المواطنة: محاولة لاستكشاف مساحات المعنى …ومعنى المساحات

 

المواطنة: محاولة لاستكشاف مساحات المعنى …ومعنى المساحات

 

د.هبة رءوف عزت[1]

 

05/10/2011 

 

يواجه الباحث في مفهوم المواطنة في الفكر الليبرالي الغربي بتعدد واسع في تحليل المفهوم بدءًا من تعريفه ومرورًا بتصنيفه  ثم اقتراب دراسة تطوره،

إذ يتراوح تعريف المفهوم بين كون المواطنة عضوية في جماعة سياسية مما يطرح قضايا الهوية والولاء والانتماء، والالتزام السياسي وعلاقة الفرد بالجماعة ومنظومة القيم الحاكمة لتلك الرابطة، أو النظر للمواطنة باعتبارها مركزًا قانونيًا وبالتالي يستدعي علاقة الفرد بالدولة والرابطة القانونية والتمثيل السياسي والمسئولية السياسية، أو المواطنة باعتبارها مركزًا سياسيًا وبالتالي يستدعي قضايا الحريات والحقوق والفضائل المدنية والمشاركة السياسية والديمقراطية، ويصبح رصد التحول في معنى المواطنة هو رصد للتحول في مكوناته الدلالية وعلاقته بالمفاهيم الأخرى، وتجلياته في الواقع ومؤشرات دراسته، كالنظر على سبيل المثال في تحولات المراكز القانونية لقطاعات لم تكن تتمتع بالمواطنة الكاملة وكانت محجوبة عن المشاركة السياسية مثل المرأة والأقليات العرقية والدينية، أو تحولات الهوية بمراجعة مفهوم الجماعة الاجتماعية والسياسية ومقوماتها التاريخية أو الموضوعية المادية المرتبطة بالمكان والجغرافيا، أو تحولات المراكز السياسية بإعادة تعريف حدود وعلاقات المجال العام والمجال الخاص، أو تنوع مسالك المشاركة السياسية والتعبير عن المصالح وتمثيلها([2]). علما بأن كل نقاش من هذه النقاشات يرتبط بنظرية للدولة والحكم. وهذه نقطة في غاية الأهمية لمن يريد صياغة رؤية للمستقبل السياسي لأي جماعة سياسية أو جماعة وطنية.

 

ولكن مفهوم المواطنة مع عودة الاهتمام به منذ بداية الخمسينات بعد أن كانت نظريات الدولة في العلوم السياسية هي نقطة الارتكاز للتفكير وكان هو قابعا في نقاشات الفكر السياسي (خاصة الفكر اليوناني مرورا بالروماني ثم عبورا إلى الاستنارة والنهضة الاوروربية ثم الواقع المعاصر) وتنامي هذا الاهتمام في النظرية السياسية مع مطلع التسعينات ليحتل مكانة مركزية في الجدل والتحليل قد صاحبه أيضًا استخدام ظهور تعريفات تتضمن أوصافاً جديدة في التنظير للمفهوم، منها تكرار وصفه بأنه “حالة” -بجانب كونه مفهوما-أي مزيج من كل المقومات السالفة في ظل علاقة ديناميكية بينها وبذلك ففهمه يستلزم الوعي بطبيعته المتغيرة والمتحولة وليست الثابتة، وربطه بتصورات المواطن/الفرد ومكانه في الساحة السياسية والاجتماعية والمجال العام([3])، أي النزوع إلى إعطاء المفهوم دلالة “وجودية” تصبح هي إطارفهم كل مقوماته السابقة الذكر، وذلك في ظل إعادة تعريف السياسة ذاتها لا باعتبارها علم السلطة أو القوة أو الدولة بل باعتبارها بالأساس ممارسة الحرية والوجود الإنساني في المجال العام وبذا يكتسب مفهوم المواطنة ومفهوم السياسة معًا- دلالة وجودية فردية بعيدًا عن الانشغال بجذور المفهوم تاريخيًا أو الاكتفاء بالمركز القانوني الدستوري الذي لا يعكس بالضرورة الواقع السياسي والمكانة السياسية والاجتماعية([4]).

 

فإذا كان المواطن/الفرد هو محور مشروع الحداثة فلسفيًا ،والفردية هي جوهر الليبرالية، فإن فهم معنى المواطنة يستلزم تفكيكها كمفهوم إلى شقيها: المواطن والوطن ،ثم تفكيك الوطن إلى أرض وجماعة ونظام (دولة)، وهكذا،وهو الاقتراب الذي يبدو جلياً في نظريات العقد الاجتماعي، وبذا يصبح تحليل ودراسة الجدل حول المواطنة بين المدارس الفكرية الليبرالية عبر منظور المواطن/الفرد وتحولاته هو المدخل لتتبع دلالة المفهوم وتحولاته متوازية مع تحولات معاني المنظومة المفاهيمية المرتبطة به باعتباره مفهومًا مركبًا ومتشابك مع مفاهيم كثيرة في النظرية السياسية الليبرالية، ويصبح فهم موقف المدارس الفكرية من الذات/المواطن/الإنسان هو بداية فهم موقفها من الدولة والرابطة السياسية والقيم والديمقراطية كما أسلفنا، أي المدخل لفهم تحولات النظرية برمتها عبر فهم تحول النسق المفاهيمي ودلالات ومعاني المفاهيم وعلاقات الحقول الدلالية للمفاهيم مع بعضها البعض بشكل ثلاثي الأبعاد وديناميكي.

 

ولأن المواطنة قد صارت مفهومًا مرتبطًا بالفرد ومقترناً بالحياة العامة في بعدها الاجتماعي اليومي فإن هذا مثّل في نظر البعض يُعد “تحولاً نوعيًا” في مفهوم المواطنة وليس محض إضافة بُعد ثقافي أو اجتماعي للمفهوم، أي أن المساحة الدلالية لم تنمٌ فسحب بل شهدت نقلة نوعية في الدلالة وصارت تعبر عن تصورات متغيرة للذات الإنسانية والطبيعة الإنسانية، ولذلك يجب الوعي بتأثرها بالجدل الأيديولوجي السياسي متوازياً مع البعد الفلسفي النظري لتحليلها، وهوءلاء يرون هذا التحول تحولاً إيجابيًا يفتح المجال لتطور المفهوم في المستقبل، وإن تحفظوا على واقع أن أن هذا التحول النوعي يصاحبه قدر أكبر من “عدم اليقين” في معنى ودلالة المفهوم، إذ لم يعد المفهوم محدد المعالم واضح الأبعاد والمؤشرات كما كان في السابق، وبذلك تراجع الحسم الثقافي والاتفاق الاجتماعي حول المعنى لصالح الحسم القضائي/ القانوني وأصبح على سبيل المثال القضاء مجالاً لفض النزاعات النظرية والفلسفية بإكساب الحقوق مكانة قانونية ودستورية بدلاً من تشكلها الثقافي الذي كان ينبني على التواضع والتوافق ، وبذلك تصبح أيضًا أدوات ومسالك إكساب المعنى وتعريف المفهوم أدوات مختلفة ، مثل أحكام المحاكم بدرجاتها وصولاً للمحكمة الدستورية في الولايات المتحدة على سبيل المثال ،مما قد يهدد في نظرهم الحيوية السياسية/الثقافية/الاجتماعية التي كان المفهوم يعكسها ويدعمها في الوقت ذاته([5]).

 

كذلك يجد الباحث أن المفهوم قد تحول من قيمة ومثالية ومفهوم له معنى إيجابي يعكس تطورًا تاريخيًا نحو مزيد من الحقوق والحريات للفرد كما درسه بوكوك([6])،أي مفهوم يعكس تطور الفكر السياسي بالمعنى التطوري الصاعد الإيجابي كما تنظر مدرسة الحداثة للتاريخ، إلى مفهوم يتعرض للنقد والمراجعة والاتهام بأنه صار “أسطورة” ،فيرى فريق من الكتاب أنه فقد مثاليته “التمدنية” و السياسيةحين غلبت على تصورات الفرد الاعتبارات النفعية الاقتصادية مع تحول الليبرالية من نسق فلسفي وفكري سياسي إلى نسق اقتصادي بالأساس تخدمه النظرية السياسية، وهكذا تبدو مراجعته لازمة وكشف الجانب الأسطوري فيه ووظيفته مهمة نظرية واجبة لبيان التناقض بين سيادة السوق… والمواطنة الديمقراطية([7]). (نقطة هامة للاسلاميين في ربط مشروع المواطنة المصرية بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية)

 

والواقع أن علم الاجتماع قد التفت لطبيعة مفهوم المواطنة كأداة تحليلية مع بداية السبعينات وقبل تزايد الاهتمام به في النظرية السياسية مؤخراً، فنجد بعض التيارات مثلاً قد نظرت للمواطنة باعتبارها عملية تاريخية، ومعتبرة المواطنة قرينة تحولات الفردية والعلمنة وتجلياتها، أي أن المفهوم مدخل لدراسة تلك التحولات([8])، وهو الاقتراب الذي يتشابه مع رؤية للمواطنة كأداة تحليلية متعددة المستويات، فهو:

 

 أولاً :مفهوم يسمح بصياغة أسئلة وإشكاليات اجتماعية ويمثل إطارًا صالحًا وملائمًا لفهم قضايا صاعدة مثل قضايا المرأة والتعددية الثقافية والأقليات ،وكذلك تحليل صيغ الديمقراطية المختلفة وطرائقها، أي تصبح الأداة المفاهيمية مدخلاً تحليلياً مناسباً لتحول الفكر والواقع السياسي في علاقتهما المركبة ببعضهما البعض.

 

 ثانياً : مفهوم ملائم للجدل والنقاش بشأن الدور العام للفرد والإنسان في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وبذلك يسهم كمفهوم نظري في تطوير التنظير السياسي وتوسع حدود مفهوم السياسة.

 

ثالثًا: مفهوم يعبر عن المراكز القانونية والسياسية فيسمح بطرح أسئلة الولاء والالتزام السياسي التي تقع في قلب مفهوم المواطنة وعلاقة المواطن بالدولة،.

 

وأخيرًا : هو مفهوم ملائم عبر تتبع تاريخه وتحولات معناه لأن يكون مفهوم مفتاح في فهم مسار التطور التاريخي للفكر الليبرالي، والمسارات الموازية لعالم الأفكار العربي مثلا منذ الاحتكاك بالتجربة الغربية مع مطلع القرن ال19، أي مفهوم مفسر وشارح للتطور التاريخي، وبذلك يقوم هذا المفهوم عبر تحديد معناه بأداء عدة وظائف في مجال التنظير السياسي([9]).

 

وقد رأى بعض المفكرين الغربيين أن المواطنة لها أربعة أبعاد أساسية:

 

بعد القيم والفضائل المدنية، وبعد الانتماء والهوية والجماعة السياسية، وبعد الفاعلية السياسية والمشاركة الديمقراطية، وبعد الإدارة السياسية والسلطة ومؤسساتها ومما يرتبط بها من قضايا المسئولية السياسية، وأن النزاع هو بين التصورات الليبرالية/الفردية والتصورات المدنية/الجمهورية لهذه الأبعاد الأربع، واعتبروا أهمية المفهوم تنبع من كونه يجمع في دلالاته تلك القضايا ليصبح من المفاهيم المفتاحية في التحليل، أي أنهم رأوا أهميته تكمن في فائدته التحليلية النظرية كمفهوم مركب ومفتاحي([10]).

 

وتهدف دراسة مفهوم المواطنة في الفكر المعاصر مثلا (وبالتالي فهم دلالاتها في العقل العربي) إلى رصد وتفسير تحولات هذه المساحات الدلالية للمفهوم بشكل عميق ، لكن هذا يستلزم في البدء تحديد ما هو الفكر وما هي الليبرالية ودلالة النشأة الغربية،  ومعنى المعاصرة، أو تحديد السياقات التي ندرس المفهوم في إطارها للقياس على المفهوم في سياق الدولة الحيثة في واقعنا الاجتماعي والثقافي، وحدود هذه الدولة وقيودها واخفاقاتها ونجاحاتها ..وآلياتها.

 

في البداية تجدر الإشارة إلى أهمية التمييز في دراسة الليبرالية ومفاهيمها الأساسية بين الأيدلوجية والفكر، فقد ذهب مفكر مثل فريدين إلى أن الأيدلوجية تأسس على ثلاث أعمدة: المفكرين والكتابات الأساسية، ومؤسسات المجتمع المدني وأبنية التمثيل السياسي، والثقافة السياسية السائدة في المجتمع حول العملية السياسية ومفرداتها من فرد وجماعة ومؤسسات ودولة أي رؤية “الجمهور المستهلك” للفكر وللمفاهيم في الواقع السياسي([11]).

 

ولا شك أن هناك تداخل، فالفكر يؤسس للأبنية، والأبنية تقوم بأدوارها في ظل ثقافة سياسية، والثقافة انعكاس لكفاءة الأبنية ورؤى الفكر، ويصعب هنا في ظل قيود الدراسة الزمنية استعراض كل مكونات الأيدلوجية الليبرالية، لذا فإن جانب الفكر والنظرية فيها هو موضع التركيز والاهتمام، وما قدمه الفكر في تنظيره للمؤسسات أو توصيفه للثقافة، وبذلك تصبح دراستنا بالأساس دراسة للنسق المفاهيمي النظري الليبرالي وموضع مفهوم المواطنة فيه، وليس تطور المؤسسات أو تحولات الثقافة بالمعنى الإمبريقي، وإن كنا سنلاحظ أن الفكر صار متداخلاً مع مساحة من جمهوره بتعبير الدوائر الفكرية الليبرالية المتزايد عن حركات اجتماعية ..كالنسوية والتعددية الثقافات الإثنية وحركات حقوق الإنسان بأنواعها، أي عدم انفصال المفكر عن الحركة الاجتماعية والتغذية المتبادلة بينهما خاصة في المدارس الجديدة على خارطة النظرية الليبرالية سابقة الذكر . (فما صلة الحركات الاجتماعية عندنا بالجدل حول المواطنة وصلة الأجندات السياسية بخارطة الفكر وأداء المؤسسات؟)

 

أيضاً يواجه الباحث حين يستقر على حدود دراسة الفكر مشكلة في تحديد معنى الليبرالية ذاته ، فنتيجة لأن إنتاج الفكر قد صار في تياره الرئيسي مؤسسًا في الأطر الجامعية وفي الحقول الدراسية والتي شهدت انتشاراً ضخماً في القطاع الأكاديمي فإن تتبع الفكر عبر هذه الحقول وخلال الفترة من منتصف القرن العشرين للآن لا تغدو مهمة سهلة اطلاقا (وبالمقابل الفكر الاسلامي ومصادره وتنوعها بين فكرية وفقهية وسياسية) ،، فالفكر توزع بين أفرع العلوم الاجتماعية، وتعددت “الأسماء الكبرى ” في كل فرع، وتنوعت “النصوص المرجعية” في كل قضية ،كما يجد الباحث في الفكر السياسي تداخلاً مع حقول ومجالات دراسية خارج أقسام العلوم السياسية وتأثيرًا بها وباقتراباتها ومفاهيمها التي اكتسبت رواجاً بينياً ، ويجد لزامًا عليه الإطلاع عليها وإدراك عملية تشكل الفكر السياسي الليبرالي كنتاج نهائي لهذا التفاعل بين المدارس والحقول المختلفة، بل ومدارس النقد من خارج الفكر الليبرالي التي دفعت ملاحظاتها وأطروحاتها النقدية لمراجعة مفاهيم سياسية وتطويرها داخل النسق المفاهيم الليبرالي.(وهذه نقطة مهمة لتطوير الأفكار: الاستفادة من الكتابات النقدية والمناوئة)

 

وقد لاحظ العديد من رواد النظرية السياسية الليبرالية هذا الوضع المركب فوصف جالستون الليبرالية بأنها تشبه سلة من المثل والقيم تتداخل وتتعارض أحيانًا مع بعضها البعض مما يجعل فهم كلاً منها مهمة صعبة فضلاً عن فهمها كل متزامنة([12])، ويؤكد داجر أن القضية ليست التعارض بل الامتزاج والتداخل بين الأفكار([13])، في حين يذهب فريدين إلى أن صعوبة فهم الليبرالية كنسق مفاهيمي تنبع من توظيف المدارس المختلفة لنفس الوحدات التحليلية والتصنيفات والمفاهيم مع إكسابها دلالات شتى، وهو ما يجعل تطور الليبرالية هو نتاج هذا التنازع حول المعنى، أي أن التفسير المستمر للمفاهيم عبر الحوار بين المدارس الفكرية الليبرالية المختلفة هو الذي يثمر تحولات المعنى، فهناك تأويل مستمر، فلا توجد مدرسة ليبرالية واحدة ولا يوجد تصور واحد مستقر للمعنى لكل مفهوم، كما أن هناك تنوع لا في الأصوات وآفاق المعنى فحسب بل في المرجعيات المختلفة سواء التخصصية في العلوم الاجتماعية أو الفكرية بالاستناد لتقاليد فكرية معينة داخل الليبرالية، وهو ما يؤدي إلى وصفه للفكر الليبرالي بأنه في حالة تشكل وتحول مستمرة في الأنماط والأنساق المفاهيمية نتيجة للجدل والحوار المستمر بين الرؤى المختلفة، وأن الفيصل ليس هو صواب أو خطأ التفسير أو المعنى الذي تقدمه كل مدرسة للمفاهيم بل صلاحية المعنى في التعبير عن واقع اللحظة التاريخية والتعامل مع إشكالاتها النظرية والواقعية([14])، وعبر هذا الجدل والتأويل والتفاعل والتنازع يتم كشف “الأساطير” بمعنى التشكيلات الكبرى للنسق والسائدة والهيمنة لفترة طويلة دون مراجعة والمتحكمة في التفكير، أي العلاقات المفترضة نظريًا بين المفاهيم ومعانيها والأفكار وترتيبها ويتم الانتقال لنسق جديد ما يلبث أن يستقر ثم يستدعي تحول النظرية والواقع لمراجعته من جديد ..باتجاه التجديد([15]).

 

وقد كانت هذه الرؤى السابقة تسعى لإكساب هذا التنازع مشروعية بل ووظيفة هامة في تطوير الفكر الليبرالي، فالليبرالية ليست فقط مضمون القيم التي يدافع عنها هذا الفكر بل أيضاً قبول التعددية في عملية إنتاج الفكر نفسه لكن رؤى أخرى كانت أكثر تحفظًا في تقويمها، إذ يرى جاوس أن ما آلت إليه الليبرالية نتيجة تعدد مدارسها وتنازعها هو حالة من الفوضى الفلسفية، وأن ما يسمى تطويرًا للمفاهيم قد أكسب النسق المفاهيمي الليبرالي سيولة قربته من غيره من الأنساق (فهناك أطياف من الفكر الليبرالي تتقارب في تقييد الدولة مع الفكر اليساري وأخرى مع الفكر الديني في اهتمامها بالأسرة مثلا)، وكانت النتيجة هي أن الليبرالية عبر القرن العشرين لم تفلح في حل إشكالاتها الأساسية أو الوصول لاتفاق بشأنها وأبرزها العلاقة بين الفردية والجماعة السياسية، والحرية والعدالة، وهكذا فإنه يرى أن النظرية السياسية الليبرالية قد خذلت أنصار الليبرالية خلال القرن العشرين، ولم تعد نظرية بل صارت مجرد إطار عام([16]). (وهذه مهم لأنه يعني أن الاجتهاد هنا واجب لازم وينعكس على صناعة واقعنا وعلى مساهمتنا في صناعة رؤية الانسانية جمعاء للمعني السياسي للجماعة )

 

لكن بعض المفكرين الغربيين رأوا أن المطلوب من الفكر الليبرالي ليس حل الإشكاليات الكبرى، بل تطوير الجدل بشأنها، وبذلك ففي ظل هذا الاقتراب فإن الليبرالية قد شهدت خلال القرن العشرين تطورًا ملموسًا وتحولاً نوعيًا لا يمكن تجاهله، وهو أنها صارت أيدلوجية “محدودة المركز/صغيرة النواة “، تقبل بالتنوع في إطار مدارسها وتبني تطورها على التوفيق في الرؤى وليس وجود مركز ثقل وهوامش فرعية ، وعلى ذلك فإن وصف الليبرالية كنسق مفاهيمي مع نهاية القرن العشرين بأنها غير متسقة وهشة وغير حاسمة ليست أوصافًا ضدها بل في صالحها وتعكس حيويتها([17]).(كيف يكون هذا الأمر عندنا في ظل حساسية البعد العقيدي، وكيف يمكن التميز بين الاجتهاد السياسي والاشكاليات التكفيرية ؟)

 

وقد قدم ماكنتاير تحليلاً عميقًا لأسباب هذا التنازع بين مدارس الفكر الليبرالي، وحاول فهم دينامية هذا الاختلاف وجذوره التي رأى أنها تعود بالأساس للخلاف في تعريف العقلانية التي جعلتها الليبرالية منطلقها الفلسفي الأساسي، وبناءً على هذا الاختلاف في التعريف كان التنازع حول العدالة والقيم والفضائل وحدود الفردية ومضمون الجماعية السياسية، والاختلاف حول دور القانون ووظيفة الأخلاق، كما أن هذا الاختلاف قد أخذ أشكالاً عدة تاريخيًا في ظل تقاليد فكرية وسياسية متنوعة لا يصعب تمييزها في المكان ما بين اسكتلندية وبريطانية وأمريكية على سبيل المثال ، (قارن مع مفاهيم ورؤى النظام الاسلامي بين البلدان الاسلامية مثلا) وكانت له “لغة” أو خطابات متنوعة منها ما هو اقتصادي بالأساس ومنها ما هو سياسي وفلسفي، لذلك قدمت الليبرالية إجابات متنوعة ومختلفة، ولكي تتم دراسة الليبرالية بعمق يجب في ظل هذه الأطياف المختلفة الوعي بأن الليبرالية قد راكمت عبر الزمن تقاليد مختلفة، وهو تناقض لافت مع نشأتها التي جاءت كثورة على التقاليد، لكن مضى الزمن وتراكم الإنتاج الفكري خلق تقاليد فكرية داخل النسق المفاهيمي الليبرالي، وقد لا تتوافق بالضرورة، ومن هنا حتمية التفسير والتأويل، وهو ما يدعو لمراجعة مقولات الليبرالية باعتبارها رؤية عالمية تملك تميزًا “عقلانيًا” ، فالعقلانية ثبت أنها ليس لها تعريف واحد، بل والعدالة أيضًا ليس لها تعريف واحد، وبذلك فزعم العالمية يحتاج إعادة نظر، فهي مثل مركز الفكر الليبرالي: عالمية كالخيط الرفيع لا تحقق وعودها بالتجانس ولا التفوق الفلسفي، وأن أبرز أساطير الليبرالية التي ثبت أنها “وهم” كما يصفها هو فكرة الحياد الأخلاقي وحياد الدولة والتي أدت لتصور بالغ المحدودية للنفع العام أخفق في ضمان الحرية والعدالة وتحقيق المثل الليبرالية([18]).

 

ولا يجب على الباحث في نظر ماكنتاير أن يقبل ما تقوله الليبرالية عن نفسها بل أن يفتش في أزماتها، وأن يصفها بما يراه ملائمًا لحالتها، وأهم هذه الأوصاف هو أن الليبرالية التي كانت ضد التقاليد قد صنعت تقاليدها، وأن الليبرالية التي أعلت من شأن العقل قد عجزت عن تقديم مفهوم موحد للعقلانية، وأن الليبرالية التي نادت بالتحرر من التاريخ صار لها تاريخها وتقاليدها، لذا فليس ما يستحق ابذل الجهد ليس محض وصف تطورها بل فهمه وتفسيره وتأويله، وإعادة قراءة تطورها وتواريخها، وصياغة “رواية” مختلفة لهذا التاريخ لكي نفهم “منطق” تطور الليبرالية وتحولات نسقها المفاهيمي([19]).

 

ولا شك أن فكرة “التقاليد” الفكرية لليبرالية مدخل هام للتحليل، إذ أنها تجعل الباحث يرصد تحولات الليبرالية الداخلية من تحول المقولات أو تغير المعاني دون اعتبارها “نهاية” لليبرالية “وبداية” لما بعدها، وهو ما يذهب إليه بعض نقادها الذين يرون تحولاتها في جوهرها “تحول عنها” وليس “تحولاً فيها”، وبذلك يعلنون نهايتها أو انقضاء عهدها([20])، وهي رؤية تحسم “نهاية تاريخ” الليبرالية ذاتها باعتبار أن التغير قد قضى على مقوماتها وجوهرها، في حين تعيننا رؤية ماكنتاير على الوعي بأن التحول مرحلة داخل تاريخ الليبرالية الممتد،من الأدق وصفه بالليبرالية “المتأخرة ” أو الأحدث مثلما صك فريدريك جيمسون وصف “الرأسمالية المتأخرة”، مما يدفعنا للتحفظ على وصف هولمز لنقاد الليبرالية بأنهم معادون لليبرالي أو مناقضون لها([21])، بل النظر لنقاد الليبرالية باعتبارهم يقدمون رؤية أخرى لليبرالية، أو “ليبرالية أخرى”، وهو ما بدأ هؤلاء في إعلانه بإقران تسمية مدارسهم الفكرية بوصف الليبرالية بشكل صريح في الآونة الأخيرة([22])، وأبرزهم التيار الجماعوي الذي كان يعد من أهم معارضو الليبرالية في حين أنه الآن يحاول بناء شرعيته الفلسفية باعتباره يمثل جوهر الليبرالية، وهو ما يتضمن إعادة قراءة لتاريخ الليبرالية من منظوره، وهكذا تعاد صياغة المعاني ويعاد ترتيب التصنيف والتوصيف لدارسي الفكر بشكل متجدد على الساحة الفكرية الليبرالية.

 

ويردنا هذا الفهم للتقاليد أيضًا إلى معنى المعاصرة الذي لا ينفك عن التاريـخ وحديث

 

 بول عن إعادة قراءة تاريخ الفكر، فإذا كانت هذه المدارس المختلفة داخل الليبرالية قد انبنت على قراءات مختلفة لليبرالية وفلسفتها، وتاريخ الفكر وتفسيره، فإن جدلها ونزاعها حول المفاهيم الأساسية هو من ناحية تطوير فعلي لأفق المعنى ومن ناحية ثانية هو استعادة لمعاني ثم تهميشها داخل الليبرالية في مراحل مختلفة ويتم الآن “استعادة المعنى”، أي أن الإضافة للمعنى تسير متوازية مع تجديد بعض المعاني وإحياءها، وهكذا تبدو الليبرالية مشابهة لأي نسق فكري ينمو من ناحية ويجدد جذوره مع تطويرها من ناحية أخرى([23]).

 

وهنا ينبغي الاتفات للعلاقة بين الحداثة والليبرالية، أي بين الأطروحة الفلسفية وانعكاسها في الفكر السياسي والاقتصادي للنسق المفاهيمي الليبرالي، التي شغلت العديد من رموز النظرية السياسية الليبرالية، فقد ركز برايان تيرنر على الحداثة كتطور تاريخي له معالمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتزامنة، ورأى أنه عند دراسة المواطنة تحديداً فأن “حالة الحداثة” هي نفسها “حالة المواطنة”-لا ينفصلان، وكذلك فإن “تاريخ” صعود المواطنة هو ذاته تاريخ تراجع الدين ونمو العلمنة ،منطلقاً من التاريخ الاجتماعي نحو النظرية الاجتماعية (فكيف نربط رؤانا نحن للمواطنة بنقدنا للحداثة رغم كوننا نعيش في ظلها بما يفرض ضرورات ويضع تحديات) ([24]) ، في حين نجد كونوللي يركز على الحداثة “كمناخ فكري” يقدم للجدل السياسي أسئلة فلسفية وأخلاقية ترتبط بقضايا المعنى والتاريخ والإنسان والحياة، وتسعى لأن ترسخ عبر قيم الحرية والمساواة والمشاركة رؤية تراها متقدمة على ما قبلها(لاحظ تصوره الخطي للتاريخ)، أي أن الحداثة حالة عقلية وأيضاً عقلانية تخلق مناخًا للتفكير في القضايا السياسية ، ومنها يستقى جدل المواطنة والمصلحة  العامة والحرية السياسية والمساواة والعدالة والديمقراطية إطاره في ظل الليبرالية([25])، أي بمعنى آخر أن “فلسفية” الحداثة هي نواة ومركز الفلسفة والنظرية السياسية الليبرالية ([26]).

 

لكننا نجد من يرى في المقابل أن العلوم الاجتماعية تنشغل بالأساس بالحداثة كنسق اجتماعي/ ثقافي، وبذلك فإن الجدل يجب أن ينشغل بتجليات هذه الفلسفة الحداثية التي وضعت الإنسان في قلب الانشغال الفلسفي واهتمت بالطبيعة وعلاقته بها وبالواقع وأولويته على الماضي وعلى الميتافيزيقا، وليس بالفلسفة ذاتها وقضاياها، وأبرز هذه التجليات هي الفردية في المجال الاجتماعي والسياسي وبروز أهمية الواقع اليومي، والتعامل مع المساحة وإدارة الجماعة من خلال أبنية مركبة وعمليات تفاعلية منظمة، أي الانشغال بالمظهر الاجتماعي/ الثقافي/ السياسي للحداثة والتعامل مع قضاياه العملية ([27])، وهكذا يصبح لدينا تعريفين للحداثة: تعريف فلسفي نظري وتعريف اجتماعي هيكلي وظيفي، وهذين التعريفين يعكسا بدورهما الرؤيتين المتعارضتين في الليبرالية، الرؤية الفلسفية والرؤية الاقتصادية السياسية، أو كما يسميه البعض الليبرالية السياسية/الأخلاقية والليبرالية الاقتصادية([28])، وهو ما ينعكس بدوره في تصورات المواطنة بين التصورات النفعية الفردية والتصورات الجمهورية المدنية، وفي تحليل المفاهيم بين البراجماتية الإمبريقية والتحليلية، ولا يمكن في الحقيقة فهم تحولات المعنى في مفهوم المواطنة ولا اختلاف الرؤى داخل المدارس الفكرية الليبرالية إلا بالوعي بموقفها تجاه قضايا الحداثة، أو في التحليل تجاه القضايا والإشكاليات المرتبطة بالعقل والتاريخ والوجود والتي هي جوهر وأصل الاختلاف والوجه الفلسفي للنزاع والجدل السياسي، ومصدر التنازع بشأن المعاني والمفاهيم، أي أن الخلاف حول المواطنة كمفهوم وكحالة وكمكانة وكهوية لا ينفك عن تصورات الحداثة ومدارسها وفهم الحداثة كحالة وتصور لمكانة الإنسان وهويته ومكانته ، وكما ذهب رينجر فإن القضايا الكبرى التي تشغل النظرية السياسية وهي الخصوصية والعالمية (والتي تتجلى في دراسة الجوانب الثقافية للمواطنة والليبرالية) والطبيعة (والتي يدخل في إطارها المصالح الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية في المدن وقضايا البيئة بل وقضايا المرأة والجسد في زاويتها الأخلاقية) والعقل (والذي هو مدار النظرية الديمقراطية والمشاركة السياسية وتصورات المواطن الفرد وتنازع المعاني وحدود الفردي والجماعي) هي قضايا مرتبطة بالحداثة ورؤاها والمواقف المختلفة لمدارس الليبرالية من أفكار ومفكري الحداثة في كل قضية([29])، أو كما يعبر بدقة أن النظرية السياسية تعيش “في داخل” الحداثة وليس في ظلها أو معها فحسب ، وأن الفكر الأنجلو-أمريكي يتنازعه في هذه القضايا الثلاث الكبرى (العالمية-العقل-الطبيعة) الاتجاه نحو الوضعية والنسبية في العلم وفي اللغة([30])، مع أهمية تأكيدنا -كما سيأتي- على أن التيارات والمدارس التي تعارض هذه النزعة لا يجب تصنيفها بأنها معادية للحداثة بل هي ناقدة لها، مثلما ذكرنا آنفًا أن المدارس الناقدة لليبرالية الفردية ليست ضد الليبرالية بل تقدم نقدًا لها، وإذا كانت تلك المدارس النقدية تناقش الحداثة كمزاج أو حالة عقلية/فلسفية فإنها لا فكاك تعيش في قلب الحداثة كواقع اجتماعي وثقافي([31])، وهو ما يجعل دراستها وتقويم مواقفها النظرية ورؤاها للقضايا العملية المرتبطة بالمواطنة مسألة مركبة للغاية.

 

وقد التفت البعض لقضايا التجاوز/التعالي والتجلي/التعين في النظرية السياسية في هذا السياق، وأكد أن الباحث قد لا يجد هجومًا مباشرًا على الإلهي أو الميتافيزيقي أو المتجاوز، لكن محض تكريس الطبيعي/ المتجلي/ المتعين في المفاهيم والمعاني والاقتراب والسياسات هو استبعاد وإقصاء للمتجاوز (الهيمنة على المساحات الفكرية والسياسية)، وأن هذه الجدلية في العلاقة بين كلا التوجهين هي التي تفسر تحولات الحداثة([32])، وهو أيضًا جوهر فلسفة ما بعد الحداثة التي لا يراها مرحلة تاريخية تعلن نهاية الحداثة (مثلما “ما بعد” الليبرالية ليست نهاية لليبرالية بل تحول فيها كما سبق الذكر فيمذهب ماكنتاير) بل هي رؤية فلسفية نوعية كامنة في الحداثة نفسها وفي تصوراتها،ومدرسة من مدارسها منذ نيتشة، وأن النظر للحداثة لا يجب أن يكون باعتبارها مراحل متعاقبة بل حالة جدلية مستمرة ومتفاعلة وديناميكية([33]).

 

وإذا كان مفهوم المواطنة يتسم بهذا التنازع بشأنه في الفكر الليبرالي والحداثة بدورها تواجه هذه “السيولة” في خصائصها المتحولة كما وصفها باومان والتي لا تجعل هناك “مرفأ” يستقر عليه الفكر([34])، وفي مشهدها الاقتصادي الليبرالي الرأسمالي أيضًا توصف بالرأسمالية الرخوة سواء في الداخل في أو في ظل العولمة([35])، فإن سمات “عدم الاستقرار” و”عدم الاتفاق” و”عدم اليقين” لمجمل حالة الحداثة وبالتالي حالة المواطنة تصبح هي بعينها أساس مشروعية -بل ضرورة- التفسير والتأويل، ولذا يصبح من المهم عند تعريف المواطنة عدم النظر إليها باعتبارها هوية أو مركز قانوني أو انتماء سياسي وحسب، بل بالأساس باعتبار المواطنة “سعي تأويلي وتفسيري” ([36])سواء من جانب المنظر السياسي، أو من جانب المواطن/ الفرد الذي يقف في ظل هذا كله ليبحث عن المعنى وليصوغ لنفسه موقفا من قضايا الذات وعلاقته بالجماعة السياسية وممارسته لحقوقه وصياغته لهويته وشروط الديمقراطية التي تعبر عن إدراكه ووعيه في ظل رابطة سياسية تشهد كل مكوناتها بدءاً من مفهوم الإنسان إلى طبيعة الجماعة إلى فلسفة الحق إلى مشروعية القانون إلى مركزية الدولة تغيرًا نوعيًا غير مسبوق، أي النظر للمواطنة ذاتها كـ”عملية تفسيرية” مستمرة (بل ويومية كما أسلفنا في الإدراك المتزايد للسياسة كفعل يومي) سعياً لإكساب ذلك المفهوم المعنى والدلالة المتجددين في ظل فكر وواقع متغيرين، وهنا تصبح حالة إعادة التأويل الفردية والجماعية المستمرة لمعنى المواطنة سواءً اليومية العملية أو الفكرية النظرية- هي شرط الممارسة الديمقراطية الحقيقية ، إذ تعطي حالة التأويل المواطن ليس فقط حق المشاركة وحسب بل حق تحديد معنى الهوية والذات ، ومعنى الديمقراطية ومعنى المشاركة ودلالاتها، أي حق وضع شروط الحالة الديمقراطية ابتداءً.

 

لذا يمكننا فهم ومناقشة نظرية اسلامية وعربية معاصرة للمواطنة  وفقًا لرؤى الذات / الإنسان / المواطن،عبر ثلاث قضايا تمثل خيوطًا تنظم الأفكار المختلفة حول المواطنة وتربطها بالنظرية السياسية في قضاياها السائدة الآن وهي رؤى المواطنة والدولة ،ورؤى المواطنة والديمقراطية ،ورؤى المواطنة والأخلاق.

 

 فالفرد /المواطن كبؤرة للدراسة هنا يتم التنظير له ولطبيعته وذاته في علاقته بالجماعة السياسية والدولة باعتبارها موضوعًا رئيسيًا في النظرية السياسية، إلا أن تركيزنا هنا في هذه الدراسة على مفهوم المواطنة له نتائج في النظر والتنظير وهو أنه يجعل الدولة كمفهوم تابعة لتصورات المواطن وتدور معها(وهذا في غية الأهمية لمصر الآن) ،ويعيد التوازن للمفاهيم السياسية التي أدت مركزية الدولة كمفهوم داخل منظومتها النظرية لتراجع التنظير بشأن الفرد باعتباره الفاعل السياسي الأول، والأولى بالاهتمام ،أي عودة الفاعل الفردي كبؤرة للتحليل في علم السياسة كما عاد في علم الاجتماع بعد طول حديث عن الأدوار والأبنية ، فحين يصبح مثلاً تصور المواطن رشيداً وحراً ينعكس هذا في رؤى الدولة كحكم وحارس تدير المجال السياسي ونزاعات السلطة بدرجة دنيا عبر القانون، وحين يصبح تصور المواطن عقلانيًا نفعياً يتنامى النظر للدولة باعتبارها شر لا بد منه لوقف حرب الكل ضد الكل وعليه يجب إبقاءها في حدودها الأدنى، وحين يصبح التصور للمواطن أنه صاحب مركز حقوقي تجاه الدولة وهي التي تتحمل مسئولية رفاهته وتضبط ميزان العدالة تزيد مساحة الدولة في مرآة مفهوم المواطنة كدولة رفاهة وتتحول من شر لا بد منه إلى فضيلة ومثالية، وهكذا. وكان نيتل أبرز من كتب في تحولات مفهوم الدولة في التحليل المفاهيمي وثقلها في منظومة المفاهيم التحليلية باعتبارها “متغيرًا مفاهيميًا“([37]) لا باعتبارها موضوعًا للنظرية وحسب، وهو ما يعطي علاقة المفاهيم وتحولاتها في النسق المفاهيمي الليبرالي دينامية عالية وحركة في رصد تاريخ شبكة المفاهيم وتغيرها النسقي والنوعي، وهو التغير النوعي الذي أعاد الاهتمام بمفهوم المواطنة بسبب تحولات مفهوم السيادة مع العولمة وتراجع الطبيعية القومية/ القطرية للدولة بالتالي والتغير الذي طرأ على تصوراتها، وبذلك يصبح لزامًا رصد هذا التغير وعلاقته بصعود فكرة المواطن واتساع دلالاتها ما وراء الدولة بحدودها السياسية، والمفاهيمية النظرية.

 

وهكذا فكما تنزع فكرة الديمقراطية التشاورية -أي التي تعتمد على الجدل العام وليس التمثيل النيابي فحسب – مركزية الدولة في الإدارة السياسية لتضعها كطرف في العملية التشاورية والسياسية المدنية ، كذلك تؤدي التحولات الداخلية والدولية إلى مراجعة مركزية مفهوم الدولة في النظرية السياسية وعودة البحث في مفهوم المواطنة وتنامي الاهتمام به وبتحولات مساحاته الدلالية، وهو ما يستتبع إدراك الدولة كمتغير مفاهيمي منفكة عن الأبنية والأجهزة المختلفة كجهاز ،إما كظاهرة اجتماعية ثقافية تعاقدية كان الفرد سابقاً عليها ومؤسساً لها كما في نظرية العقد الاجتماعي، أو ربما أيضاً كـ “أسطورة مفاهيمية” حكمت النظرية السياسية طويلاً ككيان “أشبه بالشبح الذي يطارد الباحث” كما يصف نيتل ([38]) والذي دعا لدراسة “منطق” الدولة في سياق التقاليد السياسية لنشأة ودور الدولة الحديثة في أياً كانت المدرسة الفكرية موضع التحليل والدراسة من ناحية”([39]) ، وكذا في سياق التقاليد الفكرية/ الفلسفية المتوازية داخل رقعة حضارية جغرافية، أي كيف كانت نشأة الدولة في كل قطر وكيف تم التفكير بشأنها، وهكذا يكتسب تحليل الدولة كمتغير مفاهيمي بعدًا وجوديًا اجتماعيًا وتأريخياً فلسفيًا يسمح بتحليلها كمفهوم، وتفسير تحولاتها في علاقتها المتشابكة والعضوية بمفهوم المواطن وأثر تغيرات كلا المساحتين الدلاليتين على شكل الرابطة السياسية أو إذا أردنا الدقة: أشكال الرابطة السياسية المتجددة، أو الجديدة، كما سنرى([40]).

 

وأما بالنسبة لتصورات الديمقراطية فإن طبيعة إدراك وفهم المواطن كفاعل سياسي، وفي علاقته مع الدولة، تحدد بطيعة الفعل الذي يعبر عن مواطنته ويحقق دوره كمواطن، والأشكال والصيغ التي يأخذها هذا الفعل، أي صور الممارسة الديمقراطية التي تتم لتحقيق المواطنة الفاعلة، وبذلك فلا ينفصل عن التحليل السابق للفرد ولرؤى الدولة إذ تصبح الممارسة الفردية والجماعية للديمقراطية بمثابة الجسر بين المفهومين، وكما تتغير رؤى الدولة ومنطقها كمتغير مفاهيمي يقترن بتحليل المواطن وتصوراته، تتغير رؤى الديمقراطية، فالفرد النفعي الذي ينشد المصلحة الذاتية عبر رابطة سياسية هي شرط لتحقيق أكبر منفعة وأقل ضرر يفكر في العملية السياسية باعتبارها تضمن له تمثيلاً لمصالحه في السلطة وبذا تسود رؤية مدرسة الخيار الرشيد، ويصبح نموذج الديمقراطية النيابية نموذجًا مناسبًا، في حين أن المواطن المدني/ الجمهوري الذي يؤمن بفكرة المنفعة العامة التي “تتجاوز” مجرد تراكم المصالح الفردية و”اليد الخفية” التي تنسقها سيشارك في المجال العام بشكل فعال وينظر للسياسة بمنظور واسع وحس من المسئولية الأخلاقية “المتجاوزة”، وهكذا تصبح مسارات الفعل الديمقراطي أقرب لتقاليد الديمقراطية المدنية-الجمهورية أو نموذج الديمقراطية التدبرية، وهكذا.

 

وإذا كان لا بد من اختيار بؤرة للتحليل فإن اختيار مفهوم المواطنة يجعل الفرد/ المواطن هو منطلق التنظير والربط بين المفاهيم باعتباره مفهومًا عنقوديًا يشتبك مع هذه المفاهيم المركبة في علاقة ارتباطية ويمثل نقطة ارتكازها.

 

وتبقى أخيراً مسألة الجدل بشأن الأخلاق والقيم، والذي هو بطبيعته قرين الذات الإنسانية وتصوراتها ويعطي الخريطة السابقة البعد الثالث المكمل لها، فلا دولة بلا قيم مسئولية وولاء وهوية وانتماء، ولا ديمقراطية بلا عدل وحرية، ولا إنسان بلا معاني مجردة أو متعينة تمثل دافعية لفعله السياسي سواء الرشيد/ العقلاني أو المثالي/ المتجاوز أو المتجرد، وسنرى عبر المباحث المختلفة من هذا الفصل كيف أن جدل الأخلاق والقيم قد شهد بدوره صعوداً مع صعود مفهوم المواطنة ذاته ، وتحولاً موازياً (ملازماً) لتحولاته ، ونرى كيف أن دلالته اتسعت وتنوعت، وصار موضوعاً يشغل النظرية السياسة متحركاً من قضايا الهامش الفلسفي إلى مركز الاهتمام النظري بل والجدل الديمقراطي الجاري في الواقع.

 

….

 

إذا رسمنا الخرائط هكذا يمكننا أن نبدأ التفكير العملي في مستقبل مصر.

 


 


 

·        مدرس العلوم السياسية-جامعة القاهرة

 

 

 

 ([2]) راجع هذه التقسيمات التقليدية في تعريف المفهوم والتي حكمت مباحث دراسته، على سبيل المثال في:

 

– Derek Heater, What is Citizenship., Cambridge: Polity Press, 1990.

 

– _____________, The Foundations of Citizenship, NY: Harvester, 1994.

 

 ([3])Bart Van Steenbergen, “The Condition of Citizenship”, in: Bart van Steenbergen (ed.), The Condition of Citizenship, London: Sage, 1996, pp. 1-9.

 

 ([4]) – حول إعادة تعريف المواطنة باعتبارها مسعى فردي وجودي راجع:

 

– Michael Walzer, “Citizenship” ,in: Terence Ball et.al. (eds.), Political Innovation.., op. cit., pp. 213-217.

 

– وحول ربط ذلك بالوعي الوجودي للفرد في ظل الحداثة والتوجه نحو إعادة تعريف السياسة نحو مزيد من الفردية راجع:

 

– Agens Heller, “The Concept of the Political Revisited”, op. cit., pp. 337-340.

 

 ([5])Ralf Dahrendorf, “The Changing Quality of Citizenship” in: Steenbergen, op. cit., pp. 10-19.

 

 ([6])J.G.A. Pocock, “The Ideal of Citizenship since Classical Times”, in: Ronald Beiner (ed.),Theorizing Citizenship, op. cit., pp. 29-52.

 

 ([7])Michael Ignatieff, “The Myth of Citizenship”, in: Ronald Beiner (ed.) ,Theorizing Citizenship, NY: The State University of New York Press, 1995, pp. 53-77.

 

 ([8])Robert Nisbet, “Citizenship: Two Traditions”, Social Research, Winter 74, p. 613.

 

 ([9])Bart Van Steenbergen, “The Condition of Citizenship”, op. cit., pp. 2-3.

 

 ([10])Berman Van Gunsteren, “Four Concepts of Citizenship”, in: Steenbergen, op. cit., pp. 36-42.

 

 ([11])Michael Freeden, Ideologies and Political Theory, op.cit., p.123.

 

 ([12])William A.Galston, Liberal Purposes; Good, Virtues and Diversity in the Liberal State, Cambridge: Cambridge University Press, 1991, p. 195.

 

 ([13])Richard Dagger, Civic Virtues: Rights, Citizenship and Republican Liberalism, Oxford: OUP, 1997, p 4.

 

([14])Ibid., pp. 104-11, 124-125

 

 ([15])Ibid., p. 107.

 

– وانظر نفس الفكرة لدى ماكنتاير في:

 

– Alasdair McIntyre, Whose Justice? What Rationality?, Notre Dame (Indiana): Notre Dame University Press,1995, p.335

 

 ([16])Gerald F. Gaus, “Ideological Dominance through Philosophical Confusion; Liberalism in the Twentieth Century,” in: Michael Freeden (ed.), Reassessing Political Ideologies: The Durability of Dissent, London: Routledge, 2001, pp. 14-18.

 

 ([17]) Michael Freeden, “Political Ideologies in Substance and Method: Appraising a Transformation”, in: Michael Freeden (ed.), Reassessing Political Ideologies, op.cit., pp. 7-10; Micheal Freeden, “Ideologies: Balances and Projections”, in: ibid., p. 203.

 

 ([18]) McIntyre, op. cit., pp. 327 – 345.

 

 ([19]) Ibid., op. cit., pp. 348 – 362.

 

 ([20])راجع على سبيل المثال وصف تيودور لوفي في الستينات، ووصف جون جراي في نهاية التسعينات، وهو في حوهره يعكس تصوراً للتاريخ والزمن وإدراك له بالأساس، وكلاهما له رؤيته الليبرالية الكلاسيكية الخاصة:

 

– Theodore Lowi, The End of Liberalism: The Second Republic of the United States, New York: W.W. Norton, 1969, pp. 28 – 31, 310 – 313.

 

– John Gray, Post – Liberalism: Studies in Political Thought, London: Routledge, 1996.

 

 ([21]) راجع كتاب هولمز الهام الذي كرس هذه النظرية وصار مرجعًا أساسيًا في فكرة نقاد الليبرالية باعتبارهم معادون لها، وهي النظرة التي تغيرت جذرياً بنهاية التسعينات=

 

– Stephen Holmes, The Anatomy of Anti-Liberalism, Cambridge, Massachussatts, Harrard University Press, 1993, pp. 1-185.

 

 ([22])راجع على سبيل المثال الخطاب “الجديد” للتيار الجماعوي في:

 

– Thomas A. Spragens, “Communitarian Liberalism”, in: Amitai Etzioni (ed.), New Communitarian Thinking: Persons, Virtues, Institutions and Communities, Virginia: The University Press of Virginia, 1995, pp. 37-51

 

 ([23])Terence Ball, et,al, (eds.), Political Innovation and Conceptual Change, op.cit., pp. 4-5.

 

 ([24])Bryan Turner, Citizenship and Capitalism: The Debate over Reformism, London: Allen &Unwin,1986, pp.17-18,22.

 

 ([25])William E. Conolly, Political Theory and Modernity, Oxford: Blackwell, 1988, pp. 1-2.

 

 ([26])Richard Bernstein, The New Constellation: The Ethical Political Horizons of Modernity, Cambridge: Bility Press, 1991, p.9.

 

 ([27])Anthory Giddens, The Consequences of Modernity, Cambridge: Polity Press, pp. 1-5.

 

 ([28])Richard Bellamy, Liberalisum and Modern Society: An Historical Argument, Cambridge: Polity Press, 1992, pp. 1-8.

 

 ([29])Nicholas J. Rengger, Political Theory, Modernity and Postmodernity : Beyond Enlightenment and Critique, Oxford: Blackwell, 1995, pp. 113-116..

 

 ([30])Ibid., pp. 133-143.

 

 ([31])Ibid., p. 146.

 

 ([32])Ibid., pp. 56-59, 162-173.

 

 ([33])Ibid., pp. 199-205.

 

 ([34])Bauman, Liquid Modernity, op. cit., p. 29.

 

 ([35])Bryan S. Turner, “Ouline of a Theory of Citizenship”, in: Bryan Turner and Peter Hamilton(eds.), Citizenship: Critical Concepts,. London: – Routledge, 1994, Vol I., pp. 199-200.

 

– Nigel Thrift, “State Sovereignity, Globalization and the Rise of Soft Captalism”, in: Coling Hay and David Marsh (eds.) Demystifying Globalization, London: Palgrave, 2000, pp. 71-74.

 

 ([36]) صك أليجاندرو هذا التعريف الهام “المواطنة كسعى تفسيري”  Citizenship as a hermeneutic   endeavor راجع:

 

– Roberto Alegjandro, Hermeneutic, Citizenship and the Public Sphere, New York: State University of New York Press, 1993, pp. 33-34.

 

([37])J.P. Nettl, “The State as a Conceptual Variable”, World Politics, Vol. XX, No.4, July 1968, p. 559.

 

 ([38])Ibid., p. 560 – 561.

 

 ([39])يستخدم نيتل في مقاله وصفين فريدين هما statecraft     و  stateness.

 

 ([40])Ibid., p. 559, 564.

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى