مصر والسودان والحرب: الأمن القومي والإنساني والحضاري

تتجاوز العلاقة بين مصر والسودان علاقة الجوار الجغرافي، والعلاقات السياسية، والأمن القومي بمدلوله الواقعي التقليدي. تتضمن هذه العلاقة ذاكرة تاريخية، وثقافة عربية وإسلامية مشتركة، وانتماء حضاريا واحدًا، ووصلا حياتيا عماده النيل شريان حياة الشعبين، فضلا عن التداخل السكاني؛ حيث يعيش الكثيرون من الشعبين بين أفراد الشعب الآخر. ومن ثم فهي علاقة ذات خصوصية، لا تكاد تجدها بين بلدين أو شعبين آخرين، إلا قليلا. وقد توحدت أرض مصر والسودان كثيرا تحت حكم واحد، في محطات عديدة من التاريخ، وتكاد تكون منطقة جنوب مصر (النوبة وأسوان) ومنطقة شمال السودان (دنقلة ووادي حلفا) منطقة واحدة، وتتلاقى خصائص وطباع سكانهما كثيرا؛ بحيث تلئم هذه المنطقة ما بين البلدين بقوة. وهكذا تتضافر عوامل التاريخ والجغرافيا والثقافة واللغة والدين والاقتصاد والاجتماع لتصل بين مصر والسودان، ولا يبقى بعد ذلك مما يضفر هذه العوامل ويعززها، أو يهدرها ويضعف أثرها إلا العامل السياسي.

وفي العصر الحديث، ضُمت مصر السودان معها تحت المظلة العثمانية، في أيام محمد علي باشا (1805-1848)؛ حيث أرسل جيشه للسيطرة على منابع النيل، والحيلولة دون تحكم الأوربيين فيها؛ ومن ثم في مصر، ولم يجد من السودانيين -بخلاف الأحباش- مقاومة تذكر ترفض الوجود المصري. ومن يومها سجلت التحليلات فكرة المجال الحيوي لمصر؛ وأبرزه ما يتعلق بالسودان. وعلى هذا الأساس مضى خلفاء محمد علي (عباس وسعيد وإسماعيل)، حتى ظهرت المهدية وواجهت الجيش المصري في السودان عام 1881 قبيل الاحتلال البريطاني لمصر بعام واحد؛ حيث استولى مؤسسها محمد أحمد المهدي (1843-1885) على الخرطوم، ثم احتل الإنجليز مصر 1882م، وعملوا على ضم السودان إلى سلطتهم؛ بجيش مصري إنجليزي؛ الأمر الذي قاومه السودانيون -بقيادة المهدية وأنصارها- مقاومة قوية استمرت نحو 14 عاما، إلى أن انتصر الإنجليز عليهم، واحتلوا الخرطوم، وفرضوا على مصر والسودان اتفاقية الحكم الثنائي (المصري-البريطاني) للسودان عام 1899، في عهد عباس الثاني. وأصبح الحاكم العام للسودان بريطانيًّا، ومعاونه مصريًّا، وتم تحميل الحكومة المصرية كافة نفقات الحكم الثنائي في السودان.

ولربع قرن خضعت السودان للحكم البريطاني، بأداة مصرية قهرية؛ إذ تم نقل معظم الجيش المصري إلى السودان تحت قيادة بريطانية. لكن الحركة الوطنية المصرية تجددت ونمت على أساس الدفاع عن وادي النيل (مصر والسودان)، حتى وقعت واقعة مقتل الحاكم العام البريطاني للسودان “السير لي ستاك” 1924؛ فأرادت بريطانيا استغلال هذه الفرصة للانفراد بحكم السودان بإخراج الجيش المصري منه؛ الأمر الذي رفضه رئيس الوزراء المصري ساعتها سعد باشا زغلول؛ ما أدى إلى إسقاط وزارته وتقديمه استقالته، ثم نفذت بريطانيا غايتها بسحب الجيش المصري من السودان. ولربع قرن آخر، ظلت الحركة الوطنية المصرية رافضة هذا الوضع، وتطالب باستقلال السودان مع مصر عن بريطانيا، ضمن رابطة وادي النيل، لكن بدرجة أضعف من ذي قبل، وحمل الحزب الشعبي الرئيسي (حزب الوفد) هذه الراية حتى قامت ثورة 23 يوليو 1952.

لم يعِ حكام مصر الجدد درس التاريخ جيدًا، وبينما آثروا إرجاء تطبيق الديمقراطية في الداخل المصري حتى حين لم يأت بعد، أسرعوا بتخيير السودانيين بين بقاء الوحدة واختيار الانفصال. ونظرا لنمو جزء مهم من النخبة السودانية خلال فترة الحكم الثنائي بعيدا عن الهم المشترك، ولتوجسها من الاتجاه القُطري الظاهر للجمهورية المصرية الجديدة، اختير الاستقلال عن مصر مع الاستقلال عن بريطانيا 1956. ونتيجة الشقوق العديدة في البنية السكانية والاجتماعية السودانية، برزت الخلافات العميقة والمهددة لبنية الدولة منذ البداية، ومن ثم تسنم العسكريون سدة الحكم، ومثل غيرهم آثروا إرجاء تطبيق الديمقراطية حتى حين لم يأت إلى اليوم. ومن ثم توالت الانقلابات العسكرية والانقلابات المضادة (إبراهيم عبود، جعفر نميري، سوار الذهب مع الاختلاف عن غيره، حكومة الصادق المهدي، حزب المؤتمر وحكومة الإنقاذ، ثورة 2019 وحكومة قوى التغيير، ثم انقلاب البرهان-حميدتي، ثم انقلاب حميدتي). وشجعت هذه الانقلابات المتتالية على مزيد من تصدع البنية الوطنية، وثوران الفتن في الجنوب والغرب والشرق، واستمرار الصراعات الأهلية في الجنوب السوداني حتى انفصل عن الشمال 2011، وفي الغرب (دارفور) حتى أضحى مشجبا للغرب يعلق عليه تدخلاته العميقة في السودان. ومن ناحية أخرى، أورثت هذه الحالة السودان فقرا وفشلا اقتصاديا مزمنا، وفاقمت من سوء الأحوال المعيشية للسودانيين.

وبالرغم من الشعارات القومية التي ارتفعت جعيرتها في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وتعدد دعوات الوحدة العربية، فإن الحكومة المصرية الناصرية استجابت للتوحد مع سوريا البعثية، حتى أقيمت وحدة مصر وسوريا 1958، رغم تفريق الكيان الصهيوني بين البلدين، لكنها لم تسعَ يومًا بجدٍّ إلى استعادة وحدة وادي النيل التي كانت أيسر وأولى. وبالمثل، علت الأصوات الداعية إلى الوحدة الأفريقية الشاملة (حتى أسست منظمة الوحدة الأفريقية 1963)، وظهرت عناية مصر بالعلاقات مع العديد من الدول الأفريقية في الغرب والوسط والشرق، فضلا عن الشمال (العربي)، لكن العلاقات مع السودان لم ترق عن سقفها الذي ظهر منذ عام 1956 (عام الاستقلال الوطني). لقد بدأت مخاوف التأثير الأفريقي الجديد على حقوق مصر المائية (في نهر النيل) تظهر، مع بروز النظام الناصري فاعلاً دوليًّا نوعيًّا، ودخوله لعبة الاستقطاب الدولي بالميل شرقًا. حرك ذلك مخططات تهديد مصر بالحفر من تحتها، ما حمل النظام المصري على تجديد اتفاقية 1929 (التي عقدتها بريطانيا)، المنظِّمة لتوزيع حصص مياه النيل بين دول حوضه، ليتم إبرام اتفاقية 1959 بين مصر والسودان.

عبرت اتفاقية الانتفاع الكامل بمياه النيل 1959 (التي عقدت بعد 11 يوما من توقيع مصر على اتفاق بناء السد العالي مع الاتحاد السوفييتي)، عن فترة انسجام كبير بين مصر والسودان، تحت الشعار القومي العروبي. ونسقت الاتفاقية إقامة مصر للسد العالي جنوب أسوان، وإنشاء السودان سد الروصيرص على النيل الأزرق، وتقسيم المياه التي سيوفرها السد العالي بين البلدين؛ لتحصل السودان على ثلثيها ومصر على ثلثها، ضمن سقف 22 مليار متر مكعب، وما زاد فمناصفة. وكان من ضمن بنودها تضامن الدولتين ضد أية سياسات في حوض النيل تضر بأي منهما؛ لأنهما دولتا المصب. وإذا كان النيل يجمع مصر والسودان دائما، فإن السياسة، والتوجهات الأيديولوجية، كانت قابلة دوما للمباعدة بينهما.

ففي ظل نظام جعفر نميري (69-1985)، برز عامل تباين وتباعد جديد بين سياستي البلدين؛ مع اتجاه السودان للتحول من التوجه الاشتراكي (اليساري العروبي)، نحو إعلان المرجعية الإسلامية للحكم، والدعوة إلى “تطبيق الشريعة”، عبر تجديد القضاء والقوانين، منذ بداية الثمانينيات، وخاصة في العام 1983، بينما تخوض حكومة مصر معركة مع الجماعات الإسلامية، منذ عهد عبد الناصر، فالسادات الذي جرى اغتياله على أيدي إحدى هذه الجماعات، وعهد مبارك الذي عمل على حظر هذه الجماعات وتقييدها. ومع أجواء الاستبداد، والكثير من الممارسات المستفزة، انفجرت الاحتجاجات الشعبية؛ ليؤول الأمر إلى إسقاط نميري واختياره اللجوء إلى القاهرة؛ ليحل محله وزير الدفاع الفريق عبد الرحمن سوار الذهب؛ الذي سلم السلطة للمدنيين المنتخبين (حكومة الصادق المهدي الثانية 1986)، واعتزل العمل السياسي ليتفرغ للدعوة الإسلامية. ولكن القدر -على عادته مع السودان- لم يمهل الديمقراطية ثلاثة أعوام حتى قاد عمر البشير انقلاب 1989 متحالفًا مع الحركة الإسلامية، ومعلنا المرجعية الإسلامية لحكمه، واحتفظ بعلاقاتٍ مع جماعات إسلامية عديدة، ذات حظر وعداء دولي كبير؛ الأمر الذي لم يزد أزمات السودان إلا تأزمًا. وقد ناصب الغرب نظام البشير العداء منذ البداية؛ حيث أعلنت الخارجية الأمريكية وضعه على قائمة الدول الراعية للإرهاب منذ العام 1993، فيما كان النظام المصري يتوغل في الارتباط بالولايات المتحدة، ويقود وراءها عملية تسوية الصراع العربي-الإسرائيلي، التي تكللت باتفاق أوسلو 1993، وإعلان المبادئ (غزة-أريحا أولاً) 1994.

في عام 1995 تعرض الرئيس المصري حسني مبارك لمحاولة اغتيال في أديس أبابا، إبان ذهابه لحضور مؤتمر قمة منظمة الوحدة الأفريقية؛ وصعدت الاتهامات لنظام البشير بتسهيل هذه العملية، واحتضانه للجماعات المناوئة للنظام المصري؛ مثل الجماعة الإسلامية المصرية، وتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن. ورغم الخلاف الهادئ على تبعية منطقة حلايب وشلاتين (التابعة لمصر) بين البلدين، ورجوعها إلى العام 1958، إلا أنها أخذت وتيرة أعلى في ظل الخلاف بين نظامي مبارك والبشير. ومع تصاعد الصراع بين النظام المصري والجماعات المسلحة وعملياتها المتتالية، كرَّس نظام حسني مبارك تقاعسًا وتباعدًا مستمريْن عن السودان وقضاياه وموقعه من السياسة المصرية، بل عن أفريقيا والجنوب بصفة عامة؛ لصالح علاقات أخرى شمالاً وغربًا وشرقًا. ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 وتصعيد إدارة بوش من سياسة (معنا أو مع الإرهاب)، وحملتها الدولية ضد تنظيم القاعدة، وطالبان في أفغانستان 2001-2002، ونظام صدام حسين في العراق 2003، وتشديد العقوبات الغربية على نظام البشير؛ لتوسع من الشُّقة بين البلدين عبر مواقف نظامي الحكم، وبعيدًا عن إرادة الشعبيْن الحرة.

في العام 2003 اندلع الصراع في دارفور بين حكومة البشير والقوات التابعة لها من جهة، وقوات متمردة تقودها حركات رافضة للتمييز بين السودانيين العرب وغير العرب (الزنوج) من الجهة الأخرى، وكلهم مسلمون بخلاف الجنوب، مثل: حركة تحرير السودان، وحركة العدل والمساواة. واشتعلت حرب أهلية ضارية أدت إلى سقوط آلاف القتلى، ومئات الآلاف من ضحايا الجوع والمرض والنزوح من غير مأوى. وقد استغل الغرب الفرصة للنفخ في النار، والقول بأنها حرب إبادة جماعية، وإظهار الوضع في دارفور -رغم مأسويتها الحقيقية- وكأنها المأساة الأولى في العالم؛ لممارسة ضغوط قصوى على نظام البشير. ورغم تقدم مفاوضات حكومة الإنقاذ في دارفور وجنوب السودان، إلا أن الأمر بلغ ذروته بإصدار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي -مارس 2009- مذكرة باعتقال الرئيس السوداني عمر البشير؛ لاتهامه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور؛ ما ضاعف التهديد الخارجي لنظام البشير وفاقم من أزمات الداخل.

في عام 2011 سقط نظام حسني مبارك، وصعد نجم الإسلاميين في السياسة المصرية؛ الأمر الذي لقي ترحيبًا من حكومة الإنقاذ السودانية، ولكن سرعان ما استرد الجيش المصري زمام الحكم 2013، وظهر تعمق الفجوة والجفوة مع السودان، لكن متغيرًا جديدًا برز في هذه العلاقة المأزومة، يتمثل في الدور الجديد للاعب الإثيوبي وسعيه لإقامة سد النهضة على النيل الأزرق منذ العام 2011؛ ما يمثل تهديدًا مصيريا لمصر ثم للسودان. وبالرغم من هذا الخطر المشترك، فلم تتقارب السياسة المصرية والسودانية، وظل الخلاف الأيديولوجي حاضرا بقوة. لقد أظهرت سياسة البشير برودًا تجاه الخطر المحيق بمصر، وتعاملت مع الصلف الإثيوبي بمنطق أحادي محض، وساعدها على ذلك أن النظام المصري تعامل مع الملف في مبتداه بنوع من الهدوء والسكون غير المبرر.

ومع استمرار تردي الأوضاع العامة في السودان: سياسيًّا واقتصاديًّا ودوليًّا، سقط نظام البشير، في أبريل 2019، بعد ثلاثين عاما من الحكم المنفرد، إثر انتفاضة شعبية، استكملها الجيش كالعادة. وهكذا جمع الاستبداد، والتغيير الصعب، وتدخل الجيش، بين التجربتين المصرية والسودانية، ورغم تقارب الشعبين جدًّا إلا أن التبعية للخارج، والخلاف المرجعي والأيديولوجي، ظلا هما العاملين الأكثر حضورا في العلاقة بين البلدين.

وبدخول السودان في دوامة ما بعد البشير، انفتحت أبوابه وحدوده لتدخلات لا حصر لها؛ من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوربي ودول أوربا الكبرى، والصين، وروسيا، ودول الخليج العربي، والمنظمات الدولية والإقليمية التابعة للأمم المتحدة وللاتحاد الأفريقي، ودخلت كل قوة مع فرقة من فرق الداخل؛ لتزداد المسافات بين الفرقاء اتساعا. وبينما أبرزت كل قوة خارجية أهدافها والقوى التي تلعب عليها، فإن مصر بدت ضعيفة التأثير والنفوذ، رغم خصوصية علاقتها بالسودان. فقد رحب الغرب بالحكومة الجديدة (حكومة حمدوك)، وإجراءاتها المضادة للتيار الإسلامي وبقايا نظام البشير، ورحبت مصر والدول الخليجية بقوة الجيش في الحكم، ثم بعد الإطاحة بحكومة حمدوك، وحلول الجيش بقوته في السلطة ظهر دخول السودان في التحالف الإقليمي ما بعد 2013، لكن الريح أتت بما لا تشتهي السفن، وانقسم العسكريون على أنفسهم، واندلع الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع التي كان البشير شكلها لمواجهة متمردي دارفور، ونمت نموًا كبيرًا، وأصبح قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائب رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، قبل أن تتسع الهوة بينهما بدعاوى مختلفة، آلت إلى إدخال السودان في الحرب الأهلية المأساوية الحالية. وظهر دور دولة الإمارات العربية -وربما المملكة العربية السعودية- وراء قائد الدعم السريع، ما وصل إلى اتهامات صريحة من الحكومة السودانية للدور الإماراتي المشعل للحرب، والمناصر بالمرتزقة والأموال والسلاح للمتمردين، بينما يقف الدور المصري في أضعف أحواله.

لقد شهد السودان سابقًا ثلاثة حروب أهلية قاسية في الجنوب والغرب، إلا أن الحرب القائمة تعد الأولى الذي تدور رحاها حول -وفي- العاصمة الخرطوم، وفي تخومها، وعبر المدن الرئيسية للبلاد، ونتج عنها -حتى الآن- نزوح نحو ستة ملايين شخص قسرًا؛ منهم أكثر من أربعة ملايين صاروا نازحين داخليًا، ونحو مليون ونصف المليون نزحوا إلى البلدان المجاورة (مصر، وجنوب السودان، وتشاد). وتدهور الوضع الإنساني في الداخل؛ في شتى النواحي: بزيادة تدهور الوضع الغذائي في العديد من المدن نتيجة نقص الإمدادات الغذائية ونهب الموارد، وتدهور القطاع الصحي وعجزه عن مواكبة وتيرة الحرب المتصاعدة؛ مما أدى إلى زيادة نسب الوفيات بين المصابين، مع انقطاع الخدمات العامة في محيط العاصمة؛ ومنها -وليس أقساها- انقطاع الإنترنت وغياب الأخبار عما يحدث في السودان عن أعين الإعلام الإقليمي والعالمي؛ هذا بالإضافة إلى زيادة الحديث عن معدلات العنف الجنسي واغتصاب النساء.

لقد بدأت هذه الحرب في أبريل 2023 في الخرطوم، ثم امتدت إلى كل أرجاء البلاد؛ نتيجة لأشهر من التوترات المتصاعدة بين البرهان وحميدتي، بشأن دمج قوات الدعم السريع في القوات السودانيّة المسلَّحة. ومع مرور أكثر من عام على اشتعال هذه الحرب في السودان، نجد أنها بكل أحداثها، تعكس الأزمات السياسية والاقتصادية التي يعيشها السودان المعاصر منذ خمسينيات القرن الماضي.

***

ومن أجل فهم أدق لمجريات هذه الحرب في السودان، يحاول هذا العدد من فصلية (قضايا ونظرات) إلقاء الضوء على مجريات الحرب الداخلية الحالية في السودان، بما يتصل بها من أبعاد سياسية واقتصادية وإنسانية، وذلك من خلال رؤية كلية تهدف إلى تسكين تلك الحرب في تاريخ السودان الحديث والمعاصر من جهة، ووصلها بالسياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى  المستويات الداخلية والإقليمية والدولية، من الجهة الأخرى.

يبدأ ملف العدد من لحظة نشأة السودان الحديث في خمسينيات القرن الماضي، وتعثر عملية بناء الدولة الوطنية الحديثة، ذلك التعثر الذي يستمر حتى يصل إل اللحظة القائمة وإشكالياتها. والبعض يُرجع هذا التعثر إلى التعددية المجتمعية: العرقية والقبلية والدينية والجهوية، أو إلى أزمات إدارة تلك التعددية من قبل النظم السياسية المختلفة، أو إلى انقسام الهوية السودانية بين عروبة وزنوجة، وإلى عدم قدرة النخب السياسية على إدارة خلافاتها ونقل السلطة سلميًّا، أو إلى سيطرة المكون العسكري على الحياة السياسية في السودان في إطار أنماط عدة من توظيف الإسلام. وعليه فالسؤال المطروح هنا هو: لماذا تعثر بناء الدولة الوطنية في السودان منذ خمسينيات القرن الماضي في ضوء معادلة أو ثلاثية: السياسي، العسكري، الديني؟

هذا وكما أشرنا، مرت على السودان ثلاث حروب أهلية كبيرة استمرت لعقود أولاها الحرب الأهلية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في الجنوب، والثانية منذ الثمانينيات وحتى بدايات الألفية الثالثة في الجنوب أيضًا، والثالثة منذ  2003 في دارفور(الغرب)، حتى اندلعت الحرب الأخيرة المستمرة منذ عام في الوسط. فلماذا تتكرر الحروب الأهلية والداخلية بهذا الشكل في السودان حتى لا يكاد يخلو عقد من الزمان من صورة منها؛ بما لذلك من تداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية؟

وفي كل الحروب السابقة كانت الحكومة السودانية أحد أطراف النزاع مع فصيل مجتمعي يهدف للاستقلال، أو يواجه إشكالية كبرى تتعلق بالاندماج أو التنمية على سبيل المثال، إلا أن الصراع الحالي يشهد الاقتتال بين مكونات الحكومة المركزية نفسها، خاصة بين مكونات القوات المسلحة السودانية، فالسؤال الذي يطرح نفسه هاهنا: كيف تشكلت مكونات القوات العسكرية المتصارعة هذه وبالأخص قوات الدعم السريع؟ وكيف نشأت وتطورت حتى وصلت إلى دورها في هذه الحرب في شوارع الخرطوم وضواحيها، مرورًا بمحاولات دمجها في الجيش النظامي؟

ومن ناحية أخرى، يرى البعض أن الصراع الدائر الآن يقف خلفه المكونات السياسية المدنية المتعارضة بدعم من قوى إقليمية ودولية لتغليب مصلحة طرف على آخر فى الوصول لسدة الحكم، فكيف تدير هذه الاستقطابات (العسكري – العسكري، والمدني – العسكري، والعلماني – الإسلامي) مسار الحرب الراهنة وإلى أين تذهب بها؟

وكما سبق الذكر، فإن الاشتباكات المسلحة في الخرطوم وتخومها شكَّلت صدمة جديدة، حيث إن الحروب السابقة كانت غالبًا ما تقع في أطراف السودان (جنوبًا أو غربًا أو شرقًا)، فما الذي يعنيه أن تشهد الخرطوم معارك تلك الحرب في ضوء مسار العمليات التي تجري على الأرض؟ وما دلالة خريطة المدن التي يتصارع عليها طرفا النزاع؟ وما تأثيرها على الأوضاع على الأرض بعد عام من بدء العمليات المسلحة؟

فيما يتعلق بالأطراف الإقليمية والدولية ودورها في الحرب الدائرة، نتساءل عن دول الجوار الأفريقي سواء تشاد أو إثيوبيا أو كينيا أو مصر، أو المنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الأفريقي والإيجاد ودورهما في طرح مبادرات لحل الأزمة الحالية في السودان- أو تأجيجها- في إطار رؤية تلك الأطراف للأزمة وأسبابها وأوجه حلها في ظل مصالحهم الإقليمية أو الخاصة، أو محاولات الأطراف الداخلية التحالف مع الأطراف الإقليمية لترجيح كفتها في الحرب والمفاوضات ومآلات ذلك على استمرار أو توقف الحرب الحالية.

وعلى الصعيد الإقليمي أيضًا، يشير المشهد إلى أدوار خليجية ظاهرة تصاعدت منذ أحداث 2019، وأخرى تتوارد عنها الأخبار والتحليلات في خلفية المشهد؛ ما بين جهود وساطة، ودعوات لوقف الحرب، وجهود أخرى لمساندة طرف ضد آخر؛ عسكريًا وماليًّا،.. ما يطرح السؤال عن أهداف واستراتيجيات وتفاعلات الدور الخليجي في السودان، وصلته بمواقف هذه الدول من تحولات العالم العربي منذ عام 2011.

ومن ناحية مكملة، يبرز دور دول الجوار الحضاري؛ مثل إيران وتركيا. فقد بادرت تركيا بالإعلان عن استعدادها التدخل الدبلوماسي للعب دور الوساطة بين الأطراف المتحاربة، حتى تراجع هذا الدور ظاهرًا منذ الانتخابات الرئاسية التركية منتصف العام 2023، هذا بينما يتصاعد الحديث عن دور إيراني متزايد خلال الآونه الأخيرة يتمثل بالأخص في المساندة العسكرية للجيش (حديث عن إقامة قاعدة عسكرية في شرق السودان وتزويد الجيش السوداني بطائرات دون طيار..)… ما يطرح التساؤل عن أبعاد هذا الدور الإقليمي في ضوء تنافسات العقدين الأخيرين على النفوذ والمحاور الاستراتيجيبة وموقع السودان منها.

على الصعيد الدولي، يلاحظ المراقبون تراجع الدور الغربي (الولايات المتحدة وأوروبا) في الأزمة السودانية الحالية؛ على الأقل على مستوي التفاعل المباشر مع مجرياتها، أو المواقف السياسية المؤثرة، حتى تحدث البعض عن “غياب” لهذا الدور متعمَّد، بينما يشير آخرون إلى تفضيل القوى الغربية التدخل عبر دعم دور أحد الأطراف الإقليمية المشبكة مع الأزمة، أو دعم المبادرات الإقليمية والدولية التي تقدمها دول أو منظمات … فكيف يبدو الموقف الغربي من الأزمة السودانية القائمة وما دلالاته على هذا الصراع؟

يتصل ذلك بالدور الروسي والصيني، الذي يشهد اقترابًا أكثر من الصراع، بين دور صيني أقرب إلى الحياد العلني ودعوات لوقف إطلاق النار واستعداد للقيام بدور الوساطة، وبين أحاديث عن مساندة روسية لقوات الدعم السريع؛ بأشكال مختلفة منها تدخل مجموعات من المرتزقة تتبع جماعة فاجنر.

من منظورات الاقتصاد السياسي للحروب، يمكن ملاحظة عدة أبعاد للصراع الجاري في السودان؛ ما بين تمويل الحرب؛ داخليًّا وخارجيًّا؛ وسرقة ونهب الموارد العامة، والاستيلاء على ممتلكات الأفراد، وما بين الآثار الاقتصادية المدمرة لهذا الصراع. وفي الوقت ذاته فإن الحرب والاقتصاد المدمّر يتناوبان الأدوار والتأثير؛ مما يشير إلى ما يشبه الدائرة المغلقة للصراع… فكيف يمكن رصد هذا الجانب وتفسير تطوراته؟

وفي قلب هذه الأزمة الكبرى، نجد أن الآثار الإنسانية للحرب تتفاقم مع مرور الوقت؛ من نقص الإمدادات الغذائية والطبية، وغياب الأمن، وزيادة حوادث العنف الجنسي ضد النساء، أو تعاظم أزمات اللجوء والنزوح في الدول المجاورة وتداعياتها، ما يثير التساؤلات عن دور الإغاثة الإنسانية ومنظماتها الإقليمية والدولية وكيف تتفاعل مع هذه الكارثة؟

ينتهي هذا العدد بعرض بعض الكتب التي تتناول الوضع في السودان وتاريخه الحديث من أزمات وحروب أهليه وسياسات خاصة أزمة بناء الدولة والتي تعد أحد أهم إشكاليات السودان، وأسباب الصراعات الداخلية المتعددة في السودان سواء في الشرق أو الجنوب من أجل رؤى مختلفة لتلك القضايا وإشكالياتها.

وأخيرا نعود لنؤكد أنه -من منظور حضاري للعلاقة بين أقطار الأمة- فإن العلاقة بين مصر والسودان تتجاوز النظرة المصلحية الضيقة، التي ترى أن السودان مجرد بوابة خلفية لمصر، إلى رؤية الترابط التاريخي والشعبي والمصلحي الذي يجمع بين البلدين برابط يتجاوز الخلافات المعتادة، وتربط بين استقرار البلدين ومصالحهما، وأمان وحياة ورفاه شعبيهما، يتضافر فيها التاريخ مع الجغرافيا، والاجتماعي مع الاقتصادي والسياسي، فالديني والعرقي والقبلي. تبحث هذه الرؤية عن الأسباب العميقة لذلك التعقيد الذي تشهده الأزمة الحالية في السودان.

وإن مفهوم الأمن القومي لم يعد كافيا لكي يجب عن سؤال اللحظة السودانية الجارية، وإنما يجب أن يتسع إلى الأمن الإنساني بكل أبعاده التي تتعلق بالأرواح والأعراض والضرورات الحياتية، وحقوق المأوى، وإيواء النازحين والمهجرين واللاجئين، وضرورة إيقاف النزيف الكبير الذي أحدثته الحرب الحالية. ثم إن ثمة أمنا آخر لا يصح التغاضي عنه يتعلق برابطة الانتماء إلى الأمة العربية الإسلامية، إنه الأمن الحضاري، الذي ينبغي رؤية التدخلات الخارجية من منظوره، وتفسير الأدوار المختلفة المتلاعبة بمصير السودان عبر مفاهيمه وقيمه ومقاصده، ومن ثم إعادة النظر في الدور المصري والعربي والإسلامي في السودان من خلاله.

والله أعلى وأعلم.

 

  • مقدمة التحرير: فصلية قضايا ونظرات- العدد الرابع والثلاثون- يولبو 2024

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى