أولى حروب القرن الواحد والعشرين ووضع الأمة الإسلامية: بروز التحديات الحضارية الثقافية وشروط استمرار حوار الحضارات
مقدمـة 1:
إذا كانت دراسات سابقة 2 قدَّمت رؤية تشخيص حال التحديات التي تواجه الأمة في نهاية القرن العشرين، فإن أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ وما تلاها حتى الآن (نهاية نوفمبر ٢٠٠١) قد أكدت هذه التحديات، وكشفت النقاب عنها سافرة واضحة، حيث أضحى وضع الأمة الإسلامية في النظام الدولي مع بداية القرن الواحد والعشرين رهين عواقب السياسات الأمريكية والغربية التي أعقبت الهجمات على واشنطن ونيويورك من ناحية، كما أضحى هذا الوضع من ناحية أخرى ساحة تتجدد حولها وعليها اختبارات مقولات صراع الحضارات ومقولات التهديد الإسلامي للغرب، في مقابل مقولات الحرب الصليبية والمؤامرة على الإسلام والمسلمين.
وتبرز من قلب جميع هذه السياسات وجميع هذه الرؤى والمدركات المتبادلة الأبعاد الثقافية الحضارية للعلاقات بين عالم الغرب وعالم المسلمين جلية واضحة، فهي لا تنفصل عن التفكير في أسباب الهجمات على الولايات المتحدة، أو عن مبررات ردود الفعل الأمريكية على هذه الهجمات، أو عن طبيعة السياسات الأمريكية وعواقبها؛ ذلك لأن أولى حروب القرن التي دشنها الهجوم على واشنطن ونيويورك ثم غزو أفغانستان قد استحضرت معنى “الصراع الحضاري” بعد أن دشنت الحرب الباردة ” الصراع الأيديولوجي”، وبعد أن دشنت الحربان العالميتان الأولى والثانية ” صراع القوى” خلال القرن العشرين. إذن ما تكييفنا لطبيعة اللحظة التاريخية الراهنة؟ وكيف تكشف عن الأبعاد الحضارية للتحديات التي تواجه الأمة الإسلامية؟
فعن طبيعة اللحظة التاريخية الراهنة منذ أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١. فإنها تبين أزمة عالمية ذات أبعاد حضارية وثقافية، وهي أزمة ذات وجهين: وجه الهجوم على الولايات المتحدة، ووجه ما يسمى الحرب ضد الإرهاب الدولي.
إن الهجوم على الولايات المتحدة يعد أخطر حدث منذ نهاية الحرب الباردة. فلقد أصاب في الصميم كل ما تمثله الولايات المتحدة منذ نهاية هذه الحرب، وهو نمط جديد من أعمال العنف المسلح ذو دلالة حضارية. فلقد وقع على أهم رمزين من رموز القوة الأمريكية العالمية، أي القوة المالية والقوة العسكرية، بل هما أهم رموز الحضارة الغربية وقيمها المادية عن الرفاهية وعن الأمن. ولهذا فلقد تم وصف هذه الهجمات بأنها غير مسبوقة، وغير متوقعة، وأنها كارثة قومية أمريكية. ومن ناحية أخرى، فلقد جاءت الهجمات من فواعل دولية جديدة هي قوى الإرهاب الدولي، والذي تصفه الولايات المتحدة، بأنه عدو جديد وغير محدد الهوية.
أما الحرب على أفغانستان، وهي الحلقة العسكرية المفتوحة في حرب الولايات المتحدة على ما أسمته الإرهاب الدولي، فهي رابع حرب تخوضها الولايات المتحدة خلال عقد واحد، وذلك بعد حرب الخليج وبعد التدخل في الصومال، ثم البوسنة، ثم الحرب حول كوسوفا.
ولقد طرحت جميع هذه الحروب حيال تفجرها قضية العلاقة بين الإسلام والغرب، ووضع الإسلام والمسلمين في النظام الدولي، ومن ثم فإن هذه الصراعات المتفجرة – وجميعها ذات جذور تاريخية – قد حملت دلالات ثقافية وحضارية هامة، أحاطت بها وتوّلدت عنها أطروحات عن التهديد الإسلامي للغرب من ناحية، وأطروحات المؤامرة على الإسلام والمسلمين من ناحية أخرى. كما أثارت كل من هذه الحروب جدالات وخلافات هامة بين التيارات السياسية المختلفة، كما أثارت انقسامات في الرؤى والمدركات حول وضع العامل الحضاري والثقافي – وفي قلبه الدين – بين أسباب اندلاع هذه الحروب ونمط إدارتها وعواقبها ونتائجها.
ومن ثم تأتي أحداث ١١ سبتمبر ثم حرب أفغانستان لتمثل قمة ما وصل إليه منحنى الرؤى المتبادلة بين عالم المسلمين وعالم الغرب، ومنحنى السياسات الغربية تجاه الأمة خلال العقد الأخير من القرن العشرين، وبذا تصبح “أولى حروب القرن الجديد” بمنزلة مفترق طرق خطر بالنسبة لوضع الأمة الإسلامية في النظام الدولي. فلقد أضحت محك اختبار قوي وتحديًا شديد الخطورة للعلاقة بين أمريكا والإسلام في داخلها وخارجها، فمهما حرصت أمريكا على اعتبار “الإرهاب الدولي” – وليس الإسلام والمسلمين هو عدوها، ومهما كان الفاعل الحقيقي للهجمات على نيويورك وواشنطن، فستظل هذه اللحظة التاريخية الراهنة مفترق طرق خطيرًا تعبر معه الأمة بوابة القرن الواحد والعشرين، وقد كشفت التحديات الحضارية الثقافية عن وجهها الحقيقي. ومن هنا فإن شدة الوطأة على الأمة ليس لما تواجهه من تحديات سياسية وعسكرية، ولكن لما أضحت تواجهه من تحديات حضارية ثقافية. وهي التحديات التي تبرز لنا سواء على صعيد أسباب الهجوم على الولايات المتحدة أو مبرراته، أو سواء على مستوى الإعداد للتحالف الدولي ضد الإرهاب، أو خلال العمليات العسكرية في أفغانستان، والمعارك الدبلوماسية المحيطة بها.
ولذا لا عجب أن مصطلحات حرب صليبية، حرب حضارية، صراع حضاري، قد تطايرت هنا وهناك مكونة حولها دوائر نقاشية على المستويات الرسمية أو الشعبية على الجانب الإسلامي أو الجانب الغربي.
بعبارة أخرى أضحى الوضع المتفجر منذ ١١ سبتمبر ٢٠٠١، ساحة لاختبار مقولات صراع الحضارات والتهديد الإسلامي للغرب، والمؤامرة على الإسلام والمسلمين. ولذا نجد أن الرؤى والمدركات المتبادلة من ناحية والسياسات النابعة منها من ناحية أخرى محمّلة بأبعاد ثقافية، للعلاقة بين عالم الغرب وعالم المسلمين، يقع في قلبها البعد العقيدي والديني.
فلقد أضحت هذه الأبعاد (أي الأبعاد المتصلة بآثار اختلاف الثقافة والحضارة على اختلاف الرؤى والقيم وقواعد السلوك والأخلاق، وعلى اختلاف الرؤية للعالم ومعايير التقييم ودوافع السلوك وأسس الهوية) ذات تأثير في المستويات الآتية: أسسًا جديدةً لتقسيم العالم، محركًا للتفاعلات الدولية ومحددًا لنمطها ولحالة النظام الدولي؛ أداة من أدوات السياسة وموضوعًا من موضوعاتها؛ محددًا لخطاب النخب والقاعدة، عنصرًا تفسيريًا أو تبريرًا للتحالفات، مكونًا للقوة.
هذا وتجدر الإشارة إلى أنه ليس المقصود بالأبعاد الحضارية تلك المتصلة بالاختلاف بين حضارتين فقط، ولكن أيضًا بالتنويعات داخل الدائرة الحضارية الواحدة. كما أن الاهتمام بهذه الأبعاد الحضارية لأحداث سبتمبر ٢٠٠١ وما بعدها لا يعني الانطلاق من تبني مفهوم الصراع الحضاري مع الغرب، أو الانزلاق في الدفاع عن الحوار الحضاري، ولكن تعني الاعتراف بأهمية الأبعاد الحضارية لهذه الأحداث وضرورة دراستها على مستويات مختلفة.
خلاصة القول: إن الاقتراب من الهجمات على الولايات المتحدة، ومن الحرب ضد “الإرهاب الدولي” من خلال اقتراب ثقافي حضاري، يعني أمرين: من ناحية يعد استكمالًا لاختبار وضع الأمة في النظام الدولي خلال العقد الأخير من القرن العشرين، وتأكيدًا للتغيّر في طبيعة التحديات التي نستهدفها. ومن ناحية أخرى: الكشف عن قضايا فكرية ومعرفية هامة برزت من ثنايا متابعة الرؤى والسياسات الغربية والإسلامية المتبادلة منذ أحداث سبتمبر ٢٠٠١.
فمن واقع متابعة هذه الرؤى وهذه السياسات يمكن تسجيل مجموعة من الملاحظات الأولية التي تستدعي – بطريقة أو بأخرى – مستويات التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية منذ أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١، والتي تمثل بدورها الإطار الذي يجري في ظله ما يسمى “حوار الحضارات”
أولًا – الخطاب الغربي وسياساته
الأبعاد الحضارية على مستوى الخطاب الغربي: لم تعد إدارة الفجوة بين الشمال والجنوب عملية ذات أبعاد اقتصادية أو عسكرية فقط، ولكن أسفرت أيضًا عن أبعادها الحضارية الثقافية. وكان مؤتمر مكافحة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، محطة اختبرت ما أضحت عليه هذه الفجوة الحضارية الثقافية من عمق. ثم أضافت أحداث سبتمبر ٢٠٠١ وما بعدها دلالة أخرى أكثر عمقًا. وهي الدلالات النابعة من كيفية إدراك المسؤولين الأمريكيين لمصادر تهديد الأمن الأمريكي، ولمصادر تشكيل تحالفات السياسة الأمريكية، ودوافع هذه التحالفات من ناحية، وطبيعة إدراك المسلمين لهذه التحالفات من ناحية وطبيعة إدراك المسلمين لهذه الأمور من ناحية أخرى.
ويعد هذا الإدراك المتبادل تعبيرًا عن طبيعة المرحلة الراهنة من تطور ثنائية نحن وهم، نحن والآخر، وهي الثنائية الأكثر ديمومة بين مدركات النظام العالمي، والتي تحولت – عبر قرون ممتدة إلى قانون صارم للثنائية التي تحكم الرؤية للعالم، والتي تعد في جانب كبير منها نتاجًا للثقافة وفي قلبها “الدين”. ولقد تطورت التعبيرات عن هذه الثنائية على صعيد الفكر الغربي والفكر الإسلامي على حد سواء. ولقد انتقلت – على الصعيد الغربي من الثنائية الدينية (مسيحيون / كفرة)، إلى ثنائيات علمانية متعاقبة (متحضرون / برابرة، متقدمون / متخلفون، شمال / جنوب، وأخيرًا أخيار / أشرار).
وإذا كانت الرؤى المتبادلة والإدراك المتبادل بين المسلمين والغرب، قد تطورت مع تطور علاقاتهم وتفاعلاتهم، فإن طبيعة المرحلة الراهنة من هذا التطور – منذ أحداث سبتمبر ٢٠٠١ – قد أكدت بروز وزن الأبعاد الثقافية الحضارية.
وحيث إن هذه الرؤى والمدركات المتبادلة ذات طبيعة معقدة ومتشعبة، وتتضمن العديد من المستويات الرسمية وغير الرسمية، فسنكتفي في هذا المقام بالتوقف عند بعض الملاحظات الأولية الاستطلاعية حول البعد الثقافي الحضاري في إدراك الغرب لمصادر التهديد، وكذلك في إدراك إسرائيل والدول العربية والإسلامية.
(أ) فإذا كان الخطاب الرسمي وغير الرسمي في الغرب، لم يخل طوال العقد الماضي من الإشارة إلى المخاطر التي تتعرض لها الحضارة الغربية، الناجمة من أوضاع الجنوب، وعلى رأسها “الحركات الأصولية المتطرفة”، أو “الإرهاب”، ومع ضرب قائدة العالم الغربي في ١١ – ٩ – ٢٠٠١، لم يكن غريبا أو مفاجئًا أن الأبعاد الثقافية والحضارية قد غلبت على الخطابات الرسمية وغير الرسمية الأمريكية والغربية عامة. فنجد أن هذه الخطابات – سواء وردت في تصريحات رسمية، أو تعليقات وتحليلات مكتوبة ومسموعة ومرئية، وعلى رأسها أول تصريحات بوش، عقب الهجمات مباشرة، وتصريحاته المتوالية خلال العشرة أيام التالية، وخاصة في خطابه أمام الكونجرس – تصف الهجمات بأنها حرب ضد الديمقراطية والحرية؛ ضد العالم المتحضر؛ ضد قيم وقواعد الحضارة الغربية، وبأنها حرب بين الخير والشر، وبين الحرية والخوف. ومن ناحية أخرى وصفت هذه الخطابات الحرب خلال الإعداد لها بأنها حرب القرن الحادي والعشرين لحماية الحضارة الإنسانية ضد أعدائها؛ حرب ضد كل من يرفض قيم الحضارة الغربية ومبادئها في الديمقراطية والحرية؛ حرب ضد عدو جديد من دون وجه ومن دون حدود. وعند اندلاع الحرب على أفغانستان كان من نماذج الخطاب تلك المقولات عن كون الحرب ليست دفاعًا عن أمريكا فقط ولكنها دفاع عن العالم الحر ضد القهر والشر. وكذلك المقولات عن أن الحرب هي دفاع عن شعب أفغانستان ضد من يقهرونه، كما سبق الدفاع عن مسلمي الكويت والصومال وكوسوفا.
من إذن يمثل مصدر التهديدات؟ وإلى من تتجه الحرب الشاملة ضد الإرهاب؟
على الرغم من التأكيدات الرسمية الأمريكية والغربية يجب عدم الخلط بين الإسلام والإرهاب، أو بين المسلمين والعرب وبين الإرهابيين، فإنها لم تكن إلا تأكيدات ذات طابع تكتيكي تحركها دوافع عدة، على رأسها القلق تجاه قضية الاندماج الداخلي، سواء في المجتمع الأمريكي أو بعض مجتمعات أوروبية؛ ومن ثم الحاجة إلى تأمين التماسك خلال الأزمة. ومما لا شك فيه أن قضية التعددية الثقافية والدينية في هذه المجتمعات قد زادت أهميتها وخطورتها في الوقت نفسه، خوفا من أن تصبح مصادر التهديد من الداخل، وليس من الخارج فقط، وخاصة في ظل التساؤلات حول التحديات التي ستفرضها الإجراءات الأمنية والاستخبارية الجديدة على الطابع المدني الديمقراطي لهذه المجتمعات.
ومن ناحية أخرى، كانت هذه التأكيدات تمثل مخرجًا لبعض النظم العربية والإسلامية، التي لا بد من تعبئة مشاركتها في التحالف الدولي لتوفير غطاء شرعي عربي وإسلامي لهذه الحرب الجديدة.
وعلى الرغم من هذه التأكيدات، وجدنا أن العرب والمسلمين هم المتهمون الأساسيون منذ البداية، وقبل أن تكتمل التحقيقات وتعلن النتائج. وأثارت هذه التحقيقات – ومازالت – كثيرًا من علامات الاستفهام في ظل التخبط الذي يحيط بقائمة المشتبه بهم التي تم الإعلان عنها، وفي ظل استبعاد المراقبين ووسائل الإعلام الغربية، مناقشة احتمالات أخرى حول منفذي الهجمات ومدبريها، والمقصود بذلك بالطبع قوى أخرى، مثل: ميليشيات اليمين المتطرف الأمريكي؛ منظمات الجريمة المنظمة والمخدرات، والموساد… إلخ.
وأخيرًا كان إعلان الولايات المتحدة عن هدف محاربة ” الإرهاب الدولي” باعتباره العدو ومصدر التهديد، بمنزلة اختيار استراتيجي يثير من الغموض أكثر مما يطرح من الحلول، وعلى أساس أنه عدو غير محدد الهوية والحدود لا يهدد الولايات المتحدة فقط، ولكن يهدد العالم بأسره بما فيه العالم الإسلامي.
وفي المقابل لم تخل أوساط الرأى العام والنخب الفكرية الغربية من دوائر لم تخف تحيزها ضد الإسلام والمسلمين، وسارعت إلى توجيه الاتهام المباشر لهم واتهامهم بالإرهاب والعنف.
(ب) أما عن إسرائيل فلقد اجتهدت منذ بداية الأحداث لتتطابق مع المعسكر المهدد؛ أي معسكر العالم الحر، الديمقراطي، المتمدّن، ولتأكيد أن الصراع العربي – الإسرائيلي ليس مسؤولًا عن تصعيد العداء للولايات المتحدة، وأن إسرائيل عرضة لـ “الإرهاب الفلسطيني الإسلامي” مثلها مثل الغرب، وأن العرب والمسلمين مصدر التهديد الأساسي للغرب، ناهيك بالطبع عن استغلال ضباب نيويورك وواشنطن لتصعيد العدوان على الشعب الفلسطيني، وانتهاك ما تبقى من ملامح الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة، بل والتحرك نحو تصفيته.
وإذا كان بعضهم قد يرى أن المؤشرات القولية السابقة ليست دليلًا على أن الصراع الحضاري هو محرك السياسات الأمريكية، وذلك على أساس أن العداء للإسلام موجود دائمًا وأن العنصرية الأمريكية موجودة دائمًا، ولأن الولايات المتحدة تظهر دائمًا – في فكر نخبها – باعتبارها ممثلة الخير في مواجهة الشر؛ ولأن المواقف الأمريكية من العرب والمسلمين ليست لصفتهم هذه، ولكن للاعتبارات المتصلة بالمصالح، إلا إنه يمكن الرد على هذا الاتجاه بالقول: إن البعد الحضاري لم يكن غائبًا البتة عن الرؤى الغربية حول الإسلام والمسلمين أو عن سياساتهم.
فإن الاختلافات بين الرؤى الرسمية الغربية، التي اتصفت بالبراجماتية التي ترفض وجود علاقة بين السياسات العدائية للعرب والمسلمين، وبين الموقف المعادي من الإسلام، وبين الرؤى غير الرسمية القائلة، أو الرافضة لوجود تهديد إسلامي للغرب، هذه الاختلافات ليست جديدة ولكنها من صميم تقاليد الفكر الغربي المعاصر تجاه عالم الإسلام والمسلمين، بل تمثل استمرارية وتجديدًا للفكر الاستشراقى. ومن ثم فهي تأخذ في اعتبارها وبعمق عامل البعد الحضاري الثقافي وتتأثر به، فهي لا تعتبر العالم الإسلامي مصدر تهديد لاعتبارات سياسية أو اقتصادية فقط، ولكن لاعتبارات قيمية وثقافية أيضًا هذا فضلًا عن المخاوف من تزايد الوجود الإسلامي في الغرب.
ومع ذلك تظل اللحظة التاريخية الراهنة – بعد الهجمات على نيويورك وواشنطن – محكًا لاختبار ولتحدٍّ قوي للعلاقة بين أمريكا والإسلام سواء في داخلها أو خارجها. لأن هذه الهجمات قد كسرت قاعدة عدم وجود ميراث تاريخي مثقل بالعداوة المباشرة بين الولايات المتحدة وعالم المسلمين يناظر الإرث التاريخي مع الغرب الأوربي. ومن ناحية أخرى لم تكن سمات ثقافة العداء تجاه الإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة متصلة – حتى الآن – بتأثير المهاجرين كما في أوروبا.
(ج) ولكن هل يعي المسلمون ما يجري؟ كيف أدركوه؟ وكيف عبّروا عنه؟ إن وصف الحيرة والالتباس هو الذي يصدق على وصف حالة الخطابات الرسمية وغير الرسمية العربية كيف؟ الإجابة تأتي لاحقًا.
خصائص السياسات الأمريكية (الأوروبية): خبرة جهود تشكيل التحالف الدولي ضد الإرهاب وإدارته قبل بدء الحرب وخلالها
تغلب على توجه السياسة الأمريكية الاتجاه الداعي إلى القيام بحرب شاملة وممتدة، متعددة الأدوات والمستويات، والتي قد تستغرق عدة أعوام. ولذا لم تكن ساحة الحرب على أفغانستان التي بدأت في ٧ / ١٠ إلا الساحة الكبرى الأولى لهذه الحرب. وهي التي سرقت الانتباه من جبهات أخرى أخذت السياسة الأمريكية في التحرك على صعيدها باسم محاربة الإرهاب الدولي.
وعلى الرغم من التأكيدات الرسمية الغربية أن الإسلام والمسلمين ليسوا هم المستهدفين بهذه الحرب، إلا إنه لا يمكن القول إلا أن المسلمين هم المستهدفون بالفعل، حتى ولو كانوا من وصفوا بأنهم المسلمون الأشرار. وتتمثل ساحات هذا الاستهداف في ثلاثة أساسية وهي: استخدام القوة العسكرية ضد أفغانستان، والتهديد باستخدامها ضد دول أو تنظيمات عربية إسلامية أخرى، والحركات الإسلامية بروافدها المختلفة، مسلمي الغرب.
ويظل السؤال الذي يهمنا هو ما هي الأبعاد الحضارية التي تطرحها هذه الساحات؟ وما الذي تحمله من تحديات للأمة، دولًا وشعوبًا مسلمة وجماعات مسلمة في الغرب؟
(أ) التحالف الدولي من أجل الحرب ضد أفغانستان
بهذا الصدد يمكن أن أسجل الملاحظات الآتية:
أ – على الرغم من إدانة كل الدول للهجمات ضد المدنيين الأبرياء، وإدانة الإرهاب الدولي، وتأكيد الحاجة للتعاون الدولي للقضاء عليه، على الرغم من إعلان دول عديدة مساندتها الكاملة للولايات المتحدة فيما ستقدم عليه ردًا على هذه الهجمات، يمكن أن نلاحظ أمرين، سواء على الصعيد الأوربي أو الآسيوي أو العربي والإسلامي، ولو بدرجات مختلفة:
– الأمر الأول هو نوع من التردد والحذر من مساندة استخدام القوة العسكرية ضد أفغانستان، وذلك استنادًا إلى عدة اعتبارات، من أهمها: ضرورة التأكد من مسؤولية أسامة بن لادن، أو الأضرار الشديدة التي ستحيق بالمدنيين الأفغان الذين يرزحون تحت خط الفقر، أو مخاطر الانزلاق الأمريكي في مستنقع أفغانستان، أو مخاطر اتساع نطاق استخدام القوة العسكرية على نحو يهدد بحرب إقليمية.
– والأمر الثاني هو نوع من الاتهام – الضمني أحيانًا والصريح أحيانًا أخرى – بأن السياسات الأمريكية العالمية مسؤولة عن إثارة العداء ضد الولايات المتحدة، وأن على الولايات المتحدة أن تتأنى في حساباتها وتحركاتها؛ حفاظًا على السلام العالمي.
ب – على الرغم من أن إسرائيل قد أعلنت منذ الساعات الأولى بعد الهجمات، عن الضرورة الملحة لتكوين تحالف دولي ضد الإرهاب، للدفاع عن الحضارة الغربية والعالم الحر، وحيث تصاعدت الأسئلة لاحقا عن كيفية اشتراك دول عربية وإسلامية في تحالف تشارك فيه إسرائيل، فإننا نجد تصريحًا أمريكيًا – على لسان وزير الخارجية – بأن إسرائيل لن تشارك في هذا التحالف. وبالطبع فإن المقصود هو التحالف العسكري لتوجيه ضربة لأفغانستان، وليس التحالف على أصعدة أخرى قائمة بالفعل بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وعلى رأسها التحالف ضد الحركات الإسلامية التي يسميها الطرفان “الحركات الأصولية الإسلامية” أو “الإرهاب الإسلامي”. كما أن إسرائيل تشارك أطرافًا أخرى – مثل تركيا، والهند، وروسيا، والصرب – في تحالفات ضد قوى إسلامية أخرى.
ويذكرنا هذا السيناريو بسيناريو التحالف الدولي ضد العراق في ١٩٩١. والجدير بالتسجيل هنا أن إسرائيل تجني حتى الآن ثمار تحالف لم تشترك فيه منذ عشر سنوات، وهاهي تجني منذ الآن ثمار تحالف جديد يتم تشكيله؛ ولذا فلا بد أن يكون مثارًا بقوة الآن على الصعيد العربي والإسلامي – ما إذا كان لهذه المشاركة العربية والإسلامية مردود إيجابي على القضايا المصيرية للأمة الإسلامية: الداخلية منها أو الدولية أو البينية.
وفي حين أعلنت إسرائيل وضعها القواعد الجوية الإسرائيلية تحت تصرف الولايات المتحدة، فإن عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية أعلن في ٢١ – ٩ – ٢٠٠١ أن الدول العربية لا يمكن أن تشارك في تحالف تشترك فيه إسرائيل.
ج – إن الولايات المتحدة لم تكن بسبيل تعبئة مساندة دولية عارمة نابعة من إرادة حرة في كل الحالات، ولكنها في الواقع قامت بممارسة ضغوط وتهديدات مباشرة وغير مباشرة على بعض الأطراف، ملوحة أحيانًا بالجزرة، وملوحة أحيانًا أخرى بالعصا؛ ولذا فإن آليات تشكيل هذا التحالف وطبيعته ونتائجه، أثارت أكثر من تساؤل حول هيكل النظام الدولي الجديد وحقيقة القوة الأمريكية: هل هي قوة صلدة تستطيع إجبار الجميع على قبول ما تريده؟ أم هي قوة مرنة تستطيع الإقناع بقبول ما تريده؟ بعبارة أخرى: هل ستؤكد أمريكا انفرادها بوضع القوة العظمى الوحيدة؟ أم ستتواتر المؤشرات على تآكل هذا الوضع نتيجة تراكم التحديات أمامه؟
وهنا يمكن توجيه النظر إلى الحالات الآتية: حالة باكستان وما يثيره وضعها الخاص من إشكاليات أمام قبول رئيسها التحالف المباشر العسكري لتوجيه الضربة ضد أفغانستان، حالة دول مثل مصر والسعودية وإندونيسيا، وتعبئة تحالفها غير المباشر الذي يتمثل في التعاون المالي أو الاستخباراتي أساسًا (فضلا عن توظيف القواعد الأمريكية في الخليج)، حالة الصين وروسيا والهند وإيران، وعدم تعبئة المعارضة المفتوحة للعمليات العسكرية أساسًا، حالة الاتحاد الأوروبي وتعبئة تحالفه المشروط.
خلاصة القول بهذا الصدد ودلالته بالنسبة للأمة الإسلامية:
١ – إن المرحلة الحالية – في نظر إدارة بوش – تمثل لحظة اختيار صعب وحاسم بالنسبة للجميع، اختيار “أن تكون مع أمريكا أو ضدها”، هكذا قالها بوش، في خطابه أمام الكونجرس. وهي، أكثر من ذلك، لحظة تدشين لمرحلة تقسيم جديدة للعالم. وإذا كانت الدول الكبرى تقدر على المناورة حول شروط هذه الاختيارات، فإن هناك بعض الدول التي تعلن أوضاعها أنه لا سبيل أمامها للاختيار؛ لأن التحالف مفروض عليها أرادت أم لم ترد؛ ولذلك لا عجب أن تجتهد مثل هذه الدول – وهي إسلامية – لإيجاد المبررات لإضفاء شرعية على “اختياراتها”، وعلى رأس هذه المبررات ضرورة الالتزام بمتطلبات “التعاون الدولي” ضد “الإرهاب”، وفقًا لمقررات “الشرعية الدولية”، متناسية أنه تعاون في مواجهة دول وشعوب إسلامية ستتعرض لضربات عسكرية بقيادة أمريكية، وليس ما يسمى الشرعية الدولية.
٢ – إن كل دولة إسلامية تبنت موقفها من عملية تشكيل التحالف بشكل فردي، ولم نجد أية مؤشرات عن مواقف جماعية إسلامية تجاه هذه التطورات الخطيرة التي تمس الأمة الإسلامية بصورة واضحة. فإذا كان الناتو قد اجتمع، وكذلك الاتحاد الأوروبي، بل منظمة الدول الأمريكية، في اجتماعات استثنائية، فلم ترد سريعًا بادرة عن إمكانية انعقاد قمة طارئة للجامعة العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي، هذا على الرغم من أن العرب والمسلمين هم المستهدفون الأساسيون سواء بالإجراءات العسكرية أو الأمنية أو الاقتصادية أو الدبلوماسية. حين اجتمعت القمة الإسلامية الطارئة – بعد شهرين من الهجمات، أثارت نتائجها الواهية الكثير من الانتقادات والهجوم.
٣ – إن الأمر الآن أكثر خطورة مما كان عليه خلال حرب الخليج ١٩٩١، أو خلال حرب الناتو ضد الصرب ١٩٩٩، وهما حدثان – على ما بينهما من اختلافات في السياق المكاني – أثارا الجدل حول مشروعية وشرعية مساندة التحركات الأمريكية تجاههما، فالآن نجد أن الولايات المتحدة خصم أساسي ومباشر، كما أن الائتلاف الذي جرى إعداده ليس لعقاب دولة مسلمة لاعتدائها على دولة مسلمة أخرى – كما احتجت بذلك بعض المواقف في بداية التسعينيات – ولكن الوضع الآن يتصل بعملية أمريكية لضرب دولة مسلمة، باعتبارها مؤيدة للإرهاب وفقًا لمفهوم الولايات المتحدة وحلفائها وعلى رأسهم إسرائيل، والاستعداد لضرب دول وأهداف عربية وإسلامية أخرى.
لذا لا عجب أن ذرت الرياح بيانات طالبان وقادة الجماعة الإسلامية في باكستان القاضية بعدم شرعية مساعدة الولايات المتحدة ضد دولة إسلامية، كما لا عجب أيضًا أن تذرو الرياح الآراء الداعية الولايات المتحدة لأن تتأنى في اتخاذ قراراتها وأن تتجه نحو خيارات أكثر سلمية. ومن هذه الآراء تلك التي صرّح بها الرئيس المصري مبارك، قبل بداية الحرب موضحًا أن التهم لم تثبت بعد على أسامة بن لادن وطالبان، ومن ثم فإن الضربة العسكرية الأمريكية يجب أن تتأنى حتى لا تودي بحياة المدنيين الأبرياء.
د – كانت التحركات العسكرية الأمريكية المنفردة الضخمة في جميع أرجاء العالم، هي بالطبع الاستجابة الطبيعية والمتوقعة من جانب الدولة العظمى، التي تعرض أمنها لاختبار جاد مع الهجمات القاتلة على رمزي قوتها: المال والقوة العسكرية. ولكن يظل السؤال الآتي يفرض نفسه بإلحاح: هل الهدف الوحيد هو الاستعداد لاستئصال أسامة بن لادن وتنظيمه ونظام طالبان الذي يؤويه؟ أم أن هناك أهدافا أخرى حقيقية تستدعي كل هذه الاستعدادات العسكرية الجارية وحشد ذلك التحالف؟ أعتقد أنه يجب عدم البحث عن إجابة لهذا السؤال المزدوج في اتصاله المباشر بما يُسمى مكافحة الإرهاب، ولكن يجب النظر إليه في سياق الإستراتيجية الأمريكية العالمية بعد نهاية الحرب الباردة، وموضع مكافحة الإرهاب منها، وما يتصل بذلك من أحاديث التدخلات الدولية من أجل حقوق الإنسان والديمقراطية. إن الخبرتين السابقتين للاستخدام الأمريكي للقوة العسكرية ضد العراق، وضد صربيا خلال التسعينيات، تقدمان لنا دلالات شديدة الوضوح، وهي أن الولايات المتحدة لا تحرك القوات الضخمة تحت غطاء دولي لتحقيق أهداف محدودة (مثل تحرير الكويت أو حماية ألبان كوسوفا) فقط، ولكن تكون تلك الأخيرة مجرد منطلق لإعادة تشكيل
التوازنات الإقليمية في المناطق المعنية، ولاختبار التوازنات العالمية حولها، بما يحقق حماية المصالح الإستراتيجية الأمريكية وتحقيق الأهداف المرتبطة بها وتدعيمها. ولهذا، وعلى ضوء استدعاء دلالات هاتين الخبرتين، يمكن القول: إن العمليات العسكرية ضد أفغانستان إنما يحركها ويرتبط بها قضية التوازنات الدولية في آسيا، ووضع العامل الإسلامي في هذه التوازنات؛ ولذا تفرض مجموعة من القضايا نفسها على تحليلنا الراهن، وعلى متابعتنا للتطورات مع تنفيذ العمليات وبعدها، وهنا يمكن أن نطرح الأسئلة الآتية:
– لماذا قدّمت جمهوريات آسيا الوسطى وخاصة أوزبكستان خدماتها اللوجسيتيكية للولايات المتحدة؟ ومقابل ماذا؟ وما أثر هذا في تزايد النفوذ الأمريكي مقابل الروسي؟ هل يمكن أن تتجدد الحرب الأهلية في طاجكستان تحت اعتبارات المساندة مع حكومة طالبان من جانب الجماعات الإسلامية الطاجكية؟
هل يمكن أن تتزعزع أوضاع باكستان الداخلية من جراء المواجهة بين النظام الباكستاني والقوى الإسلامية المعارضة للتعاون مع الولايات المتحدة؟ أم أن المكاسب التي سيحققها الاقتصاد الباكستاني قد تؤثر في إضعاف هذه المعارضة في نظر “الشارع الباكستاني”؟ هل ستراقب إيران ضرب نظام طالبان غير الموالي لها؟ وما الفائدة المرجوة؟ أين صوت الهند؟ لماذا تكتف الصين بإعلان رفضها للخيار العسكري؟ وما الذي يجري في كواليس العلاقات الأمريكية – الصينية، وخاصة مع الإعلان الأمريكي الأخير عن قبولها انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية؟ لماذا لم تكتفي روسيا بتحذير الولايات المتحدة من الانزلاق في مستنقع أفغانستان لتدفعها حساباتها إلى تقديم التعاون الاستخباراتي وغيره للعمليات العسكرية الأمريكية؟ أم ستكون هذه العمليات الأمريكية القريبة من البطن الروسي ذات آثار مباشرة في الأمن الروسي تقتضي من بوتين حسابات أخرى فيما بعد؟ هل ستكون العراق واليمن وليبيا أهدافًا تالية للهدف الأفغاني؟ ما الآثار المحتملة لقيام نظام أفغاني جديد موالٍ للولايات المتحدة تكوّنه قوى المعارضة الشمالية؟
بعبارة أخرى، واختصارًا لما يعترف به المستشرقون أكثر من اعترافنا به (كمقولة لبرنارد لويس) عن كون آسيا الوسطى امتدادًا حضاريًا للشرق الأوسط، وبالنظر إلى إعادة التشكيل التي تعرضت له منطقتا الشرق الأوسط والبلقان، فيمكن القول: إن التوازنات في آسيا ووضع العامل الإسلامي منها يقع في قلب التحرك العسكري الأمريكي من ناحية، والتحالف الروسي – الصيني – الهندي مع الولايات المتحدة من ناحية أخرى. فلعلنا نستطيع أن نتساءل: ما المصلحة المشتركة التي جمعت بين هذه القوى الإقليمية المتنافسة في وسط آسيا؟ وما الذي جمع بينها وبين المنافس الأمريكي الأكبر؟ وما هي هذه المصلحة التي فاقت مكاسبها تكلفة الوجود الأمريكي في الجوار الروسي والصيني المباشر؟
أليست هذه المصلحة هي محاربة الحركات الإسلامية في مجتمعات آسيا الوسطى و غرب الصين، وكشمير؟ وكذلك تقييد إيران واحتواؤها، وتصفية مستقبل القوة النووية الباكستانية المستقلة؟
(ب) أهداف أخرى أبعد من أفغانستان: الحركات الإسلامية، ومسلمو الغرب
وعلى صعيد آخر، فإن التحركات العسكرية الأمريكية لا تستهدف أفغانستان فقط، أو التوازنات الآسيوية بصفة عامة، ولكن تمثل استعراضًا هائلًا للقوة العسكرية، وهي القوة التي تمثل إحدى الدعائم الأساسية في الحرب الحضارية الشاملة الجاري إعدادها بقيادة أمريكية، وبمشاركة أوروبية، وبمراقبة عربية وإسلامية ضد ما يُسمى “الإرهاب الدولي”. والدعائم الأخرى لهذه الحرب الممتدة والشاملة عديدة ومتنوعة، فمنها الاقتصادية المتمثلة أساسًا في أوراق الضغط المالية والتجارية، ومنها الاستخبارية والأمنية المتمثلة في الإجراءات المتطورة ضد الناشطين الإسلاميين في أوروبا وفي الدول العربية والإسلامية ذاتها، وهي الإجراءات التي تثير في الغرب الكثير من الجدل حول كيفية الموازنة بين حماية الحريات الفردية والحقوق المدنية في ظل الديمقراطية الغربية، وبين منع استغلال تلك الحريات والحقوق لأغراض إرهابية. وإذا كان هذا الجدال يأخذ أبعادًا جديدة الآن في أوروبا والولايات المتحدة بعد الاتجاه لتطوير الإجراءات الأمنية والاستخبارية في المجتمعات الغربية، فإن نظيره في الدول العربية والإسلامية يحمل أبعادًا أخرى يترجمها السؤال الآتي: ما القدر المتبقي من مساحة الحركة أمام
الناشطين إسلاميًا: سواء المحجوبون عن الشرعية، أو الذين يتمتعون بها، أو المحاصرون؟ هل ستمثل الهجمات ضد الولايات المتحدة وعواقبها بالنسبة لوضع المسلمين داخل الولايات المتحدة وخارجها، منطلقا جديدًا للسلطات الرسمية نحو مزيد من الحوار والانفتاح؟ أم نحو مزيد من الصدام والمواجهة والحصار، سواء على صعيد المشاركة السياسية أو المجتمع المدني أو التوجهات الثقافية والخدمية العامة؟ بعبارة أخرى كيف ستجري إدارة الأبعاد غير العسكرية للحرب الحضارية الشاملة ضد ما يُسمى “الإرهاب” داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية وخارجها؟
بعبارة أخرى، فإن السياسات الأمريكية والغربية بصفة عامة تجاه مستقبل مسلمي الولايات المتحدة وأوروبا، وتجاه مستقبل الحركات الإسلامية المعارضة في الدول الإسلامية لتطرح بعمق التساؤل حول مصداقية النموذج الحضاري الأمريكي: أي النموذج الذي يقوم على ركائز ثلاث: الحريات المدنية، المجتمع – البوتقة التي تصهر القوميات المتنوعة، الدعوة إلى حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي. وفي المقابل فإن مصداقية اندماج مسلمي الغرب في مجتمعاتهم الجديدة، وكذلك مصداقية نيّات النظم والحكومات العربية نحو التحول الديمقراطي، قد تعرضت للاختبار وللمحك وللتشكيك.
ثانيًا – ردود الفعل العربية والإسلامية: كيف تدير التحديات التي تفرضها السياسات الغربية؟
يتضح من متابعة سلوك النظم العربية والإسلامية مجموعة من الخصائص التي تطرح قضايا هامة ذات أبعاد حضارية واضحة. وتحتاج هذه القضايا لإعادة قراءة وتفكير على نحو يساعد على صياغة رؤية حضارية لفهم مايجري على صعيد الأمة.
ومن دون الدخول في تفاصيل الأبعاد المشتركة لهذا السلوك (إدانة الهجمات، الموافقة على الاشتراك في التحالف الدولي ولو بدرجات مختلفة، تحديد شروط للضربات العسكرية ضد أفغانستان، نقد مفهوم الإرهاب الأمريكي) يجدر القول: إن القضايا التي يثيرها هذا السلوك إنما تتصل بأمرين أساسيين من أمور العلاقات الدولية الإسلامية:
الأمر الأول: هو مفهوم الأمة ومعضلات العلاقة بين المصلحة الوطنية وبين مقتضيات الرابطة العقيدية.
الأمر الثاني: هو مفهوم الجهاد وعلاقته بأشكال العنف المسلح المتنوعة في العالم الإسلامي والمتجهة نحو العالم المحيط تجاه بعض النظم العربية والإسلامية.
وتوضِّح الممارسات، الرسمية وشبه الرسمية (وهي في حاجة لرصد منظم ومتراكم خلال هذه المرحلة) مدى ما أضحت علية الفجوة بين الواقع القائم وبين المبادئ والقواعد الشرعية المنظمة للعلاقات الإسلامية الدولية. والجدير بالذكر أن هذه القضايا قد ثارت من قبل خلال حرب الخليج، وحرب كوسوفا، وحرب البوسنة، وحرب الشيشان…
إن هذه القضايا تطرح مجموعة من الملاحظات تجسّد عمق التحديات التي تواجه الدول الإسلامية والشعوب الإسلامية وهذه التحديات تجد جذورها في الداخل والبيني الإسلامي بقدر ما تفرضها التدخلات الخارجية. وهي التدخلات التي وصلت درجة كبيرة من العمق والتشعب، غير مقتصرة على الميادين السياسية والاقتصادية والعسكرية التقليدية، ولكن امتدت لتكتسب أبعادًا حضارية وثقافية واضحة الدلالة، وذلك في ظل المرحلة الراهنة التي يخوضها عالم الإسلام والمسلمين في علاقته مع الغرب في بداية القرن الواحد وعشرين.
وتتصل هذه الملاحظات بالنظم العربية والإسلامية، وبالحركات الإسلامية، وبمسلمي الغرب. وهي تتلخص كالآتي:
مع الإدانة الكاملة للهجمات على الولايات المتحدة ومع إعلان مساندة هدف مكافحة الإرهاب الدولي، ومع مساندة تحركات السياسة الأمريكية ولو بدرجات متنوعة، ظهر رفض تبني المفهوم الأمريكي (وهو المفهوم الإسرائيلي نفسه) عن الإرهاب. وفي المقابل ونظرًا لتبنّي وصف أسامة بن لادن بأنه إرهابي، ونظرًا لرفع الأخير هدف الجهاد، فلقد وقعت الدول الإسلامية في حرج فك الاشتباك والتداخل بين مفهوم الجهاد وبين مفهوم الإرهاب.
ومع عدم الإعلان الأمريكي الرسمي عن الأدلة التي تدين أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة، ومع استمرار الولايات المتحدة في توجيه ضرباتها العسكرية وغيرها إلى هذا الهدف باعتباره المتهم بتنفيذ الهجمات، يتخبط الخطاب الرسمي العربي أو المسلم في ظل عدم إثبات إدانة العرب والمسلمين.
فنجد إنه في الوقت نفسه الذي يتم فيه إدانة الهجمات بأنها عمل إرهابي تظهر الإشارة إلى مسؤولية سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط عن تفجير العداء لها. وهذان الوجهان للعملة نفسها يعنيان أن للإرهاب مبرراته من ناحية، والاعتراف الضمني من ناحية أخرى بأن هذا الإرهابي هو عربي ومسلم يحركه العداء للصهيونية وللسياسات الأمريكية المتحيزة لإسرائيل وضد العالم الإسلامي.
وبعبارة أخرى يجمع الخطاب بين الاتجاه لتبرئة العرب والمسلمين من تهمة الإرهاب، وبين الاتجاه لتبرير ما قاموا به – إذا كانوا هم الفاعلين. ويعكس هذا الخطاب المزدوج منطق الدفاع والاعتذار وفقدان إرادة المبادرة وإلقاء المسؤولية على الآخرين، أي يعكس هذا الخطاب نقيصة ثقافية خطيرة في العقل العربي والمسلم في ظل استحكام أزمة المجتمعات والدول داخليًا وخارجيًا.
أما الخطاب غير الرسمي فيعكس بدوره ازدواجية أخرى. فإذا كانت روافده تجتمع على خطأ إلقاء اللوم على الخارج فيما يصيب العرب والمسلمين في كل مكان الآن، إلا أن الرافد الذي يصف نفسه بالاعتدال والوعي والعصرية والتنويرية يلقي اللوم على الموجة القومية والدينية، وفي المقابل فإن الرافد الديني والقومي يلقى باللوم على ما أصاب المجتمعات العربية والإسلامية من تهافت في ظل تأثيرات العولمة والتغريب، وفي ظل النظم الحاكمة العاجزة عن مواجهة تحديات الصهيونية.
مع الإدانة – المشروطة – لتوجيه ضربات عسكرية لأفغانستان، ومع السكوت عن بداية الحرب واستمرارها تكرر في الخطاب الرسمي العربي رفض أن تكون دول عربية هدفًا لضربات متزامنة أو لاحقة. إذن لماذا هذا الفصل بين الدائرتين: وسط آسيا، المنطقة العربية؟ إذا كان المستشرقون – أمثال برنارد لويس – قد اعترفوا بالبعد الحضاري الرابط بين المنطقتين، وإذا كانت الاستراتيجية الأمريكية العالمية لا تفصل بينهما، فلماذا يفصل الخطاب الرسمي بينهما على هذا النحو، ألم يكن السيناريو الذي بدأ في الخليج، ومازال مستمرًا – منذ عشر سنوات هو خطوة نحو ما يحدث الآن واستكمالًا لأهداف تتصل بأهداف إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية والعالمية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة؟
مع إعلان إسرائيل تسكين نفسها في المعسكر الغربي المتحضر، الذي يقود الحرب ضد الإرهاب، ومع مقارنتها الدائمة بين الإرهاب التي تعرضت له الولايات المتحدة، وبين ” الإرهاب الفلسطيني والإسلامي” التي تواجهه إسرائيل، ومع تصاعد موجات العدوان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني الذي يتمسك بالانتفاضة كسبيل لتحرير أرضه، ومع اكتفاء النظم العربية بالمراقبة وباللعبة الدبلوماسية تاركة قوى الانتفاضة في مواجهة الآلية العسكرية الإسرائيلية الغاشمة، مع هذا كله يظل منطق التمسك بالتسوية السلمية قائمًا ومسيطرًا على السلطة الفلسطينية وعلى النظم العربية. واقترن هذا المنطق – ومن جانب السلطة الفلسطينية بصفة خاصة – بإعلان رفض الربط بين القضية الفلسطينية وبين إرهاب بن لادن وتنظيم القاعدة. فكان خطاب مسؤولي السلطة – عقب إذاعة خطاب ابن لادن الأول – واضحًا وصريحًا في هذا الصدد. وأي كان تكييف أعمال بن لادن، إرهابًا أم جهادًا – فإن ذلك الخطاب الفلسطيني يعني رفض الربط بين الجهاد الفلسطيني وبين جهاد ابن لادن لمناصرة القضية الفلسطينية. ولقد أثارت هذه الخطابات التساؤل حول حقيقة مفهوم الجهاد، ومبررات استخدام القوة العسكرية وفق هذا المفهوم وضوابط هذا الاست
خدام وظروفه، حتى لا يثور الخلط الشائع بينه أي بين مفهوم الجهاد وبين اللفظ الشائع التداول الآن وهو الإرهاب. كما أثارت هذه الخطابات التساؤل أيضًا عن قدر ما تبقى من البعد الإسلامي للصراع العربي الإسرائيلي وقدر ما يبقى من التضامن الإسلامي مع القضية الفلسطينية٠ فهل من ظلوا يتذكرون هذه القضية وأبعادها الإسلامية هم ” الإرهابيون فقط” أم أن ما يسمى أنشطة إرهابية هي كل ما يبقى لهم من سبل للجهاد؟ ؟ ؟
الأزمة الأفغانية ليست وليدة اليوم، وتمثل الحرب الدائرة الآن على أراضيها بقيادة أمريكية المرحلة الراهنة من تطور هذه الأزمة المستحكمة منذ عقدين، ولم تكن أفغانستان ساحة تلاعبت بها القوى الكبرى فقط (الاتحاد السوفيتي، الولايات المتحدة) في لعبة الصراع العالمي بينهما ولكن شاركت فيها دول عربية وإسلامية بأدوار شتى. ولم يكن استمرار الحرب الأهلية الأفغانية بعد الانسحاب السوفيتي لعبة بين الفصائل الأفغانية فقط ولكن لعبة أدارتها الدول العربية والإسلامية. ولذا فلقد كانت أفغانستان ساحة لاختبار توازنات القوى الإسلامية أيضًا، ويظل اللاعب الخارجي مراقبًا عن بعد حتى تأتي لحظة التدخل الفعلية. وها هي أفغانستان تشهد الآن لحظة ثانية من التدخل الغربي هدفها طالبان وابن لادن وتنظيم القاعدة بعد أن كان هدف اللحظة الأولى السابقة هو الاتحاد السوفيتي. إن غياب الإرادة الإسلامية الجماعية لإدارة الأزمات يفسح السبيل أمام التدخلات الخارجية بكل مخاطرها وعواقبها.
كان الخطاب الرسمي الرافض لاستخدام القوة العسكرية كسبيل لعلاج الولايات المتحدة للإرهاب الدولي، خطابًا متدرجًا متنوع التعبيرات. وفي المقابل فلقد كانت أدوات العنف المسلح هي الأدوات الأساسية التي أدارت بها النظم العربية والإسلامية معركتها مع القوى المعارضة لها. وإذا كان المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب هو بديل تقدمه العديد من هذه النظم، إذا كان الأسلوب التفاوضي الجماعي هو الأساسي في مثل هذه المؤتمرات، إذن لماذا لم يتم توظيفه بين الحكومات وقوى المعارضة الداخلية بامتداداتها الخارجية؟
ومما لاشك فيه أن المرحلة الراهنة من إدارة العلاقة بين الحكومات وبين هذه القوى – وخاصة الإسلامية فيها – ستدخل مرحلة خطيرة في ظل الضغوط الخارجية. وكذا يثور التساؤل – ما هو مصير درجة التحول الديمقراطي التي سمحت بها الحكومات والنظم العربية والإسلامية منذ منتصف الثمانينيات؟
مع استعار الحرب ضد الإسلام والمسلمين من ناحية، ومع اجتهاد المسؤولين الغربيين أن تكون الحرب الدائرة باسم الإرهاب هي حرب ضد الإسلام والمسلمين، وبعد جولات السجال الممتدة – طوال ما يربو على العقد – بين مؤيدي حوار الحضارات في هجومهم على أطروحة هنتنجتون، إذ بخطاب حوار حضارات يكتسب دفعة قوية. وتقود هذه الجولة الراهنة جهات رسمية عربية وإسلامية (مؤتمر في تونس في إطار الإيسيسكو ومؤتمر في القاهرة في إطار جامعة الدول العربية). ومرة أخرى يقفز منطق الاعتذار والتبرير والدفاع عن الإسلام والمسلمين بحيث يبدو خيار حوار الحضارات وكأنه بديل عملي، في يد الحكومات وأمام شعوبها، لموازنة تداعيات الاشتراك في التحالف الدولي بقيادة أمريكية. وفي مقابل المنطق الرسمي، بدوافعه الخاصة، يبرز المنطق المعارض للاندفاع وراء خطاب أو سياسات حوار الحضارات والمطالب بتبني خطاب الهجوم على الآخر ومثالبه الحضارية وسياساته الجائرة غير القيمية، والمنطق الرافض لإمكانية قيام حوار حضارات في ظل اختلال ميزان القوى المادي بين حضارتين، والمنطق المتسائل عن فائدة مثل هذا الحوار وجدواه، في حين أن الأصل والواقع الذي نريد تحسين صورته لدى الآخر، هو أصل مشوه بالفعل ويحتاج لعملية تغيير جذرية حتى تتوافر له شروط القدرة على إجراء حوار سوى…
تواجه الحركات الإسلامية المعارضة – سواء المعتدلة أم المسلحة – ما يمكن أن نسميه تحدي ظاهرة ابن لادن. فإذا كانت الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى قد ناورت بعض النظم الحاكمة بورقة المعارضة الإسلامية لها، أي إذا كان المنهج الغربي – بصفة عامة – قد اتسم بنوع من الازدواجية في التلاعب بهذه الورقة، فإن الهجوم المباشر على الولايات المتحدة وتوجيه الأخيرة الاتهام المباشر لما أسمته الإرهاب الدولي ممثلًا في ابن لادن وتنظيم القاعدة، قد حسم التأرجح الأمريكي الرسمي لصالح المواجهة المباشرة مع هذه القوى المعارضة الإسلامية وامتداداتها في الخارج. ولذا أضحت هذه القوى تواجه تحديات فكرية متجددة بقدر ما تتعمق التحديات السياسية التي تواجهها من قبل، وذلك في ظل الإجراءات والسياسات الأمنية والاستخبارية التي تتعاون فيها النظم الحاكمة مع الأجهزة الغربية المعينة. ومن ثم تتلخص مجموعة التحديات الحضارية المتداخلة في أبعادها الداخلية والخارجية كالآتي:
التحدي الفكري والتأصيلي لفك الاشتباك بين مفهوم الجهاد (بالقوة العسكرية) وبين مفهوم الإرهاب، أي ضرورة تحديد مفهوم إسلامي للإرهاب يوضح الفرق بين مفهوم الإرهاب الشائع وبين مفهوم الجهاد (فهل بعد ابن لادن، وأبو سياف، ومجاهدو كشمير، وحماس والجهاد في فلسطين، والمقاومة الشيشانية، في ظل ظروف كل منهم وأهدافه، فهل هم مجاهدون أم إرهابيون؟ ). وتزداد أهمية هذا التأصيل مع شيوع تعاطف الشارع العربي والإسلامي مع خطابي ابن لادن في وقت تتجه إليه الضربات باعتباره إرهابيًا.
التحدي الفكري والتأصيلي لفك الاشتباك بين المفهومين، الذائعين لحوار الحضارات وصراع الحضارات، وتوضيح الشروط اللازمة لإجراء الحوار والظروف التي تفرز صراعًا حضاريًا لأن الاختلاف بين الحضارات في حدّ ذاته لا يولد بالضرورة الصراع بين الحضارات.
التحدي الفكري والتأصيلي لتجديد مفهوم الأمة أي إعادة عرض مفهوم الأمة وطرحه بمستوياته المختلفة، لإزالة الضباب الذي أحاط بمصداقية المفهوم في ظل تهاوي العرى بين المسلمين.
التحديات التي تفرضها السياسات والإجراءات العدائية من جانب النظم والتي تستهدف ليس الأنشطة السياسية فقط، ولكن امتدت لتستهدف أنشطة مدنية وتطوعية وخيرية درج التيار الإسلامي على إدارتها في مجالات الإغاثة الإنسانية، والتربية الإسلامية ناهيك بالطبع عن تحديات خطيرة وهامة أضحت تواجهها البرامج التعليمية والتوجه العام الداخلي لدولة مثل السعودية، التي تعرضت لحملة إعلامية باعتبارها هي الحاضنة لفكر الإرهاب.
تحديات الإخفاق في الوصول إلى السلطة والمشاركة في الإصلاح الداخلي من خلال مشروع إسلامي متكامل الأبعاد، وهذه التحديات تتحول الآن إلى تحديات الوجود والاستمرار، كتيار أساسي من تيارات العمل السياسي والعمل المدني والأهلي.
وأخيرًا يواجه مسلمو الغرب، في الولايات المتحدة وفي أوروبا – تحديات خطيرة لمواقفهم من قضايا الأمة في ظل ضغوط الاندماج في الوطن الجديد والولاء له والانتماء إليه.
ففي الوقت نفسه الذي أحرز فيه الوجود المسلم في الغرب مكاسب جعلته يقرب من أن يصبح جزءًا مندمجًا في مجتمعاته، وفي الوقت نفسه الذي كان يمثل زخمًا في مساندة قضايا الأمة وخاصة في جانب الإغاثة الإنسانية العالمية وفي جانب الدعوة الإسلامية في قلب الغرب، إذا بالهجوم على واشنطن والغرب يضع على المحك كل هذه الإنجازات، بل يعرض الجماعات المسلمة في الدول الغربية لضغوط جديدة. وخاصة في ظل الإجراءات الأمنية وسياسات الهجرة الجديدة التي شرعت تقننها وتطبقها الحكومات الغربية. وإذا كانت هذه الإجراءات وهذه السياسات قد لاقت معارضة من قطاعات الرأي العام الغربي نظرًا لتهديدها جوهر الحريات المدينة والمبادئ الديمقراطية التي تقع في قلب النموذج الغربي والأمريكي بصفة خاصة، إلا أن تقنينها وتطبيقها قد وضع مسلمى الغرب أمام تحديات خطيرة. وكان على رأسها القيود والضغوط على مؤسسات الإغاثة الإنسانية العالمية ومواردها المالية. ومن ناحية أخرى كان الموقف من الحرب في أفغانستان (بين التأييد، وبين الرفض والإدانة، وبين التحفظ)، والفتاوى الخاصة بموقف الجنود الأمريكيين المسلمين من المشاركة في هذه الحرب محكات للتحديات التي يواجهها انتماء المسلم الأمريكي واندماجه.
ومع ذلك – وفي ظل الوجه الآخر للعملة – أي وجه تنامي اهتمام قطاعات من الشعوب الأوروبية والأمريكية بالتعرف على الإسلام وعلى عالم المسلمين، فيظل أمام مسلمي الغرب تحدٍ أساس هو تحدي تنظيم الدعوة في قلب الغرب للاستجابة لهذه الاتجاهات الجديدة الساعية للتعرف على الإسلام. فعلى الرغم من كثرة الأدبيات العلمية والأكاديمية الغربية عن الإسلام والمسلمين يظل فهم قوة عقيدة المسلمين، يمثل إشكالية أساسية في العقلية الغربية، الرسمية وغير الرسمية، ففي هذه المنطقة يكمن أحد أهم القيود التي تواجه فرض النموذج الحضاري الغربي كنموذج عالمي. ومن هنا أخذ الغرب – وعلى رأسه الولايات المتحدة – يعترف بما أضحى عليه البعد المعنوي الديني من قوة وتأثير. ولذا وإذا كان البعد الحضاري الثقافي قد تجدد الاهتمام به لفهم العلاقات الدولية منذ ما يقرب من العقد فإنه بعد الهجمات على واشنطن وتداعياتها على العالم وفي قلبه عالم الإسلام والمسلمين – فلن يستطيع دارسو النظام العالمي وتفاعلاته – في مرحلة ما بعد أحداث سبتمبر ٢٠٠١ – إهمال وزن هذا البعد وتأثيره.
وسيظل السؤال المطروح لفترة ممتدة هل الصراع الحضاري، هو الذي يصف حالة الصراع العالمي في بداية القرن الواحد والعشرين؟ وكيف ستواجه الأمة تجليات هذا الصراع وعواقبه بالنسبة للبعد الحضاري الثقافي لتفاعلات الأمة على الصعيد الداخلي والبيني ومع الآخر؟
خاتمـة ٣: حوار الحضارات من جديد؟ من يحاور من، وعلى ماذا؟
على ضوء الإطار السابق شرحه عن التحديات الحضارية الثقافية التي تواجه الأمة في ظل تداعيات ما بعد ١١ سبتمبر ٢٠٠١، تبرز الحاجة لإعادة النظر في مسار مبادرات حوار الحضارات وفي مضمونها بل وفي مدى حجيتها.
فلقد شهدت الفترة الأخيرة انعقاد عدد كبير من المؤتمرات كلها تدور حول موضوع حوار الحضارات خاصة بعد أحداث ١١سبتمبر. شخصيًا لدى العديد من الملاحظات حول تلك المؤتمرات ومنها الأخير الذي نظمته جامعة الدول العربية بعنوان “حوار الحضارات تواصل لا صراع”. ولكن ينبغي أولًا الإشارة إلى أن طبيعة أي مقترحات لأي حوار مستقبلي لا تنفصل بتاتًا عن مضمون الخطاب الذي ستقدمه وعن أهدافها ودوافعها، وتلك الأخيرة تختلف بدورها باختلاف الوعاء الفكري الذي تخرج منه المقترحات ويحركها ويحكمها.
ومن ثم فإن ملاحظاتي لن تركز على الأدوات والقنوات والوسائل المطلوبة فقط، ولكن على مضمون الخطاب الذي يجب أن تحمله، وضوابط الإعداد لهذا الخطاب، وهذا الأخير محكوم بدوره بأزمتنا الفكرية والسياسية والاقتصادية.
المجموعة الأولى من الاقتراحات والملاحظات تدور حول: قنوات الحوار ووسائله
فمعظم المؤتمرات ومنها “مؤتمر الجامعة العربية” كانت للبحث عن مبادرة عربية ولكن في أمر يهم الأمة الإسلامية بأجمعها وليس العرب فقط، ويقع ضمنه الإسلام الذي يربط شعوب هذه الأمة دينا وثقافة وحضارة.
ومن ثم فإن التنسيق والتعاون مع المبادرات المناظرة على الصعيد الإسلامي، ضرورة مهمة لتجميع الجهود وتفعيلها؛ لأن المعَّرض للعداء والإقصاء ليس العرب بمفردهم وبصفتهم القومية، ولكن المسلمون على اختلاف أقوامهم بمن فيهم العرب، ويظل للعرب فضل المبادرة والقيادة باعتبارهم من الأمة بمنزلة القلب.
الأمر الأخر هو أن علاج الأمر الجلل الذي يواجه الأمة ليس مسؤولية الحكومات في الدول الإسلامية أو منظماتها فقط، ولكن مسؤولية الشعوب أيضًا، فجميعنا مكلفون بالدفاع عن الدين والأمة، ومن ثم فإن تفعيل دور منظمات المجتمع المدني ضرورة مهمة سواء في داخل الدول الإسلامية أو خارجها، وأقصد بذلك الجماعات المسلمة في الغرب، لا لتكون أداة لخدمة أهداف الحوار فقط ولكن أيضًا وبالضرورة لتستطيع أن تواجه ما تتعرض له من ضغوط وقيود.
كما يجب النظر إلى البعد الثقافي الحضاري وفي قلبه الدين دون الانفصال عن الأبعاد الاستراتيجية السياسية والاقتصادية للقوة الوطنية أو القومية. ومن ثم فإن الحوار حول هذا البعد (الحضاري) وتأثيراته يجب ألاّ يخطط له في نطاق إعلامي محدود (قناة فضائية – أو مؤسسة إعلامية…) ولكن يجب أن يتم بطريقة استراتيجية كبرى بحيث تتم خدمته وإدارته على جميع الأصعدة وفي كل المحافل كالبعد الثقافي للمتوسطية، حوار الأديان، والملتقيات الدولية المختلفة حول المرأة وحقوق الإنسان والفقر والتنمية وبرامج، اليونسكو للثقافة والسلام والتسامح، استراتيجية الإيسيسكو للعمل الثقافي الإسلامي في الغرب.
المجموعة الثانية: حول مضمون الخطاب والحركة واتجاهاته
فأحداث ١١ سبتمبر وجهود تكوين تحالف دولي ضد ما يسمى الإرهاب العالمي والحرب على أفغانستان جميعها كان لها تداعيات خطيرة على صورة المسلمين والإسلام لدى الغرب، وكذلك، هذا هو الأهم، على صورة الغرب أو الولايات المتحدة لدى المسلمين. ولهذا فإن حوار الحضارات الذي يطرح الآن يجب ألا يكون فقط حوارًا لتحسين صورتنا لدى الغرب ولكن لتحسين صورة الغرب لدينا أيضًا، وكلا الأمرين يتطلب أن نكون واعين نحن بحقيقة صورتنا، وحقيقة ماهيتنا، وحقيقة ماأضحت عليه أوضاعنا على صعيد الأزمة الفكرية والثقافية. بعبارة أخرى إن هذه اللحظة الفارقه في ١١سبتمبر وما بعدها قد كشفت عن حجم التحديات الحضارية الثقافية التي يواجهها عالم الإسلام والمسلمين في بداية القرن ال – ٢١ سواء من داخله أم من خارجه.
ولهذا فإن الحديث عن العامل الثقافي لفهم العلاقات الدولية يظل أساسيًا وضروريًا لفهم وضع الأمة الإسلامية في العالم ليس الآن فقط ولكن من قبل أيضًا؛ ولذا فإن تداعيات أحداث ١١سبتمبر بالنسبة لوضع الإسلام والمسلمين تعلن عن تدشين الهيمنة الحضارية علينا والإقصاء الحضاري لنا، إذن علينا أمران هما وجهان لعملة واحدة:
– أولهما أنه يجب أن نواجه هذه المرحلة باستراتيجية جديدة لا تقوم فقط على الدفاع عن الإسلام والمسلمين والاعتذار عنهم كما حدث في المبادرات والأنشطة المناظرة السابقة. ولكن بالانتقال إلى الهجوم وعدم التعامل كمتهمين، ويتطلب هذا أن يتضمن خطابنا المطالبة بإثبات الفاعل في أحداث ١١سبتمبر وتوجيه الاتهام إلى بدائل أخرى – غير تنظيم القاعدة – مثل اليمين الغربي المتطرف أو الموساد أي الأصولية المسيحية في تحالفها مع الصهيونية، بعبارة أخرى يجب ألا نسلك طريقًا حددته الولايات المتحدة للمتهم وللفاعل والتي يحصد المسلمون في كل مكان ثمارها الآن سواء الشعب الأفغاني أو مسلمو الغرب أو التيارات الإسلامية في الدول الإسلامية. ويجب أن نكف عن اتهام أنفسنا بأننا – نحن العرب والمسلمين – لا نقبل الآخر، فالصراع ليس مع الذات فقط لنقبل الآخر – داخليًا وخارجيًا – ولكن الصراع في مواجهة الآخر ليكف عن رفضنا من ناحية ولنعرف ما هي حدود وضوابط قبول الآخر أو رفضه لنا، ولذا لابد أن نعترف بأنه أيضًا لديه إشكالية نحن / الآخر وأنه يتعصب بعنصرية وأنه يتكلم بما لا يفعل، ويجب عدم الاعتقاد بأن مقولاتهم عن صراع الحضارات مقولات خطأ لأنها تكشف عن حقيقة موقفهم تجاه الآخر أي تجاهنا، لأن هنتنجتون يعترف بأن سياسات الغرب المتحيزة ضد العرب والمسلمين، وبصورة أخص سياسات الولايات المتحدة، هي التي ستدفع الحضارات للصراع، كذلك فإن الوجود المسلم في الغرب أضحى يمثل هاجسًا للنظم والمجتمعات الغربية التي تتحدث عن التعددية الثقافية والحريات المدنية وحقوق الإنسان.
كما يجب تحديد مفهوم الإرهاب وكذلك الجهاد الإسلامي وبيان ضوابط الحيلولة دون تحول الأخير إلى إرهاب بالمعنى الشائع، أي بيان متى يكون استخدام القوة جهادًا ومتى يكون عنفًا… أما الوجه الآخر للعملة فهو أن نتجه نحو الذات فنحن مطالبون ليس بالهجوم على النظام الدولي – فقط – لإفرازه الإرهاب، ولكن على النظم الداخلية التي أفرزت أيضًا الإرهاب – فلابد فعلًا أن نعترف بأنه ظهر ت في مجتمعاتنا معلومات إرهابية ثم تحولت نحو الآخر. ولكن الأهم من ذلك هو أن نحاول أن نفكر في الأمر وتفسيره على نحو يتخطى التفسير التقليدي الذي يرجع هذا الإرهاب إلى إخفاق تجارب التنمية السياسية والاقتصادية وما تولد عنها من فقر وجهل وعدم استقرار وتطرف. فنتذكر أمرًا أكثر خطورة يساعدنا على تفسير لماذا ظهر ابن لادن بخطابه الذي لا يمكن إنكار أنه دغدغ مشاعر الإنسان المسلم العادي في الشارع العربي والإسلامي… هذا الأمر هو باختصار ما وصل إليه وضع الإسلام في مجتمعاتنا وفي سياساتنا وهو الوضع بين شقي رحى: الاتجاهات الإسلامية التقليدية من ناحية والاتجاهات التحديثية التغريبية من ناحية أخرى.
بعبارة أخرى لابد أن نتفهم مسؤولية التغيير في سياساتنا ومجتمعاتنا على النحو الذي انقطعت معه تدريجيًا عن المرجعية الإسلامية، إلى درجه أنه إذا ظهر من يريد العودة لهذه المرجعية والاجتهاد انطلاقًا منها حول المجتمع والسياسة، أو من يرفض المظاهر السلبية لتأثير القيم والسلوكيات الغربية في مجتمعاتنا، فإنه يصبح بين عشية وضحاها متطرفًا، و يتحول في نظر المجتمع إلى إرهابي، وخاصة مع لجوئه إلى العنف…
إن الاعتراف بهذه الأمور يجعل العلاج المطلوب أكثر من مجرد سياسة ثقافية إسلامية إعلامية مستنيرة أو أكثر من مجرد دعوة إلى الإسلام العصري إنه يحتاج إلى علاج الأزمة، فيجب التمييز بين مشروعية الشعور بالذات والخصوصية وبين مشروعية رفض الآخر ليس لأنه آخر ولكن لأنه يريد استيعابي وإقصاء خصوصيتي. بعبارة أخرى لماذا لا يكون الشعور بالقلق الثقافي من الآخر الذي يسعى إلى الهيمنة الثقافية والحضارية مشروعًا مثل الخوف من الهيمنة الاقتصادية والسياسية؟
يجب أن نحاور أنفسنا بتياراتنا المختلفة العلمانية والإسلامية حتى نستطيع أن نحاور الآخر الغربي، أم هل سيتولى قيادة الحوار مع الغرب النخب العلمانية الرشيدة العقلانية فقط؟ وفي هذه الحالة عمن سيدافعون؟ وفيمَ سيتحاورون؟
***
الهوامش:
١ – هذه الورقة تمثل المحور الرابع من دراسة: التحديات السياسية الخارجية للعالم الإسلامي، بروز الأبعاد الحضارية الثقافية؛ (في): أ. د. نادية محمود مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (وآخرون): الأمة في قرن، عدد خاص من حولية أمتي في العالم، الكتاب السادس، ٢٠٠٢.
٢ – انظر المحاور الثلاثة الأولى من المرجع السابق نفسه. وهي مستخلص من مضمون دراسة تفصيلية وهي: د. نادية محمود مصطفى: التحديات الخارجية للعالم الإسلامي، رابطة الجامعات الإسلامية، ١٩٩٩، صفحة ٢٦٠.
٣- آفاق عربية، ١٠ / ١ / ٢٠٠٢