نحو سياسة خارجية مصرية جديدة

نحو سياسة خارجية مصرية جديدة: تقرير حول سلسلة حلقات نقاشية عقدها مركز الحضارة للدراسات السياسية

إعداد: ماجدة إبراهيم عامر*

الانكفاء على الذات والاهتمام بالداخل مع استبعاد -ولو مؤقت- لملفات وقضايا السياسة الخارجية، مقولة يثبت الواقع والأحداث عدم دقتها؛ لاسيما في ظل التداخل المطرد بين الداخل والخارج.

وإنْ ظل محور ومنطلق السياسة الخارجية المصرية هو الداخل بالأساس؛ لرعاية الأمن القومي والمصالح القومية للبلاد. وبهدف أساسي يتمثل في أن يكون السياسة الخارجية دورها في دعم أهداف الثورة وليس مجرد أن تعكس نتائجها.

الأمر الذي يدعو إلى ضرورة وضع السياسة الخارجية المصرية الجديدة في ظل رئيس منتخب بعد الثورة محل تدارس بين الأكاديميين والخبراء وصناع القرار الخارجي المصري من منطلق وطني تعددي وليس من منطلق حزبي أو توجه سياسي واحد.

من ثمَّ يُنظم مركز الحضارة للدراسات السياسية سلسلة حلقات نقاشية محدودة بعنوان “السياسة الخارجية المصرية الجديدة والأمن القومي المصري“؛ لتسليط الضوء على هذا الملف, ومحاولة الخروج برؤية أساسية وتأسيسية تُوجَّه إلى صانع القرار ومن يعنيه هذا الشأن. وغايتها تقديم رؤى وسيناريوهات ومقترحات لسياسات وبرامج عمل تسهم في تطوير “سياسة خارجية مصرية جديدة” تصل الواقع بالمنشود. عقد من هذه الحلقات النقاشية ثلاث حلقات في الفترة من أول أغسطس حتى نهاية سبتمبر 2012 كانت عناوينها على التوالي: خصائص النظام العالمي والنظام الإقليمي: الفرص والقيود أمام السياسة الخارجية المصرية الجديدة ومتطلباتها، الحلقة الثانية: ملامح الرؤية الاستراتيجية للسياسة الخارجية المصرية… نحو طرح حضاري جديد، والحلقة الثالثة: مؤسسات صنع السياسة الخارجية وتنفيذها: التقييم والتطوير.

وينتظر أن تستكمل بثلاث حلقات أُخر تتناول الموضوعات التالية: أنماط التحالفات الإقليمية والعالمية، وأجندة القضايا ذات الأولوية، وشبكة الآليات والأدوات اللازمة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية المصرية الجديدة.

ويتناول هذا التقرير الحلقات الثلاث الأولى التي تم عقدها:

في الحلقة النقاشية الأولى (6 أغسطس 2012) بعنوان: “خصائص النظام العالمي والنظام الإقليمي: الفرص والقيود أمام السياسة الخارجية المصرية والمقتضيات الداخلية لهذه السياسةتم التطرق إلى أن القوى المضادة للثورات ليست داخلية فقط، ولكن خارجية أيضًا، وأن القوى الكبرى -وفي مقدمتها الولايات المتحدة- تساند الثورات العربية من منطلق أن مصالحها أضحت تتحقق بالديمقراطية وليس بضدِّها. لكن السؤال الأهم في هذه المرحلة: هل يمثل ذلك فرصة للثورات أم قيدًا كامنًا؟ وهل لدينا الرؤية عما يفعله بنا الخارج استغلالًا للثورات لتحقيق مصالحه؟ وبشكل عام، ثمة خصائص جديدة مع التحول في هيكل النظام الدولي نحو تعددية قطبية يتم اتضاحها واختبارها حاليًا (في الملف السوري خاصة)، الأمر الذي يتطلب إدراكًا ووعيًا من صناع القرار الخارجي المصري والتحرك إزاءه وفق ما يفرضه من تهديدات وتحديات على السياسة الخارجية المصرية وما يقدمه من فرص لها. ومن ثم، فهذا الواقع المعقد ليس له أن يجعل صانع القرار الخارجي المصري يقصر اهتمامه وحركته على بُعد التهديدات؛ بل هذا الواقع نفسه يعكس أيضًا مجموعةً من الفرص والإمكانيات أكدتها قدرة الثورات العربية على مواجهة أوضاع إقليمية ودولية لم تكن مواتية لها. لكن كيف لها أن تستمر في تلك المواجهة وطرح بديل جديد، وما المتطلبات لذلك؟ وهو ما يمكن لسياستنا الخارجية توظيف الأبعاد الإقليمية فيه؛ من مثل ضرورة الوعي بما يتم لإلهاء دول الثورات العربية بشأنها الداخلي، بل والاتجاه لتفكيكها وليس مجرد تقسيمها، ولعل نموذج اليمن وسوريا وليبيا بعد الثورات ينذر بهذا الخطر. وكذلك الوعي بما يتم من صمت وجمود عربي إزاء تطورات القضية الفلسطينية وما يتم من عمليات تهويد وتغيير معالم الأرض في ظل حالة عدم فاعلية النظام الإقليمي العربي متمثلاً في الجامعة العربية.

  أما عن البيئة الداخلية لسياسة خارجية مصرية جديدة ومقتضياتها، وكيف تعزز من القدرات الخارجية المصرية بما تنضوي عليه من فرص وإمكانيات تُمّكن من بناء توافق وطني، وليس أن تبقى حكرًا على الرئيس أو تتم في الكواليس دون شفافية، أو بدون مشاركة كافة القوى السياسية الوطنية،فقد تمت مناقشة هذه الأبعاد من أجل أن تنطلق السياسة الخارجية المصرية من قاعدة داخلية قوية ومتماسكة. مع تركيز المشاركين على نقطة غاية في الأهمية تتمثل في ضرورة أن تنشطالسياسة الخارجية المصرية وتبادر في سيناريو آني، لخدمة الشأن الداخلي والتنمية الداخلية، وتهيئة البيئة الخارجية غير المعادية، وتفادي الأزمات على نحو يُمّكن من انصراف الجهد للنهوض الداخلي دون الانجرار لأزمات أو صراعات خارجية.

وفي الحلقة النقاشية الثانية (29 أغسطس 2012) التي جاءت تحت عنوان: “ملامح الرؤية الاستراتيجية للسياسية الخارجية المصرية… نحو طرح حضاري جديد، بدأت الحلقة بنقاش ما يمكن معه استكشاف أبعاد ودلالات ما تعكسه التحركات الخارجية المكثفة عبر شهرين من تولي الرئيس مرسي- وليس باعتبارها فترة اختبارية كافية لتقييم أداء السياسة الخارجية الجديدة- والتي تُبرِز، وفق المشاركين بالنقاش، حالةً من التدرجية الحذرة، وأنها محاولة إدارة أحداث جارية وملفات مفتوحة فرضت نفسها على مصر مما جعلها أشبه بعملية “السيطرة على الدمار” “Damage Control“؛ إذ تحاول استدراك ما لحق بالسياسة المصرية داخليًا وخارجيًا خلال عقود سابقة، وحتى بعد الثورة، فقد وضع المجلس العسكري سياسة مصر الخارجية في وضع “خارج نطاق الخدمة”، بينما تتم إعادة رسم خريطة المنطقة إقليميًا على يد قوى أخرى. ومن ثم، فإن هذه الملامح ربما لا تعد مؤشرات عن توجهات جديدة للسياسة الخارجية تعكس التغير في النخبة الحاكمة، بقدر ما تحمل رسائل تغيير رمزية، وأحيانًا رسائل تطمينات ومواءمات، وإنْ حافظت في مجملها على مبادئ وقيم الثورة، في محاولة لاستعادة الحضور، وبناء المبادرة.

ثم انتقل المشاركون لطرح أبعاد وملامح الرؤية الاستراتيجية المرجوّة للسياسة الخارجية المصرية: طرح المشاركون أبعاد الرؤية الاستراتيجية التي من شأنها أن تعكس خريطة مفصلة من: التوجهات والرؤية للذات والعالم وطبيعة الدور الخارجي الذي تريده مصر الثورة لذاتها ولمحيطها الإقليمي والدولي، ومحدداتها العامة داخليًا وخارجيًا، ثم إلماح للأدوات الأوْلى بالالتفات إليها عند تنفيذ تلك الرؤية الاستراتيجية. حيث تضمن النقاش الإجابة عن الأسئلة الأساسية حول تشكل الرؤية الاستراتيجية للسياسة الخارجية المصرية وفق توجهاتها الجديدة عقب الثورة وثوابت السياسة المصرية غير المقصورة على توجه النخبة الحاكمة فيها، وهي: منْ نحن؟ وأين نريد أن نكون؟ وما الموارد المتاحة؟ وما الدلالة بالنسبة للمحددات والآليات؟ ومما لا شك فيه أن “إسلامية” النخبة الجديدة في السلطة ستظل تفرض نفسها على الإجابة على هذه الأسئلة، ومن ثم على درجة التغير في توجه السياسة الخارجية المصرية.

 البعد الخاص برؤية الذات والعالم عكس -رغم تنوع الرؤى واتجاهات الرأي بين المشاركين- اتفاقًا حولدور مصر الثورة في نوع من “تغيير العالم”، ودورها الأخلاقي والإنساني تجاه المستضعفين. ولكن كل ذلك يأتي مندمجًا ومتصالحًا مع المصلحة الوطنية والأمن القومي المصري بلا شك، وبالمعنى الأوسع والأشمل لمفهومي المصلحة الوطنية والأمن القومي، مما يستحضر الدوائرالمحيطة بشكل مرن يتجاوز الفكرة التقليدية لمفهوم “الدوائر” بحيث يستوعب الدوائر الخارجية المستجدة، وعلى نحو منظومي غير متنازع.

أما عن المحددات في الرؤية الاستراتيجية المرجوة للسياسة الخارجية المصرية، فقد أقر المشاركون بأن استحكام قيود المحددات الداخلية، وخاصة افتقاد الموارد والقدرات المادية الآنية من جهة، وقيود المحددات الخارجية التي تشير لتعدد القوى الخارجية المضادة للثورة من جهة أخرى، لا يمنع من إمكانية التعامل التكتيكي معها إلى أن يتوافر السند الداخلي لسياسة خارجية أكثر نشاطًا. وهنا تأتي الرؤية عن “أدوات” السياسة الخارجية؛ حيث تتزايد أنماط الأدوات الممكن استخدامها في تنفيذ توجهات الرؤية الاستراتيجية للسياسة الخارجية (والتي باتت توظف مفاهيم من قبيل القوة الناعمة والقوة ما بعد الناعمة والقوة الذكية) التي لا يتطلب الأخذ بها تخصيص موارد مالية كبيرة بقدر ما تتطلب إعادة بناء علاقات شبكية في إطار شراكات بين قوى مجتمعية متعددة. هذا، وإن كان أمر أدوات تفعيل وتنفيذ السياسة الخارجية له شأن مهم تتولى بيان تفاصيله وأبعاده حلقة نقاشية خاصة من هذه السلسلة من الحلقات لاحقًا. والتي تطلب التطرق لها الولوج أولًا إلى شأن مؤسسات وأجهزة صنع القرار الخارجي المصري بعد الثورة في ظل رئيس منتخب وهو موضوع الحلقة النقاشية الثالثة (19سبتمبر 2012) من هذه السلسلة، وجاء عنوانها: “مؤسسات صنع السياسة الخارجية وتنفيذها: التقييم والتطوير” حيث انبرى المشاركون في طرح رؤى لفك الإشكاليات المزمنة في مؤسسات صنع وتنفيذ السياسة الخارجية:كإشكالية علاقة مؤسسات صنع وتنفيذ السياسة الخارجية -وفي مقدمتها وزارة الخارجية- برئيس الجمهورية وبالحزب أو النخبة الحاكمة، وإشكالية فك القيود الهيكلية التي فرضت على وزارة الخارجية رغم ما تتمتع به من كفاءات وخبرات بشرية، وهنا الأمر لا يعني السعي لأن تتفرد وحدها بملفات السياسة الخارجية؛ ولكن أن يوكل إليها دور التنسيق بين الجهات والمؤسسات المختلفة المنوطة بالملفات الخارجية (الرئاسة، المخابرات العامة، الهيئة العامة للاستعلامات، لجنة إدارة الأزمات بمجلس الوزراء، لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب…). هذا بالإضافة لمؤسسات أخرى لها دور في أدوات تنفيذ السياسة الخارجية كالأزهر الشريف ومؤسسات المجتمع المدني. كما قدم المشاركون مقترحات أخرى من قبيل ضرورة النص في الدستور الجديد على إلزامية إنشاء مجلس للأمن القومي المصري، وأن يتمتع القرار الخارجي المصري بالمزيد من الشفافية لفك جوانب مهمة من إشكاليات العلاقة بين مؤسسات العلاقات الخارجية.

هذا، ولم تكن فعاليات هذه الحلقات النقاشية بعيدة عن واقع الأحداث؛ فبقدر ما اهتمت برصد دلالات تحركات السياسة الخارجية المصرية منذ تولي الرئيس المنتخب –كما سبق البيان- فقد ناقش المشاركون كذلك دلالات تداعيات الفيلم والرسوم المسيئة للرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم- بالنسبة للسياسة الخارجية المصرية وخاصة مؤسسات صنع القرار فيها؛ باعتبار هذا الحدث نموذجًا لبعض القضايا التي تطرح نفسها على أجندة السياسة الخارجية، وتستدعي استخدام أدوات متنوعة ومهمة في هذا الصدد التي تعكس قيم الثورة واستجابتها للتطلعات الشعبية.


*باحثة بمركز الحضارة للدراسات السياسية.

اعتمد هذا التقرير على التقارير المفصلة المعدة لهذه الحلقات النقاشية والمتوفرة على الموقع الإلكتروني لمركز الحضارة للدراسات السياسية بالقاهرة: http://www.hadaracenter.com

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى