الثورة التونسية بين الثقافي والسياسي: ماذا يراد بالمجتمع التونسي؟

مقدمة:

تعاني بلدان الثورات العربية من مشاكل اقتصادية واجتماعية مزمنة ومتراكمة على مدار عقود مضت في ظلِّ أنظمة حكم استبدادية متوارثة، وقد كان حضور الأبعاد الاقتصادية واضحًا في الثورة التونسية على وجه الخصوص، والتى يعود سبب اندلاعها المباشر في 17 ديسمبر 2010 إلى المظاهرات الشعبية المتضامنة مع الشاب محمد البوعزيزي الذي قام بإضرام النار في جسده في نفس اليوم (مات بعدها بأيام) احتجاجًا على مصادرة السلطات البلدية في مدينة سيدي بوزيد لعربة يبيع عليها الفاكهة والخضار، وللتنديد برفض سلطات المحافظة قبول شكوى أراد تقديمها في حق إحدى الشرطيات التى صفعته على وجهه. وقد أدى ذلك إلى اندلاع شرارة المظاهرات يوم الجمعة 18 ديسمبر 2010 وخروج آلاف التونسيين الناقمين على أوضاع البطالة وغياب المساواة والعدالة الاجتماعية وتفاقم الفساد داخل النظام الحاكم، وتطورت تلك الأحداث بشكل متسارع واتسعت الاحتجاجات لتأخذ طابعًا سياسيًّا ويطالب الشعب بتنحي الرئيس بن علي وبالحريات ومحاسبة العابثين بالأموال العامة والتحقيق بقضايا الفساد.
ورغم وضوح القضايا الاقتصادية والمعيشية على فاعليات الثورة التونسية وشعاراتها الرمزية إلا أن ثمة تحوُّلًا كبيرًا في أولويات القضايا المطروحة للنقاش العام في تونس منذ الثورة وحتى اللحظة الراهنة، لصالح حالة من الجدل المتصاعد حول قضايا دينية مجتمعية بحتة وسط حالة من الشدِّ والجذب والاستقطاب الحادِّ بين التيارات العلمانية والإسلامية.
تبلور هذا الجدل الثقافي المتصاعد في أشكال مختلفة بدأت أثناء عملية وضع الدستور الجديد الذى شهد خلافًا حادًّا حول توصيف طبيعة الدولة “مدنية – علمانية – دينية”، ونظام الحكم “رئاسى – برلماني”، وكذلك طبيعة العلاقة بين الدين والدولة والتشريع إضافة إلى قضايا ذات صلة بوضع المرأة العام والخاص.
امتدَّ هذا الجدل وتطوَّر إلى حالة نماذجية شديدة الوضوح خلال الشهور الماضية بعد صدور “تقرير الحريات الفردية والمساواة” في يونيو 2018 والذى تبنَّاه رئيس الجمهورية التونسي ووعد بتحويله إلى مشروع قانون يطرح على البرلمان التونسي رغم ما يحتويه من آراء علمانية صادمة تجاه عدد من القضايا الدينية المتعلِّقة بالمرأة مثل الميراث والعِدَّة والمهر والنفقة والزواج من غير المسلم إضافة إلى قضايا أخرى ذات صلة بالمسألة الجنسية مثل الزنا واللواط وشرب الخمر وغيرها من القضايا ذات الصلة بظاهرة التحلُّل من أي أحكام إلهية بدعوى الحرية.
وسنحاول في هذا التقرير رصد مظاهر هذا الصراع الثقافي في تونس من خلال تحليل قضيتين نموذجيتين في هذا السياق، هما: “علاقة الدين بالدولة” و”المرأة ومسألة الحرية والمساواة”، مع محاولة تقديم إطار تفسيري في ختام الورقة.

القضية الأولى- الغموض المقصود.. جدل الدولة المدنية والعلمانية:

شهدت عملية وضع الدستور الجديد لثورة تونس جدلًا واسعًا بين التيارات العلمانية والإسلامية حول قضية الدين تحديدًا وموضعه في الدستور ما بين تيار منكر رافض لأي إشارة له في أي مادة دستورية، وتيار آخر مؤيِّد لهيمنته على عملية التشريع من خلال التمسُّك بالنصِّ على صيغة “الشريعة الإسلامية المصدر الأساسى للتشريع”، لينتهي الأمر بعد حالة استقطاب حادَّة إلى حالة خفيفة التصريح تم الاكتفاء فيها بالإشارة من بعيد إلى أن دين تونس هو الإسلام ولغتها العربية، ومن المفارقات الدالة في هذا السياق اعتراض التيارات العلمانية على تلك الإشارة الخفيفة بشدَّة، رغم أنها نفس الإشارة الموجودة في الفصل الأول من دستور 1959 الموضوع في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبه (رائد العلمانية الحديثة في تونس)، كما حاولت تلك التيارات الالتفاف على تلك الإشارة الخفيفة بتأويل يتبنَّاه البعض بأن الضمير المتصل في عبارة “دينها الإسلام”، لا يتصل بالدولة وإنما بتونس، وأن الأمر لا يتجاوز مرتبة الإقرار بوضع اجتماعي دون ترتيب أي نتائج قانونية عليه(1). وكان من اللافت للنظر أيضًا اقتراح المعترضين أن يكون الإعلان العالمى لحقوق الإنسان هو المصدر الأساسى للتشريع بدلا من الشريعة الإسلامية(2).
كما تفرَّع هذا الجدل إلى قضية أخرى تتعلَّق بطبيعة العلاقة بين الدين والدولة ما بين مؤيِّدٍ للنَّصِّ صراحة على كونها دولة علمانية لا علاقة لها بالدين، وآخرين يفضِّلون مصطلحًا أخفَّ هو “المدنية”، لينتهي الجدل لصالح التيار العلماني من خلال النَّصِّ في الفصل الثاني من الدستور الجديد على أن “تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون، ولا يجوز تعديل هذا الفصل”، إضافة إلى تضمين الفصل السادس نصًّا حول إلزام الدولة بضمان “حرية المعتقد والضمير” و”حماية المقدَّسات”(3).
ومن المفارقات الدَّالَّة في هذا السياق أيضًا انحصار الجدل حول مصطلح “مدنية الدولة” في الدستور التونسي باتجاه معنى واحد فقط خاص بنقيض كل ما هو ديني دون الإشارة مطلقًا إلى المعنى الأصلى المناقض لكل ما هو “عسكري”، الأمر الذي دفع كثيرين إلى التشكُّك في حملة الترويج لمصطلح الدولة المدنية باعتباره صيغة مراوغة لمفهوم آخر وهو “الدولة العلمانية”، وقد قطع رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي هذا الجدل الدِّلالي في تصريح أكثر صراحة في أغسطس 2018 حين قال: “القول بأن مرجعية الدولة التونسية مرجعية دينية خطأ فاحش.. تونس دولة مدنية مرجعها الدستور وليس لها علاقة بالدين أو القرآن”(4).

القضية الثانية- العلمنة الشاملة للمجتمع: قضايا المرأة نموذجًا:

لم يقتصر الصراع الثقافي في تونس على قضايا العلاقة بين الدين والدولة بل امتدَّ إلى قضايا أخرى ذات صلة بعلاقة الدين بالمجتمع، وقد حازت قضية المرأة على النصيب الأكبر من الجدل العلماني المتصاعد في تونس حول الحقوق والحريات العامة والفردية والتى تمَّت إثارتها بشكل ممنهج عبر مسارات مختلفة سياسية وثقافية وإعلامية وحقوقية للضغط على دوائر السياسة والتشريع لتعديل منظومة القوانين المنظِّمة للعلاقة بين الرجل والمرأة في تونس. ويبدو أن هذه الضغوط قد نجحت في تحريك رأس الدولة في هذا الاتجاه؛ ففي شهر أغسطس 2017 دعا الرئيس التونسي إلى إجراء مراجعات قانونية تمنح المرأة مزيدًا من الحقوق، وكلَّف لجنة بإعداد تقرير يتضمَّن إصلاحات تشريعية متعلِّقة بالحريات الفردية والمساواة، منها إقرار المساواة في الميراث، وقد كان من اللافت للنظر تصريح الرئيس بأن موضوع الميراث من الموضوعات التى تركها الله لاجتهاد البشر في إشارة غريبة إلى جهله واستنكاره ما هو معلوم من الدين بالضرورة من نُظم الميراث المفصَّلة تفصيلًا دقيقًا(5). واستكمل الرئيس التونسي هذا المسار في 14 سبتمبر من نفس العام عندما فاجأ الجميع بإلغاء الحظر المقرَّر على زواج المسلمات بغير المسلمين، كما شدَّد على ضرورة مراجعة قانون الأحوال الشخصية لمواكبة تطوُّر المجتمع وملاءمة التشريعات المعمول بها مع ما نَصَّ عليه دستور الجمهورية الثانية(6).
انتهت اللجنة (المشكلة من تسعة أعضاء) من عملها في يونيو 2018 وقدَّمت للرئيس تقريرًا من 233 صفحة من جزءين، الأول مخصص لـلحقوق والحريات الفردية، ويتناول الثانى المساواة التامة بين الجنسين، خاصة في الميراث، إما بشكل إلزامي أو بشكل اختياري، والمساواة بين جميع الأطفال، بمن فيهم المولودون خارج إطار الزواج، كما اقترحت إلغاء عقوبة الإعدام أو الإبقاء عليها في الحالات القصوى التي ينتج عنها الموت، وعدم تجريم المثلية الجنسية، وإلغاء المهر كشرط للزواج وإلغاء العدَّة للمطلَّقة أو الأرمل كشرط للزواج، وبرَّرت اللجنة، المساواة في الإرث، بتغيُّر المجتمع وتطوُّر دور المرأة التى أصبحت تتقاسم مع الرجل المسؤوليات المالية داخل الأسرة(7).
ومن المفارقات الدالَّة في هذا السياق غلبة التيار العلماني على تشكيل اللجنة بشكل كامل (تسعة أشخاص من نفس التيارات(8))، وكان من اللافت للنظر تهميش اللجنة لعلماء الفقه والشريعة في جامعة الزيتونة التي يعادل وزنُها الأزهر الشريف في مصر، فقد رفض أغلب أعضاء اللجنة المناظرة حول مضمون التقرير وقضايا في الإعلام أو حتى في جلسات خاصة وفقًا لما صرَّح به د. إلياس دردور أستاذ الفقه المقارن بجامعة الزيتونة(9)، وكانت جامعة الزيتونة قد أصدرت بيانًا في 29 يونيو 2018 للتبرُّؤ ممَّا جاء في التقرير وعدم تحمُّلها لأيِّ مسؤولية علمية أو أخلاقية عمَّا جاء فيه، مؤكِّدة أنه لا يعبر عن موقفها، بل ترى فيه التفافًا مُشينًا على قيم الإسلام وتعاليمه.
وقالت اللجنة إن جامعة الزيتونة لم تشرَك بصفة رسمية في أعمال هذا التقرير ولا في صياغته ولم يكن لها حضور علمي فاعل فيه، مشيرة إلى حالة التهميش التي تعرَّض لها بعض من حضر من أساتذة الزيتونة، فقد وقع استدعاؤهم في بداية أشغال اللجنة، للحديث عن التصوُّرات العامَّة لمبادئ الحرية والمساواة والعدالة الإجتماعية ثم غُيِّبُوا ولم يقع إشراكهم في تفاصيل التقرير وجزئيَّاته، كما لم تتلقَّ الجامعة أي مراسلة لإبداء الرأي العلمي في التقرير قبل عرضه على رئاسة الجمهورية، خاصة وأن كثيرًا من مسائله القانونية والسياسية تحتاج إلى مقاربة دينية، بل إن جميع مسائله قدمت على أساس مناقشة البعد الديني والاجتماعي فيها(10).
الأكثر مفارقة أن تهاجم رئيسة اللجنة أئمة المساجد الذين اعترضوا على التقرير بحجَّة تدخُّل المساجد في السياسة، مع أن ما جاء به التقرير لا يمتُّ للسياسة بصلة، بل ينصبُّ على قضايا دينية بحتة كما في الميراث والعدَّة والمهر والزواج من غير مسلم على سبيل المثال(11).
كما كان من اللافت للنَّظر رفض رئيسة اللجنة بشرى بلحاج حميدة اللجوء للاستفتاء الشعبي على ذلك التقرير الذى واجه معارضة شعبية كبيرة منذ صدوره وصولا إلى حالة تظاهرات ضخمة انطلقت في عدَّة مدن تونسية وأمام البرلمان التونسي احتجاجًا على هذا التقرير وما جاء فيه(12)، إذ رفضت رئيسة اللجنة الاستفتاء بحجة أن الشعب غير مؤهَّل للحكم على التقرير، مشيرة إلى أن مثل هذه الموضوعات لا تحتاج إلى استفتاءات، فعلى سبيل المثال وفي مماثلة مع فرنسا تمر مثل تلك التقارير عبر البرلمان(13).
تبنَّى رئيس الجمهورية وحزبه “نداء تونس”(14) ما جاء في التقرير، وبالأخص قضية المساواة في الميراث، ووعد بتحويلها إلى قانون سيتقدَّم به إلى البرلمان التونسي بحكم صلاحيته لتقديم مشروعات قوانين للبرلمان، وكان من اللافت للنظر أن يعلن الرئيس هذا التبنِّي بشكل قاطع في مؤتمر صحفي كبير في 13 أغسطس 2018، قائلًا: “موضوع الميراث حسمنا فيه، والقول بأن مرجعية تونس دينية خطأ فاحش.. تونس دولة مدنية ولا علاقة لنا بالدين أو القرآن”(15)، وكان من المتوقَّع أيضًا أن يُعلن الرئيس مشروعات قوانين تتعلَّق بحقوق المثليِّين جنسيًّا كما جاء في توصيات التقرير، لكنه فضَّل كسب الوقت عبر تشكيل لجنة لدراسة المقترحات قبل نشرها، بحجة لطيفة للغاية “احترام مشاعر الشعب التونسي وعدم استفزازه”، وكأن مسائل الميراث والعدَّة والمهر والعلاقات الجنسية والزواج من غير المسلم لا تشكِّل استفزازًا لمشاعر غالبية الشعب التونسي نساءً ورجالًا(16).
ومن المفارقات الدالَّة في هذا السياق اعتماد الرئيس التونسي على منطق مقلوب من زاوية الأقلية والأغلبية، وذلك حينما صرَّح بأن المعترضين على المساواة في الميراث يمكنهم اللجوء إلى تقسيم الميراث حسب الشريعة الإسلامية بشرط الوصية الكتابية بذلك، وهو ما أثار جدلًا واسعًا حول تفاصيل ذلك الطرح وآثاره وإشكاليَّاته في حالة الموت الفجائي أو تعدُّد الزوجات أو الأبناء غير الأشقاء.. إلخ، كما ثار الجدل حول المنطق المقلوب الذى اعتمده الرئيس في حديثه والذي ينطوي على رؤية أغلبية الشعب التونسي المتجانس دينيًّا ومذهبيًّا باعتبارهم أقلية مأزومة يبحث لها عن حل، بينما يرى أقليتهم أغلبية مهدورة الحقوق يجب تمكينها من حقوقها بإعادة تفصيل كافَّة القوانين والتشريعات باعتبارهم أصل الشعب وغيرهم استثناء، ويلخِّص أحد المنتقدين هذا المنطلق المقلوب قائلاً ” كان الأولى بالرئيس أن يتحدث عن مخرج لتلك الأقلية لا أن يبحث عن مأزق للغالبية “(17).
ومن المفارقات الدالَّة في هذا السياق أيضًا استخدام بعض الرموز النقابية البارزة المؤيِّدة للتقرير وصف “داعش” لإرهاب الأحزاب والحركات السياسية الإسلامية الرافضة للتقرير، فقد وصف نقيب الصحفيِّين في تونس (ناجي البغوري) موقف حركة النهضة الرافض للمساواة في الميراث “بالداعشى”(18)، بينما اتهمها آخرون بالخداع وعدم الالتزام بما أعلنته سابقًا (مايو 2016) من كونها حركة مدنية تفصل بين الديني والسياسي(19)، وعلى هذا المنوال ذهب آخرون للتشكيك في مدنية الحركة، وكأن المدنية لديهم لا تعني إلا الانسلاخ من الدين كلِّيًّا، بل والهجوم على كل ثوابته وقواعده الأساسية.
ومن المفارقات الأخرى في هذا السياق أيضًا اعتماد اللجنة المعِدَّة للتقرير على المنظومات التشريعية الغربية كمرجع أساسي لصياغة الحقوق والحريات الفردية، ولعل هذا يفسر ترحيب منظمة الأمم المتحدة وعدد من دول العالم الغربي بالتقرير في صيغته النهائية، بل ومطالبة السلطات التونسية بتفعيله على المستوى التشريعي(20)، وقد أقرَّ بعض أعضاء اللجنة بمشاركة رموز سياسية فرنسية في صياغة التقرير واقتراح مواد خاصة بالمثلية الجنسية(21)، الأكثر مفارقة في هذا الشأن أن يشن بعض أعضاء اللجنة هجومًا حادًّا على موقف الأزهر الرافض للتقرير بحجج غريبة ومرتبكة(22)، فتارة يقولون إن ما يجري في تونس شأن وطني داخلي لا علاقة للأزهر به(23)، وتارة يقولون إن شيوخ الأزهر ليس لديهم سلطة على التونسيِّين، ونحن لدينا علماء أدرى بالمجتمع التونسي(24)، ولا ندري أي صنف من العلماء يُشار إليه في هذا السياق في ظلِّ استبعاد اللجنة لكل علماء الشريعة والفقه بجامعة الزيتونة بل ورفض المناظرة معهم أو أخذ رأيهم في مضمون التقرير ومواده(25).
هكذا صارت “الوطنية” و”الداعشية” أوصافًا سهلة الاستخدام لإرهاب الخصوم في تونس. ويبدو أيضًا أن مثل هذه التيارات قد تناسَتْ فجأة أنها ليبرالية تروِّج لنقاش الفكرة بالفكرة والرأي بالرأي والحوار بالحوار.. إلخ ،كما تناسى هؤلاء أيضًا أن الاعتماد على نسْخ منظومات تشريعية غربية بتونس لا يُعَدُّ عملًا وطنيًّا بأيِّ شكلٍ من الأشكال، بل يشكِّل حالة من التبعية العمياء للأجنبي.

تونس: من العلمانية الجزئية إلى الشاملة.. ملاحظات وإطار تفسيري

من خلال ما سبق يمكن استنتاج عدد من الملاحظات ذات الدلالة، أبرزها انحسار الجدل حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية التى تمسُّ حياة ومعيشة أغلبية الشعب التونسي لصالح قضايا ثقافية نخبوية ضيقة يغلب عليها الطابع السياسي في إطار حالة استقطاب حادَّة بين التيارات العلمانية والإسلامية، وتكفي الإشارة إلى مؤشرات الحالة الاقتصادية المتعثرة في تونس بعد مرور ثماني سنوات على الثورة للدلالة على هذا الاستنتاج.
الملاحظة الثانية تتعلق بانتقال الهجمة العلمانية في تونس من الدولة إلى المجتمع في محاولة لترسيخ مزيد من عمليات التغريب والعلمنة للمجتمع التونسي بشكل غير مسبوق حتى في عهود علمانية سابقة، فكثيرَا ما نادت عدة منظمات للمجتمع المدني طيلة العقدين الماضيين بضرورة سَنِّ قوانين للمساواة في الميراث بين الرجل والمرأة ولكنها لم تلق آذانًا صاغية من الرئيس السابق زين العابدين بن علي -الذي عُرف بأنه علماني ومناصر للتغريب- لشدَّة حساسية الموضوع على الأرجح، بل إن الحبيب بورقيبه الذي يُنظر إليه على أنه محرر المرأة في تونس لم يتمكَّن من إدخال أيِّ تعديل بشأن موضوع المساواة في الميراث بسبب وضوح النص القرآني.
الملاحظة الثالثة تتعلق بانتقال الهجمة العلمانية من فروع الفقه إلى أصوله، ومن قضايا ذات بعد اجتهادى مرتبط بظروف وملابسات تاريخية إلى ثوابت الشريعة الإسلامية وأحكامها الواضحة المنظِّمة للعلاقات الاجتماعية، كما في قضايا الميراث والزنا واللواط والإجهاض وغيرها من المسائل التى تعرَّض لها التقرير وصولًا إلى قضايا لا يمكن تخيُّل مناقشتها لو كانت تخصُّ أديانً أخرى، كما في قضية العدَّة الخاصة بالمرأة المطلقة أو المتوفى عنها زوجها والمقررة بثلاثة أشهر وفق ما جاء في القرآن الكريم، إذ للقارئ أن يتخيَّل على سبيل المثال رد فعل لجنة الحريات المزعومة لو كانت تلك القضية تخصُّ المرأة اليهودية أو المسيحية أو حتى البوذية أو الهندوسية.
الملاحظة الرابعة تتركز حول آلية الهجمة العلمانية الأخيرة والتى اعتمدت بالأساس على الاستقواء بالدولة لفرض حالة تغيير قسرية من أعلى لثقافة المجتمع التونسي وهويته العربية والإسلامية بما يعيد الاعتبار للجدل الدائر منذ عقود في أوساط الحركات الإصلاحية في العالم العربي حول مقولات الإصلاح من أعلى أو أسفل وآثارها ومدى فاعليَّتها.
أمَّا الملاحظة الأخيرة فتتعلَّق بأساليب الإرهاب الفكري المتصاعدة لقمع أغلبية المسلمين التونسيِّين وغير التونسيِّين ممَّن يعارضون التقرير ويرونه مخالفًا لثوابت دينهم وقواعده الأساسية، وقد اعتمد أسلوب الإرهاب الفكرى على ثلاثة مقولات موجهة حسب الفئة المعترضة ، فمقولة “الجهل” يمكن استخدامها في مواجهة أغلبية الشعب المعترض، ومقولة “داعش” يمكن استغلاها لإرهاب حركة النهضة الإسلامية وابتزازها فكريًّا وثقافيًّا، ومقولة “الوطنية” يمكن إطلاقها في وجه الأزهر للكفِّ عن الازعاج المتجاوز للحدود.
وفي ختام هذه الورقة يبدو للباحث أن ما طرحه الدكتور عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- حول العلمانيَّتين الجزئية والشاملة يصلح إطارًا تفسيريًّا لتحليل تحولات الظاهرة العلمانية في تونس خلال السنوات الماضية ومآلاتها المستقبلية ومن ورائها بلدن الربيع العربي الأخرى التى تشهد صعودًا مماثلاً لنزعات العلمانية الشاملة بدرجات متفاوتة في الحدَّة.
حيث تناول الدكتور المسيري ظاهرة العلمانية على مستويين في مجلدين كبيرين(26)، الأول جزئي ويُعنى بالدولة ومؤسساتها ويسمِّيها العلمانية الجزئية، والثاني شامل ويُعنى بالمجتمع وثقافته وأنماط عيشه وحياته ويسمِّيها العلمانية الشاملة، وقد أسهب كثيرًا في تحليل النموذج الثاني محذِّرًا من انتشار نزعات العلمنة الشاملة في المجتمعات العربية والإسلامية على مستوى الفكر والسلوك والأخلاق إضافة إلى مجالات الاقتصاد والسياسة وغيرها(27).
من هذا المنطلق يمكن ملاحظة حالة الارتباط الوثيقة بين ما طرحه المسيري حول العلمانية الشاملة المتوحشة، وما تتعرَّض له المجتمعات العربية والإسلامية خلال الفترة الأخيرة من عمليات هجوم منظمة على ثوابت الإسلام وقواعده الأساسية الحاكمة للمجتمع، والتي وصلت لحالة نماذجية فجَّة في تونس. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن ما رصده المسيري في تأسيس نظريَّته حول أنماط العلمانية، ارتكز على استقراء فترات الثمانينيات والتسعينيات وبداية الألفية الجديدة، بما يعنى أن ثمة تطوُّرات هائلة بحاجة لعمليات (رصد – تسكين – تحليل – تفسير)، يمكن من خلالها اختبار مدى القدرة التفسيرية لأنماط العلمانية لدى المسيري وغيره من المفكِّرين الذين تصدُّوا لدراسة الظاهرة العلمانية في العالم العربي، ولعلَّ أبرز ما يمكن مراجعته في هذا الإطار مسألة تصنيف العلمانيِّين العرب ومدى تبنِّيهم للعلمانية الجزئية أو الشاملة، فقد كان المسيري ممن يعتقدون أن أغلب العلمانيِّين العرب جزئيِّون، ولا ندري هل كان سيظل على هذا الرأي لو كان حيًّا بين أيدينا اليوم أم كان سيكون له رأي آخر؟

*****

الهوامش:

(*) باحث في العلوم السياسية، وطالب دكتوراه في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة.
(1) راجع محاضرة بعنوان “دينها الإسلام” لأستاذ القانون الدستوري قيس سعيد يحكى فيها كواليس الجدل حول هذه المادة في المجلس الوطني التأسيسي المخول بوضع الدستور، على موقع YouTube، بتاريخ 12 سبتمبر 2018، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/7Pgtem
(2) منير السويسي، تونس: الشريعة في الدستور نقطة خلاف وتهديد لمدنية الدولة، موقع التليفزيون الألماني DW، 16 مارس 2012، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/9c2KN9
(3) راجع دستور تونس 2014 المواد الأولى والثانية والسادسة وغيرها، ونصوصه متاحه على موقع بوابة التشريع.تونس، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/To44JP
(4) السبسي: تونس دولة مدنية مرجعها الدستور.. ولا علاقة لنا بالدين أو القرآن، موقع سي إن إن بالعربية، 14 أغسطس 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/Nv4Eac
(5) طارق عمارة، مبادرة رئيس تونس للمساواة في الميراث تثير جدلا واسعا في تونس وخارجها، رويترز، 16 أغسطس 2018، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/9StQ3f
(6) تونس “تلغي الحظر” على زواج التونسيات من غير المسلمين، بي بي سي عربي، 14 سبتمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/Vf8Fv2
(7) أهم توصيات لجنة الحريات الفردية والمساواة:
إقرار المساواة في الإرث إما بشكل إلزامي أو بشكل اختياري، وإلغاء الفصل 230 من القانون الجزائي (المجلة الجزائية) الذي يجرم المثلية الجنسية، أو الإبقاء على التجريم مع غرامة مالية، إلغاء عقوبة الإعدام أو الإبقاء عليها في الحالات القصوى التي ينتج عنها الموت، وتجريم الدعوة للانتحار والتحريض عليه، ومنع الكشوف الشرجية، وإقرار حق الفرد في رفض أو قبول كل أنواع العلاج، وتدقيق مفهوم الجرائم المتعلقة بالأخلاق الحميدة والمجاهرة بالفحش، وإقرار ضمانات تشريعية لفرض احترام حرية الفكر والمعتقد والضمير بدون تمييز بين مختلف الديانات، وتجريم كل تحقير لديانة الغير بغاية التحريض على العنف أو الكراهية أو التمييز مهما كان شكله، وتجريم التكفير، ومنع كل ادِّعاء زواج يكون خارجًا عن الأشكال والصيغ القانونية، وحرية الفنون والبحث العلمي، وإلغاء التمييز في شروط منح الجنسية، وإلغاء المهر، وإلغاء العدة باعتبارها تقييدًا غير دستوري لحرية زواج المرأة أو المحافظة عليها باستثناء عدة الفقدان وحالة الزواج دون دخول، وإلغاء الإشارة القانونية إلى أن الحضانة شأن يخص المرأة، وإلغاء التمييز في إسناد اللقب العائلي، والمساواة في الضرائب المفروضة.
(8) أعضاء اللجنة التسعة هم:
بشرى بلحاج حميدة: محامية وناشطة في المجتمع المدني، ونائبة مؤسسة في المجلس الوطني التأسيسي ثم نائبة في مجلس نواب الشعب عن حزب نداء تونس.
درة بوشوشة: أستاذة أدب إنجليزي ومنتجة ومخرجة أفلام، أدارت لثلاث سنوات مهرجان أيام قرطاج السينمائية.
كريم بوزويتة: دكتور في علم الإنسان، جامعي وخبير دولي في الاستراتيجية والمرافعة مع الأمم المتحدة، درس في عدة جامعات تونسية وأجنبية مثل جامعة لويولا شيكاغو وجامعة كانتربري.
عبد المجيد الشرفي: دكتور وأستاذ جامعي مختص في تاريخ الفكر الإسلامي في الجامعة التونسية، كان عضوًا في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، ورئيس مؤسسة “بيت الحكمة” منذ 2015.
سليم اللغماني: أستاذ القانون العام والعلوم السياسية في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس (جامعة قرطاج)، كان عضو الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، ترأس الجمعية التونسية للقانون الدستوري وكان عضو المجلس العلمي للأكاديمية الدولية للقانون الدستوري.
صلاح الدين الجورشي: كاتب وناشط حقوق إنسان، كان نائب رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وهو مؤسس منتدى الجاحظ للفكر الإسلامي، يعتبر أحد منظِّري اليسار الإسلامي.
سلوى الحمروني: أستاذة القانون العام في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس (جامعة قرطاج)، مختصَّة في القانون الدولي العام في مجالي حقوق الإنسان والقانون الدستوري، وهي بذلك خبيرة لدى العديد من المنظمات الدولية.
مالك الغزواني: قاض ونائب رئيس المحكمة الابتدائية بتونس.
إقبال الغربي: جامعية ومختصة في الأنثروبولوجيا الدينية في المعهد العالي لأصول الدين بتونس (جامعة الزيتونة).
(9) قدم الدكتور إلياس دردور سلسة خطب في أيام الجمعة حول تفاصيل التقرير ومحاوره ونقد ما جاء فيه مفصلا ، راجع خطبة بعنوان “ردا على لجنة الحريات التونسية” على موقع YouTube، 24 يونيو 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/opHYSW
(10) جامعة الزيتونة: “تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة التفاف مشين على قيم الإسلام”، موقع قناة نسمة التونسية، 29 يونيو 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/z4JT6G
(11) للمزيد حول هجوم بشرى بلحاج، انظر الآتي:
– بشرى بلحاج حميدة: أئمة كذَّابون يشنُّون حملة على تقرير اللجنة وأعضائها، 3 أغسطس 2018، موقع باب نات، متاح عبر الرابط التالي:
http://bit.ly/2N8GduQ
– بشرى بلحاج حميدة: “النقاشات التي تمت في المساجد وفي مواقع التواصل حول تقرير لجنة الحريات لا أخلاقية”، موقع قناة نسمة الفضائية، 29 أغسطس 2018، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/tZhhq6
(12) آلاف التونسيين يحتجون على تقرير لجنة الحريات الفردية، موقع سكاي نيوز عربية، 12 أغسطس 2018، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/Ctvd1N
(13) بشرى بلحاج حميدة: الشعب التونسي لم يصل إلى مرحلة من الوعي لنعتمد الاستفتاء في مسألة الحقوق والحريات، موقع باب نات، 7 أغسطس 2018، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2xWHShy
(14) ردود أفعال متضاربة من النهضة والنداء حول مقترح السبسي بالمساواة في الميراث بين الجنسين، موقع جريدة الشروق التونسية، 13 أغسطس 2018، متاح عبر الرابط التالي:
http://bit.ly/2zEKDpS
(15) موقع البي البي سي العربية، الرئيس التونسي يدعو إلى “المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة”، منشور بتاريخ 13 أغسطس 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/zg8LK7
(16) مبادرة السبسي حول الميراث تتفاعل وتثير جدلا غير مسبوق، موقع التليفزيون الألماني DW، 16 أغسطس 2017، متاح عبر الرابط التالي:
https://p.dw.com/p/2iMwF
(17) د. إلياس دردور: السبسي يفرض المساواة في الإرث على 80٪ من التونسيين لأجل خاطر 20٪، موقع هوية برس، 10 سبتمبر 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/Cp9TKo
(18) وصف «النهضة» بـ«داعش» يضع نقيب الصحفيين التونسيين في مأزق، موقع التحرير الإخباري، 28 أغسطس 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/hmY6CW
(19) النهضة تفصل بين الدين والدولة.. والسبسي يرحب بحذر، موقع الحرة، 21 مايو 2016، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/5EXPsw
(20) منظمة الأمم المتحدة تهنئ تونس وترحب بتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، موقع راديو شمس fm، 13 يوليو 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/8rBj3Q
وانظر أيضًا: فرنسا ترحب بتقرير الحريات الفردية والمساواة في تونس، موقع السفارة الفرنسية في تونس، 22 يونيو 2018، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/Xk6km5
(21) تقرير لجنة المساواة والحريات الفردية: اعترافات خطيرة لاحد أعضائها واللجنة تتهاوى تحت القصف الشعبي، شبكة تونس الآن، 15 يوليو 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/kZ3dLg
(22) حسن سلمان، ردود تونسية على علماء الأزهر: اهتموا بشؤونكم، موقع القدس العربي، 16 أغسطس 2018، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/tT1Gkg
(23) تصادم بين الأزهر وإفتاء تونس.. وجدل إقليمي حول المساواة، موقع قناة العربية، 16 أغسطس 2018، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/tr7Kdg
(24) راجع حوار بشرى بلحاج رئيسة لجنة الحريات مع جريدة الوطن المصرية في 29 أغسطس 2018، متاح عبر الرابط التالي:
https://goo.gl/TiRC4W
(25) عبد الحكيم شق الطين، أساتذة جامعة الزيتونة بتونس يرفضون قرار الرئيس، موقع النهار أونلاين، 29 أغسطس 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/r5tE2p
انظر أيضًا: وفاء الحكيري، علماء تونس يرفضون مقترحات لجنة الحريات الفردية والمساواة، موقع مجلة ميم، 27 يونيو 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/1MPMxV
(26) عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، (القاهرة: دار الشروق، 2002).
(27) مثل هذا البعد لم ينل الاهتمام الكافي للباحثين المهتمِّين بفكر المسيري سواء في الإشارة إليه أو في البناء عليه لتحذير المجتمعات الإسلامية من تلك العمليات العلمانية الشاملة التى تتسرَّب إليهم يوميًّا عبر مسارات مختلفة إعلامية وفكرية ونفسية واقتصادية، ذلك أن أغلب الباحثين العرب استهواهم الاستقطاب العلماني الإسلامي حول الدولة والسلطة، فراحوا يطرحون جانبًا مما طرحه المسيري حول العلمانية الجزئية في محاولة للتقريب بين الخصوم، بينما خفت إلقاء الضوء على العلمانية الشاملة وما تفعله في المجتمعات، ولعل المطلع على عناوين أغلب الأبحاث والرسائل التى كتبت حول المسيري يدرك هذه النقطة بسهولة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى