“ألفية الخلاص من الإرهابيين”.. ما بين الاستقلالية الإعلامية والتبعية السياسية
مقدمة:
السنوار أنقذته إسرائيل من الموت فحاربها!!! هكذا بدت خلفية برنامج “MBC في أسبوع “
فتحت عنوان “ألفية الخلاص من الإرهابيين” عرضت قناة MBC السعودية تقريرًا في 18 أكتوبر2024 عقب استشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس “يحى السنوار”، استعرض عددًا من اغتيالات قادة تنظيم القاعدة، وداعش، وحزب الله، والحوثيين، وحماس، ووضعهم جميعًا في قالب واحد، يخلط فيه شخصيات النضال والمقاومة ضد الاحتلال مع غيرهم، واصفًا إياهم جميعًا بـ”المجرمون الإسلاميون”، حتى يتبادر إلى الأذهان أن هذه الشخصيات جميعها أضرت بشعوبها، وبدت الكلمات الافتتاحية للتقرير صادمة: “شخصيات صنعت العنف وأشعلت نيران التطرف الإرهابي فمن هم؟ وكيف تخلص العالم من هؤلاء الأشرار؟” وقد سلط التقرير الضوء على أبرز القياديين في حزب الله اللبناني، وعلى رأسهم حسن نصر الله، وكذلك على زعماء حركة حماس الفلسطينية صالح العاروري وإسماعيل هنية، ويحيى السنوار، وفيما يتعلق باستشهاد “السنوار” القائد الشهيد العربي المسلم السني، قال محمد مشاري[1]: “وجه جديد للإرهاب وآخر من تخلص العالم منه “يحى السنوار”.. دموي لقب بجزار خان يونس، أعمال وحشية قادها لحركة حماس”[2].
أثار هذا التقرير الصادم الرأي العام المناصر للقضية الفلسطينية، بل وطالبت بعض الجماهير على مواقع التواصل الاجتماعي بمقاطعة قناة MBC السعودية، وتعالت الأصوات التي انتقدت المحتوى، معتبرةً أنه يساهم في تأجيج الأوضاع ويعكس موقفًا معاديًا للقضية الفلسطينية، بل وامتد الأمر إلى اقتحام متظاهرين عراقيين مكاتب القناة في بغداد بعد منتصف ليل الجمعة 18 أكتوبر 2024، وذلك احتجاجًا على التقرير، كما ألغت هيئة الإعلام والاتصالات في العراق رخصة قناة MBC.[3]
وقد أدانت الغرفة المشتركة للفصائل الفلسطينية في بيان لها “مشاركة قنوات فضائية عربية بعينها في تبني وبث روايات مشبوهة تخدم أجندة العدو الصهيوني وتُشيطن المقاومة وحاضنتها الشعبية”، وقالت في بيان أصدرته يوم الأحد الموافق 20 أكتوبر 2024 إن “منح مجرمي الحرب الصهاينة وشخصيات عربية معادية للمقاومة مساحة واسعة لترويج أكاذيبهم وحجب أصحاب الصوت الذي يعبر عن ضمير الأمة الحي، هو طعنة للشعبين الفلسطيني واللبناني في معركة الدفاع عن الكرامة والحرية، وخدمة لحرب الإبادة الجماعية ضدهما”[4].
ومن ثم فقد أشعل التقرير الجدل حول مدى استقلاليته الإعلامية عن السياسات الرسمية للمملكة العربية السعودية تجاه المقاومة الفلسطينية، وهو ما سيتناوله هذا التقرير بالبحث والتحليل في إطار الجدال النظري حول دور الإعلام السياسي الدولي في العلاقات الدولية بين الاستقلالية والتبعية السياسية؛ وذلك من خلال تساؤل رئيس: هل يأتي التقرير انعكاسا للسياسة الخارجية السعودية تجاه المقاومة الفسطينية، أم أنه يعكس استقلالية السياسة الإعلامية للقناه؟ وللإجابة عن هذه التساؤلات يرصد التقرير الجدال النظري حول دور الإعلام السياسي الدولي بين الاستقلالية والتبعية في العلاقات الدولية، كما يتتبع التقرير تطور العلاقات السعودية الإسرائيلية من السر إلى العلن، وكذلك الموقف السعودي الرسمي من القضية الفلسطينية وقادة المقاومة الفلسطينية، ودلالات الرد الرسمي السعودي حول التقرير.
- الإعلام السياسي الدولي بين الاستقلالية والتبعية السياسية:
يعد تقرير قناة “MBC” مختبرًا عمليًا لحالة الجدال النظري حول دور الفضائيات الدولية في العلاقات الدولية؛ حيث حظي مجال الإعلام السياسي الدولي بقدر كبير من الاهتمام في الأوساط الأكاديمية والبحثية، خاصة بعد ما نُظِر له بأنه أصبح جزءًا لا يتجزأ من السياسة الخارجية للدول، وأحد أدوات “القوة الناعمة للدولة”[5].
ولقد عبر البعض عن أهمية الدور الإعلامي في العلاقات الدولية، بأنه لا يوجد ما يمثل ثورة على الوظيفة الدبلوماسية أكثر من الاهتمام الحالي المستمر بالإعلام، كما أشارت بعض الدراسات إلى أن الفضائيات الإخبارية، بوصفها إحدى وسائل الإعلام السياسي الدولي، هي وسيلة لخدمة المصلحة الوطنية العليا للدولة، وفقًا للحجم والوزن والدور الذي تتمتع به هذه الدولة أو تلك في المعادلات الدولية القائمة، وتأثيرها وتأثرها بالأحداث العالمية المستجدة كل يوم، خاصة عند نشوب أزمات سياسية، أو اقتصادية، أو عسكرية، أو اضطرابات اجتماعية تطال تلك الدولة، أو الدول المجاورة لها، أو تطال مناطق المصالح الحيوية للدول الكبرى في أنحاء مختلفة من العالم، أو في حال حدوث كوارث طبيعية، فالإعلام السياسي الدولي، ولا سيما الفضائي المرئي، يؤدي إلى خلق تصور متبادل للدول بعضها عن بعض، كما يعد أداة مهمة من أدوات السياسة الخارجية للدول[6].
وفي المقابل برزت العديد من النظريات التي تشرح وتفسر دور الفضائيات الإخبارية في العلاقات الدولية، ولا سيما منذ انتهاء الحرب الباردة، وظهور نظرية “تأثير قناة الــ سي إن إن” التي حللت دور ونفوذ الإعلام السياسي الدولي كفاعل مؤثر ومستقل على مجريات الأحداث الدولية، وعلى صناعة قرارات السياسة الخارجية للدول، والتي تشير إلى فكرة مفادها أن الشبكات التليفزيونية العالمية أصبحت فاعلا أساسيًا في تحديد ورسم سياسات ونتائج أحداث دولية بعينها[7].
إلا أن هذه النظرية قد أثارت العديد من ردود الأفعال الناقدة والمعارضة لها، لأنها نظرت للإعلام الدولي باعتباره أداة في يد الأنظمة السياسية وصانعي القرار الخارجي لخدمة أهدافهم السياسية.[8]
لعبت القنوات الفضائية الإخبارية دورًا كبيرًا ومهما في نطاق العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب الباردة عام 1990م، ولا يزال تأثيرها ودورها المهم مستمرًا في التأثير على السياسات الدولية، فقد مارست القنوات الفضائية الإخبارية أدوارًا ضاغطة على السياسات الدولية، من خلال تحديد الأجندات الدولية، وتسليط الضوء على قضايا بعينها، ولا سيما في حالات الأزمات الإنسانية والحروب الأهلية، أيضًا من خلال اختزال الوقت المتاح أمام صناع القرار الدولي، إلا أنها في ذات الوقت سمحت للقادة الدوليين بتمرير رسائل دولية من خلالها.
وقد اتضح دور تلك الفضائيات الإخبارية كوسيط في العلاقات الدولية خلال الصراع العربي الإسرائيلي؛ حيث بفضل هذه الفضائيات اعتاد المشاهدون العرب رؤية الإسرائيليين يتحاورون مع العرب، وكأن هذه الفضائيات مارست دور التمهيد المتدرج الهادئ للتطبيع المنشود، بما يتوافق مع المفاوضات المتقطعة والمتعثرة التي كان يجريها أطراف الحكم الذاتي في فلسطين مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، إذ أنه على الرغم من انزعاج الأمريكيين من تغطية قناة “الجزيرة” للأحداث في العراق، إلا أنه كان هناك ارتياح عام لانفتاح الفضائيات على التحاور مع المسؤولين الإسرائيليين، وغدت “الجزيرة” متجاوزة الخطاب إلى الفعل، أي إلى صنع السياسة، عندما وضعت وجهًا لوجه الحكومة الإسرائيلية وحركة حماس في ما يشبه الحوار المباشر في النشرة الإخبارية في إبريل 2006م، الذي دعت فيه مدير الخارجية الإسرائيلي “جدعون مائير” والوزير الفلسطيني عن حماس “سمير أبو عيشة”[9].
وفي الكثير من الأحيان تجد الفضائيات الإخبارية نفسها في موقف متوتر، بين إرضاء الرقيب (الأنظمة السياسية التابعة لها) من جهة، وإرضاء الجمهور من جهة أخرى، وإلا فقدت مصداقيتها أمام المتلقي. وبسبب الغائية المزدوجة، تجد نفسها في وضع متوتر، ولذا فإنها تعي أن اللعبة الإعلامية تقتضي السباحة بين القطبين.
ويمكن التدليل على هذا الأمر، بأن معظم الفضائيات العربية الأكثر مشاهدة في العالم العربي، مثل قنوات “العربية، والجزيرة، وأبو ظبي، وإم بي سي”، تعود ملكيتها المباشرة أو غير المباشرة إلى الأنظمة العربية التي تصنف أنها معتدلة في علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية والغرب، بيد أن الرأي العام الذي تغازله هذه الفضائيات، هو في المقام الأول ساخط على السياسات المتبعة، على الأقل سياسات الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة العربية.[10]
وهذا ما اتضح بالفعل في حالة تقرير قناة MBC حول استشهاد “السنوار”، الذي وصفه بـ”الإرهابي”، مما أثار حفيظة الرأي العام العربي المناهض لإسرائيل والداعم للمقاومة الفلسطينية وأبطالها، ولا سيما في هذا التوقيت الحرج، في ظل استمرار الإبادة الإسرائيلية الكاملة للشعب الفلسطيني على مدار عام بأكمله، وحالة الصمت العربي الرسمي والعجز الشعبي.
وفي حين تم الهجوم على قناة MBC من قبل الجماهير العراقية، داهمت القوات الإسرائيلية مكتب شبكة الجزيرة الإعلامية في مدينة رام الله بالضفة الغربية المحتلة وطالبت بإغلاقه بشكل كامل ومنعه من العمل لمدة (45) يوما بموجب أمر عسكري، وقامت القوات الإسرائيلية بمصادرة كافة الأجهزة والوثائق في المكتب ومنعت العاملين فيه من استخدام سياراتهم وأوقفت بث الشبكة[11]، وهو ما يعد ثمنًا لانحياز القناة للقضية الفلسطينية ودعم المقاومة إعلاميًا.
- رد الفعل السعودي حول تقرير “ألفية الخلاص من الإرهابيين”:
اتخذت السلطات الرسمية السعودية موقفًا سريعًا مضادًا للتقرير؛ فقد أعلنت الهيئة العامة لتنظيم الإعلام في السعودية يوم السبت 19 أكتوبر 2024 إحالة عدد من المسؤولين في قناة “MBC” للتحقيق، وأوضحت الهيئة أن قرارها جاء بسبب التقرير الذي اعتبرته “مخالفًا للأنظمة والسياسة الإعلامية للمملكة”، مؤكدة أنها تتابع بدقة مدى التزام وسائل الإعلام بالأنظمة الإعلامية المعمول بها، ومشددةً في الوقت نفسه على أنها لن تتهاون في تطبيق العقوبات اللازمة ضد أي مخالفات[12].
وفي رد فعل آخر، قدم مدير الأخبار في قنوات MBC “مساعد الثبيتي” استقالته على خلفية عرض التقرير[13]. وقد انقسمت ردود الأفعال حول استقالته؛ فرأى البعض أن هذه خطوة إيجابية لكي يتم محاسبة المسؤولين عن الأخطاء الإعلامية، ورأى البعض الآخر أن خطوة الاستقالة جاءت متأخرة وذلك بعد تسبب الضرر الكبير بعد انتشار هذا التقرير. وفي هذا الصدد تتبادر إلى الأذهان عدة تساؤلات حول دلالات الرد السعودي على هذا التقرير، هل كان التقرير بالفعل خطأً إعلاميًا يتطلب المحاسبة؟ أم أنه امتداد وتعبير عن سياسات وتوجهات طالما يتم التعبير عنها من مصادر سعودية رسمية وغير رسمية؟ وإذا كان كذلك، فلماذا أثار هذا التقرير تحديدًا حفيظة السلطات الرسمية؟
ويبدو أن توجهات التقرير ليست بجديدة على السياسات الرسمية السعودية التي تهاجم المقاومة الفلسطينية؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، وصف وزير الخارجية السعودي الأسبق “عادل الجبير” في عام 2018 أمام لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي في بروكسل، حركة حماس بمصطلحات مثل “حركة حماس الإرهابية”، أو “المتطرفة” وغيرها من الشعارات تزامنا مع تصنيف الولايات المتحدة لحركة حماس باعتبارها “تنظيم إرهابي” وفرض عقوبات على شخصيات عديدة من الحركة. وليست هذه المرة الأولى التي يهاجم فيها الجبير حماس، إذ سبق وأن طالب من باريس، في يونيو 2017، قطر بـ “التوقف عن دعم جماعات مثل الإخوان المسلمين وحماس”.
ورغم استضافة السعودية سابقا وفودا رسمية من حركة حماس، كما أنها احتضنت المصالحة الفلسطينية فيما يعرف باتفاق مكة عام 2007م، إلا أن هذه التصريحات أشارت من وجهة نظر مراقبين إلى “تغير في مواقف المملكة من حركة حماس”. وعلى الجانب الإسرائيلي، علق “يؤاف مردخاي”، منسق نشاطات الحكومة الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية، على تصريحات الجبير عبر حسابه على تويتر، قائلا: “إذا كان هذا هو أيضا تعريف السعوديين لحماس، فنحن متفقون معهم”.[14]
وهناك العديد من التصريحات الرسمية الأخرى التي تشير إلى توتر العلاقات بين المملكة وحماس، ومنها تصريحات الأمير “تركي الفيصل” رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق في حوار سابق بتاريخ 20 مارس 2024م مع قناة “نيو ستيتسمان” البريطانية؛ حيث وُجِّه له سؤال كان نصه: “تقرأ في بعض الصحف وتسمع من بعض الناس أنه ربما توافق السعودية على الحرب (الحرب الإسرائيلية ضد حماس) لأنها ترغب في رؤية تدمير حماس..” ليرد الأمير قائلا: “بالطبع لم تكن لدينا علاقات جيدة مع حماس، خاصة بعد بعض المواقف التي اتخذوها عندما حاولنا التوسط بينهم وبين السلطة الفلسطينية في عام 2006. حماس خرقت الاتفاق، ومنذ ذلك التاريخ توترت علاقاتنا مع حماس بشكل حاسم، أود أن أقول أننا لسنا أصدقاء مع حماس ولكن هذا لا يعني أننا نريد أن نرى تدمير الفلسطينيين في غزة من أجل تدمير حماس كما يحاول البعض الإشارة أو الادعاء”.[15]
وعلى الصعيد الإعلامي، لم يكن تقرير قناة MBC هو الوحيد الذي يتبنى منهجًا مضادا للمقاومة الفلسطينية؛ فقد اتبعت صحيفة عكاظ السعودية نهجًا مماثلا، فجاء المانشيت الرئيسي للصحيفة تحت عنوان “إسرائيل تلحق السنوار بهنية.. «حماس» بلا رأس”[16].
وعليـــه، يبدو أن الموقف السعودي واضح تجاه المقاومة الفلسطينية؛ فما دلالات الانتفاضة السريعة ضد تقرير قناة MBC تحديدًا؟ ولعل الإجابة تكمن في أن قناة MBC هي أحد القنوات الهامة والمؤثرة ذات الصدى والجماهيرية العربية، الأمر الذي أثار ضجة كبيرة ضد القناة على مواقع التواصل الاجتماعي، مع انتشار الدعوات بمقاطعة القناة والهجوم على مكتب القناة في العراق وسحب السلطات العراقية ترخيص القناة، كما جاء التقرير تزامنًا مع التعاطف الواسع مع استشهاد السنوار وبث المقاطع الأخيرة في حياته من قبل إعلام الاحتلال؛ مما أجبر الهيئات الرسمية السعودية على التدخل لوقف إذاعة التقرير وإدانة القناة.
ومن ناحية أخرى، أدانت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” التقرير، مشددة على أن “هذا التقرير ظلامي وتحريضي ضد الحركة وقيادتها”، وقالت “حماس” في بيان عبر قناتها على “تلجرام”: “في الوقت الذي يتعرض فيه شعبنا الفلسطيني لحرب إبادة وعدوان إرهابي غير مسبوق من قبل الكيان الصهيوني وجيشه الإرهابي منذ أكثر من عام، تطل علينا قناة ناطقة بالعربية تدعى (MBC) ببثها تقريرا ظلاميا وتحريضيا ضد الحركة وقادتها، ولتصف أعمال المقاومة الفلسطينية ضد المحتل بالإرهاب، وذلك في سقوط مهني وإعلامي وأخلاقي يتساوق مع الدعاية والرواية الصهيونية التي تسعى لشيطنة المقاومة ورموزها، ونحن نستهجن بشدة هذا التقرير الذي لا يخرج إلا عن صحافة صفراء وطابور خامس، ونطالب إدارة القناة بالتراجع الفوري عن هذا السقوط والانحدار المهني وحذف التقرير من منصاتها، وتقديم الاعتذار عن هذا التقرير الذي يسيء لأصحاب القناة والقائمين على إدارتها، لا المقاومة وقادتها الذين جادوا بدمائهم على طريق تحرير فلسطين والأقصى، وكذلك نطالب بتعديل هذا النهج التحريري الخبيث الذي يتساوق مع أجندة الاحتلال، والالتفات إلى ما يتعرض له شعبنا من جرائم وفظائع على يد الكيان الصهيوني المجرم”.[17]
- الخطاب السعودي الرسمي بين التطبيع مع إسرائيل ودعم القضية الفلسطينية:
تتبنى السياسة الخارجية السعودية موقفًا معلنًا يدعم القضية الفلسطينية؛ حيث قال الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي في خطابه في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى السعودي بتاريخ 18 سبتمبر الماضي، إن القضية الفلسطينية تتصدر اهتمامات بلاده، وجدد رفض المملكة وإدانتها الشديدة للجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، مؤكدًا أن إسرائيل تتجاهل القانون الدولي والإنساني في فصل جديد ومرير من المعاناة، وأضاف أن المملكة لن تتوقف عن عملها الدؤوب في سبيل قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، مؤكدا أن السعودية لن تقيم أي علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون ذلك. وفي الإطار ذاته، توجه الأمير محمد بن سلمان بالشكر إلى الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، تجسيدًا للشرعية الدولية، قائلا: نحث باقي الدول على القيام بخطوات مماثلة.[18]
وعلى الرغم من الخطاب السعودي الرنان الداعم للقضية الفلسطينية بشكل عام، إلا أن هناك وجه آخر للعملة فيما يتعلق بالموقف السعودي من المقاومة الفلسطينية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من العدو المشترك لإسرائيل والسعودية معا وهو إيران.
فسياسة خلق العدو المشترك (إيران) تعد من أهم محددات السياسة الخارجية السعودية تجاه إسرائيل والمقاومة الفلسطينية على حد سواء، وقد ظهر ذلك جليًا في الموقف السعودي تجاه الثورات العربية وصعود حركات الإسلام السياسي بشكل عام، وسياستها تجاه حركات المقاومة بشكل خاص؛ إذ يرى البعض أن العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبدالعزيز -إلى جانب الموقف السلبي الثابت للسعودية من حزب الله- اتَّخذ في آخر ثلاث سنوات من حكمه سياسات صارمة ضد الثورات العربية والحركات السياسية الإسلامية، بما فيها حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية “حماس”، وحزب التجمُّع اليمني للإصلاح، ما أدَى إلى أزمة في السياسة الخارجية السعودية أفضت في المحصلة إلى وقوع الرياض في دائرة الابتعاد عن دعم القضايا العربية، وفي مقدِّمتها قضية فلسطين، وخذلان تطلعات الشعوب العربية إلى العيش الكريم والحرية والعدالة، التي جرى التعبير عنها في بداية الثورات العربية أواخر عام 2010. وإذ كان ينظر إلى المرحلة الأولى من حكم العاهل السعودي الحالي الملك سلمان بن عبد العزيز التي سبقت تصعيدَه لابنه وليا للعهد باعتبارها مرحلة تحوُّلات تدريجية داخلية ومرحلة انتقال نحو مزيد من البرجماتية خارجيًّا نظرًا لتفاقم الأزمات في كلٍ من اليمن ومصر وسوريا، فإن المرحلة الثانية التي تَلَت تصعيد محمد بن سلمان في سلم السلطة السعودية شكلت تغيرا مهما في خريطة تحالفات وتوجهات المملكة، إذ سارعت السعودية بتشكيل التحالف الإسلامي السني الذي يستبطن عدوا ذا أولوية بالنسبة للنظام السعودي هو إيران، باعتبارها هي والمليشيات التابعة لها الخطر الأكبر الذي يهدد المملكة والمنطقة، وهو التطور الذي استغلته الإمارات للترويج لتحالف (سعودي إماراتي مصري إسرائيلي) للحد من نفوذ إيران إقليميا ولمواجهة قائمة إرهاب موسعة.[19]
نفس الأمر أشار إليه “نيتنياهو” في خطابة أمام الكونجرس في يوليو الماضي؛ حيث أكد أن إيران هي الشيطان الأكبر في الشرق الأوسط، قائلا: “أصدقائي.. في الشرق الأوسط، إيران وراء كل الفوضى وكل القتل، خامينئي تعهد بتصدير الثورة للعالم بأسره، الدولة التي تقف في وجه ثورة الإسلام الراديكالي هي أمريكا وهي أعظم قوة في العالم، حزب الله ليس في حرب مع إسرائيل، الحرب الأساسية ضد أمريكا، وإيران منذ 1979 تحارب الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن هناك ديموقراطية في الشرق الأوسط تقف إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وهي إسرائيل”.[20]
كما دعا “نتنياهو” خلال خطابه إلى تشكيل تحالف أمني أمريكي إسرائيلي، ينضم إليه أصدقاء إسرائيل في الشرق الأوسط؛ لمواجهة التهديد الإيراني. وهو تحالف يشبة التحالف الأمني بين أمريكا وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية لمواجهة التهديد السوفييتي، وأضاف أن هذا التحالف سيكون امتدادا طبيعيا لمعاهدات إبراهام مع الدول العربية، واقترح تسميته بـ”تحالف إبراهام”[21].
وفي ذات الوقت، تتخذ المملكة العربية السعودية خطوات نحو التطبيع المعلن مع الكيان المحتل، وهو ما أشار إليه تقرير لصحيفة “إسرائيل هيوم” نُشِر في يونيو 2024، وقد ألقى الضوء على تاريخ العلاقات الإسرائيلية السعودية؛ حيث أشار إلى أن البلدين “تعاونا سرا منذ سنوات، مدفوعان بالبراغماتية والحاجة لمواجهة التهديدات المشتركة”، وقالت الصحيفة إن البلدين في العلن يبدوان عدوين لدودين، فهما لا يتشاركان الحدود أو القيم أو الثقافة، وعلى مدى عقود، أطلق المسؤولون السعوديون ادعاءات تحريضية حول اليهود، لكن الحقيقة مختلفة خلف الأبواب المغلقة”[22].
بدأ تقرير الصحيفة الذي حمل عنوان “التاريخ المفاجئ للعلاقة السعودية الإسرائيلية السرية” بعام 1948، وهو التاريخ الأسود لإعلان دولة إسرائيل؛ حيث أشار إلى أن ديفيد بن جوريون أول رئيس وزراء إسرائيلي، كان يبحث عن حلفاء محتملين، بما في ذلك المملكة العربية السعودية، وبحسب الصحيفة، فقد جاءت أولى بوادر العلاقة السرية بين البلدين في أوائل الستينيات من القرن الماضي، عندما اندلعت الحرب الأهلية في اليمن، في تلك الحرب تمكن المتمردون من الإطاحة بالحكومة، وكانت البلاد في حالة من الفوضى، ولم تكن معظم دول المنطقة، بما في ذلك السعودية وإسرائيل، من محبي المتمردين، تقول الصحيفة إن السعودية عمدت في حينها لفتح مجالها الجوي بهدوء أمام الطائرات الإسرائيلية التي أسقطت مساعدات للقوات الحكومية اليمنية.
وتابعت الصحيفة أن “هذه كانت المرة الأولى التي تتوافق فيها المصالح السعودية والإسرائيلية، ولم تكن الأخيرة”، ففي عام 1967 تبنت جامعة الدول العربية بأكملها رسميا ما عرف بـ”اللاءات الثلاث”، لا سلام مع إسرائيل، ولا اعتراف بإسرائيل، ولا مفاوضات مع إسرائيل؛ لكن وراء الكواليس، تقول الصحيفة إن إسرائيل كانت تعمل سرا لبناء الجسور مع السعوديين؛ حيث نقلت معلومات عن محاولات محلية للإطاحة بالحكومة السعودية وحذروا السعوديين من مؤامرة لاغتيال العاهل الأردني، وفي وقت لاحق جلس السعوديون والإسرائيليون في نفس الغرفة لأول مرة في مؤتمر مدريد للسلام، وهو جهد مشترك قادته الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وعلى الرغم من عدم التوصل إلى سلام في المؤتمر، إلا أن العلاقة بين السعودية وإسرائيل كانت دافئة، وخلف الأبواب المغلقة، استمر الجانبان في الحديث عن مشاريع مشتركة من شأنها أن تعود بالنفع الاقتصادي إذا تمكنا من التوصل إلى حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وفي عام 2006 اختطف حزب الله جنديين إسرائيليين، وردت إسرائيل باستعراض هائل للقوة، كشفت الحرب أن حزب الله كان أقوى بمراحل مما كان يتصور الكثيرون، مما وضع كلا من السعودية وإسرائيل في نفس القارب المحفوف بالمخاطر؛ حيث تعرضتا للتهديد المباشر من قبل إيران -وفقا للصحيفة- وأدى هذا التهديد المشترك في النهاية إلى جمع البلدين معا لمناقشة كيفية إيقاف النظام الإيراني. وفي عام 2020، توسطت الولايات المتحدة في اتفاق تاريخي بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، اثنتان منها على حدود السعودية: وهما الإمارات والبحرين، وعلى الرغم من أن السعوديين لم يكونوا جزءا من الصفقة، إلا أنه كانت هناك تلميحات إلى أنهم قد يعمدون أيضا لتطبيع العلاقات مع إسرائيل بمجرد أن تحل الأخيرة مشاكلها مع الفلسطينيين. وفي عام 2023، أعلن السعوديون صراحة أنهم على استعداد لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، مما يشير إلى أن البلدين يقتربان من جعل علاقتهما رسمية، لكن هجوم حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023 (طوفان الأقصى) وما تلاه من حرب في غزة، عرقل الجهود الرامية للتوصل لاتفاق تطبيع مع السعودية.
ومع ذلك، تقول الصحيفة إنه عندما هاجمت إيران إسرائيل في أبريل الماضي، هبت العديد من الدول العربية، بما في ذلك بعض الدول التي ليس لها علاقات معلنة، للدفاع عن إسرائيل، عبر تقديم معلومات استخباراتية، وسمحت لإسرائيل باستخدام مجالها الجوي، أو حتى ساعدت بنشاط في تعقب واعتراض الطائرات المسيرة والصواريخ الإيرانية.[23]
وفي هذا الصدد، قال السيناتور الجمهوري الأمريكي “ليندسي غراهام” إنه تحدث مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 24 أكتوبر 2024، ويعتقد أنه يمكن التوصل إلى اتفاق لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية قبل نهاية العام!!، وقال “غراهام” الذي التقى نتنياهو أيضًا في وقت سابق من هذا الشهر: “أعتقد أن الوقت قد حان للقيام بذلك في عهد بايدن”، وإنه من شأن تطبيع العلاقات الإسرائيلية السعودية، أن يوسع ما يعرف بـ”اتفاقيات إبراهام” التي تم إبرامها، والتي أدت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات والبحرين والمغرب والسودان”[24].
خاتمة:
قادت إسرائيل عملية تحويل دفَّة الصراع في المنطقة لصراع سني-شيعي على عدة جبهات، سواء في العراق، أو اليمن، أو سوريا، أو لبنان بدرجة رئيسية، والأخيرتين على حدود إسرائيل التي تتشارك مع السعودية العداء لـ”حزب الله”، والذي تم تصنيفه مؤخَّرًا كمنظَّمة إرهابية من قبل السعودية وحلفائها، وهو موقف أضر بالتأكيد بالقضية الفلسطينية، ومع استمرار النظام الإيراني في تهديد الاستقرار الإقليمي، فإن الحافز الذي يدفع البلدين إلى جعل شراكتهما رسمية بات أكبر من أي وقت مضى، ونجحت إسرائيل في جعل إيران عدوا مشتركا ينبغي التحالف مع إسرائيل للوقوف أمامه.
فإسرائيل استخدمت فزاعة إيران للدفع بعجلة التطبيع، وجعل المقاومة الفلسطينية وكأنها أحد الأذرع الإيرانية ونزعها من موضعها في القضية الفلسطينية، وهو ما نتحمل تبعاته الآن، وبعد عام كامل على بدء الإبادة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني في مقابل صمت وعجز وخوف إقليمي وعربي.
وفي هذا الصدد نجد أن (MBC) قد اختارت الانحياز لسياسة الدولة المالكة لها على حساب اتجاه الرأي العام الساخط على السياسات الإسرائيلية تجاه الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، فالرأي العام العربي جعل من السنوار على مواقع التواصل الاجتماعي، بطلا شهيدًا مُقبلا مُدافعًا عن عقيدته، بل وأصبحت عصا السنوار التي ضرب بها الدرونز الإسرائيلي، رمزًا للمقاومة والصمود.
وعليه، فعلى الرغم من وقاحة التقرير الصادم والمشين، إلا أنه وللأسف الشديد يعكس حقيقة الموقف السعودي تجاه المقاومة الفلسطينية، وعلى الرغم من إصدار هيئة الإعلام السعودية إدانة كاملة للتقرير، إلا أنه يتطابق مع الموقف السعودي تجاه قادة المقاومة الفسطينية، وقد يقدم لنا ما يبرر الصمت والخذلان العربي الرسمي لعام كامل من الإبادة للشعب الفلسطيني.
—————————————–
الهوامش:
[1] محمد مشاري معد برامج سعودي الجنسية بقناة MBC.
[2] قامت قناة إم بي سي بمسح المحتوى من صفحات الانترنت، إلا أنه يمكن مشاهدة التقرير على الرابط التالي على منصة X: https://tinyurl.com/dk2jkhxb
[3] موقع قناة BBC، غضب واسع بسبب تقرير تلفزيوني لقناة سعودية يصف قادة حماس وحزب الله بـ”الإرهابيين”، 20 أكتوبر 2024 متاح على الرابط التالي: https://tinyurl.com/8v2mu8dc
[4] موقع RT، فصائل المقاومة الفلسطينية تدين مشاركة قنوات فضائية عربية في خدمة “أجندة إسرائيل” و”شيطنة المقاومة”،20 أكتوبر 2024، متاح على الرابط التالي: https://tinyurl.com/ytx99zv2
[5] Robert O. Keohane and Joseph S. Nye, Power and Interdependence in The Information Age, Foreign Affairs, Vol. 77, No:5, September 1998, p. 83.
[6] Eytan Gilboa, Global Communication and Foreign policy, International Communication Association, Journal of Communication, Volume December 2002, P. 11.
[7] Eytan Gilboa, The CNN Effect: The Search for a Communication Theory of International Relations, Political Communication, Volume 22, Issue 1, 2005, P. 27, available at: https://2u.pw/6aU7LXYi.
[8] للمزيد حول دور الإعلام السياسي الدولي في العلاقات الدولية انظر: أيةعنان، الإعلام السياسي الدولي: دراسة نقدية نظرية في طبيعة دور الفضائيات الإخبارية في العلاقات الدولية، رسالة ماجستير، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2017.
[9] نهوند القادري عيسي، قراءة في ثقافة الفضائيات العربية: الوقوف على تخوم التفكيك، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2013)، ص87.
[10] المرجع سابق، ص101.
[11] BBC، إغلاق مكتب قناة الجزيرة برام الله، 22 سبتمبر 2024، https://www.bbc.com/arabic/articles/c39l18kvg3yo
[12] موقع RT، السعودية.. إحالة مسؤولين بقناة MBC للتحقيق بعد تقرير وصف قادة المقاومة بالإرهابيين، 19 أكتوبر 2024، متاح على الرابط التالي: https://tinyurl.com/yyv759vb
[13] موقع السعودية نيوز ، سبب استقالة مدير أخبار MBC بعد نشر تقرير ”ألفية الخلاص من الإرهابيين”، 28 أكتوبر 2024، متاح على الرابط التالي: https://tinyurl.com/3f3se432
[14] هل تعكس تصريحات الجبير موقف السعودية الرسمي من حركة حماس؟، BBC، 25 فبراير 2018، https://2u.pw/RcKUidIK
[15] شاهد مقاطع من المقابلة على موقع سي إن إن العربية، بتاريخ 20مارس 2024، على: https://tinyurl.com/bdf85zct
[16] صحيفة عكاظ السعودية الخميس 17 أكتوبر 2024 https://www.okaz.com.sa/news/politics/2172136
[17] موقع RT، “حماس” تدين تقريرا بثته قناة عربية تلا اغتيال السنوار وتعتبره “سقوطا إعلاميا وأخلاقيا” (فيديو)، 18 أكتوبر2024، https://tinyurl.com/34juvkr9
[18] استمع إلى الخطاب على موقع العربية، 19سبتمبر 2024، متاح على الرابط التالي https://tinyurl.com/8b7d3895
[19] انظر: عمر سمير، التحول في المواقف السعودية والإمارات تجاه اسرائيل: المواقف والعلاقات والدلالات، قضايا ونظرات، العدد الثامن، يناير 2018، منشور على الرابط التالي: http://www.hadaracenter.com
[20] خطاب نتنياهو في الكونجرس الأمريكي، يوليو 2024، متاح على الرابط التالي: https://psee.io/6ektqv
[21] المرجع سابق.
[22] تقرير صحيفة هيوم، ترجمة قناة الحرة الأمريكية، 7 يونيو 2024، متاح على الرابط التالي: https://tinyurl.com/3335c6hw
[23] المرجع السابق.
[24] موقع BBC، سيناتور أمريكي يتحدث عن “تطبيع محتمل” بين إسرائيل والسعودية قبل نهاية العام، 24 أكتوبر 2024، متاح على الرابط التالي: https://tinyurl.com/mrxebw4u