إلى صاحبة «الأمة القطب».. وداعًا

ما زلت أذكر أيام الدراسة الجامعية في السبعينيات من القرن الماضي، وكيف أنها ارتبطت بواقع عربي وإسلامي بالغ التعقيد والتناقض. فثمة صحوة إسلامية اتخذت أوجها ومسارات عدة حاولت احتواءنا بين أمواجها الدافقة، وهناك بالمقابل حالة من الانبهار الفكري والثقافي بكل ما أنتجته الثقافة الغربية المعاصرة. بيد أن هناك، مع ذلك، من وقف متأملاً سؤال النهضة الذي طرحه أمير البيان شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟

وفي ظل هذا الوضع المأزوم والمعبر عن محنة حضارية، جاءت منى أبوالفضل بعد أن عاشت جانباً كبيراً من حياتها في الغرب ولم تعد إلى مصر إلا بعد حصولها على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة لندن عام 1975. وأعترف أننا منذ الوهلة الأولى لم نستطع إخفاء مشاعر الاستغراب، بل وعدم الترحيب بها في موقع المعلم والأستاذ. فقد كانت تجيد الإنجليزية كأهلها، وتكاد لا تعرف العربية إلا الفصحى منها. لكن شيئاً فشيئاً شعرنا بحالة من الالتقاء والانجذاب الفكري معها، والتي تعدت علاقة المعلم بطلابه أو الشيخ بمريديه لتشمل كذلك علاقة الأم الرؤوم بأبنائها.
لقد كانت الأفكار والأطروحات التي نادت بها منى أبوالفضل تمثل نقطة تحول فارقة بالنسبة لأبناء جيلي ومن يأتون بعدنا، بل ولا أتجاوز الحقيقة إن قلت إن الاقتراب المعرفي البديل الذي قدمته يمكن أن يعيد بناء التقاليد الأكاديمية العربية والإسلامية على أسس جديدة. وبجرأة شديدة، وجهت دعوة إلى إعادة قراءة التاريخ الإسلامي، وذلك وفق منهجية واعية وضابطة تأخذ علاقة الثابت بالمتغير بعين الاعتبار، ولا تهمل حقيقة الواقع الديناميكي المتحرك.
ولعل مصداقية أستاذتنا الدكتورة أبوالفضل ترجع إلى سعة اطلاعها وعمق فهمها للمشروع الحداثي الغربي ولمجمل فلسفات عصور الإشراق الذي سبقته. إذ إنها مارست مهنة الرؤية النقدية للحضارة الغربية المسيطرة وهي مؤمنة ومعتزة بهويتها وتراثها بما يشكل حائط صدّ يقيها فتن الانبهار الفكري والمادي أمام منجزات العصر الذي نعيش فيه. ويستطيع المتابع لأفكارها واجتهاداتها أن يرصد ثلاثة إسهامات كبرى يمكن أن تزلزل أركان الأساطير السائدة في دراسة العلوم الاجتماعية الإسلامية، وأن تفضي إلى رؤية معرفية جديدة تستهدف نهضة الأمة وتجاوز محنتها الراهنة:
أولاً: المنظور الحضاري الإسلامي. لعل من أبرز الإسهامات الفكرية الكبرى التي طرحتها الدكتورة أبوالفضل تتمثل في إعادة قراءة الحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي من منظور مختلف. فقد رأت أن الخطر الحقيقي الداهم يأتي من الداخل وليس من الخارج. فأصحاب الاجتهادات القائمة على إعادة إنتاج الأفكار المتشددة والمتطرفة هم مأزومون ويحاولون البحث عن هوية. ولا شك أن مثل هذا النمط من التفكير هو بمثابة خطر داهم على أمة الشهود الحضاري. وعليه، فإن القراءة الواعية لتاريخنا وتراثنا الإسلامي ينبغي لها أن تفصل الثوابت عن المتغيرات والفروع عن الأصول في إطار منهج علمي منضبط، يأخذ بعين الاعتبارات حقائق الواقع المتحرك.
على صعيد آخر، أكدت أن الرؤية المعرفية البديلة تقوم على أساس مرجعية قرآنية توحيدية. فالباحث عند اقترابه للواقع يتخذ من التوحيد والعمران والتزكية قيماً عليا في التعامل معه فهماً وممارسة. وقد حاولت تطبيق هذا المنظور الحضاري في دراسة العلوم السياسية، لاسيَّما في مجال دراسة النظم السياسية العربية.
ثانياً: الأمة القطب، إذ ترى أن صفة القطبية للأمة الإسلامية هي التي مكَّنتها من الاستقطاب والقابلية والقدرة على التجميع حولها لشتى القبائل والشعوب، وهذه الأمة صاحبة رسالة لا تقوم على عرق أو لون أو إقليم، ولكن تقوم على دعوة ورسالة تحمل طاقة إشعاعية تستمد من خلال التاريخ وتجمع القبائل والشعوب المختلفة. إنها الأمة القطب التي تستوعب وتدمج من دون أن تزيل خصوصيات الأمم وتضيع ملامحها، وتجمع وتوحد وفي الوقت نفسه تعمل على الإثراء والمحافظة على التعدد.
ولا تنسى أستاذتنا أن تظهر الخصائص التركيبية لمفهوم الأمة القطب في مواجهة سجالات النظام العالمي الجديد، والذي تتملكه هواجس الهيمنة والسيطرة في ظل فرعنة العولمة، فتقول: إن الأمة القطب تؤكد أن التعدد على أشكاله سنة وآية، وأن العبرة في أي نظام هي بانفتاحه على الاختلافات النوعية داخله. ولا تنسى أن ما أصاب أمة الشهود من هزائم إنما يرجع إلى غيبة الوعي وغفلة الإدراك من جانب أهلها الذين لا يدركون أنهم جزء من نسيج أمة واحدة متميزة ومتفردة. وعليه، تصبح عملية بناء الوعي والتأهيل له مقدمة لازمة للنهوض الحضاري ولتقديم هذه الأمة لأنفسنا قبل أن نقدمها لغيرنا.
ثالثاً: إعادة الاعتبار للمرأة المسلمة باعتبارها «أيقونة» الثقافة الإسلامية، إذ كرست جانباً كبيراً من وقتها وجهدها لإعادة دراسة قضايا المرأة المسلمة، واستطاعت أن تؤسس في نهاية التسعينيات جمعية دراسة المرأة والحضارة. وهي ترى أن المرأة في العالم الإسلامي لا تحتاج إلى وصفات للتحرير كما تزعم المؤسسات الدولية ومن يشايعها في الداخل المسلم، بل تحتاج المرأة عندنا إلى تنوير وتبصير بما لها وما عليها، وأن ما يحتاج إلى تحرير حقيقي هو التاريخ والواقع الإسلامي، بما يؤدي إلى إعادة قراءة تاريخ المرأة المسلمة من منظور اجتماعي واعٍ بمكانتها ودورها في عملية النهضة. وعليه، فقد أشرفت على إصدار عدة مشروعات علمية مهمة حول أوقاف النساء في الحضارة الإسلامية، والدور العلمي والفكري للمرأة، وكذلك مراجعة الثقافة الإسلامية المعاصرة من خلال دراسة أعمال بنت الشاطئ عائشة عبدالرحمن.
رحم الله هذه العالمة الجليلة، فقد رحلت في هدوء عن عالمنا أواخر شهر رمضان الفضيل بعد صراع مع المرض. ورغم عدم حصولها على ما تستحقه من مكانة في وطنها، فسوف تظل ريحانة الأكاديمية العربية المعاصرة. إنها تقدم للأجيال الشابة في العالمين العربي والإسلامي نموذجاً حقيقياً للباحث المسلم المهموم بقضايا أمته وعصره، والمعتز بثقافته وهويته الحضارية. وهي تطرح كذلك المثل والقدوة في التعامل مع الآخر برؤية واعية تقي فتنة الانبهار به أو الانسحاق في إطار نموذجه المعرفي المسيطر. فهل آن لنا أن نقدر النابغين من علمائنا في حياتهم قبل رحيلهم؟!

جريدة العرب القطرية
28/12/2011

د. حمدي عبد الرحمن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى