الحالة السياسية التركية الراهنة: قراءة في ضوء انشقاقات العدالة والتنمية

تشهد الساحة السياسية التركية في الوقت الراهن حالة من الارتباك الذي يضع العديد من علامات الاستفهام بشأن مستقبل مجمل الأوضاع بالبلاد. هذا وإن كان الارتباك ليس وليد اللحظة بل كانت له محطات عدة أهمها؛ التعديلات الدستورية في أبريل 2017 والتحول إلى النظام الرئاسي وقبل ذلك محاولة انقلاب يوليو 2016، إلا أن المشهد الحالي وما يحمله من تصدعات في جسد حزب العدالة والتنمية (الحزب الحاكم) لهو أمر يستحق التأمل والترقب، لاسيما أن العدالة والتنمية كان محور ما سبق من تطورات.
وقد كان “مانيفستو” (البيان الرسمي) الصادر عن رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داوود أوغلو عقب الانتخابات البلدية الأخيرة (تعليقًا على ما عكسته من تراجع للعدالة والتنمية خاصة في المدن الكبرى)، ثم إعلان نائب رئيس الوزراء ووزير الاقتصاد التركي السابق “علي باباجان” استقالته من عضويته في حزب العدالة والتنمية في يوليو 2019 ثم اتجاهه لتأسيس حزب جديد مع مجموعة من نواب العدالة والتنمية المستائين من سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى جانب نواب من الأحزاب الأخرى الممثلة في البرلمان وغيرهم ممن يشاركونه الرؤية، ثم إحالة أحمد داوود أوغلو وآخرين إلى اللجنة التأديبية للعدالة والتنمية وقرار استقالته(1).
كانت هذه الأحداث بمثابة كشاف سلط الضوء عن قرب عما آلت إليه الحال ومحاولة البعض البحث عن البديل. وبالفعل هذا ما أكده باباجان بشأن استقالته وسعيه لتأسيس حزب جديد (اختير له على الأغلب مسمى “الأمان” وكأنه أصبح مفقودًا). إذ قال: “نحتاج إلى رؤية مستقبلية جديدة كليًا لتركيا. يجب وضع استراتيجيات وخطط في جميع المجالات. لابد من بدء جهود جديدة من أجل حاضر ومستقبل أفضل لتركيا”(2).
وبالتالي، إن كانت الاستقالات والتصدعات قد كشفت عن وجهها مباشرة عقب ملابسات الانتخابات البلدية الأخيرة، وخاصة خسارة العدالة والتنمية لبلدية اسطنبول لصالح حزب الشعب الجمهوري ليتولاها أكرم إمام أوغلو، إلا أنها تحمل العديد من الدلالات سواء الماضية أو المستقبلية، لاسيما أنها تعبر عن توجه عام معارض لأردوغان بين رفاق دربه.
ومن ثم، فإن هذا التقرير يُعنى في ضوء تلك التحولات ببحث دلالاتها وانعكاساتها بالنسبة لعموم الأوضاع السياسية التركية التي تثور بصددها العديد من التساؤلات، سواء ما يتصل بالحالة الحزبية، ومستقبل النظام الرئاسي، وأوضاع الحريات وحقوق الإنسان، ومستوى الشفافية والنزاهة في البلاد، فضلا عن السياسات الاقتصادية.

أولا: الحالة الحزبية التركية

وهنا نجد أننا نقف على أكثر من مستوى:
مستوى حزب العدالة والتنمية، تأثرت فاعلية الحزب مؤخرًا بطبيعة النظام الرئاسي والذي يعني من ضمن ما يعني تراجع دور الأحزاب الممثلة في البرلمان في تشكيل الحكومة والعديد من المسائل الأخرى، حيث تتمحور السلطة التنفيذية فيه خلف الشخص/الرئيس، ويكتفي فيه البرلمان بالمسؤولية التشريعية والرقابية”(3)، ذلك إلى جانب عوامل أخرى أدت إلى مزيد من التضييق في دائرة صنع القرار سواء داخل الحزب أو خارجه، حيث سياسات اتبعتها قيادة الحزب خلال الفترة الأخيرة تقوم على تغييب مستمر ومتدرج لقياداته السابقة، لدرجة أنه لم يبق من الشخصيات القيادية إلا النذر اليسير(4)، وليس المقصود بالتغييب هنا التغييب بمعناه المادي فقط من تقلد المناصب، ولكن الأهم التغييب الفكري للآخرين لصالح الرأي الواحد. فهكذا كان الأمر مع شخصيات مثل الرئيس السابق عبد الله جول ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو ووزير الاقتصاد الأسبق علي باباجان، ووزير الداخلية الأسبق بشير أطالاي ووزير العدل الأسبق سعد الله أرجين وعدد كبير من الوزراء، ورئيس البرلمان الأسبق جميل تشيشيك ونائب رئيس الوزراء الأسبق حسين تشيليك وغيرهم؛ باتوا مع الوقت خارج دائرة صنع القرار في الحزب والحكومة والبرلمان، وأضحوا يصنفون على أنهم “معارضة داخلية” (أي من داخل حزب العدالة والتنمية نفسه)(5).
وجاءت قرارات الاستقالة والفصل لتوسع الهوة الموجودة داخل الحزب وتعمق أزمته، خاصة وأن الحزب يخسر بذلك كوادر وقيادات على قدر من الخبرة العلمية والعملية مثل أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان(6). وفضلا عما يعنيه ذلك من تفريغ للكوادر السياسية من حزب العدالة والتنمية، فإن تلك التغيرات ترتب تحكم تيار فكري واحد في الحزب وضغطه على التيارات الأخرى بمن فيهم القيادات والمسؤولون المنتخبون(7)، وهو أمر من شأنه مضاعفة حالة اليأس وسط تزايد خلافات داخلية -كما وصفها داوود أوغلو(8). لاسيما أن هناك صراع على النفوذ داخل العدالة والتنمية حيث هناك ثلاثة أجنحة تتصارع: جناح بزعامة وزير الداخلية سليمان صويلو، وآخر بزعامة برأت ألبيرق وزير المالية، صهر أردوغان، والثالث بزعامة بلال أردوغان نجل الرئيس التركي (9).
وذلك من شأنه التأثير على مكانة الحزب الحاكم، سواء ما يتصل بصورته العامة ومصداقيته داخليًا وخارجيًا، أو ما يتعلق بمستوى الأداء السياسي للحزب وفاعليته في ظل فقده الكثير من الكفاءات والخبرات لصالح أهل الثقة.
مستوى الحزب الجديد لباباجان، والذي لاقى اهتمامًا إعلاميًا واسعًا خاصة من مختلف التيارات المعارضة لأردوغان، وقد كشف باباجان أنه وفريقه يخططون للانتهاء من تشكيل الكيان القانوني لحزبهم المرتقب قبل نهاية العام الجاري(10).
وبشأن هوية الحزب، فيبدو وكأن القائمين عليه يبغون استرداد الصورة الأولى لحزب العدالة والتنمية باعتباره حزب يضم أطيافًا مختلفة وإن جمعها العمل على تحقيق المصلحة الوطنية التركية. وهذا وفق الخطاب المعلن، فقد عرف باباجان هوية حزبه المرتقب قائلا: “نحن سنضمّ جميع أطياف المجتمع ممن يثقون فينا بأننا قادرون على تطوير وتنفيذ حلول ناجعة للمشاكل التي نواجهها في مجالات الحريات، والعدالة، والاقتصاد”(11).
كما يُعلن فريق باباجان أنه لا يريد الظهور على أنه تيار معارض أو يعمل على إسقاط أردوغان، ذلك لأن هدفه السعي لخلق حلول للأزمات التي تواجهها تركيا(12).
لكن ماذا عن التوقعات بشأن قدرات هذا الحزب على أرض الواقع؟
نعم إن هذا الحزب من الممكن أن يحيي قيادييه من جديد ويعيدهم للواجهة السياسية، لكنه في ذات الوقت سيضعهم في موقف صعب للغاية، حيث سيكون عليهم عبء مزدوج يتمثل في استعادة الحالة الأولى التي ارتبطت بالعدالة والتنمية من تقدم اقتصادي وحريات سياسية، وعلى الجانب الآخر تجاوز مختلف المآخذ السياسية والاقتصادية الراهنة على الحزب الحاكم، بمعنى أن عبء التجربة السابقة بما لها وما عليها سيظل لفترة لصيقًا بالحزب الجديد، فهم كانوا جزءً منها(13).
ربما يزيد مسألة الحكم على إمكانيات الحزب الجديد صعوبة الجدل حول موقف قيادات العدالة والتنمية الأخرى المنشقة، فهل ستكون جزءً من الحزب؟ أم ستدعمه من بعيد؟ أم سينبثق أكثر من كيان حزبي جديد؟
على سبيل المثال فيما يتعلق بالرئيس السابق عبد الله جول، صرح باباجان حين سُئل عنه بأنه: يفضّل البقاء محايدًا بعدما ترك السياسة وهو يشغل منصب الرئاسة، إلا أنه في الوقت ذاته يدعم الجهود الرامية إلى تأسيس الحزب، وأنهم يلتقون به مرة أو مرتين في الشهر للاستفادة من تجاربه(14). واستُنتج من هذا أن جول يريد البقاء على الحياد من التكونات السياسية الجديدة ربما تمهيدا للترشح لمنصب الرئاسة في المستقبل.
أما بشأن داود أوغلو، فالأمر يبدو مختلفًا، فرغم أنه قد أكد في خطاب استقالته عزمه إطلاق حركة ‏سياسية ‏جديدة داعياً الجميع إلى التعاون معه في إطارها(15). إلا أن باباجان قال عن أوغلو إنه صديق حميم له، غير أن هناك اختلافا في وجهات نظرهما لكثير من القضايا السياسية، إلى جانب الاختلاف في النهج والأسلوب(16).
وبالتالي، يبدو أن منشقي العدالة والتنمية ربما لن تصب أفكارهم ومجهوداتهم في المحل ذاته، وهو لاشك أمر من شأنه إضعاف الكيان أو الكيانات الجديدة، سواء من ناحية الفاعلية أو المصداقية أيضًا.
ولعل أحد أهم المؤشرات على مدى قوة الكيانات الجديدة سيكون عدد أعضاء البرلمان الحاليين ‏من العدالة والتنمية أو غيره من الأحزاب الذين قد ‏ينضمون إليها، ومدى قدرة أي منها على تشكيل كتلة برلمانية ‏داخل البرلمان، وهو أمر لن يتضح قبل الإعلان عن ميلاد الحزب –أو الأحزاب بشكل رسمي(17).‏
لكن في ضوء تلك الملابسات، وبعد تجربة الحزب الجديد المنشق عن حزب الحركة القومية، دون أن يقدم أو يأخذ ما يريد، فماذا عن حزب باباجان المنتظر أو غيره؟ هل سيقدم جديدا؟ وهل ستحدث انشقاقات أخرى سواء في أحزاب أخرى، أو داخل العدالة والتنمية؟
والخلاصة إذن ماذا ينتظر المسرح الحزبي التركي، فهل هي حالة من التجدد، أم حالات من التشرذم والاستقطابات؟!

ثانيًا: مستقبل النظام الرئاسي

كثيرا ما يتم النظر إلى النظام الرئاسي وإظهاره كضمان للاستقرار، وعلى هذا الأساس كان الاتجاه له في تركيا هربًا من إشكاليات التظام البرلماني والحكومات الائتلافية، لكن ما بدا في الواقع أن هذا الاستقرار لم يتحقق؛ على العكس تماما، لقد حل عدم الاستقرار(18).
ويعود ذلك لأسبابٍ عدة، أهمها الفشل في تحقيق إجماع وطني حول هذا النظام نتيجة مشكلات في الخطاب الداعم للنظام الرئاسي الذي لم يتمكن من ربطه بطموحات المواطنين مقابل ظهوره كمشروع خاص بالعدالة والتنمية لضمان البقاء في السلطة منفردًا، فضلا عن عدم الإعداد الجيد مؤسسيًا وقانونيًا للدولة التركية، وقد اعتبر داوود أوغلو، أن “المؤسسات التركية” تزداد ضعفا، مشيرا إلى أن الانتقال إلى النظام الرئاسي، الذي مكن أردوغان من حشد قوة غير مسبوقة عمليا في يديه، “أضر بالهياكل الأساسية” لتركيا(19).
وتنقسم الآراء الناقدة للنظام الرئاسي الراهن بين من يرفضه بالكلية ويدعو إلى العودة للنظام البرلماني، ومن يريد إدخال تعديلات عليه، ومن يرى ضرورة الاهتمام بمسألة إعداد الدولة من الأساس للنظام الرئاسي عبر تعديلات قانونية ومؤسسية، فأي توجه ستدعم التحولات الراهنة؟

مستوى الانتخابات الرئاسية، وهل ستجري انتخابات مبكرة؟
تتطلع الأنظار صوب الانتخابات الرئاسية المقبلة في تركيا، وذلك من أكثر من وجه، كالتكهنات بشأن المرشح القادم، فمن القول باحتمالية ترشح وفوز أكرم إمام أوغلو إثر فوزه بولاية اسطنبول، إلى ترجيح أن الحزب الجديد الذي بصدد إنشائه على باباجان، قد يفوت الفرصة أمام أكرم أوغلو، ويكون منافس لحزب الشعب الجمهورى فى تركيا(20). ذلك أن الكتلة الداعمة للحزب الجديد، لن تقتصر على ناخبي حزب “العدالة والتنمية” إذ إن ناخبي أحزاب “الشعب الجمهوري” و”الجيد” و”الحركة القومية” تسود بينهم حالة من عدم الرضا عن أحزابهم لفشلها في تقديم رؤية مختلفة، وربما يمثّل الحزب الجديد الملجأ المناسب إليهم (21). إلا أنه في حالة تأسيس أكثر من حزب منشق عن العدالة والتنمية قد تتشتت الأصوات.
وإثر المخاوف من تغير الأحوال، أعلن أردوغان عن العمل باتجاه إجراء تعديل دستوري لخفض النسبة التي يتعين على المرشح لرئاسة الجمهورية الحصول عليها للفوز بانتخابات الرئاسة وهي 50 في المائة + 1 ليتمكن أن يفوز بمنصب الرئيس من حصل على أكثر من 40 في المائة فقط وليس 50 + 1، لأن النسبة الحالية ترهق تركيا.
وقال أردوغان: “هذا الأمر يقتضي تعديلاً دستورياً، وهذا مرده إلى البرلمان، ومن ثم سنقوم بعمل اللازم لنعرض تصورنا في هذا الصدد على البرلمان. وهذا يمكننا القيام به من خلال تعاون المعارضة مع الحكومة”. وهو ما اعتبر دليلا على إدراك حزب العدالة والتنمية تدني شعبيته والتصدع العميق الذي يعاني منه.
إلا أن ما أثار السخط حقًا وجعل أحزاب المعارضة تعتبر أن تلك الخطوة من جانب إردوغان ما هي إلا وسيلة يسعى من خلالها العدالة والتنمية للبقاء في السلطة قول أردوغان بضرورة حل هذا الأمر في البرلمان دون التوجه إلى استفتاء شعبي لحسم المسألة.
علمًا أنه تلزم موافقة 400 عضو من بين 600 بالبرلمان على المقترح لإقرار تعديل دستوري مباشرة دون التوجه لاستفتاء، فيما يتعين موافقة 360 عضواً للموافقة على التعديلات لكنها في هذه الحالة تطرح للاستفتاء الشعبي (22).
فيما يتعلق باحتمالية الانتخابات المبكرة سواء رئاسية أو برلمانية، فقد يلجأ إليها العدالة والتنمية ذاته في العام المقبل بدلًا عن العام 2023، بسبب مخاوفه من استمرار التراجع في شعبيته، ليحافظ على ما تبقى، وإن كان في ذلك مجازفة(23).
كما قد تلجأ المعارضة إلى الانتخابات المبكرة، خاصة إذا تمكن الحزب (أو الأحزاب) الجديد من جذب عدد من أعضاء البرلمان الحاليين. وهذا الخيار في حال حدوثه قد يفتح الباب لتغيير الخريطة السياسية والحزبية في مجملها(24).‏

ثالثًا: الحريات وحقوق الإنسان

يمكن استخلاص من مجمل الخطابات المعارضة لأردوغان أن الهدف من التجديد هو محاولة استعادة روح الديمقراطية وحقوق الإنسان التي اعتبروها مفقودة في تركيا اليوم. حيث يسود الغموض أوضاع حقوق الإنسان، لاسيما مع تزايد الاعتقالات دون شفافية المحاكمات، وعدم وجود جوابٍ شافٍ لكثير من الأمور.
حيث نجد أن المحاججة الرئيسة التي يقدمها النظام الحاكم في تركيا في الرد على الانتقادات المتعلقة بحرية الصحافة واعتقال الصحفيين وغير ذلك من قضايا حقوق الإنسان هي اتهام الآخر بالتحيز وازدواجية المعايير وعدم دقة المعلومات أو الإحصاءات(25)، لكن في المقابل لا تقدم تركيا توضيحات حاسمة أو خطابات مطمئنة.
وقد كان الخلاف حول أوضاع حقوق الإنسان على رأس أسباب انشقاقات العدالة والتنمية، وفي هذا الإطار أكد باباجان حاجة تركيا الملحة إلى كوادر جديدة قادرة على إدارة المرحلة والتغلب على جميع المشاكل والصعوبات التي تواجهها البلاد، لضرورة عودة تركيا إلى الديمقراطية وسيادة القانون وتوسيع نطاق الحريات واحترام حقوق الإنسان في أقرب وقت ممكن(26).
واعتبر باباجان أن مسألة حقوق الإنسان كانت من أهم أسباب استقالته، إذ صرح: “لقد كنت أعاني فرقة مع الحزب من الناحية العقلية والقلبية. حيث إنه ابتعد عن المبادئ التي تأسس عليها في البداية، مثل حقوق الإنسان، والحريات، والديمقراطية التعددية، وسيادة القانون.. هذه قيم أؤمن بها وأدافع عنها” (27). أيضًا اعتبر داوود أوغلو أن الحزب الحاكم في بلاده سبق أن ثمن “العدالة والحرية وحريتي الفكر والتعبير”، معتبرًا أنه: “خلال الثلاث السنوات الأخيرة، لاحظت أن هذه القيم الأساسية، التي احترمناها على مدار كل حياتنا، لقيت تجاهلا” (28).
وتزداد التخوفات خلال الفترة المقبلة، فلا تبدو تصريحات أردوغان مطمئنة، فقد رد بغضب على هذه التطورات، المتصلة بالانشقاقات في حزبه، متوعدا: “هؤلاء الذين يشاركون في مثل هذه الخيانة سيدفعون ثمنا باهظا(29)، وكأن الاختلاف في الرأي خيانة وليس حرية.
وبالفعل نجد أنه قد حرك موظف سابق بمستشارية خزانة الدولة بتركيا ويدعى علي تشفيك شكوى أمام النيابة العامة بأنقرة، ضد علي باباجان، اتهمه فيها بالانتماء إلى جماعة رجل الدين فتح الله جولن الذي تتهمه أنقرة بتدبير المحاولة الانقلابية في يوليو 2016 (30).
ويأتي الجدل حول القضاء في تركيا ومدى استقلاليته في القلب من تقييم أوضاع حقوق الإنسان والحريات. حتى أن القائمين على حزب باباجان يرون أنه لا يمكن تأسيس نظام اقتصادي قوي قادراً على جذب رأس المال الأجنبي من دون وجود قضاء يتمتع بالقوة والاستقلال. ومن ثم يعمل وزير العدل السابق سعد الله إرجين، وأستاذ القانون عثمان كان، وعدد من الأكاديميين الآخرين على حزمة إصلاح قضائي شاملة يتبناها الحزب الجديد (31).
وفي هذا السياق قاطع جانب كبير من نقابات المحامين مؤخرًا مراسم بالقصر الرئاسي بمناسبة بدء السنة القضائية، حضرها أردوغان، حيث أعربت عن انتقادها لحكم القانون في البلاد(32) .وهو ما رفضه أردوغان قائلا إن النظام الجديد في تركيا، الذي يعطي سلطات تنفيذية واسعة للرئيس، لا يؤثر على الفصل بين السلطات. وقال إن بلاده عازمة على تعزيز استقلالية القضاء وحياده، بالمعنى الحقيقي(33).
وتحت تلك الضغوط من المنتظر أن يناقش البرلمان مقترحات حكومية في هذا الشأن، ومن المقرر أيضاً أن يجري تعديل المادة السابعة سيئة السمعة في قانون العقوبات التي تجرم ما تصفه بالدعاية الإرهابية، واستخدمت بشكل متكرر لسجن الصحفيين، وهو ما من شأنه أن يؤدي للإفراج عن عدد لا بأس به من المحتجزين. إلا أن المعارضة اعتبرت حزمة الإصلاحات الحكومية “محاولة لتحسين صورة النظام أوروبيا، وأنها محض هراء”، وإن الفيصل ما سيجري في البرلمان من مداولات(34).
فإلى أي مدى ستستمر الأوضاع على هذا النحو، وماذا عسى أن يقدم الحزب الجديد تحديدًا في تلك المرحلة التي هو فيها بكل الأحوال ليس جزءً من السلطة الرسمية؟ فهل يمكن العمل على إعادة صياغة تعريف “الديمقراطية المحافظة” من قبل منشقي حزب العدالة والتنمية(35)؟

رابعًا: الشفافية والنزاهة

وللشفافية والنزاهة شقان؛ أحدهما سياسي والآخر اقتصادي، سياسيًا، تتعدد مظاهر تراجع الشفافية السياسية في تركيا في الوقت الراهن، على سبيل المثال إقالة رؤساء البلديات، وقد رفض داوود أوغلو قرار أردوغان إقالة ثلاثة رؤساء بلديات في شرق تركيا، بسبب اتهامات متعلقة بالإرهاب(36). وقال داوود أوغلو تصريحه الخطير: “كثيرون سيخجلون من النظر في وجوه الناس، إذا فتحت دفاتر مكافحة الإرهاب، وستسوَّد وجوه كثيرة.”
وهو ما ينقلنا إلى أمر في غاية الأهمية وهو غياب الشفافية بشأن قضايا الإرهاب عمومًا في تركيا مؤخرًا، حيث توعد أوغلو بأن الجميع سيعلم قريبا “أن الفترة من 7 يونيو إلى 1 نوفمبر 2015، تعد أخطر وأصعب الفترات السياسية في تاريخ تركيا”، في إشارة إلى فترة إطلاق حكومة العدالة والتنمية اتهامات بالإرهاب ضد أعضاء حزب الشعوب الديمقراطي بعد نجاحه في الانتخابات البرلمانية، وتشكيل كتلة له داخل البرلمان، ما دفع أردوغان لإعادة الانتخابات في نوفمبر من العام ذاته(37). وعقب تصريحات داوود أوغلو على الفور، طالبت شخصيات من المعارضة ومجموعات نظّمتها أُسر ضحايا الهجمات في تلك الفترة بتوضيح كامل لحقيقة ما حدث(38).
أيضًا تكونت بتركيا حاليًا ما يشبه مراكز نفوذ، على رأسها المجموعة المعروفة باسم مجموعة البجع، وهم في أغلبهم من مناصري أردوغان. ويُعتقد أيضاً أن المجموعة مرتبطة بشدة بصهر الرئيس، وزير المالية بيرات البيرق، وهم يشكلون قوة ضغط على القرار السياسي والاقتصادي(39).
وهو ما ينقلنا إلى عدم الشفافية على الصعيد الاقتصادي، على سبيل المثال عدم شفافية بعض المناقصات المتعلقة بمشاريع معينة وعدم طرحها بوضوح على العامة، مما ينشر انطباعاً بوجود فساد(40). وبشكل عام يواجه الاقتصاد التركي صعوبات جمة منذ أن تولى بيرات البيرق، صهر أردوغان، وهو لاشك أمر يثير العديد من علامات الاستفهام بشأن مبدأ الكفاءة في قطاع مهم كالقطاع الاقتصادي”(41).
وقد انتقد داوود أوغلو هذه الأوضاع قائلا: “أذكر ذلك كما ذكرته سابقا.. يجب فصل العلاقات العائلية عن هيكل الدولة تمامًا… يجب ألا تكون هناك قرابة من الدرجة الأولى في التسلسل الهرمي للدولة”(42).

خامسًا: الأوضاع الاقتصادية

من المعروف أن تركيا تشهد وضعًا اقتصاديًا مأزومًا بعض الشيء خلال الفترة الأخيرة، وقد كان الخلاف حول السياسات الاقتصادية لأردوغان من أكبر مواضع الجدل في تركيا حتى أن واحدًا من أهم أوجه الخلاف بين كل من أردوغان وباباجان بشأن أسعار الفائدة(43). فهل مع عودة باباجان إلى المشهد السياسي التركي (وإن كان في صف المعارضة هذه المرة)، ربما تتغير الأمور مع الانتخابات المقبلة بحيث يجد فيه الأتراك ضالتهم لإصلاح ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية، خاصة أن باباجان موضع ترحيب من قِبل المستثمرين والأسواق الدولية بشكل عام. ويُنظر إليه على أنه تكنوقراط راسخ، وموثوق به، وعلى دراية جيدة بالسياسات الاقتصادية التقليدية، كما يعرف باباجان بشعبيته لدى مؤسسات التمويل الغربية(44).

خاتمة:

تعد الانشقاقات التي يعيشها العدالة والتنمية في هذه المرحلة بمثابة مرآة عاكسة لمجمل الحالة السياسية والاقتصادية في تركيا. فقد جاءت جراء خلافات حول أمور جوهرية، رأت الأطراف المنشقة أنها مست ثوابت التجربة الديمقراطية، على سبيل المثال: نمط الإدارة الحزبية لأردوغان من حيث الصوت الواحد وتقريب أهل الثقة على حساب أهل الخبرة، الغموض الذي أصبح يكتنف أوضاع حقوق الإنسان والحريات حتى أنه بات يمس القضاء، كما أن مستوى الشفافية والنزاهة السياسية والاقتصادية صار محل ريبة، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة.
ويمكن القول إن تركيا خلال الفترة الأخيرة قد وقعت أسيرة طرفين (حكم ومعارضة)، ولاشك أن هذا أمر طبيعي في أي دولة من دول العالم، لكن المعضلة تتمثل في أن كل منهما يمر بلحظة معقدة كثيرًا (حيث ساهم الجانبان في تعميق حالة الاستقطاب، خاصة حول أمور جوهرية تحتاج إلى مساحة من التوافق، وذلك كشكل النظام السياسي والدستور): فالطرف الأول: يمثله حزب العدالة والتنمية الحاكم وعلى رأسه أردوغان، قد بات –كما سلف الذكر- منغلقًا على أفكار فئة قليلة وأهداف أقل عمقًا أهمها الرغبة في البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة، ليجد نفسه طاردًا لقياداته التاريخية التي كانت أعمدة رئيسة في تجربة النهضة التركية، ليكشف تردي الأوضاع عن ضعف الدائرة الجديدة من أهل الثقة المحيطة بأردوغان(45). كما أن الحزب أصبح يعاني أزمة قيم، حيث تشويه معارضيه حتى من كانوا جزءًا منه مثل جول وباباجان واتهامهم بالخيانة ومحاولات تقسيم الأمة التركية. والطرف الثاني: ممثلا في المعارضة التقليدية، التي بدت عاجزة لفترة طويلة عن طرح البديل أو المنافس للعدالة والتنمية، على نحوٍ جعل الحياة السياسية التركية برمتها في حالة من الركود، ذلك حتى تمكنت المعارضة في الانتخابات البلدية الأخيرة من تحريك هذا الركود عبر تحقيق الفوز على العدالة والتنمية في المدن الكبرى، فهل ستثبت جدارتها، أم ستعود سيرتها الأولى؟ هذا ستخبرنا به التجربة.
في تلك اللحظة تبدو إرهاصات الطريق الثالث عبر سعي بعض منشقي العدالة والتنمية لتأسيس كيانات بديلة، فهل بإمكان هؤلاء تأسيس حزب يقدم رؤية مختلفة، بحيث يضم رموزاً من أطراف المشهد السياسي في البلاد –كما أُعلن حتى الآن- ليتمكن من صوغ تصور مرن لشكل النظام السياسي والتحالفات.
وبشكل عام لابد للجميع أن يعي ضرورة الخروج من فكرة الوصاية أو محاولة قولبة شكل الحياة السياسية في تركيا، فهذا أثبت فشله في الماضي، هكذا أكدت التجربة الكمالية، وتؤكده تجربة العدالة والتنمية في المرحلة الراهنة.
*****

الهوامش:

(*) باحثة في مركز الحضارة للدراسات والبحوث.

[1]- راجع كلا من:
أحمد داوود أوغلو خارج حزب أردوغان بسبب انتقادات الرئيس، بي بي سي العربية، 3 سبتمبر 2019:
https://cutt.us/rl3kM
حزب أردوغان يحيل رئيس حكومته السابق وأحد مؤسسيه للتأديب تمهيدًا لفصله، سي إن إن العربية، 2 سبتمبر 2019: https://cutt.us/r1qe1
[2]- “الأمان” يجمعهم معًا… الانشقاقات تضرب “العدالة والتنمية” وتضع إردوغان أمام انتخابات مبكرة، موقع كتابات، 13 يوليو 2019: https://cutt.us/8nVmb
[3]- سعيد الحاج، انعكاسات النظام الرئاسي بتركيا على حزب العدالة والتنمية، الجزيرة، 3 مايو 2017:
https://cutt.us/djOBS
[4]- سعيد الحاج: أحزاب جديدة من رحم العدالة والتنمية في تركيا، وكالة أنباء آسيا، 9 يوليو 2019:
https://cutt.us/HVt0o
[5]- المرجع السابق.
[6]- خبير بالشأن التركي: استقالة باباجان من العدالة والتنمية يوسع دائرة الانقسام، اليوم السابع، 10 يوليو 2019: https://cutt.us/YvqNe
[7]- المرجع السابق.
[8]- تركيا: باباجان يخرج عن صمته ويكشف عن ملامح حزبه المرتقب، جريدة زمان التركية، 11 سبتمبر 2019: https://cutt.us/RFdpn
[9]- أردوغان وصراع التكتلات… 3 شخصيات تخطط لخلافته في رئاسة الحزب، 13 يوليو 2019:
https://cutt.us/QoXRF
-[10] تركيا: باباجان يخرج عن صمته ويكشف عن ملامح حزبه المرتقب، مرجع سابق.
[11]- المرجع السابق.
[12]- فريق باباجان يظهرون ملامح حزب يعتزمون تأسيسه، جريدة زمان التركية، 28 أغسطس 2019:
https://cutt.us/tnqmp
[13]- هل يصل للسلطة، صحيفة الاستقلال، الاطلاع بتاريخ 15 أكتوبر 2019: https://cutt.us/ATfyt
[14]- تركيا: باباجان يخرج عن صمته ويكشف عن ملامح حزبه المرتقب، مرجع سابق.
[15]- سعيد الحاج، الأزمة الداخلية في حزب العدالة والتنمية التركي… الأسباب والتداعيات، الجزيرة، 17 سبتمبر 2019: https://cutt.us/JBAlJ
[16]- تركيا: باباجان يخرج عن صمته ويكشف عن ملامح حزبه المرتقب، مرجع سابق.
[17]- سعيد الحاج، الأزمة الداخلية في حزب العدالة والتنمية التركي… الأسباب والتداعيات، مرجع سابق.
[18]- هل يصل للسلطة، مرجع سابق.
[19]- “تحد غير مسبوق للرئيس التركي”… داوود أوغلو يتحدث عن “يأس واسع” في حزب أردوغان، روسيا اليوم، 1 أغسطس 2019: https://cutt.us/YGPdB
[20]- خبير بالشأن التركى: استقالة بابا جان من العدالة والتنمية يوسع دائرة الانقسام، مرجع سابق.
[21]- هل يصل للسلطة، مرجع سابق.
[22]- إردوغان يلمح إلى تعديل دستوري لتسهيل فوزه بالرئاسة مجدداً وسط تراجع شعبيته، الشرق الأوسط، 3 أكتوبر 2019: https://cutt.us/X4Pns
[23]- نقاذ شعبيته المنهارة… «أردوغان» يلمح لإجراء تعديل دستوري و«رئاسيات مبكرة»، بوابة الحركات الإسلامية، 4 أكتوبر 2019: https://cutt.us/k8sys
[24]- سعيد الحاج، الأزمة الداخلية في حزب العدالة والتنمية التركي.. الأسباب والتداعيات، مرجع سابق.
[25]- سعيد الحاج، حرية الإعلام في تركيا: قراءة متأنية في الواقع وأسبابه، موقع إضاءات، 19 يناير 2019:
https://cutt.us/Nhk6C
[26]- صفعة جديدة على وجه الدكتاتور العثمانى.. بابا جان أحد مؤسسى العدالة والتنمية يقدم استقالته رسمياً من الحزب.. ويعلن تأسيس حزب جديد لتصحيح الأوضاع السياسة فى تركيا.. ومحلل سياسى: بداية النهاية لأردوغان، اليوم السابع، 8 يوليو 2019:
https://cutt.us/aPyzT
[27]- تركيا: باباجان يخرج عن صمته ويكشف عن ملامح حزبه المرتقب، مرجع سابق.
[28]- “تحد غير مسبوق للرئيس التركي”.. داوود أوغلو يتحدث عن “يأس واسع” في حزب أردوغان، مرجع سابق.
[29]- المرجع السابق.
[30]- بعد هزيمة اسطنبول المذلة الانشقاقات تضرب حزب أردوغان… استقالة نائب رئيس الوزراء السابق، البيان نيوز، 9 يوليو 2019:https://cutt.us/4dIfP
[31]- إرغون باباهان، عودة العدالة وحرية التعبير في تركيا أولوية علي باباجان، أحوال تركية، 2 سبتمبر 2019: https://cutt.us/VtHTz
[32]- خطوة غير مسبوقة من المؤسسات القضائية ضد أردوغان، أحوال تركية، 2 سبتمبر 2019:
https://cutt.us/XDPhg
[33]- المرجع السابق.
[34]- إذاعة ألمانية: مقترحات أردوغان لإصلاح القضاء “مهزلة”، العين الإخبارية، 8 أكتوبر 2019:
https://cutt.us/8OyGV
[35]- كرم سعيد، واجهة مفتوحة.. أبعاد ودلالات حرب أوغلو على العدالة والتنمية، العين الإخبارية، 3 سبتمبر 2019: https://cutt.us/t1cFK
[36]- أحمد داوود أوغلو خارج حزب أردوغان بسبب انتقادات الرئيس، مرجع سابق.
[37]- أحمد داوود أوغلو يتوعد بكشف أسرار “تسود” لها وجوه الكثيرين!، روسيا اليوم، 26 أغسطس 2019:
https://cutt.us/se9PW
[38]- مايكل ماكنزي، حرب داوود أوغلو الكلامية مقدمة لصراع سياسي قادم في تركيا، أحوال تركية، 2 سبتمبر 2019: https://cutt.us/tz4eH
[39]- المرجع السابق.
[40]- سعيد الحاج، مانيفستو «أحمد داود أوغلو»: العدالة والتنمية على مفترق طرق، إضاءات، 27 مايو 2019: https://cutt.us/RTAZv
[41] -“الأمان” يجمعهم معًا… الانشقاقات تضرب “العدالة والتنمية” وتضع إروغان أمام انتخابات مبكرة، مرجع سابق.
[42] – داوود أوغلو ينتقد أردوغان بسبب “العلاقات العائلية”، سكاي نيوز، 14 يوليو 2019: https://cutt.us/PMG0h
[43]- “الأمان” يجمعهم معًا… الانشقاقات تضرب “العدالة والتنمية” وتضع إروغان أمام انتخابات مبكرة ، مرجع سابق.
[44]- المرجع السابق.
[45]- كرم سعيد، مواجهة مفتوحة… أبعاد ودلالات حرب أوغلو على العدالة والتنمية، مرجع سابق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى