عرض كتاب «حماس والجهاد والشرعية الشعبية: إعادة تفسير المقاومة في فلسطين»

مقدمة:

يُعَدُّ هذا الكتاب أحد إسهامات المدرسة النقدية في العلاقات الدولية في دراسة حركة المقاومة الإسلامية “حماس” حيث يقوم الكتاب بدراسة معمقة لأنشطة الحركة، وذلك في إطار تسليط الضوء على مفاهيم المقاومة والجهاد لدى حماس، من حيث سعة الوعاء التفسيري والتطبيقي حسب مقتضيات الواقع مع الأخذ في الاعتبار الرأي العام الشعبي الفلسطيني، ومن هنا يركِّز الكتاب على الأبعاد الاجتماعية والثقافية للحركة وتجذُّرها في المجتمع الفلسطيني في محاولة لمعرفة أسباب الدعم الشعبي الكبير للحركة، على الرغم من صورتها العالمية المشوهة والموصومة بالإرهاب، وعلى الرغم من أن هذا الدعم يحمِّل الشعب أعباء وتكاليف دولية.

وفي هذا الإطار يسعى الكتاب بالوقوف على طبيعة الحركة وأنشطتها المتنوِّعة غير المقتصرة على الجوانب العسكرية والسياسية، وتقديم صورة إنسانية لحركة حماس في مقابل الصورة العالمية عنها والمنطلقة من السرديَّة الغربيَّة التي تضعها على قائمة الإرهاب، وذلك بهدف بيان أن الحركة لديها مرونة عالية وعقلانية -حسْب تعبير الكاتب- ومن ثم فإن الكيان الإسرائيلي والغرب بشكل عام يمكنه التكيُّف مع وجودها والتعايش السلمي معها وذلك في إطار حلِّ الدولتين، وتعرض هذه الورقة الكتاب الذي ينقسم إلى ستة فصول وخاتمة، وفيما يلي عرض لتلك الفصول.

الاستشراق، الإسلام، والتشدُّد في عالم ما بعد 11 سبتمبر

يقوم الفصل ابتداءً بتحليل الخطاب الغربي السائد عن حماس والإسلاموية والنشاط المسلَّح بشكل عام، مع بيان تأثُّره بشكل كبير بالدراسات الاستشراقية التقليدية التي تعمل على تنميط الإسلام والحركات الإسلامية وتصويرها في رموز معيَّنة، وذلك في سياق “الحرب على الإرهاب”.

يبدأ الفصل بنقد المقاربات الاستشراقية والأمنية تجاه حماس والإسلاموية والإرهاب، وبيان المغالطات والتناقضات وسطحية المعرفة التي يقع فيها المستشرقون وداعموهم، ويذكر الكاتب هنا مجموعة من المستشرقين، فضلًا عن طروحات فوكوياما وصموئيل هنتنجتون التي تَصُبُّ في نفس الهدف المتعلِّق بربط الإسلام والإسلاميِّين بالرجعية واللاعقلانية في مقابل الغرب العلماني الحداثي التنويري، ثم ينتقل لتقديم بعض الخطابات البديلة المستندة إلى دراسات ما بعد الاستعمار والنظرية النقدية والنهج النقدي لدراسات الإرهاب؛ وبيان هيمنة السردية الغربية والإسرائيلية على دراسة “الإرهاب”، وفي هذا السياق يستدعي “حماس” كنموذج يكشف مغالطات المنهج الاستشراقي التقليدي في دراسة الإسلام السياسي، وعدم قدرته على إدراك الحقائق التي يظهرها الواقع، خاصة في ظلِّ مرونة الحركة وقدرتها على التطور والانفتاح على العالم الخارجي مع الحصول على قاعدة شعبية كبيرة داعمة.

وبناءً على ذلك يقوم هذا العمل البحثي على مواجهة الأنماط التقليدية للسرديات الغربية والإسرائيلية فيما يتعلَّق بقضية فلسطين، وهذا من خلال التركيز على رؤية مؤيِّدي حماس والمتعاطفين معها وممثِّليها على مستوى المجتمع المحلي، بعيدًا عن الخطابات السائدة المتعلِّقة “بالحرب على الإرهاب”، وذلك انطلاقًا من تصوُّر الكاتب لحماس كحركة شعبية محلية ذات دوافع شعبية تهتم في المقام الأول بأهداف مرحلية زمنية، تسعى إلى تحسين الظروف المعيشيَّة للمجتمع الفلسطيني، وهي غير متجانسة بطبيعتها وتدعمها شرائح كبيرة ومتنوِّعة من المجتمع الفلسطيني، فحماس حركة سياسية، وهى حركة اجتماعية أيضًا وهي فاعل عسكري وهي أيديولوجيا أيضًا، وفي هذا السياق تبحث هذه الدراسة في هذه الجوانب المتعدِّدة للحركة وتضعها في سياقها وتحلِّلها ضمن إطار مفاهيم المقاومة والجهاد.

الجهاد الأصغر: المقاومة المسلحة

انطلاقًا من نقد الربط الترادفي السائد بين حماس والعنف السياسي، يؤكِّد الكاتب على ضرورة فهم المقاومة المسلحة لحماس في سياق الاحتلال الإسرائيلي وما يفرضه على الشعب الفلسطيني من معاناة، فالمقاومة المسلَّحة بهذا المعنى هي نتيجة طبيعية لوجود كيان محتل يجب العمل على دفعه، وذلك في ظلِّ ما يسْعى إليه الكاتب في هذا الفصل من بيان فاعلية المقاومة المسلَّحة لحركة حماس ضدَّ الكيان الإسرائيلي، والتي كان من ثمارها انسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة من جانب واحد عام 2005، في هذا السياق يقوم الكاتب بسرد تاريخي تحليلي مختصر للأحداث والإرهاصات التي أحاطت بالمقاومة المسلَّحة وحفَّزتها منذ 1967 مرورًا باتفاقية أوسلو ثم الانتفاضة الأولى والثانية، مع الإشارة إلى الصدع الحاصل في الداخل الفلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة من ناحية، وبين السلطة الفلسطينية وحركة فتح من جانب وحركة حماس من جانب آخر، وكذلك بيان طبيعة العلاقة الخدمية بين السلطة الفلسطينية وبين الكيان الإسرائيلي، وذلك بالتوازي مع عرض نماذج من الشعب الفلسطيني وتصوره عن الاحتلال وإيمانه بضرورة المقاومة المسلَّحة في محاولة لبيان الحاضنة الاجتماعية التي لا تنفكُّ عنها حركة حماس.

ينتقل الكاتب لتتبُّع نشأة حركة حماس كجزء من جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، وذلك في سياق الانتفاضة الأولى وتزايُد النشاط القتالي منذ أوائل التسعينيَّات، ثم تأسيس الذراع العسكري للحركة “كتائب الشهيد عز الدين القسام” في 1992. وهنا يتناول الكتاب الأهداف التي يخدمها الجهاد المسلح لحركة المقاومة “حماس”، وفي هذا الإطار يقول:

“تخدم المقاومة المسلحة والعنف السياسي مجموعة متنوعة من الأغراض، بما في ذلك الدعاية والردع، ولكنها مدفوعة أيضًا بدوافع عاطفية أكثر، مثل الانتقام واليأس والتمكين. المقاومة العنيفة إذن هي: (1) مدفوعة باعتقاد واسع النطاق بين الفلسطينيين بفاعليَّتها؛ (2) أداة فعَّالة للدعاية والانتقام والإصلاح والردع؛ (3) وسيلة غير برلمانية للتقدم السياسي في ظل غياب الفرص المؤسسية؛ و(4) نتيجة التنافس بين الفصائل والمنافسة على الدعم الشعبي، وبالتالي فإن العنف السياسي من الممكن أن يعمل على تعزيز المصداقية المحلية، في حين يعمل في الوقت نفسه على تقويض شرعية سلطة الوضع الراهن وسياساتها. فالعنف السياسي ضد إسرائيل، على سبيل المثال، يسلط الضوء على استياء الفلسطينيِّين من الاحتلال الإسرائيلي وعدم شرعيته”.

وبناءً على هذا الطرح يؤكِّد الكتاب على أن العنف السياسي لحركة حماس والجهاد المسلح هو وسيلة لتحقيق مكاسب على المستوى السياسي والاجتماعي وليس غاية في حَدِّ ذاته كما هو التصوُّر التي تروج له السردية الإسرائيلية.

التضحية: الصمود والرمزية

يناقش هذا الفصل مركزية التضحية والصمود والاستشهاد بالنسبة للمجتمع الفلسطيني، ولدى حماس بشكل خاص، حيث يقوم باستكشاف التداعيات الاجتماعية والسياسية والنفسية والرمزية لمفهوم التضحية والاستشهاد المصاحبة لمفهوم الجهاد المسلح، وفي هذا الإطار يقوم الكاتب بنقد التصوُّر النمطي الغربي عن الشهداء وتفسير أفعالهم البطولية إمَّا بدوافع شهوانية تتعلَّق بجزائهم الأخروي بالزواج من حور عين، أو بتفسيرات تتعلَّق بإشكاليات نفسية أو عقلية، ويبيِّن الكاتب أن دحض هذا التصوُّر يكون بوضع الأمر في سياق وجود كيان محتلٍّ ومن ثم تكون هذه الأفعال وسيلة للمقاومة في إطار معركة غير متكافئة من حيث القوة المادية، كما أن غالبية من قاموا بالعمليات الاستشهادية في الانتفاضة الثانية على سبيل المثال كانوا على مستوى تعليمي عال، وفي هذا السياق يؤكِّد الكاتب على أن الشهادة فعل اجتماعي في المقام الأول، وبالتالي فإن حماس تستهدف من خلال هذه التضحيات تحقيق مستوى من الردع.

وممَّا تجب الإشارة إليه في هذا الصدد أن الكاتب -على هذا النحو- ينزع عن الفعل المقاوم -في هذا السياق- الخاص بـ”العمليات الاستشهادية” على وجه الخصوص أيَّ بُعْدٍ عقيدي أو إيماني، مؤكِّدًا على أن ما يسمِّيه بـ”هجمات التضحية بالنفس” مدفوعة باعتبارات سياسية ومنفعة عملية بالنسبة لحماس، ويستند في ذلك إلى ما جاء على لسان بعض قادة حماس في تأكيدهم على أن مثل هذه العمليات لها أهداف سياسية ولكن الإشكال يكْمن في استدلال الكاتب، فوجود الأهداف السياسية لا ينفي الأبعاد الإيمانية العقيدية التي تصنع مثل هذه النماذج وهو ما يثبته الواقع الفلسطيني بشكل جلي.

وتحت مظلَّة التضحية أيضًا يسلِّط الكاتب الضوء على فكرة “الصمود” أو الصبر كقيمة إسلامية عُليا تتمثَّل في الفلسطينيِّين بشكل كبير، حيث يطرحها في سياق الحديث عن حرب إسرائيل على غزة 2008-2009 وكيف مثَّل فيها صمود أهل غزة -في ظل حرب غير متكافئة- نصرًا في حَدِّ ذاته.

وأخيرًا تأتي قضية الأسرى والرؤية الفلسطينية المجتمعيَّة للأسير باعتباره بطلًا حتى إن عائلات الأسرى يتمتَّعون بحفاوة اجتماعية خاصة، فالأَسْرُ ليس إدانةً عند الفلسطينيِّين بل علامة شرف وفخر، وفي هذا السياق يستدْعي الكاتب صفقة التبادل التي قامت بها حماس عام 2011 في مقابل تسليم جلعاد شاليط الذي تَمَّ أسره عام 2006 والذي على إثره تعرَّضت حماس لضغط كبير، بل تعرَّض قطاع غزة لهجمة إسرائيلية عنيفة، مشيرًا إلى ما آلَ إليه “صمود” حماس أمام الضغوط، بالإضافة إلى حنكتها السياسية التي تتمتَّع بها، والانضباط الأخلاقي والوفاء بالوعد في المفاوضات من تحقيقها مكاسب كبيرة على مستويات مختلفة تمثَّلت في إطلاق سراح 1000 أسير فلسطيني منهم حوالي 280 عليهم أحكام بالسجن مدى الحياة، هذا فضلًا عن اتِّساع رُقعة الدعم الشعبي لها بشكل فارق.

من المتفجِّرات إلى صناديق الاقتراع: الجهاد السياسي

وفي ظلِّ تتبُّع الكاتب لتطوُّر حركة حماس ونموِّها عبر السنوات يتناول في هذا الجزء رؤية حماس للمشاركة السياسية وذلك عبر رصد تطور حماس من كونها جهة فاعلة سياسيًّا خارج البرلمان، وذلك من خلال التعبير عن نفسها من خلال الجمعيَّات والنقابات المهنية، إلى مشاركتها النهائية في الانتخابات البلدية والتشريعية منذ عام 2004، ثم يناقش مفاهيم حماس للسياسة، ومبرِّرات مشاركتها في العملية الانتخابية بعد أن كانت تتَّخذ موقفًا معاكسًا في انتخابات 1996 حيث لم تُرِدْ وقتَها إضْفاء أي شرعية على اتفاقية أوسلو، وهو ما تغيَّر بعد الانتفاضة الثانية التي كانت بمثابة دليلٍ على موت اتفاقية أوسلو بالنسبة لحماس، بالإضافة إلى ذلك يناقش الكاتب الجدل بين مفهوم المقاومة من جهة والنضال السياسي من جهة أخرى، وكذلك وجهات نظر الحركة حول الديمقراطية.

انطلاقًا من الخلفية الإسلامية الأيديولوجية لحركة حماس وهدفها في مقاومة الاحتلال وبناء دولة فلسطينية إسلامية، فإن السياسة بالنسبة لها تُعَدُّ شكلًا من أشكال الجهاد، والمشاركة السياسية هي في الواقع طريق مكمِّل لتحقيق أهداف الحركة وفرض حمايةٍ مؤسَّسية للمقاومة.

بناءً على ذلك، يتناول الفصل تأثيرَ مشاركة حماس في السياسة المؤسَّسية من خلال الوقوف على نجاحها في الانتخابات البلدية 2004/2005 وفوزها اللاحق في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني عام 2006، وإرهاصات هذا الفوز ومآلاته من حيث الوقوف على كيفية تمكُّن حماس من جذْب قاعدةٍ سياسيةٍ أوسع للتصويت لها خارج نطاق جمهورها “الأساسي” التقليدي، وذلك في إطار وضعها في مقارنة مع حركة “فتح” من حيث وجود الرؤية الواضحة، والنهج المستقل عن الكيان الإسرائيلي ومعاونيه من الدول الغربية. ثم مناقشة قدرة حماس على الموازنة بين التركيز على الأجندة السياسية والإجتماعية من ناحية وبين النضال المسلح من ناحية أخرى.

وأخيرًا يشير الكاتب إلى النموذج الديمقراطي الذي قدَّمته حماس المستمد من نموذج الخلافة الراشدة، والقائم على مبدأ الشورى والإجماع، ويهدف إلى تحقيق العدالة، ثم يعرض العوامل التي ساهمتْ في تمكينها من استخدام السياسة الانتخابية لتعزيز قوتها وتعزيز شرعيتها ومقاومة الاحتلال والمساعدة في هندسة التغيير الاجتماعي، خاصة في مقابل حركة فتح، وفي هذا السياق يشير الكاتب إلى أن التوجُّه الإسلامي لحماس ووحدة قادتها وتنظيمها المتفوق ودورها الاجتماعي الفعَّال الذي يخدم كافَّة الأطياف، وليس المسلمين وحدهم، والتركيز في برنامجها الانتخابي على مفهومي “التغيير والإصلاح” وقدرتها على تقديم مرشَّحين على قدرٍ عالٍ من الكفاءة سمحتْ لها بالحصول على أصوات فئات مختلفة ومتباينة في نابلس ورام الله وجنين، حتى إن بعض من صوَّتوا لصالحها لا يدعمون الحركة ذاتها، كما ساهم ذلك بتمكين حماس من وضع شروط النقاش خلال الحملات الانتخابية، حيث كان مرشَّحُو حماس يمتلكون في كثير من الأحيان رأس مال اجتماعي ورمزي وأخلاقي أكبر من نظرائهم من فتح. وهذا بدوره يُترجم إلى رأس مال سياسي في صناديق الاقتراع، خاصة على المستوى المحلي، حيث سَعَتْ حماسُ إلى تقديم نفسها على أنها كيان سياسي مسؤول وليس فقط حركة مقاومة مسلَّحة.

وأخيرًا، يتناول هذا الفصل نتائج انتخابات حماس المفاجئة للحكومة في عام 2006، بما في ذلك تأثير العقوبات الدولية ضدَّ الحركة والنهج الغربي والإسرائيلي العنصري في التعامل مع حماس بعد فوزها، وازدواجية فتح في التعامل مع حماس ككيان سياسي شرعي، حتى قام المجلس التشريعي السابق الذي تُهيمن عليه فتح بإصدار سلسلة من القوانين الجديدة التي تمنح صلاحيات الطوارئ والسيطرة على قوات الأمن للرئيس محمود عباس قبل دخول المجلس التشريعي الجديد الذي تُهيمن عليه حماس حيِّز التنفيذ، وهو ما دفع حماس إلى إنشاء قوة تنفيذية خاصة بها. وقد آلَ هذا النهج إلى الانقسام النهائي بين الضفة الغربية وغزة في يونيو/حزيران 2007.

يُشير الكاتب أيضًا إلى سعي حماس للفصل بين الحركة وبين الحكومة، وهو ما تُرجم من خلال استقالة أعضاء الحكومة من أيِّ أدوارٍ قياديةٍ داخل الحركة قبل دخول الحكومة. وهنا يؤكِّد الكاتب على أن حكومة حماس في غزة قد أثبتت قدرتها على حفظ الأمن وفرض النظام على الرغم ممَّا تُعانية من عزلة سياسية وحصار، وهو ما يتَّسق مع رؤية الحركة بأن الحكم الجيِّد هو صورة من صور الجهاد والمقاومة.

بناءً على ما سبق طرحُه، يستدلُّ الكاتب من خلال استقراء التحوُّلات التي مَرَّتْ بها حماس فيما يتعلَّق بعلاقة السياسة بالمقاومة على مرونة حماس وقدرتها على فقه الواقع والتفاعل مع متغيِّراته بحكمة، والموازنة بين الثابت والمتغيِّر في أهدافها المنبعثة من رؤيتها الإسلامية، ويستقي الكاتب من هذا أن الديمقراطية والحداثة لا تحتاجان بالضرورة إلى تعريفهما بمصطلحات غربية علمانية، بل هناك نماذج أخرى لديها خلفيَّات ثقافية مختلفة تقدِّم بدائل لا بدَّ من أخذها في الاعتبار.

العمل الخيري: المجتمع، والجهاد المدني

استكمالًا لصور الجهاد المتعدِّدة التي يتناولها الكتاب؛ يقف هذا الفصل على الجهاد ببعده الاجتماعي، فانطلاقًا من “الصمود” كأيديولوجية يؤمن بها الفلسطيني ويتصرَّف بناءً عليها، يأتي التركيز على التنمية المجتمعية وبناء المؤسسات لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليل الاعتماد على الاحتلال كصورة من صور المقاومة التي تتبنَّاها حركة حماس انطلاقًا من شمولية الرؤية الإسلامية وسَعة مفهوم الجهاد في الإسلام، ومن هنا تنخرط حماس والفصائل التابعة لها في نوعين متباينين ​​ولكن متشابكين بعمق من العمل الاجتماعي: (أ) “الدعوة إلى الإسلام” -وهو موضوع الفصل السادس- و(ب) بناء المؤسسات التنموية التي تهدف إلى تحسين الظروف المعيشية اليومية والفرص المستقبلية للفلسطينيِّين، وهو ما ركَّز عليه هذا الفصل.

يبدأ الفصل الخامس بدراسة الفرضية الغربية الإسرائيلية التي كثيرًا ما يتمُّ الاستشهاد بها، وهي أن المؤسسات الخيرية التابعة لحماس تهدف إلى تجنيد الإرهابيِّين، وذلك مع إغْفال حقيقة وجود احتلال على الأراضي الفلسطينية، ودحضًا لهذه الفرضية يبحث الكاتب عن مدى ارتباط المؤسسات الاجتماعية الإسلامية في الأراضي الفلسطينية بحركة حماس أو سيطرتها عليها، حيث يشير إلى أن حماس لا تسيطر على كل المؤسسات الخيرية في فلسطين وأن المؤسسات التابعة لها فهي مستقلة من الناحية التنظيمية عن الجناح العسكري والسياسي لحماس، هذا فضلًا عن أن الغالبية العظمى من المؤسسات الاجتماعية الإسلامية مسجلة لدى السلطة الفلسطينية أو سلطات الاحتلال، ويحصل بعضها على تمويل خارجي من بعض الدول بما فيها بعض الدول الغربية والأمم المتحدة.

بالإضافة إلى ذلك، يضع هذا الفصل العمل الاجتماعي الإسلامي في الأراضي الفلسطينية في سياقه من حيث السوابق التاريخية والظروف الاجتماعية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة التي أَدَّتْ إليه والتي استلزمتْ وجودَ مثلَ هذه المؤسسات والتي لا تنفكُّ بطبيعة الحال عن وجود الاحتلال وسياساته القمعيَّة وعزْل الأراضي الفلسطينية بعضها عن بعض وتزايُد الانفصال بين القيادة الفلسطينية الرسمية والمجتمع، في مقابل ما يقدِّمه ممثِّلو حماس من مساعي خيرية تَسُدُّ بعض حاجات المجتمع المفقودة نتيجة للظروف المحيطة، وفي سياق دراسة الكاتب لتاريخ العمل المجتمعي في فلسطين يشير إلى أن الأمر لم يبدأ مع حماس، بل إن العمل المجتمعي كان محورَ اهتمام سلف حماس، أي “الإخوان المسلمين”، كما أنه يدرس النقطة المرجعية الإسلامية لهذه المساعي وارتباطها بمفهوم الزكاة أو الصدقات، مؤكِّدًا على أن الأعمال الخيرية والعمل التطوعي هما عنصران أساسيَّان في الفلسفة الإسلامية.

وينقسم العمل الاجتماعي والعمل الخيري الإسلامي في الأراضي الفلسطينية بين الأعمال الخيرية التقليدية التي تنطوي على توفير السلع والخدمات وبين استراتيجية أكثرَ اتِّساعًا تركِّز على بناء المؤسسات وتنمية المجتمع والتعليم المهني. ومع ذلك، على مدار الانتفاضة الثانية، كان العمل الاجتماعي أكثر تركيزًا على إدارة الأزمات في غياب الأمن منه على بناء المؤسسات، وفي هذا الإطار يتناول الكاتب ذكرَ بعض الأنشطة التي قامتْ بها المؤسسات الاجتماعية الإسلامية، وخاصة المنظمات الرئيسية مثل المجمع الإسلامي، والجمعية الإسلامية، بالإضافة إلى محورية دور المساجد كمحاضن تربوية وتعليمية، هذا فضلًا عن الوقوف عند دور الأعمال الخيرية طوال الانتفاضة الثانية، وتجلِّي التضامن المجتمعي كمبدأ أساسي من مبادئ الإسلام.

الجهاد الفكري: التعليم والقيم الإسلامية

يعود الفصل السادس والأخير إلى مناقشة تصوُّرات حماس للإسلام باعتباره المرجع والأساس الذي يربط بين أنشطة الحركة متعدِّدة الأوجُه، مبيِّنًا أن تأسيس مجتمع قائم على الأسس الإسلامية يُعَدُّ من أسْمى أهداف الحركة، على هذا الأساس فإن الدعوة وفقًا لحماس تُعَدُّ أحدَ أعلى أشكال الجهاد، في هذا السياق ينظر الكاتب في السوابق التاريخية التي أثَّرت على رؤية حماس للإسلام والجهاد، والتي تتعلَّق بسقوط الدولة العثمانية وبروز نجم التنوير الغربي وحالة الصراع الفكري التي عاشتْها المجتمعات الإسلامية آنذاك، وما تبع ذلك من صحوة إسلامية جاء على إثرها نشأة جماعة الإخوان المسلمين، ثم حماس وجناحها العسكري (كتائب الشهيد عزالدين القسام)، وذلك بالتوازي مع التغيُّرات والتحوُّلات السياسية في المنطقة في ذلك الوقت، ومن هنا ينظر الكاتب في هذا المحيط الخارجي الذي أثَّر في رؤية حماس للإسلام والجهاد مع الأخذ في الاعتبار مركزية الإسلام بالنسبة للمجتمع الفلسطيني ككل، مشيرًا إلى تركيز حماس على الجهاد الفكري والدعوة وبث القيم الإسلامية في المجتمع عقب الانتفاضة الأولى.

ينتقل الكاتب لمناقشة ما يرى أنه ميل بين المستشرقين والإسلاميين على حد سواء إلى استثناء الإسلام من بين الأديان، حيث يرى كلٌّ من مؤيِّدي ومنتقدي الفكر الإسلامي أنه فريد من نوعه بين الأديان بقدْر ما يزعم أنه يقدِّم نظامًا عقائديًّا شاملًا ينظم الحالة الإنسانية بأكملها (منهج حياة)، فالمستشرقون يردِّدون هذه الفكرة لاستنتاج أن الإسلام يتمُّ تعريفه بخصائص ثابتة وغير قابلة للتغيير يعود تاريخها إلى زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا النحو يرى المستشرقون أن الفكر الإسلامي هو قوة قديمة وقمعية وراكدة، وأن الشريعة الإسلامية لا تصلح لهذا الزمن، ليطرح الكاتب سؤالًا حول دقَّة هذه الحجج وفشلها في تفسير مدى تعقيد وتطوُّر العالم الإسلامي عبر القرون، وتجاهلها للتفسيرات والتطبيقات المتعدِّدة للفكر الإسلامي في جميع أنحاء العالم الإسلامي الممتدِّ من إندونيسيا إلى المغرب، ومن ثم فهو يريد بيان أن الإسلام له قواعده وقيمه وأُسسه العامة التي لا تتغيَّر، ثم تأتي مساحات الاجتهاد ضمن هذا الإطار لتمنح الشريعة مرونة التفاعل مع مستجدَّات الواقع، وهو ما تقدِّم له حماس نموذجًا.

وعلى هذا النحو يناقش الكاتب تفسير حماس وتطبيقها للشريعة الإسلامية والالتزام بميثاقها، ممَّا يكشف أن المبادئ الأيديولوجية للحركة، مثل الجهاد والمقاومة، هي مفاهيم مرنة ومتطوِّرة وقابلة للتغيير، ويذكر هنا الكاتب على سبيل المثال قبول حماس بدولة فلسطينية على حدود 1967 دون اعتراف بالكيان الصهيوني كهدف مرحلي كدليل على مرونة الحركة وعمليتها في التعامل مع معطيات الواقع.

يعود الكاتب مرة أخرى للتركيز على اهتمام حماس بالبناء الفكري القيمي، انطلاقًا من رؤية إسلامية ترى أن التجديد المجتمعي يبدأ من الفرد، وهذا يبدأ بالتربية الإسلامية، وبناء على ذلك، فإن التعليم يحظى بأولوية لدى حماس، سواء من حيث تطبيقاته الأخلاقية أو العملية، وسواء كان ذلك التعليم في المسجد أو في الفصول الدراسية، فلا بدَّ أن يؤدِّي إلى نشر القيم وتشجيع السلوك القويم، وللمساجد على وجه الخصوص مركزية في العملية التعليمية فهو مؤسسة اجتماعية متكاملة يمارس فيه التعلُّم بمختلف علومه، وتُناقش فيه شتَّى الأمور، سياسيةً كانت أو اقتصاديةً أو غيرها. ولحماس إسهام مؤسَّسي اضح في رفع مستوى التعليم وتعزيزه، وتُعتبر الجامعة الإسلامية في غزة، التي تأسَّست عام 1978، المؤسَّسة الأكثر تأثيرًا المرتبطة بحركة حماس من حيث التغلغُل الاجتماعي في الأراضي الفلسطينية.

وبناءً على هذا الطرح، يرى الكاتب أن أهمية الإسلام في الأراضي الفلسطينية تسْبق حماس بزمن طويل، وسوف تستمر حتى لو اختفت، ولذلك يقول: “المرونة المستمرَّة التي يتمتَّع بها هذا النوع من السياسة الإسلامية يشكِّل ضرورة أساسية إذا كان للسلام أن يحلَّ في فلسطين وإسرائيل”.

في النهاية يأتي الفصل الأخير كخاتمة تجمع وتدرس الآثار المترتبة على تطور حماس وتأثيراتها المترتِّبة على الساحة السياسية الفلسطينية، كما تنظر لتداعيات التطوُّر المستمرِّ لحماس في سياق “الربيع العربي”، لا سيما فيما يتعلَّق بصعود وسقوط جماعة الإخوان المسلمين في مصر؛ والصراع الدوري في غزة، خاصة في عامي 2012 و2014؛ وصعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وفروعه الإقليمية المفترضة.

خاتمة:

قدَّم هذا الكتاب إسهامًا هامًّا للمدرسة النقدية في تسليط الضوء على واحدة من أبرز نماذج الحركات الإسلامية التي يحيط بها الكثير من الجدل المحمَّل بتحيُّزات غربية عنصرية مزدوجة المعايير نظرًا لجذورها الإسلامية كحركة مقاومة ضدَّ احتلال يحظي بتأييد غربي واسع، ولهذا فإن ممَّا يحمد للكاتب ما قام به مساءلة لهذه التصوُّرات السائدة وتصحيح الكثير من المفاهيم المغلوطة التي تتبنَّاها السردية الغربية عن الشريعة الإسلامية بشكل عام وعن الحركات الإسلامية بشكل خاص، وعلى رأسها حماس، وإبراز سعة مفهوم المقاومة والجهاد، وعلى الرغم من هذا الجهد المشكور فإنه في سعيه لتقديم صورة جيدة عن حماس وقدراتها وسعة فقهها للواقع ومعطياته، يرى أن بقاء حماس وقوتها تكْمن في تطوُّرها الذي جعلها أكثر براجماتية وعملية، وبالتالي يمكن في نهاية الأمر أن تقبل بوجود إسرائيل وتتعايش معها، وهذا الطرح -المتأثِّر بالخلفية الغربية للكاتب، والذي قد يكون له ما يبرِّره جزئيًّا من حالة انغماس الحركة في الحياة السياسية في السنوات الأخيرة- يتنافى بشكل صريح مع ما ذكره عن رؤية الحركة باعتبارها حركة مقاومة “إسلامية” تهدف إلى تحرير كافة الأراضي الفلسطينية وانعكاسات ذلك الواضحة على أرض الواقع، ولعلَّ ما نُعايشه اليوم ضمن أحداث معركة طوفان الأقصي أكبر دليل على ذلك؛ فقد كشف هشاشة كل مزاعم إمكانية التفاوض والتعايش مع الاحتلال، وأعلن استمرار تمسُّك حماس بهدفها الأصيل في الدفاع عن حق الفلسطينيِّين في أرضهم، رافعةً شعار المقاومة حتى التحرير، مما يمهِّد الطريق للمزيد من الجهد البحثي لاستشراف مستقبل المقاومة وفقًا لمعطيات الواقع الجديد.

هوامش

* Tristan Dunnig, Hamas, jihad and popular legitimacy: Reinterpreting Resistance in Palestine, (London: Routledge, 2016).

  • نُشر عرض الكتاب في فصلية قضايا ونظرات- العد الثاني والثلاثون- يناير 2023

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى