أزمة كورونا وحالة العالم

إدارة الأزمة ومستقبل النظام العالمي: ماذا؟ وكيف؟ ولماذا؟

فجر انتشار فيرس كورونا ووباء كوفيد 19 المستجد أزمة عالمية كبيرة، أطلقت الكثير من الأحاديث والمقولات عن تغير عالمي راهن وعن عالم جديد وشيك يعقب انحسار موجة هذا الوباء. فمع انتقال الوباء من الصين وإيران إلى الغرب في أوروبا والولايات المتحدة مرورا بعدد كبير من دول العالم على اختلاف درجات وأشكال الانتشار وحجم الإصابات والوفيات، ومع فشو إصاباته بالأخص في الولايات المتحدة ودول أوروبية كبيرة مثل إيطاليا وإسبانيا وبريطانيا وفرنسا وغيرها، اتجهت المتابعات إلى مستويين أساسيين من الاهتمام: (1) أنماط إدارة الأزمة وما تكشفه من أزمات أعم في النظر والتفكير، و(2) دلالات ومآلات هذه الأزمة على “حالة العالـم بين الاستمرارية والتغير”، وقد توالت كثير من التعليقات الرسمية وغير الرسمية عن نظام عالمي جديد ما بعد كورونا، متجادلة مع تحليلات عن الوضع الراهن وإدارته عالميًّا وإقليميًّا ومحليًّا.
وفي الوقت ذاته، كشفت هذه الأزمة عن كثير من الثغرات في مستويات عدة من النظام العالمي وقواه الكبرى والمؤسسات الدولية العالمية والإقليمية وفي نموذج الدولة القومية وفي السياسات العامة المحلية والعالمية، وفي المنظورات السائدة عن القوة والتقدم والأمن والرخاء والرفاه والعالمية والعولمة والعلم والدين والأخلاق… على أصعدة المجتمعات والحكومات والدول والأقاليم وعلى صعيد العالم برمته، وذلك من مختلف الزوايا: السياسية، الاقتصادية، الصحية، الاجتماعية، الإنسانية، والثقافية، الإعلامية، .. ومن الزاوية الحضارية بصفة عامة؛ ما يفتح مجالا جديدا أمام المنظور الحضاري ليختبر مزيدا من قدراته على التجاوب مع المستجدات واستيعاب القضايا المركبة وتقديم طرح أكثر تفسيرية وإيجابية وملاءمة.

(1)

فمن ناحية أولى: تتعدد الآثار المباشرة للأزمة الراهنة ولطرق إدارتها بأبعادها المختلفة، وعلى المستويات المتعددة المشار إليها، وفي إطار الأمداء القريبة والمتوسطة والاستراتيجية، وتتعدد حولها منظورات الوصف والتحليل، وزوايا التفسير والتعليل، ومناهج التقييم والتوجيه، كما تتباين مداخل الاهتمام وفق الأهداف المصلحية من التعاطي مع مجريات الأزمة وتداعياتها، وتتقدم محاولات الاستشراف المسبق لمآلات هذه الأزمة الكلية والجزئية والعامة والخاصة وانعكساتها على “مستقبل العالم”… كل هذه العمليات البحثية والعلمية تتم في كثير من الأحيان بطرق عشوائية أو تلقائية تقودها الحالة الإعلامية والاتصالية لا لتزيد الأمور وضوحا وتزيد الناس فهمًا، بقدر ما تعمق من حالة التشوش والحيرة والتضارب بين الرؤى والطموحات والمخاوف.
وبناء عليه، فمن المهم أن يكون ثمة إعادة نظر في مناهج النظر السائدة قبل أو أثناء استعمالها في رصد وتحليل ما يجري؛ فعلى سبيل المثال هناك سجال شديد واضح بين النموذجين المعرفيين: المادي والإنساني، لا يتجلى هذا السجال في ثنائية الصحي-الاقتصادي فقط، ولا ثنائية التجريبي الحسي-الإيماني الشعوري، على نحو ما تجري بعض المناظرات شرقا وغربا، ولكن في ثنائيات مثل: العالمي التضافري الإنساني-القطري/القومي الأناني، التفسير الطبيعي المغلق-التفسير الإنساني المفتوح، الطبقية الحضارية-المساواة الإنسانية، الرأسمالية الأنانية المتوحشة-الاقتصاد الإنساني المتكامل، العلاجي اللحظي المنقطع-التصحيحي الاستراتيجي الموصول، الذاتي المنفعي الاستقوائي-الإنساني الإصلاحي الأخلاقي.
وخلاصة هذه السجالات أننا الآن -جراء هذه القيود- واقعون بين “قيم أزمة” تظهر في تعثر إدارتها، و”أزمة قيم” تكشف عنها هذه السجالات والسياسات المتضاربة؛ ومن ثم فنحن واقعون بين: عقل أزمة وأزمة عقل، وسياسات مواجهة أزمة وسياسات مأزومة بطبيعتها، … وهذه الثنائيات تتكامل في جمع أزمتيْ الفكر والواقع في جديلة واحدة يغذّي شقاها أحدهما الآخر. ولكن من المهم من الناحية العلمية أن نميز بين الأزمة ذاتها (في واقعها) أي ما لا يختلف عليه اثنان من وصفها، وبين التعاطيات الفكرية والعملية المختلفة معها (في الرؤى والسياسات)؛ وكذلك بين عمليات التفكير في الأزمة وما يصاحبها من انكشاف أزمة عامة في التفكير.
ومن ناحية ثانية، فإن العالم لم ينشأ مع هذه الأزمة حتى تستسيغ كثير من التعاطيات التعامل معها بغير ذاكرة لتطورات السياسة الدولية حتى وقت قريب، والادّعاء بأنها تؤسس لعالـَم من فراغ بغير ما معطيات سابقة. لقد بدا في كثير من التعليقات غير الخبيرة والتكهنات غير الحذرة أنها لا تعدو أن تكون أصداء لنـزوعات تفاؤل وتفكير بالتمنّي، أو نزوعات تشاؤم وتفكير محاط بالمخاوف والإحباطات. أما ما يتعلق بالتفكير بالمؤامرة وسجالاته -فرغم أهمة التفكير بالتنبه والحذر من الناحية العلمية والعملية- إلا أن التناولات البارزة منه بدت في أكثر ما لاحظناه أطروحات ساذجة ومجازفات لا قيمة لها لا سيما في الخطاب المجتمعي الذي تعبر عنه وسائل التواصل الاجتماعي وإعلام القنوات الفضائية في العالم العربي.

(2)

من ناحية ثالثة، فإن الأزمة قد كشفت عن نوعين من الحقائق التي لا تزال في طور التشكل:
يتعلق النوع الأول بانكشاف مساحات من الواقع العالمي لم تكن واضحة بهذا القدر الذي أحدثته الأزمة؛ أو على الأقل لم تكن السياسة الدولية المهيمنة والغالبة تأبه له؛ مثل التهديدات الكوكبية والبيئية (البيولوجية في حالتنا الراهنة) للنظام العالمي وبالأخص لقواه الكبرى، والخلل الضخم في السياسات العامة القومية والعالمية التي تديرها حكومات الدول الكبرى، وتفشي الثغرات في منظومة السياسات الغربية من جهات عدة: الهشاشة أو الخفة الرأسمالية، الأولويات الأمنية الكاسحة، طبيعة التعاون الدولي حتى داخل الغرب، بل داخل كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ما بين الفيدرالي والمحلي، فضلا عن الضعف والخواء الروحي مع تراجع تأثير الدين والقيم الدينية في المجتمعات المختلفة، وكذا أزمة المؤسسات الدولية والعلمية رهينة السياسات الغربية، وضعف مناعة العالم تجاه الكوارث كما كان قد ثبت من قبل ضعف مناعة النظام الدولي ضد الحروب بأشكالها حتى بعد نهاية الحرب الباردة.
والنوع الآخر يتصل بالحقائق المستجدة التي يسلط البعض الضوء عليها وعلى احتمالات قيادتها للمستقبل القريب؛ ومنها: توزع القوة العلمية (قوى البحث العلمي) عالميا وعدم تركزها في الغرب، تنوع سياسات الأزمة وفعالية السياسات غير الديمقراطية في بعض الحالات، أثر ثقافات الشعوب على سياسات دولها، التدافع ما بين ثلاثية السياسات (الخدمية، الأمنية، الإنتاجية) وأثرها على طبيعة النظم الوطنية والدول الكبرى ونموذج الدولة-القومية ومن ثم النظام العالمي القادم، وكذلك معدل “الثقة العالمية”: ليس فقط من منظور الصراع -وبالأخص الصراع على البقاء على نحو ما جرت عليها المنظورات التقليدية- لكن الثقة من منظور ما بعد العولمة التي تعرضت الثقة فيها لزلزلة شديدة ليس في الشرق المتشكك فيها من البداية إنما في الغرب ذاته الذي لا يزال يقودها؛ ما يعني أن عالم ما بعد كورونا –إن جاز التعبير- سيشوبه الكثير من الخوف والقليل من روح المغامرة التي قامت عليها الرأسمالية أو هكذا يدعي سدنتها.
ومن ناحية رابعة، لا يمكن التفكير في العالم من منظور عالمي محض لا موضع فيه للذات ومحيطها الأصغر؛ أي الأوطان والأقاليم والأمم أو الكيانات الدولية النوعية. ومن ثم فإن الرؤية المنشود بناؤها عن حالة مستقبل العالم في ظلال أزمة كورونا وتداعياتها لا تنفصل عن التحولات القومية والإقليمية والحضارية، ويجب الوصل بين هذه الدوائر للإجابة عن سؤال “الذات والعالم”؛ وليس الذات منعزلة، ولا العالم طافيا على سطح نظري أو مثالي محض أو عالم الغير فقط. هذا مع ملاحظة أن أكثر ما يجري الحديث حوله في هذه الآونة هو: موقع الغرب -وعلى رأسه الولايات المتحدة- من مستقبل النظام العالمي، أو تغيرات العالم من خلال تغيرات الغرب بالأساس ما يعني استمرار التحيز للنظر إلى العالم من منظور غربي أو منظور يقدم الغرب على البقية (راجع كتاب الدكتور المسيري رحمه الله: العالم من منظور غربي، عن فقه التحيز وإشكالية التحيز للمنظور الحضاري الغربي بماديته اللاإنسانيته أو بإنسانيته المادية)؛ وهو ما نحث التفكير فيه ليس باتجاه الاستشراف فقط ولكن الاستمرار في تجديد منهج النظر لكي لا نصرّ على رؤية العالم من هذا المنظور الذي ألححنا على أنه ليس الوحيد ولا الأجدر بنا دائمًا.
إنها فرصة تاريخية للفكر والبحث العلمي الدولي والعالمي والحضاري –على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والثقافية- أن يتبنى منظورا أكثر عالمية مُوليا ظهره لعصر طال من المركزية الغربية، ليس فقط في السياسات والممارسات العالمية والدولية ولكن بالأخص في النظر للأمور وفي معايير الفاعلية العالمية وقيمها ومصالحها العامة.

(3)

من هذه النواحي مجتمعة، نؤسس لمحاولة رسم “خرائط تفكير ومتابعة وتحليل” لأزمة وباء كورونا وطرق إدارتها المتنوعة، و”استشراف” حالة العالم والتغير العالمي القائم أو المنتظر وطبيعته وإشكالياته النظرية والواقعية والعملية، وذلك تحت عنوان مبدئي: (أزمة وباء كورونا: نحن والعالم والمستقبل: ماذا؟ وكيف؟ ولماذا؟)، نحاول فيه أن نجيب عن عدد كبير من الأسئلة ضمن مجموعات موضوعية وأخرى جهوية تعبر عن رؤيتنا الحضارية الإنسانية وتنتظم في عقدها أجندة القضايا التي نرى أنها أجدر بالاهتمام والتناول، وذلك على المحاور الآتية:

أ‌) رصد مجريات الأزمة عبر ستة أشهر من الاضطراب العالمي والمحلي (ديسمبر 2019 وحتى الآن).

وتقوم عليه تقارير رصد ومتابعة محدودة يقوم عليها عدد من الباحثين المساعدين والمتدربين؛ بحيث تصبح صورة الأزمة ماثلة أمامنا من خلال رصد أهم: الأحداث، التطورات، الخطابات، السجالات، السياسات.. رصدا عاما أشبه برسم الخرائط، يفتح على ملاحق من المواد الأصلية التي تعبر عن المفصلي في هذه العناصر (الأحداث، الخطابات..).
ويقوم هذا الرصد على محطات زمنية ومكانية تكشف عن تطورات الأزمة وأحداثها الأساسية، ورصد لمرحلة “قلب الأزمة” واشتدادها وأهم خطاباتها لا سيما من القوى الكبرى والمؤسسات الدولية المعنية، واستخلاص أهم القضايا التي أثارتها تطورات الأزمة وتداعياتها، ثم رصد لأهم الآثار وللقضايا والإشكاليات التي صاحبت الأزمة وفاقمت من وطأتها (كأزمة البترول والتباعد الاجتماعي) أو خففت من ذلك (كتراجع بعض الحروب والأزمات الصراعية والهجرة واللجوء).

ب‌) أوراق تحليل:

تنتقل من الرصد إلى قدر من التفسير ومحاولة فهم الأبعاد المختلفة للأزمة، وتتعلق بنماذج التفاعل مع الأزمة، والقضايا الأساسية التي أثارتها وكذلك الآثار والانعكاسات المختلفة لتطوراتها، وخاصة على مستوى الجديد في الساحتين الإقليمية والدولية.

ج‌) دراسات معمّقة واستشرافية:

وتتعلق بالأخص بمستقبل النظام العالمي والمستجدات التي كشفت عنها الأزمة أو أفرزتها وموقع الأمة العربية والإسلامية فيها، ومستقبل الصراعات المتفجرة ومستقبل المجالات التي لم تول الاهتمام الكاف سواء عالميا كالتعاون العلمي والكوارث العالمية والإقليمية، أو الجوانب الثقافية والدينية والقيمية، وتعدد المنظورات إلى العالم ومشكلاته وسياسات قواه المختلفة.
وفي هذا الإطار يتجلى المستويان اللذان تقدمت الإشارة بينهما: إدارة الأزمة وإشكالياتها، وتغير العالم ومستقبل النظام العالمي؛ في محاور عدة نشير إلى نماذج منها كما يلي:

في المستوى الأول:

1) دلالات السياسات الداخلية في مواجهة وباء كورونا بين الدول المتقدمة والنامية والمتأخرة؟

لأول وهلة كشفت أزمة كورونا ثلاث ثغرات كبرى في هذا الصدد: أولاها- أنّ العالَـم المتقدِّم ليس متقدمًا بالقدر الكافي في السياسات الخدمية –ومنها الصحية في أزمة كورونا الراهنة- ليس فقط في توفر الموارد والقدرات للمواجهة ولكن –بالأخص- في جاهزية السياسات للتعامل مع مثل هذه التهديدات على نحو ما تبدى القوى الكبرى بالنسبة للحروب والتهديدات الأمنية كالإرهاب، وثانيتها- هشاشة التعاون الدولي في الأزمات وبروز حالة أشبه بشعار “نفسي نفسي”!! الأمر الذي تحوّل إلى اتهامات متبادلة بين الولايات المتحدة والصين، وداخل الولايات المتحدة نفسها وداخل الاتحاد الأوروبي، فضلا عن اتجاه المساعدات من الدول الصغيرة والمتوسطة إلى دول كبرى وليس العكس، وثالثتها- أزمة الديمقراطية سواء في حال غيابها بين ديكتاتوريات فعَّالة وأخرى فاشلة أو حالات لديمقراطيات مقابلة بعضها أبدى فعالية في التعاون والتجاوب مع المجتمع والأزمة وبعضها أبدى تخبطًا وتضاربًا بين المؤسسات والتكوينات الداخلية.
هذه النقاط ينبغي الوقوف أمام دلالاتها على السياسات العامة في دول العالم وأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ وخاصة على محكي الدولة-المجتمع، والداخل-الخارج. وفي هذا الإطار ينبغي أن نتعرض لأنماط إدارة الأزمة:
– أنماط دولية لإدارة الأزمة: الصين وأوروبا والولايات المتحدة، الشمولية في حالة الصين – (سنغافورة – اليابان)؟
– أنماط إدارة الأزمة في نماذج إسلامية: تركيا، إيران، ماليزيا، إندونيسيا، باكستان، ..؟
– أنماط إدارة الأزمة في العالم العربي: نماذج وحالات؟
– الدول التي استطاعت تحمل التكلفة الاقتصادية والدول التي نأت تحت مخاوفها؟
– إدارة الأزمة بين الشمولية والديمقراطية… وبين القيم والمصالح؟

2) خطابات إدارة الأزمة ودلالاتها:

وأولها بين الخطاب العلمي المادي التجريبي والديني الإيماني والغيبي، وبين خطابات الإنساني الإيماني التكافلي وخطابات المادي وخاصة الاقتصادي، وخطابات الأحادية المثبتة لنصف الحقيقة المنكرة لنصفها الآخر ومحاولات إنتاج خطابات متوازنة ومستوعبة.
ويتصل بذلك –ثانيا- محاولة الوقوف على الدلالات النفسية للأزمة ما بين الجلد والجزع وأثرها على إدارة التعامل معها وعلاقتها بالنماذج المعرفية السائدة والمتداخلة والمتضاربة، ودور الإعلام في نقل الأزمة وتهويلها أو تهوينها، وتشويش حالة الأزمة بين الحقيقة والإفزاع، وكذلك دور خطابات الإعلام المتعددة في إدارة الأزمة باعتبارها حربا بين الكبار (الصيني، الروسي، الإيراني، الأوروبي، الأمريكي، العربي، ..).

3) تطورات مفهوم “الأمن” بين القومي، والعالمي/الدولي، والإنساني، والحضاري، وعلاقتها بتطورات مفهوم التنمية بتصنيفاته:

فقد أثارت الأزمة المخاوف بأشكال مختلفة داخل الأفراد والمجتمعات والحكومات والدول، وانطلقت سياسات المواجهة على هذه الأرضية، لكن الطرق أو الكيفيات التي مضت بها هذه السياسات في كثير من النماذج عبر العالم كشفت عن منظورات مختلفة لمفهوم الأمن سواء في مستوياته أو أبعاده أو دوائره ومضامينه. فهل ثبت قصور مفاهيم معينة وفعالية غيرها؟ وهل ثبت اعتناق الدول لرؤى أكثر إنسانية أم العكس؟ إن سؤالا مهما عن مفهوم “الأمن” جدير بالطرح في مثل هذه الأزمة.
ويرتبط بذلك منظورات التنمية بين التنمية البشرية والتحديث الاقتصادي وبناء الإنسان وحمايته.. ضمن سجال (الصحة-الاقتصاد) الذي دار عالميا ومحليا، ويبدو أن الذي كان ولا يزال غائبا هو تلك الرؤية الجامعة الناظمة ما بين ما هو إنساني يتعلق بحياة الإنسان الضرورية وما هو مادي يتعلق بهذه الضرورات نفسها وما هو غير ذلك ولكن رؤى معينة قد تغلبه؟ هل كانت خطابات “إعادة الحياة إلى طبيعتها” تعنى بحياة الأفراد والأكثر احتياجا أم إملاءات عجلة الأرباح الرأسمالية وضغوطاتها؟ وهل التنمية التي يتحدث وسيتحدث عنها العالم عقب انقشاع غبار الأزمة: عادلة أو شاملة؟ أم إنها لا تعدو أن تكون “عودة ريمة لعادتها القديمة” على نحو ما يقال؟

وفي المستوى الثاني:

4) التهديدات الكونية/الكوكبية والنظام العالمي ومستقبله:

وهذا محور غاية في الأهمية؛ فطبيعة التهديدات العالمية من المنظور الكوكبي والبيئي.. وكيف تعاملت معها الدول والمنظومة الدولية ومؤسساتها. فمنذ عقود تتكشف تهديدات جديدة للنظام العالمي ليس لها حدود، وقد تراخت الدول الكبرى إزاءها أو وظفتها لصالح سياسات الهيمنة والاستغلال ونشر الفوضى: التلوث البيئي، الجريمة المنظمة، الهجرة، … وقد جاء اليوم اختبار ذلك في صورة: الأمراض سريعة الانتشار والعابرة للحدود (مثل كورونا الراهن)… ونفس الشئ سبق في التعامل مع طبقة الأوزون وآثار التلوث البيئي وكيف أن الدول الكبرى تأبّت على التعامل الجاد والإنساني والعالمي معها.
ويدخل في هذا استدعاء الذاكرة القريبة للتعامل العالمي وخاصة من قبل الدول الكبرى مع تلك الأزمات والعبر التي ينبغي إبرازها ليس فقط أمام الغرب ولكن أمام كل من يفكر بمصير العالم ويعتبر نفسه مشاركا في التفكير فيه والتدبير لشأن من شؤونه على أي ثغر كان يقف.
5) السياسة العامة العالمية: خاصة الصادرة من الدول الكبرى ومؤسسات النظام الدولي الراهن:
هذا مع التركيز على السياسة العامة (الصحية) العالمية وتأرجحها بين السياسات الدولية الشاملة والسياسات الداخلية القومية الخاصة بكل دولة وسياسات المنظمات الدولية… وذلك من منظور إدارة الأزمة أو مواجهتها. وفي هذا يرد جدل نظري واسع قديم ومتجدد، وكذلك ترصد ملاحظات مستجدة على طبيعة تلك السياسات بين وجودها وعدمها، والعناية بها وإهمالها، والعلاقة بين القومي والعالمي، وبين المادي والإنساني فيها على وجه الخصوص. وهذا يتصل بالمحور السابق حيث إن السجال بين تغليب المصالح القومية (بقيم أنانية) ومراعاة المصلحة العالمية العامة لا يزال جزءا جوهريا من صميم أزمة العالمية والعولمة، وقد بحت أصوات معارضة لسياسات لاعولمة كثيرا من جانب الشرقيين أو اليساريين والخضر والنقديين والنسويين الغربيين بضرورة كسر تلك الحقلة القومية والرأسمالية الغربية الأنانية.. فهل جد مع أزمة كورونا جديد يؤبه له عن هذه الحوارات التي شغلت العقود الثلاثة الماضية؟ إن تجديد النظر لمفهوم “السياسة العامة العالمية” في حد ذاته من منظور حضاري إنساني استيعابي يصبح اليوم ضرورة ملحة استباقا لعودة الأنانية القومية في أردية جديدة.

6) هل العالم يتغير: ماذا وكيف ولماذا؟ مؤشرات تغير/تغيير النظام العالمي على محك أزمة كورونا:

هذا هو السؤال المركزي، ومن موقع المسئولية العلمية أمام هذه الأزمة ينبغي أن نجتهد فيه، خاصة مع تفجر الأجوبة غير الخبيرة وغير العلمية عنه، وهذا ليس من باب سدانة أو ادعاء شيء للذات بقدر ما هو محاولة لاحترام المسئوليات والقيام بالواجبات. فما معنى أن العالم يتغير؟ وما هي الأسئلة التي ينبغي طرحها على الأزمة الراهنة لكي تكشف عن حقيقة التغير العالمي من عدمه، وطبيعته وخصائصه ومحدداته واتجاهاته وأولوياته؟ نوع من التفكير المنظم الهادئ مع الاستعانة بالخبرات العلمية والمتخصصة يجب أن يمارس ذلك وإلا تأخر المسئول عن مسئوليته والباحث المتخصص عن عمله.
والعالم يتغير بطبيعته ولا يقر له قرار، إلا أن تغيراته الرتيبة والبطيئة العشوائية والمنتظمة ليست هي المقصودة الآن. إن الحديث اليوم يدور عن التغير الفارق اللحظي الكبير على النحو الذي أحدثته من قبل حروب كبرى أو سقوط قوى كبرى أو أزمات مالية أو اقتصادية كبرى أو انتشار كبير لفكرة أو ديانة أو ما إليه.. فهل أزمة كورونا من هذه النوعية؟
وهل ما يجري الآن يدخل في عداد التغير العالمي الكبير الذي يصيب موازين القوى الدولية ويرشِّح -في المدى المتوسط على الأكثر- صعود قوة قائدة للنظام العالمي القادم؛ جديدة، على نحو ما يقال من قَبل تفجر أزمة كورونا عن صعود الصين وتراجع الولايات المتحدة عن الصدارة؟ وهل تتغير منظومة القيم التي تحكم العلاقات الدولية والسياسة العالمية التي تهيمن عليها شعارات ليبرالية وسياسات رأسمالية ومركزية غربية ومنظورات مصالح قومية محضة أو صراع حضارات وثقافات؟ وهل تتغير وضعية وحالة المؤسسات الدولية (السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية) على غير ما تأسست عليه بعد الحرب العالمية الثانية منذ ثلاثة أرباع قرن؟… تلك أبرز أسئلة التغير العالمي التي تؤشِّر لخصائص مستقبل نظامه القادم.

7) العالم الإسلامي في مرآة أزمة كورونا:

بالرغم من عموم أحداث الأزمة وتطوراتها وتداعياتها على جزء كبير من لاعالم لا سيما دول الشمال، فقد كشف دخولها عددا كبيرا من الأقطار الإسلامية وطرق مواجهتها والتعامل معها عن كثير مما سبق تأكده في عالمنا العربي والإسلامي فيما يتعلق بالقيم والمصالح العامة والمجتمعات والحكومات، والإمكانيات والقدرات الواقعية ما بين الفقد والهدر، والسياسات التي اعتادت النقد والإدانة بغير ما تغيير جدي فارق، والأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية العامة في أغلب الأقطار.. لكن هل أحدثت الأزمة جديدا؟ وهل كشفت عن خصائص جديدة في السياسات أو المنظورات السائدة في العالم الإسلامي؟
وماذا عن الأزمات المشتعلة التي سبقت أزمة كورونا واستمرت أثناءها؟ ماذا عن اليمن، وسوريا، وليبيا، والعراق، والجزائر، والسودان، والصومال، ومسلمي الصين والهند وميانمار، والعلاقات بين دول الخليج، وأزمة كشمير ووضعية طالبان في أفغانستان ما بعد الاتفاق مع الولايات المتحدة؟
وماذا عن مؤسسات الأمة في هذه الأزمة سواء المؤسسات السياسية أو الصحية أو المالية أو الدينية أو الإعلامية، أو غيرها؟ هل لها أن تُسهم في حوارات العلم والبحث العلمي وتضرب بسهمٍ في تشخيص الداء واقتراح الدواء؟ وهل أبرز بعضها نشاطًا يستحق الالتفات له؟ من المهم الوقوف على ما قامت به مؤسسات؛ مثل: منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية والإيسيسكو والبنك الإسلامي للتنمية والأزهر الشريف ومجالس الإفتاء في الشرق والغرب؟ وهذه بعض الأسئلة التي تثيرها الأزمة الراهن في إطار ما عرفناه من عقود باسم “أمتي في العالم”!
والخلاصة: أننا بصدد تحدٍّ علمي وعملي جديد، ينضم إلى سلسلة التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه أوطاننا وأمتنا عبر العالم، وأننا إذا كنا من قبل نبحث عن منظورنا الذاتي والإنساني للنظر فيها وتناولها والتعامل معها، فإننا اليوم أمام محك متجدد لاختبار اللياقة المنهجية والكفاءة المعرفية لمنظورنا الحضاري الإسلامي الإنساني وقدرته على استيعاب المستجدات الداخلية والخارجية، ونرجو من باحثينا أن يحثوا السير في هذا السبيل إسهامًا منهم في تعميق أهمية الدور العلمي والبحثي من جهة ومشاركة في توجيه الرأي العام والسياسات إلى ما يحقق صالح الإنسان في كل مكان.
والله المستعان!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى