الصهيونيــة والحضارة الغربية

 

 

 

الصهيونيــة والحضارة الغربية

 

تأليف الدكتور عبد الوهاب المسيرى

 

                                          
                                                  عرض: أ. شريف عبد الرحمن      

 

08/03/2005      

 

يحاول المؤلف في هذا الكتاب أن يعالج إحدى الإشكاليات الشائعة في الخطاب العربي/الإسلامي المعاصر والمتمثلة فيما سمّاه بمشكلة التفسير بأثر رجعى

، والتي تحاول أن تجد جذورًا توراتية تلمودية للظاهرة الصهيونية المعاصرة، بأبعادها التاريخية والاجتماعية والثقافية، ويقدم كبديل لهذه الرؤية تصوراً يتعامل مع الصهيونية كمفرز استعماري غربي محض، ذي ديباجات زخرفية يهودية.

 

ويؤكد المؤلف بداية على أن الصهيونية ليست انحرافًا عن الحضارة الغربية وإنما هي إفراز عضوي لهذه الحضارة بكافة تجلياتها وخصائصها، وأن الدولة الصهيونية ذاتها ليست سوى دولة استيطانية إحلالية، لا تختلف كثيراً عن أي دولة استيطانية أخرى، تنبع من حركيات الاستعمار الغربي، وليس من التاريخ اليهودي.

 

وفى هذا السياق يتناول الفصل الأول (الأصول الغربية للرؤية الصهيونية)، الجذور الأصلية للحركة الصهيونية، والتي تعود إلى الرؤية الاستعمارية والثورة الرأسمالية التي شهدها الغرب منذ نهاية القرن الرابع عشر تقريباً، فقد نجم عن تطور المجتمع الغربي من الشكل الإقطاعي إلى الشكل الرأسمالي أن ظهر ما يمكن تسميته بالمسألة اليهودية. وهذه لم تكن نتيجة اضطهاد الأغيار (غير اليهود) لليهود، كما لم تكن مؤامرة حيكت خصيصاً ضد اليهود، وإنما هي ظاهرة اجتماعية اقتصادية يمكن فهمها على نحو منطقي، وتتلخص في فقدان اليهود للدور الذي كانوا يقومون به، الأمر الذي أدى إلى تحولهم إلى فائض سكاني بدون وظيفة، فطردت الأغلبية العظمى منهم، بعد أن وجد الاستعمار الغربي أن الحل الوحيد لهذا الفائض إنما يتمثل في تصديرهم إلى آسيا وأفريقيا (اللتين صَدَّر إليهما من قبل مشاكله الاقتصادية والاجتماعية)، وهذا متسق تماماً مع الرؤية الغربية الإمبريالية للكون، التي تتعامل مع العالم كمادة استعماليه يوظفها القوي لخدمة مصالحه. وقد تحالف الصهاينة مع الاستعماريين وتبنّوا نفس منطقهم لحل المسألة اليهودية عن طريق تصدير اليهود إلى خارج أوربا، وحيث وقع الاتفاق على أرض فلسطين لأغراض تعبوية محضة.

 

أما الفصل الثاني فيتناول ثلاثية (الصهيونية والرومانسية والنيتشوية) وذلك لتوضيح علاقة الرؤية الصهيونية بالرؤيتين الرومانسية والنيتشوية للواقع، وذلك بحسبانهما من الأنساق الفكرية التي ارتبطت على نحو وثيق بالثورة الرأسمالية، والتي يعتبرها المؤلف مفتاحًا أساسيًا لفهم التشكيل الحضاري الغربي وما تمخض عنه من نتوء صهيوني.

 

 ويبين الفصل الثالث (الفكر الأاسترجاعي) أن الفكرة الصهيونية المحورية، أي العودة لفلسطين، ليست فكرة يهودية كما يظن الكثيرون، وإنما هي فكرة نمت في أوساط البروتستانت المتطرفين (من أصحاب العقيدة الألفية ،التي تؤمن بالمجيء الثاني للسيد المسيح ليحكم العالم لمدة ألف عام، على أن يسبق ذلك عودة اليهود قاطبة إلى أرض فلسطين؛ لكي يكونوا شهوداً على انتصار النصرانية؛ ولكي يتم تنصيرهم بعد ذلك)، ثم في الأوساط الاستعمارية المعادية لليهود (بحسبان ذلك وسيلة للقضاء على نفوذ الأتراك من جانب، وللتخلص من الفائض اليهودي في أوربا من جانب آخر)، وأن الفكر الصهيوني قد تبلورت أطروحاته الأساسية في كتابات صهاينة غير يهود (ممن اعتبروا أن بقاء اليهود حتى اليوم هو خطأ تاريخى يتعين إصلاحه بأن يتم تصديرهم إلى أرض فلسطين) قبل أن يتبناه بعض الكّتاب من أعضاء الجماعات اليهودية.

 

أما الفصل الرابع (الإدراك الغربي لأعضاء الجماعات اليهودية)، فيبين أنه كما تأثر الصهاينة بالرؤية العنصرية الغربية المعادية لليهود فقد تبنوا جوانب أخرى من الإدراك الغربي، وبوجه خاص فكرة نفع اليهود كجماعة وظيفية يستجلبها المجتمع لتضطلع بالوظائف التي يأنف أفراده من القيام بها (وذلك اتساقاً مع الفكر الاستنارى والفلسفة النفعية التي سادت في الغرب والتي نظرت للعالم كله ووقّيمت كافة أنماط السلوك من منظور المنفعة المادية). وقد أكد المؤلف أن الدولة الصهيونية قد ورثت نفس الدور الوظيفي النفعي الذي أدرك من خلاله الغرب يهود أوربا في العصور الوسطى، فهي دولة وظيفية تغرس في المشرق العربي لكي تقوم بكافة الأعمال المشينة التي تقوم بها الجماعات الوظيفية، وهى أعمال تأنف الدول الغربية الديموقراطية الليبرالية من القيام بها حفاظاً على صورتها المشرقة، فتكل إلى الدولة الصهيونية القيام بها.

 

 ويبين الفصل الخامس (الصهيونية بين الجذور الغربية والديباجات اليهودية) كيف تداخلت كل العناصر السابقة مع عناصر من العقيدة اليهودية لتنتج في نهاية الأمر الرؤية الصهيونية للواقع. فعلى الرغم من أن الصهيونية هي بالأساس حركة لا دينية إلا أنها شأن حركات مماثلة في الغرب كان لابد وأن تجند الجماهير من خلال ديباجات تفهمها هذه الجماهير وتتعاطف معها؛ ولذا فقد قامت الصهيونية بالاستيلاء على اليهودية تماماً ثم قامت بعلمنتها من الداخل، إلى درجة أن الحركات الدينية الأرثوذكسية التي قامت في الأساس لمحاربة الصهيونية انتهى بها الأمر إلى أن تبنت الصهيونية إطاراً مرجعياً. ويذهب المؤلف إلى أن علمنة التراث اليهودي لم يكن هو الآخر سوى تطبيق لواحد من أهم إنجازات الغرب الفلسفية في العصر الحديث، ألا وهو اكتشاف وحدة الوجود الروحية والمادية، بحيث أصبح من الممكن الحديث عن الذات بلغة الموضوع، وعن الموضوع بلغة الذات، وعن المقدس بلغة الزمني وعن الزمني بلغة المقدس، وهو الإنجاز الذي وضع أسسه إسبينوزا وعمّقه هيجل ووصل به إلى ذروته وأشاعه إلى درجة أن أصبح خطاباً سائداً بين المتدينين والعلمانيين على حد سواء.

 

 أما الفصل السادس (الجذور الغربية للاعتذاريات الصهيونية ونظرية الحقوق) فقام برصد نقاط التشابه بين الاعتذاريات الاستعمارية الغربية العامة والاعتذاريات الصهيونية. والاعتذاريات هي الحجج التي يسوقها المرء ليرفع اللوم عن نفسه وليبرر ما يقوم به من أعمال عدوانية. وفى هذا الإطار تنطلق الاعتذاريات الصهيونية من الافتراض المحوري في الفكر القومي العضوي والعنصري الغربي الذي يذهب إلى أن أعضاء الحضارة الغربية الغازية أكثر تفوقاً من الناحيتين الحضارية والعرقية من أعضاء الحضارات الشرقية المغزوة، وأن تخلف هذه الحضارات الشرقية هو أمر وراثي حتمي؛ ومن ثم فإن من حق الإنسان الغربي أن يوظف العالم بأسره لصالحه باعتباره الأقوى والأكثر تقدماً. وقدحرص المشروع الصهيوني أن يؤكد انتماءه إلى الجنس الأبيض صاحب الرؤية المعرفية العلمانية وصاحب المشروع الاستعماري المنتصر؛ وذلك حتى يتمكن الصهاينة من المشاركة في المزايا والحقوق التي منحها الرجل الأبيض لنفسه، وحتى يساهموا في حمل عبئه الحضاري الثقيل. ولذا كان تيودور هرتزل يؤكد أن اليهود عندما يعودون إلى وطنهم التاريخي سيفعلون ذلك بصفتهم ممثلين للحضارة الغربية، وأنهم سيجلبون معهم النظافة والنظام والعادات الغربية الراسخة إلى هذا الركن الموبوء البالي من الشرق.

 

ولتوضيح المقدرة التفسيرية للأطروحة الخاصة بالجذور الغربية للظاهرة الصهيونية، عرض الكتاب في الفصل السابع والذي جاء بعنوان (تيودور هرتزل بين الفكر الاستعماري والعباءة الليبرالية) والفصل الثامن الذي جاء بعنوان (الصهيونية الاشتراكية) والفصل التاسع الذي جاء بعنوان (ديفيد بن جوريون الزعيم والرؤى) عَرَضَ لفكر بعض من أهم المفكرين الصهاينة، وذلك لبيان أنهم قد يلجأون إلى ديباجات ليبرالية أو اشتراكية أو يهودية ولكن فكرهم يظل في النهاية فكراً غربياً استعمارياً، يضرب بجذوره في الفكر الغربي في القرن التاسع عشر.

 

وفى الفصل العاشر (الجيبان الاستيطانيان في إسرائيل وجنوب أفريقيا) انتقل المؤلف من عالم الفكر إلى عالم الممارسة فعقد مقارنة بين هذين الجيبين الاستيطانيين موضحاً مدى عمق مواطن التشابه بينهما نظراً لاشتراكهما في الجذور الفكرية العملية.

 

وهكذا تعتبر الحجة الأساسية عند المؤلف أن وضع الجماعات اليهودية قد صاغته مجموعة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها القارة الأوربية، والتي أدت إلى تحول اليهود إلى جماعة وظيفية بدون وظيفة. فبعد أن تحولت المجتمعات الأوربية من الإقطاع إلى الرأسمالية بدأ وضع اليهود في الاهتزاز بشدة وفقدوا من ثم وظيفتهم الأساسية التي كانوا يقومون بها في المجتمع الإقطاعي، وبدلاً من أن يلعبوا دوراً مثمراً أو منتجاً صاروا عبئاً حقيقياً على المجتمعات الأوربية، التي سارعت إلى نبذ الغالبية العظمى منهم. وكان اليهود المطرودون يحلون مشكلتهم عن طريق التقهقر إلى الوراء، أي بالهجرة إلى مجتمعات لا يزال النظام الإقطاعي فيها ثابتاً مستقراً، وكلما ازداد القطاع الرأسمالي قوة ازداد تراجع النفع الذي يمكن أن يقدمه هؤلاء، وازداد تبلور وضعهم كجماعة وظيفية بلا وظيفة، ومن هنا طرحت المسألة اليهودية نفسها على أوربا الشرقية في البداية ثم على أوربا الغربية ثم على العالم بأثره.

 

وكما أدى التطور الرأسمالي إلى ظهور المسألة اليهودية فإنه قد أدى أيضاً إلى ظهور الحل الصهيوني. فقد تولد عن عملية النمو الرأسالمي نمط استهلاكياشره، ورغبة عارمة في الاستيلاء على الأسواق العالمية لاستيعاب الإنتاج الجديد، ومن أهم المشاكل التي نجمت عن الثورة الرأسمالية مشكلة الانفجار السكاني، وهو الأمر الذي زاد من حدة أزمة البطالة، وأدى إلى ظهور جماعات من المتعطلين الذين كان يطلق عليهم اصطلاح “الفائض السكانى” وقد وجد الاستعمار الغربي أن الحل الأمثل للمسألة اليهودية يكون بتصدير اليهود إلى المناطق المستعمرة، وكان هذا متسقاً تماماً مع الرؤية الاستعمارية الغربية للكون والتي حولته إلى مادة استعمالية يوظفها القوى كما شاء لخدمة مصالحه،  كما كان متسقاً مع الرؤية الغربية العنصرية التي رأت ضرورة التخلص من اليهود.

 

وفى مقابل هذا يصبح الجيب الصهيوني الجديد الدخيل عميلاً للقوة العظمى التي تقوم بحمايته، وهذا هو النمط الأساسي الذي يتواتر في الكتابات الصهيونية. وتظهر عمالة الاستعمار الصهيوني في بحثه الدائب وبخاصة في مراحله الأولى عن قوة إمبريالية ترعاه. وقد كللت هذه الجهود بالنجاح بعد صدور وعد بلفور حيث أصبحت لندن هي مركز القيادة الصهيونية العالمية، وبعد أن انتقل مركز الإمبريالية العالمية من العاصمة الإنجليزية إلى واشنطن انتقلت القيادة الصهيونية هي الأخرى إلى هناك لتضمن أن تكون على مقربة من القوة الأساسية التي ترعاها.

 

 وقد حاولت إسرائيل تطبيق نفس الاستراتيجية في حق العرب الفلسطينيين، حيث أكد منظّرو الصهيونية على أنه يجب أن يتم تدريجياً نقل العرب الفلسطينيين وتوطينهم فيما أطلق عليه “المملكة العربية الجديدة” حتى يتسنى تحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود، على اعتبار أنه ليس هناك مكان يتسع لكلا الشعبين في أرض إسرائيل.

 

وكون الصهيونية قد تبنت نفس المفهوم (تصدير الفائض اليهودي مع ما يصدّر من مشاكل وسلع بائرة إلى آسيا وأفريقيا أو أى مكان آخر بخلاف أوربا) يظهر-وفقاً للمؤلف-أن الإدراك الصهيوني للذات وللآخر يضرب بجذوره في الرؤية الاستعمارية الغربية. وهذا ما صرح به معظم منظري الحركة الصهيونية أنفسهم عندما اعتبروا أن دولتهم الصهيونية ستكون بمثابة إمبراطورية بريطانية مصغرة، تقوم على أكتاف مجموعة مؤسسات استعمارية بدورها؛ مثل الشركة اليهودية الاستعمارية والبنك الاستعماري والصندوق اليهودي الاستعماري.

 

وهكذا فإن الكتاب يتبنى وجهة النظر التي تعتبر الصهيونية بمثابة ظاهرة اجتماعية اقتصادية نسبية وليست مطلقة، ترتبط بحركيات التاريخ الحضارى الغربي أكثر من ارتباطها بأى حقائق دينية أو عقائدية، ومن هنا فإنه لن يضيرنا كثيراً، ليس فقط، ألا نرجع إلى التوراة لفهم خصائص المشروع اليهودى الصهيونى، ولكن لن يضيرنا أيضاً ألا نراجع التناول القرآني لهذه الظاهرة لكي نفعل الشيء نفسه.

 

ولكن الانطلاق لمعالجة هذه الظاهرة بشكل فيه نوع من الاستقلالية عن التناول القرآني لها-على نحو ما فعل المسيري- يعكس نوعاً من التفريط في أساس محكم ومتكامل في التنظير لخصائص الشخصية اليهودية بشكل عام وللظاهرة الصهيونية بشكل خاص، فقد أولى النص القرآني المقدس عناية خاصة بهذه الجماعة البشرية وعَرَضَ لخصائصها وأطوارها الحضارية (النفسية والمادية) بإسهاب وتفصيل لم تشاركها فيه أي جماعة بشرية أخرى، بحيث صار الوزن النسبيى لبني إسرائيل في القرآن الكريم أوضح من أن تخطئه عين القارئ العادي فضلاً عن الدارس المتمعن.

 

وفى إطار النص القرآني تتحرر التركيبة اليهودية إلى حد كبير من خصائص المرحلة التاريخية، لتشكل بنية مصمتة، تعكس نفس الخصائص وتتجاوب وفق نفس الأساليب بغض النظر عن الإطار الحضاري الذي تتحرك في ثناياه، الأمر الذي يجعل من أطروحة كتاب المسيري أطروحة جدلية بالنسبة للعقلية والذات الحضارية الإسلامية قبل أن تكون كذلك بالنسبة للذات الحضارية الغربية التي يتهمها المؤلف بأنها الحاضنة الأصلية للمشروع الصهيوني العنصري.

 

فالثابت أن القرآن قد أثبت للشخصية اليهودية نوعاً من الصمودية التكوينية التي تصنع منهم ظاهرة غير تاريخية بمعنى من المعاني، وتبرر احتفاظهم بعدد من القواسم المشتركة والخصائص المتعينة بغض النظر عن التفاصيل (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية) الزمنية والنسبية التي أحاطت وتحيط بهم. ومن هنا فقد خاطب النص القرآني يهود “المدينة” من خلال عدد من الوقائع التي لم يعاصروها، وعاتبهم على عدد من الاختلالات العقائدية التي لم يكونوا بذواتهم طرفاً فيها، وامتن عليهم بنعم لم يجنوا ثمارها إلا على نحو غير مباشر.

 

كما أن من الثابت أيضاً أن اليهود المعاصرين لنزول الوحي لم يستنكروا مثل هذا الخطاب ولم يكابروا بازائه، وكذا فعل اليهود اللاحقون، بل إن العكس كان هو الصحيح، فلقد مثل التمسك بفكرة التاريخ اليهودي الواحد نغمة ثابتة حرص اليهود (على الرغم من تنافرهم فيما سوى ذلك) على تأكيدها في كل مناسبة.

 

ولكن هذا التأكيد نفسه هو ما يحاول المسيرى أن يتجاوزه بشكل عام. فعلى مدار أجزاء موسوعته وفى ثنايا مؤلفاته المتعددة يحاول المسيرى دحض فكرة الصمودية اليهودية، أي دحض فكرة أن اليهود يمثلون كياناً متجانساً ومتبلوراً عبر التاريخ، وذلك بتأكيد أن اليهود إنما يمثلون جماعات متباينة ومختلفة في طريقة تفاعلها مع معطيات اللحظة التاريخية المحددة التي يتواجدون فيها. ومن ثم فإنه ليس ثمة علاقة مباشرة بين اليهودية كديانة وبين اليهود كأمة، وليس ثمة تحقق للأمة على أرض الواقع إلا في عدد غير محدود من الجماعات اليهودية المتنافرة، ومن بين إحدى الجماعات المنتسبة لليهودية والتي تلقت حضانتها الحضارية في الغرب ظهرت الصهيونية، والتي بفعل التطور التاريخي واعتبارات التفاعل الحضاري عكست مضموناً غير يهودي بالمعنى العقائدي، ومعادياً لليهود بالمعنى السلوكي.

 

المسيري إذن يفهم الظاهرة الصهيونية كمنتج من المنتجات الحضارية التي تولدت عن هيمنة المنظور الغربي الرأسمالي الإحلالي في الفترة التي امتدت منذ القرن الخامس عشر وحتى يومنا الحاضر، ولا يرى أي مقدرة تفسيرية يمكن أن نستفيدها من خلال محاولة فهم اليهود في إطار صورة كلية متجاوزة للتاريخ، تستمد ملامحها من التوراة أو القرآن الكريم نفسه، وهذه هي المشكلة الكبرى التي تعترض دارسي المسيري، وهى أنه في محاولته دحض الصمودية اليهودية يسوى بين الأساطير التوراتية وبين النموذج القرآني الذي وصف وحلل الشخصية اليهودية على مدار أجزاء مسهبة منه. فيتجاهل الأولى عن عمد وقصد، ويتجاوز الثاني معتبراً إياه بمثابة نموذج خاص يتناول يهود الحقبة النبوية ولا يتعداهم إلى غيرهم.

 

 وهكذا تبدو نقطة افتراق التحليل المسيرى للظاهرة اليهودية/الصهيونية عن المنظور القرآني منصبة حول جزئية الواحدية والتنوع، بمعنى أنه إما أن نسلم بأن المسار التاريخى قد فرض معاييره وقوانينه على اليهود كما فرضها على غيرهم فجعل منهم أمماً وشعوباً وجماعات متباينة، وإما أن نتبنى رؤية مطلقة بسيطة تتعامل مع اليهود في إطار من الواحدية التفسيرية وتهمل الخصوصية ودور العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى آخره. ، وذلك على اعتبار أن افتراض وجود ظاهرة يهودية يفترض بالتبعية أن اليهود يمثلون جماعة متجانسة على المستويين العرقي والديني على مدار التاريخ، وهذا ما لا يراه المسيرى (ولا يراه أحد في حقيقة الأمر) صحيحاً بحال من الأحوال.

 

ولكن الخطاب القرآني قد عالج هذه الجزئية على نحو لا يجعل منها مفارقة كما يؤكد المسيري، وذلك أن النص السماوي قد أثبت للظاهرة اليهودية تنوعها كما أثبت لها واحديتها، فكانت المحصلة أن اكتسبت الظاهرة اليهودية خاصية شاذة تتمثل في الوحدة من خلال التشظى والانقسام. وهو الأمر الذى فرض على مفرداتها أن تتقاسم كافة الأدوار الممكنة، وأن تتوزع على كافة المناشط الإنسانية المتاحة، وكذا أن تتكيف مع سائر المجتمعات الإنسانية والأنماط المعيشية التي يعرفها الواقع، وذلك لكي تضمن بقاء النوع اليهودي لأطول أمد ممكن.

 

ويبدو أن هذه المقدرة الفائقة على التكيُّف أو التماهى وفقاً لمقتضيات الواقع قد صنعتها الرغبة العارمة للشخصية اليهودية في البقاء، فهي “معضلة الأمن” الأزلية المصاحبة لهذه الأمة، والناتجة عن إحساسها بان أمر استئصالها يبدو منطقياً ووشيكاً في أي مرحلة من مراحل التاريخ. ومن قيلُوقديماً لاحظ سيد قطب أن يهود المدينة قبل الهجرة قد قسموا ولاءهم بين الأوس والخزرج وشاركوا بالمتطوعين من المحاربين في كلا الجانبين تحسباً لكافة الظروف، فمهما يكن الجانب المنتصر يكن ثمة يهود في جانبه (بما يضمن بقاء النوع اليهودي ككل)، فيما مثل استراتيجية ثابتة لدى اليهود بعد ذلك وفيما تلا من أحقاب تاريخية.

 

ورغم أن المسيرى قد أكد في مواضع كثيرة أن للظاهرة اليهودية خصوصيتها، التي لا يكفى في محاولة فهمها الرجوع إلى المجرى التاريخي العام أو إلى الأبنية الفكرية والحضارية والاقتصادية، إلا أنه قد وصف هذه الخصوصية “بالغربية”، ومن ثم فهي لا تسرى على اليهود بشكل عام، وإنما على تلك الجماعة التي تواجدت في الغرب في تلك الفترة التاريخية المعينة، فثمة خصوصية ما ليهود الغرب على الرغم من انتمائهم لنمط تاريخي معروف. فهى خصوصية نسبية، أو بالأحرى خصوصية جغرافية، وليست خصوصية نابعة من خصائص التكوين النفسي الناتج عن التفاعل الشائه مع وحى السماء، كما يقرر النموذج القرآني.

 

والتفسير الذى يسوقه المسيري لهذه الخصوصية يستمد عناصر بنائه من المفردات الاقتصادية والاجتماعية من جديد، الأمر الذي يجعل من هذه الخصوصية خصوصية من الدرجة الثانية، بمعنى أنها تظل خصوصية ذات طابع نمطي، فالتفسيرات الاقتصادية والاجتماعية من المفروض أنها مفردات محايدة يخضع لها كل ذوى الظروف المتشابهة، ولكن المسيري يجعل اليهود دون غيرهم يخضعون لهذه الظروف دون أن يبرز لنا العوامل الأولية التي أدت باليهود إلى أن يكونوا استثناء في هذا المجال.

 

ويؤكد المؤلف نفسه هذا الاستخلاص بقوله:

 

“عبَّر التمايز الاقتصادي والوظيفي لأعضاء الجماعات اليهودية عن نفسه في ظاهرة الجيتو، وكان من الممكن نظرياً أن يتأقلم أعضاء الجماعات اليهودية بالتدريج في المجتمع الجديد، كما حدث للفئات الأخرى من المجتمع وكما حدث ليهود غرب أوروبا، خاصة وأن عملية التحديث استغرقت في أوربا قروناً عديدة، ولكن مثل هذه العملية التدريجية لم تتم بالنسبة لليهود خاصة في شرق أوربا إذ انعزلوا عن التيارالأساسي للحضارة الغربية داخل أسوار الجيتو”

 

والسؤال لمنطقى الذي يطرح نفسه في نهاية هذا الاقتباس هو: لماذا لم يندمج اليهود؟ ولماذا انعزلوا داخل أسوار الجيتو، إذا كان سياق تطورهم جزءًا لا يتجزأ من السياق التطوري الغربي العام؟ ولماذا ظلوا متمايزين اقتصادياً ووظيفياً؟ ولماذا لا يتم إدخال التمايز الفكري والاعتقادي والنفسي في التحليل؟.

 

لقد أكد المسيري في مواضع كثيرة على مفهوم “اللحظات” أو “الشخصيات” “النماذجية” وهى اللحظات أو الشخصيات التي يتجلى فيها النموذج وتظهر خصائصه الأبرز من خلالها، واعتبر أن النازية -على سبيل المثال- هي اللحظة النماذجية للحضارة الغربية، وشخصية فاوست هي الشخصية النماذجية المعّبرة عن عصر النهضة، والكاوبوى هو نموذج للعقلية العملية التي لا تفرق بين الإنساني والمادي… إلى آخره، والسؤال الآن: لماذا لا يمكننا -بنفس المعنى- أن نعتبر الصهيونية بمثابة اللحظة النماذجية للتاريخ اليهودي، الذي تحرك –بلغة المسيري نفسه-عبر عدة حلقات متتالية أخذت في التحقق عبر الزمن حتى تبلور على نحو كامل أو شبه كامل في آخر المطاف في صورة المشروع الصهيوني؟ لماذا تُعزل الصهيونية عن المجرى العام للتاريخ اليهودي-الذي لم يكن “غربيا” منذ نشأته الأولى على الأقل-لكي تصور على أنها بمثابة مفرز طارئ يعبر عن الانحرافات الكامنة في الحضارة الغربية التي احتضنت جانباً من الظاهرة اليهودية دون أن تحتويها كلها؟

 

وإذا كان الأمر كذلك وصدقنا أن الصهيونية هي فيروس ضار صَدَرَ عن الجسد الغربي الحاضن لفيروسات مشابهة، فكيف يمكن أن نفسر هذا التعاطى الإيجابى الذى شهدته الدعوة الصهيونية من قبل يهود المشرق البعيدين إلى حد ما عن التأثيرات المَرَضية المباشرة للحضارة الغربية، وإلى الحد الذى يصبح فيه العديد من صقور الأحزاب الصهيونية اليمينية المتطرفة هم من يهود المشرق، الذين لم يشهدوا في حياتهم مجتمعاً إقطاعياً بالمعنى الغربي ولم يعايشوا تطوراً رأسمالياً بالمعنى الاصطلاحي للمفهوم؟

 

وعلى أية حال، فإنه يمكن تفسير نقاط التلاقي اللافتة بين المشروعين الصهيوني والغربي في إطار المقولة التفسيرية المعروفة التي قدمها عالم الاجتماع الأشهر عبد الرحمن بن خلدون والتي تنص على أن المغلوب مولع دوماً بتقليد الغالب. هذا التقليد قد وصل في حالة الظاهرة الصهيونية إلى حد من التطرف يثير التعجب (تبنى خطاب معاداة اليهود، وتبنى الحل الاستعماري الترانسفير) ولكنه لا يتسم بالتفرد، فالعرب الآن في تقليدهم للحضارة الغربية يتبنون خطاباً مشابهاً معادياً للعروبة، ومؤخراً وبعد شن الحرب على الإرهاب/الإسلام، ليس مستبعداً أن يتبنى الكثيرون خطاباً معادياً للإسلام، (وهو ما بدأت إرهاصاته في الدعوات اللافتة لإصلاح/استبدال الخطاب الديني). وعلى الرغم من أن المثالين غير متطابقين تماماً؛ إلا ان المحددات المختلفة في كلتا الحالتين تفسر اختلاف النتيجة والشكل الخارجي لكل منهما. وعلى أية حال فإن درجة الانهزام الداخلي هى التي تحدد المدى الذى يمكن أن يصل إليه التقليد، والحد الذي يمكن أن يبلغه تطرف المقولات الناتجة عنه.

 

ورغم ذلك فإنه لا ينبغي أن نعتبر أن الصهيونية قد تبنت استراتيجية “معاداة اليهود” على طول الخط، ففي الوقت الذي اعتبر فيه بعض منظرى الصهيوينة أن على اليهود اعتبار أن معاداة اليهود هي أمر حتمي، بل وطبيعي، كما خلص هؤلاء إلى أنه من الضروري أن يسلم اليهود بعدالة معاداة اليهود على اعتبار أن ذلك يظهر اليهودي كشخص غريب وغير منتم، ومن ثم يصبح من الضروري العمل على إعادة توطينه في “وطنه القومى”، إلا أنه في مرحلة أخرى تم تحويل التكتيك إلى نمط هجومي يدين كل من يتجرأ على ذكر الصهاينة بسوء، وكان سلاح “معاداة السامية” مشهراً في وجه كل من تسول له نفسه فعل ذلك.

 

إذن لم يكن الأمر “معاداة لليهودية”، بقدر ما كان تقليداً للخطاب الحضاري المهيمن، وهذا التقليد لا ينبغي أن يعد سمة أصيلة في المشروع الصهيونى، خاصة وأنه لا يمكن الإبقاء عليه عند محاولة نمذجة الظاهرة الصهيونية، نظراً لطابعه التكتيكى، ونظراً لاستعداد الصهاينة في أي وقت لتنويع وتغيير بل واستبدال مقولاتهم وأسسهم النظرية والفكرية بل والعقائدية أيضاً.

 

والأمر اللافت أن المسيري نفسه كان واعياً بالعنصر التفسيري الذي يبرر الاعتقاد بخاصية الصمودية اليهودية خاصة، وأنه قد أشار في غير موضع إلى الطبيعة الخاصة للبنية الجيولوجية التراكمية لليهودية، والتي تسمح بوجود أفكار متعارضة بشكل جوهري ولكنها تتعايش داخل النسق الدينى اليهودى، وهو الأمر الذي سمح للصهاينة بالعثور على سوابق في تراثهم الديني اليهودي تدعم مقولاتهم اللادينية.

 

إن هذه الخاصية-والتي أقرها المسيري نفسه وأرجعها إلى الخصوصية اليهودية وليس إلى التأثير الحضاري الغربي والتي جعلت من النموذج الصهيونى نموذجاً شاذاً يكتسب تآلفه من الجمع بين أضداد متنافرة-هي التي تسمح لنا بفهم كيف نجد في نفس العباءة اليهودية الفكرة ونقيضها: معاداة اليهود والانتصار للسامية، التدين والإلحاد، الرومانسية والنيتشوية، وفهم كيف تكيف الولاء اليهودي وتنقل-بحسب تحول مراكز الثقل العالمية-من الإمبراطورية العثمانية إلى الإمبراطورية البريطانية إلى الإمبراطورية الأمريكية. بل إن هذه الخاصية يمكن أن تعد مسئولة عن ذلك التحالف الموضوعى الذى تم بين الصهاينة العلمانيين واليهود الأرثوذوكس في مرحلة من مراحل المشروع الصهيوني كما نوه لذلك المسيري في كتابه.

 

لقد اعتبر المسيرى أن معيار المفاضلة بين النماذج النظرية المختلفة إنما يتمثل فيما توفره هذه النماذج من مقدرة تفسيرية لظواهر الواقع، ومن الواضح أن التأكيد على اعتبار أن الصهيونية وليدة للنمط الحضاري الغربي لا يقدم حججاً تفسيرية إضافية عن تلك التي تعتبر أن ثمة بنية تكوينية خاصة للشخصية اليهودية، نتجت عن توثن الذات اليهودية، بعد أن عمد اليهود إلى خلع صفات النقص البشرى على يهوه (إله اليهود)، وإحلال صفات القداسة في الشعب اليهودي المختار.

 

إن مثل هذا التعامل الشائه مع وحي السماء، وهذا الإحساس المتوارث بالعنصرية العقائدية، وهذا التوثن الذي يستعيض عن المطلق المفارق بالنسبى المتمثل في الذات والتاريخ والأرض الموعودة، ويستعيض عن الخلود الأخروي بالاستماتة في الحفاظ على الوجود الدنيوي، هو الذي شكل الشبكة الضامة للأعضاء المتنافرة التي تشكل النموذج اليهودي الشائه، هذا النموذج المسخ الذيي يكتسب وحدته من تنافره، وذاتيته من هوسه بالقلق على تحلل ذاتيته، والذى يمارس عين الإلحاد (الحلولي) وهو يتصور أنه يمارس عين التوحيد الحق.

 

 ولم يدّع أحد أن اليهود إنما يكتسبون خصوصيتهم الحضارية من عكوفهم على التوراة أو التلمود، أو من تفسيرهم الحرفي لنصوصهم المقدسة أياً كان مصدرها، ولكن من السياق الثقافي العام الذي تثيره كلمة “يهودي”، ومن الانتماء إلى أمة لا تحمل رسالة للآخرين، وإنما تتمحور حول ذاتها لتعظيم مكاسبها الأرضية.

 

إن ذلك التطابق الذي جمع بين المشروع الحضاري الغربي والمشروع الصهيوني منذ أواخر القرن التاسع عشر يمكن مضاهاته بذلك التحالف الذي جمع بين مشركي مكة وزعماء اليهود قبل معركة الأحزاب، والذي كان بمثابة تلاق موضوعي في الأهداف والغايات، إلا أنه كان في ذات الوقت تلاقياً ذا بُعد تآمري لا مراء فيه، الأمر الذي يتيح لنا أن نتحدث عن المؤامرة الموضوعية التي تصنع من تلاق الأهداف قبل أن تصنع من تلاقي الإرادات. فهي ليست مؤامرة الغرف المظلمة والبيانات السرية، ولكنها مؤامرة المبادئ المتقاربة والأسس المتماثلة.

 

لقد أكد المسيرى على فكرة النماذج الحضارية إلا أن ذلك لم يمنعه من التأكيد على ضرورة التعامل معها بالاحتراز الكافي، “على اعتبار أن النموذج المجرد ليس هو في ذاته الواقع المتعين، فالأخير دائماً أكثر تركيباً وثراء من أي نموذج يصاغ له، ومع ذلك فإنه لا ينبغي أن نفرط في هذه الأداة التحليلية الهامة، فنحن في واقع الأمر لا يمكن أن نتعامل مع الواقع إلا من خلال نماذج ذهنية تبقى وتستبعد”. وفى هذا الإطار يصبح من غير المنطقي أن تستثنى الشخصية اليهودية من هذه الدعوة إلى التلخيص من خلال النماذج. علماً بأن صياغة نموذج للشخصية اليهودية لن يلغى ثراء الواقع ولن يسِم سائر مفردات التكوين اليهودي بالتآمرية، ولكنه سوف يكثف من الخصائص الأبرز في النمط اليهودي العام بما يحقق الغرض المنهاجي الذي دافع عنه المسيري دوماً والمتمثل في إدراك الواقع من خلال نماذج تفسيرية.

 

إن إدراك الشخصية اليهودية على هذا النحو لن يجعل منها مجرد مفرز استعماري غربي، وإنما سيعبر عن نموذج لتوثن الذات البشرية وعلمنة الاعتقاد الإيماني لخدمة المصالح الأرضية الزائلة. وحول هذه الخصائص يحدث التلاقي الموضوعي بين الشخصية اليهودية وبين المشروع الغربي الذي أعلى من نفس النمط تحت راية العلمانية الشاملة. وذلك بدلاً من أن نعتبر الصهيونية غير اليهودية، واليهودية غير اليهود، واليهود غير الجماعات اليهودية، إلى آخر هذا التحليل التجزيئى الذي يفضي في النهاية إلى تعامل ذرائعي بحت يفتقر إلى تلك الرؤية النهائية المطلقة التي يؤكد عليها المسيري في معظم كتاباته.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى