افتتاحية العدد الأول: مسألة الأمة والعولمة

نحن الذين يرون أن ثمة تصنيفا سياسيًا للبشر فى العالم يفيد أن المسلمين فيه -حيثما يكونون الغالبية فى الجماعة- يشكلون دائرة من دوائر الانتماء السياسى والإجتماعى، بحكم التوحيد العقدى والتراث الثقافى المشترك والتاريخ المتجانس والتكوين النفسى الجمعى المتماثل، نحن الذين نعى بهذا الأمر فى المرحلة التاريخية المعيشة، نعتبر أن من أهم ما يواجهنا من تبعات الحاضر أن ننشر هذا الوعى ونعمق ونرسخ ما هو موجود منه. وأظن أن ذلك لا يكتمل إلا إذا توحدت الدائرة الإسلامية فى وعى الناس، وأن يشعر المرء بمكانه الثابت فى هذه الدائرة، ويتابع شئونها باعتبار أنه يتابع أحد شئونه الذاتية.

عندما يسير المرء فى الطريق وحده تتحد ذاته المرعية فى حركته فى إطار أعضاء جسمه وجوارحه، فيراعيها فى وقفته وحركته وسكنته، وفى سيره ودورانه، ومنامه ويقظته، فإذا سار مع جماعة مترابطة أو ركب سيارة، امتد شعوره بذاته إلى حجم الجماعة أو إلى جسم السيارة، فإذا ركب باخرة امتدت ذاته ووعيه بها إلى سائر أنحائها المترامية، ويصير كل هذا الحجم الأقل هو “الأنا” بالنسبة له، من المقدمة إلى المؤخرة ومن أقصى اليمين إلى أقصى الشمال ومن أعلى الأبراج إلى أسفل الغاطس. وأساس هذا التوحد الشعورى هو وحده المصير، والمتابعة اللحظية لكل وقائع الكيان الكبير.

إن المتابعة اللحظية لا تكون فقط أثرًا للوعى بوحدة المصير، إنما سببا لوجوده أو لترسيخه لأنها تكشف على وجه التوالى وجوه الارتباط بين الدوائر الكبرى ومكوناتها الجزئية. وفى أثناء دراستى لبعض الموضوعات التاريخية كنت أتابع المطالعة فى الصحف القديمة، على مدى الربع الأخير من القرن الماضى والثلث الأول من القرن الحالى، وكنت ألاحظ أن وقائع العالم الإسلامى وأخبار شعوب المسلمين فى أقاصى عالمهم الآسيوى والإفريقى، كان ذلك موضوع متابعة مستمرة من الصحف، يومية كانت أو أسبوعية أو شهرية.

وهذه المتابعة بدأت تنحسر تدريجيًا بعد الحرب العالمية الأولى. ثم بدأ يطغى على اهتماماتنا السياسية الدولية الاهتمام بالوقائع الأوروبية، ثم الوقائع الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية بخاصة، كما كان يطغى على هذه الاهتمامات وقائع حركات التحرر الوطنى حيثما كانت مشتعلة الأوار، ثم أخبار الدول حديثة العهد بالاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية، أشير إلى ذلك لأن المضمون وإن كان شبه متقارب باعتبار التداخل بين المسلمين وبين شعوب الحركات الوطنية وشعوب الدول حديثه الاستقلال، إلا أن وجه الملاحظة أن معيار التصنيف قد اختلف، فلم يعد الإسلام ولا المسلمين مما يشكل معيارًا للتصنيف. ولذلك فنحن فى مصر فى الخمسينيات والستينيات لم يكن “الإسلام” قائمًا بوصفه عنصرًا سياسيًا فى علاقات مصر الخارجية، إزاء الهند وباكستان مثلًا، وإزاء تنجانيقا وموزمبيق (عندما تكونت تنزانيا فى شرق إفريقيا) وإزاء قبرص فى شرق البحر المتوسط… وهكذا.

وقد آن لنا أن نسترد وعينا بهذه الدائرة الإسلامية بوصفها تصنيفًا سياسيًا نتعامل معه وتتعامل به دولنا وشعوبنا.

يمكن مع شىء من التبسيط أن نقول إن الوعى السياسى والحضارى الذى تقذف به أوعية الإعلام المحلى والخارجى، ينحصر فى أوروبا والغرب بحسبان إنهما هما العالم وأثر ذلك فينا لا يجرى باعتقاد منا ولا باختيار ثقافى وحضارى من جانبنا، إنما يجرى بموجب الاعتياد من التكرار المتوالى لما نحصل عليه من أخبار ومتابعات تركز على الأحداث الأوروبية والغربية.

وإن سياسة الغرب معنا منذ عرفناه فى العصر الحديث، أنه يغير واقعنا قبل أن يغير فكرنا وتصوراتنا، ثم يتهم فكرنا وتصوراتنا بالتخلف عن “ملاحقه” الواقع، ويقوم من بيننا من يحذون حذوه بحسبانهم “واقعيين”. لقد انتشرت بيوت المال الربوية بالقروض والرهون قبل أن يثور موضوع “الفائدة”، أهى من الربا المحرم أم لا؟ وعمت ملابس البحر قبل الحديث عن رأى الدين فى ذلك … وهكذا. فالواقع يتغير بقوة الأمر الواقع أو بالطرح المباشر أو بالمحاكاة من البعض، ثم نبدأ المحاورة حول الجواز والمنع وحول صلاحية الفكر وفساده. وهذا عينه هو ما حدث بالنسبة للأمة الإسلامية كجامعة  سياسية ودائرة انتماء شامل للمسلمين. قُطعت وجُزئت إربًا ثم أُلغيت وحُوربت فكرًا… والآن يضرب الوعى بها لا بإظهار عدم جديتها أو عدم جدواها، ولكنه يضرب بالتجاهل والتعمية  عنها. لتذبل فى الضمير وتسقط من الوعى.

إننا فى مسائل القانون والحقوق، نميز بين “الحق” بوصفه مصلحة يحميها القانون وله نشأة وتحول وانتهاء، وبين “إثبات” الحق. ونحن عندما ندرس فقها نتصور أن المعول عليه هو “الحق” موجود أو معدوم وإن “الإثبات” وسيلة تدور دور التابع الثانوى. ثم بعد أن نلج باب الحياة العملية يتبين لنا أن ما تصورناه وسيلة صار هو ما عليه المعول، وأن غالب جهود رجال القانون ومن يتولون أمر الخصومات القضائية هو فى مجال “الإثبات”.

وأن ما علية المعول ليس دائمًا هو “من له الحق” ولكن هو غالبًا “من  عليه الإثبات” أى من يقع عليه عبء الإثبات. لذلك يقول “ابن فرحون” أن فن القضاء يدور حول “مَن المُدّعِى ومَن المُدّعَى عليه” لأن الأول هو من عليه عبء الإثبات ؛ أما الثانى فيكفيه التشكيك فى أدلة الأول. لذلك تحولت الممارسة القانونية فى بعض جوانبها الهامة من “رسالة” لحماية الحقوق وردها لأصحابها إلى “مهنة” إثبات ونفى. والبعض يبَّصر تلامذته بألا يجهدوا أنفسهم فى إثبات براءة من جُرم أو من دين، يكفيه أن يبذل جهد المقل فى التشكيك فى وسيلة الإثبات.

أطلت فى ذكر هذا المثل، لأنتقل إلى موضوعنا، لأن العالم تسوده روح “الاغتراب”، فليس المهم هو الأمر الموجود، و لكن المهم هو وسيلة إظهاره، وليس يعنينا صدق انعدام أمر ما، إنما الذى يعيننا هو إمكان طمسه، ويجرى إحلال الوسائل محل الغايات، ورجل السياسة لا ينظر فيما هو موجود فيتعامل معه، ولكنه ينظر فيما يرى مصلحة لنفسه فيه، ويقول قول نمرود “أنا أحى وأميت” لا لأنه قادر على الإحياء ولكن لأنه قادر على إظهار ما ليس موجودًا “يخيل إليهم من سحرهم إنها تسعى”، وهو قادر على الإماتة  بطمس ما هو موجود وإبعاده عن الأبصار والبصائر.

ومن هنا علينا أن نواجه هذا الصنيع بصنيع مضاد، فما يراد طمسه وإزهاقه فى وعينا، علينا أن نمارسه إِذانًا بوجوده وقيامه فينا. ونحن هنا نتكلم عن “وعى” وعن “بصيرة”، وهى فى النهاية، أمر نستطيعه لأننا نملكه، ووسيلته أن نتخاطب به ونتعامل به فينتعش بيننا ويزكو. ونحن بهذا لا نقترب لأننا بفعلنا نمارس وجودًا نراه فينا حقيقيًا، ونتعامل بالحقوق ونحن دلائل ثبوتها ونمارس وعينا بذاتنا فى صدق مع النفس أولًا ثم مع الغير.

إن ما حدث من تمزيق للعلاقات التى تربط بين شعوبنا وجماعاتنا فى مجال الاقتصاد والسياسة، هو ذاته ما حدث فى مجال الاتصال والثقافة. ففى علاقتنا التجارية والاقتصادية نرى الأقل هو ما يجرى بالتبادل المباشر بين بلادنا عربا كنا أو مسلمين أو آسيويين أو أفريقيين، وكذلك فى السياسة، وذات الشىء يحدث فى التحاور اللغوى. فقد َضمُرت معرفة الفارسية والتركية والعربية والأردية بين غير أبنائها، وصار الحديث بينهم يجرى من خلال الإنجليزية، وغالب معلوماتنا وثقافاتنا ترد من خلال وسائط  غربية، نقارن ذلك بما كانت عليه مدارسنا العليا فى القرن التاسع عشر عندما كانت الفارسية والتركية من لغات تعليم المدارس قبل الإنجليزية والفرنسية.

التعامل المباشر بين الشعوب الإسلامية هو ما يزكو به الوعى المشترك والشعور بالانتماء المشترك، وهو ما تزكو به دائرة الانتماء الإسلامية. وما من مرة قُدِّر لى أن أرجو قائمًا على سياسة صحيفة ما، إلا رجوته أن يفرد مساحة معتبرة لمتابعة وقائع الدول الإسلامية وشعوبها، لأن بعض المتابعة ستخلق لدى القارئ الشعور بالألفة والمشاركة.

وإن أول خطوات استرداد الوعى بالذات الممتدة، هو المتابعة الإخبارية والمعرفية بكل أنحاء هذه الذات، وبهذا الوعى تزكو الأمة إن شاء الله.

كلما اضطربت بى مسالك الفهم فى الشئون الدولية وغمّ عليّ فيها أمر، ووجدت ثوابتها تتأرجح، لجأت إلى التاريخ وإلى الجغرافيا، وكثيرًا ما أجد فيهما إجابات هامة. ونحن إذا بسطنا خريطة العالم بين أيدينا من القطب الشمالى إلى بحار الجنوب، ونظرنا فى أين توجد الشعوب الإسلامية والشعوب ذات الغالبية الإسلامية والشعوب التى يشكل المسلمون فيها نسبة معتبرة؟ وجدنا أن الإسلام فى قارات العالم القديم ينتشر فى غرب إفريقيا كلها (عدا الساحل الجنوبى الغربى) من مضيق جبل طارق إلى نيجيريا، مشتملًا الصحراء الكبرى وممتدا إلى الشرق ليشمل من مصر إلى الصومال جنوبى السودان، ثم يمتد فى أوروبا فى بعض مناطق البلقان ثم يمتد شرقا ليشمل البحر الأسود شمالًا إلى أقصى جنوب الجزيرة العربية، ثم يمتد شرقا ليشمل جمهوريات وسط آسيا شمالًا إلى وسط الهند ويمتد نوعا ما فى الهند حتى جنوبها، ثم يمتد شرقًا إلى منغوليا وغرب الصين ثم ينحدر جنوبًا إلى جزر الهند الشرقية.

هم نحو 1.2 مليار ونسمة بنسبة تجاوز قليلًا 22% من سكان العالم، ولكن موقعهم أخطر كثيرًا من عددهم الكبير ونسبتهم غير القليلة. لأنهم من ناحية الجغرافيا السياسية يشغلون بقعه أرضية تراها على الخريطة مثل الحزام العريض الذى يمسك بخصر العالم القديم كله ويحكمه ويمتد جنوبًا إلى بحار الجنوب ومحيطاته. ويسيطر على غالب شواطئ البحر الأسود ونحو ثلثى شواطئ البحر الأبيض وكل شواطئ البحر الأحمر والخليج الفارسى. وهى رقعه واحدة ممتدة لا تفصل بينها شعوب أخرى وإن تخللتها.

ثم إن الإسلام هو ثالث الحقائق الكبرى التى تحكم آسيا، والحقائق الآسيوية الثلاثة الكبرى هى الإسلام والهند والصين. وهو ثالث حقائق إفريقيا أيضًا، وهى الزنوج والعرب والإسلام، والإسلام فى إفريقيا هو الواصل بين عربها وزنوجها، سواء فى الشرق أو فى الغرب. وأكثر من ذلك فإن مقارنة مدى انتشار الإسلام فى العالم القديم بالمقارنة بين سنة 1650وسنة 1950 حسبما جاء فى كتاب “الهيكل الاجتماعى للإسلام” (د. روبين ليفى) تكشف أن الإسلام كان آخذا فى الانتشار عبر هذه القرون الثلاثة، وخاصة فى إفريقيا حيث امتد فى هذه المدة ليشمل الوسط الأفريقى وليصل إلى نيجيريا وغينيا والسنغال غربا وإلى موزمبيق وكينيا شرقًا. وليمتد فى ربوع آسيا الوسطى ضاربًا شمالًا بشرق، وأنه لم ينحسر فى هذه القرون الأخيرة إلا من بعض أجزاء البلقان فى أوروبا.

إن أى سياسى من ساسة الغرب فى أوروبا وأمريكا، ينظر إلى هذه الخريطة يدرك على الفور أنه يواجه “قوة متحققة”، أو يواجه “قوة ممكنة” تستدعى منه كل أسباب القلق والحذر والحيطة، وأن عليه سياسيًا أن يفكك هذا الوجود لينقسم إلى دول ودويلات متنافرة، وأن عليه ثقافيًا أن يجعل هذا الوجود ذاهلًا عن أمر نفسه غافلًا عن ذاته.

ونحن على سبيل المثال نجد أن مؤتمرًا للمبشرين  انعقد فى أدنبرج سنة 1910 لينظر فى مشاكل انتشار التبشير المسيحى فى العالم، وعندما نقرأ أعماله المنشورة نعرف أن الخريطة كانت مبسوطة أمامهم يستلهمون منها تقاريرهم، وهم يرون أن مناطق النشاط يمكن تحديدها فى الهند، وما أسموه “الجنس الأصفر”، “والإسلام على وجه العموم” وخاصة حيث يتقدم، وهم يرون أن الإسلام كان يتقدم فى إفريقيا كلها وفى ماليزيا وفى الأراضى الروسية، كما رأوا أن السنوسية فى الصحراء الأفريقية الكبرى هى رأس الحربة للحركة الإسلامية فى النصف الشمالى من إفريقيا وهى تجعل نشاط الكنيسة يواجه “استحالة”، وهم يذكرون إنه لابد من التحرك فيما لم يكسبه الإسلام بعد من مناطق، وأنهم إذا لم ينشطوا فسيجدون الإسلام قريبًا قد صار هو مبعوث السماء للجنس الأفريقى، ثم تكلموا عن نشاطهم فى مصر والشام وفارس وتركيا…. الخ.

قصدت من هذه الإطلالة، أن أشير إلى أن الغرب بساسته ومبشريه، ينظر إلى العالم الإسلامى بوصفه كيانًا واحدًا، ولا ينسى فى تعامله مع شعوب المسلمين وبلدانهم إنهم مجموعون فى تكوين بشرى اجتماعى واحد، سواء كان هذا التجمع متحققا فعلًا أو كان إمكانية قابلة للتحقق. ولكنه فى الوقت ذاته لا يريدنا أن نشعر بهذه الإمكانية لنحققها أو لنمارسها.

والسؤال هو: ألا يتعين علينا أن ندرك من أمر أنفسنا ما يراه الغرب فينا ويحكم سياسته تجاهنا، أفلا نمارس هذا الأمر؟

إننا نواجه عنصران معاكسان، أولهما النظام العالمى فى صورته المفردة الحالية أو فى صورته الثنائية السابقة مباشرة، أو فى صوره التعددية المحصورة فى القوى الأوروبية القريبة على مدى القرن العشرين، وهذا النظام العالمى مستقر،النظر، مهيأ العزيمة على ألا يقوم تجمع إسلامى بأيٍ من صور التجمع السياسى، وهو مستقر ومهيأ أيضًا على ألا تقوم تجمعات إقليمية حقيقية فى غير بلاد الغرب، سواء قامت على العروبة أو على الزنوجة فى إفريقيا أو على العنصر الطورانى بين أتراك تركيا “وسط آسيا أو العنصر الفارسى وهكذا. ذلك ليس إلا الدولة “القطرية” التى تقوم فى آسيا وإفريقيا على وفق ما نرى الآن.

ثانيها هذه الدولة القطرية ذاتها التى نشأت فى الغالب الأعم على غير نسق سياسى منسجم، فالدول تقوم فى النظر الراجح بحسبانها  تشخص جماعة سياسية ذات تكوين مشترك يجرى به تصنيف الجماعات السياسية وفقا للعقائد السائدة، سواء كان هذا التكوين المشترك أساسه العِرق مثل القبائل، أو أساسه العقيدة مثل الدول التى تقوم على رباط الدين أو المذهب، أو اللغة والتاريخ مثل الدول التى تقوم على الرباط القومى، كل ذلك مع الاتصال الجغرافى. وهذه المعايير لا تجدها متحققة فى غالب بلدان آسيا وإفريقيا، باستثناء حالات مخصوصة، أما الغالبية فإنها دول إما تعكس أجزاء من جماعة – عرقية كانت أو دينية مذهبية أو قومية، أو أنها تعكس شذرات من جماعات كشأن الغالب من دول إفريقيا.

إن المعيار الذى تكونت به الدول القطرية، نشأ غالبه لا من التصنيف السياسى الثقافى الجغرافى للجماعة الممثلة فى الدولة، ولكن من موازين القوى الاستعمارية الغربية التى سيطرت على العالم واقتسمت شعوبه وأراضيه ووضعت الحدود وفقا للتوازنات السياسية والمساومات التى جرت بين بعضها البعض، وهكذا رسمت ليجمع الكثير منها أشلاءً ومزقًا من وحدات انتماء جماعى عرقية ودينية ومذهبية ولغوية وأظهر ما يظهر ذلك فى إفريقيا. ثم قامت حركات التحرير فى إطار هذه الحدود، فلما رحل الاستعمار العسكرى الأجنبى وقامت دول التحرر الوطنى قامت على وفق هذه الحدود أيضًا. فلم تعد الدولة فى كثير من الحالات مُشخِصة لجماعة سياسية متجانسة، ومن جهة أخرى فإن هذه الدول القطرية نشأت ونمت على أسس مركزية قوية، وكانت فى نشاطها وتطورها تعتمد على وسائل الحكم الحديثة التى تمكن للدولة من السيطرة القابضة، ومن ذلك عُدد الجيش والشرطة ووسائط الاتصال وجمع المعلومات ومد الطرق، واستطاعت بهذه الوسائل أن تقضى على إمكانية الوجود الحى للجماعات الفرعية وللوحدات الاجتماعية التى يتكون منها المجال الشعبى الأهلى.

وسعت الدولة لا لأن تكون المعبر عن الجماعة السياسية الأساسية دون أن تستبعد التكوينات التى تعبر عن الجماعات الفرعية فى المجتمع، وإنما سعت لأن تصبح هى الشخص الوحيد، والمعبر الوحيد عن الوجود الاجتماعى، وسعت لأن تحتكر الوظائف الاجتماعية برمتها حتى أبسط أنواع الخدمات مادامت قادرة ماديا على ذلك. واعتبرت كل وجود مؤسس مشخص لجماعة فرعية فى المجتمع هو وجود منافس لها بالفعل أو بالاحتمال، بالتحقق أو بالمكنة الضامرة.

ولكن فى المقابل فإن هذه الدولة القطرية المركزية، إنما تتكون من رجال هم فى الأساس منتمون إلى جماعات الأمة وتكويناتها الثقافية والاجتماعية، وهم متأثرون ومنفعلون بالضرورة بما يرونه من وجوه النشاط المعبر عن التجانس والوئام لدى الجماعات الأهلية. إنما الأمر يحتاج إلى الصبر والمثابرة وإلى إدراك المداخل وإلى تبين الأساليب التى تتنادى بها الجماعات وتتعامل بها وتؤثر فى سياسات الدول القطرية المركزية بطريق التخلل وبطريق الرشح وكما يرشح الماء بالبلل من أرض لأرض ومن مادة مسامية إلى مادة مسامية أخرى وأول كل ذلك هو إذكاء الشعور بالجماعة العامة عن طريق المتابعة المستمرة لوقائعها وأحداثها.

والحمد لله

طارق البشرى

 

*نشرت ضمن: د. نادية مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (إشراف عام)، أمتي في العالم: الأمة والعولمة (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية،1999).

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى