أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة الأمريكية: تحدِّي الهيمنة

مقدمة:

ظلَّت أمريكا اللاتينية لفترة طويلة بعيدة عن متناول الدراسات العربية إلى حَدٍّ كبير. ربما كان ذلك لانشغال الدارسين في المنطقة العربية بالقضايا الآنية ذات الأهمية العاجلة مثل العلاقات العربية-الإسرائيلية أو العلاقات العربية-الأمريكية أو حتى علاقات الدول العربية مع الجيران من الدول الإسلامية مثل إيران وتركيا وباكستان. فإن كان ذلك مبررًا في فترات سابقة من تاريخ العالم، حيث هيمنت على السياسة العالمية قوتان عظميان في الحرب الباردة ثم قوة واحدة عظمى هي الولايات المتحدة الأمريكية فيما أعقب ذلك، فلم يعد ممكنًا اليوم وقد تشعَّبت العلاقات بين الدول وقرَّبت التكنولوجيا بين أقصى العالم وأدْناه، ولم تعد تسيطر عليه قوة أو قوتين كما كان في السابق. فالعالم اليوم بدأ يعود إلى تعدُّد القوى مرة أخرى مع ضعف الولايات المتحدة نسبيًّا وبزوغ عدد من الدول الأخرى التي يمثِّل صعودُها واقعًا دوليًّا جديدًا لا بدَّ من دراسته والتعامل معه. ولعل بعض أبرز هذه القوى الصاعدة في السياسة العالمية يقع في تلك القارة البعيدة، أمريكا اللاتينية. فكثير من دول هذه القارة قد بدأ يخرج حديثًا من نَيْرِ الدكتاتوريات العسكرية ليتَّجه بتؤدة وثبات نحو التحول الديمقراطي والتقدُّم الاقتصادي. وهذا بالتحديد ما يجعل لدراسة هذه المنطقة من العالم فائدة كبرى للباحثين في الدول العربية، التي ما يزال يُعاني كثيرٌ منها المشكلات نفسها التي عانت منها أمريكا اللاتينية لفترات طويلة من تاريخها. ولعل إحدى هذه المشكلات الكبرى هي هيمنة الولايات المتحدة الأميركية، الجارة القوية، على السياسة الخارجية لدول أمريكا اللاتينية لمدة استمرت لعقود طويلة، وهي المشكلة ذاتها التي تعاني منها كثير من الدول في المنطقة العربية.

لذلك سوف نتصدى في هذا التقرير لمراجعة كتابين من الكتب الهامَّة التي درست هذه المشكلة بشيء من التفصيل؛ لنتعرَّف على الكيفية التي تصرَّف بها قادةُ دول أمريكا اللاتينية في سياستهم الخارجية مع هذا العملاق القابع على حدودهم الشمالية، لعلَّنا نستخلص منهما دروسًا مفيدةً لحاضرِنا ومستقبلِنا.

أولًا- دول أمريكا اللاتينية في مواجهة الولايات المتحدة والسياسة الخارجية في ظلِّ تفاوت القوى

والكتاب الأول في تقريرنا هو أمريكا اللاتينية تواجه الولايات المتحدة: تفاوت القوة و النفوذ (Latin America Confronts the United States: Asymmetry and Influence)[1] لأستاذ العلاقات الدولية بجامعة ريدينغ البريطانية توم لونج (Tom Long)، في هذا الكتاب يبحث المؤلِّف كيف استطاع قادةُ أربعِ دولٍ من أمريكا اللاتينية تحدِّي فوارق القوة بينهم وبين الولايات المتحدة، في محاولتهم للاستقلال في ممارسة سياستهم الخارجية بل والتأثير على سياسة الولايات المتحدة نفسها وتحدِّي نفوذها في القارة لتحقيق المصالح القومية لهذه الدول. ويتناول الكتاب هذه المسألة من خلال التعمُّق في بحث أربع حالات رئيسية وقعت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ألَا وهي: السياسة الاقتصادية الخارجية قبل مبادرة تحالف من أجل التقدم، والمفاوضات حول معاهدات قناة بنما، واتساع التجارة من خلال اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية وانتشار مكافحة المخدرات من خلال الخطة “كولومبيا”. ويستخدم المؤلِّف في دراسة هذه المسألة منهجًا نظريًّا يبتعد عن المنظورات التقليدية للواقعية أو المدارس النقدية المختلفة، بل ينظر في دراسة كيف تصنع الدول الضعيفة والمتوسطة سياستها الخارجية في جوار قوة عالمية مهيمنة تفوقها بمراحل في القوة المادية. وهو في ذلك يعتمد على دراسة الحالة، بالتعمُّق في حالات بعينها من دول أمريكا اللاتينية ومقارنة بعضها ببعض من حيث كيفية تحديد قادتها لمصالحها القومية والسعي لتحقيق هذه المصالح في ظلِّ الفوارق الكبيرة في القوة المادِّيَّة بينهم وبين الولايات المتحدة الأمريكية. ففي بحثه لكلِّ حالةٍ من حالات الدراسة، اتَّبع منهج تتبُّع العملية، الذي يفنِّد جميع البيانات التاريخية عن هذه الحالة من مصادر شتَّى للوصول إلى أوثق ما يمكن من سَرْدِ أحداثها من وجهات نظر متعدِّدة والتركيز في اختيار الحالات على أحداث معيَّنة وعمليات وفاعلين رئيسيٍّين.

أمَّا في دراسته المقارنة لهذه الحالات فقد طبق منهج جورج وبينيت (George and Bennett) المسمَّى المقارنة الهيكليَّة المتركِّزة (Structured Focused Comparison). وقد تمَّ اختيار الحالات محل الدراسة لتعكس الاختلاف بين دول القارة اللاتينية لتوسيع وتعميم نتائج الدراسة على الدول الضعيفة والمتوسِّطة مهما تنوَّعت درجة قوَّتها وموقعها الجغرافي ونظامها السياسي. ولكن هذا الاختلاف كان مع مراعاة اتِّفاقها جميعًا في كوْن الولايات المتحدة طرفًا فاعلًا فيها له أهداف توافِق أو تخالِف ما يريده قادةُ هذه الدول الضعيفة أو المتوسِّطة، لكي يبيِّن المؤلِّف كيف استطاع قادةُ هذه الدول السعيَ لتحقيق مصالحهم القومية استقلالًا عن الولايات المتحدة القوية.

ويبدأ لونج أول حالات دراسته في الفصل الثاني: “عملية الوحدة الأمريكية: محاربة الفقر  والشيوعيَّة “، بعرض جهود الرئيس البرازيلي جوسيلينو كوبيتشيك، الذي تولى قيادة البرازيل في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وبدايات الحرب الباردة، لمحاولة إقناع صناع السياسة في الولايات المتحدة الأميركية بتمويل التنمية في دول أمريكا اللاتينية على غرار ما فعلوه في أوروبا فيما عرف بخطة “مارشال”، فقد كان كوبيتشيك وغيره من قادة أمريكا اللاتينية يرون أن دولَهم، وبخاصة البرازيل، قدَّمت العون للحلفاء في الحرب العالمية الثانية وتحمَّلت ما عليها من تكاليف ذلك، وبهذا فقد استحقُّوا نصيبًا من مكافآت المنتصر وأن تَرُدَّ لهم الولايات المتحدة الجميلَ بتقديم معونة تنموية كبيرة كتلك التي حصلت عليها الدول الأوروبية. أما صنَّاع السياسة في الولايات المتحدة من الرئيس ترومان إلى خلفه أيزنهاور إلى أعضاء الكونجرس من الحزبين، فلم يكونوا يضعون أمريكا اللاتينية في أولويَّاتهم، فضلًا عن إيمانهم الفكري بأن التنمية الحقيقية لا تتحقَّق بتقديم المساعدات الاقتصادية كما يطلب البرازيليون، وإنما بالانفتاح الاقتصادي وتحرير التجارة وجذب الاستثمارات الأجنبية وغيرها من السياسات الاقتصادية الليبرالية المعروفة. كذلك فلم يكن صنَّاع السياسة الأمريكيِّين يهتمُّون بشيء في أمريكا اللاتينية إلَّا منع انتشار الشيوعية فيها، واقتصرت نظرتُهم في هذا الصدد على التعامل الأمني مع العناصر التخريبيَّة الشيوعيَّة التي قد يبعث بها الاتحاد السوفيتي إلى أمريكا اللاتينية، الفناء الخلفي لهم. ويتناول الفصل الجهود التي قادها رئيس البرازيل في تلك الفترة، كوبيتشيك، لتغيير رأي صنَّاع السياسة في الولايات المتحدة وإقناعهم بتزويد دول قارة أمريكا اللاتينية بما تحتاجه من إعانات وقروض التنمية. وكانت حجَّته الأساسيَّة هي أنه لكي تطمئنَّ الولايات المتحدة على ظهرها من انتشار الشيوعية، عليها أن تساعد في رفع مستوى معيشة تلك الشعوب الفقيرة، فالفقراء هم أخْصب بيئة يمكن للشيوعية أن تنتشر فيها. ولم يجد في بداية الأمر إلا آذانًا صُمًّا، فلم يقتنع أي رئيس أمريكي بهذه الحجَّة، سواء كان ترومان الديمقراطي، أم خلفه أيزنهاور الجمهوري. إلا أن كوبيتشيك استطاع اقتناص الفرصة التي سنحت له بعد زيارة نائب الرئيس الأميركي، نيكسون، للمنطقة وتعرُّضه لمحاولة اغتيال وما أثاره هذا الحادث داخل الإدارة الأمريكية من مراجعة لسياساتها تجاه أمريكا اللاتينية. فلم يضيِّع كوبيتشيك الوقت وسارع بتقديم مبادرته للتنمية التي شملت القارة جميعها وأسماها “عملية الوحدة الأمريكية” واجتهد في جمع دعم بقية قادة أمريكا اللاتينية عليها وقدَّمها إلى الإدارة الأمريكية، وما لبثت الإدارة الأميركية حتى غيَّرت سياساتها تجاه المنطقة، تحت هذا الضغط وبدعم بعض صنَّاع السياسة في وزارة الخارجية الأمريكية، وأعلنتْ عن موافقتها على إنشاء بنك للتنمية في أمريكا اللاتينية. وبنهاية عام ١٩٥٨، كان كوبيتشيك قد نجح في كسب دعم ووحدة قادة أمريكا اللاتينية حول مبادرته واكتساب بعض الأصدقاء والداعمين في الإدارة والكونجرس الأمريكيين. وفي يناير من عام ١٩٥٩، أعلنت إدارة أيزنهاور عن الشكل النهائي الذي سوف يتَّخذه بنك أمريكا اللاتينية للتنمية، وأن رأس ماله سوف يصل إلى ٨٠٠ مليون دولار تساهم الولايات المتحدة فيه بالنصف وتتكفَّل بقية الدول بالنصف الآخر. إلَّا أن البرازيليِّين كانوا قد طالبوا بأن تساهم الولايات المتحدة بملياري دولار وأن يبلغ رأس ماله الإجمالي نحو خمسة مليارات، ولم يكونوا مستعدِّين بالقبول بهذا الذي قدَّمته الولايات المتحدة. وعلى مدار السنة التالية وقعت العديد من الخلافات والمفاوضات التي انتهت بافتتاح بنك التنمية الذي أراده كوبيتشيك وإن لم يكن على تمام ما أراد. غير أن كوبيتشيك سرعان ما خرج من الرئاسة البرازيلية في انتخابات عام ١٩٦٠، وانتهت الجهود البرازيلية في هذا المضمار.

وعندما انتخب الرئيس جون كينيدي في نفس العام ليقود الولايات المتحدة أصدر مبادرة التحالف من أجل التقدم (Alliance for Progress) لدعم التنمية في دول أمريكا اللاتينية، التي استلْهمت الكثيرَ من مبادرة كوبيتشيك “عملية الوحدة الأميركية”. وبذلك لم يذهب جهدُ هذا السياسي البرازيلي الفذِّ أدراجَ الرياح، بل ألْهم عملُه تغييرًا جذريًّا في سياسة الولايات المتحدة تجاه القارة اللاتينية، وإن اختُلف في نسبة فضْل ذلك إليه. ويختتم المؤلف هذا الفصل ببيان كيف أثَّرت جهود كوبيتشيك في تغيير السياسة الأمريكية، وإن لم تكن العامل الوحيد، فقد وفَّرت مبادرتُه شيئًا يمكن لقادة أمريكا اللاتينية الالتفاف حوله والعمل المنظَّم من أجل تحقيقه. كذلك استطاع كوبيتشيك فهم دوافع السياسة الأمريكية واللعب عليها لتمرير خطَّته، حيث ربط أهداف التنمية والاستقرار في القارة بمقاومة انتشار الشيوعية التي كانت أهم ما يشغل الإدارة الأمريكية. وعلى الرغم من هذه النجاحات، فإنها كانت جزئيَّة، فقد قاومت الإدارة الأميركية رغبة كوبيتشيك في توسيع المساهمة الأمريكية وجعل المبادرة متعدِّدة الأطراف لا تسيطر عليها الولايات المتحدة. كذلك أدَّت الصعوبات البيروقراطية في منظمة دول الأمريكتيْن (OAS) إلى بطء العملية وإضعاف جهوده فيها. وهذا الفصل يقدِّم لنا مثالًا واضحًا لكيف تستطيع دولة صغيرة أو متوسطة التأثيرَ في سياسة دولة كبرى لتحقيق أهداف سياستها الخارجية.

أما في الفصل الثالث: استكمال الأمة: عمر توريخوس والسعي الطويل للفوز بقناة بنما”، فيناقش لونج فيه كيف استطاعت واحدة من أصغر دول أمريكا اللاتينية، بنما، تحقيق أهداف سياستها الخارجية من استقلال أراضيها والسيطرة على واحدة من أهم الممرات المائية في العالم، قناة بنما، مع ما يترتَّب على ذلك من ميزات اقتصادية كبيرة. وقد استطاع قادة بنما، لا سيما رئيسها ذو الخلفية العسكرية الجنرال عمر توريخوس، تغيير سياسة الولايات المتحدة سلميًّا فقط بالمثابرة والجهد المتواصل لأعوام عديدة استمرَّت لثلاث إدارات أمريكية. ويرى لونج أن بنما استطاعت تحقيق معظم أهداف سياستها الخارجية المتمثِّلة في استعادة سيطرتها على القناة بالكامل وإخضاعها للإشراف الدولي ومغادرة كافَّة القوَّات الأمريكية أراضي بنما، عن طريق وحدة القيادة وتركيز توجُّهاتها في مقابل اضطراب وتغيُّرات السياسة الأمريكية، خاصة في عهد الرئيس نيكسون وما تخلَّلها من أزمة ووترجيت. بل يُحاجج المؤلِّف أن ما أخَّر عمليةَ التفاوضِ أصلًا كان تلك الاضطرابات في السياسة الداخلية الأمريكية وغياب قيادة تتمتَّع بالنُّفوذ والقدرة السياسية اللازمة للتوصُّل إلى اتِّفاق مع بنما. كذلك يشير لونج إلى عوامل أخرى أدَّت إلى نجاح بنما مثل قدرة قيادتها على التكيُّف مع تغيُّرات السياسة الأمريكية وتعديل سياساتهم التفاوضيَّة وفقًا لها، ومن ذلك جهودهم في إعادة تعريف مشكلة أمن القناة التي كانت تؤرِّق الولايات المتحدَّة من قضية قواعد عسكرية أمريكية إلى قضية تمكين شعب بنما من مقدَّراتهم وبذلك تصبح مسألة أمن القناة مسؤولية أهل البلاد بما يضْمن المصالح الأمريكية دون تكاليف كبرى.

كذلك استطاع قادة بنما حشد الحلفاء في العالم من جيرانها في أمريكا اللاتينية وغيرهم من دول عدم الانحياز بعد أن أعادتْ صياغة مشكلة قناة بنما على أنها قضية مقاومة للاستعمار واستعادة الأموال المنهوبة للشعوب الفقيرة، وتكلَّلت هذه الجهود بحصول بنما على عضوية مجلس الأمن، حيث نقلت القضية إلى أولويَّات السياسة العالمية ونبَّهت إليها كبار صنَّاع السياسة في الولايات المتحدة.

أحسنت بنما كذلك استغلال الفرص التي أتيحت لها بعد أن تولَّى الرئيس كارتر رئاسةَ الولايات المتحدة وإعلانه تغيير سياسة الولايات المتحدة تجاه دول أمريكا اللاتينية من التركيز على مسائل الأمن والحذر من انتشار الشيوعية إلى التركيز على التعاون المشترك. ولم يمنع ذلك الرئيس توريخوس من استكشاف فرص التقارب مع النظام الكوبي لكي يحسِّن موقفَه التفاوضي في العالم أمام الولايات المتحدة. ويرى لونج أن حالة بنما وتفاوضها مع الولايات المتحدة توضِّح كيف يمكن لدولة صغيرة استغلال وحدة قيادتها واستقرار سياستها الداخلية والخارجية، وإن كانت قيادة عسكرية دكتاتوريَّة كالرئيس عمر توريخوس، في تعويضِ ضعفِها المادي في مواجهة قوة عظمى مثل الولايات المتحدة، خاصة عندما تكون السياسة في تلك الأخيرة مضطربة مشتَّتة.

ثم يحكي لونج في الفصل الرابع: “إعادة حساب المصالح: اتفاقية التجارة الحرة (نافتا) وسياسة المكسيك الخارجية”، كيف أثَّر تغيير قادة المكسيك لحساباتهم بشأن مصالحهم الوطنية في مواجهة الولايات المتحدة في الفترة التي أعقبت الحرب الباردة، على العلاقات المكسيكية-الأميركية وجعل توقيع اتفاقية للتجارة الحرة بين البلدين أمرًا ممكنًا بعد أن ظلَّ مستبعدًا لفترة طويلة. ويرى لونج أن أحد العوامل الحاسمة التي ساعدت على توقيع معاهدة التجارة الحرة بين البلدين والتي عُرفت باتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (North American Free Trade Agreement) المعروفة اختصارًا  (NAFTA)، هو ذلك التغيير في رؤية القيادة المكسيكية المتمثِّلة في الرئيس كارلوس ساليناس وفريقه من الجيل الجديد داخل الحزب الثوري المؤسَّساتي الحاكم الذين تلقَّى أكثرُهم تعليمَهم في الولايات المتحدة. لقد ظلَّت رؤيةُ قادة الحزب الحاكم للمكسيك لعقود تجاه الولايات المتحدة تتلخَّص في عدم السماح للولايات المتحدة بالتدخُّل في الشؤون الداخلية للبلاد ومقاومة تدخُّلها في شؤون دول أمريكا اللاتينية كذلك، وكانت محاولات رؤساء الولايات المتحدة لاقتراح أيِّ نوعٍ من تحرير التجارة عادةً ما تُجَابَهُ برفضٍ قاطعٍ من حكَّام المكسيك. فقد كانوا يرون أن الحجم الهائل للسوق والصناعة الأمريكية مقارنةً بالمكسيك سوف يؤدِّي إلى اعتماد المكسيك بشكل كلي على جارتها القوية ويلغي تدريجيًّا استقلالَها الاقتصادي والسياسي. إلَّا أنه عندما تولَّى ساليناس رئاسةَ المكسيك، بدأ ينظر إلى الأمر نظرة مغايرة. فقد أعاد حساباته فوجد أن هذه السياسة القديمة لم تحقِّق للمكسيك استقلالَها الوطني كما كان مأمولًا، بل زادت اعتمادها على الولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى، فهي أكبر سوق للبضائع المكسيكية وأكبر شريك تجاري وأكبر مصدر لتدفُّق السياحة إلى البلاد والواجهة الأولى لمهاجريها. ولكن مع ذلك، وبسبب عزل المكسيك نفسها عن السياسة الأمريكية، كانت القرارات بالغة الأهمية تُتَّخَذُ في واشنطن وتؤثِّر تأثيرًا هائلًا على اقتصاد المكسيك دون أن يكون للمكسيكيِّين قولٌ فيها. كذلك أثَّر تغييرُ الأوضاع السياسية والاقتصادية العالمية بعد انتهاء الحرب الباردة في تغيير حسابات قادة المكسيك لمصالحهم الوطنية.

تولَّى ساليناس رئاسةَ المكسيك في الفترة بين عامي ١٩٨٨ و١٩٩٤. في تلك الفترة قام بمراجعة سياسة المكسيك الخارجية بهدف توقيع اتفاقية للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة الأميركية، وهي الاتفاقية التي سوف تجعل للمكسيك قولًا في السياسات الخارجية الاقتصادية الأمريكية تجاه المكسيك وتمكِّن هذه الدولة الصغيرة نسبيًّا من مقارعة الولايات المتحدة، القوة العظمى، مقارعة النِّدِّ بالنِّدِّ. ولكي يتمكَّن ساليناس من ذلك كان عليه تحييد العناصر التقليدية داخل حزبه وتمكين الشباب الذين تلقوا تعليمهم في الولايات المتحدة. كذلك كان عليه مد جسور التواصل بينه وبين قادة الولايات المتحدة من أول الرئيس بوش الأب وحتى قادة الكونجرس. رأى ساليناس كذلك ضرورة إتقان العمل داخل السياسة الأمريكية بأسلوب جماعات الضغط في مجلسي الكونجرس ليضرب عصفوريْن بحجرٍ واحدٍ. فمن ناحية، يستطيع إقناع أعضاء الكونجرس بدعم الاتفاقية بعد توقيعها، ومن ناحية أخرى، يكون بإمكانه الاطِّلاع على تفضيلات السياسة الأميركية من الداخل ومواقفها ومصالح مختلف أطرافها لكي يستطيع توجيه المفاوضات بشكل يخدم المصالح المكسيكية. وبالفعل تمَّ توقيع اتفاقية أمريكا الشمالية للتجارة الحرة (نافتا) في ديسمبر عام ١٩٩٢، وكان لها أثرٌ بالغٌ في تحويل العلاقات الأمريكية المكسيكية من جارتين متخاصمتين إلى شريكتين متعاونتين. وقد ساق المؤلِّف هذه الحالة في الدراسة ليبيِّن كيف يمكن لتغيير يطْرأ على السياسة الخارجية لدولة صغيرة أن يؤثِّر على العلاقات بينها وبين دولة أكبر منها بكثير سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا. فقادة الولايات المتحدة كانوا دومًا يطالبون باتفاقية للتجارة الحرة مع المكسيك، ولكنهم لم يستطيعوا تحقيق ذلك إلَّا بعد أن غيَّر قادة المكسيك رؤيتهم للمسألة وسعيهم هم إلى توقيع مثل تلك الاتفاقية. كذلك توضِّح حالةُ المكسيك أن دولة صغيرة يمكنها الضغط على الدولة الكبرى واستغلال عمليات سياساتها الداخلية في التأثير على المفاوضات وتسْييرها في اتجاهٍ لا يتعارض مع مصالحها.

وفي الفصل الخامس: “فرصة عاجلة: ولادة خطة كولومبيا”، يطلعنا المؤلف على التدخُّل الأمريكي في كولومبيا من أجل الحَدِّ من تجارة المخدرات وتحقيق الاستقرار في البلاد من خلال خطة “كولومبيا”. يسوق لونج هذه الحالة ليبيِّن أن المنظورات التقليدية للعلاقات الدولية لم تستطع تبيُّن حقيقة ما جرى، لقصورها عن رؤية الدور الذي قد تلعبه دولة صغيرة مثل كولومبيا. فهو يحاجج بأن باسترانا، رئيس كولومبيا الذي تولَّى منصبه في مدخل القرن الواحد والعشرين، استطاع تحقيق أهدافه من السياسة الخارجية تجاه الولايات المتحدة، وهو تقوية الدولة الكولومبية، من خلال دعوة الولايات المتحدة للتدخُّل في كولومبيا لتحقيق أهدافها في مكافحة المخدرات وتحقيق الاستقرار. فكثير من المحلِّلين سابقًا ظنُّوا خطًا أن خطة “كولومبيا” تمَّ وضعها داخل أروقة وزارة الخارجية الأميركية، وأعماهم إغفالهم للدور الكولومبي عن حقيقة أن قادة كولومبيا هم من خطَّطوا لهذه العملية حتى جعلوها موافقة لأهدافهم في تقوية الدولة مستغلِّين رغبة الولايات المتحدة في مكافحة المخدرات وتحقيق الاستقرار. ومن ذلك أن باسترانا استطاع تحويل المساعدات الأمريكية من الشرطة إلى الجيش، فقوَّى بذلك الدولة الكولومبية في مواجهة حركة المتمرِّدين (القوات المسلَّحة الثورية الكولومبية) وورَّث لخلفه دولةً أقوى وأقدر على القضاء عليهم ممَّا ورِثه هو من سلفه. لذلك فحالة خطة “كولومبيا” تشير بشكلٍ واضحٍ إلى الدور الذي قد تلعبه دولة صغيرة مثل كولومبيا في توجيه السياسة الخارجية لدولة كبيرة مثل الولايات المتحدة في الاتجاه الذي يخدم مصالحها بشكل أكبر.

وأخيرًا يختتم لونج كتابه بالفصل الختامي. وفيه يقدِّم تحليلًا شاملًا ودراسةً مقارنةً للحالات الأربع التي ضمَّنها كتابَه ليدعم بها نظريَّته في الكتاب عن العلاقات غير المتكافئة بين الدول الضعيفة والدول القوية وليقوِّي المنظور العالمي (Internationalist Approach) في دراسة هذه المسألة في مقابل المنظورات التقليدية كالواقعية والاعتمادية. فهو يحاجج بأن تلك المنظورات التقليدية أغْفلت دورَ الدولِ الصغيرةِ في تشكيل وصياغة السياسة الخارجية خاصةً في علاقاتها مع القوى الكبرى مدَّعية أن الفارق الهائل في الإمكانات المادية والسياسية يلغي أيَّ دورٍ لهذه الدول الصغيرة. أمَّا المنظور العالمي فيري أن الدول الصغيرة يمكنها التأثير في العلاقات الدولية، لا سيما في المناطق محل اهتمامها. ويزيد المؤلِّف على هذا، فيرى أن الدول الصغيرة مثل دول أمريكا اللاتينية، لا يمكنها التأثير في العلاقات الدولية لمنطقة واحدة فحسب، بل يمكنها تغيير سلوك دولة كبرى كالولايات المتحدة بشكل أكبر بكثير ممَّا يمكن أن يستنتج من الفارق الكبير في المقدَّرات بينهما. ومن الدروس التي استخلصها لونج من الحالات الأربع كون صناعة السياسة الخارجية في دول أمريكا اللاتينية على اختلاف أحجامها وطبائعها، شأن رئاسي بامتياز. ففي الحالات الأربع كان الرؤساء هم محرِّكو السياسة الخارجية مثل كوبيتشيك في حالة البرازيل وتوريخوس في بنما. وفيما يخصُّ العوامل المؤثِّرة على السياسة الخارجية، فقد ظهر أن العوامل الداخلية، مثل الحاجة إلى التنمية والكرامة الوطنية والاستقرار السياسي، كانت لها اليد الطولَى في التأثير على السياسة الخارجية للدول الصغيرة في أمريكا اللاتينية، على عكس الولايات المتحدة التي لم يكن للعوامل الداخلية فيها مثل هذا الوزن في صناعة سياستها الخارجية. إلَّا أنه على الرغم من استمداد أهداف السياسة الخارجية من العوامل الداخلية في دول أمريكا اللاتينية، فإن صياغة تلك الأهداف واستراتيجيات تحقيقها كانت دومًا تصطبغ بتقلُّبات السياسة الأمريكية وتصوُّرات القادة بشأن قوَّتها ونفوذها.

أمَّا بالنسبة لنجاح قادة أمريكا اللاتينية في التأثير على السياسة الأمريكية، فيرى لونج أن قدرة قادة أمريكا اللاتينية في التأثير على مجريات السياسة الأمريكية كانت تزداد مع الوقت في كلِّ حالةٍ تلوَ الأخرى. فالبرازيل في حالة الدراسة الأولى، عملية الوحدة الأمريكية، لم ينتبهوا إلى ضرورة العمل في أروقة السياسة الأمريكية إلَّا متأخرًا. أما الكولومبيون في حالة الدراسة الأخيرة، العملية كولومبيا، فقد تعلَّموا من التجارب المتراكمة لزعماء القارة فأدركوا ضرورة الاشتباك مع الكونجرس من البداية. وذهب لونج كذلك إلى أنه في الحالات الأربع جميعًا نجح قادة الدول الصغيرة في التأثير على السياسة الخارجية الأمريكية بشكلٍ أو بآخر، واستدلَّ على ذلك بأن الولايات المتحدة لم تكن لتسلك هذه السُّبل التي سلكتْها لولا تأثير الدولة اللاتينية في كل حالة من حالات الدراسة.

أمَّا عن الكيفية التي حقَّقت بها هذه الدول الصغيرة هذه النتائج، فيناقشها لونج في الجزء الأخير من كتابه معمِّمًا ما استخلصَه من استنتاجات على جميع الحالات التي يكون فيها فارقٌ كبيرٌ في القدرات المادية بين الدول في العلاقات الدولية. وأوَّل ما يُشير إليه في هذا الصدد هو أن الدول الصغيرة تحتاج إلى فرص سانحة لكي تتحرَّك على الساحة الدولية لتحقيق مصالحها، وبدون هذه الفرص التي تستمرُّ لوقت يسير، لن يمكن للدول الصغيرة تحقيق كبير تأثير على سياسة الدول الكبرى. ثم قسَّم الاستراتيجيات التي من الممكن أن تستخدمها الدول الصغيرة حال وجود تلك الفرص إلى ثلاثة أقسام. فيتمثَّل القسم الأول في استمداد الدولة الصغيرة قوة للفعل من الدولة الكبيرة تستخدمها في إنفاذ مصالحها الوطنية في الداخل أو الخارج. ومثال ذلك ما حاولت البرازيل فعله بمبادرة الوحدة الأمريكية التي كانت تسعى من خلالها إلى استمداد قوة اقتصادية من الولايات المتحدة لتحقيق التنمية الداخلية وتخفيض معدَّلات الفقر، وهي بذلك ترفع أيضًا من قيمتها عالميًّا بدخولها في حلْف الولايات المتحدة العالمي ضدَّ الشيوعيَّة. وتمثِّل حالة خطة “كولومبيا” أوضحَ مثال على هذه الاستراتيجيَّة حيث استمدَّت كولومبيا قوةَ الولايات المتحدة في تقوية الدولة والجيش فيها لهزيمة المتمرِّدين. أما القسم الثاني من استراتيجيَّات الدول الصغيرة فهو ما أسْماه لونج “القوة الجماعية للسياسة الخارجية”، وتتلخَّص هذه الاستراتيجية في جمع الحلفاء والأصدقاء على قضية واحدة أو تدويل القضية بحيث يكون في اجتماع الحلفاء العالميِّين قوةً تُكافئ أو تُقارب قوةَ القوة العظمى. وقد أحسنت بنما استخدام هذه الاستراتيجية حين دوَّلت قضية القناة وجمعتْ عليها حلفاءها من دول أمريكا اللاتينية ودول عدم الانحياز، وهو ما أكسب القضية شرعية دولية كبرى وأجْبر الولايات المتحدة على التعامل معها. وأخيرًا، فقادة الدول الصغيرة يمكنهم استخدام مصادر خاصة للقوة في السياسة الخارجية. فعلى الرغم من فقدانهم لأسباب القوة المادية والسياسية التقليدية، فإنه يمكن لصنَّاع السياسة الخارجية في الدول الصغيرة استخدام خبراتهم الخاصة في مجال معيَّن أو اتصالاتهم الشخصية مع قادة الدول الكبرى أو قدرتهم على إعادة صياغة مسألة ما أو ما لدولهم من أهمية جيوسياسية أو استراتيجية خاصة، في تحقيق أهدافهم القومية والتأثير على سياسات الدول الكبرى.

ثانيًا: أمريكا اللاتينية في السياسة العالمية

أمَّا الكتاب الثاني الذي نعرضه في هذا التقرير فهو أمريكا اللاتينية في السياسة الدولية: تحدي الهيمنة الأميركية (Latin America In International Politics: Challenging US Hegemony[2]) لجوزيف تولشين (Joseph Tulchin) الباحث الكبير المتخصِّص في شؤون أمريكا اللاتينية بمركز وودرو ويلسون الدولي للباحثين. ويناقش تولشين في هذا الكتاب، مسألة استقلالية دول أمريكا اللاتينية في صناعة سياستها الخارجية وتصوُّرها لدورٍ لها في العالم بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية. ويرى أن دول أمريكا اللاتينية لم يكن لها تطلُّعات عالمية ولم تتصوَّر لها مكانة في السياسة الدولية منذ استقلالها وحتى نهاية الحرب الباردة، على عكس الولايات المتحدة التي خطَّط قادتُها لسياستها العالمية ومكانتها في موازين القوى الدولية منذ استقلالها، هذا على الرغم من أن المنطقتين بدأتا حركة الاستقلال عن القوى الأوروبية في نفس الوقت تقريبًا من أوائل القرن التاسع عشر. ويتتبع المؤلِّف رحلة السياسة الخارجية لدول القارة اللاتينية منذ استقلالها مرورًا بالحربين العالميَّتين والحرب الباردة حتى قريبًا من يومنا هذا، ليثبت أنه لم يكن لأحدها دور فاعل مستقل في السياسة الدولية حتى نهاية الحرب الباردة، ثم ليتتبَّع كيف حاول قادةُ بعضِها اختطاطَ مكانةٍ لهم على الساحة العالمية بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية التي ظلَّت تؤرِّق القارة منذ أمدٍ بعيدٍ، وخلال هذه الرحلة يبيِّن لنا تولشين تطوُّر السياسة الخارجية لهذه الدول تزامنًا مع التحوُّلات الديمقراطية التي أنْهت الحكم العسكري الديكتاتوري في كثير منها بعد الحرب الباردة وانتشار الكلام عن السياسة الخارجية في الأوساط العامة والإعلام والمؤسَّسات الأكاديمية والانتخابات في العديد منها بعد أن كانت شأنًا خاصًّا لا يتطرَّق له إلَّا حكَّام البلاد.

وخلال فصول الكتاب يقارن تولشين بين عملية صناعة السياسة الخارجية في الدول اللاتينية ويقابلها بالعملية نفسها في جارتها القوية الولايات المتحدة. فبخلاف الكتاب السابق الذي ناقشناه في هذا التقرير، لا يسعى تولشين إلى تبيُّن السياسة الخارجية لدول القارة اللاتينية تجاه الولايات المتحدة، بل يناقش السياسة الخارجية تجاه العالم بأسره ولكن في مقارنة مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية.

وفي المحصلة يرى تولشين أن دول أمريكا اللاتينية بدأت تستغلُّ فرصَ ممارسةِ سياستها الخارجية باستقلال بعد الحرب الباردة ولكن على استحياء. فالمكسيك على سبيل المثال استطاعت التأثير والعمل على عدَّة قضايا في المجتمع الدولي، ولكن ما زالت مشكلة تجارة المخدرات المحتدمة فيها تمثِّل عائقًا كبيرًا لها. أما البرازيل، التي هي أكبر دول القارة، فقد بدأت تؤكِّد على دورها في العالم بوصفها قوة كبرى منذ التسعينيَّات، ولكنها ما زالت حائرةً بشأن الكيفيَّة التي يجب أن تستغلَّ بها هذه المكانة. أما فنزويلا، فقد بدأت تحت قيادة هوجو تشافيز تشكيل تحالفٍ لاتينيٍّ ضدَّ الهيمنة الأمريكية، وطوَّرت علاقات دولية لها في العالم من هذا المنطلق، إلَّا أن هذا الدور سرعان ما فَقَدَ زخمَه وحيويَّته بعد رحيل تشافيز.

ففي الفصل الثاني: “من الإمبراطورية إلى الاستقلال”، يناقش تولشين كيف تباينتْ تصوُّرات قادة كل من الولايات المتحدة ودول أمريكا اللاتينية المستقلَّة حديثًا بشأن دورهم في العالم وسياستهم الخارجية تجاه القوى الكبرى. ففي حين رأى قادةُ الولايات المتحدة أنهم على أعتاب الدخول في توازنات القوى الكبرى في العالم، لم يهتم قادةُ أمريكا اللاتينية إلَّا بدورهم في القارة لتأمين حدود دولهم حديثة الاستقلال وحماية مصالحهم القومية في مواجهة جيرانهم المتربِّصين. وقد أورثت هذه الرؤى المتباينةُ أنماطًا شديدةَ الاختلاف لمؤسسات صنع السياسة الخارجية بين الشمال والجنوب.

وفي الفصل الثالث: “تعزيز الدول القومية”، يتحدَّى تولشين الرواية السائدة عن فترة القرن التاسع عشر في الأمريكتين القائلة بأن التوسُّع الناجح للولايات المتحدة وتمكُّنها من الاستيلاء على أجزاء هائلة من الأرض في أمريكا الشمالية أكْسبها قوةً كبرى لا تُقارن بدول أمريكا الجنوبية الصغيرة المتناحرة، الأمر الذي أدَّى إلى نشوء علاقة من الهيمنة الأمريكية على كافَّة نصف الكرة الغربي فيما عرف بمبدأ مونرو، في حين كان كل ما استطاع قادة دول أمريكا اللاتينية فعله هو محاولة مقاومة هذه الهيمنة بكلِّ ما أمْكنهم مع هذا الفارق الكبير بينهم وبين الولايات المتحدة في القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية. ويرى تولشين أن هذه الرواية أخطأت في ثلاثة أمور رئيسية أهمها افتراضها أن مبدأ مونرو كان هدفه الهيمنة على دول أمريكا اللاتينية، في حين لم يكن تبنِّي هذا المبدأ وما تَبِعَهُ من سياسات خارجية إلَّا دفاعًا عن نصف الكرة الغربي من تدخُّلات القوى الأوروبية الأخرى. وفي هذا الصدد يقصُّ تولشين في هذا الفصل كيف بدأت الدول الأوروبية التدخُّل في شؤون أمريكا اللاتينية بذريعة حماية أموال مقرضيها التي اعتمدت عليها كثير من دول القارة في تلك الفترة، وكيف تطور التدخُّل الأمريكي بالتدريج لكبْح جِماح هذا التدخُّل الأوروبي مرةً تلْو أخرى حتى انتهى بتدخُّلها العسكري المباشر في العديد من الدول لبناء حكومات مستقرَّة وقوَّات شرطة تستطيع تأمين الاستقرار. كذلك يعرِّج تولشين على السياسات الخارجية لكلٍّ من تشيلي، التي كانت أكثر هذه الدول تقدُّمًا وطموحًا، وإن اقتصرت طموحاتها على السياسة الإقليمية، وكذلك الأرجنتين والبرازيل اللتان بدأتا تتلمَّسان بحذر دورهما على الساحة العالمية بعد ارتفاع أسعار السلع الخام وزيادة الطلب الأوروبي عليها. وينتهي الفصل بتتبع أصولِ نظريةِ عدمِ التدخُّل في السياسة الداخلية للدول الأجنبية التي كان منشؤها في قارة أمريكا اللاتينية خوفًا من تلك التدخُّلات الأمريكية.

ثم يبدأ الفصل الرابع: “صعود هيمنة الولايات المتحدة”، فيناقش تولشين لماذا انصاعت دول أمريكا اللاتينية للهيمنة الأمريكية قبيل الحرب العالمية الأولى وأثناءها وبعدها مباشرة. فيحكي قصة وقوع دول أمريكا الوسطى الصغيرة بالكامل تحت الهيمنة الأمريكية نتيجة سياسة التدخُّل التي اتَّبعتها الولايات المتحدة في تلك الفترة، لا سيما في عهد الرئيس وودرو ويلسون، الذي كان يحلم بإقامة ديمقراطيات مستقرَّة في تلك المنطقة. ولكن بعد أن فشل في ذلك المسْعى، قرَّرت الإدارات التي تلتْه عدم التدخُّل المباشر لشدَّة تكلفته والاكتفاء بدعم أنظمة ديكتاتورية تحافظ على المصالح الأمريكية، وبذلك انتهتْ أيُّ فرصةٍ لممارسةِ هذه الدول سياستَها الخارجية باستقلال عن الولايات المتحدة. أما في الجنوب، فقد ظلَّت الدولُ الكبرى فيه مثل الأرجنتين والبرازيل، مستقلَّة إلى حَدٍّ ما عن التدخُّل الأمريكي في سياساتها الداخلية والخارجية. وبعد الحرب العالمية الأولى، وفي الفترة ما بين الحربين، وما تخلَّل ذلك من الكساد الكبير الذي يُعَدُّ أكبرَ أزمةٍ اقتصاديةٍ عرفها العالم، بدأت هذه الدول تفكِّر في دورها في السياسة العالمية وتقليل اعتمادها على الدول الأوروبية وإقامة سياسات اقتصادية تمنحها التقدُّم والاستقلال. ولكن أتى الكساد الكبير ليبْطش بِجُلِّ هذه الأحلام؛ فقد فشلت سياسات إحلال الواردات نتيجة ضعف الصناعات الوطنية وهبوط أسعار السلع الخام مثل البترول والمعادن التي كانت تعتمد عليها دول كثيرة مثل الأرجنتين والبرازيل. وفي ثلاثينيات القرن العشرين، بدأت الجيوش في العديد من الدول مثل الأرجنتين وتشيلي وبيرو وبوليفيا والبرازيل وفنزويلا وباراجواي، في الاستيلاء على السلطة أو الاقتراب للغاية من ذلك. وما إن اندلعت الحرب العالمية الأولى، حتى شدَّدت الولايات المتحدة من فرض مصالحها الأمنية على القارة وتدخَّلت في العديد من الدول لقطْع علاقاتها بدول المحور والانضمام إلى الحلفاء في الحرب. وفي حين رفضت الأرجنتين الانضمام للحلفاء فإن البرازيل والمكسيك استطاعتا التوصُّل إلى اتفاقيات أمنية واقتصادية مع الولايات المتحدة في مقابل انضمامها للحلفاء. وبعد الحرب، هُمِّشَ دورُ دول أمريكا اللاتينية إلى حَدٍّ بعيدٍ في صناعة النظام العالمي ما بعد الحرب، لا سيما الأمم المتحدة، لدرجة رفض الولايات المتحدة انضمام الأرجنتين إلى هذه المنظمة الدولية الوليدة. ولكن تكاتفت دول أمريكا اللاتينية في دعم حقِّ الأرجنتين في الانضمام وبدأت تحلم بنظامٍ عالميٍّ جديدٍ يمكنها من خلاله لعب أدوار أكثر فاعلية في السياسة العالمية وتحقيق حلم سيمون بوليفار في وحدة لاتينية كبرى تجعل من دول القارة قوة عالمية لا يُستهان بها. ولكن سرعان ما تبدَّدت هذه الأحلام على أعتاب حقائق الحرب الباردة التي بلغت الهيمنةُ الأمريكيةُ فيها أقصى درجة من الإحكام على دول القارة في إطار جهودها لمكافحة الشيوعية في العالم.

ففي الفصل الخامس: “الحرب الباردة في نصف الكرة الأرضية”، يبيِّن تولشين كيف هيمنت المخاوفُ الأيديولوجية الأمنية للولايات المتحدة الأمريكية على دول القارة كافة حتى فرضت أولوية مكافحة الشيوعية على كافة المصالح الاقتصادية والسياسية واليحقوقية لشعوب أمريكا اللاتينية. وأدَّى ذلك إلى دعم الولايات المتحدة للعديد من الأنظمة العسكرية الديكتاتورية شديدة القسوة لمجرد أنها اتَّخذت موقفًا أيديولوجيًّا معاديًا للشيوعية. وقد عصف كلُّ ذلك بأيِّ حلم لاستقلال القرار في السياسة الخارجية لمعظم دول أمريكا اللاتينية، وأصبحت تدور في فلك السياسة الأمريكية في مُجابهة الاتحاد السوفيتي. إلَّا أنه كان ثمَّة بعض الاستثناءات التي خرجت عن ذلك النمط. فقد استطاعت حكومة الاشتراكيِّين الديمقراطيِّين في فنزويلا إنشاء منظمة الدول المصدِّرة للنفط (الأوبك) عام ١٩٦٠. وبذلك لعبت فنزويلا دورًا بالغ الأهمية في السياسة العالمية بريادتها لهذه المنظمة المتحكِّمة في أسعار أهمِّ سلعةٍ في العالم، وهي النفط. فإذا أضفْنا إلى ذلك تمتُّعها في هذا الوقت بنظام ديمقراطي، تصبح فنزويلا حالةً فريدةً من دول أمريكا اللاتينية التي استطاعت ممارسة سياستها الخارجية بشكلٍ مستقلٍّ بعيدًا عن الهيمنة الأميركية في وقت مبكِّر نسبيًّا من القرن العشرين. وتبيِّن حالة فنزويلا أهمية النظام الديمقراطي المنفتح في استقلال السياسة الخارجية للدولة، فهو يُتيح للحكومة العمل في العالم بشكلٍ يتمتَّع بالشرعية الدولية والداخلية المستمدَّة من شرعية تمثيلها للمصالح الوطنية لشعبها بخلاف الحكومات الديكتاتورية التي لا تستطيع ادِّعاء تمثيل رغبات شعوبها. ومثَّلت كوبا الحالة الثانية لدولة لاتينية تتحدَّى الهيمنة الأميركية وتسْعى إلى شَقِّ طريقِها في العالم مستقلَّة بصناعة سياستها الخارجية. إلَّا أن ظروف الحرب الباردة وانقسام العالم إلى قوتين عظميين والحصار الذي فُرض عليها بعد أزمة الصواريخ، كل ذلك أضعف من قدرتها على ممارسة هذا الدور بشكل فعَّال حتى نهاية الحرب الباردة.

ومع دخول الحرب الباردة أعوامها الأخيرة، كانت النزعات المعادية للولايات المتحدة قد تصاعدت في قارة أمريكا اللاتينية، وباتت جميع دولها تحاول التملُّص من الهيمنة الأمريكية بشتَّى الطرق.

أما الفصل السادس: “تفاؤل ما بعد الحرب الباردة”، فيناقش بالأساس المعضلة التي وجد قادة دول أمريكا اللاتينية أنفسهم في مواجهتها بعد أن خفَّت حدَّة الصراع العالمي وبان أن ثمَّة فرصة للخروج من الهيمنة الأمريكية وممارسة السياسة الخارجية بشكلٍ مستقلٍّ في العالم. وتمثَّلت هذه المعضلة في سؤال ما الشكل الذي سوف تتَّخذه هذه السياسة الخارجية المستقلَّة؟ وهل تستطيع دول أمريكا اللاتينية تحمُّل تكاليف ممارسة هذا الدور في العالم بعد أن ظلُّوا متَّكئين على موارد الولايات المتحدة في تنفيذ أهداف سياستها الخارجية؟ كذلك يتمِّم هذا الفصل قصصَ التحوُّلات الديمقراطية التي انتشرت في جميع دول القارة التي استُبدلت أنظمتها العسكرية بأنظمة ديمقراطية ناشئة، وكان آخرها تشيلي التي تخلَّت الولايات المتحدة عن دكتاتورها العسكري بينوشيه بعد عقود من الدعم. وبحلول القرن الحادي والعشرين، أدرك قادة أمريكا اللاتينية أن مجرد معارضة الولايات المتحدة لن يحقِّق لهم استقلالَ سياستهم الخارجية وتحقيق مصالحهم الوطنية وأن الوصول إلى وحدة دول القارة وتجميعهم على القضايا المشتركة لن يكون سهلًا.

وفي الفصل السابع: “نهاية الهيمنة وتطوُّر القوة”، يستعرض تولشين محاولات دول القارة استغلال فرصة تخفُّف الهيمنة الأميركية وتنفيذ سياسة خارجية ولعب دور في العالم. كذلك يناقش مجريات هجمات الحادي عشر من سبتمبر وتأثير السياسة الأُحادية في محاربة الإرهاب التي اتَّبعتها إدارة الرئيس بوش على العلاقات الأمريكية اللاتينية. وناقش الفصل كذلك محاولات إحياء هوية لاتينية لدول القارة في إطار جهود توحيد سياساتها الخارجية. إلَّا أن أولى تلك المحاولات التي قامت بها فنزويلا تحت قيادة الرئيس هوجو تشافيز باءت بالفشل. كذلك فشلت البرازيل في تأكيد زعْمها بأنها تستحقُّ مكانةَ القوى الكبرى في العالم ومقعدًا دائمًا في مجلس الأمن. ولم يكن فشل البرازيل في هذا المضمار إلَّا انعكاسًا لانقسام دول القارة وصعوبة جمعهم على قضية واحدة. وممَّا رواه تولشين في هذا الفصل أيضًا تأثير الجهود الأكاديمية في المؤسسات البحثية على صناعة رؤية القارة لدورها ومستقبلها.

وأخيرًا في الفصل الثامن والأخير: “القوة بعد الهيمنة”، يمرُّ تولشين على دول أمريكا اللاتينية الرئيسية مناقشًا محاولاتها الاستقلال بسياسة خارجية خاصة بها في العالم. ويبدأ بموقف الولايات المتحدة في عهد أوباما من دول القارة ثم يعرِّج على محاولة إنشاء عددٍ من المنظمات الإقليمية في أمريكا اللاتينية بعيدًا عن الولايات المتحدة وفشل هذه المحاولات في تحقيق وحدة حقيقية وسياسة خارجية لاتينية مستقلة في العالم. بعد ذلك يمرُّ تولشين على تجربة كلٍّ من البرازيل وتشيلي والأرجنتين والمكسيك وكولومبيا وبيرو ودول أمريكا الوسطى مثل السلفادور وكوستاريكا. ثم يستعرض محاولة الصين إيجاد دورٍ لها في القارة وتعامل دول المنطقة معها. ليختتم الفصل بتجربة كوبا الفريدة التي استطاعت ممارسة سياسة خارجية فعالة في العالم عن طريق قطاعها الطبي الذي يتمتَّع بالكفاءة والتطوُّر.

ويخلص المؤلف في نهاية الكتاب إلى أن دول القارة اللاتينية، باستثناء تشيلي والبرازيل، ليست بعد جاهزة لأداءِ دورٍ مستقلٍّ على الساحة العالمية. ولكن التفاؤلَ الحَذِرَ الذي تبنَّاه يفرض عليه تصديق أن العولمة والتقدُّم في وسائل التواصل وتكنولوجيا المعلومات قد يُعِينُ دولَ القارةِ على تبيُّن دورها في السياسة العالمية.

الخاتمة:

تُشبه أمريكا اللاتينية إلى حَدٍّ كبير الكثير من مناطق العالم اليوم، لا سيما منطقتنا العربية والإسلامية. فهي تمثِّل مجموعةً من الدول الصغيرة والوسيطة التي تمتلك تاريخًا وثقافة وتراثًا مشتركًا إلى حَدٍّ كبير، بينما تتنازعها كذلك العديد من الصراعات التاريخية والمنافسات على المكانة والنُّفوذ. وهي أيضًا آخر منطقة في العالم، باستثناء بعض الدول العربية، التي تتخلَّص من أنظمتها العسكرية الدكتاتورية وتنجح في التقدُّم نحو التحوُّل الديمقراطي بصورة أو بأخرى.

أمَّا على صعيد السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، فطالما عانتْ أمريكا اللاتينية من التدخُّلات والهيمنة الأمريكية. لذلك تُعتبر تلك المنطقة منجمًا غايةً في الثراء لاستمداد الدروس في كافة مجالات العلوم السياسية، لا سيما العلاقات الدولية وصناعة السياسة الخارجية.

ومن خلال مراجعة الكتابين السابق ذكرهما، ربما أمكننا إجمال بعض الخلاصات التي قد تساعد على فهم السياسة الخارجية لدول المنطقة العربية والإسلامية والاستفادة منها في الرؤية الاستراتيجية للسياسة الخارجية العربية خلال السنوات القادمة.

فقد أظهرت هاتان الدراستان أن الدول الصغيرة والمتوسطة يمكنها لعب دور غاية في الفاعلية على الساحة العالمية، حتى وإن كان ذلك في مواجهة قوى كبرى مثل الولايات المتحدة. ولا يكون ذلك إلَّا بقيادة حاذقة منضبطة تستطيع صياغة مصالح شعوبها القومية واتِّباع استراتيجيَّاتٍ ناجعةٍ في السعي لتحقيق تلك المصالح. فقادةُ الدول العربية عليهم أولًا مراجعة أولويات سياساتهم الخارجية والانطلاق من هذه المراجعة إلى صياغة أهداف محدَّدة لعملِها على الساحة الدولية، ووضع خطط واستراتيجيَّات يمكنهم بها التأثير على سياسات الدول الكبرى. ويمدُّنا كلا الكتابين بأمثلةٍ عديدةٍ على دولٍ صغيرةٍ ومتوسطةٍ استطاعت وضع بصمتِها على السياسة العالمية، والأهم هو تنوُّع هذه الأمثلة في أحجامها واستراتيجيَّاتها وتفاوت النتائج التي أنجزتْها.

فممَّا تبيِّنه هاتان الدراستان أن طرق التأثير في السياسة العالمية متشعِّبة ومتنوِّعة ولا تسير دومًا على نمط واحد، فمن دولةٍ وسيطةٍ تمثِّل قوةً كبرى في منطقتها مثل البرازيل، تستغل هذه القوة النسبية في شَقِّ مكانةٍ لها على الساحة الدولية، إلى دولة صغيرة الحجم والقوة مثل كوبا، تستغل تفوقها في مجال بعيد عن السياسة، كفاءة القطاع الطبي، في تحقيق التأثير في جيرانها الأقوى بل وفي العالم.

كذلك من الخلاصات الجامعة التي يمكن تبيُّنها من هاتين الدراستين، أن الدول الصغيرة والمتوسطة، -إن كان لها أن تلعب دورًا مستقلًّا في السياسة العالمية تحتاج إلى تشكيل تحالفات وجمع الأصدقاء في العالم أو المنطقة حول القضايا ذات الاهتمام المشترك. وأن هذه التحالفات ليست مهمَّة فحسْب، بل هي ضروريَّة لكي تستطيع تلك الدول صناعة سياستها الخارجية بأيِّ درجةٍ من الاستقلالية كما أوضحت حالة بنما في الكتاب الأول وإدراك العديد من دول القارة أن إنشاءَ هُوية لاتينيَّة مشتركةٍ والاجتماعَ حولها هو أهم متطلبات السياسة الخارجية المستقلَّة في الدراسة الثانية. لذلك على دول منطقتنا العربية والإسلامية أن تدرك أهمية الوحدة وصياغة أهداف سياسية عالمية مشتركة لتصبح ذات وزن وقيمة على الساحة الدولية. وتقدِّم الدراسةُ الثانيةُ بالتحديد رؤيةً عن التحديات والعقبات التي قد تبطئ من هذه العملية، خاصة بين الدول التي يكدِّر علاقاتها تاريخ من الصراع والتنافس الإقليمي.

وأخيرًا، أشار كلا المؤلفين إلى أهمية الأنظمة الديمقراطية والتداول الواسع للسياسات الخارجية في المنتديات العامة الإعلامية منها والأكاديمية بشكلٍ من الحرية والانفتاح. فإخضاع هذه السياسات للنقاش العام وغربلتها وتدافُع مختلف فئات المجتمع حولها، يمنحها شرعيةً وقوةً في المنتديات العالمية، على خلاف ما إذا كانت هذه السياسات من صنع أنظمة دكتاتورية مستبدَّة مشكوك في مراعاتها لمصلحة شعوبها. وقد أكَّد تولشين في كتابه بشكل خاص وفي أكثر من مناسبة، الدور الذي يلعبه الأكاديميُّون في توجيه السياسات الخارجية وطرح القضايا الدولية على الرأي العام وجمع الدول على المصالح المشتركة وتقديم رؤى للمستقبل، حتى في أَحْلَكِ لحظاتِ التاريخ. ولكن تبيِّن بعضُ حالات الدراسة الأولى خاصة أن الأنظمة الدكتاتوريَّة قد يكون لها نقاط قوة كذلك، خاصة إذا تمتَّعت القيادةُ بالاستقرار والرؤية الواضحة، كما وَقَعَ في حالة الجنرال عمر توريخوس الذي قاد بنما خلال مفاوضاتها مع الولايات المتحدة على قناة بنما. إلَّا أن هذه الحالة تبقى حالة فريدة ضمن الحالات المتعددة التي استغلَّ فيها قادة الدول اللاتينية تحوُّلات بلدانهم الديمقراطية في استمداد قوة على الساحة العالمية.

وختامًا نرجو أن تساعد هذه المراجعة في إلقاء الضوء على دول أمريكا اللاتينية وسياساتها الخارجية التي طالما غابت عن اهتمام الباحثين والدراسات العربية. كذلك قد تساهم قراءة هاتين الدراستين في تقديم رؤى نظرية ومنهجيات غير تقليدية لدراسة السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، خاصة فيما يتعلَّق بالدول الصغيرة وقدرتها على حماية مصالحها في مواجهة القوى الكبرى. وعسى أن ينتبهَ بعضُ الباحثين إلى هذه المنظورات المختلفة ويستخدمها في دراسة السياسة الخارجية لبعض الدول العربية والإسلامية.

 

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثامن والعشرون – يناير 2023

______________________

الهوامش

[1] Tom Long, Latin America Confronts the United States: Asymmetry and Influence, (Cambridge: Cambridge University Press, 2015).

[2] Joseph S. Tulchin, Latin America In International Politics: Challenging US Hegemony, (London: Lynne Rienner Publishers, 2016).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى