصلًا بين الحلال والحرام وإنصافا وانتصافا بين طبقات الأنام وتعليق الإقدام على القرب والطاعات بالفوز بالثواب وربط اقتحام الآثام بالعقاب. ثم لم ينحجز معظم الناس عن الهوى بالوعد والوعيد والترغيب والتهديد فقيض الله السلاطين وأولي الأمر وازعين ليوفروا الحقوق على مستحقيها ويبلغوا الحظوظ ذويها ويكفوا المعتدين ويعضدوا المقتصدين ويشيدوا مباني الرشاد ويحسموا معاني الغي والفساد فتنتظم أمور الدنيا ويستمد منها الدين الذي إليه المنتهى[82]. وهو ما يشير إليه سائر الفقهاء ضمن وظائف الأئمة وذوي السلطان[83]. والمهم فيها المعنى الجامع المتمثل في قول الجويني: “ليوفروا الحقوق على مستحقيها“، والذي يخاطب به الماوردي أيضًا أمير زمانه مبررا تصنيفه لكتابه ليعلم مذاهب الفقهاء فيما له فيستوفيه، وما عليه فيوفيه؛ توخيًا للعدل في تنفيذه وقضائه، وتحريًا للنصفة في أخذه وعطائه”[84].

كل هذا في ظل سيادة القانون الذي هو حكم الله تعالى وقضاؤه: “ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بتولية ولاة أمور عليهم ، وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها ، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل ، وأمرهم بطاعة ولاة الأمور في طاعة الله تعالى … ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها دينًا يتقرب به إلى الله ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان ، من أفضل الأعمال الصالحة ، حتى قد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن أحب الخلق إلى الله إمام عادل ، وأبغض الخلق إلى الله إمام جائر »[85].

ولكن أين مقام الإنسان الفرد من هذا؟ يصور الفقهاء المجال العام على أنه محل أمر ونهي، ليس بالمعنى الرسمي الشكلي المعاصر الذي يتطلب تخويلًا بولاية عامة، إنما من باب عموم مفهوم “الرعاية” وعموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للقادر المؤهَّل بلا وصاية مزعومة ولا افتيات على الوظائف المسماة، لكن القدرات الناجزة في ذلك مختلفة، والآثار المترتبة عليه قد لا تنضبط فتطلب الأمر تنظيمًا وضبطًا: “وإذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر، وهذا نعت النبي والمؤمنين، كما قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}. وهذا واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره ، والقدرة هي السلطان والولاية ، فذوو السلطان أقدر من غيرهم ، وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم ، فإن مناط الوجوب هو القدرة؛ فيجب على كل إنسان بحسب قدرته، قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }. وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى، مثل نيابة السلطنة، والصغرى مثل ولاية الشرطة، وولاية الحكم، أو ولاية المال وهي ولاية الدواوين المالية وولاية الحسبة[86]. والنص واضح في أن المشاركة العامة ليست مجرد حق للفرد يُحلَّى به إن شاء استعمله وإن شاء أهمله، بل هي واجب ديني دنيوي “على كل إنسان بحسب قدرته.

ومع هذا فالإنسان -عند الفقيه المسلم- ديني بالضرورة: شاء أم أبى. لا يوجد إنسان بلا دين؛ أي اعتقاد وقانون عيش. قد يكون دينه الإلحاد أو الكفر أو الشرك في الاعتقاد، والعادة أو التقليد أو الهوى في نظام العيش، لكنه لا يمكن تصوره أجرد عاريًا من وصف الدين مطلقًا على النحو الذي أشار إليه نص ابن تيمية الأول. وما لا يمكن تصور الشيء بدونه فهو من ماهيته وركن في تكوينه لا يسوغ إهماله. والفارق بين هذا التصور وما يقدمه الفقه الحقوقي الحديث إما دعوى إمكان تجريد الإنسان من جنس الدينية، وإما أن تجاهل هذه الخصيصة لا يؤثر في ترتيب الأحكام، أو أن اعتبارها يؤثر بالسلب الذي هو “التمييز الديني”. والذي يبدو من المطالعة العامة للفقه الإسلامي أنه لا يقيم اعتبارًا لتلك الدعوى أو هذه المخاوف، ولا يتجاهل المميز الديني إن لم يجعله أساسًا في الكثير من الأحكام. وهذا ينقلنا إلى قضية “الحقوق” الإنسانية في تراث الفقه السياسي الإسلامي، والتي نتابع أكثرها – لا كلها- واحدة بعد أخرى.

فحفظ البقاء (الحياة) والسلامة الشخصية: هي أس وأساس في هذا الفقه، وهي أعلى المقاصد الشرعية التي أطبقوا عليها بعد حفظ الدين[87]، بل هي من أول دواعي تأسيس الدولة على نحو ما بين الجويني وابن تيمية وغيرهما. ولإهدار هذا الحق جهتان: جهة العامة (المواطنين) بتعدي أحدهم أو بعضهم على بعض، وجهة أُولِي السلطة من الساسة والشُّرط والعسكريين بتعديهم الذي اعتيد عبر التاريخ وفي نظم طغيانية حديثة على حياة الأفراد وأرواحهم. وإذا كانت فحوى الخطاب الحقوقي المعاصر قد وجهت الدفة باتجاه الحالة الأخيرة، فإن الفقه السياسي الإسلامي بدا جامعًا للأمرين متحررًا من أسر ثنائية الفرد بإزاء السلطة، أو المجتمع بإزاء الدولة.

فهذا ابن تيمية يبدأ حقوق الآدميين بالنفوس ويستشهد عيها بالآيات المعظّمة والأحاديث الحاسمة: “وأما الحدود والحقوق التي لآدمي معين فمنها النفوس، قال الله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}. وقال تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} إلى قوله: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} وقال تعالى {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء}[88]. وبالمثل الكلام في الجروح والقصاص فيها.

وبالنسبة للاعتداء من قبل السلطات، يقول الجويني رحمه الله تعالى واصفًا حال دولة نظام الملك باعتبارها أشبه بمدينة فاضلة: “مرموق الخلائق على تفنن الآراء والطرائق: الدماء والأموال والحرم. أما الدماء فمحقونة في أهبها في أعم الأحوال، فإن فرضت فتكة واغتيال وهتكة واحتيال تداركها المترصدون لهذه الأشغال. وأما الأموال فمعظم الطلبات الخارجة عن الضبط محسومة، وأسباب المكاسب منظومة، ومطالع المتعدين أطوارهم مردومة، والتوزيعات والقسم مرفوضة وقواعد المطالبات والمصادرات منقوضة، والرفاق من أقاصي الآفاق على أطراف الطرق في خفض الأمن وادعون، وأصحاب العرامات مطرقون، تحت هيبة السلطنة خاشعون، ولو قيس هذا الزمان اللاحق بالزمان السابق لظهر اختصاصها بفنون من النعمة والأمنة لا يصفها الواصفون ولا يقوم بكشفها الكاشفون. وأما الحرم فمصونة من جهة صدر جنود الإسلام مرعية، محفوظة من نزغاتهم ونزقاتهم محمية، ملحوظة من رعاة الرعية. وإن فرضت لطخة وبلية كانت في حكم عثرة يُرخى عليها الستر وتقال، أو يلحق بمن يأتيها الخزي والنكال[89].

ثم إن هذا منصرف إلى مراعاة غير المقاتلين من الأعداء في الحروب، وحفظ نفوسهم وممتلكاتهم، وغير ذلك مما هو ظاهر. ولم يفرق العلماء في وجوب هذا الأمر بين راع أو رعية، فهو عام.

ولكنهم أوجبوا القيام به على أهل الدولة أساسًا، فيقول الجويني رحمه الله تعالى: “وأما حفظ من تحويه الخطة فينقسم إلى ما يتعلق بمراتب الكليات وإلى ما يتعلق بالجزئيات. فأما ما يتعلق بأمر كلي فهو نقض بلاد الإسلام عن أهل العرامة والمتلصصين والمترصدين للرفاق فيجب على الإمام صرف الاهتمام إلى ذلك حتى تنتفض البلاد عن كل غائلة ويتمهد السبل للسابلة. وأما ما يرتبط بالجزئيات فيحصره ثلاثة أقسام: أحدها فصل الخصومات الثائرة وقطع المنازعات الشاجرة، وهذا يناط بالقضاة والحكام. وإنما عددنا ذلك من الجزئيات فإن الحكومات تنشأ من الآحاد والأفراد والغوائل من المتلصصين وقطاع الطرق ويثبت باجتماع أقوام … والقسم الثاني في نظره الجزئي في حفظ المراشد على أهل الخطة يكون بإقامة السياسات والعقوبات الزاجرة من ارتكاب الفواحش والموبقات. والقسم الثالث القيام على المشرفين على الضياع بأسباب الصون والحفظ والإنقاذ وهذا يتنوع نوعين: أحدهما الولاية على من لا ولى له من الأطفال والمجانين في أنفسهم وأموالهم. والثاني سد حاجات المحاويج. فهذه جوامع ما يرعى به الإمام من في الخطة”[90].

ومن الحقوق الإنسانية المتصلة بهذا تحريم التعذيب والعقوبات الوحشية. وهي محل عناية من الفقه السياسي الإسلامي؛ إذ تناط بالسلطان، وهي تدخل في باب العقوبات على المخالفات من الحدود والتعازير: يقول الماوردي رحمه الله تعالى: “والحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر وترك ما أمر به؛ لما في الطمع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعد الآخرة بعاجل اللذة، فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة حذرًا من ألم العقوبة وخيفة من نكال الفضيحة؛ ليكون ما حظر من محارمه ممنوعًا، وما أمر به من فروضه متبوعًا، فتكون المصلحة أعم والتكليف أتم، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ {21/107})”[91]. فقد رأوا الحدود والعقوبات رحمة كما أن القصاص حياة، وشدد العلماء في أمور الحدود بدرئها بالشبهات وضرورة استيفائها الشروط الشرعية كاملة، وعدم الأخذ فيها بالظنة أو الاحتمال، لكنهم حذروا أيضًا من التهاون فيها أو بيعها بالرشا والهدايا أو الشفاعات في غير محلها.

وقد اشتد إمام الحرمين على المتوسعين في التعزيرات ومجاوزة الحدود المشروعة اشتدادًا معلومًا نورده على طوله لما يمثله من مرافعة قد لا يجيد مثلها الخطاب الحقوقي اليوم:

فأما العقوبات التي يقيمها على آحاد الناس فهي منقسمة إلى الحدود والتعزيرات. فأما الحدود فاستقصاء القول في مقتضياتها وتفاصيل المذاهب في كيفياتها وإقاماتها في أوقاتها وسبيل إثباتها وذكر مسقطاتها مذكورة في كتب الفقه، وهي بجملتها مفوضة إلى الأئمة والذين يتولون الأمور من جهتهم. والقصاص في النفس والطرف فإن كان خالص حق الآدمي فليس لمستحقيه استيفاؤه دون الرفع إلى السلطان.

وأما التعزيرات فهي أيضا مفصلة في كتب الفقه في أبواب متعلقات بموجبات لها وأسباب؛ فمنها ما يكون حقا للآدمي يسقط بإسقاطه ويستوفي بطلبه. ومنها ما يثبت حقًّا لله تعالى لارتباطه بسبب هو حق الله. ثم رأى الشافعي رحمه الله أن التعزيرات لا تتحتم تحتم الحدود، فإن الحدود إذا أثبت فلا خيرة في درئها ولا تردد في إقامتها. والتعزيرات مفوضة إلى رأي الإمام فإن رأى التجاوز والصفح تكرما فعل ولا معترض عليه فيما عمل، وإن رأى إقامة التعزير تأديبًا وتهذيبًا فرأيه المتبع، وفي العفو والإقالة متسع.

والذي ذكرناه ليس تخيرًا مستندًا إلى التمني، ولكن الإمام يرى ما هو الأولى والأليق والأحرى، فرب عفو هو أوزع لكريم من تعزير، وقد يرى ما صدر عنه عثرة هي بالإقالة حرية، والتجاوز عنها يستحث على استقبال الشيم المرضية، ولو يؤاخذ الإمام الناس بهفواتهم لم يزل دائبًا في عقوباتهم. وقد قال المصطفى: “أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم”. ولو تجاوز عن عَرِم خبيث لا يزداد بالتجاوز عنه إلا تماديا واستجراء وتهجما واعتداء فليس له الصفح والحالة هذه.

ثم التعزيرات لا تبلغ الحدود على ما فصله الفقهاء. وما يتعين الاعتناء به الآن -وهو مقصود الفصل- أن أبناء الزمان ذهبوا إلى أن مناصب السلطنة والولاية لا يستد إلا على رأي مالك (رضي الله عنه) وكان يرى الازدياد على مبالغ الحدود في التعزيرات ويسوغ للوالي أن يقتل في التعزير، ونقل النقلة عنه أنه قال للإمام أن يقتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها. وذهب بعض الجهلة عن غرة وغباوة أن ما جرى في صدر الإسلام من التخفيفات كان سببها أنهم كانوا على قرب عهد بصفوة الإسلام، وكان يكفي في ردعهم التنبيه واليسير والمقدار القريب من التعزير، وأما الآن فقد قست القلوب وبعدت العهود ووهت العقود وصار متشبث عامة الخلق الرغبات والرهبات، فلو وقع الاقتصار على ما كان من العقوبات لما استمرت السياسات.

وهذا الفن قد يستهين به الأغبياء وهو على الحقيقة تسبب إلى مضادة ما ابتعث به سيد الأنبياء. وعلى الجملة: من ظن أن الشريعة تتلقى من استصلاح العقلاء ومقتضى رأي الحكماء فقد رد الشريعة واتخذ كلامه هذا إلى رد الشرائع ذريعة. ولو جاز ذلك لساغ رجم من ليس محصنا إذا زنا في زمننا هذا لما تخيله هذا القائل، ولجاز القتل بالتهم في الأمور الخطيرة، ولساغ إهلاك من يخاف غائلته في بيضة الإسلام إذا ظهرت المخائل والعلامات، وبدت الدلالات، ولجاز الازدياد على مبالغ الزكوات عند ظهور الحاجات. وهذه الفنون في رجم الظنون لو سلطت على قواعد الدين لاتخذ كل من يرجع إلى مسكة من عقل فكره شرعًا ولانتحاه ردعًا ومنعًا فينتهض هواجس النفوس حالة محل الوحي إلى الرسل ثم يختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة فلا يبقى للشرع مستقر وثبات.

هيهات هيهات. ثقل الاتباع على بعض بني الدهر فرام أن يجعل عقله المعقول عن مدارك الرشاد في دين الله أساسًا، ولاستصوابه رأسًا، حتى ينفض مذرويه [جانبيه كناية عن الاختيال والعجب] ويتلفت في عطفيه اختيالا وشماسًا. فإذًا لا مزيد على ما ذكرناه في مبالغ التعزير. فإن سطا معتدٍ وتعدى مراسم الشرع، فليُرَ ذلك حيدًا عن دين المصطفى على القطع، ومن اعتدى عالـمًا بأنه ارتكب ذنبًا واقتحم حوبًا فهو عاص غير آيس من رحمة الله. والويل كل الويل لمن يقترف الكبائر ويراها بمقتضى الاستصواب الذي عزله عن دين المصطفى. فالحق المتبع ما نقله الأثبات عن سيد الورى، وما سواه محال، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وما أقرب هذا المسلك من عقد من يتخذ سير الأكاسرة والملوك المنقرضين عمدة الدين، ومن تشبث بهذا فقد انسل عن ربقة الدين انسلال الشعرة عن العجين[92].

وكما سلف فقد استعمل هذا الحق المتفق عليه للقدح في التشريع الإسلامي والتراث الفقهي بدعاوى مثل القول بأن الحدود انتهاك للجسد البشري، وأنها عقوبات وحشية حاطّة من كرامة الإنسان؛ الأمر الذي قد يكون الأولى لحسمه اللجوء إلى المناظرة المعرفية المنهجية بين المرجعية التعبدية ومنطقها في التشريع والمرجعية الوضعية البشرية البحتة؛ علاوة على ما تقدمه العديد من الدراسات الواقعية الحديثة من شواهد لآثار العمل بالحدود وشواهد لآثار التفريط فيها.

وأما حق تحريم الاسترقاق وتجارته وتجريمهما الذي اعتبر شارة السبق الغربي الليبراليي لتحرير العبيد وانتُقد به التشريع الإسلامي والتراث كما أسلفنا، فمثله مثل قضية الحدود، نجد أن المشهور عند الفقهاء أن الإسلام إنما شرع العتق ولم يشرع الرق، فسدّ الكثير من أبواب الاسترقاق وفتح ذرائع كثيرة للانعتاق، وأنه تشوف[93] إلى إنهائه العملي، ولم يمنع من احتمال ذلك، بل أشعر بأنه سيقع في الكثير من الآيات والأحكام، لكن بغير تحريم شرعي عام؛ لحِكَم كثيرة يعلمها الله، حاول بعضهم استشفاف أطراف منها، مثل حالة أسير الحرب والإمكانات المتاحة للتعامل معه حسب حاله. مع إقرارهم أن الرق مذلة وليس هو الحالة الإنسانية المثالية بالطبع، فإن الذي جرى هو ترتيب حقوق لهم تحقق قول النبي (صلى الله عليه وسلم): “إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم[94]البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه. ونهيه عن ألفاظ العبودية من مثل عبدي وأَمتي، وربي وسيدي إلى ألفاظ فيها أبوة وأمومة: فتاي وفتاتي.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى -في معرض الحديث عن الشهادة في القضايا مناظرةً بين الحُرّ والعبد- كلامًا مهمًّا، ننقله بتمامه لما فيه من مرافعة تشبه مرافعة الجويني الآنفة عن وجوب التزام حدود الله تعالى وعدم تعديها، وليس المقصود بها “مسألة الشهادة” إنما بيان مقالتهم في العبيد والأرقّاء وإزالة الشبهات العالقة بهذه المسألة- فيقول:الطريق الرابع عشر: الحكم بشهادة العبد والأمة في كل ما يقبل فيه شهادة الحر والحرة، وهذا الصحيح من مذهب أحمد، وعنه تقبل في كل شيء إلا في الحدود والقصاص لاختلاف العلماء في قبول شهادته فلا ينتهض سببًا لإقامة الحدود التي مبناها على الاحتياط، والصحيح الأول. وقد حكى إجماع قديم حكاه الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال ما علمت أحدًا رد شهادة العبد ، وهذا يدل على أن ردها إنما حدت بعد عصر الصحابة واشتهر هذا القول لما ذهب إليه مالك و الشافعي وأبو حنيفة وصار لهم أتباع يفتون ويقضون بأقوالهم فصار هذا القول عند الناس هو المعروف. ولما كان مشهورًا بالمدينة في زمن مالك قال: “ما علمت أحدًا قبل شهادة العبد”. وأنس بن مالك يقول ضد ذلك.

وقبول شهادة العبد هو موجب الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وصريح القياس وأصول الشرع، وليس مع من ردها كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ، قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) والوسط العدل الخيار ولا ريب في دخول العبد في هذا الخطاب فهو عدل بنص القرآن، فدخل تحت قوله: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) في النساء والمائدة، وهو من الذين آمنوا قطعًا. فيكون من الشهداء كذلك. وقال تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم)، ولا ريب أن العبد من رجالنا. وقال تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية)،

والعبد المؤمن الصالح من خير البرية فكيف ترد شهادته وقد عدّله الله ورسوله كما في الحديث المعروف المرفوع: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين”. والعبد يكون من حملة العلم فهو عدل بنص الكتاب والسنة،

وأجمع الناس على أنه مقبول الشهادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا روي عنه الحديث، فكيف تقبل شهادته على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تقبل شهادته على واحد من الناس. ولا يقال باب الرواية أوسع من باب الشهادة فيحتاط لها ما لا يحتاط للرواية، فهذا كلام جرى على ألسن كثير من الناس وهو عارٍ عن التحقيق والصواب. فإن أولى ما ضبط واحتيط له الشهادة على الرسول والرواية عنه، فإن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، وإنما ردت الشهادة بالعداوة والقرابة دون الرواية لتطرق التهمة إلى شهادة العدو وشهادة الولد وخشية عدم ضبط المرأة وحفظها. وأما العبد فما يتطرق إليه من ذلك يتطرق إلى الحر سواء ولا فرق بينه وبينه في ذلك البتة، فالمعنى الذي قبلت به روايته هو المعنى الذي تقبل به شهادته، وأما المعنى الذي ردت به شهادة العدو والقرابة والمرأة فليس موجودًا في العبد.

وأيضا فإن المقتضى لقبول شهادة المسلم عدالته وغلبة الظن بصدقه وعدم تطرق التهمة إليه وهذا بعينه موجود في العبد فالمقتضى موجود والمانع مفقود فإن الرق لا يصلح ان يكون مانعا فإنه لا يزيل مقتضى العدالة ولا يطرق تهمة ، كيف والعبد الذي يؤدي حق الله وحق سيده له أجران حيث يكون للحر أجر واحد وهو أحد الثلاثة الذين هم أول من يدخل الجنة ، ولهذا قبل شهادته أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم القدوة.

قال أبو بكر بن أبي شيبة (حدثنا) حفص بن غياث (عن) أشعث (عن) الشعبي قال: قال شريح لا نجيز شهادة العبد، فقال علي بن أبي طالب لكنا نجيزها فكان شريح بعد ذلك يجيزها إلا لسيده . وبه عن المختار بن فلفل قال سألت أنس بن مالك عن شهادة العبد فقال جائزة. وقال الثوري عن عمار الذهبي قال شهدت شريحا شهد عنده عبد على دار فأجاز شهادته فقيل إنه عبد ، فقال شريح كلنا عبيد وإماء . وروى أحمد عن ابن سيرين أنه كان لا يرى بشهادة العبد بأسًا إذا كان عدلًا. وقال عطاء: شهادة العبد والمرأة جائزة في النكاح والطلاق. وقال الإمام أحمد (حدثنا) عثمان (حدثنا) حماد بن سلمة قال سئل إياس بن معاوية عن شهادة العبد فقال: أنا أرد شهادة عبد العزيز بن صهيب؟ يعني إنكارًا لردها. وذكر الإمام أحمد عن أنس بن مالك: أنه قال ما علمت أحدا رد العبد،

وقد اختلف الناس في ذلك فردتها طائفة مطلقا، وهذا قول مالك و الشافعي وأبي حنيفة وقبلتها طائفة مطلقا إلا لسيده. قال سفيان الثوري عن إبراهيم النخعي عن الشعبي في العبد قال: تجوز شهادته لسيده وتجوز لغيره وهذا مذهب الإمام أحمد، وأجازتها طائفة في الشيء اليسير دون الكثير، وهذا قول إبراهيم النخعي وإحدى الروايتين عن شريح والشعبي. والذين ردوها بكل حال منهم من قاس العبد على الكافر لأنه منقوص بالرق وذلك بالكفر وهذا من أفسد القياس في العالم، وفساده معلوم بالضرورة من الدين. ومنهم من احتج بقوله تعالى: (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء والشهادة شيء فهو غير قادر عليها.

قال أبو محمد بن حزم في جواب ذلك: تحريف كلام الله عن مواضعه يهلك في الدنيا والآخرة ولم يقل تعالى إن كل عبد لا يقدر على شيء إنما ضرب الله تعالى المثل بعبد من عبيده هذه صفته وقد توجد هذه الصفة في كثير من الأحرار بالمشاهدة، نعرف كثيرًا من العبيد أقدر على الأشياء من كثير من الأحرار، ونقول لهم: هل يلزم العبيد الصلاة والصيام والطهارة ويحرم عليهم من المآكل والمشارب والفروج ما يحرم على الأحرار أم لا يلزمهم ذلك لكونهم لا يقدرون عندكم على شيء البتة؟ قال: ومن نسب هذا إلى الله فقد كذب عليه جهارا. واحتج بعضهم بقوله تعالى: (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا)؛ فنهى الشهداء عن التخلف والإباء ومنافع العبد لسيده فله أن يتخلف ويأبى إلا خدمته، وهذا لا يدل إلا على عدم قبولها إلا إذا أذن له سيده في تحملها وأدائها إذا لم يكن في ذلك تعطيل خدمة السيد، فأبعد النجعة من فهم رد شهادة العبيد العدول بذلك فإن كان هذا مقتضى الآية كان مقتضى ذلك أيضا رد روايتهم، واحتج بعضهم بقوله تعالى: (والذين هم بشهاداتهم قائمون) والعبد ليس من أهل القيام على غيره وهذا من جنس احتجاج بعضهم أن الشهادة ولاية، والعبد ليس من أهل الولاية على غيره، وهذا في غاية الضعف، فإنه يقال لهم: ما تعنون بالولاية؟ أتريدون بها الشهادة؟ وكونه مقبول القول على المشهود عليه أم كونه حاكمًا عليه منفذا فيه الحكم؟ فإن أردتم الأول كان التقدير أن الشهادة شهادة والعبد ليس من أهل الشهادة وهذا حاصل دليلكم. وإن أردتم الثاني فمعلوم البطلان قطعًا والشهادة لا تستلزمه. واحتج بعضهم بأن الرق أثر من آثار الكفر فمنع قبول الشهادة كالفسق، وهذا في غاية البطلان، فإن هذا لو صح يمنع قبول روايته وفتواه والصلاة خلفه وحصول الأجرين له. واحتج بأنه يستغرق الزمان بخدمة سيده فليس له وقت يملك فيه أداء الشهادة ولا يملك عليه، وهذا أضعف مما قبله لأنه ينتقض بقبول روايته وفتواه وينتقض بالحرة المزوجة وينتقض بما لو أذن له سيده وينتقض بالأجير الذي استغرقت ساعات يومه وليلته بعقد الإجارة، ويبطل بأن أداءه للشهادة لا يبطل حق السيد من خدمته.

واحتج بأن العبد سلعة من السلع فكيف تشهد السلع ، وهذا في غاية الغثاثة والسماجة، فإنه تقبل شهادة هذه السلعة كما تقبل روايتها وفتواها وتصح إمامتها ويلزمها الصلاة والصوم والطهارة. واحتج بأنه دنيء والشهادة منصب علي فليس من أهلها وهذا من ذلك الطراز فإنه إن أريد بدناءته ما يقدح في دينه وعدالته فليس كلامنا فيمن هو كذلك، ونافع وعكرمة أجل وأشرف من أكثر الأحرار عند الله وعند الناس.

وإن أريد بدناءته أنه مبتلى برق الغير فهذه البلوى لا تمنع قبول الشهادة بل هي مما يرفع الله بها درجة العبد ويضاعف له بها الأجر، فهذه الحجج كما تراها في الضعف والوهن وإذا قابلت بينها وبين حجج القائلين بشهادته لم يخف عليك الصواب والله أعلم.[95].

وأما حرمة الحياة الخاصة والمسكن والمراسلات والشرف والسمعة وحمايتها قانونًا: فهي داخلة في مفهوم الفقهاء عن ضرورة حفظ النسل أو العرض والكرامة وحفظ المال، وعقدوا له أبواب الأعراض والفرية والأبضاع ونحوها. فيقول فيها ابن تيمية رحمه الله تعالى: “والقصاص في الأعراض مشروع أيضا: وهو أن الرجل إذا لعن رجلا أو دعا عليه، فله أن يفعل به كذلك، وكذلك إذا شتمه شتيمة لا كذب فيها، والعفو أفضل. قال الله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} قال النبي صلى الله عليه وسلم: {المستبان: ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم}. ويسمى هذا الانتصار، والشتيمة التي لا كذب فيها مثل الإخبار عنه بما فيه من القبائح أو تسميته بالكلب أو الحمار ونحو ذلك فأما إن افترى عليه، لم يحل له أن يفتري عليه ولو كفره أو فسقه بغير حق لم يحل له أن يكفره أو يفسقه بغير حق ولو لعن أباه أو قبيلته، أو أهل بلده ونحو ذلك، لم يحل له أن يتعدى على أولئك، فإنهم لم يظلموه، وقال الله تعالى: {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} فأمر الله المسلمين ألا يحملهم بغضهم للكفار على ألا يعدلوا. وقال: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} فإن كان العدوان عليه في العرض محرما لحقه، بما يلحقه من الأذى جاز القصاص فيه بمثله، كالدعاء عليه ما دعاه، وأما إذا كان محرما لحق الله – تعالى، كالكذب، لم يجز بحال، وهكذا قال كثير من الفقهاء: إذا قتله بتحريق، أو تغريق، أو خنق أو نحو ذلك، فإنه يفعل به كما فعل، ما لم يكن الفعل محرما في نفسه كتجريع الخمر واللواط به، ومنهم من قال: لا قود عليه إلا بالسيف، والأولى أشبه بالكتاب والسنة والعدل.[96].

وأما حق التملك الفردي أو المشترك، وحرمة الملكية الخاصة: فهي مما لم يجادل في ثبوتها أحد، ولم تثبت في التراث الإسلامي نزعة حقيقية إلى الشيوعية أو إطلاق سياسة تستحل مصادرة الأموال الخاصة بمالكين معروفين، حتى الفلاسفة الذين سايروا أمثال أفلاطون لم يمضوا معه في شيوعية جمهوريته المخالفة للفطرة السليمة. ولا يحتج في هذا بفرق شردت لم تؤثر في فكر المسلمين وما كان أسرع انقراضها حتى تكاد لا يعرفها أحد. لكن التراث السياسي الإسلامي أشار إلى حالة الضرورة العامة أو الاحتياج العام وتكلم فيها إمام الحرمين الجويني وشيخ الإسلام ابن تيمية. وفيه كلام لطيف يدل على ميزان عدل يسري في أعطاف الكلام مسرى الماء في عروق الورد. يقول الجويني: “وإن قدرت آفة وأزم وقحط وجدب وعارضة غلاء في الأسعار تزيد معه أقدار الزكوات على مبالغ الحاجات فالوجه استحثاث الخلق بالموعظة الحسنة على أداء ما افترض الله عليهم في السنة. فإن اتفق مع بذل المجهود في ذلك فقراء محتاجون لم تف الزكوات بحاجاتهم فحق على الإمام أن يجعل الاعتناء بهم من أهم أمر في باله. فالدنيا بحذافيرها لا تعدل تضرر فقير من فقراء المسلمين في ضر. فإن انتهى نظر الإمام إليهم رم ما استرم من أحوالهم من الجهات التي سيأتي عليها شرحنا إن شاء الله عز وجل فإن لم يبلغهم نظر الإمام وجب على ذوي اليسار والاقتدار البدار إلى رفع الضرار عنهم وإن ضاع فقير بين ظهراني موسرين حرجوا من عند آخرهم وباؤا بأعظم المآثم وكان الله طليبهم وحسيبهم. وقد قال رسول الله  من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيتن ليلة شعبان وجاره طاو. وإذا كان تجهيز الموتى من فروض الكفايات فحفظ مهج الأحياء وتدارك حشاشة الفقراء أتم وأهم. ومقصود هذا الفصل ما نذكره الآن     فلو بلى أهل بلدة بقحط وكشرت الشدة عن أنيابها وبثت المنون بدائع أسبابها وعلم من معه بلاغ أنهم لو صفروا أيديهم وفرقوا ما معهم لافتقروا افتقارهم فلا نكلفهم أن ينهوا أنفسهم إلى الضرار الناجز والافتقار العاجل فإنهم لو فعلوا ذلك هلكوا مع الهالكين ولو تماسكوا أوشك أن يبقوا أو يبقى ببقائهم من نفضات أموالهم مضررون وغايتنا أن نذكر الأصلح على أقصى الإمكان وما قدر الله أن يكون كان[97]. ويرفع الجويني شعار: “الأملاك محترمة كحرمة ملاكها”[98].

وأوضح منه كلام ابن تيمية في الحسبة في التسعير وما في حكمه: “وأما الثاني فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة ، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل ، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل ، فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به. وأبلغ من هذا أن يكون الناس قد التزموا أن لا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون ، لاتباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم، فلوا باع غيرهم ذلك منع، إما ظلمًا لوظيفة تؤخذ من البائع، أو غير ظلم، لما في ذلك من الفساد، فهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء، لأنه إذا كان قد منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا أو اشتروا بما اختاروا كان ذلك ظلمًا للخلق من وجهين: ظلمًا للبائعين الذين يريدون بيع تلك الأموال، وظلمًا للمشترين منهم. والواجب إذا لم يمكن دفع جميع الظلم أن يدفع الممكن منه، فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع، وحقيقته: إلزامهم أن لا يبيعوا أو لا يشتروا إلا بثمن المثل. وهذا واجب في مواضع كثيرة من الشريعة، فإنه كما أن الإكراه على البيع لا يجوز إلا بحق: يجوز الإكراه على البيع بحق في مواضع مثل بيع المال لقضاء الدين الواجب والنفقة الواجبة، والإكراه على أن لا يبيع إلا بثمن المثل لا يجوز إلا بحق، ويجوز في مواضع، مثل المضطر إلى طعام الغير، ومثل الغراس والبناء الذي في ملك الغير ، فإن لرب الأرض أن يأخذه بقيمة المثل لا بأكثر. ونظائره كثيرة. –إلى أن يقول- وما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس فإنه يجب أن لا يباع إلا بثمن المثل ، إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة[99].

وحرية التفكير والضمير والدين، (ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سرًا أم مع الجماعة)(م18)، وحرية الرأي والتعبير (ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.)(م19): ولا شك أن القرآن الكريم واضح شديد الوضوح في مسألة (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). ولا إشكال في هذا المقام إلا في مسألتي الردة عن الإسلام والإذاعة بالأفكار التي يخالف ظاهرها أصولًا عقدية أو معلومات من الدين بالضرورة، وكذلك إذاعة أخبار من الأمن أو الخوف (كاشائعات المضرّة) دون ردها إلى أهلها. والأولى (الردة) يتم تناولها في الخطاب الحقوقي في الشق الفردي دون الجماعي (وإن كانت قضية مثل قضية البهائيين قد وَجَّهت إلى مسألة الردة الجماعية) بينما اعتنى التراث السياسي بالتمييز بين الأمرين. ووجه الإشكال في المسألة هو التعارض الظاهري بين عموم الآيات والأحاديث المثبتة والمطِلقة لحرية الاعتقاد، وبين خصوص النص النبوي: (من بدَّل دينه فاقتلوه)[100] و(لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) وذكر منها: كفر بعد إيمان[101] أو التارك لدينه المفارق للجماعة. وليس هذا مقام استيفاء الأمر، فقد اختلف فيه بعض فقهاء العصر[102]. ولكن المقصود هو ذكر موقف التراث السياسي الإسلامي منها، فقد أوروها في باب الجهاد لا الحدود، وعرض الماوردي الخلاف في القضية؛ بما حاصله: أن المرتد الفرد لا يجوز أن يقر على ردته؛ “لأن الإقرار بالحق يوجب التزام أحكامه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بدل ينه فاقتلوه)”[103]. ومن ثم فإنه يستتاب لمدة وإلا فيقتل، على تفصيل. أما الاستعمال السياسي لقضية الزندقة فقد وفر التشريع لها ضمانة أساسية لا تنخرم إلا بفساد أهل الزمان عامةً؛ ألا وهي أن المتولي لقضية الردة هو القضاء لا السلطان المتنفذ. ومع ذلك فإن الفقهاء منهم من كان أشد على الزنادقة من حكام زمانه مثل مالك رضي الله عنه، ومن الحكام من قرّب إليه أصحاب الآراء الشاذة وحارب التيار الرئيسي بالآراء التي ابتلي بسببها العلماء والفقهاء أيما ابتلاء كما جرى في المحنة المشهورة، … والله أعلم.

ثم إن من أجلى وأدنى الشواهد على تأكيد التراث السياسي الإسلامي لحريات التعبير غير المتطرفة وغير المفسدة للحياة والنظام العام (على نحو ما استدركت المادة 29 من الإعلان محل الدراسة)، هو الكتابة السياسية التراثية نفسها وما اتسمت به من طابع المواجهة والتوجه إلى الحكام مباشرة، بالتعليم، والنصح والمعاونة، والتقنين، والترغيب والترهيب، والتحليل والتحريم، وإثبات ما على الدولة من واجبات وما لها من محرمات، كما أشارت مقدمة الماوردي وخاتمته في أحكامه وفي نصيحة الملوك وأدب القاضي وقوانين الوزارة وأدب الدين والدنيا، وكذلك عموم خطاب الجويني وابن تيمية وابن القيم والطرطوشي وسائر الكاتبين لهذا التراث. والطريف أن هذا الخطاب الصريح المواجِه الموجَّه قد غاب عن زمن الحرية والليبرالية والديمقراطية لصالح خطاب أكاديمي تعليمي لا متلقَي له، وخطاب إعلامي لا ميزان له. ثم يكون رجم التراث من باب رمتني بدائها وانسلت.

يقول ابن تيمية في الغش في الديانات والاحتساب في الجوانب العقدية والفكرية: “فأما الغش والتدليس في (الديانات) فمثل البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة من الأقوال والأفعال، مثل: إظهار المكاء والتصدية في مساجد المسلمين. ومثل سب جمهور الصحابة وجمهور المسلمين، أو سب أئمة المسلمين، ومشايخهم، وولاة أمورهم، المشهورين عند عموم الأمة بالخير. ومثل التكذيب بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تلقاه أهل العلم بالقبول. ومثل رواية الأحاديث الموضوعة المفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومثل الغلو في الدين بأن ينزل البشر منزلة الإله. ومثل تجويز الخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم. ومثل الإلحاد في أسماء الله وآياته، وتحريف الكلم عن مواضعه، والتكذيب بقدر الله، ومعارضة أمره ونهيه بقضائه وقدره. ومثل إظهار الخزعبلات السحرية والشعبذية الطبيعية وغيرها التي يضاهى بها ما للأنبياء والأولياء من المعجزات والكرامات، ليصد بها عن سبيل الله، أو يظن بها الخير فيمن ليس من أهله، وهذا باب واسع يطول وصفه. فمن ظهر منه شيء من هذه المنكرات وجب منعه من ذلك، وعقوبته عليها، إذ لم يتب حتى قدر عليه، بحسب ما جاءت به الشريعة من قتل، أو جلد أو غير ذلك. وأما المحتسب فعليه أن يعزر من أظهر ذلك قولًا أو فعلًا، ويمنع من الاجتماع في مظان التهم، فالعقوبة لا تكون إلا على ذنب ثابت، وأما المنع والاحتراز فيكون مع التهمة، كما منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يجتمع الصبيان بمن كان يتهم بالفاحشة، وهذا مثل الاحتراز عن قبول شهادة المتهم بالكذب وائتمان المتهم بالخيانة، ومعاملة المتهم بالمطل[104]. فحرية التفكير والتعبير غير حرية الإفساد والتدمير كما اتفق عليه عقلاء الأمم.

وأما المساواة القضائية ودورها في حماية سائر الحقوق الإنسانية واستقلال القضاء: فلم يسهب فيها هذا التراث السياسي لأنها كانت أشبه بالمعلومات من أمر القضاء الإسلامي بالضرورة. لكنهم ذكروا الرشا والبراطيل والتلاعبات التي جدّت على الناس عقب القرون الخيرية كما بدا في خطاب الجويني في الغياثي وابن تيمية في السياسة الشرعية والحسبة. ولا نفيض فيه. أما المساواة القانونية فإن هذا التراث بدا امتدادًا للفقه العام الذي يرى أن العدل ألاّ يساوى بين المختلفين ولا يخالف بين المتساوين وذلك في المزايا والأعباء سواء؛ وفي هذا تفسير ما يكون من أحكام خاصة لذوي الصفات والأحوال الخاصة، فالمراعاة أولى من التجاهل والإعمال مقدم على الإهمال. وعلى هذا تمضي عامة القوانين الوطنية في العالم قديمه وحديثه.

وقواعد حماية حقوق المتهم، وحظر التعسف في الحجز الحكومي لشخص، بارزة جدًّا في الطرق الحكمية لابن القيم بين المتهم المجهول الحال والمتهم المعروف بالفجور (مسجل خطر) ومسألة الضرب والحبس للمتهمين وما فيها من سياسة  شرعية وغير شرعية، وما فيها من محظورات تتعلق بالقضاء أساسًا، وفيه كلام مهم عند ابن تيمية في الحسبة، كان ينبغي إيراده لما فيه من خطاب حقوقي برّاق، لكن المقام لا يتسع لكل هذا. فلتراجع في مواضعها.

وحريات التنقل (الداخلي) والإقامة ومغادرة الدول والعودة إليها (الخارجي)، وحق اللجوء السياسي للمضطهدين، وحق الجنسية وتغييرها: فهذه موضحة مفصلة على منهاج الفقه الإسلامي وبما يتباين به مع الرؤية الغربية للحقوق والواجبات، تجدها على سبيل المثال في السير الكبير للشيباني. وفي هذا جواب أوليّ لمن زعم أنها قيم وأفكار مستحدثة لا قبل للتراث بهاعلى نحو ما ورد.

وأما حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية فقد أبرزتها المسيرة الممتدة الذائعة للطرق الصوفية والمذاهب الفكرية، ما لم تتحول إلى فعل الخوارج والبغاة والمحاربين المفسدين في الأرض. وقد فصَّل في أحكام الجماعات الخارجة غير السلمية الماوردي في أحكامه والجويني في الغياثي وابن تيمية في السياسة الشرعية؛ بما يبدو فيه توازن بين المصلحة العامة والحقوق الخاصة والانفتاحية على المصالحة والموادعة بين طوائف الأمة وتقديم الرحمة والتآخي على الانتقام والإسراف؛ وبما يشير من باب أولى إلى أن الجماعات السلمية لم يكن عليها قيد مطرد في ممارسة نشاطاتها، على الأقل من باب الفقه السياسي، ولست أدري حقيقة قانون الممارسة بشأنها.

أما الحق في الاشتراك في إدارة الشئون العامة لبلاده، وتقلد الوظائف العامة في البلاد: فالذي يبدو للباحث أن هذا التراث لم يتناول القضية على أنها حقوق فردية يتكالب عليها الناس بقدر ما تناولها على أنها أمانة وبلية؛ ومن ثم جرت نصيحتهم بالتروي في الإقدام عليها. ثم إنهم تابعوا السُّنة النبوية في المنع من تولية من طلب الولاية إلا في الضرورات. ولهم نظرية جامعة في الاختيار من الأمة لإمامها ومن إمامها لمعاونيه أوجبوا فيها انتفاء أن يكون أيًّا من الحَسَب والنَّسَب والقرابة والمحسوبية والهوى والمصلحة الذاتية وما إليه هو معيار اختبيار أصحاب الولايات العامة.

كل ما هناك أن الفقهاء تعاملوا مع ولاية العهد والتوريث كولايتي درجة ثانية وقعتا فتمت إحاطتهما بمنظومة من الشروط التي تنفي عن غير المستحق أهلية التولي، وأما إمارة الاستيلاء والتولي بالشوكة فقد اعتبروها استثناء، وقد تقتضيه الأحوال. وقد أفاض الفقه السياسي الإسلامي الحديث في بيان ذلك وقدمت فيه العديد من الرسائل العلمية فلتراجع.

يقول ابن تيمية في مطلع رسالة السياسة الشرعية: “فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين، أصلح من يجده لذلك العمل، قال النبي صلى الله عليه وسلم {: من ولي من أمر المسلمين شيئا، فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله}. وفي رواية: {من قلد رجلا عملا على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين} رواه الحاكم في صحيحه وروى بعضهم أنه من قول عمر لابن عمر روي ذلك عنه. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين وهذا واجب عليه فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات، من نوابه على الأمصار، من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان، والقضاة، ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر والصغار والكبار، وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين والسعاة على الخراج والصدقات، وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين. وعلى كل واحد من هؤلاء، أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده، وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين، والمقرئين، والمعلمين، وأمير الحاج، والبرد، والعيون الذين هم القصاد، وخزان الأموال، وحراس الحصون، والحدادين الذين هم البوابون على الحصون والمدائن، ونقباء العساكر الكبار والصغار، وعرفاء القبائل والأسواق.

فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين، من هؤلاء وغيرهم، أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع، أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية، أو يسبق في الطلب. بل ذلك سبب المنع، فإن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن قوما دخلوا عليه فسألوه الولاية، فقال: إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه}. وقال لعبد الرحمن بن سمرة: {يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليه} أخرجاه في الصحيحين وقال صلى الله عليه وسلم: {من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه، أنزل الله إليه ملكا يسدده} رواه أهل السنن. فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة أو صداقة، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس، كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهي عنه في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}. ثم قال: {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة، وأن الله عنده أجر عظيم}. فإن الرجل لحبه لولده، أو لعتيقه، قد يؤثره في بعض الولايات، أو يعطيه ما لا يستحقه، فيكون قد خان أمانته، كذلك قد يؤثره زيادة في ماله أو حفظه، بأخذ ما لا يستحقه، أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات، فيكون قد خان الله ورسوله، وخان أمانته. ثم إن المؤدي للأمانة مع مخالفة هواه، يثبته الله فيحفظه في أهله وماله بعده، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده فيذل أهله، ويذهب ماله.[105].

والخلاصة أن هذه جولة عاجلة في موقف الفقه السياسي الإسلامي من كثير مما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حرصت فيها على مقابلة النص بالنص، متجاوزًا الوقائع والأحوال التاريخية التي لا تخلو من نقص بل من موبقات لدى سائر الأمم. يقول ابن تيمية في ختام خطابه إلى سراجواس ملك قبرص: “فإنّ أمّة محمّد خير أمّة أخرجت للناس، يريدون للخلق خير الدنيا والآخرة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويدعونهم إلى الله، ويعينونهم على مصالح دينهم ودنياهم. وإن كان الملك قد بلغه بعض الأخبار التي فيها طعن على بعضهم، أو طعن على دينهم؛ فإمّا أن يكون الخبر كاذبًا، أو ما فهم بالتّأويل، وكيف صورة الحال؛ وإن كان صادرًا عن بعضهم بنوع من المعاصي، والفواحش والظلم ؛ فهذا لابد منه في كلّ أمّة، بل الذي يوجد في المسلمين من الشّر أقلّ مما في غيرهم بكثير ، والذي فيهم من الخير لا يوجد مثله  في غيرهم[106].

هذا، وقد أطلت في الاقتباسات لعلتين: الأولى– شعوري أن المقاطع القصيرة قد تشعر القارئ بأن المسألة عبارة عن عبارات عابرة، وأقوال طائرة، فأردت أن ألفت النظر إلى أنها قضايا استفاضوا في الكلام عنها، وأن يتراءى واضحًا المنطق الخاص بهذا الفقه، ومع ذلك فما نقلته إنما هو غيض من فيض. والثانية– رغبتي في حمل إخواني من أبناء هذا التراث على مطالعة هذه الكنوز المدفونة والجواهر المكنونة إقامة للحجة وبلاغًا لقوم يؤمنون، والله أعلم. ونحن إنما نورد هذه النصوص لبيان أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إذا تحول إلى قائمة أسئلة السياسة المعاصرة، فإن له نظيرًا في التراث يوافقه في أمور ويباينه في أخرى، فيتحقق الغرض من الورقة وهو بيان الرؤية التراثية للأمر مقارنة بخطاب العصر.

ثالثًا- المدخل الأخلاقي (أدب النصيحة):

نقف في هذا الجزء أمام نصين من أدب النصيحة عن كل من الإمامين أبي الحسن الماوردي وأبي بكر الطرطوشي رحمهما الله تعالى[107].

هذا ونشير إلى أن كتبة هذا الأدب لم يكونوا فقط مثقفين أدباء يجيدون صنعة القول والكتابة وحسب، بل كانوا علماء دين وفقهاء شريعة؛ ومن ثم تجد تداخلًا وتماسكًا واضحًا بين هذا المدخل وسابقه. وقرب منه للماوردي أدب الدين والدنيا، وللغزالي التبر المسبوك في نصيحة الملوك، وفصل الحلال والحرام من إحياء علوم الدين. فمن يطالع هذه المصادر ومصادر المدخل السابق (الفقهي) يجد أن الفقه هو النصيحة وأن النصيحة هي الفقه. ومن ثم فلن نعدم في الخطاب الأخلاقي النصيحي استكمالًا لأطراف من أمور الفقه السياسي. وهذا من باب تضافر الحق والواجب في الرؤية الإسلامية على ما هو معلوم، واجتماع العدل مع الفضل والإحسان، فإذا كان الفقه يعلم الناس أحكام عبادة الله تعالى وأنواع العبادات والكيفيات الظاهرة لأدائها –سواء كانت العبادة مباشرة أو من خلال المعاملات مع الخلق- فإن التربية الإحسانية التي يقوم عليها أدب النصيحة في السياسة وغيرها يعلمهم كيف يحسنون عبادة الله تعالى ويترقون فيها، كما قال نبي الله صلى الله عليه وسلم في الإحسان: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك“-مسلم عن عمر رضي الله عنه.

وفيما يلي نورد النصين مع تعليقات موجزة.

النص الأول- يقول الماوردي في نصيحة الملوك[108]:

“[العدل ميزان الله في الأرض]: وقال [صلى الله عليه وسلم]: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا”[109].فيجب على الملك المشارك في الإيمان لرعيته، أن تكون صفته معهم هذه الصفة، ومعاملته إيّاهم هذه المعاملة. وقد روينا فيما مضى من كتابنا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”[110]. وعلمنا أن الراعي والرعية، والسائس والمسوس، هما اسمان من أسماء الإضافة، لا بقاء لأحدهما إلا بالآخر، وأنه ليس حاجة الراعي إلى الرعية بأقل من حاجة الرعية إلى الراعي، وكذلك المَلِك والمُلك ولذلك مثّل الناس الرعية بالبدن، والراعي بالرأس، وقالوا: إن الرعية إذا هلكت هلك الراعي، وإذا فسدت، فسدت حال الراعي، وكلما دخلها نقص في أموالهم ودمائهم، رجع ذلك النقص عليه[111].

[بالوالي تصلح الرعية] .. [قوة الوالي زيادة في قوة الرعية]: وبالوالي مع فضل منزلته، من الحاجة إلى إصلاح الرعية، مثل ما بالرعية من الحاجة إلى صلاح الراعي، لأن قوة بعضهم زيادة في قوة بعض، ووهن بعضهم سريع إلى إيهان بعض.

فمن حق الرعية على الإمام [لاحظ أن الحق هنا بمعنى الواجب وسوف يتكرر]، إذا أمرهم بالطاعة والنصحية، والمؤازرة وأداء الأخرجة والمؤنة، وجزية أهل الذمة، وزكاة أهل الملة، أن يعز دينهم، وأن يحملهم على مناهجه ومعالمه، ويقيم فيهم الصلوات من الأعياد والجمعات والمواسم، وأنْ يحمي حوزتهم، ويسد خلتهم، ويقاتل عدوهم دونهم، ويعمر بلادهم، ويؤمن سبلهم، ويحفظ ذمتهم، وينصف مظلومهم من ظالمهم، وضعيفهم من قويهم، ويحفظ عليهم أموالهم وأشعارهم وأبشارهم، ويقيم حدود الله فيهم، التي حدّها لهم وعليهم، بلا هوادة ولا ميل ولا حيف، ويوفر حقوقهم من بيت المال. على ما جاءت به السنُّة، وأوجبته لهم الشريعة. فمن لم يوفر حقهم عليهم، وطالبهم بحقه، كان أول ظالم وأظلم غاشم

بدأ الماوردي بتكييف العلاقة بين الراعي والرعية تكييفًا إنسانيًّا تراحميًّا، عل أساس أنها علاقة أخوة. وهو وإن كان ينطلق من الدائرة الإيمانية المؤلفة لهذه الأخوة فإنه لا يقف عندها بل يمتد بها إلى الدائرة الآدمية والمجال الأرضي برمته. وأقام من ثم علاقة تلازم متبادلة بين الطرفين؛ حيث “ لا بقاء لأحدهما إلا بالآخر“. لكن هذا لا يمنعهما من تبادل الحقوق، وبالأخص تلك التي يخص الرعية وتقويهم على أداء ما عليهم: “فمن لم يوفر حقهم عليهم، وطالبهم بحقه، كان أول ظالم وأظلم غاشم “. ذكر الماوردي عددًا من هذه الحقوق سردًا، تمهيدًا لترتيبها في عشرة أبواب نتخير منها خمسًا لدواعي المقام. ولكن الملاحظة المهمة في هذا الصدد هي ما يتعلق باللغة الخاصة بهذا المدخل ومدى تناسبها مع القضية الحقوقية. وسوف نتعرض لها في مختتم العرض.

يقول الماوردي: “ونحن نجمع ما يجب عليه من ذلك ونفسره، وندل عليه ونبين عن وجه الصلاح فيه عشر خصال[112]:

  • الأولى- [عدم التفريق بين الخاصة والعامة]: منها: ما لا فرق بين الخاصة والعامة، … ومنها: ما يفرد به العام دون الخاصة. فمما يشمل الخاصة والعامة، ما ذكرناه من الحمل على ظاهر الشريعة، والحث عليها، والترغيب فيها، وإظهار كرامة المتدينين عليه، وجلالتهم عنده، والمنع من إظهار الفساد والفجور، من الميسر وشرب الخمر وإظهار السكر والفسوق والقذف والنياحات الفاحشة على الموتى، وكل محرم ومكروه في الدِّين، وما يدخل في أبواب الحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.  …”.

إنها دولة القانون، السلطة فيها موظفة لتنفيذ الشرعة التي ارتضاها الناس بحكم إيمانهم بها، ولكن السلطة لا تحمل الناس عليها فقط بعصا القانون، إنما تحثهم حثًّا وترغبهم بإكرام الملتزمين وكبح جماح المنحرفين، أمرًا بالمعروف الذي يعرفه الكافة ونهيًا عما يستنكرونه. فيتحول الخطاب الأخلاقي من المعرفة إلى الممارسة، وتصبح الأخلاق والقيم قوام السياسات العامة وفلسفة توجه هذه السياسة. ومن هنا تكفل لإنسان هذه الدولة حقوقه الدستورية والقانونية كفالة جامعة لا قاصرة.

  • “والثانية: ماذكرنا من حماية بيضتهم وصيانة حوزتهم، ومجاهدة أعدائهم والباغين عليهم، وكفايتهم ذلك، حتى تدر معايشهم، ويأمنوا معرة أعدائهم، ويشغلوا بمكاسبهم ومساعيهم، ويتهيأ لهم عمارة المملكة، ويسهل عليهم توفير الأخرجة والوظائف والصدقات والضرائب على بيت المال، ويكثر أهلها، ويعظم سوادها من المقيمين والطارئين، وبالتناسل والتوالد. …”.

وهكذا يتم إدراج وظيفة الدفاع التي تقوم عليها الجيوش والشرط إعدادًا للقوة واستعدادًا لتهجمات المعتدين الذين لا يخلو منهم زمن داخليًّا وخارجيًّا، تدرج فيما هو حق للناس على دولتهم: حق الأمن القومي الذي هو قاعدة الانطلاق للكسب والعمران. فأين هذا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ لماذا لا تكاد تلمس لهذا الحق وجودًا واضحًا صريحًا فيه وفي توابعه، اللهم إلا بالتأويل ودلالة الاقتضاء غير القطعية؟ أرى -والله أعلم- أن الذين صاغوا الإعلان والذين تهالكوا على إطلاقه لم يكن من مقاصدهم عز البلدان الموسومة بالتخلف، ولا كان من المفيد لهم أن يتحقق في هذه الدول المستقلة حديثًا ما تفضل بطلبه الماوردي؛ لأن هذا غالبًا ما يكون بالخصم من مواقع الدول الكبرى، التي دعت إلى مساواة كل شيء بكل شيء إلا مساواة أنفسها بالعالمين. وفي الإصرار على ترسيخ حق الفيتو فيما يسمى مجلس الأمن الدولي شاهد على ما لا نرى من النوايا. إن هذه قضية جديرة بالتوقف: العلاقة بين قوة الفرد ومنحه منزومة حقوق الإعلان وبين قوة دولته بين الأمم. إجابة التراث السياسي الإسلامي واضحة. بينما أقرب الإجابات قد تتلمسها في مواد قليلة من نصوص العهدين الدوليين لمجموعتي الحقوق. فالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يتضمن ثلاثا وخمسين مادة أكثرها مقتبس من الإعلان العالمي، والقليل منها هو الذي يتعلق بحقوق الشعوب ومع ذلك فهي شديدة العمومية، وتتسم بروح غير إيجابية مقارنة بالحقوق الفردية، ولا تكاد تتبين ضماناتها؛ حيث إنه بينما تقع ضمانات حقوق الأفراد على القانون الداخلي مع مراقبة دولية فإن ضمانات حقوق الشعوب تقع على القانون الدولي وبلا رقابة إلا من قبل الجهات القوية المتوقع اعتداؤها.

  • والثالثة: قمع ذعّارهم وأهل العبث والفساد فيهم، وشغلهم عنهم بقتل، أو صلب، أو نفي، أو حبس، أو قطع، على ما جاءت به الشريعة في الكتاب والسنُّة، وأنْ لا تحمله الرقة لهم والميل إلى بعضهم، على المحاباة فيها، فإنَّ المحاباة لهم ترك لمحاباة نفسه، وفي الإبقاء عليهم في هذا الباب إهلاك لهم. وقد وصف الله، جلَّ وعزَّ، نبيه، صلى الله عليه وسلم، وفضلاء، أصحابه بالرحمة والرأفة، ثم قال لهم: ﴿ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾[113] فكانوا على ما قال وأمر، منهين عما نهى وزجر. وقال فيما وصف به نفسه: ﴿اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾[114]. فالاقتداء بالله ورسوله أولى بالعبد وإن شق عليه.ثم يجب عليه أن لا يتعدى حدود الله، وما أمره به، تعظيمًا للعقوبة وتفخيمًا لها، فإنه لا عقوبة أهيب في النفوس، ولا أهول في العيون، ولا أولى بالردع، ولا أحرى بأن لا يورث المعاقب حقدًا وعداوة وموجدة، من عقوبة يحال بها على الله، وعلى دينه الذي يقّر به المعاقب. وعلى أنَّ من تعدى في الزيادة غصبًا وحميَّة يوشك أن يحابي وينقص رضًا وميلًا، ويعفو عن الجريرة في بعض الأوقات أصلًا، وفي ذلك تعطيل للحدود، وإهمال للرعية، وإمراج[115] لأهل المملكة“.

قلت: وقد سبق تأكيد هذا من كلام الجويني وابن تيمية، لكن اللافت في النص هو الإضافة التأثيرية التي يقدمها خطاب النصيحة، والروح التي يضفيها على المعلومة الفقهية أو القانونية، والمنطقية العقلية والعملية التي يمتاز بها: “فإنَّ المحاباة لهم ترك لمحاباة نفسه، وفي الإبقاء عليهم في هذا الباب إهلاك لهم“. ثم هذا التوازن الوسطي بين العقاب واستحضار حكمته وعدم التفريط فيه من جهة، وعدم الإفرط في تنفيذه من جهة أخرى إلجامًا لداعية الهوى، واتبعًا لمراد الله تعالى. ولهذا يستطرد الماوردي:

“[الملك لا يعاقب تعصبًا ولا تغضبًا]: ومع أنًّ الإسلام قد قيد الفتك، ومنع من المثلة وحرمها، فمن حق المَلِك [قلت: أي واجبه] أنْ  لا يعاقب تعصبًا ولا تغضبًا، وإنما تأديبًا وتدينًا. فالوجه أن لا يخالف حكم دينه فيها، ثم ينظر في إقامة هذه الحدود، وتأديب أهل الجنايات منهم، ويبحث عنها ويستقصي فيها، ولا يقدم على أحد في شيء من العقوبات إلاّ بعد البيان والبرهان.   فأما من يوجب عليه الحبس منهم، فالواجب أن يتفقد أحوالهم، ويبحث عن أمورهم في ثلاثة مواضع:

  • أولها: أن لا يحبس أحدًا إلّا بعد وجوب الحبس عليه.
  • والثانية: أنْ يتعهدهم في حبوسهم، في مأكلهم وملبسهم، فإنهم قوم قد منعوا من التصرف لأنفسهم والسعي لها، وليس لكل منهم مال ينفقه، وولّي يتعهده فكفايتهم وتعهدهم على الإمام الذي هو ولّي المسلمين، والسلطان ولُّي من لا وليَّ له.
  • والثالثة: أن يعرضهم في الوقت بعد الوقت، فلعله أن يثوب مذنب، أو يُنيب مجرم، ويعرف محق من الخصوم، أو يندم مبطل، وأن يكون فيهم من يضيع زعياله الذين كان معولهم على كدحه، وأعتمادهم على كده، ومعاشهم من كسبه، والمريض الذي لا ممرض له يمرضه، ولا طبيب يحضره.

ثم أنَّ الحبس من عظيم العقوبات، وإنما يجب أن تقع العقوبات على مقادير الذنوب، ولا يجوز أن يساوي بين ذوي الجرائم، صغارهم وكبارها، في التخليد والإخراج والتقييد والإطلاق، إلاّ المصّر الذي وجب عليه الحبس، من فساد في الأرض، ثم لم يفلح ولم يتب”.

قلت: وقد تقدم من هذا في المدخل الفقهي، لكن الملفت ليس هو تقارب هذين المدخلين بل تقارب الموافيق الحقوقية المعاصرة منهما إلى مستوى الألفاط: ففي العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية:

“المادة 9 :1- لكل فرد حق في الحرية وفي الأمان على شخصه. ولا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفا. ولا يجوز حرمان أحد من حريته إلا لأسباب ينص عليها القانون وطبق الإجراء المقرر فيه. 2- يتوجب إبلاغ أي شخص يتم توقيفه بأسباب هذا التوقيف لدى وقوعه كما يتوجب إبلاغه سريعا بأية تهمة توجه إليه. 3- يقدم الموقوف أو المعتقل بتهمة جزائية، سريعا إلى أحد القضاة أو أحد الموظفين المخولين قانونا مباشرة وظائف قضائية، ويكون من حقه أن يحاكم خلال مهلة معقولة أو أن يفرج عنه. ولا يجوز أن يكون احتجاز الأشخاص الذين ينتظرون المحاكمة هو القاعدة العامة، ولكن من الجائز تعليق الإفراج عنهم على ضمانات لكفالة حضورهم المحاكمة في أية مرحلة أخرى من مراحل الإجراءات القضائية، ولكفالة تنفيذ الحكم عند الاقتضاء. 4- لكل شخص حرم من حريته بالتوقيف أو الاعتقال حق الرجوع إلى محكمة لكي تفصل هذه المحكمة دون إبطاء في قانونية اعتقاله، وتأمر بالإفراج عنه إذا كان الاعتقال غير قانوني. 5- لكل شخص كان ضحية توقيف أو اعتقال غير قانوني حق في الحصول على تعويض. المادة 10 : 1- يعامل جميع المحرومين من حريتهم معاملة إنسانية، تحترم الكرامة الأصيلة في الشخص الإنساني. (أ) يفصل الأشخاص المتهمون عن الأشخاص المدانين، إلا في ظروف استثنائية، ويكونون محل معاملة على حدة تتفق مع كونهم أشخاصا غير مدانين، (ب) يفصل المتهمون الأحداث عن البالغين، و يحالون بالسرعة الممكنة إلى القضاء للفصل في قضاياهم. 2- يجب أن يراعي نظام السجون معاملة المسجونين معاملة يكون هدفها الأساسي إصلاحهم وإعادة تأهيلهم الاجتماعي. ويفصل المذنبون الأحداث عن البالغين ويعاملون معاملة تتفق مع سنهم ومركزهم القانوني. المادة 11:لا يجوز سجن أي إنسان لمجرد عجزه عن الوفاء بالتزام تعاقدي”. إن الجملة الأخيرة تكاد ترد بنصها عند ابن القيم عن الامام علي رضي الله تعالى عنه.

ثم يقول الماوردي:”والرابعة:

أن يحكم بينهم في مظالمهم ودعاويهم، وسماع بيناتهم وشهاداتهم بكتاب الله عزَّ وجلَّ، وسُنَّة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وما يوجبه الحق والحكم. ويجتهد في اختيار الحكام [قلت: تطلق على القضاة والحاكمين في المظالم]، حتى لا يوليه إلاّ الدَيِّن العفيف والعالم الفقيه، والأريب الأمين الوقور الرزين، على ما ذكرناه في الباب المتقدم لهذا الباب. ويتقدم إليه بالإستقصاء في البحث والنظر، والأخذ للضعيف من القوى وأن لا يعجل بالحكم قبل تمام البحث والاستقصاء، ولا يماطل به بعد ثبات الحجة وقيام البينة، فإن في كلتا الحالتين إهمالًا وتضييعًا، وأنه لم يحكم بالميل وحاف عن العدل على المحكوم عليه، ولكنه حكم له على نفسه، وجعله خصمه يوم القيامة، عند من لا يظن به الميل، ولا يقع في قضاياه الضيم. … قالوا: وكتب [أي عمر بن الخطاب رضي الله عنه] إلى معاوية بن أبي سفيان: أما بعد، فإني كتبت إليك بكتاب [في القضاء] لم آلك ونفسي فيه خيرًا، الزم خمس خلال افهمها، يسلم لك دينك، وتأخذ فيه بأفضل حظك: إذا تقدم إليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة، واليمين القاطعة، وادن الضعيف حتى يشتد قلبه، وينبسط لسانه، وتعاهد الغريب، فإنك إن لم تتعاهد ترك حقه ورجع إلى أهله، وإنما ضيع حقه من لم يرفع به رأسًا[وآس بينهم في لحظك وطرفك] وعليك بالصلح بين الناس ما لم يستبن لك فصل القضاء”. فماذ يقول العهد المشار إليه في مسألة التظلم والمتظلمين؟

(3- تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد : (أ) بأن تكفل توفر سبيل فعال للتظلم لأي شخص انتهكت حقوقه أو حرياته المعترف بها في هذا العهد، حتى لو صدر الانتهاك عن أشخاص يتصرفون بصفتهم الرسمية، (ب) بأن تكفل لكل متظلم على هذا النحو أن تبت في الحقوق التي يدعي انتهاكها سلطة قضائية أو إدارية أو تشريعية مختصة، أو أية سلطة مختصة أخرى ينص عليها نظام الدولة القانوني، وبأن تنمي إمكانيات التظلم القضائي، (ج) بأن تكفل قيام السلطات المختصة بإنفاذ الأحكام الصادرة لمصالح المتظلمين. ): توفر السلطات سبيل التظلم، ثم تكفل البت فيه، ثم تكفل إنفاذ أحكامه. لا شك أن بونًا واسعًا يفصل بين الصياغتين وما تشتمل عليه كل منهما من معانٍ.

ونترك الخصلة الخامسة لابتعادها عن المقارنة مع الخطاب الحقوقي؛ إذ هي مختصة بمراعاة مقامات الناس ومكاناتهم الاجتماعية بلا حيف على حق أحد.

يقول: “والسادسة:

أنْ يمنع العامه ظلمه وظلم أصحابه وحاشيته، ويقطع طمعه وأطماعهم عن أموال المسلمين وفروجهم وأشعارهم وأبشارهم، وينصف لهم من نفسه، فقد بينًّا ما في الظلم من الفساد، وفي خلافه من الصلاح. وإنَّ هذا أولى الأمور بالَملِك، تكرمًا واستصلاحًا ورأيًّا وأصالة، لأنَّه قادر عليهم، وظلم الإنسان من تحت يده وملكه لؤم ودناءة. ثم إنَّ الرعية إنْ ظلم بعضها بعضًا، كان السلطان هو الَمفْزَع والمستغاث والملتجأ والمستعدى، وإذا هو ظلم لم يكن فوقه يد قابضة فيصير ذلك عادة يصعب انتزاعها، ودربة يتعذر تركها. على ما في هذه الخلة -أعني العدل- من الائتمار بأمر الله، والاقتداء به، والاستنان بسنن الصالحين من أنبيائه وأوليائه، وسلوك لسبيل الحكماء المبرزين. على ما وعد الله العادلين من جزيل الثواب وكريم المآب، وأوعد به الجائرين من أليم العذاب وشديد العقاب. وقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم، وتقاضاه يهودي، فأساء التقاضي وأغلظ في القول: “دعوه فإنَّ لصاحب الحق يدًا ولسانًا”. وتحاكم أمير المؤمنين، عمر، رضي الله عنه، إلى زيد بن ثابت، وعرض على خصمه اليمين حتى اصطلحا. وتحاكم أمير المؤمنين [عمر] إلى شريح قاضيه“. انتهى من كلام الماوردي.

وهو جلي في استحضار الخطاب الترغيبي والترهيبي المسمى بالوعظ؛ اقتداء بالقرآن والسنة، يقول تعالى في آية الأمراء: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا {4/58})، وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أهل الجنة ثلاثة: سلطان مقسط، ورجل رحيم القلب بكل ذي قربى ومسلم، ورجل غني عفيف متصدق}. والله أعلم.

النص الثاني – للطرطوشي في سرج الملوك:

هنا نقف أمام فقيه سلفي صوفي، اجتمعت فيه شروط أديب النصيحة بامتياز: من العلم، والورع، والزهد، والشجاعة، والبلاغة[116]، وكتابه عمدة في بابه، وهو أكثر استغراقًا من غيره في النصح السياسي، والعناية بالحقوق والتحريج فيها إلى درجة التوسع في النقل للآثار المرسلة والضعيفة لكنها معقولة المعنى مستساغة المبنى. وهو –في تصوري- أهم مؤسس لعلم نفس السلطة من رؤية إسلامية، ولما يُخدم جهده هذا الخدمةَ المناسبة بعد. وهو في كتابه هذا يحيل الأخلاق السياسية إلى علم له مبادئه ومعالمه، ونظرياته ونماذجه الوصفية والتفسيرية والنقدية، فيما لا يتسع المقام لبسطه. فماذا يقول فيما يتعلق بالحقوق الإنساية في الحقل السياسي؟

يقول الطرطوشي:  “الباب السابع والثلاثون: في بيان الخصلة التي فيها ملجأ الملوك عند الشدائد ومعقل السلاطين عند اضطراب الأمور وتغيير الوجوه والأحوال:

أيها الملك إذا اعتجلت الأمور في صدرك واضطربت عليك القواعد، ومرجت في قلبك وجوه الآراء وتنكرت عليك المعارف، واكفهر لك وجه الزمان ورأيت آثار الغير، فلا تغلبنك خصلتان: اترك للناس دينهم ودنياهم ولك الزمان من طوارق الحدثان وما يأتي به الملوان؛ فقد ترى أن المأمون قال في آخر موافقته مع أخيه الأمين: قد نفذت الأموال وألحت الأجناد في طلب الأرزاق فقال المأمون: بقيت لأخي خصلة لو فعلها ملك موضع قدمي هاتين قيل له: وما هي؟ فقال: والله إني لأضن بها على نفسي فكيف على غيري؟ فلما خلص له الأمر سئل عن تلك الخصلة فقال: لو أن الأمين نادى في جميع بلاده أنه قد حط الخراجات والوظائف السلطانية وسائر الجبايات عشر سنين، ملك علي ولكن الله غالب على أمره. …  ودخل تحت هذه الترجمة أمر اتفق عليه حكماء العرب والروم والفرس والهند وهو أن يصطنع وجوه كل قبيلة والمقدمين من كل عشيرة، ويحسن إلى حملة القرآن وحفظة الشريعة ويدني مجالسهم، ويقرب الصالحين والمتزهدين وكل مستمسك بعروة الدين. وكذلك يفعل بالأشراف من كل قبيلة والرؤساء المتبوعين من كل نمط، فهؤلاء هم أزمة الخلق وبهم يملك من سواهم. فمن كمال السياسة والرياسة أن يبقى على كل ذي رياسة رياسته وعلى كل ذي عز عزه وعلى كل ذي منزلة منزلته، فحينئذ تكون لك الرؤساء أعوانًا، ومن دانت له الفضلاء من كل قبيلة فأخلق به أن يدوم سلطانه، والعامة والأتباع دون مقدميهم وساداتهم أجساد بلا رؤوس، وأشباح بلا أرواح. …”[117].

وفي هذا استكمال لما قصد إليه الماوري في الخصلة الخامسة التي تجاوزناها. ولنا أن نلاحظ ما بين الإمامين من اتفاق في لفظة “خصلة“، ولا شك أن لها دلالتها. والطرطوشي يقتبس في مواضع من كتب الماوردي؛ بما ينم عن سمة التراكم والتواصل في هذا التراث. ثم إن فيه التنبيه على أن الحقوق لا تستوفى بعلاقة صماء بين الفرد والدولة، فبينهما هيئات وسيطة يمثلها قادة الرأي والحركة في المجتمع، وهو المجتمع الأهلي الذي أرساه المسلمون وعاشوا به إلى أن كانت القطيعة الحديثة.

وفيه معنى ما يشبه التودد المصلحي واصطناع المعروف من الدولة إلى العامة، ليس على سبيل الرشوة السياسية بل من باب إحقاق الحقوق لكي تستقر الدولة وتستكمل السياسة والرياسة. وأن يراعى في ذلك الوصول إلى “المواطنين” عبر القنوات التي يألفونها، لا أن يلغي المعهود لصالح انفراد استبداي أو تجديد موهوم على نحو ما تم في أنظمة حديثة باسم التنمية والتحديث والإصلاح الهيكلي.

ومن ثم يشير الطرطوشي إلى أن السلطة ليست فردًا وإن بدت هكذا. فالسلطان بالأعوان والمقربين مقتدٍ ومتأثر. ومن ثم فإن نوعية هذا السياق وأخلاقيته والتزامه قيم العدل والحق والصلاح يمثل شرطًا ضروريًّا لكي تجد الحقوق الإنسانية المتعلقة بالأفراد سبيلها إلى النفاذ والتحقق. كما أن هؤلاء القاددة المتبوعين يتوجه إليه خطاب بأن يتحملوا مسئوليتهم في تحقيق الاتصال الفعال بين السلطات وعامة الناس، وأن يكونوا عن الضعفاء مدافعين، وللمظلومين منتصفين، وللسلطان والمتنفذين ناصحين. فكل ذلك من عوامل استيفاء الحقوق الإنسانية، وبدونها تكثر العقبات والعراقيل. لعل أحدًا يمكن أن يصل بين هذا المفهوم الشائع في أدب النصيحة وفي بعض الفقه من أهمية السياق المحيد بالسلطة وأصحابها في عمليات الإصلاح والتوجيه والتأثير الإيجابي على صانعي القرار على نحو ما قد يرام من الأحزاب السياسية والنقابات وما يسمى جماعات المصالح.

ثم يقول:الباب التاسع والثلاثون في مثل السلطان العادل والجائر:  مثل السلطان العادل مثل الياقوتة النفيسة الرقيعة في وسط العقد، ومثل الرعية مثل سائر الشذر فلا تلحظ العيون إلا الواسطة، وأول ما يبصر المبصرون وينقد الناقدون الواسطة، وإنما يثنى المثنون على الواسطة، وكلما حسنت الواسطة غمرت سائر الشذر فلا يكاد يذكر؛ … ومثل السلطان الجائر مثل الشوكة في الرجل، فصاحبها تحت ألم وقلق ويتداعى لها سائر الجسد، ولا يزال صاحبها يروم قلعها ويستعين وبما في ميسوره من الآلات والمناقيش والإبر على إخراجها، لأنها في غير موضعها الطبيعي ويوشك أن يقلع بالأجرة، فأين غرر الياقوت من شوك القتاد: وروى أبو داود أن خاتم دانيال النبي عليه السلام كان عليه منقوش صورة أسدين، وبينهما صورة دانيال وهما يلحسانه لئلا ينسى نعمة الله عليه”[118]. والمهم في هذا المقام هو استعمال أدب النصيحة مفهوم “المثل” المقابل لمفهوم “النموذج” في العلوم الإنسانية الحديثة، مع الاعتراف بالفارق، لكنه وسيلة لإجمال المعرفة إجمالًا مفيدًا وتجسيدها للنظار والناظرين. ومن ثم فإن استعمال الرمز والمثل والقصة من مقويات الخطاب الحقوقي المتوجه إلى النفوس وجوانياتها؛ بغية إعانة الإنسان على نفسه قبل أي شيء. وها هنا بدا خطاب النصيحة يتحرط في مساحة تخلو من حركة الخطاب الحقوقي، رغم أهميتها. فهل فيما أشار إليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من ضرورة العمل على نشر القضية من خلال التربية والتعليم ما يشي بنزوع إلى هذه المساحة؟

ينهض هذا الخطاب الأخلاقي بالتالي بدور التمهيد اللازم لثقافة الحقوق، وترسيخها في أعماق النفوس، كأن الطرطوشي رحمه الله تعالى يضيف إلى وجوب المعرفة العميقة والالتزام الشرعي والتراحمية التي تؤسسها التعاليم الفلسفية والفقهية والأخلاقية (المداخل الثلاثة) ضرورة أن تصبح هذه الأمور حالًا دائمة لإنسان هذه الدولة، وأن يجاهد نفسه ألا تنفلت من بين ضلوعه معاني المراقبة والمحاسبة والمسئولية أمام الله تعالى قبل الخلق (أو بالتعبير المعاصر: قبل المواطنين). وفي هذا نجد أن الإعلان العالمي قد أوعز إلى العمل على نشر هذا من خلال الإعلام والتعليم كما أشرنا، الأمر الذي تتسابق إليه دولنا اليوم تحت راية الإصلاح الديمقراطي، ولكن ضمن مناخ –للمفارقة- يبغّض النشء في هذه الثقافة الحقوقية؛ إذ أصبحت “مقررًا دراسيًّا” في سياق الوضع التعليمي غير المحفز كما هو معلوم للكافة.

ومما يشار إليه في هذا الصدد أن الطرطوشي أهدى هذا الكتاب إلى المأمون بن البطائحي الذي أخرجه من السجن بعد وفاة الأفضل بن بدر الجمالي الذي كان قد اضطهده وحبسه؛ مميزًا بذلك بين إسداء النصيحة والاكتفاء بتملق السلطان ومديحه. ومن ثم فلم يكن هذا النمط من الخطاب من باب الوعظ غير المؤثر بل الأقرب أنه إعمالٌ للكلمة في مخاطبة “النفس” التي تحكم الناس والتي تعارك السياسة. ويعد هذا الخطاب كذلك من أصول علم النفس السياسي الذي أُهملت صياغته هذه لصالح الصياغة الوضعية الجافة الخالية من التوجيه والمواجهة والتي لا ترى من السياسة إلا معملًا لإثبات قضايا نظرية لا علاقة لها بالواقع ومتطلبات إصلاحه.

وفي هذا القدر كفاية، على الرغم من كثرة المواضع الخادمة, وننتقل إلى المدخل العمراني مع ابن خلدون.

د) المدخل العمراني: قراءة في طريقة ابن خلدون أمام سؤال الحقوق الإنساني:

اتخذ ابن خلدون في المجال السياسي سبيلًا يبدأ من المؤرخ، ويمر بالفقيه والأديب، لكنه يتجه إلى وجهة أخرى؛ وهي: بيان النواميس الاجتماعية والسياسية التي تحكم الكثير من ظواهر هذا الميدان. يمكن أن يقرب ذلك من التفلسف السياسي لاشتراكهما في النظر العميق في الواقع العام والبحث عما وراء الأحداث من علل ومناطات يمكن أن تفسر الواقع وتستشرف المتوقع، وتؤسس للحكمة السياسية. بيد أن الحكمة التي ينشدها ابن خلدون تتميز بالخاصة العملية على خلاف الحكمة النظرية التي رأينا الفارابي يمهد أرضيتها.

والحكمة العملية الخلدونية مشربة بخصائص التراث السياسي الإسلامي العامة: القيمية، الغائية، العملية، الواقعية، المرتبطة بالمصدر الموحى ومنهجية الفهم الشائع له في حينه. لكن ما علاقة هذا بترتيب مسألة الحقوق الإنسانية في الدولة؟

إن القراءة الأولية لمقدمة ابن خلدون تلفت الانتباه إلى أن مفهومه للإنسان لا يقتصر على المسلم، وإن لم يجرده من الدينية مطلقًا، لكنه ركز على صفات عامة لا تتعلق غالبًا بالفرد بقدر ما تتصل بالجماعة والدول والطور التاريخي والحضاري الذي تمر به من جهة والظروف المادية والمعنوية التي تحيط بهذه الجماعة وتأثير ذلك على علاقات عناصرها وعمليات الأخذ والعطاء المتبادلة بينهم، لا سيما العلاقة بين الراعي وأرباب الملك من جهة والرعية وأرباب الصنائع والمعايش من جهة أخرى، بالإضافة إلى علاقة الأمة برمتها حضاريًّا بالأمم المتصلة بها، وتأثير الفروق بينها في حال الأمة المقصودة وتطورها.

وابن خلدون يتميز بحكاية الحال لا فقط الدعوة إلى المثال. فمنطلقه التاريخي، وغايته التقنينية السُّننية تجعلنا أمام حالة علمية منهجية متميزة، تبتعد كثيرًا عن منطق الإعلان العالمي والعهود ذات الصبغة القانونية الإنشائية (الآمرة الناهية)، وتقترب كثيرًا من الخطاب الوضعي في العلم الإنساني الحديث، مع الفارق الشديد الذي ينبغي أن يكون قد ترسخ واتضح لدى القارئ الكريم.

ونحن نقتطف من نص المقدمة ما نراه أقرب إلى مخاطبة القضية الحقوقية بمعنى مفيد:

الفصل الحادي والثلاثون: في الخطط الدينية الخلافية [من الخلافة]: لما تبين أن حقيقة الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا، فصاحب الشرع متصرف في الأمرين: أما في الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية التي هو مأمور بتبليغها وحمل الناس عليها، وأما سياسة الدنيا فبمقتضي رعايته لمصالحهم في العمران البشري. وقد قدمنا أن هذا العمران ضروري للبشر وأن رعاية مصالحه كذلك، لئلا يفسد إن أهملت، وقدمنا أن الملك وسطوته كاف في حصول هذه المصالح. نعم إنما تكون أكمل إذا كانت بالأحكام الشرعية لأنه أعلم بهذه المصالح. فقد صار الملك يندرج تحت الخلافة إذا كان إسلاميًّا ويكون من توابعها. وقد ينفرد إذا كان في غير الملة. وله على كل حال مراتب خادمة ووظائف تابعة تتعين خططا وتتوزع على رجال الدولة وظائف، فيقوم كل واحد بوظيفته حسبما يعينه الملك الذي تكون يده عالية عليهم، فيتم بذلك أمره، ويحسن قيامه بسلطانه. وأما المنصب الخلافي وإن كان الملك يندرج تحته بهذا الاعتبار الذي ذكرناه فتصرفه الديني يختص بخطط ومراتب لا تعرف إلا للخلفاء الإسلاميين”[119].

هكذا تتحدد معالم الخريطة ابتداء: بين سياسة إسلامية إنما هي خلافة عن نبوة، وسياسة أخرى لا تلتزم ذلك، والأولى أكمل لأن الله تعالى أعلم بمن خلق. ولكنَّ للقوة دورًا لا ينكر في استيفاء الحقوق لأفراد الدولة “الملك وسطوته كاف في حصول هذه المصالح“، لكنها “إنما تكون أكمل إذا كانت بالأحكام الشرعية“.

ويتجاوز ابن خلدون حديث الأحكام المتعلقة بالعدالة[120] واستيفاء الحقوق العامة ومؤسساتها –وهو الفقيه القاضي المالكي المستوعب لها- ليتتبع قصة تطور هذه المؤسسات في التاريخ الإسلامي حتى وقته هو؛ بما يبين كيف كانت الأمور تتراوح بين صعود وهبوط، لا كما يتصورها الحداثيون تطورًا خطيًّا يمضي باتجاه ذروة الحضارة الغربية حيث انتهى التاريخ، كما تتراوح بين خلافة على المنهاج، وسلطنة ومُلك حين تكون السياسة عقلية مستقلة عن الاستهداء بالوحي.

فيقول عن القاضي:وأما أحكام هذا المنصب وشروطه فمعروفة في كتب الفقه، وخصوصا كتب الأحكام السلطانية. إلا أن القاضي إنما كان له في عصر الخلفاء الفصل بين الخصوم فقط، ثم دفع لهم بعد ذلك أمور أخرى على التدريج بحسب اشتغال الخلفاء والملوك بالسياسة الكبرى. واستقر منصب القضاء آخر الأمر على أنه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أموال المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السفه، وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه، والنظر في مصالح الطرقات والأبنية وتصفح الشهود والأمناء والنواب، واستيفاء العلم والخبرة فيهم، بالعدالة والجرح ليحصل له الوثوق بهم، وصارت هذه كلها من تعلقات وظيفته وتوابع ولايته.

وقد كان الخلفاء من قبل يجعلون للقاضي النظر في “المظالم”، وهي وظيفة ممتزجة، من سطوة السلطنة ونصفة القضاء. وتحتاج إلى علو يد وعظيم رهبة تقمع الظالم من الخصمين، وتزجر المعتدي وكأنه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه. ويكون نظره في البينات والتقرير واعتماد الأمارات والقرائن، وتأخير الحكم إلى استجلاء الحق، وحمل الخصمين على الصلح، واستحلاف الشهود وذلك أوسع من نظر القاضي. وكان الخلفاء الأولون يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي من بني العباس، رربما كانوا يجعلونها لقضاتهم كما فعل عمر رضي الله عنه مع قاضيه أبي إدريس الخولاني، وكما فعله المأمون ليحيى بن أكثم، والمعتصم لأحمد بن أبي دواد”[121]. وهذا مصداق واقعي عام لما طالب به الفقهاء (الماوردي والجويني وابن تيمية وابن القيم) من قبل في شأن المظالم، فهل كان هذا هو حال عموم تاريخنا؟ ظاهر كلام ابن خلدون يشير إلى ذلك، وربما أنه يحكي عما كان مفترضًا بصورة ما كان حاصلًا.

ويقول عن هيئة الشرطة: “وكان أيضا النظر في الجرائم وإقامة الحدود في الدولة العباسية والأموية بالأندلس، والعبيديين بمصر والمغرب، راجعا إلى صاحب الشرطة، وهي وظيفة آخرى دينية كانت من الوظائف الشرعية في تلك الدول، توسع النظر فيها عن أحكام القضاء قليلًا، فيجعل للتهمة في الحكم مجالًا، ويفرض العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم، ويقيم الحدود الثابتة في محالها، ويحكم في القود والقصاص، ويقيم التعزير والتأديب في حق من لم ينته عن الجريمة”[122].

ومن الواضح أن تطور إعمال العدالة قد ارتبط بطبائع أهل كل زمان، وسعي الساسة لمواكبة المستجدات ووصلها بما كان، فانتقلوا من الفصل القضائي العادي بالبينة التي هي الشهود وبالأيمان، إلى نظر المظالم بإجراءات مزيدة في الزجر وطلب المزيد من الأدلة وتمحيصها، ثم إلى العقوبات الزاجرة حتى قبل ثبوت الجرائم. ولا شك أن الحقوق الإنسانية التي تحفظت على السمة الإطلاقية بمراعاة القوانين لا يمكنها إلا أن تلجأ إلى المقاصد وميزان المصالح لنفي التعسف عن مثل هذه الإضافات إذا تم اعتمادها، وهذا ما فعله الفقه السياسي الإسلامي كما سبق بيانه. لكن النقص لا ينال المتقاضين أو المتظالمين وحدهم وهم الذين يعنى بهم الخطاب الحقوقي، بل إنه يقع في المتولين للوظائف لا سيما متولي المظالم وصاحب الشرطة، وبانخرام الشروط فيهما راحت تنقض عرى السياسة الشرعية شيئا فشيئا:

“ثم تنوسي شأن هاتين الوظيفتين في المولى التي تنوسي فيها أمر الخلافة، فصار أمر المظالم راجعا إلى السلطان، كان له تفويض من الخليفة أو لم يكن. وانقسمت وظيفة الشرطة قسمين: منها وظيفة التهمة على الجرائم، وإقامة حدودها، ومباشرة القطع والقصاص حيث يتعين، ونصب لذلك في هذه الدول حاكم يحكم فيها بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشرعية، ويسمى تارة باسم الوالي، وتارة باسم الشرطة. وبقي قسم التعازير وإقامة الحدود في الجرائم الثابتة شرعا، فجمع للقاضي مع ما تقدم وصار ذلك من توابع وظيفته وولايته. واستقر الأمر لهذا العهد على ذلك”[123].

وبالمثل يتحدث عن الحسبة: أما الحسبة فهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين، يعين لذلك من يراه أهلا له، فيتعين فرضه عليه، ويتخذ الأعوان على ذلك، ويبحث عن المنكرات، ويعزز ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة: مثل المنع من المضايقة في الطرقات، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة، والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرها في الإبلاع في ضربهم للصبيان المتعلمين. ولا يتوقف حكمه على تنازع أو استعداء، بل له النظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك، ويرفع إليه. وليس له إمضاء الحكم في الدعاوى مطلقا بل فيما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها، وفي المكاييل والموازين، وله أيضا حمل المماطلين على الإنصاف، وأمثال ذلك مما ليس فيه سماع بينة، ولا إنفاذ حكم. وكأنها أحكام ينزه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها، فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها. فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء. وقد كانت في كثير من الدول الإسلامية مثل العبيديين بمصر والمغرب والأمويين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي يولي فيها باختياره. ثم لما انفردت وظيفة السلطان عن الخلافة وصار نظره عاما في أمور السياسة اندرجت في وظائف الملك وأفردت بالولاية”[124]. …

ثم يقول مميزًا بين الوظائف الخلافية (من الخلافة) أي التي هي مقتضى الطلب الشرعي وبين الوظائف التي استحدثها الملوك والسلاطين غير العالمين بالأحكام سياسة وتحقيقًا لمقاصد رأوها وفرضها عليهم تطور العمران والاجتماع البشري: “الفصل الرابع والثلاثون: في مراتب الملك والسلطان وألقابها … ثم اعلم أن الوظائف السلطانية في هذه الملة الإسلامية مندرجة تحت الخلافة لاشتمال منصب الخلافة على الدين والدنيا كما قدمناه. فالأحكام الشرعية متعلقة بجميعها وموجودة لكل واحدة منها في سائر وجوهها، لعموم تعلق الحكم الشرعي بجميع أفعال العباد. والفقيه ينظر في مرتبة الملك والسلطان وشروط تقليدها استبدادًا على الخلافة وهو معنى السلطان، أو تعويضًا منها وهو معنى الوزارة عندهم كما يأتي، وفي نظره في الأحكام والأموال وسائر السياسات مطلقًا أو مقيدًا، أو في موجبات العزل إن عرضت، وغير ذلك من معاني الملك والسلطان وكذا في سائر الوظائف التي تحت الملك والسلطان من وزارة أو جباية أو ولاية. لابد للفقيه من النظر في جميع ذلك لما قدمناه من انسحاب حكم الخلافة الشرعية في الملة الإسلامية على رتبة الملك والسلطان. إلا أن كلامنا في وظائف الملك والسلطان ورتبته، إنما هو بمقتضى طييعة العمران ووجود البشر لا بما يخصها من أحكام الشرع فليس من غرض كتابنا كما علمت، …”[125].

ليس هذا التمييز كذلك الذي تصوره الفارابي بين دولة فاضلة وأخرى جاهلة: فاسقة أو ضالة أو مبدلة. إنما هو تمييز تاريخي لنمطين من الدولة الإسلامية: دولة القانون الشرعي الواسع التطبيق حتى يحتوي السياسات الإدارية لا مجرد الخصومات القضائية (دولة الخلافة)، ودولة السياسة الوضعية مع بقاء القضاء شرعيًّا محضًا (دولة السلطان والملك). ومن ثم فالقوانين التي يعنى بها في فهم الدول السلطانية والملوكية التي أخذت من تاريخ المسلمين أكثر قرونه، ليست القوانين الشرعية والمسالك الاتباعية، إنما هي قوانين العمران وسنن الملك العادية التي محلها الواقع لا النص. كأننا أمام أوجست كونت أو دوركايم، أو كأنهما من أحفاد هذا المنطق. وهنا تقع الحقوق الإنسانية داخل الدولة بين معادلات القوة والإرادات السياسية للفرد الحاكم وجماعته (عصبيته).

ونحن لا نتابع ابن خلدون في بعض منطقه هذا، ولكنه يفيد في استفادة السنن التكوينية محل الوقوع اللازم التي هي المعادل الواقعي للقوانين الشرعية محل الطلب.

لكن الحقيقة أن ابن خلدون يعود في مقامات عديدة ولا يجعل منطقه التكويني هذا أحاديًّا، بل يمضي جادلًا على واقعيته المنطق القيمي والغائي ولا يعرضها مفصولة تمامًا عن هذا المنطق. ومن أهم المواضع التي برز فيها هذا الوصل اللطيف، وهو متصل بقضيتنا: الحقوق الإنسانية في السياق السياسي: قضية العدل والظلم وعلاقتها بالعمران. وسنرى فيها كيف يعود العلامة ابن خلدون لكي يصطلح مع كل من الفقهاء والنصحاء وأدبهم، وكيف يُبدع رؤيته العبقرية الجامعة بين تمحيص ما هو جارٍ على حكم السنن، وإعمال ما واجب الاتباع من الآيات والسنن.

يقول العلامة:

“الفصل الثالث والأربعون: في أن الظلم مؤذن بخراب العمران: اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم. وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك. وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيرا عاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها. وإن كان الاعتداء يسيرًا كان الانقباض عن الكسب على نسبته. والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين. فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران، وانتقضت الأحوال وأبذع الناس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها، فخف ساكن القطر، وخلت دياره، وخربت أمصاره، واختل باختلاله حال الدولة والسلطان، لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة.

… ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور، بل الظلم أعم من ذلك. وكل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقًا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه. فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغصاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الأمال من أهله.

واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فلما كان الظلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الحظر فيه موجودة، فكان تحريمه مهما. وأدلته من القرآن والسنة كثيرة أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر.

ولو كان كل واحد قادرا عليه لوضع بإزائه من العقوبات الزاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنوع، التي يقدر كل أحد على اقترافها من الزنا والقتل والسكر. إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه، لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان، فبولغ في ذمه وتكرير الوعيد فيه، عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه. “وما ربك بظلام للعبيد “[126].

إن العدوان على حقوق الإنسان إنما هو إيذان بخراب ينال العمران: الدولة والسلطان، والمجتمع والاقتصاد وبينها خراب الهيئات النفسيانية على نحو ما أوضح الفارابي من قبل(وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك). إن الظلم هو مخالفة الحقوق التي أثبتها الشرع للإنسان، وأنواعه وأفراده لا تقع تحت حصر.

والفقيه الحضاري يتنبه لكلياتها وما يعرض للأمة برمتها من عوارض الخراب التدريجي من خلال متابعته لما يجري على الكليات الخمس الضرورية بمعانيها الواسعة من تغيرات وتخريبات، وبما يلاحظه من انخرام المقاصد الضرورية بانتقاض وسائلها ومؤسساتها وأشخاصها، وبتدهور القيم التي تحوطها والتي تدفعها إلى مرامها. والفقيه بالشرع والأحكام هو الذي يفصل فيها ويبين ما أصاب جزئياتها الدقيقة من خلل، ويتابع الحوادث التفصيلية بالتحليل والتحريم؛ حتى إذا قدر للعمران أن يتعافى، كان ذلك بطاعة الدولة للفقيهين الناصحيْن.

لكن معضلة الإنسان والسياسة والحقوق الحائرة بينهما أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه؛ أي لا يقدر على منعه أو دفعه أو رفعه إلا الذين هم أقدر على إيقاعه؛ لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان. فالأفراد إذا تظالموا رجعوا إلى ذي السلطان كما نبه الماوردي والطرطوشي، فماذا إذا ظلم السلطان؟ هنا يتحرك أدب النصيحة وفن التصحيح لما في نفوس الناس راعيهم ورعيتهم؛ “فبولغ في ذمه –أي الظلم- وتكرير الوعيد فيه، عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه. وما ربك بظلام للعبيد“.

وبذا تتجمع المياه من الروافد الأربعة في مصب واحد، وتتجلى عند ابن خلدون الجامعية التراثية في تناول قضية الإنسان )بجوانيه وبرانيه راعيًا ورعيةً) والدولة (بأصولها وهويتها وبقيمها وغائيتها وأحكامها ومرجعيتها) والحقوق والواجبات برؤيتها التبادلية التراحمية، لتوجه خطابًا للعالمين أن الله هو الحق المبين، (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {6/153}).

وفي النهاية فقد أورد في حقوق الإنسان فقرات معبرة أشد التعبير عن القضية الحقوقية وبخطاب رفيع المستوى. لقد بدت بعض كلمات ابن خلدون كأنما مهدت لفقرات مهمة في العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية، مع روح عالية وعمق شديد في النص الخلدوني. وهاك شاهدًا منها:

يقول العلامة: “… فصل: ومن أشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق. وذلك أن الأعمال من قبيل المتمولات كما سنبين في باب الرزق، لأن الرزق والكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران. فإذا مساعيهم وأعمالهم كلها متمولات ومكاسب لهم، بل لا مكاسب لهم سواها، فإن الرعية المعتملين في العمارة إنما معاشهم ومكاسبهم من اعتمالهم ذلك. فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم واتخذوا سخريا في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم ذلك، وهو متمولهم فدخل عليهم الضرر، وذهب لهم حظ كبير من معاشهم، بل هو معاشهم بالجملة. وإن تكرر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة، وقعدوا عن السعي فيها جملة فأدى إلى انتقاض العمران وتخريبه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق”[127].

ويقول العهد الدولي في مادته الثالثة: “3- (أ) لا يجوز إكراه أحد على السخرة أو العمل الإلزامي، (ب) لا يجوز تأويل الفقرة 3 (أ) على نحو يجعلها، في البلدان التي تجيز المعاقبة على بعض الجرائم بالسجن مع الأشغال الشاقة، تمنع تنفيذ عقوبة الأشغال الشاقة المحكوم بها من قبل محكمة مختصة، (ج) لأغراض هذه الفقرة، لا يشمل تعبير “السخرة أو العمل الإلزامي “، “1” الأعمال والخدمات غير المقصودة بالفقرة الفرعية (ب) والتي تفرض عادة على الشخص المعتقل نتيجة قرار قضائي أو قانوني أو الذي صدر بحقه مثل هذا القرار ثم أفرج عنه بصورة مشروطة ، “2” أية خدمة ذات طابع عسكري، وكذلك، في البلدان التي تعترف بحق الاستنكاف الضميري عن الخدمة العسكرية، أية خدمة قومية يفرضها القانون على المستنكفين ضميريا، “3” أية خدمة تفرض في حالات الطوارئ أو النكبات التي تهدد حياة الجماعة أو رفاهها، “4” أية أعمال أو خدمات تشكل جزءا من الالتزامات المدنية العادية. “.

وختامًا:

وبعدُ، فلم تقدم الورقة كل ما كان ينبغي أن يُطرح في هذا المقام للإجابة عن سؤالها إجابة شافية، ولم تورد من النصوص ما يدل دلالة وافية على المطلوب؛ إذ المَعين شاسع والمقام ضيق، ولم تستنطق الورقة النصوص بالقدر الكافي المجزئ من وجهة نظري، لكن طبيعة المقام وكونه استطلاعًا استكشافيًّا قد يبرر الوقوف عند حد الدلالة على الطريق إلى الجواب دون تبليغ القارئ غاية المرام. في هذه  الخاتمة أحاول أن أجمل نتائج الدراسة على النحو التالي:

  • بيننا وبين التراث السياسي الإسلامي العديد من المشكلات والعقبات، منها قلة المطالعة المباشرة لنصوصه وهذه لها عوامل عدة، ثم الرؤى المسبقة التي باتت تحكم المسافة بيننا وبين هذا التراث. وفيما يتعلق بحقوق الإنسان في هذا التراث فإن الشبهات والمطاعن ومن ثم الردود والمدافعات أكثر بكثير من الدراسات المباشرة للنصوص، الدراسات المعتبرة للأصول المرجعية والسياقات الموضوعية، التي تستكشف الحقائق وتقارنها بين الرؤية التراثية وما عداها؛ الأمر الذي حاولت هذه الدراسة أن تقوم به.
  • إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم ينشأ من فراغ، إنما في بيئة فكرية سقته من مَعين فلسفتها ومنحت مفاهيمه الأساسية -من الإنسان والحق والمساواة والحرية وما إليها- دلالتها الخاصة والمتميزة؛ والتي تشكك الدراسة في عالميتها وإن تواصلت عمليات عولمتها لما يقارب القرن قبل إصدار الإعلان، وفي الفترة التالية عليه. كما أن الإعلان نشأ في لحظة تاريخية معينة لها محدداتها من التأثر بما جرَّته النظم الشمولية (النازية والفاشية) من ويلات على البشرية؛ ومن ثم اتسمت مفاهيم الإعلان وقضاياه الرئيسة ورؤيته والمنطق الكامن في أحشائه بسمات: الليبرالية التي تقدم الفرد قبل كل شيء، والعلمانية المتجاهلة لما قبل الإنسان ولما قبل الدولة، وتوجيه الاعتبار الأكبر إلى الثنائية التضادية بين الفرد والسلطة، والمجتمع والدولة، مع ترجيح كفة الشق الأول في الحقوق والمزايا؛ تأثرًا بالسياقين الفكري والواقعي الذين برز فيهما الإعلان. ولا شك أن ثمة تطورًا قد طرأ على الخطاب الحقوقي عبر السنوات التالية لصدور الإعلان وإن كانت طفيفة ولا تتعرض لجوهر فلسفته، وقد تجلت هذه التطورات في العهدين الدوليين في أواسط الستينيات من القرن المنصرم؛ حيث ظهر فيهما -بفعل الحرب الباردة- بُعد اجتماعي وجماعي وإن لم يصل إلى موازنة المسألة. لكن الكثير من مفردات الإعلان التي تم إفرادها بوثائق خاصة -من مثل حقوق المرأة- قد شهدت -بفعل الحركات الأنثوية – غلوًا وابتعادًا يفوق بكثير ما كان عليه الإعلان.
  • بانتقال المجهر إلى ساحتنا العربية والإسلامية، نجد أن العلمانيين والمتغربين كانوا أسبق إلى تلقي رؤية الإعلان وفلسفته وتبنيها، وإنشاء خطاب حقوقي علماني كانت أهم سماته هو التوجه به لانتقاد الخبرة الإسلامية الفكرية والتاريخية من منطلق مفاهيم الإعلان وقضاياه، الأمر الذي وصل ببعضهم إلى توجيه الانتقاد لبعض ما جاء في الشرعة الإسلامية ونصوصها نفسها، في مثل قضايا الردة والحدود العقابية والتمييز في شهادة المرأة وميراثها وما إليه. ومن ناحية أخرى تعددت أوجه تلقي أرباب المرجعية الإسلامية للإعلان والخطاب الحقوقي الذي اتصل بالإعلان سواء من الداخل أو من الخارج، وغلبت سمة المقارنة والمقاربة على الكثير من التعاطيات مع هذا الإعلان: دفعًا لشبهات المشتبهين عن الدين والتراث، ثم من باب المشاركة في إبراز الرؤية الإسلامية لتكوينات الدولة المنشودة وما تتسم به من انفتاحية وتعددية ومراعاة للفرد والأقليات والمرأة وسيادة القانون -الذي هو الشريعة- على الحاكم قبل المحكوم.
  • ومن ثم تحدد سؤال الورقة في استكشاف رؤية التراث السياسي الإسلامي لهذه القضية الحقوقية كما يصورها الإعلان والخطاب المنبثق عنه، وذلك من خلال استنطاق نصوصه التي استقيناها من مداخل أو مجالات أربعة (هي المدخل الفلسفي والفقهي والأخلاقي والعمراني)، واقتصرنا فيها على التراث الفكري باعتباره نصوصًا تكافئ نص الإعلان ونصوص الخطاب الحقوقي مع مراعاة السياقات. وتعرضنا فيها للمستويين المتعلقين بالمفاهيم الأساسية، والقضايا الحقوقية. وقد كشفت الدراسة عن أن مساحة الاختلاف مع فلسفة الإعلان ليست بالهينة، فالإنسان والحق المتعلق به في التراث السياسي الإسلامي ليس علمانيًّا ولا يمكنه أن يكون كذلك بحال؛ إذ الدينية خصيصة مركوزة في جوهر التراث ومنتشرة في حناياه. ثم إن الإنسان في الرؤية التراثية مركب من جوانيّ وبرانيّ غير منفصلين، وينبغي مراعاة كل من العنصرين في العلاقات السياسية والثقافة التي توجه كلا من الحاكم والمحكوم على حد سواء، وأن الخطاب الحقوقي –إذا أراد الاستفادة والتطوير- لابد أن تجتمع فيه (إلى جانب فلسفة التشريع ثم الفقه التشريعي نفسه بمرجعيته المتجاوزة للنسبية الوضعية)، تجتمع فيه الأبعاد المعرفية (التصورية العقدية) والغائية المقاصدية، والقيمية الأخلاقية، والوجدانية المعنوية، والسُّننية العمرانية، بما يشكل منظومة متكاملة تحق الحق وتبطل الباطل، وتراعي كلتا كفتي ميزان العلاقة. ولم يكن هذا ليعني انتفاء التلاقي بين الرؤية التراثية للحقوق الإنسانية والخطاب الحقوقي المعاصر.
  • وحددت الورقة مقصودها بالتراث السياسي الإسلامي وما تركز عليه من بعده الفكري المكتوب، وتابعت إشعاراته الأولى التي اعتنت بالقضية الحقوقية، فوقفت وقفة عجلى أمام رسالة الحقوق التي كتبها حفيد نبي الأمة زين العابدين علي بن الحسين (ت: 95هـ)، وتبينت منها معالم أولية للفلسفة العامة التي تحكم الرؤية الإسلامية التراثية لحقوق الإنسان.
  • ومن ثم، طرحت الورقة سؤال الخطاب الحقوقي المعاصر (المفاهيم، والقضايا) على المداخل التراثية الأربعة، وتم استطلاع نصوص لتسعة كتب تراثية أساسية لسبعة من أعمدة هذا التراث، واقتطاف أجزاء تضمنت مفاهيمَ متعلقةً بالإنسان، والحق، والحق الإنساني، ومناظرةً لقضايا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإنعام النظر فيها لتبين دلالات المفاهيم مقارنة بتلك التي تم استقراؤها في الإعلان، واستطلاع وجهات نظر هؤلاء التراثيين في أجندة الإعلان. وكانت محصلة إجابات المداخل الأربعة على النحو التالي:
  • فالمدخل الفلسفي الذي اتخذت الورقة أبا نصر الفارابي (260 هـ/874 م-339هـ/950 م) نموذجًا لمنهجية التفلسف السياسي في التراث الإسلامي، قد أفاض في الإجابة عما هو الإنسان، وما الحق الذي ينبغي أن يتمتع به في ظل الدولة التي تصورها ودعا إلى مقاربتها وسماها الدولة الفاضلة وفيما دونها من مراتب الدول الجاهلة: (الفاسقة والضالة والمبدلة)؟ وكان حاصل جوابه أن الإنسان كائن شديد التركيب، ينبغي أن تراعى سائر عناصر تركيبه. فالإنسان منظومة من كوامن وتجليات: استعداداتٍ وهيئاتٍ وسلوكياتٍ.. والمجال السياسي وموقع الإنسان منه من خلال السلوك السياسي المتنوع إنما هو تجلٍّ لما بالنفس من استعدادات. والإنسان في التمدن السياسي تتباين استعداداته الفطرية بين فطر الرئاسة وفطر الخدمة، ثم تتمايز بين النزوع الخيري والنزوع الشرّي، وبين التسالم والتغالب وكل ذلك تؤثر فيه التربية.

والأصل عند الفارابي هو الوصل بين التصور العالي والتصور السياسي، وبين موقع الإنسان من الإله والأكوان العالية وموقعه داخل الدولة والنظام السياسي الخاص بها. وهذه إحدى أهم مشتركات وثوابت التراث السياسي الإسلامي بموارده ومصادره: أن الدين والسياسة قضية واحدة موصولة الأجزاء. ومن طبائع الإنسان تتشكل خصائص العمران، فإما دولة فضيلة وتعاون وتسالم وإما دولة قهر وكيد وعدوان. فالإنسان هو صانع الدولة وهو الذي يصبغها بأخلاقه ويشكلها على شاكلته. والإنسان هنا ليس هو الشخص الفرد المقابل للجماعة، إنما هو جنس إنسان الدولة؛ أي الغالب على حال أهلها. فالدولة بما غلب عليها من طبائع أهلها من استعدادات وقابليات؛ ومنها استعداد الحاكم للظلم وقابليات المحكومين لعيش حال الظلم والخضوع له. ولا تأتي الدولة الفاضلة من حاكم فاضل حكيم شعبه متوَّق إلى الرذيلة والسفول، ولا العكس، وإلا فتستقر الدولة عند النقطة التي تتوازن فيها استعدادات الغالبين وقابليات المغلوبين.

وفي الحد الأدنى فإن الدولة الفاضلة ليست أقل من أن تنبني على المعنى الإنساني داخليًّا وخارجيًّا. يقول: “فالإنسانية للناس هي الرباط، فينبغي أن يتسالموا بالإنسانية“، “فإذا كان كذلك، فإن الخيرات التي سبيلها أن يكتسبها بعضهم عن بعض، فينبغي أن تكون بالمعاملات الإرادية، والتي سبيلها أن تُكتسب وتُستفاد من سائر الأنواع الأخرى [أي غير الإنسانية] فينبغي أن تكون بالغلبة… فهذا هو الطبيعي للإنسان“. أما إذا كان الواقع يشتمل على أُناس أو أُمم “أوطائفة خارجة عن الطبيعي للإنسان، تروم مغالبة سائر الطوائف على الخيرات التي بها [أي التي عندها]، اضطرت الأمة والطائفة الطبيعية إلى قوم منهم ينفردون بمدافعة أمثال أولئك إن وردوا عليهم يطلبون مغالبتهم…“. ففي الضرورات يأبى الفارابي أن يتحول الظلم إلى عدل، بل عند الضرورة يتحول العدل إلى المناسبة والملاءمة مع واقع الناس ومراداتهم، فما كان بالإرادة والحرية والاختيار بين الناس ويحقق خير الكافة فهو أولى، وإلا فلابد من كسر إرادة الظلم والشر… فإن العدل ها هنا هو مقاومة الظلم والعدوان. لقد اقترب الفارابي من العهد الدولي الذي التفت من دون الإعلان إلى حقوق الشعوب، لكنه نبه إلى أصناف هذه الشعوب ودولها في علاقاتها البينية.

  • أما المدخل الفقهي: فهو المعادل المجالي لمادة الخطاب الحقوقي المعاصر؛ أي إنهما يشركان في الخصيصة القانونية والتشريعية، مع الفارق، ومن ثم فصلت الورقة فيه أكثر من غيره، وعرضته بدرجة أكبر لقضايا الإعلان العالمي. وقد تبين اشتراك كبير بين صياغات الفقهاء المسلمين (الماوردي، والجويني، وابن تيمية، وابن القيم) وصياغات الإعلان والعهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية، في بعض المسائل من مثل حق الحياة الآمنة وسلامة النفس وحقوق الملكية وحرماتها وحقوق المتهمين وقضايا الحبس والسخرة ومنع التعذيب والاعتداءات غير القانونية من قبل السلطان (بالنون أو السلطات بالتاء في اللغة المعاصرة)، وإيجاب المساواة القضائية المطلقة وحقوق التنقل الحر داخليًّا وخارجيًّا، وحريات التجمع وتأسيس الجماعات السلمية. كما بدت اشتراكات واختلافات مجتمعة في قضايا مثل الموقف من الرق ومن الحدود العقابية الإسلامية والردة عن الإسلام والحرية المطلقة لإطلاق الألسنة بالتعبير والنشر لكل الآراء، وحقوق المشاركة في إدارة الدولة وتقلد لمناصب. وقدم الفقهاء رؤية متكاملة لإعلان مناظِر لإعلان حقوق الإنسان كما اجتهدوا في ترجمتها عن الشرعة الإسلامية. ورأت الورقة أن هذه الرؤية التراثية تميزت بدرجة عالية من التفصيل في قضايا الحقوق وتقليب المسائل والآراء فيها تقليبًا واسعًا، وبقدر عال من الموازنة بين حقوق الفرد الرعية والجماعة الرعية والسلطان فردًا ومؤسسات، والجمع المتين بين حقوق الله تعالى التي هي الحقوق العامة وبين حقوق العباد أفرادًا وجماعات التي هي الحقوق الخاصة.

تساندت هيئة البيان الفقهي الرباعية في محاورة الإعلان فلسفةً ومفاهيم ومضمونًا: دفاعًا وهجومًا، وبيانًا وبناءً. وكأنها دعت إلى تطوير ضروري للتشريع والخطاب والعقل الحقوقي المعاصر من واقع الملاحظات التي قدمها هؤلاء الأعلام على الإعلان.

أرادت الورقة محاكمة التراث بعريضة اسمها الإعلان العالمي لحقوق الإسنسان وتوابعه، لكن الذي حصل فعلًا أن مرافعات التراث في هذه القضايا بدلت المواقع، ورأيت كيف يتحول النص التراثي بمنطِقه وفلسفته الحاضرة غير الكامنة وصياغاته الفاقعة غير الباهتة إلى موقع القاضي والمتسائل عن الكثير من الوجوه والأبعاد المفقودة في الإعلان. إذا كان الفيلسوف السياسي قد نبه الخطاب الحقوقي المعاصر إلى ضرورة تعميق النظر في ماهية “الإنسان” بتركيبيته وماهية “الحق” بغائيته التي منتهاها تحقيق “السعادة الإنسانية” وقيميته التي مبتناها أن تنبني على قواعد “الحكمة” و”الفضيلة” و”الاستقامة”، فإن الفقيه يشدد على العقل الحقوقي المعاصر أن يضبط منهجية تفكيره في الوصل بين هذا الإنسان وهذا الحق بخصائصهما، وبناء معنى “الحق الإنساني” بناءً منهجيًّا ملتزمًا مرجعية تصل الأرض بالسماء، والحق بالواجب، والمعلوم من أمرنا بما لا يعلمه إلا الله (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).

ج) أما المدخل الأخلاقي القيمي النصحي: فقد قام على بيانه فقيهان أديبان جليلان هما الماوردي والطرطوشي. وتم تعريض الإعلان لنصوص من كتابيهما: نصيحة الملوك وسراج الملوك، في بعض القضايا الحقوقية. فتجلى أن هذا المشرب يتضامن مع سابقيه في اعتماد تركيبية الإنسان وغائية الحق وقيميته ووجوب بناء العلاقة بين الإنسان والحق بناءً شرعيًّا. الإضافة الأساسية تمثلت في تفعيل هذا الفهم عبر خطاب موجَّه إلى كلا طرفي العلاقة السياسية: الدولة والرعية (أو المواطنين)، فالحاكم مبتلَى بالمسئولية ومن ثم تجب معاونته، والمحكوم مبتلى بقوة ذوي السلطان وضعفه هو أمامهم، والظلم من السلطان لا يسهل رفعه إلا بأمرين: العنف وهو غير موثوق وبليته قد تكون أشد، والنصيحة بالحكمة والموعظة الحسنة. أسَّس هذا المدخل لعلم نفس السياسة والسلطة والمتعاملين معها. معظم الخطاب للملوك والسلطات والحكومات –مثله مثل الخطاب الحقوقي- ولذا فالكتابان في نصيحة الملوك وإنارة سراجهم. ولكن طبيعة الخطاب تتابع الفارابي في مراعاة الاستعدادات النفسانية وما تحدثه السلطة والسطوة والسياسة في النفوس المتعاطية معها. من هنا بدا أدب النصيحة يملأ فراغًا واضحًا في عموم الخطاب السياسي المعاصر وفي خصوص الخطاب الحقوقي، لا سيما وهو خطاب مواجهة وتوجيه، ومواددة وتشديد، فيه طراوة الكلمة الطيبة والقول البليغ، كما فيها قولة الحق عند كل سلطان. ولكن تبين أن بين هذا الخطاب النصيحي والخطاب المعاصر مفارقة تجعل خطاب العصر يزهد في الاستفادة بل ريما يعجز عنها لما تلبس به من نفسية التعاقد الفاصم للعرى لا المؤلف للقلوب. فالمعارضة السياسية صارت من طبائع الأمور ومن لوازم الرؤية والحياة السياسية المعاصرة، ولا مكان فيها إلا لإحراج الحاكمين وإثبات أنهم لا يستحقون سوى الطرد من مواقعهم. مرة أخرى يلفت التراث أنظارنا إلى جنوح في العقل السياسي والحقوقي المعاصر، ينبغي الاجتهاد في تصحيحه ورد العقل السياسي إلى نصابه.

د) وأخيرًا ينضم المدخل العمراني الذي يبدع فيه ابن خلدون رؤية متميزة من وجه عن المداخل الثلاثة السابقة وموصولة بها من طرف آخر. فللفقيه أن يبين الأحكام الشرعية (المطلوب والمرفوض) وللأديب أن يتوجه إلى نفوس الحكومات وبواطنها بالنصح والإرشاد للتي هي أقوم، وكذلك فليمض الفيلسوف في طريق التعرف على كنه القضية وتجريدها من ظواهرها لتبين جواهرها وتصويرها بين غاية منشودة وشروط مفروضة، لكن المفكر العمراني مرامه سنن الاجتماع وطبائع العمران والقوانين الموضوعية التي تحكم علاقة الحاكم بالمحكوم على مستوى السياسة والدولة وعلى مستوى الحضارة والأمة؛ ومن ثم تفسِّر حالات إنفاذ الحقوق الإنسانية وحالات الإخلال بها، والشروط الواقعية لضمان حفظ الحقوق ومنع إهدارها؛ بما يتلاقى مع المنهجية العامة للأكاديميا المعاصرة في العلوم الاجتماعية والإنسانية.

هذا من حيث ما تتميز به طريقة ابن خلدون في مقدمته عن سائر الروافد التراثية، لكنه ما يلبث أن يعود ناظِمًا بين طريقته هذه وبين محددات الإطار التراثي من: الدينية اللصيقة، والغائية، والقيمية، والمقاصدية؛ لتجتمع في وعائه مصبات المداخل كلها عن نظْم فريد؛ حين يصل إلى أن يقول: إن الظلم مؤذن بخراب العمران، فتجده هنا فيلسوفًا فقيهًا أديبًا ناصحًا. ولا نملك إلا أن نعيد إثبات عباراته العظيمة، ونردد وراءه:

(… ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور، بل الظلم أعم من ذلك. وكل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقًا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه. فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وغصاب الأملاك على العموم ظلمة، ووبال ذلك كلِّه عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الأمال من أهله.

واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فلما كان الظلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الحظر فيه موجودة، فكان تحريمه مهما. وأدلته من القرآن والسنة كثيرة أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر.

ولو كان كل واحد قادرا عليه لوضع بإزائه من العقوبات الزاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنوع، التي يقدر كل أحد على اقترافها من الزنا والقتل والسكر. إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه، لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان، فبولغ في ذمه وتكرير الوعيد فيه، عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه. “وما ربك بظلام للعبيد “).

وبعد فلقد اصطلحت المداخل الأربعة مع نفسها في بناء رؤية مركبة عن الحقوق الإنسانية في الميدان السياسي، مع ما تميز به كل منها من طريقة في الأداء، وتحاورت جميعها مع خطابنا الحقوقي المعاصر ووافقته وخالفته وأسدت إليه النصح ليعيد قراءة نفسه من الخارج، وينعم النظر فيما ينطلق منه من هوية، وما يحيطه من فلسفة وتصور وعقيدة، وما يوجهه من مرجعية، وما يتأسس عليه من منهجية، وما يحمله من قيم ، وما يقصده  من مقاصد، وما يعيه من سُنن، وما يمثله من حضارة ومن أمة ومن تاريخ وتراث، وما يعاركه من واقع حاضر داخل الأوطان وخارجها وهو له من كل هذا سمات ومواصفات.

وما هذه الورقة إلا إشارة إلى هذه الخلاصة؛ رجاء أن يقيض الله تعالى لهذه الأمة أمر رشد، وأن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، إنه القادر عليه، ولا حول ولا قوة إلا به.

والله أعلم وله الحمد.

 

لتحميل الدراسة  اضغط هنا.

***

هوامش

* باحث في العلوم  السياسية، المدير التنفيذي لمركز الحضارة للدراسات والبحوث.

[1]  راجع في بيان أهمية قضية المصادر والمداخل: د.حامد عبد الله ربيع، مدخل في دراسة التراث السياسي الإسلامي، تحرير وتعليق: د.سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، ط1، 1428هـ/ مارس 2007م)، الجزء الأول، ص ص 215- 225، وانظر كذلك مقدمة المحرر (د.سيف) في الكتاب نفسه خاصة صفحات28 -30، وانظر مرجعًا أساسيًّا ووثائقيًّا: د.نصر محمد عارف، في مصادر التراث السياسي الإسلامي: دراسة في إشكالية التعميم قبل الاستقراء، تقديم: د.منى أبو الفضل، (هيرندن- فيرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1415هـ/ 1994م.

[2]  الواقع أن الباحث في هذا المقام يتحير في نسبة كثير من الكتاب إلى أي من الدائرتين: الإسلامية والعلمانية، فأمثال د.حسن حنفي، د.رضوان السيد، د.محمد عابد الجابري، وأ.محمد شحرور، ود.آمنة ودود، وأ.جمال البنا وغيرهم قد يصفهم الإعلام باعتبارهم كتابا أو مفكرين إسلاميين بينما تقف نصوص عديدة لهم من أكثر تراثهم موقفًا رافضًا أو مهوِّنًا. راجع في المواقف الملتبسة من التراث العربي الإسلامي عامةً: جورج طرابيشي، مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة، (بيروت: دار الساقي، د2، 2006)، حيث يعرض لنماذج من التيارات: الماركسي، والقومي (العلماني والإسلامي)، والعلمي (البراجماتي والابستمولوجي)، ويبين كيف يجري التعامل مع التراث من مداخل متعسفة لا تعتمد المنطق الذاتي لهذا التراث نفسه (المنطق الذاتي للظاهرة استفدته من كتابات الحكيم البشري في دراسة سابقة) فتنتج تراثات وظيفية (كما كان يصف د.المسيري رحمه الله مثل هذه الأعمال). وراجع في هذه القراءات: د.سيف الدين عبد الفتاح، مرجع سبق ذكره، ص 73؛ حيث يسمي إحدى وعشرين قراءة سلبية للتراث السياسي الإسلامي، = مقابل عدد مماثل من القراءات الإيجابية والمنشودة. ومن الإسلاميين الذين حرصوا على تمييز مفهوم الحقوق الإنسانية في الإسلام (أصوله وتراثه) عنه في الوثائق الدولية الحديثة: الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ في مقدمته لكتاب د.عبداللطيف بن سعيد الغامدي، حقوق الإنسان في الإسلام، (الرياض: أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية،1421هـ/2000م)، ص ص 6-10، وانظر مقدمة المؤلف الغامدي فهي أوضح، ص ص 11-13.

[3]  استعملت هذا الوصف للإشارة إلى تصور للإنسان وقد نزعت عنه سائر صفاته لا سيما التي تشير إليها العهود والمواثيق الحديثة ضمن الحديث عن المساواة بين طافة الناس بلا تمييز من أي نوع. وتعبر عنه بعض الكتابات الغربية بكلمة naked man، naked ape.

[4]  هذه السداسية هي اللازمة الأساسية في أغلب المواثيق الغربية والدولية الحديثة المتعلقة بحقوق الإنسان. وهي تكشف عن أحد بُعدي مفهوم “الإنسان” في هذه المواثيق وفي الرؤية الحقوقية الحديثة، وهو البعد السلبي الذي ينفي عن الإنسان –جنس الإنسان- أثر الدين على معنى الإنسان. بالإضافة إلى إشعاره بأن الدين وصف لصيق  وليس اختياريًّا. أما البعد الثاني -أو الإيجابي- المتعلق بالإنسان في هذه الرؤية فهو الذي يضفي عليه صفات يعدها من أركان المفهوم لا زائدة عليه؛ من الحرية والكرامة والمساواة والرشادة المتساوية وغيرها من العناصر التي سوف يأتي عليها البحث. ولا شك أنها تختلف في أجزاء كبيرة منها عن الرؤية التي سادت التراث السياسي الإسلامي عن الإنسان ومن ثم حقوق الإنسان. راجع: ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتوابعهما.

[5]  سوف نجد ذلك واضحًا في كتابات متفقهة الأقليات لا سيما من النسويات كما يتم تعريفهن، ومثالهن في هذه الدراسة جماعة (دعونا نتكلم) من مثيلات عزيزة الحبري، ونعمت برزنجي، وأمينة ودود… الخ. انظر: جيزيلا ويب (تحرير): دعونا نتكلم، مفكرات أمريكيات يفتحن نوافذ الإيمان على عالم متغيِّر، ترجمة د.: إبراهيم يحي الشهابي، مراجعة د. نعمت حافظ برزنجي، دمشق، دار الفكر، ط1، صفر 1423هـ/ أبريل 2002م.

[6]  د. نصر حامد أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية، (القاهرة:  دار سينا، 1992)، ص 26 ، 27 ، 29.

[7]  راجع دراسة للباحث، جديد فقه الأقليات في موضوع المرأة؛ (في): د.أماني صالح (تحرير)، أسامة مجاهد (مراجعة)، مراجعات في الرؤى التجديدية لموضوع المرأة: نحو نموذج حضاري (القاهرة: برنامج حوار الحضارات…، 2006).

[8]  انظر: د.محيي الدين محمد قاسم، تقديم: د.عز الدين فودة، التقسيم الإسلامي للمعمورة: دراسة في نشأة وتطور الجماعة الدولية في التنظيم الدولي الحديث، (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1417هـ/1996م). ص ص 99- 138.

[9]  انظر: د.نيفين عبد الخالق، السلطة ومبدأ الطاعة بين الفكر المسيحي والفكر الإسلامي: دراسة مقارنة، مركز البحوث والدراسات السياسية، سلسلة بحوث سياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، يونيو 1993.

[10]  راجع: عبد اللطيف المتدين (إعداد)، د.سيف الدين عبد الفتاح (إشراف)، إمارة التغلب في التراث السياسي الإسلامي، رسالة دكتوراة، جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 1999.

[11]  انظر: د.حسن حنفي، جذور التسلط وآفاق الحرية، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2005م). ويشتمل هذا الكتاب على ستة فصول، الأول منها: جذور التسلط والثاني مظاهر التسلط.. وفيه يرد بعض جذور التسلط إلى مفاهيم مثل الطاعة والصبر والتوكل والتفويض التي يرى أنه سادت تراثنا.

[12]  د. رضوان السيد، الصراع على الإسلام: الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية، (بيروت: دار الكتاب العربي، ط1، 1425هـ/ 2004م). حيث يتحدث الكاتب في مقال من كتابه عن الإسلام والمسلمين في عيون الآخر، خاصة في خطاب الاستشراق الذي استحال إلى انثروبولوجيا أو حالة دون-علمية التقفها استراتيجيون غربيون في الآونة الأخيرة جعلوا من الإسلام موضوعًا شعبيًا مسمومًا تصدر  للحديث عنه وتعريف الأمريكان به أمثال برنارد لويس Bernard Lewis، ودانييل بايبس Daniel Pipes ومارتن كريمر Martin Kramer، في صراع  على صورة الإسلام والوعي به؛ ماضيه وحاضره: تشويه ماضيه ثم إسقاطه على الحاضر، والعكس؛ بما لا حل له –من  وجهة نظر الكاتب- سوى المواجهة من خلال المشاركة الفعالة في المناهج الدراسية المعاصرة وفي علوم الحداثة وما بعدها.

[13]  وهي غالبا تتعلق بالتاريخ والحركة التي لا يمكن القول بمعصوميتها أو مضيَها على المحجة دائمًا، أو حتى بضرورة غلبة الخير والصلاح عليها، وإن لم ينكر ذلك استمرار أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس من يوم البعثة فالهجرة المحمدية إلى اليوم من باب أنها الأمة التي تدين بدين الحق وإن فسقت منها طوائف من الساسة وأصحاب الآراء والعوام وغيرهم عهودا كثيرة. راجع ابن تيمية في الرسالة القبرصية.

[14]  راجع د.عماد شاهين، من حوارات القرن: دراسة حالة مصر؛ (في) الأمة في قرن: عدد خاص من أمتي في العالم: حولية قضايا العالم الإسلامي، الكتاب الثاني، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية ومكتبة الشروق الدولية، 1425هـ/ 2004م)، ص ص461-502. ود.محمد عمارة، مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية، المرجع نفسه(الأمة في قرن)، ويذكر في ذلك: فعاليات الحوار الإسلامي-العلماني والقومي-الإسلامي، وحوارات التراث والمعاصرة، وراجع: دراسة تجديد الخطاب الديني من الحملة الفرنسية إلى الحملة الأمريكية قراءة في قرنين:خطاب الهوية وهوية الخطاب لد.سيف الدين عبد الفتاح وآخريْن، ودوران حوارات القرن حول سؤال البداية والمنطلق والهوية والإطار المرجعي لأفكار النهضة، والمنافسة على امتلاك زمام العصر مع الغرب الممكَّن له، وحول الشرق الإسلامي التائه المتعثر.

[15] يذكر الباحث في ذلك جهود أساتذته الأفاضل: د.حامد ربيع، د.منى أبو الفضل، د.نادية مصطفى، د.سيف الدين عبد الفتاح، د.علي جمعة، د.طه العلواني، المستشار طارق البشري، د.عبد الوهاب المسيري، د. السيد عمر، د.هبة رءوف، د.إبراهيم البيومي غانم، د.مصطفى منجود، د.حامد عبد الماجد، د.محيي الدين قاسم، د.نصر عارف، … وغيرهم. فجزاهم الله تعالى عنا كل خير.

[16]  وقد أكد أعلام في السياسة وفي الفكر الإسلامي على هذه الحقيقة، نذكر منهم على سبيل المثال شهادة د.علي الدين هلال: “إن الاهتمام بالبحث في تأصيل الإسلام وتأصيل الفكر الإسلامي وفكر المسلمين في المجالات السياسية والاقتصادية ينبغي أن يكون همًا مستمرًا بغض النظر عن أحداث سياسية طارئة،… أن يتسم بالتواصل، لأن ما لا نعرفه عن هذا الإسهام هو أكبر بكثير مما نرفعه، وقد قرأت في كتاب للدكتور نصر عارف أوضح فيه –بالوثائق- والتوثيق أن ما قرأناه وما نعرفه وما نتفق عليه و نختلف بشأنه من مصادر الفكر الإسلامي، السياسي، هو في الواقع، ربما أقل من عشرة في المائة مما هو موجود ولم نتعامل معه بالبحث والتحليل والنقد والتأصيل، هناك إذن مهمة كبيرة في تغطية وتوثيق المخطوطات المختلفة المتعلقة بهذا الشأن وبحثها وتحليلها والدراسة التفصيلية بشأنها، شأنه في ذلك كشأن أي عمل أكاديمي” راجع: أ.د. نادية محمود مصطفى، أ. د. سيف الدين عبد الفتاح (محرران)، العلاقات الدولية بين الأصول الإسلامية وبين خبرة التاريخ الإسلامي، أعمال ندوة مناقشة مشروع “العلاقات الدولية في الإسلام“، المجلد الأول، جامعة القاهرة، مركز البحوث والدراسات السياسية، 2000، ص ص  . شهادة المستشار طارق البشري. حول العقل الأخلاقي العربي: نقد لنقد الجابري: “ولا ننسى في هذا الصدد أن نصر محمد عارف ذكر في كتاب في مصادر التراث السياسي الإسلامي أنه توصل إلى أن ثمة 307 من المصادر التراثية المباشرة في علم  السياسة كما عرفه المسلمون، وأنه لم يطبع من هذا العدد حتى الآن إلا 105 كتب، وأن منها ما لا يزال مخطوطًا في 127 كتابًا، وأن الباقي لم يعرف بعد مكان محدد له“. المصدر: مجلة المستقبل العربي 276/2002، من موقع : ” المركز المغاربي” الإلكتروني.

[17]  وضرب المؤلف أمثلة بكتاب الشيخ علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) وكتابات د.محمد أحمد خلف الله، ود.محمد حسين هيكل.. د.نصر عارف مرجع سبق ذكره، ص40، ص 65.

[18]  المرجع السابق، ص ص 65- 67.

[19]  نفسه، ص ص 67- 69.

[20]  راجع: د.علي جمعه محمد، كيف نتعامل مع التراث الإسلامي؟ (في): معهد الدراسات المصطلحية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، نحو منهجية للتعامل مع التراث الإسلامي: دورة تدريبية، (الدار البيضاء، معهد الدراسات المصطلحية، ط1، 1421 هـ/2000م)، ص ص75-76.

[21]  محمد باقر الناصري، من معالم الفكر السياسي في الإسلام (بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1988)، ص ص 25-30.

[22]  انظر: مونتجمري وات، الفكر السياسي الإسلامي: المفاهيم الأساسية، ترجمة صبحي حديدي (بيروت: دار الحداثة, ط1, 1981), ص ص 5- 6.

[23]  د.أحمد مبارك البغدادي، الفكر السياسي عند أبي الحسن الماوردي، (الكويت: مؤسسة الشراع للنشر والتوزيع، ط1، 1984)، ص ص 7-8.

[24]  د.محيي الدين قاسم، السياسة الشرعية ومفهوم السياسة الحديث، (القاهرة: المعهد العالمي للفكر السياسي، ط1، 1418هـ/1997م).

[25]  راجع الإعلان العالمي مادة 16، واتفاقية الرضا بالزواج والحد الأدنى لسن الزواج وتسجيل عقود الزواج البادئ نفاذها 9 ديسمبر 1964، والتوصية الملحقة بها بقرار الجمعية العامة في أول نوفمبر 1965 بمابادئها الثلاثة. د.محمود شريف بسيوني، الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، المجلد الأول: الوثائق العالمية، (القاهرة: دار الشروق، د1، 2003هـ)، ص ص 27-32، ص ص 857-861.

[26]  راجع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المعتمد والمنشور على الملأ بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948؛ في: د.محمود شريف بسيوني، الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، المجلد الأول: الوثائق العالمية، (القاهرة: دار الشروق، ط1، 2003هـ)، ص ص 27-32.

[27]  جاء في ديباجة الميثاق: “نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزانا يعجز عنها الوصف، وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، وأن نبين الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي، وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدما، وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح.وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا: أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معا في سلام وحسن جوار، وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي، وأن نكفل بقبولنا مبادئ معينة ورسم الخطط اللازمة لها ألا تستخدم القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة، وأن نستخدم الأداة الدولية في ترقية الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعها، قد قررنا أن نوحد جهودنا لتحقيق هذه الأغراض، ولهذا فإن حكوماتنا المختلفة على يد مندوبيها المجتمعين في مدينة سان فرانسيسكو الذين قدموا وثائق التفويض المستوفية للشرائط، قد ارتضت ميثاق الأمم المتحدة هذا، وأنشأت بمقتضاه هيئة دولية تسمى “الأمم المتحدة”. وراجع في الميثاق المواد 1/2، 1/3 ، 55، 56.

[28]  وتستطرد ديباجة الإعلان: “ولما كان للإدراك العام لهذه الحقوق والحريات الأهمية الكبرى للوفاء التام بهذا التعهد. فإن الجمعية العامة تنادي بهذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم حتى يسعى كل فرد وهيئة في المجتمع، واضعين على الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم، إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية واتخاذ إجراءات مطردة، قومية وعالمية، لضمان الاعتراف بها ومراعاتها بصورة عالمية فعالة بين الدول الأعضاء ذاتها وشعوب البقاع الخاضعة لسلطانها“.

[29]  راجع: د.ودودة عبد الرحمن بدران، وضع الدول الإسلامية في النظام الدولي في أعقاب سقوط الخلافة (1924-1991م)؛ (في)، د.نادية محمود مصطفى (إشراف)، مشروع العلاقات الدولية في الإسلام: العلاقات الدولية في التاريخ الإسلامي، الجزء الثاني عشر، (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1417هـ/1996م).

ويمكن أن تتلمس ذلك من بعض عبارات الإعلان نفسه: “(م21/3): (3) إن إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة، ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السري وعلى قدم المساواة بين الجميع أو حسب أي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت. (م 28): لكل فرد الحق في التمتع بنظام اجتماعي دولي تتحقق بمقتضاه الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان تحققًا تاما. (م29): (2) يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي. (3) لا يصح بحال من الأحوال أن تمارس هذه الحقوق ممارسة تتناقض مع أغراض الأمم المتحدة ومبادئها“.

[30] البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.

[31]  التي يشير إليها قول الله عز وجل: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا) سورة الإنسان: آية: 1. لقد أجابت المادة بالإعراض والإغفال.

[32]  المادة 2: لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء. وفضلا عما تقدم فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي لبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد سواء كان هذا البلد أو تلك البقعة مستقلا أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود”.

[33]  راجع في مفهوم المساواة بالإعلان: المستشار طارق البشري, حول أوضاع المشاركة فى شئون الولايات العامة لغير المسلمين فى المجتمعات الاسلامية المعاصرة, مجلة المسلم المعاصر العدد 69/70, أغسطس / يناير 1994, محاضرة بتاريخ 8/11/1992. وانظر: د.إسماعيل الفاروقى وآخرون, الأقليات رؤى إسلامية، (القاهرة : نهضة مصر , ط 1, 2008 ), ص ص 105-108. ن

([34]) تزفيتان تودروف، اللانظام العالمي الجديد: تأملات مواطن أوروبي، ترجمة وليد السويركي (عمان، أزمنة، 2005).

[35]  د.سيف الدين عبد الفتاح، قراءة في دفاتر المواطنة المصرية: الزحف غير المقدس: تأميم الدولة للدين، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 1426هـ/ سبتمبر 2005م).

([36])  د. عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ط1، دار الشروق، المجلد الأول، ط2، 1426هـ/ 2005م.

[37]  المرجع السابق، مقدمة المجلد الأول، ص 6.

[38]  نفسه، ص ص7-10.

[39]  نفسه، ص20 وما بين المعقوفتين مزيد من الباحث.

[40]  نفسه، ص 23.

[41]  نفسه، ص 24.

[42]  نفسه، ص 24.

[43]  نفسه، ص ص 30- 31.

[44]  نفسه، ص 38.

[45]  نفسه، ص ص 41-42.

[46]  نفسه، ص 42.

[47]  نفسه، ص ص 54- 55

[48]  نفسه، ص 55.

[49]  نفسه، ص65.

[50]  راجع مثلًا كتابات هاشم صالح وعزيز العظمة، وانظر: عبد الله النعيم، ترجمة وتقديم: حسين أحمد أمين، نحو تطوير التشريع الإسلامي (القاهرة: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان: سلسلة قضايا الإصلاح 7، ط2، 2006).

[51]  الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام، رسالة الحقوق، تحقيق وشرح عباس علي الموسومي، (بيروت: دار المرتضى، دار الكتاب الإسلامي، ط2، 1406هـ/ 1986م.

[52]  اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بقرار الجمعية العامة 2200 (ألف) المؤرخ في كانون الأول/ ديسمبر 1966. تاريخ بدء النفاذ : 23 آذار/ مارس 1976، طبقا للمادة 49. ويتميز عن الإعلان بأنه انتقل شيئًا ما –بفعل ثقافة الحرب الباردة التي صدر في أتونها البارد- إلى حقوق الشعوب والجماعات لا مجرد حقوق الأفراد. وقد كان جديرًا هو والعهد الاقتصادي-الاجتماعي-الثقافي بمقارنة مع الإعلان لبيان بعض التطور الفلسفي في التشريع الدولي الذي يغفله كثير من الحقوقيين، لكن ضيق المقام والرغبة في التركيز على بيان رؤية التراث الإسلامي يحول دون ذلك.

[53]  اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام، بقرار الجمعية العامة 2200 ألف (د- 21) المؤرخ في 16 كانون الأول/ ديسمبر 1966. تاريخ بدء النفاذ: 3 كانون الثاني/ يناير 1976، طبقا للمادة 27

[54]  راجع ابن تيمية في السياسة الشرعية، ص 69 وما بعدها، وفي الحسبة، وابن القيم في الطرق الحكمية، ومعناه عند الماوردي والجويني والغزالي وهو مطرد على ما سيرد بيانه.

[55]  رسالة الحقوق، ص 23

[56]  المرجع السابق، ص 27.

[57]  نفسه، ص 29.

[58]  نفسه، ص ص 33 – 37.

[59]  نفسه، ص 41.

[60]  نفسه، ص 47.

[61]  نفسه، ص 67.

[62]  نفسه، ص 75.

[63]  نفسه، ص 89.

[64]  نفسه، ص 115.

[65]  انظر: محمد بن الحسن الشيباني (ت:189هـ)، السير الكبير، إملاء وشرح محمد بن أحمد السرخسي، تحقيق: عبد العزيز أحمد، (القاهرة: معهد المخطوطات العربية، 1972). وهو يقع في خمسة مجلدات، تنطلق من أصول عقدية وأخرى تشريعية في النظر إلى المسلم وغير المسلم بعامة، وإلى ديارهما والاحتكام للشريعة وأحوالهما وعلاقاتهما. هذا الكتاب –على وجه الخصوص وبإضافة باب السير في كتاب المبسوط للسرخسي نفسه- يمكن أن يُعدَّ عُمدة لبيان موقف الفقه القديم من العلاقات الدولية وقانونها وإن كان من عباءة مذهب معين هو مذهب الحنفية. ولو ذهبنا في استعراض أبواب الكتاب ومسائله لخرجنا بنتيجة مفادها أن الفقه المعاصر لماّ يصلْ بعدُ لمعالجة الكثير من المسائل التي عالجها الشيباني في القرن الثاني الهجري أي قبل أكثر من اثني عشر قرنًا.

[66]  – أبو نصر الفارابي/ آراء أهل المدينة الفاضلة، قدم له وعلق عليه أبير نصري نادر، (بيروت: دار المشرق، 1986).

[67]  مارسيل غوشيه، الدين في الديمقراطية، ترجمة د. شفيق محسن، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، نوفمبر 2007).

[68]  إشارة إلى قوله تعالى في النفس البشرية : (ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها)  سورة الشمس.

[69]  فيه إشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سألته أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها: “أنهلك وفينا الصالحون؟” قال: “نعم، إذا كثر الخبث”. وقريب منه حديث أم المؤمنين السيدة عائشة: كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم السوقة والدهماء ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم. البخاري

[70]  ص164.

[71]  ص164.

[72]  ص 165.

[73]  العدل المطلق أي الأقصى، ومطلق العدل أي الأدنى.

[74]  قارن مع ابن تيمية في الاستقامة والسياسة الشرعية، ومع الماوردي في أدب الدين والدنيا، ومع الجويني في فصل: انخرام الشرائع.

[75]  أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر الشهرستاني، الملل والنحل، أشرف على تعديل هذا الكتاب وقدم له صدقي جميل العطار، (بيروت: دار الفكر، 2005)، ص 34.

[76]  راجع: د.فهمي جدعان، المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، (عمان: دار الشروق، 1989)، وانظر: د.محمد عمارة، الإسلام وفلسفة الحكم، (القاهرة: دار الشروق، 1988).

[77]  د.نجاح محسن، الفكر السياسي عند المعتزلة، (القاهرة: دار المعارف، 1996) ص ص 49-51.

[78]  المرجع السابق، ص ص 53 – 55.

[79]  نفسه، ص ص 64 – 71.

[80]  راجع في أصول الفقه الحضاري: د. سيف الدين عبد الفتاح: مدخل القيم: إطار منهاجي لدراسة العلاقات الدولية؛ (في) د.نادية مصطفى (مشرف)، مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، مرجع سبق ذكره.

[81]  شيخ الإسلام ابن تيمية، الحسبة لابن تيمية، 1/4……… راجع له : السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية

[82]  إمام الحرمين، أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني، تحقيق ودراسة وفهارس د.عبد العظيم الديب، الغياثي (غياث الأمم في التياث الظلم)، (حقوق الطبع محفوظة للمحقق، ط2، 1401هـ)،  ص ص181 – 182، فقرات 265-266.

[83]  أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، جققه وخرج أحاديثه وضبط نصه وعلق عليه عصام فارس الحرستاني، ومحمد إبراهيم الزغلي، (بيروت: المكتب الإسلامي، ط1، 1416هـ/1996م)، ص ص 29-30.

[84]  المرجع السابق، ص 11.

[85]  ابن تيمية، الحسبة مرجع سابق، وقرب منه، السياسة الشرعية، مرجع سابق، ص ص 139 -144.

[86]  ابن تيمية في الحسبة.

[87]  راجع: أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، خرج أحاديثه أحمد السيد سيد أحمد علي مع شرح تعليقات فضيلة الشيخ عبد الله دراز، الدزء الثاني، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006)، ص ص 6 – 9.

[88]  ابن تيمية، السياسة الشرعية، ص 126.

[89]  الجويني، مرجع سابق، ص ص 340 – 342.

[90]  الجويني، مرجع سابق، ص ص 201-203، فقرات 294-300.

[91]  الماوردي، مرجع سابق، ص ص 337-338.

[92]  الجويني، مرجع سابق، ص ص 217-222، فقرات 319 – 325.

[93]  ونعبير التشوف هذا تعلمته من شيخي الدكتور علي جمعة وقرأته لابن القيم في الطرق الحكمية: “والشارع متشوف إلى اتصال الأنساب وعدم انقطاعها” ص 173.

[94] البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، رقم 25.

[95]  ابن قيم الجوزية (محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي) (ت: 751هـ)، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، مع بعض تعليقات فضيلة الشيخ محمد صالح بن عثيمين رحمه الله تعالى، تنقيح وتصيح الشيخ عرفات بن سليم العشا حسونة الدمشقي، (بيروت: دار الفكر، ط1، 1425-1426هـ/ 2005م)، ص ص 133 – 136.

[96]  السياسة الشرعية، مرجع سابق، ص 132.

[97]  الغياثي، ص ص 233-235، فقرات 338 – 340.

[98]  المرجع السابق، ص ص 493-494، فقرة: 777 وما بعدها تفصيل مهم فليراجع.

[99]  الحسبة، مرجع سابق.

[100]  أخرجه البخاري عن ابن عباس.

[101]  أخرجه البخاري ومسلم ع ابن مسعود.

[102]  راجع: د. طه جابر العلواني، لا اكراه في الدين (القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، ط1، 1424هـ/ 2003م).

[103]  الماوردي ، الأحكام السلطانية، ص ص 91-93.

[104]  الحسبة.

[105]  ابن تيمية السياسة الشرعية، ص ص 24-25.

[106]  ابن تيمية، الرسالة القبرصية، خطاب من شيخ الإسلام ابن تيمية إلى سراجواس ملك قبرص، عني بها وعلق عليها علاء دمج، (بيروت: دار ابن حزم، ط3، 1418هـ/1997م)، ص ص 54-55.

[107]  أحذف منهما بعض الاستطرادات وأستعيض عنها بثلاث نقاط متجاورة.

[108]  أقضى القضاة أبو الحسن علي بن محمد الماوردي البصري، نصيحة الملوك، تحقيق محمد جاسم الحديثي، (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1986)، ص ص 351-405.

([109]) حديث: “المؤمن للمؤمن…” رواه البخاري في الصحيح (8/14) بلفظ: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا” ورواه أحمد في مسنده (4/404 و405 و409) بلفظ: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا” والنسائي في السنن (5/ 79) والترمذي في السنن (4/ 325).

([110]) حديث: “كلكم راع…” رواه البخاي في الصحيح (9/ 77) ومسلم في الصحيح (3/ 1459) والترمذي في الجهاد، وأحمد في مسنده (2/5، 54، 55، 108، 111، 121).

([111]) قوله: “ولذلك مثل الناس الرعية بالبدن…” يرد شبيه به من وصية أرسطاطاليس للإسكندر، بلفظ: “وإنّ الوالي من الرعية، مكان الروح من الجسد، الذي لا حياة له إلاّ به، وبموضع الرأس من سائر الأعضاء، فإنَّه لا بقاء لها إلاّ معه: فالوالي مع فضل منزلته من الحاجة إلى إصلاح الرعية، مثل ما بالرعية من الحاجة إلى إصلاح الوالي، وقوة بعضهم زيادة في قوة بعض، ووهن بعضهم سريع في وهن بعض” (الحكمة الخالدة: ص 220).

[112]  نكتفي منها بخمس خصال لدواعي المساحة.

([113]) جزء من الآية 2 من سورة النور.

([114]) الآية 98 من سورة المائدة.

([115]) الأمراج: الإفساد والفتنة المشكلة، ويقال: مرج السلطان رعيته: خلّاها والفساد (المعجم الوسيط مادة مرج: 2/867).

[116]  يقول عنه ابن خلكان في وفيات الأعيان: (وكان إماما عالما عاملا زاهدا ورعا دينا متواضعا متقشفا متقللا من الدنيا راضيا منها باليسير وكان يقول وإذا عرض لك أمران أمر دنيا وامر اخرى فبادر بامر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى … ولما دخل على الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش المقدم ذكره في حرف الشين بسط مئزرا كان معه وجلس عليه وكان إلى جانب الأفضل رجل نصراني فوعظ الفضل حتى بكى وانشد  ( يا ذا الذي طاعته قربة * وحقه مفترض واجب )  ( إن الذي شرفت من اجله * يزعم هذا انه كاذب)  وأشار إلى النصراني فأقام الأفضل من موضعه، وكان الفضل قد أنزل الشيخ في مسجد شقيق الملك = = بالقرب من الرصد، وكان يكرهه فلما طال مقامه به ضجر، وقال لخادمه إلى متى نصبر: اجمع لي المباح فجمع له فأكله ثلاثة أيام فلما كان عند صلاة المغرب قال لخادمه رميته الساعة فلما كان من الغد ركب الأفضل فقتل، وولي بعده المأمون بن البطائحي فأكرم الشيخ إكرامًا كثيرًا وصنف له كتاب سراج الهدى وهو حسن في بابه، وله من التصانيف سراج الملوك وكتاب بر الوالدين وكتاب الفتن وغير ذلك وله طريقة في الخلاف).

[117]  أبو بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي،، سراج الملوك، حققه وضبطه وعلق عليه ووضع فهارسه محمد فتحي أبو بكر، تقديم د. شوقي ضيف، المجلد الثاني، (القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، ط1، 1414هـ/1994م)، ص ص 454-457.

[118]  المرجع السابق، ص ص 460-461.

[119]  عبد الرحمن ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، تحقيق حامد أحمد طاهر، (القاهرة: دار الفجر للتراث، ط1، 1425هـ/2004م)، ص 276.

[120]  للعدالة عند ابن خلدون مجلول خاص باعتبارها مصطلحًا، فيقول: “ العدالة: وهي وظيفة دينية تابعة للقضاء ومن مواد تصريفه. وحقيقة هذه الوظيفة القيام عن إذن القاضي بالشهادة بين الناس فيما لهم وعليهم، تحملا عند الإشهاد وأداء عند التنازع، وكتبا في السجلات تحفظ به حقوق الناس وأملاكهم وديونهم وسائر معاملاتهم. وشرط هذه الوظيفة الاتصاف بالعدالة الشرعية والبراءة من الجرح، ثم القيام بكتب السجلات والعقود من جهة عبارتها وانتظام فصولها، ومن جهة إحكام شروطها الشرعية وعقودها، فيحتاج حينئذ إلى ما يتعلق بذلك من الفقه. … وصار مدلول هذه اللفظة مشتركا بين هذه الوظيفة التي تبين مدلولها وبين العدالة الشرعية التي هي أخت الجرح. وقد يتواردان ويفترقان. والله تعالى أعلم.“، ص ص 282 – 283.

[121]  المرجع السابق، ص ص 279-280.

[122]  نفسه، ص 280.

[123]  نفسه، ص 280.

[124]  نفسه، ص ص 283-284.

[125]  ص ص 295 – 296.

[126]  نفسه، ص ص 351 – 353.

[127]  نفسه، ص 345.

 

* نشرت الدراسة في: مجموعة مؤلفين، نادية محمود مصطفى، محمد شوقي عبد العال (إشراف)، الإعلان العالم لحقوق الإنسان: حقوق الإنسان بين النظرية والتطبيق: قراءة جديدة، الجيزة: عين للدراسات الإنسانية والاجتماعية، 2011. (الجزء الأول).