الأقليات المسلمة والهوية الدينية أثناء الحرب الأهلية فى جمهورية أفريقيا الوسطى (2012-2016) بين فقه الواقع وفقه الأقليات

مقدمة:

إن قضية الأقليات المسلمة فى العالم تُعد من الموضوعات التى تحتاج إلى استحضار الأمة كمستوى للتحليل لتأسيس منهاجية من منظور أمُمى بهدف وضع معالم ومحددات وأساليب التعامل مع تلك القضية لفَهم منظم ومنضبط حول مساحة واسعة من التفاعلات القادرة على تفسير حال الأقليات المسلمة (باعتباره جزءًا فرعيًّا من المنظومة الكلية) في العالم (باعتباره الساحة النُظمية المتسعة) على نحو أكثر تركيبًا وتعقيدًا.
الهدف المعُلن فى الأعلى يتطلب ضرورة السير نحو منهج أو طريقة قائمة على استدعاء “فقه الأقليات” والقراءة فى تفصيلاته وسبُل تفعيله بما يتسق مع السياق العام الذى يعمل على تنظيمه باستصدار الفتاوى باعتبارها جزئيات خاصة متصلة بحالة يمكن أن ينتج عن تراكماتها فقه عام أو نظميات كلية تهدف إلى تنظيم شئون الأقليات المسلمة وفقا لمتطلبات السياق الذي يتعايشون بداخله سواء كان هذا السياق محكوم بالشريعة الإسلامية أو غير محكوم بالشريعة الإسلامية؛ فالهدف من ذلك هو تيسير أمورهم على نحو يصون الهوية الإسلامية فى مواجهة تحديات القرن الحادى والعشرين.
فإن أهم النقاط الأساسية المكونة لفقه الأقليات المسلمة والاجتهادات والتطورات التي طرأت على الفقه والدعامات الأساسية التي يقوم عليها الفقه، استوجبت ضرورة فهم وقراءة تلك التطورات من منظور مقارن بين مسيرة وعملية التطوير وإلى أى مدى يتسق مع تطور متطلبات واقع تلك الأقليات، كما أن تلك القراءة تستوجب وضع تصورات نقدية حول حال فقه الأقليات وفقه الواقع الآنى.
إذا كان فقه الأقليات المسلمة ونقده من خلال مقاربته بفقه الواقع، فإن ذلك الواقع يتمثل فى واقع وخصوصية القارة الإفريقية فقط دون التطرق إلى واقع الأقليات فى أوروبا، آسيا، الأمريكتين أو أى رقعة أخرى، وهذا لم يعنى أن خصوصية التحديات والفرص ومستقبل تلك الأقليات يقل أهمية عن خصوصية التحديات والفرص ومستقبل الأقلية المسلمة فى القارة الإفريقية. وعليه ستعمل الورقة على قراءة وفهم “ركيزة جزئية فى الترس الكلى” أى فهم حالة مسلمي جمهورية أفريقيا الوسطى في مراحله التاريخية والمعاصرة، باعتبارها قلب القارة الإفريقية خاصة التركيز الأكبر سيكون على الفترة الآنية الشاهدة على حرب أهلية منذ 2012 حتى 2016، وذلك لوضع محطات تدعم تحديد استنباطات واستخلاصات بعد قراءة تفصيلية بهدف تأسيس نمط من الفتوى والفقه العام الذى يساند التعايش السلمى لمسلمى أفريقيا الوسطى فى جسد الوطن الأكبر مع الأغلبية غير المسلمة دون أن يعنى ذلك الاندماج والتماهي للهوية والشخصية الإسلامية فى جسد الوطن الأكبر، فالتعايش يقوم على قبول الآخر المتعدد والمتنوع وهذا ما يتوجب أن يعمل عليه الفقه لتفعيله فى الواقع.

أولًا- منظور شرعى للأقليات المسلمة ونقد فقه الأقليات: حول قضايا أقليات مسلمى العالم الإسلامى (الواقع) وضروريات التطوير الفقهى بين الفتاوى (النص) والتطبيق

إن مفهوم الأقليات من ضمن المفاهيم الجدلية غير المتفق عليها، ففى تلك الورقة ستتخذ من الناحية العددية معيارًا للتعريف. فوفقًا للخبرة التاريخية أثارت قضية الأقليات العديد من الاهتمامات والدراسات، أما من الناحية العملية أدت إلى تطورات هائلة سواء فى شكل الدولة ومفاهيم السيادة، كيفية التعامل مع الأقليات بما لا يخالف القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان وذلك بعد بزوغ الدولة القومية فى أوروبا عقب صلح ويستفاليا.
فى المقابل ظهرت الأقليات على نحو مباشر فى القارات التى شهدت استعمار أوروبى كأفريقيا وآسيا، ولكن بعد محاولات عديدة للتخلص من الاستعمار بدأ في خمسينات وستينات القرن الماضى، حيث أضحت قضية الأقليات على أسس إثنية، عرقية، قبلية، دينية، وطبقية من ضمن القضايا التى يُجرى استغلالها من قبِل قوى الاستعمارية السابقة لترسيخ تواجدها رغم رحيلها حفاظًا على مصالحها الاستراتيجية سواء كانت أمنية أو اقتصادية.
إذا نظرنا فى موضوعة الأقليات من منظور إسلامى سنجد أنه جرى استخدام مصطلح “الملل أو النحل” وليس “الأقليات” للتعبير عن حالتهم وسط المجتمع الأكبر، حيث كانت تلك المترادفات تعطى مدلول بالأقليات من الناحية العددية وحسب، وليس أى مدلول أخر يمكن على أساسه الانتقاص من حقوقهم ومواطنهم وانتمائهم إلى مساحة الدولة الإسلامية التى كانوا يتعايشوا بداخلها[1]. وبالتالى فإن حالة المِلل أو النحل أستوجبت تأسيس وتطوير فقه للتعامل معهم وهذا ما شهد تطورات من حيث المضمون والمنهاجية إلى وقتنا هذا الذى يُطلق عليه “بفقه الأقليات”.
أما عن فقه الأقليات المسلمة فإنه يتعامل مع الجماعات المسلمة التى تعيش تحت ثقافة وحكم غير إسلامى أو غير مُستمد من الشريعة الإسلامية، حيث وجود العديد من إشكاليات الحياة اليومية لملايين المسلمين حول العالم، وعليه فإن هذا الفقه يأتى كمحاولة لحل الصراعات الناجمة عن اختلاف نظام القيم والثقافةفى المةnd culture systemعالم كمحاولة لحل الصراعات الناتجة عن أختلاف نظام القيم والثقافة مد من الشريعة الإسلامية سواء كان ذلك فى البلدان المستضيفة للأقليات المسلمة (المهاجرين) أو البلدان ذات مواطنيين مسلمين أصليين ولكنهم أقليات بداخلها؛ بهدف إعادة تحديد وتشكيل وإعادة تأويل مفاهيم من منظور إسلامى القائمة على فكرة دار السلام ودار الحرب[2].
إن الغرض من فقه الأقليات هو تيسير العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين من خلال توحيد الجماعات المسلمة والتعزيز من هوياتهم الإسلامية ليست من أجل وضعها موضع مناقض أو ثنائى مع الأغلبية غير المسلمة، إنما للتعايش مع هويات تلك الأغلبية ، أما فيما يتعلق بتأسيس نظام خاص من الفقه فهو في الأساس لمواجهة إحتياجات تلك الجماعات المسلمة ومنها: الأمور الظاهرية المتعلقة بالطعام الحلال، مواقيت الأجازات غير الإسلامية، الزواج من أفراد غير المسلمين، نطاق الحلال والحرام فى المعاملات المالية والاجتماعية، والأحوال الشخصية أو الأمور الأكثر عمقا المتعلقة بسؤال الهوية الإسلامية والوجدان بحضور الأمة فى التصرفات المتصلة بالدين الإسلامى، ودور المسلم فى موطنه الجديد (كمهاجر) أو موطنه الأصلى (كمواطن)[3].
و يتصل فقه الأقليات أكثر بالقضايا والمشكلات التى تتعلق فى أغلب الأحوال بالمسلمين المهاجرين من دار الإسلام إلى المجتمعات التى يغلب عليها الحياة العلمانية وذات أغلبية غير مسلمة. أما فيما يتعلق بالمسلمين بإعتبارهم مواطنيين فى بلدان ذات أغلبية غير مسلمة ففي الأغلب لا نجد فقه مؤسس مناسب لأوضاعهم في الأماكن المختلفة بالسياقات المختلفة، بمعنى أخر نجد أنه من المسلم به أن المسلمين الأفارقة يختلف إسلامهم عن مسلمى أوروبا وآسيا والمناطق العربية أو مسلمى الأمريكتين، وعليه فإن كل قارة تتطلب توليد وتأسيس فقه قارئ يتعامل مع قضايا وأمور مسلمى المناطق المختلفة بداخلها.
ففى القارة الإفريقية، نجد أن حوالى نصف تعداد سكانها من المسلمين، وهذا ما يتطلب ضرورة النظر فى هذا الجزء بإعتباره نموذجًا عن العالم الإسلامى بإبعاده الجيوسياسية، إلا أن معظم هؤلاء المسلمين متجزأين فى العديد من البلدان. فوقفا للمصطلحات الإثنوجرافية نجد أنهم فى حال أقليات وليست أغلبية عدا منطقة شمال أفريقيا الناطقى باللغة العربية.
وعليه فإن فقه الإقليات المسلمة فى حاجة إلى إعادة قراءة وتطوير وذلك لأن التواجد المادى للعالم الإسلامى بإعتباره مفهوم جيوسياسى لوجدانيات الأمة الإسلامية إلا أن أغلب أركانه لم تقم على أركان الشريعة الإسلامية إنما هو عالم إسلامى يعود إسلاميته لغالبية سكانه من المسلمين.
ففى جمهورية أفريقيا الوسطى بإعتبارها مركز اهتمام الورقة للأقليات المسلمة التى تتعرض إلى عمليات ممنهجة من الإبادة والتهجير القسرى، فكان من الفتاوى التي تدخل ضمن فقه الأقليات تلك التي تقوم على ترك المسلمين لدارهم من جمهورية أفريقيا الوسطى والنزوح إلى دول مجاورة ذات أغلبية مسلمة كالسودان أوتشاد أو حتى إلى دول أخرى بشرط أن تكون ذات أغلبية مسلمة. فمثل تلك الفتاوى لن تقدم اجتهاد سوى الرحيل، ولكن ماذا عن تقبل مسلمى أفريقيا الوسطى لمثل هذه الفتوى، وهل هى تدرك –أى الفتاوى- إمكانيات وقدرات هؤلاء المسلمين لترك أموالهم وأراضيهم والرحيل إلى دولًا ليست بديارهم. ففى الواقع بالفعل –كما سيتم ذكره فيما يلى- يتم إما التهجير القسرى للمسلمين أو إبادتهم فى أفريقيا الوسطى من قبل الجماعات المسلحة المعادية للمسلمين القائمة على إبادتهم بالفعل. فهل تأتى الفتاوى باقتراح يشابه ما تفعله الجماعات التى تبدد بواقع وهوية المسلمين بالفعل؟!
فبالنظر إلى مسلمى جمهورية أفريقيا الوسطى لم يعد فقه الأقليات القائم على مدى شرعية الطعام وحلالية الذبح وشرعية الزواج أو حتى الحق فى ممارسة الطقوس الإسلامية فى المجال العام من عدمه لا يكفي الأوضاع في أفريقيا الوسطي، أنما الأمر يتطلب تأسيس فقه الأقليات المسلمة قائم على فقه الأولويات الحياتية التى يتخذ من الحفاظ على الأمن الشخصى والجسدى للمسلمين فى بلدان غير مسلمة من الأولوية الأكثر أهمية.
وعليه فإن حالة الأقليات فى جمهورية أفريقيا الوسطى تُعد من ضمن أنماط التصنيف القائمة على الأقليات الدينية، فى المقابل يتوقف الفقه على عدد من التساؤلات التى تراعى طبيعة حالتهم ونظامهم…مثلا ماذا عن حجم القضية فى كلياتها؟ ماذا عن أسباب وجود هذه الأقليات؟ ماذا عن المشاكل والتحديات والتهديدات التى تواجهها؟ ماذا عن الإمكانات والفرص ومستقبل تلك الأقليات؟ حيث نجد أن دوافع دراسة الأقليات تختلف على حسب طبيعة النظام الفكرى والقيمى وأيضا النظام السياسى والاقتصادى والمجتمعى الذى تتواجد بداخله تلك الأقلية رغم إشتراكهم حول جوهر واحد وهو تعرض العقيدة والقيم والسلوك والنسق المعرفى لتحديات وتهديدات من المحيط الخارجى غير المسلم، ولكن نجد الأقليات فى أوروبا تتطلب لفهمها إطارً عامًا يختلف عن نظيره فى دراسة الأقليات فى أفريقيا[4].
وعليه سيتم مناقشة حالة مسلمى جمهورية أفريقيا الوسطى بإعتبارهم أقلية مسلمة تتعرض إلى سياق حرب أهلية قائمة على الهوية الدينية نتج عنها إبادات وتهجير وقتل ممنهج. والهدف من بنية الورقة هو الخروج بمفاصل وخصوصيات حالة مسلمى أفريقيا الوسطى أملًا فى إيجاد تفعيل على مستوى منهاجية فتاوى تتخذ من الواقع محدد لما يقوم عليه فقه الأقليات من أجل وضع خريطة تنفيذ من قِبل المنظمات والمعاهد التى تتخذ من قضية الاقليات المسلمة أساس لعملها. علمًا بأنه إذا كان من المتطلب تأسيس فقه قارى للأقليات المسلمة ربما يتوجب لذلك وضع خصوصيات وجزئيات كل حالة من الحالات التى يتواجد فيها أقليات مسلمة. فهناك مايزيد عن الثلاثين دولة فى أفريقيا يتعايش بداخلهم أجزاء العالم الإسلامى والأمة الإسلامية، وهذا ما يعنى وضع فقه قارئ مناطقى أى أن تحديات وتهديدات مسلمى منطقة القرن الإفريقى تختلف فى بعض أبعادها عن تحديات وتهديدات مسلمى وسط القارة الإفريقية أو مسلمى غرب أفريقيا وهكذا، فتلك النقطة يتوجب وضعها فى الحسبان.
وعليه فإن بنية الورقة تحاول البحث عن وفهم طبيعة التساؤلات التالية:
· من أين بدأ العنف على نحو ملحوظ أم أن العنف بدأ من الأطراف المشكلَة للحرب الأهلية فى أفريقيا الوسطى على نحو متساوى؟
· من أين تكونت وبدأت كل من سيليكا بإعتبارها الجماعة المسلحة ذات الأغلبية المسلمة وأنتى-بالاكا بإعتبارها الجماعة المسلحة ذات الأغلبية المسيحية، وما هو الهيكل الأساسى والمكونات الهوياتية لكلًا منهما؟
· ما هي الأسباب التى أدت إلى الوصول لوضع إبادة وتهجير ممنهج للمسلمين فى جمهورية أفريقيا الوسطى؟ كيف يؤثر السياق التاريخى لنشأت المسلمين فى جمهورية أفريقيا الوسطى على نمط التهديدات التى تواجههم فى اللحظة الحالية؟
· ماهي العلاقة بين كل من التدخل الفرنسى وسيليكا من جانب والتدخل الفرنسى وأنتى-بالاكا من جانب آخر؟
· هل الخلاف من جذوره قام على مفارقات سياسية ثم تحول إلى حرب قائمة على الهوية الدينية خاصة بعد التدخل الفرنسى (كما يدعى العديد من الأطراف سواء كانت من مراكز تفكير غربى أو من فواعل أرضية كسيليكا) أم أن الخلاف تاريخيًا تمثل فى خلافات ومناحرات قائمة على الهوية الدينية؟
· هل طبيعة المجتمع فى جمهورية أفريقيا الوسطى قام على صراعات قائمة على الهوية الدينية عقب الاستقلال فى 1960 أم لم يكن كذلك؟
· هل عندما وصل ميشيل جوتوديا –بإعتباره أول رئيس مسلم- سدة الحكم غاب عن حكومته عناصر متنوعة من هويات دينية أخرى كالمسيحيين أم أنها كانت حكومة توافقية تجمع بين كافة الأطراف؟ ولماذا أصبح الصراع “صراع ديني” واضح بعد وصول جوتوديا الحكم ولماذا جاء التمرد عليه سريعا؟
· هل هناك وجود لمنظمات إغاثة إنسانية إسلامية فى أفريقيا الوسطى أو حتى فى مجتمع اللاجئين إلى تشاد والكاميرون أو بين النازحين داخليًا أم أن مثل هذا المنظمات غابت عن المشهد الإنسانى المتأزم؟ وما هو دور إدارة الإقليات المسلمة فى منظمة المؤتمر الإسلامى؟
· ماذا عن مستقبل الصراع، هل قدم الأطراف المتنازعة تصوراتها حول مستقبل الصراع وكيفية التعايش السلمى بين الهويات الدينية المختلفة خاصة بعدما استمرت عمليات العنف على أساس دينى وهذا ما سيؤثر بالسلب على تعايش وتماسك المجتمع فى المستقبل تحت برامج نزع السلاح، تشريح الجيوش، وإعادة التأهيل فى المجتمع Disarmament, Demobilization, Reintegration Programs (DDRPs) التى يسيطر عليها تصورات ومنظورات الأمم المتحدة لتسوية الصراع خاصة بعد إعلان بعثة الأمم المتحدة أنها لم تخرج من البلاد إلا فى نهاية عام 2016؟

ثانيًا- الجذور التاريخية لمسلمى أفريقيا الوسطى: الاستعمار وما بعد الاستعمار وتداعياته على لحظة الصراع الآنية

تحت قبة البرلمان البلجيكى قال أحد النواب لرئيس الوزراء البلجيكى “نحن نعلم لماذا تذهب فرنسا لأفريقيا الوسطى لمساعدة شركاتها هناك…فما مصلحتنا فى إرسال قوات”، وذلك ردًا على إقتراح بإرسال قوات بلجيكية إلى جمهورية أفريقيا الوسطى[5].
فربما يعود سبب أساسى فى الصراع القائم فى جمهورية أفريقيا الوسطى إلى الحفاظ على مصالح إستعمارية فرنسية مازالت قائمة فى تلك الدولة، ولعل أفضل السبُل التى تسمح لها بالتدخل فى الدولة بذريعة الحفاظ على استقرار الدولة والمنطقة الإقليمية المجاورة لها هو إشعال صراع قائم على الهوية الدينية ومعضلة المسلمين-المسيحين فى بلد عاشت فترات الإستعمار والتخلص من الاستعمار فى مراحل إلتحامية بين كافة الأفراد بغض النظر عن الدين، الأثنية، القبيلة، أو الطبقة. ولكن الاستعمار دائما ما يعمل من خلال أدواته المادية بما فيها العلوم كالأنثربولوجيا، السوسيولوجيا، والسيكولوجيا بتداخلاتهم البينية؛ بهدف التعزيز من النزاعات العرقية، القبلية، الدينية، وحتى المكانية الجغرافية وتأجيج الصراعات فى مستعمراتهم سابقا لإبقاء الباب شبه مغلق لتدخل بهدف التحكم فى معادلات التفاعلات والتحركات لما يخدم ويكرس لمصالحها باستمرار[6].
وعليه فإن تعقيد المشهد الهوياتى القائم على الدين فى أفريقيا الوسطى لم يكن وليد لحظة الحرب الأهلية الآنية، أنما هو عملية تراكمية إلا أن الجديد فيه هو فكرة تحويل الصراعات السياسية إلى إبادات على أساس الهوية الدينية دون إعطاء أى أولوية أو اعتناء بالإعتبارات الإنسانية وسؤال حقوق الإنسان فى حق مسلمى أفريقيا الوسطى.
تاريخيًا وصل الإسلام إلى القارة الإفريقية ولكنه ليس بالمنهج الواحد، حيث وصل الفتح العربى فى القرن الأول هجريًا إلى مصر بإعتباره من المحطات الأولى لإنتشار الإسلام وكانت فى تلك الفترة تحت الحكم البيزنطى المستبد، وهذا ما ساعد المصريين على الدخول فى الإسلام والتعريب. أما باقى الشمال الإفريقى كانت الديانة المسيحية منذ العهد الرومانى الأول هى المسيطر الأساسى على المنطقة إلى جانب بعض البربر فى أغلب المناطق الداخلية، بالإضافة إلى إعتناق بعض سكان الجبال فى تلك المناطق للدين اليهودى وعلى الرغم من مقاومة البربر للفتح الإسلامى إلا أنه حقق تغيير شامل مع تأسيس مدينة القيروان على يد عقبة بن نافع فى 50ه/670م[7].
مع حلول القرن الحادى عشر ميلاديًا أصبح منطقة الشمال الإفريقى ذات أغلبية مسلمة مع إضفاء الطابع العربى (تعريب) للعديد من هؤلاء المسلمين. وإذا كان الشمال الإفريقى انتشر بداخله الإسلام بسبب الفتح العربى الإسلامى إلا أن إنتشاره فى باقى القارة الإفريقية أتخذ طرق مختلفة للإنتشار فبعد توقف الحملات العسكرية العربية على أفريقيا جنوب الصحراء بعد ثورات البربر الكبرى والعديد من السكان المحليين فى الأربعينيات من القرن الثامن الميلادى ومناهضتهم للفتح الإسلامى وإنتشار الإسلام لإسباب تعود إلى رغبة قبائل البربر فى الاستقلال والقيادة والسيطرة، وعليه انتشر الإسلام إلى أفريقيا جنوب الصحراء عن طريق التجار المسلمين الذين استخدموا الطرق التجارية للصحراء الغربية بعد الفتح العربى للمغرب، وهذا ما أثر على العديد من البربر خاصة المتواجدين فى منطقة الصحراء الكبرى الذين عملوا كمرشدين ومرافقين يحرصون القوافل ومن ثم أصبح تأثير الثقافة الإسلامية أكثر تجذرًا فى حياة السكان المحليين والبربر[8].
وتطورت الأمور فى المناطق المتسعة من القارة الإفريقية وصولًا إلى القرن الخامس عشر المعروف بعصر الاستكشافات الناكبة على القارة، حيث وصل البرتغاليون عقب رأس الرجاء الصالح وصولًا إلى غرب أفريقيا للقيام بعمليات إستجلاب الرقيق من القارة فى حركة عُرفت “بمثلث الأطلنطى للتجارة” من غرب القارة إلى أورربا ثم الأمريكتين لجلب العبيد والموارد الطبيعة واستمر الأمر حتى عقد مؤتمر برلين 1884 “للتكالب الاستعمارى” لتقسيم القارة بين القوى الكبرى فى النظام الدولى المتمثلة فى الامبراطورية البريطانية وفرنسا بالإضافة إلى البرتغال وبلجيكا وأسبانيا واستمرت الحقبة الإستعمارية فى القارة حتى مع حلول الخمسينات من القرن العشرين بعد مرور قرون عديدة من النهب والاستغلال ومحاولة إضفاء الثقافات الإستعمارية على مستعمراتهم ووضع الحدود المصطنعة بما يخدم مصالح المُستعمر والتنمية غير المتوازنة، حيث تلقت المُدن التى كانت مركز للحكم الإستعمارى العديد من التطورات التنموية دون باقى المساحات ورفع شعار الأبوية والمجيئ لمهمة حضارية. وأصبحت معظم أجزاء القارة فى حالة من الثورات التى تراوحت من السلمية وصولًا إلى العمل المسلح.
ففى ذلك الوقت، وبعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية حدث تغير فى بنية المجتمع الدولى حيث أصبحت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى قوى عظمي. وهذا ما عزز من ضغط المجتمع الدولى على القوى الإستعمارية للتصفية استعمارها خاصة بعدما تلقت حركات التمرد والثورات الدعم من الكتلتين فى شكل حروب بالوكالة. ولكن مع إستراتيجية تقسيم الحدود وفقا للمصالح الإستعمارية وهذا ما نتج عنه تقسيم قبائل وأعراق ومجموعات دينية وإثنيات بأكملها إلى جزيئيات متشرذمة مع إشعال النظرية العرقية والقبائليةTribalism والإثنية لتخصيب المجال لعودة المستعمر مرة أخرى ولكن فى صور جديدة (الإستعمار الجديد) فى خضم عملية التقسيم نتج عنها تغيرات فى التركيبات الديمغرافية وتنقسم القبائل والمجموعات الدينية وهذا ما حدث فى جمهورية أفريقيا الوسطى حاليًا، حيث تقسمت منطقة أفريقيا الوسطى إلى دول-قومية ذات حدود جديدة متعددة، وعليه ظهرت مشكلة الإقليات ذات الأنماط المتباينة ومنها على أساس دينى، عرقى، إثني، وقبلى، وبالتالى نشبت العديد من الصراعات والحروب الأهلية على تلك الأٌسس.

ثالثًا- عن بدايات العنف وأنماط التهديدات: الإبادة نتاج المصالح والهوية الدينية

منذ ديسمبر 2012 شهدت جمهورية أفريقيا الوسطى أسوء فترات تاريخها من التمرادت المسلحة، الانقلابات العسكرية، الثورات، التدخلات الأجنبية، والمعاناه الإنسانية. فبعد الإطاحة بالرئيس فرانسوا بوزيزيه من قبل تحالف سيليكا ذو الأغلبية المسلمة فى 24 مارس 2013 predominantly Muslim Séléka rebel alliance، حيث أنضم إليها مقاتلين من تشاد والسودان لإرتكاب بعض الإنتهاكات واسعة النطاق ضد حقوق الإنسان. حيث استهدف التحالف الأغلبية المسيحية –بإعتبارها الأغلبية العددية فى السكان- مما أدى ذلك إلى إتساع جماعات مقابلة أطلقت على نفسها “مليشيات الأنتي-بالاكا anti-balaka militias” وتسليحها على نحو كثيف لتجديد الإنتهاكات ضد المسلمين[9].
ركزت تلك المليشيات ذات الأغلبية المسيحية عنفها على إبادة المدنيين على أساس الهوية الدينية المسلمة على نحو صريح، مما أثر ذلك على النسيج المجتمعى للبلاد ومُجبريِن آلالاف من الأقليات المسلمة فى أفريقيا الوسطى على الرحيل والهروب والنزوح من أمام الإبادات الجماعية المرتكبة ضدهم[10].
على المستوى الدولى، سواء كانت المنظمات الدولية الحكومية أو غير الحكومية، قوات بناء السلام أو نقاشات دبلوماسية للوساطة أو التفاوض لم يكن هناك على الإطلاق جهد جاد يسعى إلى تسوية تلك الإبادة، وإن وُجد، فلم يكن كاف لمنع المزيد من إنتهاكات حقوق الإنسان فى أفريقيا الوسطى. فعلى سبيل المثال، كان مجلس الأمن الأبطأ فى الإستجابة إلى تلك الإنتهاكات والإبادات، بالإضافة إلى القوة الاستعمارية السابقة المتمثلة فى فرنسا والتي لم تعمل تعبئ قواتها للتدخل إلا فى نهايات 2013 بعدما تعقدت عمليات الإبادة والأزمات واستمرت عمليات للطرد القسرى الممنهج للمسلمين من بلادهم أو التمثيل بأجسادهم، ورغم ذلك لم تتدخل الأمم المتحدة إلا فى إبريل 2014 من خلال “مينوسكا[11] وهى بعثة الأمم المتحدة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار فى جمهورية أفريقيا الوسطى (MINUSCA) United Nations Multidimensional Integrated Stabilization Mission in the Central African Republic” من أجل حفظ السلام ولكنها جاءت متأخرة[12]. إلا أن ذلك التأخر لم يأتى بفائدة فرغم ذلك تعقدت الأمور أكثر مما هى كانت عليه بعد التدخل الفرنسى وقيامه بنزع السلاح من سيليكا وإبقاءه مع الأنتى-بالاكا وهذا ما سيلى توضيحه.
أما على المستوى الإقليمى، ظهرت تجليات الأزمة على مستوي إقليمي مع استقبال كلا من تشاد والكاميرون آلآلاف من النازحيين هذا من ناحية، ولكن من ناحية أخرى كان لكل من تشاد والسودان دور في الصراع في أفريقيا الوسطي من خلال إمداد جماعة سيليكا بمساعدات تسليحية وقتالية وأفراد مساندين بجانبهم فى مواجهة جماعة أنتى-بالاكا.
فى حين مثّل المستوى المحلى، حالة من الفوضى والتعامل مع الأزمة باستراتيجيات وتكتيتكات سببت فيما بعد بستهيل عمليات الإبادة الممنهجة ضد المسلمين، وأشتدت عليهم وطأة التأمر بعدما تدخلت القوات الفرنسية ونزعت من الجماعات المسلمة أسلحتها تاركة إياهم بلا حامى أو مدافع رغم تذرعها بالتدخل لحماية الأقليات وإستعادة الأمن ونزع السلاح من كافة الأطراف المتنازعة[13].
كما شُكل المجال المحلى العام القائم على السيطرة على القوة والسلطة من خلال أساليب غير دستورية، حيث أطٌيح بأربع رؤساء من أصل خمس بطرق غير مشروعة، بما فيهم فرانسوا بوزيزي الأخير من قبِل تحالف سيليكا فى مارس 2013 مع العلم أن بوزيزى نفسه جاء إلى الحكم من خلال إنقلاب عسكرى فى 2003 للإطاحة بالرئيس أنجي فيليكس باتاسيه (1993-2003)[14].
فتكرار العنف فى أفريقيا الوسطى جاء لإسباب هيكلية متكررة ومتشابهة التى عانت منها البلاد خلال الخمس عقود الماضية بدأ من المشكلات التى تركها الاستعمار الفرنسى قبل أن يغادر البلاد والحدود والتقسيم الاستعمارى، ثم مشكلات ما بعد الاستقلال المتمثلة فى الصراع على الموارد والسلطة، الفقر، هشاشة الدولة ومؤسساتها بما فى ذلك تفكك الأجهزة الأمنية، وهذا ما ميزّ القارة الإفريقية بكثرة الإنقلابات العسكرية على نحو متكرر. ضف إلى ذلك المشكلات المتعلقة بالتدخلات الأجنبية من خلال المؤسسات المالية العالمية وفرض تصورتها على الاقتصاد الإفريقى المتهالك والتنمية غير المتوازنة وغير العادلة بين المدن والعواصم الإفريقية مقارنة بالمناطق غير الحضرية والريفية، فضلا عن الصراعات المتعلق بالانقسامات القبلية، الجهوية، العرقية، الإثنية، الدينية، وغيرها من العوامل التى على أساسها تنقسم وتتناحر المجتمعات الإفريقية المحكومة بنخب مستقطبة ما بين تحقيق مصالحها الذاتية ومصالح قبيلتها أو عشيرتها وما بين إرضاء الأطراف الأجنبية الخارجية التي تسعي لفرض شروطها.
كما أن كل تلك الأزمات السابقة، تجسدت على نحو واضح ومكثف أثناء فترة حكم بوزيزيه، حيث تدهورت الحكومة وسلطة الدولة. كما تورط بوزيزيه وحكومته فى قضايا فساد متعددة. حيث عمل على التعزيز من السلطة والثروة فى إيدى عائلته على نحو مباشر مع تمكين جماعاته الإثنية (الجبايا the Gbaya) وتهميش المحافظات الشمالية والشرقية التى أصبحت مساحات خصبة لإرتكاب االعديد من المظالم “breeding grounds for legitimate grievances”لمظلميات المشروعة شمالية والشرقية دى عائلته على نحو مباشر مع تمكين جماعاته الإثنية (جبايا التى تمايز القارة الإفريقية خاصة بعد “، ضف إلى ذلك توظيفه للدين –بإعتباره الرئيس الوحيد الذى وظفّ الدين- عبر ربط شخصه بالكنائس المسيحية الإنجيلية، مما جعل من أفريقيا الوسطى عبارة عن دولة وهمية a Phantom State أصبح الدين فيها من أسباب الإقتتال والفوضى[15].
وعليه أصبح السياق معزز لتمرد جماعات سيليكا والإطاحة بالرئيس بوزيزيه، فى المقابل سعت مليشيات أنتى-بالاكا فى إعادة الرئيس إلى الحكم مرة أخرى. فطوال تاريخ العنف الذى شهدته أفريقيا الوسطى برز على وجه الخصوص ما يسمى ب”ندرة مصادر العدالة”؛ بمعنى أنها شهدت صعوبات فى تحقيق الشفافية والمسألة، فالمحاكم نُهبت والقضاه قُتلوا، وهذا ما شجع الجماعات المتمردة على كسر سلسلة العقوبات التى كانت تقع على أعضاءها وتهريبهم من السجون للخروج إلى الحياة العامة؛ حيث تم إرتكاب المزيد من العنف الهيكلى الممنهج. فأحد هؤلاء المتمردين هم “ميشيل جوتوديا ونور الدين آدم” فكلاهما من أمراء الحرب فى تحالف سيليكا المتمرد، كما أصبح جوتوديا أول رئيس مسلم لأفريقيا الوسطى من 2013 إلى 2014. كما طبق –بعد وصوله لسدة الحكم- من قبِل المجتمع الإسلامى لتحالف سيليكا ما سُمى ب”العقوبات الشعبية” أى تطبيق الأحكام على نحو يومي وفقا لما تضعه وتراه تلك التحالفات[16].

رابعًا- تجليات أزمة وأسباب الصراع وبنية أطرافه

فى ديسمبر 2012 أسُست حركة التمرد “سيليكا” بقيادة نور الدين آدم ومحمد موسى دهفان، مع انضمام قوات ميشيل جوتوديا فى شمال شرق أفريقيا الوسطى[17]. وبالفعل حققت قوات سيليكا مكاسب عسكرية بارزة فى الشمال، الشرق، ووسط البلاد. وبنهاية الشهر سيطرت القوات السيليكاية على أكثر من نصف مساحة أفريقيا الوسطى، فلم يعد سوى 75 كيلومتر على شمال العاصمة “بانغى” للسيطرة عليها. كما حققت خسائر باهظة فى صفوف الجيش الوطنى لأفريقيا الوسطى[18].
فكلما أقتربت قوات سيليكا من العاصمة أصبح الخطر أكثر تفاقمًا، مما دفع الأمر بالأطراف الوطنية لطرح محادثات سلام معها. ففى 11 يناير 2013 عُقدت اتفاقية لوقف إطلاق النار ووضع شروط لتوزيع القوة والتحول السياسى، ولكن أوضح الرئيس بوزيزى عدم رضاءه عن الاتفاقية خاصة بعدما سيطرت قوات سيليكا على أكثر من نصف مساحة الدولة مما جعلته فى موضع ضعف، وهذا ما عجل من وقوع إنقلاب عسكرى فى مارس2013 [19].
بالفعل أصبحت قوات سيليكا الطرف الأكثر قوة وسيطرة على الساحة، حيث تلقت الدعم العسكرى والمادى من الخرطوم-السودان وتعبئة جماعات شبة مسلحة من دون الدول لمساعدتها. ومن أهم تلك الجماعات “الجنجويد” وهى عبارة عن تجمع من المقاتلين الناطق باللغة العربية في الصراع مع الجماعات المتمردة في إقليم دارفور بغرب السودان[20]، كما تلقت سيليكا مساعدات مشابة من الجماعات والملشيات الإسلامية فى تشاد، وهذا ما ساعد على الإطاحة بالرئيس بوزيزى فى 24 مارس 2013 كحدث أنهى بذلك المرحلة الأولى من الأزمة للدخول نحو المرحلة التالية الأكثر تعقيد والأكثر فى أعداد الضحايا وبداية الإبادات الموجه ضد المسلمين[21].­
وعلى الرغم من وجود قوات حفظ السلام التابعة لبعثة توطيد السلام فى جمهورية أفريقيا الوسطى MICOPAX (Mission for the consolidation of peace in the central African Republic) التابعة للأتحاد الإفريقى، حيث عقد الأتحاد الإفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا (الجماعة الاقتصادية) فى 19 ديسمبر 2013 عملية نقل السلطة من بعثة توطيد السلام في جمهورية أفريقيا الوسطى (MICOPAX) لبعثة الدعم الدولية التي تقودها أفريقيا في جمهورية أفريقيا الوسطى MISCA (African-led international support Mission in the central African Republic). حيث ترأس العملية رئيس الحكومة الانتقالية للوحدة الوطنية، السيد نيكولا تيانجايا Tiangaye وعدد من المسؤولين السياسيين والعسكريين وأجهزة الشرطة. فنقل السلطة هو عبارة عن تتويج لعملية طويلة من التشاور والتنسيق بين الاتحاد الأفريقي والجماعة الاقتصادية، بدعم من الشركاء الدوليين[22]. فى المقابل لم تواجه قوات سيليكا جهدًا للتوجه نحو العاصمة والسيطرة على “دامارا Damara” التى تعتبر بمثابة الخط الأحمر للجماعات المتمرد صوب العاصمة[23].
مع حلول نهاية سبتمبر 2013، وطدت سيليكا سيطرتها على العاصمة وأعلن “جوتوديا” نفسه رئيسا للبلاد وهذا ما جعل الأتحاد الإفريقى يعلن عدم دستورية التغير الحادث فى أفريقيا الوسطى وتولى رئيس يدين بالديانة المسلمة على أغلبية مسيحية وبشكل عنيف وغير دستورى، وبالفعل أستصدر الأتحاد قرارا بضرورة معاقبته ولم يعترف به معظم القوى الإقليمية والدول الإفريقية الأخرى، إلا أنه بعد مرور شهرين من تولى جوتوديا أعترف الأتحاد الإفريقى بكونه الرئيس الانتقالى للبلاد وأصبح مقاتلى سيليكا –بفعل أمر الواقع والمعادلات الأمنية غير المستقرة فى البلاد- بمثابة قوات الأمن الوطنية فى جمهورية أفريقيا الوسطى المنوطة بتوطيد الأمن والاستقرار[24].
لم يستقر الأمر على ذلك أنما كانت البداية نحو المزيد من الفوضى، حيث قامت قوات سليكيا بملاحقة داعمى الرئيس بوزيزى السابق والقبض وقتل عناصر الجيش الوطنى الموالى لبوزيزى، وهنا بدأ يتصاعد مشهد إقتتالى قائم على أساس الدين، حيث روج بأن ما يحدث هو قتل من قبل تحالف سيليكا المسلم للأغلبية المسيحية، وهذا ما جعل الأتحاد الإفريقى يدين نظام “جوتوديا”[25]. فى المقابل تصاعدت local communities جماعات محلية أخرى تتكون من “أعضاء من القوات المسلحة لجمهورية أفريقيا الوسطى FACA (Les Forces Armées de la République CentrAfricaine)، قوات الحرس الرئاسى والجندرمة الوطنية، عناصر من أجهزة الأمن والشرطة، وبوزيزيين Bozizists أى داعمين للرئيس السابق، حيث عملت فى سبيل تعبئة وتجنيد العديد من الشباب والنساء والأطفال كمقاتلين. كما أطلقت على نفسها باسم “جماعات الأنتى-بالاكا [26]anti-balaka.
أصبح هيكل تلك الجماعات مترامى الأطراف ومتسع من الناحية الكمية والكيفية ولم يعد من السهل تقدير أعدادهم أو سبُل تمويلهم، وبالفعل بدأت أولى أعمالها الموجهة إلى “المدنيين المسلمين” سواء كانوا منضمين إلى جماعة سيليكا أم مدنيين ليس لهم أى أنتماءات سياسية أو مليشية. حيث أصبح الهدف الأساسى لجماعة أنتى-بالاكا إبادة المسلمين فى أفريقيا الوسطى. ففى منطقة بوسانجو Bossangoa فى “محافظة أوهامouham prefecture ” شكلت نقطة البداية فى الإبادة للمسلمين هناك، فبوسانجو كانت بمثابة التركز الأساسى لأثنية الجبايا أى الجماعة الإثنية التى ينتمى إليها الرئيس السابق بوزيزى[27].
أما على مستوى المجتمع الدولى، صرح مستشار الأمم المتحدة لمنع الإبادات والمذابح الإنسانية “أنه إذا لم يتم التحرك الآن وعلى نحو حاسم، فلم يتم إستبعاد إمكانية وحتمية وقوع مجازر ومذابح فى جمهورية أفريقيا الوسطى للمدنيين سواء كان أغلبهم من المسلمين أو غيرهم[28]”. كما أعلن وزير الدفاع الفرنسى جان إيف ليدغيون بإرسال 1000 من القوات الإضافية –وذلك بعدما نجحت القوات الفرنسية فى قمع المتمردين الطوارق والجماعات الإسلامية فى جمهورية مالى- مع العلم أنه كان هناك حوالى 400 من القوات الفرنسية بالفعل متواجدة فى أفريقيا الوسطى، بهدف إستعادة الأمن والاستقرار فى أفريقيا الوسطى كمستعمرة فرانكونفونية[29].
فى أواخر عام 2013 أصبح الأمر فى أفريقيا الوسطى أقرب إلى الوصول لذروة البركان، فالحرب الأهلية والأبادات الجماعية أصبحت بالفعل مكتملة الأركان. حيث أعلنت جماعة الأنتى-بالاكا تنسيق حملة للهجوم على جماعة سيليكا فى “العاصمة بانغى”، ووجد مكتب الأمم المتحدة للشئون الإنسانية أن الجانبين أى سيليكا وأنتى-بالاكا قد أرتكبا جرائم حرب وإنتهاكات لحقوق الإنسان على نحو ممنهج[30]. وأعلنت “منظمة العفو الدولية” أن ما يحدث فى جمهورية أفريقيا الوسطى هو تطهير. حيث أتهمت قوات حفظ السلام بالتواطئ مع جماعة أنتى-بالاكا ضد سيليكا وهذا ما أسهم فى إزدياد الاضطهاد ضد المسلمين وعمليات القتل المستمرة للمسلمين وتهجيرهم قسرا إلى خارج البلاد، حيث تقدر الأعداد بحوالى مليون لاجئ إلى كلا من تشاد والكاميرون، فضلا عن عمليات النزوح والتشرد الداخلى داخل الحدود لجمهورية أفريقيا الوسطى[31].
ولكن ما الذى أوصل الأمور إلى تلك الدرجة وفى فترة زمنية قصيرة؟ فهناك بعض الآراء ترى فى أن الأمور بدأت بالصراعات السياسية ورفض تصرفات وسياسات الرئيس بوزيزيه والتمرد عليه من قبل جماعة سيليكا مع العلم أن المسلمين فى أفريقيا الوسطى ليس لهم حقوق سياسية تذكر فى الحكومة السابقة لبوزيزيه، وهذا ما عرضهم دائما إلى عمليات التهميش. فالمعادلات تتحرك وفقا للمصالح، وواقعيا لم تتأذم الأمور على النحو الحالى وتحويل الصراع إلى إبادات ومذابح قائمة على أسس الهوية الدينية إلا بدخول القوات الفرنسية تحت دعوى المساعدة اللوجيستية للقوات الإفريقية فقط أملًا فى عودة السلام والاستقرار ومنع تقسيم البلاد.
فالمصالح الفرنسية فى جمهورية أفريقيا الوسطى وعلاقاتها مع الرئيس بوزيزيه ومع كلا من جماعة أنتى-بالاكا وسيليكا يمكن قراءتها من خلال لماذا نزعت السلاح عن طرف دون الأخر؟ ولماذا سمحت لأول رئيس مسلم فى جمهورية أفريقيا الوسطى بعد مرور سبع رؤساء مسيحيين أى لما لم تساند بوزيزيه منذ البداية ضد الإنقلاب العسكرى الذى قامت به جماعة سيليكا؟ وماهى المصالح الفرنسية فى جمهورية أفريقيا الوسطى؟ ولماذا جاء التدخل بعد وقوع الإنقلاب بحوالى عشرة أشهر وليس منذ الشهر الأول أو الثانى لمنع وصول الأمر إلى مشهد الإبادة؟ ولماذا حظى جوتوديا كأول رئيس مسلم كرئيس إنتقالى للبلاد من قبل الإتحاد الإفريقى بالقبول وعدم إعتراض فرنسا، عليه فى بداية الأمر طالما أنه يتنمى إلى سيليكا بإعتبارها جماعة مسلحة تنشر أعمال العنف والقتل؟ أغلب تلك التساؤلات فى معظمها تعود أسباب وقوعها لمصالح اقتصادية ولسؤال الثروة فى المقام الأول، فالمسألة ليس مسألة هوية دينية أو عرقية أو سياسية أنما هى اقتصادية وثرواتية بالأساس والدليل أن مثل تلك المشاهد تكررت فى السودان وكوت ديفوار أى الصراع الأهلى وإلباسه ثوب الهوية الدينية وفى نهاية المطاف النتائج تذهب لمن فى يده القدرة على تحقيق المصالح الفرنسية المتعلقة بالموارد والثروات.
ففى بداية الأمر قبل الوصول إلى مشهد “ذروة الإبادة” التى وقع أغلبها ضد العناصر المسلمة من المدنيين إلا إنها أيضا طالت المواطن المسيحى العادى لأفريقيا الوسطى. يعود تهميش المسلمين من الرئيس أنجي فيليكس باتاسيه (1993: 2003) الذى أطُيح بإنقلاب عسكرى –لإسباب تعود إلى فساد حكمه وزيادة نسبة الإنفلات الأمن وتراجع الاقتصاد وغيرها من ظروف خصبة للإنقلاب العسكرى- من قبل الجنرال بوزيزيه (2003: 2013) الذى استعان ببعض الجنود المسلمين لكى يساندوه فى الإستيلاء على الحكم ضد الرئيس باتاسيه، فهؤلاء الجنود أطُلق عليهم “بالمحررين libérateurs” للسلطة لبوزيزية، وذلك مقابل مكأفات مادية عظيمة، ولكن بعد وصوله للحكم لم يعطيهم ما كان متفق عليه، كما أنه همشهم وأقصاهم من الحياة العامة، ومن هنا يرجع تاريخ تكوين جماعة السيليكا (أى التحالف باللغة السانغو)[32].
ولكن ما الذى مكّن ذلك التحالف للظهور مرة أخرى وخاصة فى ذلك التوقيت أى بعد تولى بوزيزيه للحكم بعقد كامل دون أن تعلن تمردها إلا فى ذلك التوقيت. هنا صرح محمد سعيد اسماعيل مستشار رئيس جوتوديا لشئون العالم الإسلامى فى حوار له أن “بدايتا دفعت فرنسا بدعمها لتحالف سيليكا على نحو غير مباشر للإنقلاب على بوزيزيه ووصولها للسلطة كورقة ضغط مؤقت للإطاحة ببوزيزيه؛ يرجع ذلك لأنه لم يعد الشخص الذى يصلح لحماية المصالح الاقتصادية الفرنسية فى أفريقيا الوسطى المتمثلة فى اليورانيوم، النفط، الذهب، الماس خاصة وأن بوزيزيه بدأ يتخذ بعض السياسيات التى من شأنها أن تضر بالشركات الفرنسية لإنتاج اليورانيوم (شركة أريفا نموذجا بإعتبارها المحتكر لإنتاج اليورانيوم فى أفريقيا الوسطى[33])، ولكن بعدما تحقق الهدف من إزاحة بوزيزيه تدخلت فرنسا لتحويل الأزمة السياسية إلى إبادة على أساس الهوية الدينية ودعم جماعة أنتى-بالاكا المتكونة من باقية الجيش الوطنى المتفكك وأجهزة الشرطة وأخرون، ولا يهتمون بقضية إبادة مسلمين من غيرهم، أنما هم إيضا ورقة مؤقتة فى يد فرنسا للتخلص من تحالف سيليكا والرئيس جوتوديا طالما تحقق هدفهم ووجدوا ذريعة للتدخل فى البلاد مرة أخرى لإعادة ترتيب مصالحهم فى البلاد[34]”.
أنتهجت القوات الفرنسية أسلوبا ممنهجا –وفقا لما ذكره محمد سعيد اسماعيل- حيث كانت تعمل على تحديد أماكن تحالف سيليكا ثم تعمل على النزع الجبرى للإسلحة منهم، فى نفس الوقت الذى تنتظر جماعة الانتى-بالاكا حتى تقوم بهجومها عليهم وهم فى حالة “العزّل” من أى سلاح للدفاع به عن أنفسهم ثم يقوموا بمجازرهم وقتلهم وحرقهم للمسلمين ونهب ممتلكاتهم وهدم بيوتهم. وهذا ما حدث على نحو متكرر مما أوضح المنهج الذى تسير عليه القوات الفرنسية على نحو غير مبالى بالضحايا التى تنتج عن ذلك[35].
وعليه ترتب على ذلك، وجود ما يزيد عن مليون نازح من المسلمين فى تشاد لم يجدوا الاحتياجات الأساسية التى تحفظ أمنهم الإنسانى[36]. كما قٌدر القتلى والمفقودين بالآلاف، بالإضافة إلى الحرجى، مشوهين وذوى العاهات الناتجة عن الحرب التى لازالت مستمرة، التجنيد القسرى للأطفال والنساء سواء فى سيليكا أو الأنتى-بالاكا، الاغتصابات الممنهجة من قبل سيليكا أو الأنتى-بالاكا أو قوات حفظ السلام، حيث أعلنت الأمم المتحدة فى 5 إبريل 2016 أنها وسعت التحقيق في مزاعم استغلال جنسي وانتهاكات من قِبل جنود حفظ السلام الأجانب في أفريقيا الوسطى، وأكدت أنها أخطرت السلطات في فرنسا بهذه الاتهامات[37].
فالأمم المتحدة أكدت أن قوات العملية العسكرية الفرنسية متهمة باغتصاب أطفال وإجبار فتيات على ممارسة الجنس مع الحيوانات مقابل الحصول على مبلغ صغير من المال في العام 2014. اتهامات تأتي عقب إجراء مقابلات مع الضحايا الذين قُدمت لهم مساعدات ودعم طبي ونفسي واجتماعي. صرح ستيفان دوجاريك المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أن “تدخلات المجتمع الدولي ساعدت في إنقاذ جمهورية أفريقيا الوسطى من مصير لا يوصف. ومع ذلك يجب أن نواجه حقيقة أن عددا كبيرا من الجنود الذين أرسلوا لحماية الناس بدلا من ذلك تصرفوا بقلوب ظالمة. هذه الجرائم تقع في صمت. وهذا هو السبب في أن الأمين العام قام بتسليط الضوء على هذه المزاعم الدنيئة، الفاسدة والمقلقة للغاية[38]”. فكل تلك الخسائر البشرية لم تقع فحسب على المسلمين –رغم أنها موجهة ومقصود منها المسلمين- أنما طالت الأمن الإنسانى لمواطنى جمهورية أفريقيا الوسطى على وجه العموم. فلم يراعى الاعتبارات الإنسانية على الإطلاق والخسائر واحدة وهى البشر.

خامسًا- دور الدين فى الحوار لتخفيف الصراع

نجد أنه مع غياب حضور الدولة ليس فقط فى أوقات الحروب أنما فى أوقات السلام إيضا، فإن عدد من المجتمعات فى جمهورية أفريقيا الوسطى لجأت إلى مصادر دعم وحوار أخرى تضمنت بالأساس على فواعل قائمة على الإيمان Faith-based actors كالأئمة، القساوسة، القادة الدينيين فى مؤسسات دينية، والمعلمين الدينيين[39]. فمنذ إندلاع الأزمة فى ديسمبر 2012 طرح القادة الدينيين من مجتمعات مختلفة تأسيس ووضع ملتقى بين-دينى inter-religious platform (IRP) من أجل مناقشة وتخطيط أفعال وتحركات تهدف للتقليل من حدة الصراع والتوسط بين الطرفين، حيث قامت تلك المبادرة بالدعم من أطراف دينية محلية، بالإضافة إلى منظمات غير حكومية دولية قائمة على عنصر الدين كمنظمة خدمات المعتقد الكاثوليكى Catholic Relief Services (CRS( tholic Relief Services (CRSكمنظمة خدمات المعتقد الكاثوليكى المبادرة بالدعم من أطراف دينية محلية بالإضافة إلى منظمات غير حكومي)، ملتقى المسلم للأعمال الخيرية Muslim Charities Forum، Catholic Agency For Overseas Development ” CAFOD[40]” الوكالة الكاثوليكية للتنمية ما وراء البحار[41].
فعلى المستوى الدولى، شكلت تلك الحوارات أو النقاشات البين-دينية بقيادة فاعلين دينيين من دون الدول دورا هاما بالضغط على الأمم المتحدة ومجلس الأمن بالاستجابة لإدانة الإبادات الواقعة فى جمهورية أفريقيا الوسطى أغلبها يتم ضد المسلمين، وهذا ما عزز من دور تلك الحوارات أو ملتقى البين -دينى inter-religious platform (IRP) حيث تلقى الدعم والمساندة من منظمات دولية كمنظمة العفو الدولية، منظمة مراقبة حقوق الإنسان Human Rights Watch، و Medecins Sans Frontieres وذلك للعمل على التعزيز من قوات حفظ السلام داخل جمهورية أفريقيا الوسطى للنظر فى عمليات نزع السلاح غير المتوازنة والانتهاكات الجسيمة التى تقع فى حق المدنيين فى أفريقيا الوسطى لاسيما أن أغلبهم من مسلمى أفريقيا الوسطى[42].
وعليه يمكن وصف الدور الذى لعبته تلك الفواعل الدينية بإنه قدرة فواعل من دون الدول تتخذ من الدين منطلقًا لها للحوار والتوسط ومن ثم أكتسبت شرعية وثقة كبيرة على المستوى الدولى والمحلى الداخلى رغم أن الأزمة لم تخف على نحو ملحوظ إلا أن تلك الفواعل لعبت دورًا هامًا فى الصراع القائم على الهوية الدينية فى جمهورية أفريقيا الوسطى ومن أهم أدوارهم هى كالتالى[43]:
1- الدخول فى عمليات وساطة واسعة النطاق بين المجتمعات المختلفة وبين الجماعات المسلحة المختلفة سواء كانت مسلمة أو مسيحية.
2- فتح المؤسسات الدينية سواء كانت المساجد أو الكنائس أمام المدنيين أو حتى كافة المتضررين من الحرب القائمة على الهوية الدينية وتقديم المساعدات الإنسانية.
3- الاستمرار فى لعب أدوارهم كقادة دينيين وذلك للتأثير على الأفراد المنضمة إلى جماعات مسلحة متباينة، حيث قاموا بإنتهاج لغة أن الدين له دورًا فعّال فى إدارة الصراع وحماية الأفراد من التهديدات المحتملة والمتواجدة على أرض الواقع. ربما من أفضل الاستراتيجيات التى اسُتخدمت من قبِل هؤلاء القادة الدينية هى ضرورى “العودة إلى الله turn to God”، وهذا ما أتضح بين المجتمعات المسلمة وكيف أثر ذلك عليهم أو شكل بمثابة الدعم الأخلاقى والنفسى.
4- قيام هؤلاء القادة بإتخاذ كلا من المستشفيات والمدارس مآوى أمنة لضحايا الحرب والنازحين والمشردين داخليًا سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، بالإضافة إلى توفير الطعام، المخبأ الأمن، الخدمات الصحية والطبية للحرجى، والدعم المعنوى خاصة أنه لم يكن هناك مساعدات متوافرة من قبل الفواعل الدينية العبر قومية كمنظمة المؤتمر الإسلامى والجمعيات الإغاثية العالمية الإسلامية وبالمثل بالنسبة للأطراف المسيحية.

خاتمة: مستقبل الصراع فى مرحلة ما بعد الانتخابات: الاستنباطات لمآلات الصراع

نجد أنه دون الخوض فى تفاصيل المرحلة الانتخابية التى مرت بها جمهورية أفريقيا الوسطى فى 14 فبراير 2016 بعد صراع دام ثلاث سنوات، ودون التركيز على تفاصيل برنامج أو تصورات أو إنتماءات كل مرشح على حدة أنما الأهم من ذلك هو التركيز حول كيفية الخروج من الأزمة القائمة بالأساس على الهوية الدينية ومن وراءها مصالح رئيسية لا تولى انتباه إلى الإبادات والخسائر الإنسانية التى وقع أغلبها على كاهل مسلمى جمهورية أفريقيا الوسطى. ففى 30 مارس الماضى أدى رئيس منتخب فوستن تواديرا اليمين الدستورى كبداية جديدة نحو إدارة البلاد دون أى تحيزات أنما الهدف هو الصالح العام والخروج من الأزمة بهدف التعزيز من مساحات لحوار الجميع للمشاركة فى عملية صنع وتنفيذ القرارت دون أى إعتبارات شخصية، عرقية، أو دينية[44].
فتواديرا الذي انتخب في الجولة الثانية من الإنتخابات الرئاسية بنسبة 62.69% من أصوات الناخبين، يواجه 3 ملفات أساسية، أولهما: إعادة الأمن لأفريقيا الوسطى المنقسمة إلى شقين: ميليشيات كل من: “السيليكيا” و”الانتي بالاكا”، المهمة الثانية تتمثل في تحقيق المصالحة الوطنية. وفي هذا الإطار، يرى ملاحظون أن الرئيس عليه عبء تشكيل حكومة متناسقة توافقية تضم مسلمين ومسيحيين لدرء الخلافات. غير أن التحدي الأهم، الذي يواجهه الرئيس الجديد، يظل هو كيفية تحقيق الإنتعاشة الاقتصادية التي تحتاجها البلاد خصوصًا وأن جمهورية أفريقيا الوسطى من أكثر الدول فقرًا في العالم، رغم ما تكتنزه أراضيها من موارد طبيعية وهذا ما سبب فى إفتعال العديد من الحروب الأهلية، أما المهمة الثالثة تتمثل فى إسترجاع وإعادة توطين اللاجئين من البلاد المجاورة كالكاميرون والسودان والتشاد مع إعادة الاستقرار داخل البلاد لإيقاف تدفقات النزوح الداخلى والتشرد المستمر لملايين من الأفراد.
وعليه فإن التحديات التى تقف أمام الحكومة الحالية بعدما فشلت الحكومة كاثرين سامبا بانزا الإنتقالية السابقة للحكومة الحالية فى تحقيق الاستقرار وحقن دماء المسلمين وإقامة حكومة قائمة على رؤى الجميع والتوافق على أساس الهوية الدينية والعرقية. حيث تتمثل تلك التحديات فى إلى أى مدى ستتحلى الحكومة التالية بالموضوعية وتشكيل مجلس نتفيذى وتشريعى يضم جميع الهويات الدينية والعرقية والاثنية والنوعية؟ وكيف سيتم نزع العنف والسلاح عن جميع الأطراف القائمة على الحرب؟ وماذا عن نجاح الحكومة الحالية فى إقامة محاكمات عادلة لكل مرتكبى العنف فى حق المسلمين هناك؟ وكيف يمكن إعاد توطين المشردين واللاجئيين وبناء أمة منسجمة تفسح المجالات الأمنة أمام الجميع لتأسيس حالة من السلام التعايشى؟
ولكن ربما التحركات التى قام بها تواديرا لم تعطى إمكانية التنبؤ بحل الأزمات السابق طرحها. ففى منتصف أبريل الماضى وضع تواديرا حكومته التى كان من المفترض أن تراعى الفصائل المتنازعة إلا أنها تركت أنصار المليشيات المسلمة والمسيحية وراءه فى حوار العنف فى البلاد، وفتح باب المناصب العليا ومراكز متخذى القرار لمستقبل البلاد لبعض من أنصاره وأعضاء حكومة بوزيزيه السابقة. حيث عين ثلاث من المرشحين أمامه بعدما حدث اتفاقات عدة بمساعدته فى حكم البلاد. فتولى جوزيف ياكيتى وزارة الدفاع فى حين ترأس جين بوكاسا وزراة الداخلية وهو نجل عسكرى دكتاتور سابق جان بيدل بوكاسا الذى نصب نفسه قسرًا على السلطة البلاد خلال فترة 1966حتى 1976. كما تولى تشارلز دوبانى وزارة الشئون الخارجية، فضلا عن إسناد وتسمية عدد من المناصب والوزارات لأعضاء حكومة بوزيزيه السابقة. وهذا ما يعنى أن المهمة الأولى لم يتبين أنه سيعطيها بأولوية حيث لم يسمى أى من الفصائل المتنازعة أو يضع بخطة يمكن أن تعمل على معالجة الإنقسام المجتمعى والصراع الدائم على المدى المتوسط والطويل[45].
هناك العديد من الخطابات على مستوى الرئاسة (خاصة خطاب الأفتتاح بعد تولى السلطة) ترى أن الحل يكمن فى نزع سلاح الفصائل المتناحرة وإصلاح القطاع الأمنى والتعزيز من قطاع الزراعة لرفع الكفاءة الاقتصادية للبلاد والتحسين من مؤشر القوى الشرائية للأفراد الذى شهد تراجعًا حادًا منذ إندلاع الأزمة[46]. وذلك دون التأكيد على أن التراجع الاقتصادى الأسوأ فى تاريخ الدولة لم يحدث إلا بهجوم المليشيات المسلمة سيليكا للأطاحة بوبوزيه فى مشاهد متكررة للعنف ونزع الطابع الأمنى عن المجال العام والخاص للدولة وهذا لا يقل خطرًا عن الهجمات منزوعة الطابع الإنسانى من المليشيات المسيحية التى راحت تعمل على الإبادة الممنهجة لمسلمى الدولة وهروب أكثر من مليون لاجئ ونازح خارج البلاد خوفًا من العنف والقتل[47].
فربما البدايات السابقة طرحت بممارسات وخطابات لا تأخذ فى الحسبان تعديدية الفصائل المتناحرة فى البلاد. بالإضافة إلى أن النخب التى تحكم حاليًا إما هى أبناء دكتاتورين سابقين جاءوا على حكم البلاد، إما من النخب السابقة لحكم بوزيزيه مع إهمال عمليات التمثيلية المرجوة لحل الأزمة. أما فيما يتعلق بعمليات نزع السلاح وتسريح الجيوش وإعادة الإندماج فى المجتمع خاصة لمليشيات المسلحة وعمليات إصلاح الأجهزة الأمنية وإعادة توطين اللاجئين والنازحين ووضع خطة منضبطة للتحسين الاقتصادى. فإن كل تلك العمليات لم تجد حتى الآن آليات واضحة وجاد لإنجازها، فأغلب الوعود هى على مستوى الخطاب والقول فقط لم تتعدى لمستوى التفعيل والممارسات. بالإضافة إلى أن عمليات تحقيق العدالة الإنتقالية وإجراء محاكمات عادلة لكافة الاطراف التى تورطت فى تعقيد ووقوع أحداث العنف لم تتناول لا على المستوى الخطابى ولا المستوى الممارساتى. فربما يبدو القائمين على السلطة فى جمهورية أفريقيا الوسطى فى اللحظة الآنية لن يمثلوا نمط جديد من الحكم أنما الأمور ستتعاقب كأغلب الأنماط الفاسدة على المستوى الإفريقى على وجه الخصوص ومستوى العالم النامى على وجه العموم وفى وسط تلك الخريطة المعقدة تتماهى قضية الأقليات المسلمة بذريعة أنها ليست من الأولويات أنما خطاب الإجتياجات الأساسية basic need هو الذى يتصدر كافة الخطابات والممارسات.
*****

الهوامش:

* طالبة ماجستير في العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
[1] د.نادية محمود مصطفى، الفقه السياسى للأقليات المسلمة، 2015، متاح على رابط مركز الحضارة للدراسات السياسية: http://www.hadaracenter.com/index.php?option=com_content&view=article&id=1273:2015-08-15-13-48-49&catid=304&Itemid=544
[2] Muhammad Khalid Masud, “Islamic Law and Muslim Minorities,” ISIM, 11 (2002), P.10, AVAILABLE AT: http://www.isim.nl/files/newsl_11.pdf
Dina Taha, Muslim minorities in the west: between Fiqh of minorities and integration, EJIMEL, Electronic journal of Islamic and middle Eastern law, university of ZurichUZH , VOL.1, 2013, PP.3: 12.
[3] Ibid, p.3.
[4] د.نادية محمود مصطفى، الفقه السياسى للأقليات المسلمة، 2015، متاح على رابط مركز الحضارة للدراسات السياسية: http://www.hadaracenter.com/index.php?option=com_content&view=article&id=1273:2015-08-15-13-48-49&catid=304&Itemid=544
———————-، فقه الأقليات المسلمة بين فقه الاندماج (المواطنة) وفقه العزلة: قراءة سياسية في واقع المسلمين في أوروبا، 2014، متاح على رابط مركز الحضارة للدراسات السياسية: http://www.hadaracenter.com/index.php?option=com_content&view=article&id=1399:2013-05-20-09-34-21&catid=304&Itemid=544
[5] حول مأساة المسلمين فى أفريقيا الوسطى، لقاء حوارى، الجزيرة، 6مارس 2014، متاح على الرابط التالى: https://www.youtube.com/watch?v=ze8XLOYDkuY&nohtml5=False
[6] Ali A.Mazrui, Seek Ye first the political Kingdom. David Wiley, Tribe” and “Tribalism”: to misunderstand African Societies, available at: https://www.africa.upenn.edu/K-12/Tribe.html
[7] م.الفارسي، إ.هربك (المشرف)، تاريخ أفريقيا العام: أفريقيا من القرن السابع الميلادى إلى القرن الحادى عشر الميلادى، اللجمة العلمية الدولية لتحرير تاريخ أفريقيا العام (اليونسكو)، باريس، المجلد الثالث، ص 55.
[8] المرجع السابق، ص ص 55: 65.
[9] ALEXIS ARIEFF, Crisis in the Central African Republic, congressional research service, 27 January 2014, pp.3: 9.
Sohaib gabsis and scott shaw, crisis in the central African Republic: Muslim Minorities and the Descent into sectarian conflict, Prepared for the All-Parliamentary Group for the Prevention of Genocide and other Crimes against Humanity, Carleton University & the Norman Paterson School of international Affairs, June 2014, pp.3:5.
[10] Evan Cinq-Mars, Too little, too late: failing to prevent atrocities in the Centeral African Republic, Global Centre for the Responsibility to protect, No.7, September, 2015, p.3.
[11] فتلك المهام تأتى فى ظل وجود لبعثة الأمم المتحدة (الميونسكا MINUSCA) المكونة من حوالى أكثر من 12 ألف جندى يعمل فى البلاد بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وهذا ما يخول لها حق استخدام السلاح.
[12] See MINUSCA available at: http://www.un.org/en/peacekeeping/missions/minusca/mandate.shtml
[13] Ibid.
[14] International Crisis Group, “Central African Republic: Untangling the political dialogue,” 9 December 2008, available at: http://www.crisisgroup.org/~/media/Files/africa/central-africa/central-african-republic/B055%20Central%20African%20Republic%20Untangling%20the%20Political%20Dialogue.pdf
[15] International Crisis Group,” Central African Republic: Anatomy of a Phantom State,” 13 December 2007, available at: http://www.crisisgroup.org/~/media/Files/africa/central-africa/central-african-republic/Central%20African%20Republic%20Anatomy%20of%20a%20Phantom%20State.pdf
Louisa Lombard, “Pervasive mistrust fuels CAR crisis,” Al Jazeera America,11 April 2014, available at: http://america.aljazeera.com/opinions/2014/4/central-africa-republicgenocideselekaantibalaka.html
[16] Louisa Lombard and Sylvain Batianga-Kinzi, “Violence, Popular Punishment, and War in the Central African Republic,” African Affairs, 114(454), 16 December2014, available at: http://afraf.oxfordjournals.org/content/114/454/52
Global Centre for the Responsibility to Protect, “Upholding the Responsibility to Protect in the Central African Republic,” 12 May 2014, available at: http://www.globalr2p.org/media/files/car-may-2014-brief-1.pdf
[17] Evan Cinq-Mars, Too little, too late: failing to prevent atrocities in the Centeral African Republic, Global Centre for the Responsibility to protect, No.7, September, 2015, p.8.
[18] Ibid.
[19] Ibid.
[20] Brendan Koerner, Who Are the Janjaweed? A guide to the Sudanese militiamen, slate, July 2005, available at: http://www.slate.com/articles/news_and_politics/explainer/2004/07/who_are_the_janjaweed.html
Evan Cinq-Mars, Too little, too late: failing to prevent atrocities in the Centeral African Republic, Global Centre for the Responsibility to protect, No.7, September, 2015, p.8.[21]
[22] Transfer of authority from MICOPAX to MISCA, African Union Peace and security, 19 Dec 2013, available at: http://www.peaceau.org/en/article/transfer-of-authority-from-micopax-to-misca
[23] Peter Clottey, “African Union Rejects New Central African Republic Leader,” Voice of America, 1 April 2013, available at: http://www.voanews.com/content/african-union-rejects-new-central-african-republic-leader/1632857.html .
[24] African Union Peace and Security Council, “Appeal of Brazzaville by the International Contact Group on the Central African Republic,” 3 May 2013,available at: http://www.peaceau.org/en/article/appeal-of-brazzaville-by-theinternational-contact-group-on-the-central-african-republic .
[25] Fédération internationale des droits de l’homme (FIDH), “Central African Republic: A country in the hands of Séléka war criminals,” 23 September 2013,available at: https://www.fidh.org/IMG/pdf/rca616a2013basdef.pdf
[26] Evan Cinq-Mars, Too little, too late: failing to prevent atrocities in the Centeral African Republic, Global Centre for the Responsibility to protect, No.7, September, 2015, p.9.
[27] Ibid.
[28] Thomas Hubert, “UN warns Central African Republic at risk of genocid’”,FRANCE24, 2 November 2013, available at: http://www.france24.com/en/car-central-african-republic-seleka-genocide-united-nations-peacekeeping /
[29] David Smith, “France to send 1,000 more troops to Central African Republic,” The Guardian, 26 November 2013, available at: http://www.theguardian.com/world/2013/nov/26/france-1000-troops-central-african-republic
[30] Ibid.
[31] Ibid.
[32] حول مأساة المسلمين فى أفريقيا الوسطى، لقاء حوارى، الجزيرة، 6مارس 2014، متاح على الرابط التالى: https://www.youtube.com/watch?v=ze8XLOYDkuY&nohtml5=False
[33] للأطلاع على أصول وأنشطة وفروع شركة أريفا أنظر: http://www.areva.com/
[34] حول مأساة المسلمين فى أفريقيا الوسطى، لقاء حوارى، الجزيرة، 6مارس 2014، متاح على الرابط التالى: https://www.youtube.com/watch?v=ze8XLOYDkuY&nohtml5=False
[35] المرجع السابق.
[36] Amnesty International, “Central African Republic: Human Rights Crisis Spiraling out of Control,” 29 October 2013, available at: https://www.amnesty.org/en/documents/AFR19/003/2013/en
[37] Margaux Benn, U.N. Sex Abuse Scandal in Central African Republic Hits Rock Bottom, foreign policy, 8 April 2016, available at: http://foreignpolicy.com/2016/04/08/u-n-sex-abuse-scandal-in-central-african-republic-hits-rock-bottom/?utm_content=buffer506c8&utm_medium=social&utm_source=facebook.com&utm_campaign=buffer
[38] كوثر وكيل، اتهام جنود القبعات الزرقاء بارتكاب انتهاكات جنسية فى أفريقيا الوسطى، يورونيوز، ابريل 2016، متاح على الرابط التالى: http://arabic.euronews.com/2016/04/01/un-shocked-to-the-core-over-new-child-sex-abuse-allegations-in-car/
[39] Veronique Barbelet, Central African Republic: addressing the protection crisis, HPG Working Paper, November 2015, p.9.
[40] http://cafod.org.uk/
[41] Veronique Barbelet, Central African Republic: addressing the protection crisis, HPG Working Paper, November 2015, p.9.
[42] A.Neal, Supporting Social Cohesion in the Central African Republic, Humanitarian Exchange, No.26, September 2014, p.12.
[43] Ibid.
[44] سيدي أحمد ولد الأمير، أفريقيا الوسطى: حكومة انتقالية في مهبِّ صراعات متجددة ، أكتوبر 2015، مركز الجزيرةللدراسات، متاح على الرابط التالى: http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2015/10/201510471341838730.htmL
عبد الحكيم نجم الدين، أفريقيا الوسطى.. وما بعد الانتخابات الرئاسية، قراءات إفريقية، مارس 2016، متاح على الرابط التالى: http://www.qiraatafrican.com/home/new/%D8%A5%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B3%D8%B7%D9%89-%D9%88%D9%85%D8%A7-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A6%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9
[45] Central African Republic Gets New Government, voanews, 11 April 2016, available at: http://www.voanews.com/a/new-government-central-african-republic/3280277.html
[46] حفل الأفتتاح: كلمة الرئيس تواديرا Cérémonie d’investiture: Allocution du Président Touadéra, 30 March 2016, available at: https://www.youtube.com/watch?v=btxNVB9Fu9g
[47] CAR President Vows Peace, Reforms at Inauguration, voanews, 30 March 2016, available at: http://www.voanews.com/a/central-african-republic-touadera/3261918.html

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى