أزمة القانون الدولي المعاصر في ضوء العدوان الأمريكي على العراق

أبانت الأحداث التي شهدها العالم منذ بداية تسعينيات القرن الماضي (عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، ونهاية الحرب الباردة، وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية شبه الكامل بقيادة النظام الدولي؛ والذي أطلق عليه اسم النظام الدولي الجديد) بما لا يدع مجالاً للشك؛ أن ثمة أزمة خطيرة يشهدها القانون الدولي المعاصر، وأن ثمة محاولات جادة وحقيقية تسعى من خلالها الولايات المتحدة الأمريكية إلى إعادة تشكيل قواعده ومبادئه الحاكمة (العالم)؛ على النحو الذي يتوافق ومصالحه من جانب، ورغبتها في إحكام قبضتها وضمان استمرار سيطرتها على النظام الدولي منفردة من جانب ثان، وبحيث يغدو هذا القانون انعكاسًا لمشيئتها، وتعبيرًا في المقام الأول عن إرادتها. ولقد جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 -بغض النظر عمن كان وراءها بالفعل- فرصة ذهبية استغلتها الولايات المتحدة الأمريكية خير استغلال لمحاولة فرض قيمها ومصالحها على الآخرين، رافعة شعار محاربة الإرهاب، وأن من ليس معنا فهو ضدنا، ومغلِّبة دعاوى الأمن القومي الأمريكي على ما عداها؛ بما في ذلك الأمن الجماعي الدولي ومنظومته التي جاء بها ميثاق الأمم المتحدة.
لقد أمدت هذه الأحداث إدارة الرئيس بوش بذريعة لإعلان حرب طويلة لا هوادة فيها -تحت دعوى محاربة الإرهاب- ترمي إلى سحق أي معارضة أو مقاومة ممكنة لنظام عالمي يخضع لسيطرة أمريكية مطلقة وكاملة؛ ومن ثم أصبحت “الحرب ضد الإرهاب” مرتكزًا لسياسة خارجية أمريكية جديدة تتبنى رؤية محددة وأكثر وضوحًا لعالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولدور أمريكي جديد ومسيطر فيه[1]. ففي الأول من يونيو 2002 قدم الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن العقيدة الاستراتيجية التي سوف تستلهمها إدارته منذ ذلك الحين؛ وهى تتضمن ما يتجاوز المفهوم الدفاعي التقليدي الذي كانت الولايات المتحدة تعمل بموجبه؛ فالمخاطر التي أصبح يتعين على الولايات المتحدة أن تواجهها لم تعد تأتي من مصادر تقليدية، وإنما من جانب مجموعات إرهابية دولية، ومن دول تتساهل معها وتقدم لها الدعم والمأوى الأمن، ومن جانب أولئك الذين يمتلكون أسلحة دمار شامل، أو يسعون إلى امتلاكها أو إنتاجها.
وبما أن المخاطر التي تواجه الولايات المتحدة قد تغيرت في مصدرها وطبيعتها؛ فإن الرد عليها ينبغي أيضًا أن يتغير بصورة كاملة؛ ومن ثم فإن الولايات المتحدة -كما أكد بوش- يتعين ألا تقبل بحال أن يتمكن أعداؤها الجُدد من أن يوجِّهوا إليها أو إلى أيًّ من حلفائها ضربة مشابهة لتلك التي حدثت في الحادي عشر من سبتمبر 2001، ولا حتى القبول باحتمال تنظيم هجمات ضد السفارات أو الوحدات البحرية الأمريكية المنتشرة حول العالم. وبالتالي فإن استراتيجية واشنطن الجديدة تستهدف -من الآن وصاعدًا- العمل على منع تجسيد هذه المخاطر؛ من خلال إطلاق “ضربات وقائية” ضد أعدائها المحتملين.
والحق أن ما فعلته وتفعله الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الصدد؛ ليس بدعًا أو جديدًا على حقل القانون الدولي[2]؛ بل والقانون في عمومه، حيث يسعى الأقوى دائمًا -شخصًا طبيعيًا كان أم اعتباريًا- إلى فرض قيمه ومصالحه على منظومة القواعد القانونية الحاكمة -أو التي ينبغي أن تكون حاكمة- للمجتمع الذي يحيا في إطاره؛ فقواعد القانون -دوليًا كان أم داخليًا- لا تأتي بالضرورة تعبيرًا عن الحق والعدل وما ينبغي أن يكون؛ وإنما عن توازنات القوى والمصالح والأفكار والإيديولوجيات السائدة في المجتمع المحكوم بها[3].
وإذا كان من المنتهى إليه -فقهًا وقضاءً- أن القانون الدولي العام قانون واحد (موحد المحتوى، عالمي السريان)، وأن مضمون قواعده العامة المجردة لا يختلف البتة باختلاف الخاضع لأحكامها من أشخاصه المتعددين؛ فإن من الراجح أن لكل دولة -باعتبار الدول هي أشخاص القانون الدولي الأساسية- موقفها المتميز منه، ومفهومها الخاص لأحكامه، والمرتبط أساسًا بتراثها الحضاري وتاريخها السياسي ومصالحها القومية، وما تؤمن به من قيم وأفكار[4]. فالثورة البلشفية حين اندلعت كان لها العديد من الآراء إزاء ما كانت تطلق عليه “القانون الدولي البرجوازي”؛ فأعلنت إصرارها على علنية المفاوضات وعدم سرية المعاهدات، وتحللت من ديون الدولة القيصرية، ثم اضطرت إلى العودة عن هذا جميعه فيما بعد تحت ضغط الواقع، وكان لها آراؤها أيضًا فيما يتعلق بحق تقرير المصير ومشروعية الكفاح المسلح لحركات التحرر الوطني.. إلخ.
ولعل من المفارقات ذات الدلالة في هذا السياق أن الاتحاد السوفييتي الذي كان يتحدث عن الاستقلال ومشروعية كفاح حركات التحرر الوطني، والمساواة في السيادة بين الدول؛ هو ذات الاتحاد السوفييتي الذي غزت جيوشه تشيكوسلوفاكيا والمجر استنادًا إلى مبدأ بريجنيف عن “السيادة المحدودة”، والولايات المتحدة الأمريكية التي تتحدث عن ضرورة احترام القانون الدولي والشرعية الدولية؛ هي ذات الولايات المتحدة التي حالت -ما يربو عن ربع قرن من الزمان- بين الصين ومقعدها الدائم في مجلس الأمن، وهي التي غزت قواتها بنما لاختطاف رئيسها تحت زعم ضرورة محاكمته في الولايات المتحدة عن اتّجاره في المخدرات؛ وهو الذي كان -في الأصل- عميلاً لمخابراتها، وهي التي استصدرت من مجلس الأمن الدولي قراراته التي أضفت مشروعية على عملية تحطيم العراق بزعم تحرير الكويت، في الوقت الذي تغاضت فيه عن انتهاكات إسرائيل الكثيرة لحقوق الإنسان، وحقوق الشعوب، وقرارات الشرعية الدولية.. إلخ [5].
ولعل سمة “اللامركزية والازدواج الوظيفي” التي يتسم بها القانون الدولي تلعب دورًا كبيرًا في تدعيم هذا المعنى[6]؛ فوفقًا لتعبير هانز مورجانثو (أستاذ العلاقات الدولية الأمريكي الشهير) فإنه: “في الحقل الدولي يكون الخاضعون للقانون أنفسهم هم الذين يشرِّعون القانون، وهم الذين يمثلون السلطة العليا لتفسيره، وتبيان المعنى المحدد لما يسنونه من تشريعات. ومن الطبيعي أن يفسر هؤلاء القانون الدولي، وأن يطبقوا نصوصه على ضوء مفاهيمهم الخاصة والمتباينة للمصلحة القومية. ومن الطبيعي أيضًا أن يجندوا هذه القوانين في تأييد سياستهم الدولية الخاصة، وأن يحطموا من هذا الطريق ما فيها من سلطانٍ زاجرٍ يطبق على الجميع”[7].
أو إن شئت فقل مع شارل دي فيشر: “إن الواقع الدولي قد أثبت أن الانشغال باحترام قواعد القانون الدولي سرعان ما يتواري إلى الخلف عندما توضع هذه القواعد في موضع المواجهة المباشرة مع سلطان الدولة وسيادتها؛ فالدول باعتبارها المحتكر لسلطة التأويل الذاتي لهذه القواعد لا تعمد إلى احترامها ومن ثم الاعتراف بإلزاميتها؛ إلا تبعًا لما تقتضيه مصالحها؛ مما يجعل التطابق المفترض تحققه بين قواعد الشرعية الدولية هذه وممارسات الدول وسياستها مسألة نسبية وغير متحققة بالضرورة[8].
وسنسعى في هذه الدراسة إلى تتبع مظاهر الأزمة التي يعاني منها القانون الدولي المعاصر في عالم ما بعد انتهاء الحرب الباردة؛ وذلك من خلال نقاط عدة، نعرض في أولاها لتأثيرات ظاهرة العولمة على هذا القانون، ثم نعرض في الثانية لمحاولات تغيير بعض المفاهيم والقواعد الأساسية الحاكمة داخل منظومة هذا القانون من جانب القوى المسيطرة على النظام الدولي في شكله الجديد، أما الثالثة فنخصصها لمحاولات الولايات المتحدة الأمريكية استخدام الأمم المتحدة في إضفاء الشرعية على السلوك الأمريكي.

أولاً- ظاهرة العولمة وتأثيراتها على القانون الدولي المعاصر:

أدى تفكك الاتحاد السوفيتي السابق -وزوال القطبية الثنائية التي اتسم بها عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية- إلى انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بمكان الصدارة في عالم اليوم، متسلحة بقوة اقتصادية هائلة، وترسانة عسكرية غير مسبوقة في التاريخ؛ وهو ما خلق أوضاعًا غير مألوفة وغير معتادة في العلاقات الدولية، وأدى إلى ذيوع الأنماط الأمريكية خاصة والغربية عامة في جوانب الحياة المختلفة؛ من اقتصادية، وسياسية، بل وثقافية، واجتماعية، مقترنًا بسعي أمريكي حثيث لفرض هذه الأنماط والرؤى، وما يرتبط بها من مصالح وقيم بكل السبل الممكنة؛ في إطار ما أضحى معروفًا بظاهرة العولمة.
والحق إن ظاهرة العولمة هذه في تجلياتها المختلفة إنما تعد من أبرز ظواهر ما بعد الحرب الباردة؛ إن لم تكن أبرزها على الإطلاق[9]. وإذا شئنا أن نضع للعولمة تعريفًا مبسطًا فإنه يمكننا القول إنها نظام دولي جديد يعتمد على التكامل بين كل من رأس المال والتكنولوجيا والمعلومات؛ التي تتخطى حدود الدولة، على نحو نشأت عنه سوق عالمية واحدة، وأضحى العالم في ظله قرية عالمية واحدة.
وإذا كان كل من رأس المال والتكنولوجيا والمعلومات في عالمنا المعاصر مصادره غربية بالأساس؛ فإن الحديث عن العولمة بهذا المعنى إنما يحوى في طياته حقيقة أنها ظاهرة ذات اتجاه واحد من الغرب إلى ما عداه من مناطق العالم، ويصبح الارتباط بالعولمة -من ثم- ارتباطًا بالغرب. ولا يفوتنا في هذا السياق أن نؤكد ما انتهى إليه الكثيرون من أن العولمة ليست مجرد ظاهرة اقتصادية معلوماتية فحسب؛ وإنما هي -بالإضافة إلى ذلك- ظاهرة ذات أبعاد سياسية وثقافية واجتماعية مؤكدة[10]. من أبعادها الثقافية على سبيل المثال؛ أنها تسعى إلى استحداث سلوكيات، واتخاذ إجراءات يكون من نتيجتها الدفع في اتجاه قبول قيم الثقافة الغربية؛ باعتبارها المثل الأعلى واجب الاحتذاء. ومن أبعادها السياسية أنها تحوي في طياتها سعيًا إلى الدفع في سبيل القبول بالمفاهيم والأطر المؤسسية السياسية الغربية كالرأسمالية الليبرالية[11]؛ ومن ثم تصبح العولمة بهذه المثابة سعيًا من جانب الغرب للسيطرة على ما عداه من مناطق في كافة مناحي الحياة؛ وليس في جانبها الاقتصادي فحسب.
والحق إنه قد ترتب على العولمة بمضامينها المتقدمة تأثير كبير على العديد من موضوعات القانون الدولي العام ومفاهيمه؛ من ذلك على سبيل المثال أنه قد زاد الاهتمام بحقوق الإنسان، وتآكلت سيادة الدولة في معناها التقليدي بعد ما أضفى عليها الواقع مضامين جديدة. واكتسبت مساعي تحرير التجارة الدولية قوة دفع كبيرة؛ بعدما انتهى المتفاوضون في جولة أورجواي إلى التوقيع على الوثيقة الختامية لها (في مراكش في أبريل 1994)، وما ترتب على ذلك من إنشاء منظمة التجارة العالمية (WTO) التي دخل اتفاق إنشائها حيز النفاذ في الأول من يناير 1995.
وسعى الغرب إلى فرض قيمه ومفاهيمه وأنماط سلوكه على باقي أجزاء العالم؛ من خلال مؤتمرات عالمية جامعة عُقدت تحت مظلة الأمم المتحدة، وناقشت قضايا المرأة والأسرة والسكان وغيرها. واضطلعت الأمم المتحدة بأدوار جديدة، أو أدخلت تعديلات على مهام كانت تقوم بها بالفعل؛ فزادت عملياتها لحفظ السلام زيادة كبيرة، ولم تعد مهمة قوات حفظ السلام التابعة لها مجرد الفصل بين القوات المتحاربة؛ وإنما أضيف إلى ذلك دورها في مراقبة الانتخابات والإشراف عليها، ودورها في حماية قوافل الإغاثة الإنسانية والمساهمة في توصيلها إلى مستحقيها وتوزيعها عليهم[12].
بيد أن الأمر ليس بالسهولة واليسر كما يبدو للوهلة الأولى؛ حيث نمت على مدار السنوات القليلة الماضية معارضة حقيقية -شعبية بالأساس وحكومية رسمية في بعض الأحيان- للجوانب السلبية لظاهرة العولمة وآثارها الوخيمة على كافة الشعوب؛ لا سيما شعوب العالم غير المتقدم؛ وهي معارضة تأخذ أشكالاً وصورًا متنوعة تستهدف الوقوف في وجه صبِّ العالم -شرقه وغربه- في قوالب وأنماط سياسية واقتصادية واجتماعية واحدة؛ تُغفِل ما بين الدول والشعوب من فوارق اقتصادية، وما لها من خصوصيات ثقافية وحضارية واجتماعية تجعلها تتأبى بالضرورة على القوالب الجامدة سابقة التجهيز التي يحاول رافعو لواء العولمة فرضها عليهم.
حاصل القول: إن عالم اليوم يشهد نوعًا غير مسبوق من السيولة السياسية؛ التي تختلط فيها الكثير من القيم والأفكار والمصالح. وهى سيولة لابد وأن تحدث آثارها على القانون الدولي؛ فنجد -من ناحية- العديد من القواعد القانونية الجديدة التي أفرزتها ظاهرة العولمة لتناسب متطلباتها، وتدفع بها إلى المزيد من المجالات وجوانب الحياة. وحسبنا أن نشير في هذا السياق إلى اتفاقات التجارة الدولية، وإنشاء منظمة التجارة العالمية، وإلى هذا الكم الكبير من القرارات التي تصدرها المنظمات الدولية في مختلف مناحي ومجالات القانون الدولي، والتي تؤدي -على الأقل- إلى نشوء ما أصبح يوصف بالقانون الهش أو المرن The Soft Law؛ والتي سرعان ما تجد طريقها إلى التدوين في اتفاقيات دولية عامة تغدو نافذة ومعمولاً بها[13].
على أن أخطر وأهم تأثيرات العولمة على القانون الدولي؛ إنما تتمثل في ذلك التحدي الكبير لأحكامه ومبادئه من جانب القوة الكبرى المهيمنة على النظام الدولي القائم (أي الولايات المتحدة الأمريكية)؛ وهو ما أظهر ذلك القانون بمظهر القانون الذي فقد فاعليته، وأصبح مفتقرًا إلى الحد الأدنى الواجب من الاحترام والهيبة، والقوة الذاتية اللازمة لضمان احترام قواعده وأحكامه؛ من جانب الخاضعين له والمخاطبين بأحكامه جميعًا.

ثانيًا- محاولة تغيير بعض القواعد والمفاهيم القانونية الدولية:

بذلت الولايات المتحدة الأمريكية جهودًا حثيثة في محاولة تغيير بعض قواعد القانون الدولي المستقرة، وإضفاء مضامين جديدة عليها لتتوافق مع مصالحها وأهدافها؛ فثمة توجُّه ثابت في السياسة الأمريكية إزاء القانون الدولي العام؛ بان واضحًا في الموقف الأمريكي المتصلب إزاء اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، والاتفاق التنفيذي للجزء الحادي عشر منها الخاص بالثروات الحية لقيعان البحار والمحيطات فيما يجاوز الولاية الإقليمية للدول؛ والذي انتُهيَ إلى إقراره في الحادي عشر من يوليو 1994[14]، ثم إزاء المحكمة الجنائية الدولية.
وقد ازداد هذا التوجه قوة ورسوخًا في ظل إدارة الرئيس بوش الابن، وخصوصًا في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ حيث لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية تكتفي بالخروج على أحكام القانون الدولي، واعتماد معايير مزدوجة في تطبيق أحكامه؛ ولكنها أصبحت تعمل في إطار خطة منهجية تستهدف زعزعة بعض ثوابت القانون الدولي وأسسه الراسخة؛ بهدف صياغة قواعد قانونية دولية جديدة تراها أدنى إلى حماية المصالح الأمريكية، وتحقيق الأهداف التي تسعى إلى فرضها على العالم، بعد أن أصبحت القوة العظمى الوحيدة المتربعة على قمة العالم، والتي لا تقبل شريكًا أو منافسًا في تسيير شئونه ورسم الإطار العام الحاكم لحركته في ظل القيم والمعايير والأنماط الأمريكية. ولعل أبرز ما يمكن الحديث عنه في هذا الصدد ما يتصل بمشروعية استخدام القوة في العلاقات الدولية، وتحديد معنى الإرهاب الدولي؛ وهو ما سنعرض له فيما يلي:

أ) مشروعية استخدام القوة:

ليس ثمة شك في أن قاعدة حظر الاستخدام أو التهديد باستخدام القوة في العلاقات الدولية -والتي نصت عليها الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة- تعد واحدة من أهم وأبرز إنجازات القانون الدولي المعاصر، كما تأتي على رأس قائمة قواعده الآمرة التي لا يجوز مخالفتها أو الاتفاق على مخالفتها بحال؛ وهى القاعدة التي يُحرَّم بموجبها على أشخاص القانون الدولي استخدام القوة المسلحة أو التهديد بها في علاقاتهم المتبادلة إلا في الحالات الاستثنائية التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة ذاته؛ وهي حالة الدفاع الشرعي الفردي أو الجماعي عن النفس (الذي قضت به المادة الحادية والخمسون من الميثاق) وحالة التدابير المتخذة بموجب نظام الأمن الجماعي وفقًا لقرار صريح من مجلس الأمن (إعمالاً لنصوص الفصل السابع من الميثاق[15] بالإضافة إلى استخدام القوة المسلحة من جانب حركات التحرر الوطني في سعيها المشروع للحصول على الاستقلال من ربقة الاستعمار أو الاحتلال الأجنبي أو مقاومة النظم العنصرية الصارخة؛ وهذا ما انتهى إليه غالبية الفقه الدولي، وأيدته قرارات الأمم المتحدة وسواها من التنظيمات الإقليمية[16].
ولقد عمدت الولايات المتحدة الأمريكية في عدوانها على العراق -بمشاركة بريطانية- إلى الالتفاف على هذه القاعدة تحت دعاوى عدة؛ منها أن العراق يشكل تهديدًا للسلم و الأمن الدوليين؛ من خلال امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، وبرامجه الطموحة لتطوير هذه الأسلحة[17]، وأنه على علاقة وثيقة بتنظيم القاعدة؛ المسئول الأول -من وجهة النظر الأمريكية- عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وغيرها من الأعمال الإرهابية على مستوى العالم[18], فضلاً عن جرائم الحرب والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان التي مارسها النظام العراقي ويمارسها بحق مواطنيه والمدنيين من رعايا بعض الدول الأخرى؛ كالكويتيين والإيرانيين (خلال حربيّ الخليج الأولى والثانية)[19].
ومن ثم؛ فقد أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش في الأول من يونيو 2002 أن بلاده ستعمل على نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، وعلى تغيير نظام الحكم في العراق؛ حتى لو استدعى الأمر القيام بعمل عسكري “وقائي” منفرد ضد العراق؛ مبررًا ذلك بأن بلاده إنما تمارس بذلك: “دفاعًا شرعيًا وقائيًا عن النفس”.
وقبل تحليلنا لمدى مشروعية هذه الدعاوى، وما انبنى عليها من استخدام للقوة المسلحة من جانب الولايات المتحدة للعدوان على العراق واحتلاله؛ نود الإشارة إلى أن العراق -وبعد سنوات الحصار الطويلة منذ عام 1991، وفرق التفتيش الدولي العديدة على ما لديه من أسلحة- لم يكن يشكل في الحقيقة تهديدًا ذا بال للسلم والأمن الدوليين في المنطقة المحيطة به، ناهيك عن أن يشكل تهديدًا للولايات المتحدة الأمريكية (القوة العسكرية الأولى في العالم) يستدعي دفاعًا شرعيًا “وقائيًا” ضده من جانبها. أضف إلى هذا أن قواعد “الشرعية الدولية” قد وُظِّفت -في هذه الحالة- توظيفًا سياسيًا لتحقيق مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وأهدافها بالأساس؛ ففضلاً عن أن هذه القواعد ذاتها يضرب بها عُرض الحائط ولا يُلتفت إليها في حالات أخرى تستدعي تدخلاً دوليًا مماثلاً وعلى ذات القدر من الأهمية؛ فإن العراق وبافتراض ثبوت امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل -وهو ما فشلت قوات الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق في العثور على دليل عليه بعد مضى ما يقارب العام على احتلال العراق- لم يكن الدولة الوحيدة المالكة أو الساعية إلى امتلاك هذه الأسلحة.
فعلاوة على الدول النووية الكبرى، هناك دول أخرى -ليست بعيدة جغرافيًا عن العراق- تمتلك فعلاً السلاح النووي (أخطر أسلحة الدمار الشامل على الإطلاق) وهى إسرائيل والهند وباكستان، إضافة إلى كوريا الشمالية؛ التي تجاهر بإصرار على سعيها وبرنامجها المتقدم في هذا السبيل، دون أن تناصبها الولايات المتحدة هنا القدر من العداء الذي تناصبه العراق؛ فتجيش الجيوش وتغزو العراق استنادًا إلى معلومات مشكوك في صحتها -أو إن شئت فقل كاذبة وملفَّقة- عن امتلاكه أسلحة دمار شامل تمثل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين، وتتغاضى عن الحالات المؤكَّدة يقينًا في هذا الصدد[20].
ولقد سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحصول على موافقة من مجلس الأمن الدولي على قرار يسمح لها باستخدام القوة ضد العراق في حالة عدم التزامه بنظام التفتيش الجديد على أسلحته؛ وتكون -أي هذه الموافقة- مماثلة للتفويض القانوني الذي حصلت عليه من مجلس الأمن عام 1990 بموجب قراره 678 الذي رخص باستخدام كافة الوسائل المتاحة لضمان انسحاب عراقي غير مشروط من الكويت؛ وهو التفويض الذي تمكنت بموجبه الولايات المتحدة -وحلفاؤها- من استخدام القوة المسلحة في هذا الصدد في ظل غطاء من شرعية دولية كاملة[21].
ولقد جاء قرار مجلس الأمن رقم 1441 في الثامن من نوفمبر 2002 بإجماع أعضاء المجلس، واستنادًا إلى الفصل السابع من الميثاق، غير أنه لم يحوِ تصريحًا بالاستخدام الشامل للقوة ضد العراق إذا لم يلتزم بشروط التفتيش على الأسلحة؛ حيث فشلت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في التغلب على معارضة كل من فرنسا وروسيا والصين في هذا الصدد؛ فلقد أصرت الدول الثلاث -بالإضافة إلى ألمانيا- على وجوب نزع أسلحة العراق -المزعومة- من خلال آلية المراقبة والتفتيش الدولي، وإعطاء الوقت الكافي لفرق التفتيش لإنجاز مهامها قبل اللجوء إلى القوة ضد العراق، وعلى وجوب العودة إلى مجلس الأمن مرة أخرى والحصول على إذن صريح منه باستخدام القوة ضد العراق إذا ثبت أن ثمة انتهاكًا ماديًا قد وقع بالفعل من جانب العراق لنظام التفتيش الذي نصَّ عليه القرار 1441.
ومن ثم؛ لم تجد الولايات المتحدة أمامها سوى أن تعلن -دون سند شرعي- أن القرار المذكور يسمح لها ضمنيًا باستخدام القوة ضد العراق كلما ارتكب -طبقًا لتقديرها- مخالفة مادية لنظام التفتيش؛ سيما وأن العراق قد دَأَبَ على مخالفة قرارات عديدة سابقة لمجلس الأمن، وأنه لا حاجة بالتالي لمزيد من المخالفات لتبرير استخدام القوة ضده[22].
وحين أعيت الولايات المتحدة الأمريكية الوسائلُ في الحصول على قرار من مجلس الأمن يخوِّلها الحقَّ في استخدام القوة ضد العراق بشكل تلقائي، كما لم تمنحها تقارير فريق المفتشين الدوليين ولا الوكالة الدولية للطاقة الذرية فرصة الزعم بأن العراق يقوم فعلاً بإحياء واستئناف أنشطته التسليحية بالمخالفة لقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة وعلى رأسها القرار 1441؛ بل على العكس أشادت هذه التقارير بتعاون العراق وتقديمه لكافة التسهيلات لفرق التفتيش لإنجاز مهامها، إضافة إلى موقف المجتمع الدولي المعارِض للحرب؛ والذي تم التعبير عنه بدرجات متفاوتة في العديد من التجمعات والقوى الدولية والتنظيمات الإقليمية والرأي العام العالمي.
ضربت الولايات المتحدة الأمريكية بكل هذا عُرض الحائط، وقامت في العشرين من مارس 2003 -بمساعدة بريطانية- بشن الحرب على العراق دون سند قانوني يجيز لها ذلك، ودون تفويض من مجلس الأمن الدولي؛ منتهكة بذلك بشكل سافر وخطير وغير مسبوق كل القوانين والأعراف والمواثيق الدولية[23]؛ تحت دعوى أنها تمارس دفاعًا شرعيًا وقائيًا عن النفس ضد التهديد العراقي.
والحق إن هذه الحرب إنما تشكِّل انتهاكًا صارخًا لمبدأ وجوب التسوية السلمية للمنازعات الذي قررته الفقرة الثالثة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، وحددت وسائله -على سبيل المثال لا الحصر- الفقرة الأولى من المادة الثالثة والثلاثين منه؛ فخلافًا لالتزاماتها بموجب الميثاق وعضويتها في الأمم المتحدة؛ قامت الولايات المتحدة الأمريكية –ومعها بريطانيا- بانتهاك سافر وصريح لهذا المبدأ؛ من خلال استعجالها شن الحرب على العراق في وقت كان فيه الخلاف محلاً لنظر مجلس الأمن الدولي؛ والذي كان قد اتخذ بموجب السلطات والصلاحيات المخوَّلة له في الميثاق ما يلزم من إجراءات وتدابير لحمل العراق على الامتثال لما طالبه به القرار 1441، والذي وافقت عليها الدولتان المذكورتان ذاتهما؛ وهو ما استجاب له العراق فورًا وبتعاون تام أشارت إليه وأشادت به تقارير فرق التفتيش الدولية، والوكالة الدولية للطاقة الذرية المرفوعة إلى مجلس الأمن.
ولما كان الخلاف محلاً لنظر مجلس الأمن؛ فإنه يصبح هو الوحيد صاحب الأهلية في إدارته في مختلف مراحله، بدءًا من التوصية بحلِّه سلميًا -وهو ما تم في قراره 1441 من خلال اعتماده آلية التفتيش والرقابة على أسلحة العراق وأنشطته في هذا المجال- مرورًا بتحديد المسئول عن فشل محاولات التسوية السلمية (وهو ما لم يُتهَم به العراق)، وصولاً إلى تقرير التدابير العقابية التي تُوقَّع على الطرف المخلّ حال تحقق مسئوليته؛ وهو ما لم يفعله المجلس، وإنما فعلته الولايات المتحدة وبريطانيا بإرادة منفردة، رغمًا عن أنف مجلس الأمن، مع عدم تحقق مسئولية العراق عن إفشال آلية التسوية السلمية، بل في ظل تعاونه الكبير مع المسئولين عن إعمالها[24].
علاوة على هذا؛ فإن ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الصدد جاء معبرًا على نحو صادق عن سياسة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين؛ التي ما فتئت تمارسها في مواقف دولية عديدة.
وبخصوص قضية نزع السلاح التي نحن بصددها؛ فإننا نجد أنه في الوقت الذي تتغاضى فيه الولايات المتحدة الأمريكية عن سياسات وأنشطة وبرامج فعلية لدول -كإسرائيل- في مجال أسلحة الدمار الشامل، أو تغلَّب آليات التسوية السلمية لها في خصوص دول أخرى ككوريا الشمالية؛ فإنها أقامت الدنيا ولم تقعدها بخصوص أنشطة العراق التسليحية المزعومة التي لم تُثبِت سنواتٌ من المراقبة والتفتيش والتجسّس -وأشهُر عديدة من الاحتلال الفعلي للعراق- صحتها، واعتمدت في سبيل حل خلافها -المفتعل- مع العراق سبيل الحرب، في انتهاك سافر واعتداء صارخ على أهم قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي المعاصر؛ أعني قاعدة حظر استخدام أو التهديد باستخدام القوة في العلاقات الدولية[25].
أضف إلى هذا أن هذه الحرب إنما تعد مثالاً صادقًا على التدخل الدولي في الشئون الداخلية للدول؛ حيث هدفت إلى -وترتب عليها بالفعل- الإطاحة بنظام الحكم في العراق؛ وهو ما يعني انتهاكًا خطيرًا لسيادته في مظهرها الداخلي المتصل بالحق في اختيار نظام الحكم، أو النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وهذا هو المعنى الذي أكدت عليه محكمة العدل الدولية في حكمها في قضية الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية ضد نيكارجوا عام 1986؛ والذي تضمن رفضًا صريحًا لتدخل الولايات المتحدة الأمريكية ضد نيكارجوا؛ حيث اعتبرت المحكمة أن الاختيارات السياسة الداخلية لدولة ما – أيًا كانت طبيعتها- لا يمكن أن تكون مبرِّرًا لاتخاذ تدابير عقابية ضدها؛ ومن ثم التدخُّل في شئونها الداخلية.
وقد أشارت المحكمة في هذا السياق إلى أنه “أيًا ما كان الوصف الذي يمكن أن نعطيه لنظام الحكم في نيكارجوا؛ فإن تبنّي دولة لعقيدة معينة لا يشكل بحال خرقًا للقانون الدولي العرفي، والزعم بغير ذلك إنما يهدف إلى تفريغ مبدأ سيادة الدولة من محتواه؛ والذي يرتكن عليه كل القانون الدولي، وكذلك حق كل دولة في أن تختار نظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي. ومن ثم فإن الاختيارات السياسية الداخلية لنيكارجوا -حتى مع افتراض تطابقها مع الوصف الذي أضفاه عليها الكونجرس الأمريكي- لا يمكن أن تضفي شرعية قانونية على ما أقدمت عليه الولايات المتحدة من أفعال في حق نيكارجوا. وبالتالي فإن المحكمة لا يمكنها أن تقبل إنشاء قاعدة قانونية جديدة تعطي الحق لدولة في التدخل ضد أخرى؛ بسبب أن هذه الأخيرة قد اختارت إيديولوجية أو نظامًا سياسيًا خاصًا بها”.
وهكذا فقد انتهت المحكمة إلى رفض التبريرات المقدمة من جانب الولايات المتحدة بشأن أنشطتها العسكرية وشبه العسكرية في نيكارجوا وضدها، مؤكدة أن الولايات المتحدة قد انتهكت القانون الدولي والشرعية الدولية فيما يتعلق بما عليها من التزام دولي باحترام قاعدة عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى واحترام سيادتها، وكذلك الالتزام بعدم اللجوء إلى القوة في تسوية المنازعات الدولية[26].
وكما تقدمت الإشارة فإن الولايات المتحدة الأمريكية قد استندت -في محاولتها لإضفاء قدر من المشروعية على حربها ضد العراق- إلى ذريعة “الدفاع الشرعي الوقائي”، بدعوى امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل يهدد بها أمن ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية والعالم ككل؛ وهو ما يقتضي اللجوء إلى القوة لردع هذا التهديد والخطر العراقي قبل حدوثه. ومن ثم فالدفاع الشرعي الوقائي -المزعوم- في هذا الصدد لا يستند إلى الخوف من عدوان عراقي داهم وحالّ، وإنما إلى الخوف من خطر قادم ومحتمل يقوم به العراق ضد أمن الولايات المتحدة ومصالحها.
والواقع إنه في ضوء التطورات الجارية على الساحة الدولية، والحرب التي تشنها الولايات المتحدة ضد الإرهاب، ورغبتها في شن حروب “وقائية” ضد بعض الدول تحت دعوى حماية تلك الدول للإرهابيين وإيوائها لهم، أو امتلاك أسلحة دمار شامل بشكل يهدد أمن الولايات المتحدة الأمريكية وسلامتها، أو سلامة أصدقائها وحلفائها؛ فقد حظي موضوع “الحرب الوقائية” هذا ومشروعيتها باهتمام كبير من قبل المتخصصين في حقل القانون الدولي والعلاقات الدولية، خاصة مع تطبيق الولايات المتحدة لاستراتيجيتها الجديدة القائمة على مبدأ هذه “الحرب الوقائية” على نحوٍ ما بانت بوادره في حربيها ضد أفغانستان ثم العراق.
ولقد استند الخطاب الرسمي الأمريكي في تبريره لشن “الحرب الوقائية” هذه ضد العراق إلى عدة حجج[27]؛ أولاها- وجود حق طبيعي في الدفاع عن النفس اتقاءً لخطر عراقي وشيك الوقوع تمثّله ترسانة أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها العراق. ثانيتها- أن الولايات المتحدة توجد في حالة من الضرورة القصوى تجيز لها استعمال القوة للرد على هذا الخطر المحدِق بها. ثالثتها- فشل الأمم المتحدة في تحمُّل مسئولياتها في هذا الصدد من خلال إجبار العراق على تدمير ترسانة أسلحته هذه.
والحق إن هذه الذرائع لا تصمد بحال أمام التحليل العلمي الدقيق؛ فالحق الطبيعي في الدفاع الشرعي ضد التهديد العراقي الوشيك -ممثلاً في ترسانة أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها العراق-والذي استندت فيه الإدارة الأمريكية إلى تيار فقهي غربي ضعيف يزعم بمشروعية ممارسة الدفاع الشرعي عن النفس ليس فقط للرد على عدوان مسلّح وقع فعلاً، بل أيضًا للرد على عدوان محتمل أو وشيك الوقوع أو تهديد به؛ مستندًا في هذا -أي ذلك التيار الفقهي- إلى أن المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة -بإقرارها للحق الطبيعي في الدفاع عن النفس- إنما أرادت من وراء ذلك أن تحافظ على القاعدة العُرفية السابقة على تبنّي الميثاق (التي تسمح بالدفاع الوقائي عن النفس)[28]؛ وهو ما أكدته -في هذا الجانب من الفقه- الأعمال التحضيرية لميثاق الأمم المتحدة في هذا الشأن. هذا الحق في الدفاع الشرعي -وفق هذا التصور- لا يستند في الحقيقة إلى أساس قانوني سليم، ويرفضه الاتجاه السائد والغالب في الفقه الدولي المعاصر[29].
فالمادة الحادية والخمسون، من الميثاق كانت صريحة في اشتراطها لقيام حالة الدفاع الشرعي؛ وقوع عدوان مسلح بالفعل؛ حيث قرَّرت أنه: “ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول -فرادى أو جماعات- في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة”؛ فالعدوان المسلح الفعلي -وليس المحتمل أو المتخيل- هو الحالة الوحيدة التي تبرِّر إعمال تدابير الدفاع الشرعي عن النفس وتضفي عليها المشروعية. ومن ثم؛ فإن حق الدفاع الشرعي عن النفس يبقى معطلاً ما لم يصل الأمر إلى حد الاعتداء المسلح.
وهكذا يخلُص أصحاب هذا الاتجاه الفقهي الغالب إلى القول بأن النصَّ الوارد في المادة 51 من الميثاق -مفسرًا في ضوء أحكام الميثاق الأخرى، وبالأخص الفقرتين الثالثة والرابعة من المادة الثانية- يعتبرً قيدًا وتعديلاً في القواعد القانونية العُرفية السابقة والمتعلقة بالدفاع الشرعي؛ حيث تسمو القاعدة القانونية المكتوبة -سيما إذا كانت نصًا في ميثاق الأمم المتحدة (والذي هو أسمى المعاهدات الدولية قاطبة) على القاعدة القانونية العُرفية، علاوة على أنه لا اجتهاد مع نص صريح[30].
ومن المعلوم أن مبادئ التفسير -المتفق عليها- للوثائق القانونية الدولية إنما تقتضي تكامل نصوص المعاهدة؛ بحيث تشكل كلاً واحدًا، وبحيث إن كل نص من نصوصها ينبغي أن يُفسر في ضوء نصوصها وأحكامها الأخرى؛ ومن ثم فالمادة 51 من الميثاق يتعيَّن أن تُفسر باعتبارها استثناء من القاعدة العامة التي تحظر الحرب، وبالتالي لا يجب أن تتعارض هذه المادة مع غيرها من مواد الميثاق؛ حيث يؤدي التوسُّع في تفسيرها إلى توسيع دائرة استخدام القوة في العلاقات الدولية؛ وهو ما يتناقض مع أهداف الميثاق ومبادئه.
أما الإشارة إلى الأعمال التحضيرية للمادة 51 باعتبارها دليلاً على مشروعية الحرب الوقائية؛ فيعد في الحقيقة استنادًا غير قانوني، وتحميلاً لهذه الأعمال التحضيرية ما لا تتحمله بالفعل؛ ذلك أن نص المادة المذكورة كان قد أُدخل في الميثاق بناءً على اقتراح دول أمريكا اللاتينية، وقد تمت الموافقة عليه دون أي تعديل، ودون أن يثار نقاش حول معنى الدفاع الشرعي الوارد فيه وحدوده ونطاقه؛ ليس بهدف ترك ذلك للعُرف الدولي كما يزعم المدافعون عن مشروعية “الحرب الوقائية”؛ ولكن لأن النص المقترح آنذاك كان واضحًا ولا يحتمل اللبس في معناه، وبحيث لم يكن من المتصور أن يثور خلاف حوله. فعبارات المادة -كما تقدمت الإشارة- واضحة في اشتراط أن يكون هناك هجوم أو اعتداء مسلح وقعَ بالفعل على دولة ما حتى يمكن القول بنشوء حق لها في الدفاع الشرعي عن النفس[31].
كما أن اشتمال الميثاق على الالتزام بضرورة نبذ القوة واستخدام الوسائل السليمة لتسوية أي نزاع من شأن استمراره أن يؤدى إلى تعريض السلم والأمن الدوليين للخطر، وكذلك الالتزام بضرورة عرض أي نزاع فشل أطرافُه في تسويته بالطرق السلمية على مجلس الأمن (م 37/1) ينفي بالضرورة مشروعية الدفاع الشرعي الوقائي عن النفس؛ بالنظر إلى أن جوهر الحرب الوقائية هذه يكون افتراض وجود خطر أو تهديدًا بوقوع هجوم وشيك؛ وهى الحالة التي أوجب الميثاق فيها ضرورة عرض الأمر على مجلس الأمن إذا فشل أطرافه في تسويته سلميًا، وكل ما يمكن للدولة قانونًا أن تفعله -حال استشعارها بالخطر- هو أن تقوم باتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة لصد العدوان إذا وقعَ بالفعل؛ من قبيل إعداد قواتها المسلحة ودفاعاتها العسكرية إعداداً جيداً، وإعلان حالة التأهُّب القصوى، وتجهيز القاعدة الشعبية والاقتصادية اللازمة لضمان النجاح في صد هذا العدوان المحتمل؛ وهى التدابير التي قد يؤدي اتخاذها بالفعل إلى منع العدوان المحتمل. ولكن لا يجوز لها بحال أن تبادر بالهجوم بحجة وجود هذا الخطر المحتمل.
ولقد اشترط قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3314 لسنة 1974 بشأن تعريف العدوان ثلاثة شروط أو معايير للقول بأن ما حدث يعد عدوانًا؛ يبرر من ثم الدفاع الشرعي: أولها- المعيار الإقليمي؛ بمعنى أن يستهدف العدوان إقليم الدولة. وثانيها- معيار الأسبقية أو المبادرة؛ بمعنى أن يكون فعل العدوان سابقًا زمنيًا على فعل الدفاع عن النفس. وثالثها- معيار الخطورة؛ بمعنى أن يكون استخدام القوة على درجة كبيرة من الخطورة لكي يكيف على أنه عدوان. ومن ثم فإن التهديد بالعدوان أو حتى إعمال القوة التي لا تصل إلى درجة كبيرة من الخطورة (كالمناوشات الحدودية البسيطة) لا تقوم سنداً كافيًا ومشروعًا لإعمال تدابير الدفاع عن النفس؛ وهى شروط أو معايير تنبع الحاجة إليها من أن إثارة حق الدفاع الشرعي خارج فرضية العدوان المسلح -بهذا المعنى- سيفتح الباب على مصراعيه أمام كافة أشكال التجاوزات المسلحة، وسيؤدي بالتالي إلى إفراغ قاعدة حظر استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية من أي مغزى حقيقيٍّ لها[32].
أما القول بأن الولايات المتحدة كانت في حالة من الضرورة قد أوجدها فيها التهديد العراقي؛ بما يجيز لها استعمال القوة لدفع هذا الخطر المحدق بها؛ وهى الحجة التي استُند فيها إلى قول بعض فقهاء القانون الدولي من أن الضرورة هي الحالة التي يستحيل فيها التصرف بوسيلة أخرى غير مخالفة القانون؛ فحالة الضرورة هذه -والتي تقتضي صحة إثارتها والتمسك بها تعرُّض الدولة لخطر جسيم يهددها في وجودها ذاته ولا يكون لإرادتها أي دخل في حدوثه، وعلى النحو الذي لا يمكنها ردُّه (أي هذا الخطر) إلا بإهدار مصالح وحقوق الدول الأخرى- تبقى في الحالة التي نحن بصددها حُجة واهية وتكذبها المعطيات الفعلية على أرض الواقع.
فالولايات المتحدة لم توجد أصلاً في حالة من الضرورة للدفاع عن أمنها ووجودها ضد الخطر العراقي المزعوم؛ فلم يثبت -لا قبل العدوان الأمريكي على العراق ولا بعده- أن ثمة خطرًا شديدًا بالفعل يمثله العراق على أمن الولايات المتحدة ومصالحها من جانب، كما لم يثبت أن العراق قد تقاعس -في الفترة السابقة على الحرب مباشرة على الأقل- عن الامتثال لقرارات مجلس الأمن المتعلقة بالرقابة والتفتيش على أسلحته التي تخشاها -زعمًا- الولايات المتحدة على أمنها وعلى أمن العالم ككل من جانب ثان، ناهيك عن أن حالة الضرورة -بفرض تحققها في الحالة التي نحن بصددها- لا يمكن التمسك بها إلا حال فشل الوسائل السلمية لتسوية النزاع؛ وهو ما لم يحدث كما تقدمت الإشارة، أضف إلى هذا أن لجنة القانون الدولي كانت قد عمدت -عند تناولها لحالة الضرورة كمبرر وسبب لاستبعاد المشروعية أعمال القوة التي تتم على أساسها- إلى تنظيم هذه الفرضية تنظيمًا دقيقًا ومحكمًا، وأخضعتها لمجموعة من القيود والشروط التي ينبغي توفرها مسبقًا للإقرار بصحة إثارتها، وبالتالي القول بمشروعية أعمال القوة التي تتم على أساسها.
فقد قرَّرت الفقرة الثانية من المادة الثالثة والثلاثين من مشروع اللجنة حول المسئولية الدولية أن حالة الضرورة تبقى في بعض الحالات مستبعدة كليًا؛ وذلك في حالة تعارضها على سبيل المثال مع قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي؛ بحيث لا يجوز لدولة أن تتحلل بشكل منفرد من الالتزامات التي تفرضها عليها هذه القواعد الآمرة، حتى لو بلغت حالة الضرورة هذه غاية مداها. ومن ثم تشير الفقرة المذكورة إلى الالتزام ذي الطابع الآمر القاضي بحظر المساس بالوحدة الترابية والاستقلال السياسي لدولة أخرى عن طريق استعمال القوة المسلحة. وبعبارة أخرى؛ فإن القواعد القانونية الدولية الآمرة -وعلى رأسها قاعدة حظر استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية- تبقى بمنأى عن إمكانية التحلل منها تحت دعوى حالة الضرورة؛ حتى ولو بلغت هذه الأخيرة -حقيقة- غاية مداها[33].
ومن ثم؛ فإن إثارة حالة الضرورة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية لا يقوم كمبرر سليم ومشروع للحرب ضد العراق؛ فناهيك عن أن حالة الضرورة هذه غير متحققة أصلاً في صدد العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية (القوة العسكرية الأولى في العالم) والعراق؛ فإن المادة 33/2 من مشروع لجنة القانون الدولي -سالفة الإشارة- تنفي إمكانية اللجوء إلى هذه الحُجَّـة لاستخدام القوة بالمخالفة للفقرة الرابعة من المادة الثانية من الميثاق.
أما الادعاء بعجز الأمم المتحدة عن تحمُّل مسئولياتها في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، بفشلها في إرغام العراق على تدمير ترسانته من أسلحة الدمار الشامل؛ والتي تشكل -في زعم الولايات المتحدة- تهديدًا للسلم والأمن الدوليين؛ وهو ما يبرر استخدامها (أي الولايات المتحدة) للقوة ضد العراق لإزالة هذا الخطر (وهو الادعاء الذي يجد سندًا له في كتابات بعض فقهاء القانون الدولي الغربيين، الذين يرون أن الحـظر الوارد في الفقرة الرابعة من المادة الثانية على استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية لا يُعمل به إلا في الحالة التي يكون فيها نظام الأمن الجماعي الذي جاء به الفصل السابع من الميثاق فعَّالاً ومعمولاً به الفعل؛ ومن ثم فإن فعالية نظام الأمن الجماعي هي شرط أساسي للالتزام بأحكام المادة 2/4 من الميثاق، وبالتالي فإن تقصير مجلس الأمن أو عجزه عن تفعيل مقتضيات هذا النظام، وكذا عدم احترام دولة ما لقرارات المجلس في هذا الصدد؛ من شأنه السماح لأعضاء الأمم المتحدة الآخرين بالتحلل من الالتزام المفروض عليهم بموجب المادة 2/4)؛ فهو ادعاء لا يقوم على منطق قانوني سليم؛ فليس في ميثاق الأمم المتحدة ما يوحي بأن الالتزام الآمر بحظر اللجوء إلى القوة في العلاقات الدولية يوجد مرهونًا أو مشروطًا بتطبيق مقتضيات نظام الأمن الجماعي؛ والذي يبقى مجرد استثناء على القاعدة العامة؛ لأنه لو كان الأمر كذلك فإن الميثاق سيكون قد وقع في تناقض بين مبادئه وأهدافه من جانب، ويكون قد فتح الباب واسعًا أمام الدول الكبرى لاستخدام القوة ضد الدول الصغرى من جانب ثان، ويهدم كل إنجازات القانون الدولي المعاصر في مجال حظر استخدام القوة في العلاقات الدولية رأسًا على عقب من جانب ثالث.
ولقد أشار القضاء الدولي غير مرة إلى هذا المعنى. ففي حكمها في قضية مضيق كورفو عام 1949 أشارت محكمة العدل الدولية إلى أن قاعدة “حظر اللجوء إلى القوة في العلاقات الدولية” تفرض ذاتها أيًا كانت نواقص المنظمة الدولية الحالية. وفي حكمها في قضية نيكارجوا عام 1986 أكدت المحكمة أن تحريم اللجوء إلى القوة في العلاقات الدولية لا يشكل قاعدة اتفاقية فحسب؛ بل هو قاعدة عُرفية تفرض نفسها في استقلال تام عن ميثاق الأمم المتحدة[34]، هذا ناهيك عن أنه لم يثبُت بحال عجز الأمم المتحدة أو فشلها في أداء دورها في هذا الصدد، وما قرار مجلس الأمن 1441 إلا خطوة في هذا السبيل؛ كان من الممكن أن تؤدي إلى تسوية الأزمة سلميًا لو تركت لها فرصة حقيقية لذلك.
حاصل القول: إن تحريم اللجوء إلى القوة في المادة 2/4 من الميثاق هو تحريم صريح وواضح وعام في مداه، لا ترد عليه أي استثناءات غير تلك التي نص عليها الميثاق صراحة في المادة الحادية والخمسين (حالة الدفاع الشرعي)، وفي الفصل السابع (نظام الأمن الجماعي)، إضافة إلى ما قررته المنظمة ذاتها من حق حركات التحرر الوطني في حمل السلاح دفاعًا عن الحقوق المشروعة لشعوبها. وتبقى هذه الاستثناءات -رغم محدوديتها- خاضعة لشروط دقيقة وقيود صارمة بُغية قطع الطريق على كل انحراف عن جوهرها أو تعسُّف في ممارستها؛ كذلك الذي تُمثِّله دعوى “الدفاع الوقائي” التي رفعتها الولايات المتحدة لتبرير عدوانها على العراق.
والحق إن هذه الحرب قد أبانت عن النوايا والمطامع الأمريكية في السيطرة على نفط العراق[35]؛ الذي تبدو أهميته الاستراتيجية بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية فيما يؤدي إليه من إنعاش لاقتصادها، وتعويض عن النقص الكبير في احتياطاتها الاستراتيجية من النفط (والتي تراجعت بشكل كبير في السنوات القليلة السابقة على الحرب)؛ وهو ما يفسر إسراع القوات الأمريكية بالسيطرة على حقول النفط العراقية بعد الغزو، وحمايتها لوزارة النفط العراقية دون غيرها من الوزارات والمصالح الحكومية إثر موجة النهب والسلب التي عمت البلاد بعد الإطاحة بالنظام هناك، وكذلك إصدار الكونجرس الأمريكي قرارًا يقضي بحرمان الشركات المنتمية للدول التي لم تشارك في الحرب من عقود إعمار العراق؛ بما فيها عقود امتيازات التنقيب عن البترول واستخراجه وتسويقه، علمًا بأن السيطرة على النفط العراقي سيضع في يد الولايات المتحدة ورقة ضغط ذات أهمية استراتيجية كبرى، يمكنها أن تستخدمها في فرض هيمنتها الاقتصادية على العالم، والتحكم في رقاب باقي الدول الكبرى الطامعة في لعب دور قطب دولي منافس للولايات المتحدة على الساحة العالمية.
ومن ثم؛ كانت المصالح الأمريكية -وليس أي دعاوى قانونية أو سياسية أخرى- هي السبب في محاولة تحريف مفهوم الدفاع الشرعي الذي تذرعت به الولايات المتحدة في حربها ضد العراق، دونما سند من القانون أو أساس من المشروعية، اللهم إلا ذلك المبدأ الذي رفعه الرئيس بوش في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001؛ والقائم على فكرة “الحرب الوقائية”، والتي أبان التحليل المتقدم أنها تتعارض تمامًا مع قواعد الشرعية الدولية، ومع المصلحة الدولية المشتركة العامة؛ ممثلة بالأساس في هدف حفظ السلم والأمن لجميع الدول كبيرها وصغيرها.
وبعيدًا عن الخوض في الأسباب الحقيقية للحرب الأمريكية على العراق، فإنه يمكن القول إن الولايات المتحدة الأمريكية بشنها هذه الحرب -دون سند من القانون- إنما تكون قد عادت بالمجتمع الدولي إلى قانون الغاب؛ حيث “القوة تخلق الحق وتحميه”، وتكون قد ألغت جهود الفقهاء والفلاسفة والسَّاسة الذين سعوا إلى تثبيت أسس القانون الدولي المعاصر، وإقامة عصر التنظيم الدولي؛ لضبط العلاقات بين أشخاص المجتمع الدولي، وعادت به إلى عصور القرون الوسطى حين كانت الحروب تُشَن لتحقيق مصالح الدولة بغض النظر عن اعتبارات القانون والأخلاق الدولية.
وهكذا؛ فكأننا ونحن في بدايات القرن الحادي والعشرين مازلنا بالأمس غير القريب نقرأ مع هانز مورجانثو ما كتبه من أنه: “ليس ثمة طريقة أضعف أو أكثر بدائية في تطبيق القانون من هذه الطريقة؛ إذ إنها تخضع إنفاذ القانون لما في توزع القوى -بين المعتدي على القانون وضحية الاعتداء- من شرور؛ فهي تجعل القوي قادرًا على انتهاك القانون وتطبيقه؛ معرِّضة بذلك حقوق الضعفاء للخطر. وفي وسع الدولة العظمى أن تعتدي على حقوق الدول الصغرى، دون أن تخشى التعرُّض لعقوبات فعالة من جانب المعتدى عليها. وفي وسعها أن تمضى في عدوانها على أي دولة صغيرة تحت ستار إجراءات التنفيذ بحجة أن الدولة الصغيرة قد اعتدت على حقوقها، دون أن تهتم بما إذا كان الخرق المزعوم للقانون الدولي قد وقع فعلاً أو إذا ما كان من الخطورة؛ بحيث يبرر صرامة الإجراءات التي قامت بها[36]”.

ب) تحديد معنى الإرهاب الدولي:

يعد مفهوم “الإرهاب” واحدًا من أكثر المفاهيم السياسية المعاصرة إثارة للجدل والخلاف؛ فمن ناحية التعريف ليس هناك اتفاق -في الفقه والممارسة- على معنى محدد له؛ الأمر الذي يعني أن بإمكان البعض إضفاء صفة الإرهاب على أعمالٍ هي أبعد ما تكون عن الإرهاب؛ كأعمال المقاومة المسلحة التي تمارسها حركات التحرر الوطني من أجل الاستقلال وتقرير المصير، وأنه بإمكان الآخرين نزع هذه الصفة عن أعمالٍ هي أقرب ما تكون إلى الإرهاب، أو إن شئت فقل إنها أعلى مراحل الإرهاب وصوره كالأعمال الإرهابية التي قد تمارسها الدولة ضد معارضيها السياسيين، أو تلك التي يمارسها المحتل ضد شعب الإقليم الخاضع للاحتلال؛ فيما يعرف بإرهاب الدولة.
ومن ناحية الأسباب؛ هناك من يُرجعه -دون وجه حق- إلى تعاليم دين معين أو ممارسات حضارة بعينها؛ من قبيل محاولات بعض مفكري الغرب وبعض حكوماته إلصاق تهمة الإرهاب بالحضارة الإسلامية وتعاليم الدين الإسلامي، على حين يُرجعه آخرون -بحق- إلى اعتبارات سياسية؛ كالاضطهاد السياسي والاحتلال الأجنبي، أو اعتبارات اقتصادية؛ كالتفاوت الطبقي والاحتكارات العالمية، أو اعتبارات اجتماعية؛ كانتشار الجهل والأمية والممارسات العنصرية الصارخة، أو إليها جميعها بدرجات ونسب متفاوتة.
ومن ناحية وسائل العلاج والمواجهة؛ هناك من يركِّز على الجوانب الأمنية والعسكرية فحسب؛ على نحو ما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية داخليًا وخارجيًا في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وهناك من يرون وجوب إزالة كافة الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية لضمان المواجهة الفعَّالة لهذه الظاهرة[37].
وإذا كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 -والتي تعد أخطر ما عرفه العالم في تاريخه من أعمال الإرهاب الدولي- تمثل نقطة فارقة في تاريخ العلاقات الدولية المعاصرة؛ حيث ترتّب عليها نتائج شديدة الخطورة كان على رأسها انفراد الولايات المتحدة الأمريكية برفع راية “الحرب الدولية ضد الإرهاب”، ومحاولتها فرض مفهومها للإرهاب وطريقة مواجهته على غيرها من دول العالم، ثم ما أعقب ذلك من شنها حربًا شرسة -أو إن شئت الدقة فقل عدوانًا- ضد أفغانستان تحت ادعاء أن نظام الحكم فيها هو المسئول عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ بدعمه وحمايته لتنظيم القاعدة الذي تتهمه الولايات المتحدة بالمسئولية عن هذه الأحداث؛ فإنها كانت واحدة من أهم الحلقات في سلسلة مساعي الولايات المتحدة الأمريكية الحثيثة لتعديل قواعد القانون الدولي المستقرة بما يتوافق مع مصالحها وأهدافها.
والحق إنه إذا كان استخدام العنف أو القوة المسلحة هو القاسم المشترك بين التعريفات المختلفة بصدد الإرهاب؛ فإن ثمة تباينًا كبيرًا فيما وراء ذلك بين من تصدُّوا للتعريف به. ولعل مرد ذلك إلى اختلاف المصالح والأهداف والأهواء السياسية للأطراف المختلفة؛ حيث تصف الحكومات أعمال معارضيها العنيفة بالإرهاب، ويصف به الأخيرون ممارسات حكوماتهم ضدهم. وفي مجال العلاقات الدولية كثيرًا ما تصف كل دولة خصمٍ في نزاع معين أعمال الدولة الأخرى في صدد هذا النزاع بأنها من قبيل الأعمال الإرهابية[38]. ليس هذا فحسب؛ بل إن مصطلح الإرهاب يستعمل لوصف أعمال الكفاح الذي تخوضه حركات التحرر الوطني والمقاومة الشعبية المسلحة في صراعها ضد الاحتلال الأجنبي والممارسات العنصرية الصارخة؛ بغية انتزاع حقها المشروع في الاستقلال والحرية وتقرير المصير، كما يستعمل لوصف ما قد تقدمه دولة من الدول من دعمٍ لهذه الحركات في كفاحها المشروع هذا.
ومن ثم؛ فإنه على الرغم من الإجماع على إدانة الإرهاب باعتباره خطرًا يهدد أمن البشرية واستقرارها، والإجماع على وجوب مواجهته بكافة السُّبل للحيلولة دون تفاقم آثارِه بالغةِ الخطورة على المستويين الوطني والدولي؛ فإن هذا الإجماع يبقى شكليًا فحسب بالنظر إلى نسبية مفهوم الإرهاب، والخلاف حول تحديده بشكل قاطع يرضي عنه الجميع، أو ترضى عنه الأغلبية على الأقل؛ وهو الخلاف الذي واكبَ كل المحاولات التي جرت لمناقشة موضوع الإرهاب، ووقف عقبة كئودًا أمام كل الاعتبارات والمعايير القانونية الصحيحة فيما يتعلق بتحديد مصطلح الإرهاب[39].
غير أن هذا لا ينفي أن جهودًا مضنية قد بذلت في سبيل تحديد مفهوم الإرهاب من الناحية القانونية؛ وهى جهود أخذت مسارات عدة كان من بينها مؤتمرات واتفاقيات دولية عُقدت في هذا الصدد، كما كان من بينها الجهود المكثفة التي بذلتها الأمم المتحدة في قرارات جمعيتها العامة، وفي مناقشات وأعمال اللجنة السادسة التابعة لها، بالإضافة إلى جهود اللجنة الخاصة التي كلفتها الجمعية بدراسة موضوع الإرهاب الدولي ومحاولة تعريفه، وتحديد الأسباب الكامنة خلفه، وسبل الوقاية منه ومكافحته؛ علاوة على الجهود الفقهية العديدة التي بذلت في ذات السبيل.
وجدير بالذكر في هذا الصدد أن غياب نصٍّ قانوني دولي يحدد معنى الإرهاب بشكل محدد وقاطع لم يمنع ظهور نصوص دولية تُجرِّم بعض الأفعال التي اتُفق على كونها من قبيل الأعمال الإرهابية؛ كاختطاف الطائرات، أو الاعتداء على الأشخاص المتمتعين بحماية دولية كرؤساء الدول.
ولقد كان من إنجازات ندوة بروكسل حول تعريف الإرهاب ومقاومته لعام 1973؛ محاولتها وضع معايير معينة لتمييز العمل الإرهابي؛ كان من بينها معيار براءة الضحية؛ بمعنى أن العمل يعد إرهابيًا إذا كان ضحاياه من بين الأشخاص الأبرياء. بيد أن نسبية المعايير وتعارض المصالح بين الدول حالت دون الاتفاق على معيارٍ محدد في هذا الصدد.
وفي عام 1975؛ ناقش مؤتمر الأمم المتحدة الخامس لمنع الجريمة ومعاملة المدنيين في مدينة جنيف مشكلة الإرهاب الدولي، واقترحَ في محاولة لتحديد مفهومه وجوب التمييز بين نوعين من أعمال العنف؛ أعمال يرتكبها فرد أو جماعة بهدف تحقيق مكاسب شخصية أو مادية؛ كاختطاف الطائرات للابتزاز، وأخذ الرهائن للحصول على فدية مالية؛ وهذه أعمال إرهابية دون مراء، وأعمال لا تُرتكب لتحقيق غايات شخصية أو مكاسب مادية لمرتكبيها؛ وإنما خدمة لقضية يؤمنون بها، ويشعرون بالالتزام تجاهها؛ مثل أعمال المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الأجنبي والنظم التي تمارس تفرقة عنصرية صارخة ضد جزء من الشعب الخاضع لها؛ وهذه لا يمكن أن تعد من قبيل الأعمال الإرهابية بحال؛ بل هي أعمال مشروعة بموجب أحكام القانون الدولي المعاصر.
وفي سبيل تحقيق التمييز بين هذين النوعين من الأعمال رأى بعض المشاركين في المؤتمر أن يكون الدافع من وراء العمل هو العنصر الحاسم والمعيار المميز، على حين رأى آخرون أن تكون براءة الضحية هي هذا المعيار. ولعل النقطة العملية التي تستحق التقدير في أعمال هذا المؤتمر؛ هي عدم إغفاله لظاهرة الإرهاب الرسمي المنظم، أو ما يسمى بإرهاب الدولة الذي تمارسه الدول الاستعمارية والنظم الاستبدادية، والتي تقف على رأس الأسباب المحركة والدافعة لتزايد وتنامي ظاهرة العنف السياسي الداخلي والعابر للحدود على السواء.
والحق إن المعيار القانوني السليم في التمييز بين أعمال العنف المشروعة (والتي تمارسها حركات التحرر الوطني على سبيل المثال) وبين الإرهاب؛ إنما يقوم على أساس مشروعية استعمال القوة أو عدم مشروعيته؛ حيث نكون في الحالة الأولى أمام وضع يحميه القانون ويرفع عنه صفة الجريمة، ونكون على العكس من ذلك في الحالة الثانية[40]. وما الخلاف حول هذا المعيار إلا نتيجة للخلط المتعمَّد من جانب عدد من الدول بين مفهوم الكفاح المسلح (والذي يندرج من الناحية القانونية تحت أحكام اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 والبرتوكول الإضافي المكمل لها لعام 1977) وبين الأعمال الإرهابية التي لا ترقى في أهدافها إلى مستوى المقاومة المسلحة بمعناها القانوني السليم[41].
والواقع إننا إذا ما استعرضنا الجهود التي قامت بها الأمم المتحدة في العقود الأخيرة في مجال التصدي لظاهرة الإرهاب؛ لوجدنا أساسًا صلبًا يمكن البناء عليه، وهو يتمثل في مجموعة من المعاهدات التي تشكل سلاحًا مهمًا في الحرب الدائرة ضد الإرهاب؛ ويبلغ عددها اثنتي عشرة معاهدة تتناول كل منها جانبًا محددًا من جوانب الجهود الرامية إلى القضاء على الإرهاب[42]، هذا بالإضافة إلى الإعلان الصادر عن الدورة التاسعة والأربعين للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1994 بشأن التدابير الرامية للقضاء على الإرهاب الدولي؛ وهو الإعلان الذي تضمن -رغم عدم تعريفه للإرهاب الدولي تعريفًا محددًا- مجموعة من المبادئ والإجراءات والتوصيات التي تخاطب مختلف الدول بإدانة قاطعة لجميع أعمال الإرهاب وأساليبه وممارساته؛ والتي تشكل انتهاكًا صارخًا وخطيرًا لمقاصد وأهداف ومبادئ الأمم المتحدة.
ولقد أعادت قرارات الأمم المتحدة التالية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 التأكيد على ذات المعاني؛ ففي اليوم التالي للأحداث أكد مجلس الأمن في قراره رقم 1368 خطورة هذه الأحداث الإرهابية، وكونها تشكل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين، مقرًا للولايات المتحدة الأمريكية بحق الدفاع الشرعي في هذا الصدد، مطالبًا الدول الأخرى بالعمل على تقديم مرتكبي هذه الجريمة إلى العدالة؛ ومن ثم كانت الحرب على أفغانستان تستند في شرعيتها إلى مضمون هذا القرار، وإلى خطاب الرئيس الأمريكي إلى مجلس الأمن الدولي في الثامن من أكتوبر 2001؛ والذي يبلغه فيه بعزمه على توسيع بلاده مجالَ عملياتها العسكرية إلى تنظيمات إرهابية ودول أخرى تأوي الإرهاب، أو تقصِّر في مكافحته[43].
ومما تجدر الإشارة إليه في هذه الصدد أن قرار مجلس الأمن رقم 1368 هذا لم يعرِّف الإرهاب تعريفًا دقيقًا؛ ومن ثم يبقى التصور الأمريكي له هو الفيصل في تحديد ما يعد إرهابًا من عدمه، وفي تحديد الدول المستهدفة بالإجراءات الأمريكية المتخذة، في إطار ما منحها القرار من حق “الدفاع الشرعي” عن النفس، وفي إدراج ما تراه من حركات سياسية (حتى ولو كانت حركات تحرُّر وطني مشروعة وفقًا لقواعد القانون الدولي المستقرة؛ كحزب الله اللبناني وحركتي الجهاد وحماس الفلسطينيتين) في قائمة الحركات الإرهابية التي يتعين القضاء عليها.
كذلك تجدر الإشارة إلى أن قرار المجلس المذكور في إشارته إلى حق الولايات المتحدة في الدفاع الشرعي عن النفس قد تجاوز ما انتهى إليه الفقه الدولي المعاصر من شروط لحالة الدفاع الشرعي؛ حيث يتعين أن يكون فعل العدوان -الذي يبرر الدفاع- حالاًّ، وأن يوجَّه فعل الدفاع إلى مصدر العدوان ذاته، وأن يكون ثمة تناسب بين فعل الدفاع وفعل العدوان[44]؛ وهو ما لا ينطبق بحال على الحرب الأمريكية ضد أفغانستان؛ حيث لم يكن فعل العدوان -بفرض ثبوت مسئولية أفغانستان عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر- حالاً؛ فلقد تم وانتهى، ولم يعد ثمة مبرر للدفاع في مواجهته. ولم يوجَّه فعل الدفاع -بفرض أن الحرب الأمريكية ضد أفغانستان هي فعل دفاع- ضد مصدر العدوان ذاته؛ فالغارات الأمريكية ضد أفغانستان طالت الشعب الأفغاني في مجمله، ولم تترك أخضرَ ولا يابسًا إلا وأتت عليه، ناهيك عن أن التناسب بين فعليْ الدفاع والعدوان تناسُب معدوم جملةً وتفصيلاً؛ فأين هي تفجيرات نيويورك وواشنطن من الغارات الأمريكية التي طالت كل أرض أفغانستان بكل أنواع الأسلحة التي تعجُّ بها الترسانة الأمريكية عدا أسلحة الدمار الشامل.
أضف إلى هذا أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تُبلغ مجلس الأمن -في رسالة بوش سالفة الإشارة- بما اتخذته من إجراءات في إطار “الدفاع الشرعي” عن النفس (على نحو ما افترضت المادة الحادية والخمسون من الميثاق) وإنما بما تزمع أن تتخذه في المستقبل؛ وهى جميعها مما يتعارض وشروط حالة الدفاع الشرعي المشار إليها آنفًا. ورغم هذا لم تلقَ رسالة بوش إلى مجلس الأمن هذه تعليقًا -أو بالأحرى تفنيدًا- من المجلس، أو من الأمين العام للأمم المتحدة[45]. وعلى ذات الدرب سار قرار مجلس الأمن رقم 1373 الصادر في الثامن والعشرين من سبتمبر 2001؛ والذي لم يعرِّف الإرهاب واكتفى بالحديث عن الإجراءات المطلوبة لمكافحته داخليًا ودوليًا[46].
وهكذا؛ وتحت دعوى محاربة الإرهاب، وبقبول صريح أو ضمني من الغالبية العظمى من دول العالم، وبغطاء من شرعية دولية تمثلت في قرار مجلس الأمن 1368 (والذي اعتبر أحداث الحادي عشر من سبتمبر بمثابة تهديد للسلم والأمن الدوليين؛ مانحًا الولايات المتحدة الأمريكية الحق في الدفاع الشرعي عن النفس في مواجهة مثل هذه الأعمال ومرتكبيها)؛ بدأت الولايات المتحدة حربها على الإرهاب في أفغانستان في أكتوبر 2001؛ بهدف إسقاط نظام حكم طالبان والقضاء على تنظيم القاعدة الذي تتهمه بالمسئولية الكاملة عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
ودون دخول في مزيد من التفاصيل حول مشروعية هذه الحرب؛ حيث لم تقدم الولايات المتحدة دليلاً واحدًا مؤكدًا على مسئولية تنظيم القاعدة ونظام حكم طالبان -الذي يوفر له الملجأ والحماية- عن هذه الأحداث، ناهيك عن خروجها على مقتضيات نظام الأمن الجماعي الذي أتى به ميثاق الأمم المتحدة، ومخالفتها لشروط حالة الدفاع الشرعي كما حددها الفقه الدولي المعاصر؛ فإن هذه الحرب كانت مثالاً واضحًا على المحاولات الأمريكية الرامية إلى تغيير قواعد القانون الدولي المستقرة بما يحقق مصالحها، ولو ترتب على ذلك العصفُ بالنظام القانوني الدولي المعاصر في مجمله.
فهذا التحرك (اتهام طالبان والقاعدة فورًا بالمسئولية عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر) دون إعلان حرب من جانب الكونجرس، ودون أي أساس دستوري؛ أدى إلى تحويل ما كان يمكن في الظروف العادية أن يكون عملاً بوليسيًا لاعتقال مجرمين، إلى لعبة استراتيجية واسعة لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وتوسيع الهيمنة الأمريكية؛ حيث جرى إنشاء العديد من القواعد العسكرية الأمريكية -منذ بدء الحرب على الإرهاب- بالقرب من خطوط أنابيب النفط حول بحر قزوين؛ والتي تشكل عائدًا مهمًا للغاية من عوائد هذه الحرب، سعيًا من واشنطن إلى تعزيز مركزها الاستراتيجي في المنطقة ببناء قواعد عسكرية في كازاخستان، وخطوط حديدية ومستودعات تخزين ومراكز اتصال في أوزبكستان[47].
والحق إن “الحرب ضد الإرهاب” قد أصبحت هي العامل الأساسي في صياغة التفاعلات السياسية الدولية في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، وفي بناء تحالفات جديدة على حساب غيرها من العوامل [48]. أو إن شئت فقل إنها أصبحت المبرر لسياسة خارجية توسعية أمريكية تهدف إلى إعادة رسم الخريطة العالمية من الناحية الاستراتيجية.
وبغض النظر عن مشروعية الغاية التي أُعلنت من أجلها هذه الحرب؛ فإن الطريقة التي أديرت بها لم تؤدِّ إلى استئصال خطر الإرهاب؛ بل هددت -على العكس- بتعظيم مخاطره وتوسيع نطاقه (وما تفجيرات الرياض والدار البيضاء الأخيرة إلا دليلاً على ذلك) من خلال تغذية التربة السياسية والثقافية الحاضنة له بشرايين جديدة، وبسبب تدني ثقة الشعوب والأفراد بقواعد القانون الدولي ومؤسساته وعلى رأسها الأمم المتحدة؛ وهى ترى (أي هذه الشعوب والأفراد) الدولة الكبرى التي يُفترض فيها قيادة النظام الدولي والعمل على إنفاذ قواعد القانون الدولي الحاكمة له؛ هي أول من تضرب بهذه القواعد والمؤسسات الراعية لها والمعبرة عنها عُرض الحائط، ونظرًا لتنامي الشعور بالظلم وعدم الاقتناع بإمكانية معالجة القضايا العادلة للشعوب والجماعات بحلول منصفة تقوم على مبادئ العدل والإنصاف والحق في تقرير المصير، والمساواة؛ وما قضية فلسطين سوى مثال بارز في هذا السياق.
فبدلاً من الدفع في سبيل حلها (استنادًا إلى قواعد القانون الدولي ذات الصلة؛ وعلى رأسها الحق في تقرير المصير وعدم مشروعية الاحتلال والاستيلاء على أراضي الغير بالقوة المسلحة، ومشروعية المقاومة ضد قوات الاحتلال ومؤسساته) تم تكريس الاحتلال وتوسيع نطاقه، وغض الطرف عن المجازر التي ترتكبها قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين؛ تحت دعوى -أيدتها الولايات المتحدة الأمريكية صراحة غير مرة- أن ذلك بمثابة دفاع شرعي عن النفس، وجزء من الحرب ضد الإرهاب[49].
وقد وصفت أعمال المقاومة المسلحة المشروعة من جانب حركات التحرر الوطني في فلسطين ولبنان -ثم في العراق أيضًا بعد احتلاله- بأنها أعمال إرهابية يتعين القضاء عليها وعلى فاعليها قضاءً مبرمًا؛ بحيث بات ازدواج المعايير والكيل بمكياليْن والخلط في المفاهيم القانونية؛ هو الأصل في محاولات الولايات المتحدة الأمريكية فرض سطوتها ومعاييرها ومفاهيمها على عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر.
حاصل القول: إن عالم ما بعد زوال القطبية الثنائية وغياب التوازن الدولي أصبح محكومًا بالتصورات الأمريكية لما هو مسموح به، وما هو محظور؛ فالولايات المتحدة هي التي تصف المقاومة المشروعة بالإرهاب، وتسمي إرهاب الدولة دفاعًا مشروعًا عن النفس، وهي التي تملك الحق في أن تصف امتلاك دولة بعينها (كالعراق وكوريا الشمالية مثلاً) لأسلحة الدمار الشامل -حتى ولو لم تكن تملكها بالفعل- على أنه يمثل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين، وأن تعتبر في نفس الوقت ما تملكه دولة أخرى بالفعل منها (كإسرائيل) أمرًا مشروعًا وضروريًا لمتطلبات أمنها؛ على نحو ما أعلن وزير الدفاع الأمريكي غير مرة في معرض تبريره للصمت الأمريكي عن امتلاك إسرائيل لهذا النوع من الأسلحة.

ثالثًا- محاولة استخدام الأمم المتحدة كأداة من أدوات الهيمنة الأمريكية:

إذا كان من المتفق عليه أن مجلس الأمن الدولي قد أصابه العجز والشلل إبان فترة الحرب الباردة؛ نتيجة لإفراط القوتين العظميين -بالأساس- في استخدام حق الفيتو؛ دفاعًا عن مصالحهما ومصالح حلفائهما، دون نظر للاعتبارات القانونية السلمية؛ وذلك إلى الحد الذي دفع الجمعية العامة -بتوجيه من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها- إلى محاولة الحلول مكان مجلس الأمن حالَ فشله في أداء وظيفته في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين؛ نتيجة لاستخدام أعضائه الدائمين حق الفيتو، من خلال قرارها رقم 377 لسنة 1950 المعروف بقرار الاتحاد من أجل السلام[50]؛ فإن بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي (وقد شهدت نهاية الحرب الباردة ونظام القطبية الثنائية) قد عرفت نوعًا من الاتجاه الجديد الذي حاول من خلاله مجلس الأمن أن يظهر باعتباره الجهاز التنفيذي القوي للأمم المتحدة، وأن يضطلع بوظيفته الأساسية في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين التي أناطها به ميثاق الأمم المتحدة [51]؛ وهذا ما تجلَّى واضحًا في قرارات المجلس بصدد أزمة الاحتلال العراقي للكويت وحرب الخليج الثانية عام 1990- 1991[52]، والتي أثار البعض منها -لا سيما القرار 687- الكثير من الجدل والتساؤل حول مدى التزام المجلس بحدوده وصلاحياته وسلطاته المقررة طبقًا للميثاق [53].
ولم يكتفِ المجلس بهذا؛ بل ما لبِثَ أن قفز خطوات في ذات السبيل عندما اتخذ قراريه (القرار رقم 731 في الحادي والعشرين من يناير 1992، والقرار رقم 748 في الحادي والثلاثين من مارس 1992) بشأن الأزمة الليبية/الغربية (المعروفة بأزمة لوكيربى)؛ وهما القراران اللذان خلط فيهما المجلس أوراقًا سياسية بالأوراق القانونية، وتصدَّى بمعالجة سياسية خالصة لمسائل قانونية بحتة، على الرغم من لجوء ليبيا إلى محكمة العدل الدولية في هذا الصدد؛ الأمر الذي خرج به المجلس على سوابق كثيرة كان قد سبق له أن أرساها في حالات مماثلة.
ليس هذا فحسب؛ بل إن الولايات المتحدة الأمريكية -وحلفاءها- قد استغلت عودة الروح إلى مجلس الأمن في أعقاب حرب الخليج الثانية في استصدار العديد من القرارات التي تسمح لها بفرض عقوبات على الأنظمة المناوئة لمصالحها، تحت زعم أنها تهدد السلم والأمن الدوليين (مثل ما حدثَ ضد ليبيا، وضد نظام حكم طالبان)، أو تسمح لها بالتدخل العسكري المباشر تحت دعاوى مختلفة؛ مثلما حدث في الصومال وهاييتي ورواندا وأفغانستان. بل إنها عندما فشلت في استصدار قرارات من المجلس تسمح لها باستخدام القوة ضد كل من يوغوسلافيا (عام 1999) خوفًا من الفيتو الروسي، والعراق (عام 2002/ 2003) بسبب معارضة كل من فرنسا وروسيا والصين؛ لم تتوانَ عن الاستخدام المنفرد للقوة خارج نظام الأمن الجماعي الذي جاء به ميثاق الأمم المتحدة؛ حيث قادت حلف الناتو للتدخل عسكريًا في يوغوسلافيا، وغزت هي وبريطانيا العراق في العشرين من مارس 2003. وقد أصبح التعبير الدارج على ألسنة المسئولين الأمريكيين أن بلادهم ليست في حاجة إلى الحصول على إذن مسبق من أحد للدفاع عن أمنها ومصالحها القومية.
ولعل التحرُّك الأمريكي/البريطاني/الإسباني بشكل منفرد، دون تكليف من مجلس الأمن، وإن شئت الدقة فقل على الرغم من مجلس الأمن؛ يكشف بوضوح الخلل الذي أصاب هذا الجهاز الخطير، والذي ما زالت الجمعية العامة تناقش ومنذ ما يربو على عشر سنين سبل إصلاحه بتوسيع عضويته الدائمة وغير الدائمة؛ حتى يعبِّر بصدق عن الضمير العالمي، وحتى لا يواصل أعضاؤه الخمسة الدائمون أو أحد منهم فرض السطوة عليه.
والحق إنه ما كان لمجلس الأمن أن يصدر هذه القرارات لولا انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة النظام الدولي، في ظل ظروف وأوضاع سياسية واقتصادية اضطرت معها روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفييتي إلى الوقوف إلى جانب الكتلة الغربية في كثير من المواقف داخل مجلس الأمن، كما اضُطرت الصين لاعتبارات خاصة بها إلى التريث كثيرًا قبل استخدام حق الفيتو داخل المجلس.
وجدير بالذكر أن الآمال العريضة في عالم جديد تضطلع فيه الأمم المتحدة، ومجلس الأمن على الخصوص بدور هام وفاعل في مجال المحافظة على السلم والأمن الدوليين؛ والتي تصاعدت (أي هذه الآمال) في أعقاب الدور المحوري الذي قُيِّض لمجلس الأمن أن يلعبه في معالجة أزمة الاحتلال العراقي للكويت- سرعان ما تبدَّدت.
فلقد أثبتت خبرة التسعينيات من القرن الماضي انحسار هذه الآمال؛ إذ بدلاً من خضوع المجلس للفيتو السوفييتي/الأمريكي زمن الحرب الباردة؛ فإنه أضحى خاضعًا للقوة الأمريكية المنفردة، وغلبت عليه سمة الازدواجية في المعايير؛ بحيث بات فاعلاً فقط في النزاعات التي لا تتعارض مع المصالح الأمريكية، أما تلك التي ترتبط بهذه المصالح فقد تجاهلها المجلس أو اتخذ بشأنها قرارات لا تستند إلى الفصل السابع من الميثاق، أو حتى حيل بينه وبين اتخاذ قرارات بصددها على الإطلاق من خلال الفيتو الأمريكي. ولعل الصراع العربي الإسرائيلي أبرز الأمثلة في هذا السياق؛ حيث استخدمت الولايات المتحدة الفيتو مراراً في تلك الفترة ضد العديد من مشروعات القرارات التي تدين العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني[54].
وهكذا؛ فقد عمدت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تفعيل مجلس الأمن واستخدامه لإضفاء المشروعية على أفعالها ومواقفها بصدد القضايا ذات الصلة بمصالحها، بيد أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 جاءت لتقلب الموقف الأمريكي إزاء الأمم المتحدة ومجلس الأمن رأسًا على عقب، ثم جاءت حرب أفغانستان والعدوان على العراق ليُظهرا عجز الأمم المتحدة تمامًا عن الوقوف في وجه الطموح الأمريكي الجارف لتجاوز المنظمة الدولية تجاوزًا كاملاً، والعمل منفردة خارجها، أو استخدامها على الأقل كغطاءٍ لإضفاء الشرعية على سلوكيات أمريكية تتناقض تمامًا مع قواعد القانون الدولي وأحكام ميثاق الأمم المتحدة.
ففي خطابه أمام الدورة السابعة والخمسين للجمعية العامة للأمم المتحدة (في الثاني عشر من سبتمبر 2002) وجه الرئيس الأمريكي جورج بوش أنظار المجتمع الدولي إلى قضية العراق، مطالبًا الأمم المتحدة باتخاذ إجراء لنزع أسلحته، محذرًا إياها من أنها ستصبح مهمَّشة وغير ذات جدوى إذا فشلت في ذلك، مهددًا بأن بلاده ستتحرك بشكل منفرد إذا لم تتمكن المنظمة الدولية من تحقيق تقدم في هذا الصدد.
وقد بانَ هذا جليًا في الأزمة الكبرى التي نشأت في العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة إبان الأزمة العراقية، والتي تركزت في مجلس الأمن ودوره في إطار النظام الدولي القائم؛ وذلك في أعقاب صدور قرار المجلس رقم 1441 سالف الإشارة؛ والذي لم يأتِ على هوى الولايات المتحدة الأمريكية تمامًا، ثم رفض المجلس إصدار قرار جديد يخوِّل الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها الحق في استخدام القوة ضد العراق[55]. وهو ما جعل وزير الخارجية الأمريكي كولن باول يصرح في السادس من مارس 2003 أن بلاده ستغزو العراق متحالفة مع الدول الراغبة في ذلك بتصريح من الأمم المتحدة أو بدون ذلك التصريح إذا تطلب الأمر ذلك[56]. كما صرح الرئيس الأمريكي في ذات اليوم أن بلاده ليست بحاجة إلى موافقة مجلس الأمن على شن الحرب على العراق، وأنها ليست قلقة من دخول الحرب دون موافقة الأمم المتحدة[57].
وبعد أن تصاعدت أعمال المقاومة العراقية ضد قوات الاحتلال الأنجلو/أمريكي؛ وُجد أن الولايات المتحدة ذاتها تلجأ إلى الأمم المتحدة مرة أخرى؛ ففي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (في الثالث والعشرين من سبتمبر 2003) دعا الرئيس الأمريكي جورج بوش المجتمع الدولي والأمم المتحدة إلى تقديم مساعدات لإعادة إعمار العراق، مطالبًا المنظمة الدولية بلعب دور حيوي هناك.
إن المشهد السياسي والقانوني الراهن لمجلس الأمن -خاصة بعد صدور قراره رقم 1483 في الحادي والعشرين من مايو 2003؛ والذي قنن الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق- يبدو أشبه ما يكون بمشهد من مشاهد الحرب الباردة؛ وذلك على الرغم من صدور هذا القرار بالإجماع. فالموقف الموحَّد الذي يشير إليه هذا القرار ينبئ عن سيطرة أمريكية مطلقة على المجلس، إلى الحد الذي دعا الدول (التي ناؤت الرغبة الأمريكية في فترة ما بين صدور القرار 1441 وبدء العدوان على العراق في العشرين من مارس 2003، وحالت دون صدور قرار من المجلس يخوِّل للولايات المتحدة استخدام القوة ضد العراق) أن تعيد النظر في حساباتها على أسس مصلحية أساسًا ومختلفة تمامًا عن الشرعية الدولية والمبادئ الأساسية التي ينبغي أن تكون حاكمة للنظام الدولي؛ رغبة منها في الحصول على نصيب من عقود إعمار العراق، أو اتقاء لشر غضبة أمريكية قد تجني من ورائها هذه الدول خسائر لا تحتمل.
فقد وافقت هذه الدول على قرار مجلس الأمن 1483 (والذي قبلته أربع عشرة دولة من أعضاء مجلس الأمن بما فيها روسيا وفرنسا وألمانيا، وامتنعت عن التصويت عليه –فقط- دون أن ترفضه صراحة؛ سوريا) برفع جميع العقوبات التجارية والمالية المفروضة على العراق منذ عام 1990، عدا ما يتعلق منها بواردات السلاح. وتقرر إنشاء صندوق لمساعدة العراق وتلبية احتياجاته الإنسانية والقيام بمهام إعادة البناء، وإعادة مرافق البنية التحتية وسائر الأغراض المدنية من حصيلة عائداته النفطية التي توجَّه للصندوق، على أن تتولى الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا -باعتبارهما سلطة الحكم- توزيع تلك العائدات بالتشاور مع الحكومة المؤقتة. وهكذا فقد أضفى القرار شرعية على الوجود الأمريكي/البريطاني في العراق، وعلى سيطرة الدولتين على النفط العراقي؛ حيث يمكنهما أن تصدِّرا النفط، وأن تمنحا عقود التنمية وإعادة الإعمار، ولهما الحق في التصرف في موارد العراق الأخرى في هذا السياق.
وهكذا يبدو التشابه بين هذا الموقف ومواقف مجلس الأمن إبان فترة الحرب الباردة في أننا قد عُدنا من جديد إلى حيث يتخذ المجلس قراراته مغفلاً المصالح العليا للمجتمع الدولي، مغلبًا عليها مصالح الفئة المسيطرة فيه، آخذًا في اعتباره معيار القوة دون سواه، معبِّرًا عن نقطة التوازن في القوى بين الدولتين العظميين في فترة الحرب الباردة، ومستجيبًا لإرادة القوة العظمى الوحيدة المسيطرة في عالم اليوم (أي الولايات المتحدة الأمريكية) دون سواها؛ حيث لم يعد أحد من أعضاء مجلس الأمن الدائمين -كل لاعتباراته المصلحية الخاصة- يرغب في مناوئتها، ولو من خلال الامتناع عن التصويت، ناهيك عن استخدام حق الاعتراض[58].

خاتمة:

وهكذا بانَ جليًا أن القانون الدولي المعاصر يمر بأزمة طاحنة؛ لم يكن العدوان الأمريكي على العراق وما اقترن به من ادعاءات إلا مظهرًا -وإن يكن الأبرز حتى الآن- من مظاهرها؛ فلم تكن المبررات والذرائع التي قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لإضفاء المشروعية على “حربها الوقائية” ضد العراق -والتي أظهر التحليل المتقدم تعارضها الصارخ مع قواعد القانون الدولي المستقرة- إلا محاولة جادة لإعادة صياغة معالم نظام قانوني دولي، يعكس ملامح نظام دولي “جديد” تنفرد الولايات المتحدة حاليًا بتحديد توجهاته وإرساء قواعده؛ وهو نظام لم تعد التفاعلات والعلاقات المتبادلة لأطرافه تخضع بالضرورة لضوابط القانون الدولي والمصلحة الدولية العامة المشتركة -كما عبرت عنها فلسفة ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه- بقدر ما أصبحت تخضع لضوابط سياسية جديدة؛ تلعب المصالح الذاتية والاهتمامات الأمنية الخاصة للولايات المتحدة الأمريكية الدور الحاسم في صياغتها وإرساء معالمها.
ويثير هذا الوضع في الحقيقية تساؤلاً مشروعًا حول ما إذا كنا بصدد بداية تشكُّل عُرفٍ دوليٍّ جديد سيُقبل في إطاره -من الآن فصاعدًا- هذا النمط من الحروب “الوقائية”، وما يقترن بها من تجاوزات لقواعد القانون الدولي المستقرة؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون حالة خاصة أملتها الاعتبارات الاقتصادية والاستراتيجية للعراق وما حولها، وبحيث لا يمكن تعميمها على حالات أخرى مشابهة كحالة كوريا الشمالية مثلاً؟ كما يثير تساؤلاً حول موقف المجتمع الدولي (لا سيما الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني العالمي؛ مادامت الدول تبدو عاجزة في هذا السبيل) من هذا التسلط الأمريكي الساعي إلى القضاء على كل المكتسبات القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحققت للعالم -بالكاد- خلال القرن الماضي؟ وهل سيصمد النظام القانوني الدولي الذي بذلت البشرية في سبيل إقراره تضحيات جسامًا أمام هذا النظام الأحادي الذي يجري تشكيله وإرساء قواعده ومعالمه حاليًا؟
*****

الهوامش:

(1) راجع في هذا المعنى، نصير عاروري، حملة جورج بوش المناهضة للإرهاب، المستقبل العربي، العدد 284، أكتوبر 2002، ص 54-55، 59.
(2) بل إنه ليس جديدًا في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها؛ فإذا كانت قد استخدمت تصريح مونرو لعام 1823 لمنع تدخل الدول الأوروبية في شئون القارة الأمريكية؛ فإنها قد شرعت منذ ذلك الحين في التدخل في القارة الأمريكية لحسابها ومصلحتها؛ فانتزعت تكساس ونيومكسيكو وكاليفورنيا من المكسيك، وجعلت من بورتوريكو مستعمرة لها في أواخر القرن التاسع عشر، ووضعت كوبا تحت حمايتها وفقًا لمعاهدة باريس 1898، كما توسعت في المحيط الهادي وعلى الأخص في جزر هاواي وجوام والفلبين، ثم وضعت يدها على بنما لتشق فيها قناة تصل بين المحيطين الأطلنطي والهادي تسهيلاً لحركة الأساطيل الأمريكية. ومن ثم فإنه يمكن القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ بدايات عهدها بالعمل الدولي وهي تؤوِّل القانون الدولي وتفسره، وترفع الشعارات الدولية وتتبناها، على نحو يحقق مصالحها دون مراعاة لاعتبارات الحق والعدالة.
راجع لمزيد من التفاصيل في هذا الصدد، د.محسن الشيشكلي، الوسيط في القانون الدولي العام: الجزء الأول (الكتاب الأول)، منشورات الجامعة الليبية، كلية الحقوق، مطبعة دار الكتب، بيروت، 1973، ص 389 – 391، 398 – 399.
(3) محمد شوقي عبد العال، الطبيعة الإيديولوجية للقانون الدولي: دراسة تاريخية تحليلية مع إشارة خاصة إلى أزمة لوكربى، في: قضية لوكربي ومستقبل النظام الدولي، مركز دراسات العالم الإسلامي، الطبعة الأولى، 1992، ص 391 – 393.
(4) راجع في هذا المعنى أ.د.محمد سامي عبد الحميد، موقف الصين من القانون الدولي العام، المجلة المصرية للقانون الدولي، المجلد 28، 1972، ص 218-219
(5) راجع في هذا المعنى د.محمد شوقي عبد العال، مرجع سابق، ص 403-404.
(6) أ.د.عز الدين فودة، مقدمة في القانون الدولي العام، مكتبة عين شمس، القاهرة، 1987، ص 50-53.
(7) هانز مورجانثو، السياسة بين الأمم: الصراع من أجل السلطان والسلام، الجزء الثاني، تعريب وتعليق خيري حماد، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1965، ص 84-85.
[8] Charles De Visscher, Theory and Reality in Public International Law, Oxford University Press, London, 1958, pp. 136-137, 203.
(9) راجع في هذا المعنى:
Cees J. Hamelink, The Elusive Concept of Globalization, Global Dialogue, Vol. 1, No. 1, Summer 1999, pp. 1-41.
(10) د.جلال أمين، العولمة والدولة، المستقبل العربي، العدد 228، فبراير، 1998، ص 26-28.
[11] Marten Smeets, Globalization: Threat or Promise? Global Dialogue, Vol 1, No.1, Summer 1999, PP. 15-16.
(12) راجع د.محمد شوقي عبد العال، العولمة والتدخل الدولي الإنساني: مع إشارة لبعض نماذج التدخل الدولي في إفريقيا، سلسلة دراسات مصرية إفريقية، برنامج الدراسات المصرية الإفريقية، جامعة القاهرة، رقم (10)، ديسمبر 2003، ص 2-3.
(13) راجع أ.د.صلاح الدين عامر، القانون الدولي في عالم مضطرب، السياسة الدولية، العدد 153، يوليو 2003، ص 81 – 82.
(14) المرجع السابق، ص 83 – 84.
(15) راجع في هذا الصدد على سبيل المثال:
D.W. Bowett, Self Defence in Iint, law, Manchester University Press, 1958, PP. 192-199.
وكذلك د.أحمد عبد الونيس شتا، الدولة العاصية: دراسة في التعارض بين مواقف الدول والتزاماتها الدولية في الأمم المتحدة، رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1986، ص 271-293.
(16) لمزيد من التفاصيل راجع:
George Abi Saab, Wars of National Liberation in the Geneva Conventions and Protocols, R.C.D.A.C., 1979, Tome 165.
(17) راجع في هذا الصدد أحمد إبراهيم محمود، العراق وأسلحة الدمار الشامل: أبعاد الصراع مع الولايات المتحدة ولجنة اليونسكو، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، 2002، ص 187 وما بعدها.
(18) على الرغم من أن العلاقة بين نظام حكم صدام حسين وتنظيم القاعدة كانت علاقة واهية ومشكوكاً في أمرها؛ فإن الإعلان الأمريكي عن وجودها أحد رد فعل نفسي كبير لدى الرأي العام الأمريكي دفع -من بين عوامل أخرى- إلى تأييده لاتجاه الإدارة الأمريكية إلى خوض الحرب ضد العراق.
راجع في هذا المعنى، د.شريف بسيوني، الحرب الأمريكية في العراق: مشروعية استخدام القوة، السياسة الدولية، العدد 151، يناير 2003، ص 14 – 15.
(19) تعامت الولايات المتحدة الأمريكية عن استخدام العراق لأسلحة كيماوية ضد المدنيين الإيرانيين في منطقتين حدوديتين في عام 1983 خلال الحرب العراقية الإيرانية، بما في ذلك أسلحة محظورة دوليًا مثل غاز الخردل والسارين والمواد السامة. المرجع السابق، ص 9.
(20) د.أحمد الرشيدي، العراق والشرعية الدولية، قراءة في دلالات وسياق القرار 1441، السياسة الدولية، العدد 151، يناير 2003، ص 117 – 118.
(21) راجع في هذا المعنى، أ.د.حسن نافعة، ود.محمد شوقي عبد العال، التنظيم الدولي، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2002، ص 413 – 417.
(22) د.شريف بسيوني، مرجع سابق، ص 16-17.
وراجع حول التفسيرات المختلفة للقرار 1441، د.أحمد الرشيدي، مرجع سابق، ص 118-119.
(23) انظر في هذا المعنى محمد الهزاط، الحرب الأمريكية البريطانية على العراق والشرعية الدولية، المستقبل العربي، العدد 292، يونيو 2003، ص 78 – 79.
(24) المرجع السابق، ص 83-84.
(25) اعتبرت لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة مبدأ حظر اللجوء إلى القوة في العلاقات الدولية مثالاً لقواعد القانون الدولي الآمرة Jus Cogens التي يعد انتهاكها بمثابة جريمة دولية؛ حيث عرفت اللجنة في المادة التاسعة عشر من مشروعها حول “المسئولية الدولية” الجريمة الدولية بأنها “خرق سافر لالتزام دولي ذي أهمية جوهرية لاستتباب السلم والأمن الدوليين” وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن خرق مبدأ عدم اللجوء إلى القوة في العلاقات الدولية، كان هو أول جريمة تم ذكرها في لائحة الجرائم الدولية المقدمة – على سبيل المثال وليس الحصر- من جانب اللجنة. المرجع السابق، ص 94.
(26) راجع في عدم مشروعية التدخل في مثل هذا السياق على سبيل المثال، د.حسام أحمد هنداوي، التدخل الدولي الإنساني: دراسة فقهية وتطبيقية في ضوء قواعد القانون الدولي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1997، ص 62 وما بعدها.
(27) راجع لمزيد من التفاصيل محمد الهزاط، الحرب الأمريكية ضد العراق في ميزان القانون الدولي، المستقبل العربي، العدد 290، أبريل 2003، ص 25 وما بعدها.
(28) وهى ذات الحجة التي استندت إليها إسرائيل في عدوانها على الدول العربية عام 1967، وفي تدميرها للمفاعل النووي العراقي عام 1981.
(29) الهزاط، الحرب الأمريكية ضد العراق في ميزان القانون الدولي، مرجع سابق، ص 27 – 28.
وراجع لمزيد من التفاصيل، د.جميل محمد حسين، دراسات في القانون الدولي العام، الطبعة الأولى، مكتبة الجلاء الجديدة، المنصورة، 2002، ص 760-765
(30) في هذا المعنى راجع أ.د.صلاح الدين عامر، مبادئ القانون الدولي العام، الطبعة الثانية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1995، ص 962-965.
(31) د.جميل حسين، مرجع سابق، ص 997.
(32) المرجع السابق، ص 999 – 1000.
(33) الهزاط، الحرب الأمريكية ضد العراق في ميزان القانون الدولي، مرجع سابق، ص 31-32.
(34) المرجع السابق، ص 34-35.
(35) راجع، أحمد السيد النجار، الأبعاد الاقتصادية للغزو الاستعماري الأمريكي للعراق، في د.حسن نافعة ود.نادية مصطفي (محرران)، العدوان على العراق: خريطة أزمة ومستقبل أمة، قسم العلوم السياسية ومركز البحوث والدراسات السياسية، جامعة القاهرة، 2003، ص 159 – 162.
(36) مورجانثو، مرجع سابق، ص 102.
(37) راجع د.محمد شوقي عبد العال، موقف مصر من قضية “الحرب الدولية ضد الإرهاب”، في: د.نادية مصطفي ود.زينب عبد العظيم (محرران)، الدور الإقليمي لمصر في مواجهة التحديات الراهنة، مركز البحوث الدراسات السياسية، جامعة القاهرة، 2003، ص 479 وما بعدها.
(38) راجع لمزيد من التفاصيل في هذا الصدد، مصطفي مصباح دبارة، الإرهاب: مفهومه وأهم جرائمه في القانون الدولي الجنائي، الطبعة الأولى، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي، 1990، ص 11 – 15.
(39) راجع في هذا المعنى، جورج عرمونى، محاولة لتعريف الإرهاب وتحديد الوسيلة لمحاربته، شؤون الأوسط، العدد 71، أبريل 1998، ص 113-114.
(40) أ.د.عبد العزيز سرحان، تعريف الإرهاب الدولي، المجلة المصرية للقانون الدولي، 1973، ص 173 وما بعدها.
(41) د.رمضان صادق، الأبعاد القانونية للإرهاب الدولي، السياسة الدولية، العدد 85، يوليو 1986، ص 362 – 33.
(42) د.بطرس بطرس غالي، الأمم المتحدة ومواجهة الإرهاب، السياسة الدولية، العدد 127، يناير 1997، ص 10-12.
(43) شفيق المصري، الإرهاب في ميزان القانون الدولي، شؤون الأوسط، العدد 105، شتاء 2002، ص 46-49.
(44) راجع على سبيل المثال:
Bowett, Op. cit. , PP. 31 – 36.
وكذلك د. محمد خلف، حق الدفاع الشرعي في القانون الدولي الجنائي: دراسة تأصيلية تحليلية مقارنة، الطبعة الثانية، مطابع دار الحقيقة، بنغازي، 1977، ص 485 – 497.
(45) راجع د.محمد شوقي عبد العال، موقف مصر من قضية “الحرب الدولية ضد الإرهاب”، مرجع سابق، ص 485 – 486.
(46) راجع لمزيد من التفاصيل حول الجهود القانونية لمكافحة الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، د.عبد الله الأشعل، تطور الجهود القانونية الدولية لمكافحة الإرهاب، السياسة الدولية، العدد 149، يوليو 2002، ص 58-63.
(47) نصير عاروري، مرجع سابق، ص 64 – 65.
(48) انظر في هذا الصدد:
Marwan Bishara, The Moral and Practical Imperatives of International Relations Post 9/11, in: Ashild Kjok (Ed.), Terrorism and human rights after September 11, Cairo Institute For Human Rights Studies, Cairo, 2002, pp. 81-86.
(49) نصير عاروري، مرجع سابق، ص 63.
(50) راجع لمزيد من التفاصيل، أ.د.حسن نافعة ود.محمد شوقي عبد العال، مرجع سابق، ص 310 – 316؛ أ.د.محمد سامي عبد الحميد، قانون المنظمات الدولية: الجزء الأول – الأمم المتحدة، الطبعة الثامنة، دار المطبوعات الجامعية،الإسكندرية، 1997، ص 127 – 137.
(51) المرجع السابق، ص 138.
(52) راجع في هذا المعنى، أ.د.حسن نافعة، الأمم المتحدة ساحة للتنظيم الدولي أم أداة الهيمنة؟ نظرة في جدلية التقوية والإضعاف للمؤسسة الدولية، في د.حسن نافعة ود.نادية مصطفي (محرران)، العدوان على العراق، مرجع سابق، ص 45 – 46.
(53) أ.د.صلاح الدين عامر، القانون الدولي في عالم مضطرب، مرجع سابق، ص 88.
(54) انظر في هذا المعنى، د.حسن نافعة ود.محمد شوقي عبد العال، مرجع سابق، ص 444 – 446.
(55) د.حسن نافعة، الأمم المتحدة ساحة للتنظيم الدولي أم أداة للهيمنة، مرجع سابق، ص 52.
(56) أ.د.صلاح الدين عامر، القانون الدولي في عالم مضطرب، مرجع سابق، ص 86.
(57) أحمد سيد أحمد، الأزمة العراقية ودور مجلس الأمن في حفظ السلم والأمن الدوليين، السياسة الدولية، العدد 153، يوليو، ص 124.
(58) راجع في هذا المعنى أ.د.صلاح الدين عامر، القانون الدولي في عالم مضطرب، مرجع سابق، ص 89 – 91.

نشر في حولية أمتي في العالم، عدد 2005

للحصول علي الملف

اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى