التحولات السياسية في غرب إفريقيا: مداخل للفهم

تقديم د. مدحت ماهر:

موضوع هذا اللقاء عن التحولات السياسية في إقليم غرب أفريقيا، الذي شهد خلال العقد الثالث من هذا القرن تحولات وتقلبات كبيرة، أشهرها وأبرزها حالة الانقلابات المتتالية منذ عام 2021، التي كان لها تداعيات جديدة على علاقات هذه الدول بعضها ببعض؛ إذ دخلت الدول التي وقعت فيها الانقلابات في تحالفات مع بعضها مع بعض ضد الوجود الفرنسي، وفي مواجهة المجموعة الاقتصادية لدول المنطقة؛ وهو ما أثر على مواقف القوى الكبرى والإقليمية من هذه الدول.

لماذا نتناول غرب أفريقيا؟

لأنها جزء من أمتنا الكبيرة، فأفريقيا كما دُرج على تسميتها في حولية أمتي في العالم هي قارة الإسلام المنسية([1])، لأن عدد المسلمين فيها يتجاوز الـ 50%، ويصل في بعض التقديرات إلى 60%، ولها تاريخ إسلامي كبير، وبخاصة هذا الجزء الغربي منها، فله تاريخ إسلامي مميز، حيث قامت فيه دول وممالك إسلامية متعددة عبر التاريخ. ولا زالت هذه المنطقة تحتفظ بالهوية الإسلامية، رغم غزوات الفرنسة والكثلكة التي تتعرض لها. ويظل الإسلام عنصرًا مؤثرًا في حياة شعوب هذه المنطقة وشئونهم السياسية والاقتصادية وتفاعلات نظمهم الداخلية والبينية والخارجية.

ضيف هذا اللقاء هو أ.د. أحمد علي سالم؛ وهو أستاذ عزيز، وأستاذ زائر وباحث أول في قسم الدراسات السياسية والدولية في جامعة رودس بجنوب أفريقيا، وله في شئون أفريقيا دراسات وأوراق مهمة. وقد درَّس في الولايات المتحدة والخليج وجنوب أفريقيا. ويتميز بمنظوره النقدي، وانتمائه الفكري لأمته.

المداخلة الرئيسة د. أحمد علي سالم: التحولات السياسية في غرب أفريقيا.. مداخل للفهم

الهدف من هذه المداخلة، ومن تتبع التطورات السياسية في غرب أفريقيا، ليس أن يتوه القارئ في تفاصيل التطورات وسرد المعلومات، وإنما بناء مداخل لفهم هذه التطورات في محاولة للإجابة على بعض الأسئلة بشأن ماذا يحدث؟، ولماذا يحدث؟، وكيف يحدث؟، ونستخرج بعض الدروس بالاستفادة من المداخل النظرية لهذا الموضوع.

غرب أفريقيا من الجغرافيا إلى التاريخ:

لم تكن خريطة غرب أفريقيا قبل الاستعمار كذلك بحدودها البينية المصنوعة. ففي عام 1880 لم تكن غرب أفريقيا مستعمرة، باستثناء بقع صغيرة من ساحلها على المحيط الأطلنطي، وكانت غرب أفريقيا تضم كيانات سياسية تنتمي إلى الحضارة الإسلامية، لعل أكبرها خلافة سوكوتو التي امتدت في مساحات كبيرة فيما يعرف اليوم بنيجيريا والكاميرون، وهناك ممالك أخرى كدولة فوتا جالون، ودولة كانم-برنو عند بحيرة تشاد.

وسرد هذا التاريخ في هذا السياق مبني على تصور وجود ترابط قوي بين الحقب الزمنية، حيث تمثل طبقات تشبه الطبقات الجيولوجية، وذلك بخلاف فهم مدرسة ما بعد الاستعمار، التي ترى الاستعمار حاجزًا بين ما كان قبله وما أصبح بعده. فهو -في نظرها- أكبر نقطة تحوُّل في التاريخ البشري، ليس فقط للشعوب التي استُعْمِرت، وإنما أيضًا للشعوب والدول التي استَعْمَرت، فما كان قبل هذا التاريخ ليس مثلما بات بعده. فتأثير الاستعمار استمر حتى بعد زواله، والدليل هو خريطة الدول الحديثة التي صنعها الاستعمار، وهي نفس الكيانات التي أوجدها.

وكانت معظم مناطق غرب أفريقيا مستعمرات فرنسية، وقليل منها كانت مستعمرات بريطانية مثل نيجيريا وغانا وسيراليون. هذا الواقع الاستعماري ما زلنا نعيش آثاره، والتطورات التي حدثت مؤخرًا في غرب أفريقيا ليست بعيدة عنه.

وغرب أفريقيا -في الاستخدام الجغرافي السياسي الحديث- عادةً ما يُطلق على دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس)، وكان عددها 15 دولة، إلى أن انسحبت ثلاث دول في شهر يناير الماضي، هي النيجر ومالي وبوركينا فاسو، وذلك بسبب موقف المنظَّمة من الانقلاب الذي حدث في النيجر في يوليو 2023.

وأكبر دول غرب أفريقيا من حيث عدد السكان هي نيجيريا، وأكثر من نصف سكانها مسلمون. والإسلام هو الديانة الأساسية في المنطقة. كما يوجد عدد كبير من المسلمين في الدول الأخرى. ويظهر من توزيع السكان في غرب أفريقيا زيادة كثافتهم في المناطق الجنوبية عن المناطق الشمالية بسبب انتشار الصحراء فيها. وحين نتحدث عن السكان نذكر تنوعهم العرقي، واللغوي، والديني، والثقافي. ونظرًا للميراث الاستعماري، وجدت الجماعات السكانية المختلفة نفسها حبيسة في دولة ما بعد الاستقلال، وأصبح عليها أن تتعايش.

وتتمتَّع دول غرب أفريقيا بموارد طبيعية كبيرة، وهي معروفة بتصديرها للمعادن والمواد الخام من البترول والفوسفات والنحاس. لكن كثيرًا من هذه الدول، لا سيما الدول التي وقعت فيها الانقلابات مؤخرًا -أي النيجر ومالي وبوركينا فاسو- من أكثر الدول فقرًا وفقًا لتقارير المؤسسات المالية الدولية. فترتيب النيجر مثلًا هو الأخير في تقارير التنمية البشرية.

وسبب هذا التناقض هو التبعية الاقتصادية لدول المركز الرأسمالي، حيث تعتمد دول غرب أفريقيا على تصدير المواد الخام لهذه الدول. ومعروف أن شروط التجارة الخارجية تميل في غير صالح الدول المصدِّرة للمواد الخام. وفي المقابل، تستورد دول غرب أفريقيا المواد المصنعة مرتفعة الثمن بالمقارنة بالمواد الخام، مما يزيد الفجوة دائمًا بينها وبين الدول المتقدِّمة، حتى مع تحقيق معدَّلات نموٍّ مرتفعة كما هو الحال في غانا.

الساحل الأفريقي.. وحزام الانقلابات

يشغل إقليم الساحل (أي ساحل الصحراء الكبرى الجنوبي) الحزام الشمالي في منطقة غرب أفريقيا، وهو يتجاوز هذه المنطقة حيث يمتدُّ من المحيط الأطلنطي غربًا إلى البحر الأحمر شرقًا، ويضم أجزاءً من إريتريا والسودان إلى جانب تشاد ونيجيريا والنيجر وبوركينا فاسو مالي وموريتانيا والسنغال. ويعتمد سكان الإقليم على الرعي، وهو ما يستدعي انتقالهم موسميًّا عبر الحدود. وللحدِّ من المشكلات المترتِّبة على ذلك، نجحت الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا في فتح الحدود بين دولها والسماح لمواطنيها بالانتقال عبر الحدود بجواز سفر واحد.

وقد أصبحت دول الساحل تُعرف بحزام الانقلابات. فخلال ثلاث سنوات بين عامي 2020 و2023 شهدت هذه الدول 8 انقلابات من أصل 9 انقلابات وقعت في أفريقيا في هذه الفترة. ووقعت هذه الانقلابات في مالي (انقلابان في أغسطس 2020 ومايو 2021)، وتشاد (أبريل 2021)، وغينيا (سبتمبر 2021)، والسودان (أكتوبر 2021)، وبوركينا فاسو (انقلابان في يناير وسبتمبر 2022)، والنيجر (يوليو 2023)، ويُعد الأخير أهم انقلاب، نظرًا للعلاقة القوية بين النيجر والغرب (خاصة فرنسا) الذي كان يعتبرها حائط صد ضد الانقلابات والنفوذ الروسي. أما الانقلاب الوحيد خارج إقليم الساحل فوقع في الجابون في وسط أفريقيا([2]).

ورغم تركيزنا على الانقلابات في دول الساحل، فمن المهمِّ الإشارة إلى تحوُّلات أخرى حدثتْ دون انقلابات، ولعل أهمها وصول زعيم المعارضة إلى الحكم في السنغال عبر صناديق الاقتراع، والانتخابات النزيهة. وهو رئيس صغير السن نسبيًّا، عمره 44 عامًا، ويعارض استمرار العلاقات غير المتكافئة مع الغرب، رغم إعلانه احترام التزامات بلاده الدولية. والسنغال من الدول القلائل في أفريقيا التي لم تشهد أية انقلابات منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1960، رغم ما وقع فيها من أعمال عنف خلال الانتخابات الأخيرة.

نتائج الانقلابات وتقويمها

أدَّت الانقلابات في هذه المنطقة إلى جملة من النتائج، نوجزها فيما يلي:

(1) عودة ظاهرة الانقلابات والإطاحة بحكومات منتخبة إلى الواجهة، بعد فترة قلَّت الانقلابات فيها، حتى إن كل دول الإيكواس كان لديها حكومات منتخبة عام 2017. وما يزيد الأمر خطورة غياب أفق للمراحل الانتقالية، وبالتالي عودة النظام الديمقراطي في الدول التي وقعت فيها الانقلابات. فقد تم تمديد المرحلة الانتقالية في كل من تشاد وغينيا ومالي وبوركينا فاسو. أما في النيجر فلا حديث عن مرحلة انتقالية حتى الآن. وانتهت المرحلة الانتقالية في تشاد بانتخاب الرئيس الذي أوصله الانقلاب إلى السلطة.

(2) بروز نخبة عسكرية شابة لها طموحات في السلطة، وفي تغيير السياسات الداخلية والخارجية لبلادها، ومدعومة بظهير شعبي كبير؛ لأن القيادات العسكرية سمحت بخروج مظاهرات شعبية للتنفيس والتعبير عن الاستياء من النظم الديمقراطية السابقة المتهمة بالفساد. وقد امتدَّ تأثير الانقلابات إلى الأوضاع السياسية في دول الإقليم وخارجه، حيث ظهرت حالة من الغضب والغليان والسخط الشعبي في كلٍّ من نيجيريا والسنغال وأوغندا وكينيا.

(3) زيادة أنشطة الجماعات المسلَّحة التي تنشط في معظم هذه الدول منذ 10 سنوات على الأقل، وكانت سببًا في التدخل الأجنبي المباشر، خاصة في مالي. وأدَّت زيادة الأنشطة المسلَّحة بعد الانقلابات إلى زيادة أعداد الضحايا من المدنيِّين، وحركة اللجوء والهجرة، وتوتُّرات عبر الحدود، كما هو الحال بين مالي وموريتانيا، التي تؤوي أكبر عدد من اللاجئين الماليِّين على أراضيها. وزيادة أنشطة الجماعات المسلَّحة يحرج الأنظمة العسكرية وينخر في شرعيتها؛ لأنها برَّرت انقلاباتها بفشل النُّخب المدنية السابقة في مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة، ولكنها الآن تواجه نفس التحدِّي.

(4) انقسام الجماعة الاقتصادية لغرب أفريقيا نتيجة انسحاب مالي وبوركينا فاسو والنيجر بسبب موقف المجموعة من انقلاب النيجر وإعلان عزمها التدخل العسكري مع فشل الجهود الدبلوماسية لاستعادة الحكم الديمقراطي فيها، إذ تخشى بعض دول الجماعة من تحوُّل الانقلابات إلى تسونامي يسقط الأنظمة المدنية في المنطقة الواحدة تلو الأخرى. لكن الجماعة فشلت في الاتفاق على تنفيذ التدخُّل بسبب اختلاف دولها، فضلًا عن عدم توفُّر القدرات لديها لضمان نجاح تدخلها العسكري.

(5) اتخاذ قادة الانقلابات موقفًا متشدِّدًا من الجماعة الاقتصادية لغرب أفريقيا، إذ اعتبروا موقفها من النيجر بمثابة تحريك لقطعة الدومينو التي قد تسقطهم واحدًا تلو الآخر، فاتهموا الجماعة بتنفيذ سياسة الغرب ضدهم وأنشأوا تحالف دول الساحل ثم اتحاد دول الساحل الذي بدا كمنظمة جديدة منافسة للإيكواس. وذهبت بعض دول الانقلابات إلى أبعد من ذلك في فكِّ ارتباطها بالجماعة والدول الغربية التي تؤيد موقفها من الانقلابات، لاسيما فرنسا، فانسحبت غينيا ثم مالي من منطقة الفرنك الأفريقي، الذي يتحتَّم على دوله وضع أكثر من نصف احتياطاتها النقدية في البنك المركزي الفرنسي.

(6) إخراج القوات الغربية، لاسيما الفرنسية والأمريكية، من دول الانقلابات، بدءًا من مالي فبوركينا فاسو ثم النيجر، فخرجت القوات الفرنسية من آخر قواعدها في المنطقة -باستثناء تشاد- في أواخر عام 2023، ثم خرجت القوات الأمريكية في أغسطس 2024. وهذه القوات أُجبرت على الخروج، ولم يتم التفاوض معها إلا على إجراءات الخروج في مشهد غير متوقَّع تمامًا من منظور توازن القوى المادي. وتبحث الولايات المتحدة الآن عن دولة غرب أفريقية أخرى تستضيف قاعدتها العسكرية، ومن المرجَّح قيام ساحل العاج بهذا الدور.

(7) تحالف النظم العسكرية مع قوى غير غربية؛ لاقتناع هذه النظم بعدم قدرتها على محاربة الجماعات المسلحة وحدها، فلجأت لاستدعاء قوات من دول أخرى، واستعانت بقوات فاجنر الروسية، التي أصبح يُطلق عليها الفيلق الأفريقي بعد مقتل رئيسها العام الماضي ووضعها تحت إشراف وزارة الدفاع الروسية. وقد قُتل عشرات الأفراد من هذه القوات على يد الجماعات المسلَّحة في المنطقة، وزعمت النظم الانقلابية أن الدول الغربية تدعم الجماعات المسلَّحة ضدها؛ وذلك لإفشالها. لكن الدول الغربية لم تؤكِّد هذا الاتهام، كما رفضتْه الجماعات المسلَّحة رفضًا قاطعًا.

(8) تعاون النظم الانقلابية مع القوى الإقليمية، مثل تركيا وإيران والجزائر والمغرب، التي سعت للاستفادة من هذه الحالة. فعززت تركيا وجودها في المنطقة، ليس فقط بمسيَّراتها، وإنما بمشروعات تنموية وتمويل سخي. وسارعت إيران لفتح قنوات اتصال مع قادة المنطقة كالرئيس السنغالي الجديد والقادة العسكريين في تشاد ومالي، وهناك قلق شديد في الغرب من حصول إيران على اليورانيوم من النيجر في ظلِّ الحديث عن صفقة بين البلدين. أما المغرب ففتحت لدول الانقلابات الحبيسة جغرافيًّا (مالي – النيجر – بوركينا فاسو) طريقًا إلى المحيط الأطلنطي يجنِّبها المرور عبر دول الإيكواس، وذلك في مقابل شيء واحد هو اعتراف هذه الدول بالصحراء الغربية جزءًا من المغرب. ونجحت المغرب في ذلك مع بعض هذه الدول كتشاد. ومن بداية الانقلابات حرصت الجزائر على توزان علاقاتها مع دول الانقلابات من جهة، ودول الإيكواس من جهة أخرى، وكذلك حماية حدودها الجنوبية، لا سيما مع ضعف قدرة جيوش هذه الدول على ضبط الأمن في مناطق الحدود.

هذه النتائج التي أفرزتها الانقلابات في غرب أفريقيا تفتح بابًا واسعًا لمناقشة عدة قضايا أو ثنائيات، ربما من أهمها ما يلي:

– هل الحكم العسكري أفضل أم الحكم الديمقراطي القائم على انتخابات تتدخَّل فيها دول أجنبية معادية؟

– هل لحكَّام الانقلابات المدعومة شعبيًّا شرعية بغضِّ النظر عن سياساتهم وطرق وصولهم إلى الحكم؟

– هل يبرِّر فشل السلطات أو عنفها عنف الجماعات الأيديولوجية القومية (الطوارق) أو الدينية (النصرة)؟

– هل يمكن تحقيق التكامل الإقليمي بين دول تحكمها أنظمة يتوقَّف استمرارها على دعم خارجي مشروط؟

– هل يمكن استكمال مشروع التحرير بإحلال قوات أجنبية لدول صديقة محل قوات أجنبية لدول معادية؟

– هل يمكن تحقيق الأهداف الوطنية بالاستفادة من الصراع الدولي دون التحول لمجرَّد أداة للقوى الكبرى؟

– هل يتحقق البديل الحضاري الإسلامي باستفادة دول إسلامية من أزمات دول أخرى لتحقيق مصالحها؟

تفسيرات نظرية بنيوية وغير بنيوية لانقلابات غرب أفريقية

تقدِّم نظريات العلوم السياسية والعلاقات الدولية عدَّة تفسيرات للتطوُّرات الأخيرة في غرب أفريقيا. ويمكن تصنيف هذه النظريات إلى نظريات بنيوية وأخرى غير بنيوية. فالتفسيرات البنيوية ترتبط بضغوط وقيود خارجة عن سيطرة الفاعلين، بينما تركِّز التفسيرات غير البنيوية على دور الفاعلين في إحداث الفعل بغضِّ النظر عن الضغوط والقيود الخارجة عن سيطرته.

وفيما يلي بعض النظريات التي تقدِّم تفسيرات بنيوية للتطوُّرات الأخيرة في غرب أفريقيا:

– نظرية التحديث: يقوم تفسيرها على فشل معظم دول غرب أفريقيا بعد الاستقلال في استكمال مشروع التحديث الذي بدأه المستعمر لإعادة هيكلة هذه الدول وفقًا للمنظور الأوروبي، لا سيما في مجالات بناء الهوية الوطنية ودولة المؤسسات والتحول الديمقراطي. فكانت نتيجة هذا الفشل هو الأزمات الدورية التي تمرُّ بها هذه الدول، ومن ضمنها الانقلابات العسكرية.

– نظرية التبعية: يقوم تفسيرها على استحالة فكاك الدول التابعة اقتصاديًّا من تحكُّم الدول الرأسمالية الغربية التي تمثِّل دول المركز في النظام الاقتصادي العالمي. وهذه النظرية شديدة التشاؤم، إذ تصف الحالة ولا تُحدد العلاج، لأن الطريق الوحيد للتنمية في نظر كثير من آبائها هو استمرار التصاق دول المحيط بدول المركز الرأسمالي.

– النظرية الواقعية: وتفسيراتها للتطورات السياسية في غرب أفريقيا هي الأكثر رواجًا، إذ تفسِّرها بالتوتُّر في النظام السياسي الدولي الراهن. فميزان القوة يتغيَّر، لأننا نبتعد عن الأُحادية القطبية، ولكن لا توجد معالم واضحة للنظام الجديد. ففي ظلِّ تراجع القوة الأمريكية والفرنسية، وضعف قدرتها على ضبط الإيقاع في غرب أفريقيا، وصعود قوة الصين الاقتصادية، وقوة روسيا العسكرية في المنطقة، تهيَّأت الظروف لوقوع مثل هذه الانقلابات وإحياء أجواء الحرب الباردة بما فيها الصراع عبر الوكلاء.

– النظرية المؤسسية الجديدة: تفسِّر هذه التطوُّرات بضعف البنية المؤسسية لمنظمة الإيكواس، ومن ثم غياب قدرتها على بناء رؤية مشتركة بين دولها وضبط سلوكها.

– النظرية الماركسية الجديدة: تعتبر هذه الانقلابات المعادية للدول الرأسمالية الغربية جزءًا من محاولة بلورة خطاب ثوري جديد بديل عن الخطاب الليبرالي الرأسمالي الغربي التغريبي المهيمن حاليًّا.

أمَّا النظريات غير البنيوية فلا تتعلَّق ببنى وهياكل فكرية أو مادية معيَّنة، بل تركِّز على اختيارات الفاعلين، لاسيما النخب المحلية الحاكمة، وقدرتهم على التأثير في البنى والهياكل الفكرية أو حتى المادية. وتفسِّر هذه النظريات التطورات السياسية في غرب أفريقيا بفشل النخب المحلية الحاكمة في التعامل مع تحديات الداخل والخارج والسخط الشعبي الناتج عن هذا الفشل، ممَّا سَهَّلَ على القادة العسكريِّين مهمَّة إزاحتها والحلول محلها، ومن ثم الانطلاق لمحاولة تغيير علاقات دولها مع الإقليم والعالم بما يحقِّق مصالحها ورؤيتها.

وقدرة الفاعلين المحليين الضعفاء على التأثير في البني الدولية المركبة يمكن الاستدلال عليها بالآية الكريمة: (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) ]المائدة: 23[. فالآية تشير إلى أن الفاعل الذي قد نتصوَّر ضعفَه يستطيع أن يُحدث تغييرات كبيرة وجوهرية في حال توفَّرت له الإرادة والشجاعة وشيء من القدرة، حتى لو كانت قواه المادية محدودة. وهذه الآية لا تخاطب المؤمنين فقط، بل تحدِّثنا عن سُنَّةٍ اجتماعية تقْضي بأن الله سيُعين المجتهد بشكل أو بآخر، بغضِّ النظر عن عقيدته. فالآية تتحدَّث عن رجلين -بكل ما لهذه الكلمة من معنى إيجابي في لغة القرآن- كانا إيجابيَّين، فأصرَّا على نصيحة قومهما، رغم وجود نبي الله موسى بينهم وقدرته على الرد على جهالات قومه، ورغم أنهما كانا أقلية صغيرة جدًّا بين قومهم. ولا تخبرنا الآية بمَ أنعم الله عليهما، فهل هي الشجاعة التي أخرجتْهما عن صمتِهما وسط الغثاء، أم البصيرة التي أدركا بها مدى ضعف العدو رغم قوته المادية الظاهرة، أم اليقين في النصر إذا تصرَّف القوم بإيجابيَّة، أم كل ما سبق. فقوله تعالى: (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ) هي دعوة إلى الفعل، ثم تختم الآية بدعوة المؤمنين خاصة إلى التوكُّل على الله وطلب العون منه.

قراءة فكرية من منظور حضاري في خريطة فقه واقع غرب أفريقيا

قدَّم بعض الحضور تعليقات تراكِم على فقه الواقع وموقع المنظور الحضاري من هذا الفقه، نوجزها فيما يلي:

– تعقيب السفير معتز أحمدين:

في السياق العام تذكِّرني هذه المداخلة بالتطوُّرات في العالم العربي في بداية الخمسينيَّات، والانقلابات العسكرية التي وقعتْ فيها، فهل نشهد حدثًا مشابهًا لها؟ فالدول الأفريقية متأخِّرة في تطوُّرها عن الدول العربية قليلًا، مثلما أن الأخيرة متأخِّرة عن تطوُّر الدول الغربية. ومثل أن بنجلادش تُعيد تجربة ثورة 25 يناير 2011، وذلك مع ملاحظة تطور الأحداث وتغيُّر السياق التاريخي، فما أشبه اليوم بالبارحة! وأنا لست متفائلًا بهذه الانقلابات، كما أرى أن مسألة شعبية هذه الانقلابات فيها كلام. وبالتالي يلزم الحذر من التدخُّلات العسكرية.

والسؤال المهم يكون عن أي نمطٍ من الديمقراطية مرغوب، فالحديث ليس عن الفكرة نفسها، فلا يوجد نفي للديمقراطية حتى في ديننا (الشورى)، ولكن السؤال يكون كيف يتم تفعيل الديمقراطية؟، التي يوظَّف الفشل الخاص بها في الانقلابات، التي تمثِّل تراجُعًا، فكأنهم كبسوا على زرِّ إعادة التشغيل، عندما كانت هناك بوادر للديمقراطية والتنمية.

ولا نَنْسَ أدوارَ ومصالحِ الصين وروسيا وتغيُّر النظام الدولي في دفع هذه الانقلابات. فهذا الضعف للقوى الغربية الفاعلة أفسح المجال لقوى أخرى للتأثير. وهنا أعود للتذكير والتساؤل: هل يجب دائمًا أن نعتمد على الخارج؟ سواء الغرب أو روسيا والصين؟.. والرد أنه ما لم يتم الاعتماد على الداخل فسندور في تلك الحلقة المفرغة دون تحقيق أي شيء. وأعتقد أن الفاعلين المحليِّين في هذه الانقلابات هم من قليلي الخبرة والتعليم من الضباط المدعومين من روسيا، ربما شجَّعهم فشل الحكومات السابقة، لكن كان هناك تآمر الأطراف الأخرى، مثلما حدث في انقلابات الربيع العربي من قبل.

– تعقيب د. كريم حسين:

الاهتمام بأفريقيا مهم جدًّا لنا كمصريِّين وعرب، ونأمل في سياسة إحيائية حضارية تعيد الدور الحضاري العربي والإسلامي إلى أفريقيا. وقد عشت في منطقة الساحل الأفريقي قرابة ست سنوات، وتنقلت بين دول غرب أفريقيا بَرًّا، كما تنقَّلت في غيرها من مناطق أفريقيا وآسيا، وكنت أحاول دائمًا النظر للأمور بنظرة حضارية. وقد وجدت أمورًا متشابهة كثيرة بين هذه المناطق. ولذا حاولت أن أصوغ (آلية وأداة للتحليل الحضاري)، مُستمدة من فكرة النجمة الموجودة في علَم المغرب، وهو ما أُطلق عليه (النجمة الخماسية لتحليل أحداث العالم الإسلامي)، التي لها خمس نقاط أشبه بجسم الإنسان تمثل (رأسًا وذراعين وقدمين).

1- رأس النجمة: يتعلَّق بالرؤية الحضارية العامة، وهي (تُغَلِّبُ المجتمعَ على النظام السياسي)، في مقابل الرؤية الواقعية الغربية التي (تُعْلِي من الدولة على حساب المجتمع). وبالنسبة لدول غرب أفريقيا، وهي حديثة الاستقلال، حيث أُعلن استقلالها في ستينيات القرن الماضي، وذلك بخلاف المجتمعات التي تُعَدُّ قديمةً وقويةً، وفيها كتاتيب وطرق صوفية وحواضن مجتمعية متنوِّعة.

وعندما نتحدَّث عن التاريخ من رؤية غربية فنحن نتحدَّث عن تاريخ الدول الذي شهد تقلُّبات وانقلابات، في حين أننا حينما نتحدَّث من منظور حضاري ننظر إلى الممالك الإسلامية الأقدم قبل تأسيس الدولة، التي كان فيها مساحة كبيرة من الاتصال مع العرب والعالم الإسلامي، التي نتج عنها تأسيس حضارة الأندلس، حينما اتحد العرب والأفارقة. فالرؤية الحضارية الإسلامية لها وظيفة عمرانية إحيائية، وتنظر إلى الأسرة على أنها نواة للمجتمع؛ وللأسرة أهمية خاصة في أفريقيا، بينما تتعلق الرؤية الواقعية بإدارة المجتمع والسيطرة عليه، وتركِّز على الفرد، ومنها تظهر فكرة المرأة والجندرية.

2- جناحا النجمة (سياسة حضارية): فهناك سياسة حضارية للشرق، وسياسة حضارية للغرب. فلو نظرنا إلى عواصم دول الساحل الأفريقي، سنجد -مثلًا- في دولة النيجر أن العاصمة تقع أقصى الجنوب، لتكون بذلك أبعد ما يكون مكانيًّا عن اتصالها التاريخي بالعرب، وكذلك الأمر في مالي وتشاد، وتقسيم الدول لتكون دولًا حبيسةً كان هو الآخر مقصودًا. إذن الرؤية الاستعمارية لها سياسة حضارية كان لها أبعاد شديدة الخطورة في إبعاد أفريقيا عن العرب. كذلك صدرت سياسة الغرب فكرة العاصمة الإدارية للحكم (المركزية)، التي يستطيع من خلالها الحاكم السيطرة على باقي أجزاء الدولة، في المقابل فإن الرؤية الحضارية الإسلامية تتحدَّث عن الحواضر؛ ففي شمال النيجر -مثلًا- كانت أجادير حاضرة كبيرة لها تاريخ علمي وثقافي وحضاري، وفي شمال مالي نجد تمبوكتو التي كان لها أهمية خاصة.

وعملت السياسة الاستعمارية حتى بعد الخروج الاسميِّ من المنطقة على إبقاء هذه المعادلة عبر السيطرة على الجيوش. ولأنها لن تستطيع السيطرة على الجيش بكامله، عمدت إلى السيطرة عليه عبر تدريب النُّخب العسكرية، فافتتحت فرنسا كلية القادة والأركان في ساحل العاج، التي يختارون منها القيادات الوسيطة الذين كان لهم دور في الانقلابات فيما بعد. وكذلك لعب الاقتصاد ممثلًا في الاستثمار والعملة والبنوك دورًا خاصًّا في التأثير على سياسات هذه الدول حتى بعد الاستقلال، كما ركزت على تكوين نخب جديدة موالية لها، عبر إنشاء مدارس نخبوية، وتقديم منح للدراسة في الخارج، مع التركيز على الموارد الطبيعية والحصول عليها. وهي منظومة للسياسة الاستعمارية الحضارية الغربية، حسبما عرفتها في البلدان الأفريقية وفي بلدان أخرى.

وهناك أدوات أخرى حديثة منها الفوضى المصاحبة للثورات؛ فالفرنسيون كانوا يريدون وضع قواعد في منطقة الساحل الأفريقي منذ عام 2010، وكانت ليبيا القذافي رافضة لذلك، فلما قامت ثورة فبراير 2011 في ليبيا، كانت فرنسا أول من أخرج طائرات لضرب ليبيا، ثمَّ نشرت قواعدها العسكرية في المنطقة.

النقطة الأخرى، التي أودُّ الإشارة إليها هنا، هي ما يُسمى بـ”الإسلام الجهادي”، وأقول بدلًا منه: الحركات العنيفة التي تأخذ من الإسلام مظلَّة؛ حيث كانت هذه المجموعات هي السبب في دخول قوات فرنسا إلى مالي في فبراير 2013، بعد حركة انقلابية من مجموعة إسلامية مسلَّحة. إذن، هذه الجماعات الإسلامية المسلحة العنيفة هي أداة من أدوات الاستعمار الجديد.

وهنا أتناول الجناح الآخر للنجمة وهو السياسات الحضارية للشرق، فروسيا والصين تستخدم نفس الأدوات لكن من زاوية أخرى:

– حيث كوَّنت نخبًا مضادَّة للغرب من الجيوش والنخب السياسية، كما عملت معهم لمواجهة الإرهاب بطريقة مختلفة عن الغرب، ثمَّ دفعتْهم للتغيير في الاقتصاد والعملة، إذ حَثَّتْ بعض دول المنطقة على سَكِّ عملةٍ موحَّدة لها. كما يمكن النظر إلى كونفدرالية دول الساحل على أنها جزء من هذه السياسات المُتَّبَعَة في مواجهة السياسات الحضارية الغربية.

3- العالم الإسلامي في أسفل النجمة (الجناحان الأخيران): وهو مقسَّم إلى دول الأركان: تركيا وإيران؛ وفيها تظهر الشخصية التركية: المحارب – التاجر – الغازي، التي لديها الجانب الحضاري الإسلامي، المتعلق بإنشاء المدارس والجمعيات، والشخصية الإيرانية التي لديها نفس التوجُّهات، وحينما تُفتح لها فرصة للتعامل مع الحكومات والشعوب تقوم ببناء التكوينات الخاصة بها.

أمَّا الجناح الآخر فهو متعلِّق بالعالم العربي، وهو مفتاح التاريخ في هذه المنطقة. وهناك سياسات (عوامل) كثيرة لمحاولة عزل العالم العربي عن هذه المنطقة الأفريقية؛ منها المشكلات الداخلية التي جعلت مصر منكفئة على ذاتها، والحدود المشتعلة بين المغرب والجزائر، والصراعات المفتعلة بسبب حركة دول الخليج وتنافسها في أفريقيا، فثمة تنافس سعودي – إماراتي (غير مفهوم)، ثمَّ تنافس مغربي – جزائري، وكل ذلك مبني على غياب استراتيجية واضحة.

ولو أن هناك استراتيجية عربية لوجدنا أن هناك مصالح مشتركة؛ فلا يمكن لدول الخليج أن تُحدث بالسياسات القطرية التأثير المطلوب دون الاعتماد على الكتل البشرية الموجودة في مصر والسودان وبلاد المغرب العربي تحديدًا، وهذا الأمر منعكس عبر عمل الجمعيات التي فيها جنسيات من هذه الدول، لكن ليس لها غطاء سياسي وتمويل يمكنها من إحداث الأثر المطلوب.

وأختتم قائلًا إنه في حالة التوافق بين جناحي أسفل هذه النجمة، (ما بين أركان العالم الإسلامي والعالم العربي)، ستُقلب هذه النجمة طبيعيًّا، وتكون السيطرة الأكبر في هذه المناطق الأفريقية ومناطق أخرى حضارية للقوة الإسلامية الحضارية والعربية، وبدلًا من أن نكون نحن قدم النجمة، وفي أسفل المنظومة الحضارية والنظام الدولي، سنكون نحن رأسها، وستكون القوى الأخرى تابعةً لنا، ولكي يحدث ذلك من الضروري أن تكون مصر في القلب من هذه النجمة، وأن تعتمد رؤية وسياسة حضارية.

تعقيب د. نادية مصطفى:

تعلَّمت جدًّا من هذه الخريطة الشاملة لقراءة فقه الواقع التي قدَّمها د. أحمد علي سالم؛ وهي عن فقه واقع ما يُسمى غرب أفريقيا، ابتداءً من واقع تاريخي سابق. وفقه الواقع مهم جدًّا تقديمه وقراءته سواء برؤية واقعية أو حضارية أو من أي رؤية أخرى نقدية ماركسية.

وكلمة د. كريم، تكمل المحاضرة وتنبني عليها، وتتفاعل مع القراءة التفصيلية التي قدَّمها د. أحمد علي سالم، التي تحمل هي أيضًا رؤيته. ولنتعلَّم كيف نفهم رؤى المتحدثين من زملائنا وأساتذتنا ونتفاعل معها.

وهنا أطرح السؤال: كيف يمكن الانتقال من قراءة فقه الواقع من منظور حضاري إلى فقه التغيير الحضاري للواقع؟

وسوف أركِّز في مداخلتي على عدَّة نقاط:

(1) الأنماط التاريخية: تشير الرؤية الحضارية لأي منطقة جغرافية إلى أنه لا بدَّ من البداية من التاريخ الذي هو نقطة الانطلاق دائمًا، وما قدَّمته المحاضرة من لمحة تاريخية عن الاستعمار وما قبل الاستعمار، وما بعد الاستعمار، تساعد في فهم حاضر المنطقة وواقعها. وهذه الأنماط ليست تاريخًا انتهى، وإنما نبحث عن استمرارها ولو في سياقات مختلفة، فهناك عوامل في مرحلة ما قبل الاستعمار، مكَّنت من دخول الاستعمار، ومن إدارته في مرحلة الاستعمار، ثمَّ مكَّنت من استمرار تأثيره بعد خروجه من المنطقة. وهي عوامل داخلية بالأساس، خاصة بالممالك الإسلامية الأفريقية.

فالاستعمار تحقَّق حين ضعفت هذه الممالك الإسلامية من الداخل (وبخاصة العلماء، والكتاتيب، والمجتمع الأهلي)، فضُرب الموروث الحضاري لها من الخارج، وتمكَّن الاستعمار من أن يدخل بحداثته وأساليبه ليظلَّ فترةً كبيرةً من خلال ضرب الداخل بالداخل. ومن خلال ما سُمِّيَ بمؤتمر برلين 1884 والمقاصَّات الاستعمارية بين القوى الاستعمارية المتنافسة على أفريقيا من ناحية أخرى. وفي مرحلة ما بعد الاستعمار جرت مقاصَّات أخرى خلال الحرب الباردة. وما يحدث في غرب أفريقيا الآن هي مقاصَّات بين الدول الكبرى في غرب أفريقيا ومناطق أخرى، على نحو يستدعي الانتباه إلى تأثير التدخُّلات الخارجية المتصاعدة إلى جانب الأوضاع الداخلية المتأزِّمة ومسؤوليتهما المتكاملة عن حدوث الموجة الراهنة من الانقلابات العسكرية. ولكن هل هناك جديد في هذه الانقلابات مقارنة بموجات سابقة منها؟

(2) لماذا حدثت موجة الانقلابات العسكرية في غرب أفريقيا على التوالي منذ عام 2020 بعد موجات التحوُّل الديمقراطي والحكم المدني؟ ولماذا تلقَّى مساندة شعبية؟ إن التاريخ المعاصر لأفريقيا هو تاريخ الانقلابات العسكرية؛ لماذا؟ ولماذا لم تقدِّم علاجًا للمشاكل الهيكلية الاقتصادية، بفرض القبول بأنها حركات وطنية من أجل الاستقلال والتنمية؟ ولماذا يدب إليها الفساد وتتَّسم ممارساتها بالتسلُّطية…؟

(3) فصل أفريقيا عن العروبة، وفصل أفريقيا العربية عن الغربية، والتعريف المتداول لغرب أفريقيا يفصل عرب أفريقيا (موريتانيا والمغرب) عن غرب أفريقيا. وهو تقسيم نأخذه على أنه عادي وطبيعي، في حين أنه يفصل العرب عن الامتداد الأفريقي لهم، وكان ذلك أمرًا في خطة إحكام الاستعمار لقبضته؛ لأن الشمال الغربي كان مبعث موجات التجَّار والرُّعاة التي نشرت الإسلام (إلى جانب منافذ أخرى لدخول الإسلام من شرق أفريقيا مثلًا). ولقد كان الإسلام مرتكزًا لمقاومة الاستعمار. ومن ثم يصبح ضرب الروابط بين أفريقيا العربية وبين أفريقيا جنوب الصحراء سلاحًا استعماريًّا لمنع تحقيق التكامل الأفريقي الفاعل.

(4) في مجموعة العوامل الواصفة للواقع أو المفسِّرة للتحول من مرحلة لمرحلة، نقول إن هناك عوامل مادية وغير مادية؛ عوامل اقتصادية عسكرية وأخرى ثقافية حضارية ذات أبعاد قيمية، ولا يجب أن يُغفل الجانب الأخير لحساب الجانب الأول. كما يجب أن يُستدعى الجانب المتعلق بالناس وليس الحكومات فقط. وهذه التفسيرات التي قدَّمتها المحاضرة، ليست بدائل، فالمنظور الحضاري يأخذ في الاعتبار جميع هذه العوامل، ولكن يصبح السؤال في الرؤية الحضارية: أي هذه العوامل يكون أكثر تأثيرًا في مرحلة معينة؟

وأنا أعتقد أن الأكثر تأثيرًا في هذه المرحلة، هو التغيُّر في ميزان القوى الدولية، والعوامل الأخرى كلها موجودة على مدار 50 عامًا.

(5) الناس في مركز الرؤية الحضارية، والمنظور الحضاري يؤكِّد على التفاعل بين الدولة والمجتمع في أدوار متكاملة، وليس التغلُّب، أو الصراع، أو الهيمنة، وهو ما تعلَّمناه من أساتذتنا. وهؤلاء الناس لعبوا أدوارًا كبيرة في الأنماط التاريخية سواء في فترة ما قبل الاستعمار أو في مقاومة قبل حدوثه، وطول فترة الاستعمار، ولم تنقطع المقاومة في تاريخ أفريقيا كلها ولا في تاريخنا الإسلامي والعربي ضد التدخل الخارجي الحداثي ذي القوة العسكرية والاقتصادية والمتمكنة على ضعفٍ لدينا.

فالمنظور الحضاري يهتم بالناس أيضًا وليس النخب العسكرية والسياسية فحسْب. فالناس (الفاعلون المحليون – المجتمع…) هم دائمًا مناط مقاومة الاستعمار، والظلم والاستبداد (الاستعمار الداخلي). ومن أهم الأنماط التاريخية لأفريقيا هي أنماط مقاومة الاستعمار عند قدومه وخلال فترة الاحتلال؛ وهي مقاومات متعددة الأشكال؛ نجحت في تحقيق الاستقلال في الستينيات (لأسباب مساندة خارجية)، ولكن لم تنجح في بناء دول حديثة ديمقراطية متقدمة… لماذا…؟ لأنه لا يوجد تغيير حضاري رشيد يساعد على ذلك، ولكن مجرد تعديلات شكلية سطحية لا تكسر الدائرة المفرغة للتبعية.

(6) التغيير الحضاري لا يكفيه 75 عامًا بعد الاستعمار لنتمكَّن من رسم سيناريوهات، فالتغيير الحضاري من الاستعمار نحو الاستقلال، يدفعنا أن نسأل أنفسنا من أين تُكسر القاعدة: هل بتحوُّل ديمقراطي وانتخابات؟ هل من كسر التبعية الاقتصادية؟ أم باستبدال القاعدة العسكرية الروسية بالفرنسية؟ وهل يمكن أن تكون الانقلابات العسكرية الراهنة مخرجًا بحجة أنه يقودها جيل من الشباب الوطني؟ وهي ليست من ذلك أبدًا، ولكن من بناء إنسان جديد قادر على الفعل والتأثير… ويجب الإشارة هنا إلى أهمية مناقشة منظومة الثنائيات التي قدمتْها المحاضرَة في دراسة استشرافية تبحث عن مرتكزات التغيير الحضاري.

وأتَّفق تمامًا مع أن الضعفاء يستطيعون أن يفعلوا إذا كان لديهم عقيدة قوة، ورؤية واضحة، وقيادة فاعلة، سواء كان المحيط حولهم معاديًا أم مؤيِّدًا، فدائمًا ستكون هناك منافذ، ونموذج المقاومة في غزة أكبر دليل على ذلك.

وأخيرًا لا نقصد أن تكون هذه محاضرات روتينية، وإنما من خلال هدف مركز الحضارة، أن نفكِّر تفكيرًا متنوعًا ومتعدِّدًا يتفاعل بعضه مع بعض من منظورات مختلفة.

تعقيب د. مدحت ماهر:

أودُّ التذكير بأن كلمة “الحضاري” ليست دائمًا إيجابية، وإنما هي مقولة تستدعي قيمًا ورؤى كلية، بغض النظر عن تقييمها، فمضمونها قد يكون إيجابيًّا أو سلبيًّا. ومن الجيد ما ذكره د. كريم حسين باسم “السياسة الحضارية” للغرب أو لغيره؛ فالغرب بالفعل دخل بحضارته على حضارتنا، وعلى حضارات العالم وثقافاته المختلفة، وليس فقط بسياساته، أو جيوشه، أو اقتصادياته، إنما أيضًا بثقافته ومفاهيمه وقيمه وموازينه، والرؤية الحضارية هي التي تجمع هذه الزوايا المختلفة للنظر.

وأُشير إلى المدخل المتعلِّق بالقوى الصغيرة أو المستضعفة وكيف يمكن أن تتحرَّر أو تنعتق من تبعيَّتها ومن المسارات المقيدة. إن هذا يحيلنا مباشرة إلى غزة، والمقاومة، وإلى القرآن الكريم. يقول الله تعالى: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا) ]النساء: 75[. والولي هو من يتولَّى أمورنا الداخلية، وهو منا، يجمع ويعدل بيننا، ويوحِّد صفوفنا، ويحشد قوانا، والنصير هو الذي يتولَّى أمورنا الخارجية وينصرنا على أعداء الخارج. وهذه خاطرة أثارتْها خاطرة د. أحمد علي سالم؛ نُعيد بها التفكير في علم السياسة، والوظيفية الكفاحية للعالم؛ فكيف يكون لنا وليٌّ منا؟ ونصيرٌ لنا؟ وكيف نعيد توجيه تفكيرنا السياسي لإيجاد هذا الولي والنصير؟ وكيف تكون هناك أمة ناصرة بعضها لبعض؟

إن الأحداث عبر الأمة -حاضرًا وتاريخيًّا- كان بينها هذا الترابط، فتاريخيًّا كانت بقاع كثيرة في الأمة تقع فيها انتفاضات لتداعيات في مواضع أخرى، ففي نفس التوقيت الذي يظهر فيه ولي الله الدهلوي وأولاده في الهند، والوهابيون في الجزيرة، والصنعاني والشوكاني في اليمن، والسنوسية في شمال أفريقيا، يظهر عثمان دان فوديو في غرب أفريقيا، وغيرهم كثيرون، وستظلُّ هذه الظاهرة جاريةً في تاريخنا، ترفد الأمة بالولي النصير.

تعقيب د. أحمد علي سالم:

أتَّفق مع القول بوجود تشابه كبير بين ما يحدث الآن في غرب أفريقيا وما حدث في العالم العربي في الخمسينيَّات وفي أفريقيا في الستينيَّات. وربما هي دورات تاريخية، والأمر يحتاج لمزيد من الدراسة.

وأود توضيح أن العسكر تحرَّكوا بمبادرة منهم، وليس بدعم من الخارج. فالدعم الخارجي وصل بعد تحرُّكهم الذي أغْرى القوى الخارجية بمحاولة استخدامهم لتحقيق مصالحهم. ففي البدء كان الانقلاب، ثمَّ جاء الدعم الخارجي. فأحداث غرب أفريقيا كانت صناعة محلية واستجابة لأوضاع أنتجتْها إرادات ومصالح محلية، ولم تكن مجرد انعكاس لسياسات القوى الدولية، بل العكس هو الصحيح، فالقوى الخارجية، بما فيها القوى الكبرى، كانت في موضع رد الفعل. وبصفة عامة، تستطيع القوى المحلية أن تصنع مصائرها وتؤثر في سياقها العام بقراراتها. فهي ليست دائمًا مجبرةً على اتخاذ قرارات بعينها. فمقاومة الضغوط الخارجية قرار، والاستلام أو حتى التعاون مع المحتل قرار.

ولإدراك ذلك يجب إعادة الاعتبار للعناصر غير المادية في التحليل السياسي كالهوية والثقافة، وعدم التركيز فقط على العناصر المادية التي تجعل أفريقيا مجرد تابع للقوى المهيمنة عالميًّا. فالبحث دائمًا عن القوة والهيمنة هو نتاج المنظور الغربي. فالقوة جزء من الصورة وليست كل الصورة، فهناك عوامل أخرى غير مادية تؤثِّر بطريقة مهمَّة وفعَّالة. ولكن حتى بالمعايير المادية فإن جانبًا من قوة دول غرب أفريقيا الضعيفة عسكريًّا واقتصاديًّا يكْمن في هذا الضعف الذي يمكِّنها من الاستفادة من تنافس القوى العالمية عليها.

وأخيرًا فإن الفاعل المحلي الخارج عن المبادئ والأعراف السائدة في النظام الدولي سيواجَه دائمًا بمقاومة. فالقوى الغربية التي وضعت هذه الأعراف والمبادئ تعتبرها مبادئ وأعرافًا أخلاقية تمثِّل التقدُّم الحضاري، رغم أنها ليست مسلَّمات إنسانية. لذلك فإن خروج الفاعل المحلي على قواعد النظام الدولي والقانون الدولي يُعدُّ عملًا غير أخلاقي من منظور القوى الغربية ومن منظور تلك القواعد ذاتها، لأنها متحيِّزة ضدَّ محاولات تغييرها بغير الطرق التي تقرُّها. ويصبح خروج الفاعل المحلي عليها في حاجة إلى تبرير قانوني وأخلاقي قد ينبع من رؤية حضارية غير غربية.

_______

هوامش

[1] انظر على سبيل المثال:

– حورية مجاهد، أفريقيا قارة الإسلام: “انتشار الإسلام في أفريقيا في القرن العشرين”، (في): د. نادية مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (تحرير)، الأمة في قرن: عدد خاص من أمَّتي في العالم، الكتاب الثالث، مرجع سابق، ص ص 39-85، متاح على الرابط: http://surl.li/eanaww

– حمدي عبد الرحمن، محمد عاشور، الإسلام في أفريقيا من الإرث الاستعماري إلى تحديات العولمة، (في): د. نادية مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (تحرير)، الأمة في قرن: عدد خاص من أمَّتي في العالم، الكتاب الثالث، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، ودار الشروق الدولية، 2002)، متاح على الرابط التالي: http://surl.li/fuwkmn

– نادية مصطفى، أفكار حول أبعاد استراتيجية حضارية من الذاكرة التاريخية لأفريقيا قارة الإسلام، قضايا ونظرات، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، العدد 27، أكتوبر 2022، متاح على الرابط التالي: http://surl.li/qvqdip

[2] للمزيد بشأن تفاصيل هذه الانقلابات انظر:

– أحمد عبد الرحمن خليفة، موجة جديدة من الانقلابات في غرب أفريقيا: ما الجديد؟، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 4 نوفمبر 2023، متاح على الرابط التالي: http://surl.li/ubpfzr

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى