إبادة العمران الحضري في غزة

مقدمة:

“إن ما نراه في غزة هو شيء لم نشهده من قبل في تاريخ العمران الحضري… لا يقتصر الأمر على تدمير البنية التحتية المادية فحسب، بل إنه تدمير لمؤسسات الحكم الأساسية وللشعور بالحياة الطبيعية”

“مارك جارزومبيك”[1].

تتناول معظمُ تقارير حرب غزة عددَ الشهداء، الذي فاق الأربعين ألفًا، والمصابين الذين قاربوا المائة ألف، لكن نادرًا ما يُذكر عدد العائلات التي حُذفت من السجل المدني، أو أنواع الإصابات الخطيرة المعيقة عن الحياة بشكل طبيعي، كبتر الأطراف، وقليل من يتذكَّر أن هؤلاء البشر ليسوا أرقامًا، وأن لكلٍّ منهم حياة، وتجربة، ومعاناة تستحق الذكر، وأَلَمُ فَقْدٍ يختلف من شخص إلى آخر، فَقْدُ أهل وأصدقاء، أو فَقْدُ بيت ومدرسة وعمل، أو فَقْدُ صور، وذاكرة مكان، وحياة طبيعية كاملة اختفت من على وجه الأرض.

إن نهج الابادة التي يتبعها الاحتلال الصهيوني في غزة ليست جديدة، فهو يقوم بذلك منذ أكثر من ٧٥ عامًا. فالعدو الصهيوني لا يقتل البشر الفلسطينيين فحسْب، بل يستهدف وجودهم، وكل أثر يثبت حقَّهم في الأرض. لذا فهو يستهدف كلًّا من حوائط بيوتهم التي تؤويهم و تحتضن ذكرياتهم الشخصية والجماعية، وأماكن عملهم وورشهم ومصانعهم التي تُعزز اقتصادهم، والمؤسسات الصحية التي توفِّر لهم الرعاية لاستمرار الحياة، والمؤسسات التعليمية والثقافية التي تضمن تنمية القدرات والتطور، وحجارة المباني ذات القيمة التاريخية والتراثية، التي تمثِّل ذاكرة حية وهويةً وإرثًا فلسطينيًّا وإنسانيًّا. ولا يقف الاحتلال عند الهدم، بل يصل مداه بفرض إعادة تنظيم كل مكان جديد يُهجَّر له السكَّان، فالمخيم الذي يعدُّ السكن المؤقت، الذي هُجِّرَ له الفلسطينيون قَسْرًا خلال سنوات الاحتلال الطويلة، لم يسْلم من عدوانهم. محاولة تلو أخرى من التهجير المتكرر، لطردهم من أرضهم التاريخية فلسطين، فيما يُعد تطهيرًا عرقيًّا ممنهجًا[2]، وقد مارس الاحتلال قتل كل أنماط الحياة الطبيعية، لتصنف جرائمه، بشكل أدق، أنها جريمة إبادة جماعية[3].

إن الله خلق الإنسان ليعمِّر الأرض، وما العمران الحضري إلا جماعة من الناس، يضمُّهم مكان محدَّد، استقرُّوا وكوَّنوا فيه علاقات بنيوية اجتماعية وثقافية، و أنشأوا مؤسسات تخدمهم وتنظِّم حياتهم، وتضمن استمرار تطوُّرهم، ليصبح لهم بمرور الوقت صور ذهنية مرتبطة بهذا المكان، وذاكرة جمعية حية، متطورة، ومتراكبة عبر الأجيال، تشكِّل عناصر هويتهم ووجودهم. لذا يدرك العدو أن إبادة ما عمَّره الإنسان، هو إبادة لأثره على الأرض.

يسْعى المحتل الصهيوني إلى تدمير معالم المكان وذاكرته الجمعية، مرة بعد أخرى ليفرغ المحتوى المكاني والعمران الحضري، من ناسه وذاته. ثم يمتد عدوانه، متجاوزًا تدمير ماضي الحيز المكاني، بالاستيلاء على الأرض، وكل ما بقي من معالم الحجر والشجر. ومن ثم يعمل على طمس معالم المكان الأصلية، وإعادة رسم الخرائط،  بهدف مسح الهوية والوجود الفلسطيني كلِّيًّا، عن طريق فرض سياسة الأمر الواقع. وهذا التقرير يجمع، ويسجل، ويعرض، بعضًا من مظاهر إبادة العمران، التي يتعرَّض لها قطاع غزة مؤخَّرًا، على عدَّة مستويات، منها المعمارية وحتى البيئية، إيمانًا بأن التوثيق ضربٌ من المقاومة التي تتحدَّى الإبادة.

أولًا- حجم الدمار العمراني في غزة

كل من زاروا غزة من أطباء أو عمال إغاثة، بعد ٧ أكتوبر، قالوا إن حجم الدمار الذي شهدوه في غزة يفوق التخيُّل ولا يمكن وصفه. ففي بداية مايو ٢٠٢٤، قيَّمت الأمم المتحدة أن دمار غزة لم يُشهد منذ الحرب العالمية الثانية، وأن كلًّا من الخسائر البشرية، ودمار المباني السكنية غير مسبوق، ولا يزال حجم الأضرار يتصاعد مع استمرار الحرب. وقال مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي “أخيم شتاينر”: إن كل يوم تستمر فيه هذه الحرب يكلف سكان غزة وجميع الفلسطينيين تكاليف باهظة[4].

قام الاحتلال الصهيوني بإلقاء أكثر من 80  ألف طن من المتفجرات على قطاع غزة، علمًا بأن قنبلة هيروشيما تعادل طاقة تدمير 15 ألف طن من المتفجرات، ولنا أن نقارن هَول وحجم الدمار.

في تقرير عن أحد مراكز الأمم المتحدة في مارس 2024، ذكر تضرُّر 88868 منشأة، جراء العدوان الإسرائيلي، أي ما يعادل 35 بالمئة من المباني في قطاع غزة، دُمرت إما كليًّا أو جزئيًّا[5]. وأظهرت خرائط “يونسات” في شهر مايو التالي، أنه من أصل 137,307 مبنًى سكنيًّا متضرِّرًا بسبب الهجمات العسكرية الإسرائيلية، أي حوالي ضعف الرقم الذي صدر عن مركز الأمم المتحدة في فبراير، قد حازت المباني السكنية على النصيب الأكبر من الضرر، حيث تأثر 136.172 مبنى سكنيًّا، في حين تضرَّرت حوالي 1000 منشأة من البنى التحتية في القطاع، من مساجد، وأبنية تعليمية، ومستشفيات، ومنشآت للأمم المتحدة[6].

وقد رصد تقرير لاحق حجم الدمار في الشهر التاسع لحرب الإبادة المستمرة على غزة، تم بثه على  قناة الجزيرة في 15 يونيو 2024، نقلًا عن بيانات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة[7]، أن جيش الاحتلال الإسرائيلي تسبَّب في تدمير المباني والمنشآت وتخريبها بشكل هائل، فقد دُمِّرَتْ 150 ألف وحدة سكنية بالكامل. وتعرضت  200 ألف وحدة سكنية للتدمير الجزئي، فضلا عن 80 ألف وحدة سكنية أصبحت غير صالحة للسكن. وهي أرقام ذات زيادة مفهومة في ظل استمرار الإبادة، بالمقارنة بتقرير خرائط “يونسات” التي صدرت قبلها بشهر، مما يؤكد قربها من الحقيقة.

ولنا أن نقارن نتائج خرائط “يونسات” للأضرار، مع المعدلات التي تصدر من جهات دولية خارجية، وتلك الصادرة من مسؤولين على أرض الواقع، من داخل غزة،  لنلاحظ أنها متقاربة جدًّا، وإن كانت الأخيرة أكثر تفصيلًا، هذا مع مراعاة صعوبة البحث الميداني في ظل عدوان يومي، وتدهور مستمر، ومع صعوبة الحركة والتنقُّل في طرق مدمَّرة، وتحت نيران القصف.

وقد أعلن التقرير المشترك للبنك الدولي والأمم المتحدة[8]، الذي نشر في 2 أبريل 2024، أن التقدير المبدئي للأضرار في قطاع غزة مهول، ويذكر التقرير تضرُّر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقِّي منها، والنتيجة أن السكَّان يحصلون على الحدِّ الأدنى من الرعاية الصحية اللازمة لإنقاذ الحياة. وأشارت بيانات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة،  إلى أن اعتداءات الاحتلال المتكررة على المؤسسات الصحية، أدَّت إلى خروج 32 مستشفى و64 مركزًا صحيًّا من الخدمة كليًّا. كما تعرَّضت 161 مؤسسة صحية أخرى للاستهداف، هذا رغم تمتُّع المستشفيات بالحماية في أوقات النزاع، طبقًا للقانون الدولي. وقد شهد العالم ما حدث من جرائم في مجمع الشفاء الطبي، المجمع الأكبر في القطاع، ومجمع ناصر الطبي في خان يونس، وكذلك المستشفى الإندونيسي، الذي تضرَّر بعد حصار مخيم جباليا، رغم إعادة تأهيله في مايو الماضي، وما زال العدوان مستمرًّا.

ويُؤكد التقرير السابق انهيار نظام التعليم تمامًا، فقد أصبح 100٪ من الأطفال والطلبة خارج المدارس والجامعات. ورغم أن المدارس تستخدم كملاجئ للنازحين، ومأوى لمن فقدوا منازلهم من أهل القطاع، إلا أنها لم تسلم من العدوان والقصف، فقد شهد العالم عددًا من مجازر قوات الاحتلال ضد مدارس تابعة للأونروا كانت تؤوي نازحين، مثل مدرسة الرازي، ومدرسة صلاح الدين، ومدرسة التابعين.

والملاحظ أن المؤسسات الثقافية وقطاع التعليم، من المدارس والجامعات، تعد أكثر المرافق تعرُّضًا للضربات العسكرية الصهيونية، رغم قرارات منظمة اليونسكو التي تُذكر بضرورة الالتزام بأحكام القانون الدولي الإنساني، وتدين استمرار الهجمات على المدارس والمدنيين الذين لهم صلة بالمدارس، وكل الأعمال التي تعيق الحصول على التعليم، كما تدين استخدام المدارس لأغراض عسكرية. ورغم علم قوات الاحتلال أن عددًا كبيرًا منها يتبع الأونروا ويضم مئات النازحين المدنيين، فإن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية أبلغ في  4 فبراير 2024 عن تضرُّر 386 مدرسة، أي 78 في المائة من مجموع المباني المدرسية.

وفي تقرير يونيو للمكتب الاعلامي الحكومي في غزة، ذُكر أنه تعرَّضت 466 مدرسة وجامعة لأضرار بدرجات مختلفة، فقد دمر الاحتلال خلال حرب الإبادة على غزة 114 مدرسة وجامعة بالكامل، مثل جامعة الإسراء جنوب غزة، التي قصفها كاملة، بعد أن استخدمها ثكنة عسكرية لمدة ٧٠ يومًا[9].

كما يُضيف التقرير المشترك للبنك الدولي والأمم المتحدة، تسبُّب الاحتلال في تدمير 326 مدرسة وجامعة بصورة جزئية. الأمر الذي دفع 19 خبيرًا أمميًّا إلى التحذير من “إبادة تعليمية” في غزة[10]. أما دور العبادة، فقد دمَّر الاحتلال منها 609 مساجد بالكامل و211 بشكل جزئي، كما دمَّر 3 كنائس. وتعكس هذه الأرقام حجم الدمار الشامل الذي لحق بالبنية المؤسساتية في غزة.

تُجري اليونسكو[11] تقييمًا أوليًّا، عن بُعد، بسبب استحالة إجراء تقييم ميداني، في ظل الظروف الراهنة، للأضرار التي لحقت بالممتلكات الثقافية، بالاستناد إلى صور الأقمار الصناعية وتحليلها، والتي يقدِّمها معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث. وقد تحقَّقت اليونسكو، حتى تاريخ 10 يونيو 2024، من تضرُّر حوالي 50 موقعًا في غزة، منذ 7 أكتوبر 2023، منها 11 موقعًا دينيًّا، و28 مبنًى ذي أهمية تاريخية ، ومستودعات للممتلكات الثقافية المنقولة، و4 صروح أثرية، ومتحف، و4 مواقع أثرية، منها على سبيل المثال لا الحصر، ميناء البلاخية، وجامع ابن عثمان، ومركز رشاد الشوا الثقافي، والجامع العمري الكبير، وقبة دار السعادة، ومركز المخطوطات، وقصر الباشا، ودار السقا، وسباط العلمي، وسوق القيصرية، ومقبرة الإنجليز، وحمام السمرة، وبيت السيد خضر ترزي، وفندق المتحف (مستودع للتراث المنقول)، ومرفق تخزين القطع الثقافية المنقولة في وزارة السياحة والآثار، والمقبرة الرومانية، وبيت الغصين، ومجمَّع كنيسة القديس بورفيريوس الأرثوذكسية، وسبيل الرفاعية، وبيت حتحت، ومبنى البلدية التاريخي في “غزة القديمة”، ومسجد الظفر دمري، ومسجد علي بن مروان، ومسجد الشيخ زكريا، ومسجد الست رقية، ومسجد كاتب الولاية، ومنزل الحاج راغب العلمي، ومنزل هاني سابا، ومنزل أحمد بسيسو، ومنزل سارة الحتو، ومنزل رياض القيشاوي (بيت ستي)، وبيت الوهيدي (جمعية بسمة)، وبيت القرم، ونصب الجندي المجهول، ومبنى بلدية غزة في شارع عمر المختار، وسينما النصر، وسينما السامر، ومدرسة بشير الريس،  وتل العجول، وضريح علي بن مروان، وتل رفح، ومقبرة الإنجليز.

وقد تجاوز عدد ما دُمِّرَ وقُصف من مواقع أثرية في القطاع المائتي أثر، من أصل 325 أثرًا من التراث المعماري. ولعل آخرها قلعة السلطان برقوق الأثري بخان يونس، التي صمدت أكثر من 600 عام. ولا يسعنا إلا أن نصف هذه الجرائم بالإبادة الثقافية، للموروث من الحضارة الرومانية وحتى الحضارة الإسلامية[12]، والذي حافظ عليه الفلسطينيون عبر سنوات طوال.

ومن الملفت أن منظمة اليونسكو قامت في وسط هذه الحرب، وتحديدًا في يوم الجمعة 26 يوليو 2024، بإدراج “دير القديس هيلاريون، تل أم عامر”، الواقع في غزة، على قائمة التراث العالمي، وقائمة التراث العالمي المعرض للخطر. والدير يقع في بلدية النصيرات، وهو أول مجتمع رهباني في الأرض المقدسة، لذا فهو ذو أهمية تاريخية خاصة[13]. ونأمل فقط أن يفيد تسجيل اليونسكو له في توفير الحماية من عدوان الاحتلال المستمر على كل ما هو قيم في غزة، و لا يكتفي فقط بإعادة ترميمه إذا تدمر. وإننا نضيف أن الضرر المادي لا يعد الضرر الأكبر في حرب الإبادة فحسب، بل إن الدمار والضرر المعنوي الذي يطال هوية وذاكرة  السكان الأصليين، وتدمير صورة المكان الذهنية، وتأثُر إدراك السكان للمحيط، يعد من أكثر الأمور خطورة، والذي يصعب رصده وحصره في ظل حرب الإبادة هذه.

  • أضرار البنية التحتية والطرق في القطاع

وثَّقت بلدية غزة، تخريب قوات الاحتلال للبنية التحتية، حيث رصدت في أغسطس 2024، تدمير حوالي ١٢ مليون متر مربع من الشوارع، والأرصفة، وكل المرافق المتعلقة بالطرق[14]، مع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، بشكل يصعب الحركة اليومية وتنقُّل أهل القطاع، ناهيك عن حركة كبار السن، والمرضى، في ظل هروبهم المستمر من نيران القصف.

كما تعرَّض كلٌّ من نظام المياه، والصرف الصحي، للانهيار، لتصل إلى أقل من 5٪ من خدماته السابقة، ممَّا تسبَّب في نقص حصص مياه السكان لتكفي بالكاد للبقاء على قيد الحياة، وأدَّى ذلك إلى تفشِّي الأمراض. ويشير التقرير أيضًا إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل، منذ الأسبوع الأول للصراع وتضرُّر أنظمة إنتاج الطاقة الشمسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، وقد انعكست صعوبة الحركة والتواصل على إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية للسكان.

ويلجأ الباحثون إلى خرائط حساب الأضرار التفصيلية[15]، مثل تلك التي قام بإعدادها فريق “ نوى ميديا” للتحقيقات مفتوحة المصدر في غزة، الذي وَثَّق ونَشر في 25 يونيو 2024، بناءً على تقرير وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)،  تضرُّر أكثر من 67  في المائة من البنية التحتية ومرافق المياه والصرف الصحي بقطاع غزة. وهو ما يتقارب مع تقرير “يونوسات- UNOSAT”، الصادر في شهر مايو من نفس العام، بأنَّ 65 في المائة من الطرق داخل القطاع قد تضرَّرت، سواء كان دمارًا كلِّيًّا أو جزئيًّا[16].

يرى البعض أن شَقَّ وتجريف وتوسيع بعض الطرق والمحاور على يد قوات الاحتلال، لم يكن عملًا عفويًّا، بل هو جزء من مخططات الاحتلال الأمنية، لإعادة رسم الخرائط ، وقطع أواصل الترابط بين أحياء قطاع غزة، وتسهيل الانتشار والسيطرة لجيش الاحتلال على القطاع مستقبلًا. وهو ما رأيناه جليًّا في إعادة تخطيط ورسم محور نتساريم وشارع صلاح الدين  ومحور فيلادلفيا.

حيث قام الاحتلال بتجريف و تغيير ملامح محور متعرج ضيق وسط القطاع، أطلقوا عليه اسم محور نتساريم، على اسم مستوطنة سابقة، وذلك بشق طريق مستقيم يمتدُّ من مستوطنة ناحل عوز شرقًا، إلى شاطيء البحر المتوسط غربًا، ليقسم القطاع، ويقطع أواصل الترابط بين شمال وجنوب القطاع، انظر الشكل رقم (1). وتظهر الخرائط تجريف أراضٍ زراعية شاسعة، وبناء منشآت بجوار موقع الميناء الأمريكي المزعوم، بجانب ظهور منشآت أخرى تبدو أنها ستستخدم لتفتيش كل من سيرغب بالعودة إلى الشمال من السكان[17]. وبالمثل أظهر فريق تقصِّي الحقائق لقناة بي بي سي عربي، أن محور صلاح الدين أو كما يسمُّونه «فيلادلفيا»، جرى عليه تعديل واضح، منذ سيطرة وتدمير قوات الاحتلال معبر رفح الفلسطيني، في مايو 2024، ظهر من خلال هدم وتجريف المنازل، والأراضي القريبة من المحور، والمواجه للسياج الفاصل عن الحدود المصرية، بالإضافة إلى تمهيد الأرض، وتعبيد شارع متَّسع على طول المحور[18]، بحجة الكشف عن أنفاق المقاومة، ومنع تهريب الأسلحة من مصر، كما يظهر في شكل رقم (2)، لكن التعديلات على الأرض تؤكِّد أن قوات الاحتلال لا تنوي أن ترحل، وستبقى مسيطرة على الحدود، وتتحكَّم بكل ما يدخل القطاع من مقومات الحياة، والمساعدات الإنسانية، وحتى مواد البناء لإعادة الإعمار.

  • المردود البيئي لحرب الإبادة على غزة:

يضيف بعض المختصِّين بعدًا آخر لأضرار هذه الحرب، يلفت النظر إلى جوانب غير خسارة البشر، رغم عظم جُرمها، وخسارة العمران المبني، والمؤسساتي، إنه البُعد البيئي. فرغم معاناة بيئة غزة، بالفعل، طيلة سنوات الحصار، بسبب العدوان الصهيوني المتكرِّر، والنمو الحضري السريع، وكثافة السكَّان المرتفعة، مع انخفاض مستوى المعيشة، في هذه البقعة المحاصرة،  ذات الـ 365 كم مربع، تلفت الأمم المتحدة النظر إلى أن الحرب في غزة خلَّفت ضررًا بيئيًّا كبيرًا.

شكل رقم (1): خرائط توضح إعادة تخطيط محور نتساريم، وشق الطريق، والمنشآت، بين ديسمبر 2023 وأبريل 2024.

المصدر: التليفزيون العربي، 30 أبريل 2024، بإشارات من الباحثة

جاء تقييم الأمم المتحدة للأضرار البيئية في غزة، تلبية لطلب قدَّمته سلطة جودة البيئة الفلسطينية، في ديسمبر 2023، لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة. حيث يُفترض أن هذا البرنامج يحمل على عاتقه مهمة مساعدة وتخفيف آثار التلوث، ومكافحته، في المناطق المتضرِّرة من الصراعات المسلَّحة، أو الإرهاب. ولكن نظرًا للمخاوف الأمنية، استخدمت الأمم المتحدة عمليات المسح من خلال الاستشعار عن بُعد، واستعانت ببيانات من الهيئات الفلسطينية المختصَّة، بالإضافة إلى تقييم الأضرار الصادر من البنك الدولي.

شكل رقم (2): خرائط توضح جزءًا من معدل التدمير على طول محور صلاح الدين “فيلادلفيا” بين مايو وأغسطس 2024.

المصدر: قناة بي بي سي، 6 سبتمبر 2024.

وأشار “أوين داربيشير” الباحث في “مرصد الصراع والبيئة”، وهي منظمة غير ربحية، مقرها في بريطانيا، أن قياسات الأرض ستكون حاسمةً لفهم مدى تلوُّث التربة والمياه. وقد ذكر التقرير أن أنظمة المياه والصرف الصحي، أصبحت شبه معطَّلة بالكامل، خاصة مع إغلاق محطات معالجة مياه الصرف الصحي الخمس في غزة.  وقد ورد في تقرير عام 2020 عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن الاحتلال الإسرائيلي فرض بالفعل تحديات بيئية كبيرة في الأراضي الفلسطينية، طوال سنوات الاحتلال الماضية، وانعكس هذا على نوعية المياه ومدى توافرها. وضرب مثلًا، أن أكثر من 92 في المائة من المياه، في قطاع غزة، غير صالحة للاستهلاك البشري[19].

وبالرغم من أن قطاع غزة كان يعدُّ من الأماكن الأعلى معدَّلًا في استخدام وحدات وألواح الطاقة الشمسية، حيث وصل عددها في عام 2023 نحو 12400 وحدة على الأسطح. إلا أن قوات الاحتلال دمرت جزءًا كبيرًا منها. ويُذكر أن ألواح الطاقة الشمسية المكسرة يمكن أن تتسبَّب في تسرُّب ملوِّثات الرصاص، والمعادن الثقيلة الضارَّة، إلى التربة. وقال “داربيشير”: إنه نظرا لحجم الدمار الذي لحق بالبيئة «أعتقد أن هناك مناطق واسعة من غزة لن تستعيد الحالة الآمنة خلال جيل واحد، حتى إذا توفَّر كلٌّ من التمويل من دون حدود، وتوافرت الإرادة[20].

وفق موقع الأمم المتحدة وتقرير “يونوسات – UNOSAT”[21]، الذي نُشر بناءً على تحليل صور الأقمار الصناعية، وبشكل مبدئي باستخدام الخرائط عن بُعد، وحتى دون التحقُّق من صحتها على أرض الواقع بَعد، والتي قام بجمعها القمر الصناعي Sentinel-2 في الفترة بين يوليو 2017 و2024، فقد أجرى تحليلًا على مؤشر الاختلاف الطبيعي للغطاء النباتي (NDVI) ، كما تم بإجراء تصنيف متعدِّد الفترات، لتحديد التغييرات الملحوظة التي تحدث في المناطق الزراعية، خلال هذا الإطار الزمني. وقدَّرت المنهجية الأضرار بأنها تسبِّب تراجعًا في صحة وكثافة المحاصيل، مقارنة بالمواسم السبعة السابقة الممتدة من 2017 إلى 2024. ويمكن إعادة السبب في تراجع المحاصيل إلى تأثير أنشطة مثل التجريف، ونشاط المركبات الثقيلة، والقصف بالقنابل، وغيرها من الديناميكيات المرتبطة بالعدوان الصهيوني. ويتضمَّن التحليل تقييم الأضرار التي لحقت بالبساتين، والأشجار، والمحاصيل الحقلية، والخضروات. ويبين تحليل “يونوسات” أن المساحة الزراعية في قطاع غزة كانت تقدَّر بـ 150 كيلومترًا مربَّعًا، وهو ما يمثِّل حوالي 41٪ من إجمالي مساحة قطاع غزة، وذلك بعد تحليل موسَّع للغطاء الأرضي. وفي نهاية شهر يوليو تم تحديث الخرائط وتحليلها، لتظهر أن حوالي 65 في المائة من حقول المحاصيل الدائمة في قطاع غزة قد تراجعت، ولوحظ تدمير هذه المساحة الخضراء، في محافظة غزة، بنسبة 4 في المائة زيادة مقارنة بتحليل يونيو 2024، الشهر السابق. بالإضافة إلى تدمير الأراضي الزراعية داخل رفح، حيث ارتفعت النسبة من 52 في المائة في شهر يونيو، إلى 55 في المائة في يوليو 2024، ونلفت النظر أن هذا أيضًا تحليل عن بُعد، لم يتم التحقُّق من صحته ميدانيًّا بَعد[22].

أما عن الأثر البيئي لحرب الإبادة على غزة، بناءً على تقرير للأمم المتحدة، فإن الصراع تسبَّب في تلوُّث غير مسبوق للتربة، والمياه، والهواء، في القطاع الفلسطيني، ودمَّر شبكات الصرف الصحي، وخلَّف أطنانًا من الحطام الناتج عن استخدام عبوات ناسفة، حسب وكالة «رويترز» للأنباء. ويضيف تقييم الأمم المتحدة إلى المخاوف المتعلِّقة بالأزمة الإنسانية المتصاعدة والتكلفة البيئية للحرب. فقد قال  الباحث “أوين داربيشير”: إن فهم الآثار البيئية للحرب يمثل تحديًا كبيرًا في عصرنا. التداعيات لن تكون محسوسة محليًّا، حيث يدور القتال فحسب، لكنها قد تتجاوز ذلك، بل قد تصبح محسوسة على النطاق العالمي، عبر انبعاث الغازات المسبِّبة للاحتباس الحراري. وأضاف “إنجر أندرسن” المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة: كل هذا يضر بشدة بصحة السكان وأمنهم الغذائي، وقدرة غزة على الصمود[23]. وإننا نؤيد رأي كثير من المختصين بالبيئة، بأن هذه الإبادة البيئية التي يشهدها القطاع، سنشهد أثرها على مساحة كبيرة من الأرض، تفوق محيط غزة.

وإننا نؤكد أنه بجانب تجريف قوات الاحتلال للطرقات، والأراضي الزراعية، واستهداف الصوبات الزراعية، وغيرها من الأعمال الانتقامية ذات المردود الضار للبيئة، والتي قد تهدف بالأساس إلى تضييق سبل العيش على السكان الفلسطينيين، وإجبارهم على النزوح. إلا أن هناك وجهة نظر أخرى لهذه الابادة، فهي لا تستهدف البشر والشجر فحسب، بل تستهدف مستقبل الأرض. وقد رأيناه جليًّا في تحليل تغير الخرائط على الأرض، من هدم المباني، وتغيير الشوارع ومسارات الحركة، وفرض سياسة الأمر الواقع، فحرب الإبادة لا تقوم بتطهير عرقي، من خلال التغيير الديموغرافي لصالح الإسرائيليِّين، وتقليل عدد السكان الأصليِّين الفلسطينيِّين فحسْب، بل تقوم بقتل الفرص في حياة طبيعية، وإضعاف المقاومة، وبالتالي القضاء على الصمود، والوجود الفلسطيني  على الأرض مستقبلًا.

ثانيًا- تقييم تكلفة ومدة إعادة الإعمار

في ظل عجز العالم عن وقف حرب الإبادة هذه، لا تجد كل الجهات المعنية إلا أن تفكر فيما ستقوم به بعد توقُّف هذا العدوان، آملة أن تُعيد الحياة من جديد لغزة. في شهر مايو 2024، ذكر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي “أن إعادة بناء المنازل في غزة التي دمرت خلال الحرب قد تستغرق حتى عام 2040 في السيناريو الأكثر تفاؤلًا”، فقد تسبَّب الصراع في محو أعوام من التنمية في الصحة، والتعليم، لتعود إلى مستويات العام 1988، وقدر تكلفة إعادة الإعمار في كامل القطاع، إلى حوالي 40 مليار دولار. نُشر هذا التقدير ضمن حملة جمع أموال من أجل التخطيط المبكر لإعادة تأهيل غزة[24].

كان كلٌّ من البنك الدولي، والأمم المتحدة، في تقييم مشترك، ذكرا أن أضرار البنية التحتية في غزة، في الفترة بين أكتوبر2023 ونهاية يناير 2024،  تُقدَّر بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة، من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معًا عام  2022[25]. وتذكر دائرة الأمم المتحدة المعنية بالألغام أن لديها تمويلًا قدره 5 ملايين دولار فقط، لكن عملية التطهير الأرض في حالة وقف الحرب، ستحتاج إلى 40 مليون دولار أخرى على مدى الأشهر الـ 18 المقبلة، فقط لبدء عملية التطهير، والتي قد تستغرق عدَّة سنوات، ولعدد كبير من الأيدي العاملة المدرَّبة، وبتكلفة تفوق مئات الملايين من الدولارات[26].

وفي أبريل الماضي، أيضًا، قال خبير الأمم المتحدة “بيير لودهامر” المخضرم في مجال مكافحة الألغام، للصحفيين في جنيف: إن 65  في المائة، من مباني غزة المدمَّرة هي سكنية، وأن الحرب خلَّفت نحو 37 مليون طن من الركام، و يحتوي كل متر مربع في غزة تأثُّرًا بالصراع، على حوالي 200 كيلوجرام من الأنقاض. وأضاف: كل ما يمكنني قوله هو أن ما لا يقل عن 10 في المائة من الذخيرة لم تنفجر، ولا بدَّ من إزالتها على يد خبراء، مع 100 شاحنة، نتحدَّث عن 14 عامًا من العمل لإزالة الأنقاض[27]. وننوِّه إلى أن هذه التقديرات تتضاعف مع استمرار العدوان اليومي.

وقد حدَّثت وكالة بلومبرج الأمريكية، في وسط أغسطس الماضي، حجم الركام الناتج عن تدمير غزة، بأنه وصل إلى 42 مليون طن، وأنه يعادل خطًّا من شاحنات القمامة تصل من نيويورك إلى سنغافورة[28]. ويوضح الشكل رقم (3) المعدَّل الرهيب للزيادة في الركام الناتج عن التدمير في قطاع غزة، فقد كان في نوفمبر الماضي، بعد الهدنة الأولى، يشكل حوالي 4 مليون طن، لكن خلال الأشهر الثمانية التالية تضاعف أكثر من عشر مرات، وما زال معدَّل الزيادة مستمرًّا، وهذا يؤكِّد صحة الأرقام التي ينكرها الاحتلال، كما يعكس حجم الإبادة البشرية والعمرانية التي يتعرَّض لها القطاع. إن هذا التدمير العمراني الهائل، الذي يقوم به الاحتلال، يتسبَّب في تراكم مخلَّفات وركام المباني المتهدِّمة، وما ضمَّته من أشلاء، وبقايا متفجرات، بشكل تلال تعيق الحركة، وتدمي قلب الناظر، حتى إن سكان غزة يقولون “إننا نرى رائحة الموت في كل مكان”[29].

شكل رقم (3)  معدل الدمار وتراكم الحطام الناتج عن تدمير قطاع غزة، من شهر نوفمبر 2023، حتى شهر يوليو 2024.

المصدر: UN Environment Programme، يوليو 2024.

مشاكل وتحديات إزالة الدمار وإعادة الإعمار

عند تطرُّق المختصِّين لإعادة إعمار غزة، تظهر بعض المشاكل والتحديات، وقد شكَّل إزالة الركام ومخلَّفات الدمار أكبر هذه التحديات. فقد دعا وكيل الأمين العام لعمليات السلام، “جان بيير لاكروا” إلى وقف إطلاق النار في غزة كخطوة أولى لإعادة   البناء، وإعادة بعض صور الحياة الطبيعية إلى القطاع الذي مزَّقتْه الحرب … ونبَّه “بيرش” وهو مسؤول في الأمم المتحدة، إلى أن إعادة تدوير الركام سيكون لها تأثير كبير في أي عملية لإعادة الإعمار… وأشار إلى ورشة عمل حول “إزالة الركام” عقدت في أبريل 2024، في الأردن، مع وكالات الأمم المتحدة، بما فيها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، وشركاء آخرين[30].

وقد وصف تقييم للأمم المتحدة عملية تطهير غزة من الركام، بأنها ستحتاج أسطولًا يضمُّ أكثر من 100 شاحنة سيستغرق 15 عامًا لتطهير غزة من حوالي 40 مليون طن من الركام والأنقاض، في عملية تتراوح كلفتها بين 500 و600 مليون دولار.  ولفت إلى أن المشكلة الأكبر، في ركام غزة، هي نوعية المتفجِّرات، والملوِّثات الخطرة كالإسبستوس ، بالإضافة إلى أن حجم الركام أكبر من المساحة المتوفِّرة لتوزيعه والقيام بتطهيره؛ ممَّا يصعِّب التعامل معه، وبالتالي يحتاج لحذر وخبرة خاصة في المعالجة.

وجدير بالذكر أن “مونجو بيرش”، مسؤول عمليات نزع الألغام في الأمم المتحدة عن قطاع غزة ، قد أضاف أن القصف لم يسبق له أن شهد مثله من قبل… وقال: كنت مع زميل كان ضمن قوات الأمن الأوكرانية، وقال إن القصف أسوأ من أي شيء شهده في منطقة دونباس، وحتى كمية الركام أكبر بكثير، علمًا بأن طول جبهة القتال في أوكرانيا 600 ميلًا ( حوالي ألف كيلومتر)، بينما طول قطاع غزة 25 ميلا ( حوالي 40 كيلومترًا)، مع كثافة سكانية مكتظَّة” [31].

لذا يعد توفير مساحة لتطهير غزة من الركام من أكبر التحديات التي ستواجه هذه العملية، إذ تتطلَّب العملية أن تخلو المساحة من السكان ، لتسهيل العمل، وهو ما قد يتطلَّب ترحيل السكان، ومعاناتهم مرة أخرى.

إن ما حدث وما زال يحدث من دمار عمراني، تسبَّب في إبادة جماعية على كافَّة المستويات، فعدد الشهداء فاق الأربعين ألفًا، وأكثر من مليون شخص أصبحوا بلا مأوى، وتعرَّض أكثر من 75 في المائة من سكان القطاع للتهجير[32]. وتعرَّض كل أهل غزة، وخاصة النساء والأطفال، وكبار السن، وذوي الإعاقة، لقدر كبير من الآثار التراكمية الكارثية على البيئة والعمران، فأثرت على صحتهم البدنية، والنفسية، والعقلية، بشكل يفوق الوصف، والتحمُّل لأيٍّ من البشر.

تحليل ورؤى مختلفة

نستقرئ من الأرقام والإحصاءات والخرائط السابقة، أن سياسة الاحتلال الصهيوني في تدمير العمران، من مبانٍ وطرق وبنية تحتية وأراض زراعية، هو جزء من إبادة الشعب الفلسطيني المرتبط بالمكان، ومسح كل مقومات وجوده. ومن ثم فرض سياسات الاحتلال، وخرائطه على أرض الواقع، التي بدورها تمسح وتبيد كل ما هو فلسطيني.

فالصور والخرائط توضح كيف مُسحت معظم معالم العمران في غزة. وقد ظهرت تلال من الركام في أماكن كانت منبسطة، وشوارع وطرقات اختفى أثرها. أما مخيمات اللجوء الثمانية الرئيسية في القطاع، كمخيم جباليا ، والشاطئ، والبريج، والمغازي، والنصيرات، ودير البلح،… إلخ، والتي كان يسكنها أكثر من ثلثي السكان، تعرَّضوا لقصف شديد، لدرجة أن بعض الجهات رأت أن الاحتلال يستهدفها بشكل خاص. وجدير بالذكر أن هذه المخيمات أكثر المناطق كثافة سكانية، وهي ذات كتل بنائية متلاصقة بطرقات ضيقة، كما أن غالبية سكان مخيمات غزة هم لاجئون من نكبة 1948، يعيشون بالفعل ظروفًا صعبة، لكنهم هم من يحملون رواية الحق الفلسطيني بالأرض، ولعل ظروفهم المعيشية الصعبة، تجعل فرصة خروج المقاومين، من بينهم، أعلى من مناطق أخرى.

وقد ذكرنا كيف قامت قوات الاحتلال بتحويل بعض الطرقات الضيقة، والمسارات المتعرجة، إلى مسارات مستقيمة واسعة، وجرفت ما حولها، لتسهل حركة دباباتها، وتسهل اجتياح وانتشار مدرعاتها وجرَّافاتها في الأرض. وهو سلوك ليس بجديد على الاحتلال، فقد قام بتطبيق هذه الاستراتيجية من قبل في عدوانه على المدن القديمة، والمخيمات في الضفة الغربية[33]. وهو أيضًا تكتيك نفَّذته السلطة الفرنسية لإعادة تخطيط باريس، بعد الثورة الفرنسية، لتسهيل الانتشار والقبض على الثوار، عند أي محاولة جديدة للثورة، رغم ادِّعاء السلطة الفرنسية وقتها، أن توسيع الطرق كان بهدف تحسين الظروف الصحية للمكان، وتوفير الإضاءة ، والتهوية الطبيعية، وتأسيس البنية التحتية، وجدير بالذكر أن هذا التخطيط المتعامد ذو الشوارع الواسعة، المنسوب لفترة الحداثة، عاد ليصبح ملهمًا لكثير من حركات إعادة تخطيط المدن المعاصرة.

الخلاصة:  (مقاومة العمران الحضري بالتوثيق ورسم خرائطنا)

يذكر موقع المفكرة القانونية أن الصور الجوية والخرائط مفتوحة المصدر تؤدِّي دورًا في توثيق الأحداث والتغيُّرات على الأرض، وتوفير معلومات حيوية للجهات المعنية. وفي سياق الحرب في غزة تساعد البيانات على رصد الأضرار، والتبليغ عن الانتهاكات ضد الأعيان المدنية، والهجمات ضد المنشآت المحمية بالقانون الدولي… ويمكن للصور الجوية أن توفِّر نظرةً أكثر شمولًا على المناطق المتأثِّرة نتيجة الأعمال العسكرية، ممَّا يسهِّل عملية تحديد الأحياء، والمباني المدمَّرة كلِّيًّا، أو جزئيًّا. كما تساعد إمكانية مقارنة الصور، قبل وبعد الأحداث، على فهم حجم الدمار، وتأثيره على البنية التحتية، والمناطق السكنية… علاوة على ذلك، تُعَدُّ الصور وسيلة لزيادة التبليغ عن انتهاكات حقوق الإنسان، في ظلِّ تعذُّر الوصول الآمن للفرق الميدانية إلى الأرض، وبالتالي تساهم في رفع مستوى الوعي والمناصرة لدى جمهور أوسع حول طبيعة ما يجري من أحداث في الميدان[34].

وكردِّ فعلٍ مقاومٍ لهذه الإبادة، يثمِّن المختصُّون عملية التوثيق لكلِّ ما تبقَّى من فلسطين التاريخية، وحتى ما دُمِّرَ ومُسِحَ، يتمُّ توثيقه من خلال وصف وشهادات من عايشها، أو بقايا صورها، ليعاد تخيُّلها، وإحياؤها من جديد. ويتمُّ التأكيد على ضرورة أخذ المعلومات من مصادر محلية فلسطينية موثوقة على أرض الواقع، كلما أمكن، وإننا نلفت النظر إلى أن هناك كثير من المشاريع التي يقوم بها الفلسطينيون منذ بداية الاحتلال، وحتى اليوم، لم تقف عند توثيق وكتابة روايتهم وتاريخهم فحسب، بل ورسم خرائطهم. ونؤكد هنا، على أهمية إشراك أهل المكان الأصليِّين في كافَّة مراحل العمل والبناء، واعتماد أطروحاتهم، دون الوقوف على رأي الداعمين من الخارج، أو المتخصِّصين، فهذا من شأنه أن يتيح تبادل المعرفة، والتعلُّم من خبراتهم المتراكمة عبر سنوات الاحتلال بالممارسة على أرض الواقع، فكما يقال “أهل مكة أدرى بشعابها”، وأهل فلسطين هم الأدرى بما يلبِّي احتياجاتهم، وما الذي يجب الحفاظ عليه، وما يتم تدويره، وما يجب التخلُّص منه. لذا فإن إشراك السكان، أهل المكان، في عملية إزالة المخلَّفات وآثار العدوان، وصولًا إلى عملية إعادة البناء بيد السكان الأصليِّين، هي أعلى درجات المقاومة. كما أن هذا النوع من المقاومة له مردودٌ إيجابيٌّ، ليس في إعادة العمران فحسْب، بل وإعادة الحياة، والأمل، وتحقيق التعافي لأهل المكان الأصليِّين .

لقد طوَّر أهل غزة على مدار سنوات الحصار، التي امتدَّت حوالي سبعة عشر عامًا، طرق البناء، بل وأبدعوا في موضوع الاستدامة في العمران، فمع شُحِّ دخول مواد البناء، لجأوا إلى رمل الأرض، فقاموا بتعبئة الرمل في أكياس، رصوها فوق بعضها البعض كالحجارة، لتُكون حوائط البيت، كما قاموا  بكسر وطحن أحجار البيوت التي هدمها عدوان الاحتلال المستمر، وأعادوا استخدامها في البناء من جديد. إن أطلال المباني هي ذكرى مؤلمة لذكريات ممسوحة، لكنها في فلسطين تتحوَّل، رغم العذابات، إلى أمل وفرصة جديدة للحياة. كأنهم يؤكدون أسطورة طائر الفينيق الفلسطيني، الذي يعيد إحياء نفسه من الرماد كل مرة يموت فيها.

وإن قراءة تاريخ الفلسطينيين خلال سنوات الاحتلال التي تجاوزت 76 عامًا تخبرنا أنه حين يهدم الاحتلال المباني الفلسطينية تظلُّ الأحجار حاضنة لهذه الذكريات في أطلالها، كما في كثير من القرى التي دُمِّرَتْ في 1948، وظلت حتى اليوم ممزوجة أطلالها بتراب الأرض وأشجاره، يزورها أهلها، الذين هُجِّرُوا قَسْرًا منها، وما زالوا يحلمون بالعودة إليها. ولعلنا نذكر صور رَدِّ الفعل الفلسطيني عند هدم الصهاينة البيوت، في ثورة الحجارة عام 1987، وكيف كان يلتقط الأطفال الحجر، الذي تحوَّل إلى سلاح مقاوم، و يقذفونه في وجه عدوهم. ولا تزال صورة الطفل “فارس عودة”، الذي أرعب الدبابة بحجر في يده، مطبوعة في ذاكرتنا، وقد شاع أنه كان له نصيب من اسمه، فهو الفارس الأعزل، إلا من حجر أرضه، هذا الحجر هو رمز التمسك بحق العودة، وها هو فارس اليوم يعود،  كطائر الفينيق، ليقاوم بشكل أقوى،  ليسترد أرضه ويعمِّرها بنفسه.

___________

هوامش

[1] انظر:

– مارك جارزومبيك – Mark Jarzombek: هو أستاذ تاريخ العمارة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وقد درس عمارة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

–  Fadwa Hodali (et al.), Gaza Reduced to 42 Million Tonnes of Rubble, What Will It Take to Rebuild, 16 August 2024, Accessed: 18 August 2024, available at: https://bit.ly/3ByiRgX

[2] للمزيد ارجع إلى كتاب: إيلان بابيه، التطهير العرقي في فلسطين، ترجمة: أحمد خليقة، (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2007). وفيه يذكر نجاح الحركة الصهيونية في تطبيق التطهير العرقي للفلسطينيين على أكثر من 80٪ من مساحة فلسطين من دون ردود عالمية، وهو ما زال مستمرًّا إلى اليوم  في غزة، ونراه بأعيننا.

[3] للمزيد ارجع إلى: صكوك حقوق الإنسان، مفوَّضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، 1996-2024، اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، تاريخ الاطلاع: 12 أغسطس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3zAiD8G

[4] انظر:

– الأمم المتحدة: دمار غزة لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، فرنسا 24، 3 مايو 2024، تاريخ الاطلاع: 24 يوليو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3N2moGT

– الأمم المتحدة: دمار غزة لم يُشهد منذ الحرب العالمية الثانية، العربية، 3 مايو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3N2moGT

[5] UNOSAT, Gaza Strip Comprehensive Building & Housing Unit Damage Assessment, 20 March 2024, Accessed: 10 September 2024, available at: https://unosat.org/products/3804

[6] فريق نوى ميديا للتحقيقات مفتوحة المصدر،خرائط الأضرار في غزة: أكثر من 65٪ من مباني القطاع وطرقه مدمَّرة، المفكرة القانونية، 25 يونيو 2024، تاريخ الاطلاع: 1 أغسطس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/4eBHbNa

[7] قناة الجزيرة، المكتب الإعلامي الحكومي في غزة يكشف عن حجم الدمار في القطاع، قناة الجزيرة على Youtube، 15 يونيو2024، تاريخ الاطلاع: 1 أغسطس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3TNcjkO

[8] تقييم مشترك للبنك الدولي والأمم المتحدة لأضرار البنية التحتية في غزة، مجموعة البنك الدولي، 2 أبريل 2024، تاريخ الاطلاع: 1 أغسطس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/4827aeZ

[9] الاحتلال ينسف مبنى جامعة الإسراء بغزة بعد 70 يومًا من تحويله ثكنة عسكرية، المركز الفلسطيني للإعلام، 18 يناير 2024، تاريخ الاطلاع: 1 أغسطس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3Bm1mk2

[10] فريق نوى ميديا للتحقيقات مفتوحة المصدر، خرائط الأضرار في غزة: أكثر من 65٪ من مباني القطاع وطرقه مدمَّرة، مرجع سابق.

[11] عمل اليونسكو في قطاع غزة/ فلسطين، قطاع غزة: تقييم الأضرار، موقع اليونيسكو، 17 يونيو 2024، تاريخ الاطلاع: 1 أغسطس 2024،متاح عبر الرابط التالي: https://www.unesco.org/ar/gaza/assessment

[12] إسرائيل دمرت أكثر من 200 موقع أثري وتاريخي.. ماذا بقي من تراث غزة؟، الجزيرة نت، 8 سبتمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 11 سبتمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3ZJMBSf

[13] Saint Hilarion Monastery/ Tell Umm Amer, UNESCO, 26 July 2024, Accessed: 4 August 2024, available at: https://whc.unesco.org/en/list/1749/

[14] إعلام البلدية، بلدية غزة تنشر قائمة الأضرار الأولية في 330 يوما من العدوان، موقع بلدية غزة، 1 سبتمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 11 سبتمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3XNfXfI

[15] فريق نوى ميديا للتحقيقات مفتوحة المصدر، خرائط الأضرار في غزة: أكثر من 65٪ من مباني القطاع وطرقه مدمَّرة، مرجع سابق.

[16] UNOSAT Gaza Strip Road Network Comprehensive Damage Assessment, UNITAR, 14 June 2024, Accessed: 4 August 2024, available at: https://unosat.org/products/3883

[17] تحقيق خاص للتلفزيون العربي اعتمادا على صور أقمار صناعية يكشف مراحل خطة الاحتلال في محور نتساريم، قناة العربي – أخبار على YouTube، 30 أبريل 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/4eCDVRG

[18] حرب غزة: إسرائيل ترصف طريقا بالأسفلت في محور فيلادلفيا على الحدود مع مصر| بي بي سي تقصي الحقائق، قناة BBC News عربي على YouTube، 6 سبتمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/4eKgV3d

[19] الأمم المتحدة: الحرب في غزة خلَّفت ضررًا بيئيًّا كبيرًا، الشرق الأوسط، 18 يونيو 2024، تاريخ الاطلاع: 2 سبتمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3Y1M3Ws

[20] المرجع السابق.

[21] UNOSAT Gaza Strip Road Network Comprehensive Damage Assessment, Op. cit.

[22] UNOSAT – FAO, Gaza Strip Cropland Damage Assessment – July 2024, UNITAR, 31 July 2024, Accessed: 7 August 2024, available at: https://unosat.org/products/3905

[23] الأمم المتحدة: الحرب في غزة خلَّفت ضررًا بيئيًّا كبيرًا، مرجع سابق.

[24] Jason Burke, Rebuilding homes in Gaza will cost $40bn and take 16 years, UN finds, The Guardian, 2 May 2024, Accessed: 6 September 2024, available at: https://bit.ly/4eEQ88A

[25] تقييم مشترك للبنك الدولي والأمم المتحدة لأضرار البنية التحتية في غزة، مرجع سابق.

[26] مسؤولون أمميون يتحدثون عن مخاطر الألغام والذخائر غير المنفجرة في غزة والسودان وأوكرانيا، موقع الأمم المتحدة، 30 أبريل 2024، تاريخ الاطلاع: 3 أغسطس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3NbzHVr

[27] Gaza’s unexploded ordnance could take 14 years to clear, UN News, 26 April 2024, Accessed: 1 August 2024, available at: https://bit.ly/4eJrEuQ

[28] Fadwa Hodali (et al.), Gaza Reduced to 42 Million Tonnes of Rubble, What Will It Take to Rebuild, Op. cit.

[29] جملة تردَّدت كثيرًا على لسان أهل غزة ومن زارها، ظهرت مرارًا على وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى لسان مراسل العربي “باسل خلف”،  وطبيب كويتي في المستشفى الأوروبي بخان يونس ، ومراسل الجزيرة في المستشفى الإندونيسي.

[30] الأمم المتحدة، مسؤولون أمميون يتحدثون عن مخاطر الألغام والذخائر غير المنفجرة في غزة والسودان وأوكرانيا، مرجع سابق.

[31] المرجع السابق.

[32] تقييم مشترك للبنك الدولي والأمم المتحدة لأضرار البنية التحتية في غزة، مرجع سابق.

[33] للمزيد ارجع إلى كتاب: إيال وايزمان، أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي، ترجمة: باسل وطفة، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2017).

[34] فريق نوى ميديا للتحقيقات مفتوحة المصدر، خرائط الأضرار في غزة: أكثر من 65٪ من مباني القطاع وطرقه مدمَّرة، مرجع سابق.

  • فصلية قضايا ونظرات – العدد الخامس والثلاثون – أكتوبر 2024

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى