الجناح الشرقي للعالم الإسلامي.. بين إصلاح الداخل والتوازن مع الخارج 2008

يتمتع الجناح الشرقي للعالم الإسلامي -أو الدول الإسلامية غير العربية- بديناميكية وحيوية وإرادة للتغيير وتحدي الأوضاع القائمة، تميزه عن غالبية الدول العربية التي بدت نظمها فاقدة للرغبة في الإصلاح ومجتمعاتها مستكينة للشكوى دون تخطيها للعمل على التطوير والتغلب على قيود كل من الداخل والخارج. وإذا ما حاولنا تصنيف الدول الإسلامية في الشرق الآسيوي بالنظر إلى مدى فعالية الأداء والقدرة على الإنجاز، يمكن الحديث عن مجموعتين من الدول: المجموعة الأولى تميزت دولها بتحقيق درجات مختلفة من النجاح في أحد أو بعض المجالات، في حين أن المجموعة الثانية استمرت دولها تعاني من إشكاليات أعاقت تطورها ولم تستطع حكوماتها أن تجابهها بشكل فعَّال يغير من واقعها للأفضل. فبنظرة سريعة على دول (المجموعة الأولى) مثل: إيران، وتركيا، وإندونيسيا، وماليزيا، نلاحظ أنها تعج بالحركة وتتجه إلى المستقبل بخطوات سريعة وواثقة، بالرغم من التباين فيما بينها من حيث المرتكزات الحاكمة لنماذجها الداخلية أو الرؤى الأيديولوجية المتنوعة المشكّلة لتوجهاتها الخارجية أو الأدوات المتبناة لتنفيذها. في حين أن دولاً أخرى (المجموعة الثانية) مثل باكستان وأفغانستان ودول آسيا الوسطى التي تواجه أوضاعًا استثنائية -مثل الاحتلال الأجنبي- ومشاكل كبرى -مثل الاستبداد الداخلي- ما زالت تشترك مع العالم العربي في عدم الاستقرار وغياب الفعالية السياسية ووطأة التدخلات الخارجية.
ويبرز أكثر من سبب وراء التقدم النسبي الذي أحرزته دول المجموعة الأولى. فيمكن الإشارة إلى ما طرحته عوالم الأشخاص والأفكار والأحداث من تطورات دالّة ومهمة مثلت قاطرة التغيير أو السعي للتغيير في هذه الدول. فمعظمها شهدت ظهور شخصيات –سواء في الحكم أو المعارضة– تمتلك الرؤية والطموح والثقة، فكانوا بمثابة المحرِّك للأحداث أو المحتوى لها أو المدير لمساراتها. كما تداخلت التطورات الداخلية مع شبكة التحالفات الخارجية والخريطة الإدراكية للعالم الخارجي. وكان وجود مشروع للدولة -داخليًّا وخارجيًّا- دافعًا رئيسيًّا وراء مساعي الوثوب نحو المستقبل، فليس نمط المشروع سواء بالتحالف أو التصارع مع الغرب هو محدِّد الحركة، بقدر ما كان وجود الرؤية ذاتها والتي جعلت لهذه الدول –بدرجات متفاوتة- مصالح قومية لا تُختزل في بقاء نظام أو حاكم كما هو سائد في واقعنا العربي المعاصر. في حين أن وجود نظم سياسية يرتكز وجودها على الاستبداد والتحالف (غير المتوازن) مع قوى الخارج (أيًّا كان الحليف الخارجي) كان من أبرز عوامل ضعف دول المجموعة الثانية ووهنها.
طوال عام 2008، تنوعت الأحداث وتعددت القضايا في الدول محل الرصد، إلا أن عملية الإصلاح: مساراته، وأدواته، وطبيعته بدت هي المظلة الجامعة لكل ذلك. كما ارتبطت قضايا الإصلاح ارتباطًا وثيقًا بالموقف من القوى الخارجية وعلى رأسها الدول الغربية: شكل وطبيعة العلاقات معها، وألقت بظلالها على تطورات الداخل. ثم جاءت الحرب الغاشمة على غزة التي بدأت في الأيام القليلة قبل بداية 2009 لتعيد قضية المقاومة والموقف منها إلى صدارة اهتمامات الفاعلين الرئيسيين في العالم الإسلامي: دولاً أو حركات أو أحزابًا أو شعوبًا. وأضحى الشرق الحضاري الإسلامي –بالأخص تركيا وإيران (دول الجوار الحضاري المباشر للعالم العربي)- طرفًا فاعلاً، متأثرًا ومؤثرًا، بمجريات الأحداث الدامية في غزة وتداعياتها. ودخلت الدولتان الإيرانية والتركية في خريطة التفاعلات الإقليمية المحورية بكثافة، وأظهرتا (خاصة تركيا) فعالية وقدرة على التحرك والتأثير غابت عن غالبية –إن لم يكن جميع- الدول العربية.
ولفهم أعمق للتفاعلات الداخلية والخارجية لدول الشرق الآسيوي الإسلامية طوال عام 2008، يمكن تحليلها في إطار مستويات عدة: العلاقة بين الداخل والخارج، المقارنة بين مجالات الإنجاز: عسكرية أم اقتصادية أم سياسية، العلاقة بين الدولة والمجتمع، العلاقة بين المدني والعسكري، العلاقة بين الإسلامي والعلماني، العلاقة بين الدولة والمعارضة الإسلامية.
أولاً- تتأثر العلاقة بين الداخل والخارج في دول الشرق الإسلامي بمحددين رئيسيين: أولهما –وأهمهما- نمط النظام السياسي في الداخل الإسلامي (ديمقراطي أم استبدادي)، وثانيهما طبيعة الأدوات المتبناة لحسم الصراع أو المواجهة بين الداخل والخارج (قوة صلدة عسكرية بالأساس أم قوة ناعمة تفاوضية سياسية في المقام الأول).
– يمكن ملاحظة تأثير طبيعة النظام السياسي (ديموقراطي أم استبدادي) على أدائه داخليًّا وخارجيًّا، حيث تزداد الفعالية كلما تعمقت وصحت العلاقة بين الدولة والمجتمع. وإن كان النجاح الاقتصادي قد تحقق في بعض الدول ما زالت مسيرتها الديموقراطية غير مكتملة أو ناضجة، إلا أن القدرة على بناء تحالفات متوازنة مع قوى الخارج تظل رهينة بديموقراطية النظام، فكلما تمتعت الدولة بشرعية ديموقراطية حقيقية لنظامها، كلما قوت وتدعمت مكانتها في مواجهة الخارج، حتى لو كان حليفًا قويًّا مثل الولايات المتحدة. وتبرز تركيا هنا كمثال واضح، استطاعت أن تحافظ على تحالفها الاستراتيجي مع القطب الأمريكي مع تدعيم فكرة الاحترام المتبادل للمصالح على حساب التبعية المطلقة لمطالب الحليف الدولي. فطبيعة ضغوط الخارج ومداها يتأثر مباشرة بطبيعة استجابة الداخل وصلابتها. ولعل حماية استقلالية القرار عن الخارج ازدادت صعوبة بالنظر إلى اتجاه القوى الأوروبية إلى التوافق مع الاستراتيجية الأمريكية والعمل في إطار تكملتها وليس مناوئتها، ولذا أضحت الديموقراطية كأحد موارد القوة الداخلية لازمة وضرورية للتعامل بفعالية وتوازن مع الغرب، خاصة وأن الأخير يفهم ويحترم إرادة النظم الديموقراطية، في حين يسعى لاستغلال وترويض النظم المستبدة في القضايا الخارجية مع إطلاق يدها على صعيد الداخل فقط.
– من الضروري الإشارة إلى خصوصية مهمة أبرزتها تجربة الإصلاح في تركيا وميزتها عن نظائرها في العالم الإسلامي، وتجلت بوضوح طوال عام 2008، وهي أنه تمّ توظيف الخارج (مطالب الاتحاد الأوروبي) بإيجابية لدفع التطور في الداخل، منتجًا شكلاً جديدًا للعلاقة بين الداخل والخارج تبتعد عن الثنائية المعهودة في التعامل مع قوى الخارج وهي إما التصادم أو الانصياع. حيث قدم المسلك التركي خيارًا ثالثًًا توافقيًّا يهدف لاستثمار ما قد توفره الضغوط الخارجية من فرص للداخل كثيرًا ما يتم تجاهلها على حساب التركيز على فكرة التناقض الحتمي بين مصالح الداخل والخارج، وهي المقولة التي أتثبت الحالة التركية إمكانية مراجعتها في ظل ظروف وشروط بعينها على رأسها توفر قيادة بمواصفات رئيسية منها: امتلاك الإرادة مع الرؤية لإحداث التغيير الإصلاحي.
– ولعام 2008 دلالة خاصة؛ لأنه كان آخر عام في إدارة الرئيس بوش المحافظة، التي تركت سياستها تداعيات واضحة على مجريات الأمور في العالم الإسلامي، ومن أهمها تصاعد النهج المحافظ المتشدد من قِبل كثير من القوى الإسلامية سواء دولاً أو حركات كرد فعلٍ للسياسات العدائية المتشنجة في كثير من الأحيان التي تبنتها الولايات المتحدة. وبدأ الجدل يحتدم في الداخل الأمريكي والداخل الإسلامي على السواء حول أنسب الطرق لمواجهة “العنف” سواءً عرف “بالإرهاب” عند الأول أو “بالمقاومة” عند الثاني. فاختلف الرأي حول المفاضلة بين القوة الصلدة ممثلة في القوة العسكرية من جانب وبين القوة الناعمة ممثلة في الأدوات الثقافية والاقتصادية والسياسية من جانب ثانٍ، ذلك بالنظر إلى علو الأصوات التي ترى محدودية نجاح الأدوات العسكرية في القضاء على “الإرهاب”. وازدادت أهمية هذا الجدل بالنظر إلى تصاعد خطورة طالبان في أفغانستان، وبدأ الحديث عن ضرورة التعامل معها بشكل مختلف أكثر جدية لا يقتصر فقط على الحلول العسكرية -التي اتفقت جميع القوى الدولية (حتى إدارة أوباما) على ضرورة تعضيدها، بل والدبلوماسية أيضًا، ولو في إطار صيغة سياسية تفاوضية من أجل حسم المشكلة الأفعانية المتفاقمة. فأمام صعود القوة العسكرية للمقاومة واختيارها المواجهة العسكرية كمنطلق رئيسي للتعامل مع التدخلات الأجنبية والاحتلال العسكري، اتجه المحتل إلى محاولة استخدام “السياسي” عله ينجح فيما فشل فيه العسكري. ولذا تثور كثير من التكهنات حول ما قد يشهده عام 2009 من انفراجة على أثر انحسار معادلة المواجهة بين المحافظين الأمريكيين من جانب والمحافظين أو المتشددين الإسلاميين من جانب آخر. وقد أبدى الإسلاميون استعدادًا محدودًا متفاوتًا لفتح قنوات للحوار، إلا أنها ظلت مشروطة باعتراف أمريكي بمصالح هذه القوى واحترامها. ومن أمثلة ذلك المحافظون في إيران، وطالبان في أفغانستان والقبائل والجماعات الإسلامية المتشددة في باكستان. فما زال الوقت مبكرًا للحكم على نتائج عملية إرخاء قبضة المحافظ الأمريكي على دفع الإسلامي إلى الاعتدال.
ثانيًّا- اختلفت الدول في درجات النجاح المتحقق، وفي عدد المجالات التي مثلت ساحة لذلك التقدم: السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية. وقد حققت الدول نجاحات نسبية في مجالات دون غيرها، حيث وإن بدا مناخ عام إيجابي من الإنجاز والتقدم (خاصة في نطاق دول المجموعة الأولى)، إلا أن التطور اختلفت درجته وتنوعت مجالاته بين الدول. فالتفاوت في النجاحات المتحققة جاء من حيث الدرجة ومن حيث المجال. فبينما حققت دول مثل تركيا نجاحات ملحوظة على صعيد الداخل والخارج، والسياسي والاقتصادي؛ يمكن الحديث عن نجاح إيراني ملحوظ على صعيد السياسة الخارجية، بينما لم يقابله ذات النجاح في التعامل مع ملفات الداخل سواء الاقتصادية أو السياسية، في الوقت الذي حققت فيه إيران إنجازات على الصعيد العسكري والتكنولوجي. في حين مثلت دول الشرق الأقصى الآسيوية مثل ماليزيا وإندونيسيا نماذج للتنمية الاقتصادية الناجحة جعلت منها مراكز ثقل اقتصادية بالأساس داخل العالم الإسلامي، وقادت إلى إعادة النظر في مفهوم المحور والهامش في داخل الحضارة الإسلامية، بل وعند ترجمة هذا الرصيد الاقتصادي إلى الساحة السياسية خاصة الإقليمية والدولية (كما هو الحال بالنسبة للسياسات الخارجية لإندونيسيا وماليزيا) قد نشهد تغيرًا في خريطة توزيع القوى فيما بين المسلمين، موجِّهًا الانتباه إلى الشرق على حساب الوسط والغرب الإسلامييْن. وفي المقابل قدمت دول أخرى مثل باكستان حالة من التأزم على مستوى الداخل والخارج، لم تخلُ من بعض الإنجازات خاصة في إحداث تقدمات تدريجية طفيفة لكن دالة في ملف بناء ديمقراطية وليدة ولكن نامية في الداخل، وما زالت تواجه تحديات الداخل ممثلة في قوى سياسية معارضة وتحديات الخارج ممثلة في ضغوط الحليف الدولي (الولايات المتحدة) والخصم الإقليمي (الهند). أما عن دول آسيا الوسطى، فقد قدمت نماذج شبه متماثلة في الوقوع بين مطرقة الاستبداد الداخلي وسندان الهيمنة الخارجية، فكانت الإنجازات محدودة على مستوى السياسات الداخلية والخارجية على السواء: داخليًّا استمر الرؤساء في إحكام سيطرتهم على مجتمعاتهم وفي قهر قوى المعارضة التي بدت ضعيفة ومشتتة. كما حرصت قيادات آسيا الوسطى على تدعيم السلطوية بقاعدة دستورية تكسبها مشروعية قانونية وليس شرعية شعبية. وتستخدم الدساتير لضمان بقاء النظم إما باستيفاء الشكل الديمقراطي مع تفريغ محتواه أو نزع الطبيعة الديمقراطية بإضعاف سلطات المراقبة مثل السلطة التشريعية.
– ويجب الانتباه إلى اتجاه آخر للعلاقة بين الاقتصادي والسياسي، وهي العلاقة التي يُستثمر فيها الاقتصادي من أجل تأمين السياسي؛ أو بمعنى آخر تستثمر الموارد الاقتصادية لإحكام القبضة السياسية. ومن الأمثلة الدالة في هذا السياق كازاخستان التي كانت أنجح من غيرها من دول آسيا الوسطى نسبيًّا في كبح جماح المعارضة بسبب قدرة عوائد النفط في هذه الدولة على امتصاص جزء من الغضب الشعبي وصرفه عن التعاطف مع المعارضة المنادية بإنهاء الاستبداد واحتكار السلطة. فاستمرار السلطوية قد لا يكون حائلاً دون إنجاز على المستوى الاقتصادي (سواء لطفرة في أسعار النفط كما في كازاخستان أو لنجاح استراتيجية الدولة الاقتصادية مثل النموذج الصيني).
ثالثًا- تجلت إشكالية كبرى على مستوى العلاقة بين الدولة والمجتمع، وهي بروز الانتماءات الأولية: العرقية، الإثنية، المذهبية والقبلية كتهديد رئيسي لسيادة وهيمنة الدولة القومية الحديثة على مجتمعاتها، حيث بدا الارتباط والانتماء للجماعة الأولية محدّدًا رئيسيًّا للمواقف من الدولة وطرق التعامل معها. وبذلك تراجعت الانقسامات الأيديولوجية والسياسية أمام الانقسامات الإثنية والعرقية والقبلية والدينية. والدولة القومية في العالم الإسلامي تواجه مأزق غياب الفعالية في إطار كونها أضحت تقع بين شقي الرحى: الكيانات ما دون الدولة والكيانات ما فوق الدولة: أي بين الجماعة الأولية وبين قوى الهيمنة الخارجية، فبدت وكأنها تمر بأزمة فرض السيادة. ففي مجتمعات مثل ماليزيا، كان تعدد الأعراق عاملاً في تفتيت قوى المعارضة مثل الحزب الإسلامي، وفي إكساب التمايز الإثني دلالات اقتصادية وسياسية، وجميعها أمور تعمق من أهمية هذه الانتماءات الأولية لدى مواطني الدولة. وفي إندونيسيا، تزايدت المخاوف من حدوث تفكك مستقبلي لإقليم الدولة بسبب احتمال تصاعد التوتر بين كافة الجماعات العرقية والدينية بإندونيسيا، مما يعني اهتزاز النظام والانسجام الاجتماعي بإندونيسيا. ولم يختلف الأمر كثيرًا في باكستان، حيث مارست القبائل خاصة في المناطق الحدودية سلطات تخطت قوة الدولة وتحدتها، كما أثرت سلبيًّا على جهود محاربة الإرهاب ومحاولات هزيمة طالبان. وبالطبع كانت أفغانستان نموذجًا مثاليًّا في بسط القبائل والقوى المحلية سيطرتها على معظم الأراضي الأفغانية، وهو الوضع الذي كرَّس ضعف الدولة المركزية.
رابعًا- ما زالت للعلاقة بين المدني والعسكري خصوصيتها وأهميتها بالنسبة للتوازنات الداخلية والتوجهات الخارجية. اشتركت الدول (محل الرصد) في إعطاء أوزان سياسية (ولو بدرجات مختلفة) للمؤسسة العسكرية، وتفاوتت الدول فيما بينها في حجم التغيير الطارئ على العلاقات العسكرية المدنية. بالنسبة إلى تركيا، مثًل عام 2008 عامًا مفصليًّا في سنِّ سُنَّةٍ جديدة؛ وهي تحجيم تدخل العسكر في شئون السياسة، بحيث كانت تصريحات المسئولين العسكريين تأتي على استحياء وبدون إصرار أو استمرارية، واحتلت المؤسسة القضائية مكان الصدارة في المواجهة مع التيارات ذات الخلفية الإسلامية وللدفاع عن علمانية الدولة التركية. أما في إيران، فاتسع نفوذ العسكريين في ظل تعاظم التهديدات الأمريكية بتوجيه ضربة عسكرية خاصة في النصف الأول من العام، ومن ناحية أخرى، اكتسب العسكر مكانة سياسية أكبر في أعقاب الانتخابات البرلمانية لهذا العام والتي فاز فيها عدد لا يستهان به من الشخصيات العسكرية، الأمر الذي اعتبره البعض تحولاً داخليًّا دإلاًّ يسمح بإحلال تدريجي للنخب الفقهية بأخرى عسكرية؛ ومن ثم تغيير ولو تدريجي طفيف لمعادلات قوة الداخل السياسية. وفي باكستان، استمر الجيش في لعب أدوار سياسية مهمة خاصة مع تصاعد العنف في منطقة القبائل ومن قِبل قوى إسلامية متنوعة على رأسها طالبان باكستان، وجاء التغير ليس في دور العسكريين بل في قبولهم مبدأ التفاوض مع “المتشددين” والحوار مع القبائل، وهو الاتجاه الذي كان له أبلغ الأثر في تغيير طريقة تعامل الدولة الباكستانية مع تصاعد العنف في مناطق عدة خاصة على الحدود. وفي إندونيسيا، استمرت محاولات تدعيم السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية. وهناك أيضًا نموذج دول آسيا الوسطى مثل قرغيزستان، وهو النموذج الساعي لاحتواء العسكر في النظام، والعمل على ضمان ولائه، وجعله دعامة حماية النظام الأساسية من خلال توفير امتيازات خاصة بالعسكر دون غيرهم من المدنيين.
خامسًا- استمرت ثنائية الإسلامي والعلماني حاكمة للجدال السياسي والثقافي الداخلي لعدد من الدول المرصودة. كانت مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية محور النقاشات فيما بين الإسلاميين والعلمانيين في إندونيسيا، ذلك في إطار الدعوى لمراجعة كافة القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية والتي أقرتها بعض الأقاليم الإندونيسية لتحديد مدى اتساقها مع الدستور الإندونيسي الذي ينص على أن نظام الدولة هو العلمانية. أما في تركيا، فقد اتخذت عملية الشد والجذب بين العلماني والإسلامي أبعادًا وأشكالاً جديدة في ظل تجربة حزب العدالة والتنمية، حتى إنها تداخلت مع (وأثرت في) مسار التطور الديمقراطي ومدى ارتباطه بالعلمانية، خاصة إبان أزمة اختيار الرئيس التي أعقبتها انتخابات برلمانية انتصرت للديمقراطية.
سادسًا- فيما عدا تركيا وإيران، استمر الإسلاميون في لعب دور المعارضة الرئيسية التي تواجه الدولة ويخشى جانبها، وتسعى الدولة لتحجيمها بل وقهرها في بعض الحالات. واستمرت علاقة الدولة بالمعارضة الإسلامية تعبر عن حالة من التوتر والتأزم. وربطت بعض السلطات الرسمية بين القوى الإسلامية وبين الإرهاب والتطرف مثلما هو الحال في باكستان ودول آسيا الوسطى. وفي هذا المستوى تبقى الساحة السياسية منقسمة بين أنظمة غير شرعية وقمعية من جهة، وقوى سرية أو راديكالية أو عنيفة أو غير مشروعة من جهة أخرى، وهي المعضلة الكبرى التي تشترك فيها تلك الدول مع الخبرات العربية والتي أضحى الاستقطاب الحاد سمة رئيسية في حياتها السياسية، وهو ذلك الاستقطاب الذي يقف عقبة أولى أمام أي عملية تحول ديمقراطي جادة.

وباستعراض ما سبق، تبدو الدولة القومية في دول الشرق الإسلامي (مثلها مثل بقية دول العالم الإسلامي) في مواجهة مستمرة -قبل 2008 وأثناءها وبعدها- مع تحديات كبرى: الإرهاب، الحدود، التنوع الإثني والقومي، التدخل الخارجي، المصاعب الاقتصادية، الاستقطابات السياسية والأيديولوجية، تأزم العلاقة بين الدولة والمجتمع وتوتر العلاقة بين النظم والمعارضة.

نشر في حولية أمتي في العالم، عدد 2009

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى