إشكاليات فهم أنماط التحالفات والتحالفات المضادة منذ اندلاع الثورات 2011

يشهد الفضاء الحضاري العربي الإسلامي منذ 2011 أنماطًا متجددة من التحالفات والتحالفات المضادة التي تتسم بالتعقيد والتركيب من ناحية، والسيولة الشديدة من ناحية أخرى؛ بحيث يصعب على المراقب والمهتم –بحثًا أو حركة- رسم خريطة محددة لهذه الظاهرة بين عوامل تشكلها ومحاورها قبل أن تتغير من جديد وبسرعة.
إذًا، أليس هناك من قواعد علمية نستند عليها لرصد وتشخيص وتفسير حالة التحالفات والتحالفات المضادة في المنطقة منذ اندلاع الثورات العربية والانقلابات والثورات المضادة عليها؟ والأهم: ما الجديد منذ 2011 مقارنة بما سبق من مراحل تطور هذه الظاهرة في المنطقة؟ ولماذا العام 2011 على وجه الخصوص؟ وماذا جدَّ منذ هذا التاريخ حتى الآن وكيف؟ وألا يستقيم فهم هذه الحالة ويسهل تفسيرها إذا ما رددناها إلى سوابقها التاريخية إقليميًا وعالميًا؟
ودراسة ظاهرة وعملية التحالفات موضع الاهتمام تنبني على عدة ركائز :
من ناحية أولى: من ضد من: تحالفات أعداء وأصدقاء ضد أصدقاء، أو أعداء مع أعداء ضد أصدقاء؟ تحالفات نظم وحكومات أم تحالفات فواعل غير رسمية؟
من ناحية أخرى: تحالف من أجل ماذا؟ تحرير واستقلال ووحدة وتنمية أم من أجل هيمنة ونفوذ عالمي أو إقليمي؟
من ناحية ثالثة: كيف تدار التحالفات: حربًا أم دبلوماسية؟ وتحت أي مظلة أو شعار أو مرجعية؟
وأخيرًا، فإن دراسة هذه العملية تقتضي التمييز بين نمط تحالفات آنية حول قضية ما هي الأقرب لمواقف تكتيكية، وبين نمط تحالفات استراتيجية مناطها التوجهات الخارجية؛ وهي الأقرب إلى تكوين “محاور”. والدراسة تستدعي النمط الثاني بدرجة أساسية، سواء فيما يتصل بالذاكرة التاريخية أو المرحلة الراهنة محل الاهتمام. فهذه ليست دراسة رصدية بقدر ما تقدم رؤية حول إشكاليات فهم العملية الراهنة في سياقها التاريخي سواء الممتد أو المعاصر.

تبدأ محاولة الإجابة عن التساؤلات المطروحة غالبًا، على ضوء الركائز السابقة الإشارة إليها، من مقولة أساسية، مقولة تنطلق من دلالات للذاكرة التاريخية لمنطقتنا وتحالفات القوى فيها، وصولاً إلى إشكاليات الوضع الراهن للتحالفات والتحالفات المضادة، وتتلخص هذه المقولة في الآتي:
“نظام الدائرة الحضارية العربية، كإحدى دوائر الحضارة الإسلامية، وقع دائمًا عبر تناوب فترات القوة والضعف، الصعود والانحدار، الوحدة والتجزئة، وقع في قلب تفاعلات هذه الأمة فيما بين مكونات شعوبها المتنوعة، وفي قلب تفاعلاتها مع بقية النظم المحيطة في العالم. وتتأثر أنماط التحالفات والتحالفات المضادة “البينية” بطبيعة ودرجة تدخلات النظم الخارجية فيها، ويزداد هذا التأثير قوة مع تزايد الوهن الداخلي وتعمق الفرقة، ثم يزيد ذلك التدخل الخارجي من عوامل هذا الوهن وهذه الفرقة؛ في عملية تغذية دائرية ومتبادلة بين الداخلي والبيني والخارجي. وفي هذا الإطار يمكن فهم مستدات التحالفات في المنكقة العربية وحولها منذ 2011″.

(1)

التحالفات والتحالفات المضادة ظاهرة وعملية سياسية دولية تاريخية ممتدة، ويصعب عادةً وضع نظرية علمية لرصد هذه الظاهرة وتحليلها في سياقاتها الزمنية والمكانية والموضوعية المختلفة، وتزداد صعوبة استدعاء إطار نظري للفهم والاستشراف مع تعدد الخبرات وتنوع التجارب؛ سواء من منظار المركزية التاريخية الغربية، أو من منظار المركزية الإسلامية التاريخية (على الأقل خلال القرون الخمسة الأخيرة) التي شهدت التداول الحضاري العالمي تدريجيًا من الشهود الحضاري الإسلامي إلى الشهود الحضاري الغربي. وقد انعكست هذه الحالة النظمية العالمية والإقليمية -من التداول والتدافع- سواء في الدائرة الحضارية الغربية أو الإسلامية أو في مناطق التقاطع أو التماسّ بينهما عبر القرون الخمسة الأخيرة، على حالة التحالفات والتحالفات المضادة.
ويبرز للفضاء الحضاري العربي الإسلامي وضعية خاصة في هذه التفاعلات النظمية التبادلية، وضعية اكتسبت صبغات متعددة باختلاف السياق الزماني والتنافس العالمي(1)؛ وصولاً إلى النظام الدولي المعاصر (القرن العشرين)، وحتى المفصل التاريخي الذي نعيشه الآن (منذ 1991-2011 وإلى اليوم)(2).
فمن منظار تاريخ المركزية الغربية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى: يقدم لنا التنافس على الزعامة الأوروبية منذ صلح ويستفاليا على الأقل وتأسيس الدول القومية الحديثة من ناحية، والتنافس الغربي على استعمار العالم الجديد ثم العالم القديم من ناحية أخرى، يقدم لنا نماذج حية من التحالفات والتحالفات المضادة الكبرى التي لعبت فيها الحروب دورًا كبيرًا بين القوى الأوروبية المتعددة المتنافسة على الزعامة؛ مثل: البرتغال، إسبانيا، هولندا، فرنسا، وبريطانيا، تحركها مصالح القوى التقليدية بالأساس (مكانة الأسرة الحاكمة، الثروة، والهيمنة العالمية) ممزوجة بعوامل عقيدية مذهبية (التبشير بالمسيحية أو بمدنية الرجل الأبيض ودوره الحضاري) كغطاء أو رداء لمصالح القوى الصراعية.
وبقدر ما شهد نظام توازن القوى المتعددة (القرون من الخامس عشر حتى الثامن عشر) تحالفات الكبار ضد الكبار في إطار تغير دوراني متتالٍ في قيادة النظام الأوروبي، بقدر ما شهد القرن التاسع عشر السلام البريطاني الذي حكم نظام التحالفات والتحالفات المضادة (الكبرى والجزئية منها) حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى.
وكان القرن التاسع عشر (قرن السلام البريطاني) ثم القرن الأخير (قرن نمط التوازن متعدد القوى) قد أفسحا المجال بالتدريج، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى الحرب الثانية، للتحول إلى مرحلة انتقالية في توازنات القوى العالمية المتعددة، نحو مرحلة جديدة ونظام عالمي جديد ثنائي القطبية بالأساس؛ وذلك بعد تصفية الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية في تسويات الحرب الأولى، والإمبراطورتين الفرنسية والبريطانية ضمن تسويات الحرب العالمية الثانية.
ومن منظار تاريخ المركزية الإسلامية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى: فلم يكن نظام التحالفات أو التحالفات المضادة على صعيد الفضاء الحضاري الإسلامي، عبر القرون الخمسة السابقة (من السادس عشر إلى مطلع العشرين)، من أجل إدارة التنافس على عامة العالم الإسلامي بالأساس. فلقد كانت المركزية العثمانية، منذ منتصف القرن السادس عشر، أي مع صعود سليمان القانوني، تأكيدًا للمركزية العثمانية في مواجهة الصفوية الصاعدة حديثا، وعلى ركام الدولة المملوكية التي تمت تصفيتها رسميًا مع بداية الحكم العثماني لمصر والشام منذ أوائل القرن السادس عشر. فلقد كانت بدايات هذا القرن السادس عشر، نقطة تحول في توازنات القوة الإسلامية مثل ما كانت بدايات القرن نفسه نقطة تحول في توازنات القوة الأوروبية (مع استرداد الأوروبيين للأندلس، واستكشاف العالم الجديد، والالتفاف حول العالم الإسلامي من الجنوب). وبذا بدأت صفحة من التحالفات والتحالفات المضادة العثمانية-الأوروبية، حيث أصبحت الدولة العثمانية مركبًا أساسيًا وميزانًا للتحالفات الأوروبية ذاتها بين البوربون والهابسبورج، كما كانت عند بداية فتوحاتها في شرق أوروبا عامل تأثير في توازنات الدولة البيزنطية الشرقية والإمارات اللاتينية.
كما ظهرت تحالفات قوى إسلامية (كالدولة الصفوية) مع قوى أوروبية في مواجهة تحالفات الدولة العثمانية، وكان الاقتتال الصفوي-العثماني ذاته من عوامل انحسار المد العثماني في بقية أوروبا ما وراء أسوار فينيا، كما كان التمدد الصفوي أيضًا، ناهيك عن الالتفاف البرتغالي حول العالم الإسلامي من الجنوب، من عوامل اتجاه الدولة العثمانية جنوبًا نحو الدائرة العربية (الشام، وادي النيل، شمال أفريقيا، الجزيرة العربية) وبأشكال متعددة من الحكم والنفوذ المباشر وغير المباشر.
ولذا ظلت دائرة التحالفات “الأوروبية” مع قوى من هذه الدوائر، أداة أساسية من أدوات الحرب الأوربية على الدولة العثمانية سواء في مدة قوتها ومركزيتها أو في مدة تراجعها وتفتت أوصالها بالتدريج. فلقد كانت المنافسة بين المركز العثماني، ومراكز القوة الصاعدة في هذه الدوائر (دولة محمد علي، الدولة السعودية، حركة الشريف حسين على التوالي) من أهم مناطق تغلغل “الأوربيين”؛ بحثًا عن تحالفات ضد الكيان العثماني وسعيًا لتفكيكه من داخله أو حرمان الدائرة الحضارية الإسلامية من مراكز قوة جديدة واعدة (محمد علي) أو التلاعب بقوى واهية طامعة (الثورة العربية بقيادة الشريف حسين)، ومن وراء الستار كانت التحالفات الأوروبية على أشدها لتنظيم عملية التصفية واقتسام ما تبقى من الدائرة العربية (الاتفاق الودي 1904، سايكس-بيكو 1916، وعد بلفور 1917، معاهدة لوزان الأولى 1920 والثانية 1923).
وإذا كان نظام التحالفات والتحالفات المضادة حتى الحرب العالمية الأولى كان يمكن التمييز -على صعيده- بين مجالين حضاريين متوازيين ولكن غير منفصلين، يعرفان مناطق احتكاك والتحام وتقاطع عديدة (كما سبق الشرح)، فإنه منذ نهاية الحرب العالمية الأولى لم يعد من الممكن استدعاء هذه الازدواجية في المنظار بسهولة، وخاصة ما يتصل بالفضاء الحضاري العربي الإسلامي، الذي تم استكمال استعماره طيلة القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وتم تصفية استقلاليته بل ووجود قوته الكبرى المشاركة في التوازنات العالمية؛ أي الامبراطورية العثمانية.
وبذا أضحت هذه الساحة الحضارية، في هذه المرحلة الانتقالية في هيكل وطبيعة النظام الدولي مسرحًا لأنماط من التحالفات والتحالفات المضادة ذات دلالة قوية على أمرين: أحدهما- كيف تحول هذا الفضاء من الشهود الحضاري ومركزية الدور العالمي الضابط لتوازنات وتحالفات عديدة (الأموية فالعباسية في مواجهة البيزنطية، والعثمانية في مواجهة الإمبراطوريات الأوروبية) إلى الانحدار الحضاري وحيث أضحى “الخارجي” المتحكم في “البيني” و”الداخلي”؟ والأمر الآخر- كيف أن فشل التحالفات البينية في مواجهة “الخارج” أو “العدو الأصلي” جاءت لصالح التحالفات مع الأعداء في مواجهة “إخوة الدين”؟
في ضوء هذه الإطلالة السريعة على حالة التحالفات والتحالفات المضادة، من منظاريْن متقابليْن للتوازن العالمي حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، يمكن القول: إنه بقدر ما مثَّل السلام البريطاني ميزان نظام التحالفات والتحالفات المضادة الكبرى والصغرى، حتى اندلاع حرب عالمية (الأولى)، وبقدر ما كان لعملية تصفية تركة رجل أوروبا المريض (الدولة العثمانية) تأثيراتها الشديدة على التحالفات الإسلامية-الإسلامية ذاتها منذ منتصف القرن الـتاسع عشر، وبقدر ما أضحى نظام التحالفات والتحالفات المضادة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وظهور نظام الثنائية القطبية (الجامدة ثم المرنة)، يشهد نمطًا آخر من التحالفات بين (كبير وصغار) ضد (كبير وصغار) في إطار الحرب الباردة الساخنة وتحت تأثير الصراع الأيديولوجي العالمي؛ حيث صعدت الحروب بالوكالة، وتحالف العملاء والأصدقاء على أسس أيديولوجية بالأساس.
ولقد كان “العالم الثالث” ساحة خصبة لهذه الصراعات العالمية بالوكالة؛ ولذا برزت على صعيد أقاليمه –وخاصة العربية- ظاهرة التحالفات-التحالفات المضادة؛ بين كبار وصغار على كل جانب. وحين حاول الصغار التحالف المرن فيما بينهم (حركة عدم الانحياز، مبدأ الحياد الإيجابي، رفض الأحلاف العسكرية كحلف بغداد، مجموعة السبعة والسبعين لدول الجنوب) سياسيًا واقتصاديًا، حالت الانقسامات الداخلية –الموظفة من الخارج- ناهيك عن فشل السياسات الداخلية ابتداء، دون فاعلية هذا التحالف في مواجهة الثنائية القطبية أو على الأقل كسر حدتها وتداعياتها السلبية(3).
ولم يعد الأمر أفضل على الصعيد العالمي والصُّعد الإقليمية، بعد انتهاء الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي العالمي في ظل الثنائية القطبية (الجامدة ثم المرنة)(4). فلم يحمل “النظام العالمي الجديد” منذ 1991 نذر تحالفات عالمية لصالح الإنسانية والعدالة والديمقراطية بقدر ما حمل رياح تحالفات وتحالفات مضادة صراعية بالأساس، تحركها عوامل القوة الاقتصادية بالأساس ثم ما صاحبها من صعود العوامل الدينية الثقافية الحضارية التي لم تستبدل العوامل التقليدية (العسكرية والاقتصادية) بقدر ما مثلت أردية جديدة لها تفرضها ضرورة “العولمة” وعصر جديد من صعود دور الشعوب إلى جانب دور الحكام…(5).

(2)

ومن بين دلالات هذه السياقات التاريخية، الإقليمية والعالمية، تبرز خصائص وضع الدائرة الحضارية العربية الإسلامية (أو ما سُمي النظام الإقليمي العربي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية) سواء طيلة القرن التاسع عشر، في إطار المنافسة العثمانية–الأوروبية وما اقترن بها من تحالفات كبرى عالمية أو جزئية (حول المنطقة) كما سبق البيان، أو سواء خلال النصف الأولى من القرن العشرين، في إطار المنافسة الأوروبية–الأمريكية–السوفيتية على النفوذ حيث تمت تصفية الإمبراطوريات الأوروبية (الفرنسية والبريطانية) وبدا الصعود الإمبراطوري في الجديد المنطقة في أردية أمريكية وسوفيتية متصارعة أيديولوجيا على المصالح الاستراتيجية منذ منتصف القرن العشرين.
وانعكس ذلك الوضع العالمي بقوة على المنطقة بصفة عامة وعلى نمط تحالفاتها الإقليمية بصفة خاصة، سواء في ظل الحرب الباردة أو ما بعدها.
ففي ظل الحرب الباردة يمكن استدعاء كيف اقترنت حركات استقلال الدول العربية بعسكرة هذه الدول في معظمها، ولبست هذه العسكرة أردية ثورية تقدمية من أجل العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني، وبذا تشكل نمط تحالفي وفق طبيعة النظم الوليدة في مواجهة نمط تحالفي مضاد من الملكيات المحافظة التقليدية. وتولدت حرب باردة عربية بين المحورين؛ في ظل راية القومية العربية من أجل الوحدة والاشتراكية والقضاء على إسرائيل والاستقلال عن الغرب، ومن ناحية أخرى في إطار حرب باردة أيديولوجية كبرى بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، صبغت –بدورها- ودعمت من الثنائية الاستقطابية الحادة بين المحورين أو التحالفين العربيين، وكانت الأيديولوجية والكاريزما -وليست الثروة- هي المحك عربيًا وعالميًا(6). وكان العدو أو الحليف (ولا أقول الصديق) واضحًا جليًا على الصعيدين العالمي والإقليمي، وكان الصراع مع إسرائيل في القلب من كل هذه التفاعلات أو على الأقل هو الاستراتيجية المعلنة من الجميع (ثوريا كان أو محافظا) ولو بدرجات مختلفة.
وتوارت المذهبية (السنية-الشيعية) والطائفية الدينية (الإسلامية-المسيحية) والتفرقة القومية (العربية–الكردية–الفارسية-البربرية) وراء الانقسام الأيديولوجي والعسكرة الصاعدة النامية. فالسعودية (الوهابية) كانت حليفة إيران الشاهنشاهية (الشيعية اسما، العلمانية)، فكلاهما في حظيرة الغرب في مواجهة “النظم العسكرية (السنية اسما، والتي اندفعت نحو حظيرة الشرق).
وكانت هذه النظم العسكرية تعتقد أو تتلاعب بأنهم يخوضون معركة استقلال وطنية، لكن بأدوات الاستبداد الداخلي الذي يدغدغ مشاعر الناس بشعارات الاشتراكية والاستقلالية والاستقطاب الأيديولوجي الإقليمي واستبدال مستعمر قديم (الغرب) بآخر جديد (الاتحاد السوفييتي). فإطار الحرب الباردة الحادة الساخنة في الخمسينيات والستينيات غذَّى من هذه الحالة الاستقطابية الواضحة والصريحة والممتدة لعقدين على الساحة العربية؛ بين تحالف “ثوري تقدمي” وآخر “محافظ رجعي”.
ثم كان لإسرائيل من ناحية، والوفاق الأمريكي–السوفيتي وانخفاض حدة الحرب الباردة من ناحية أخرى، وسوء الإدارة السياسية الداخلية والخارجية لأركان النظام العربي من ناحية ثالثة، فضل كبير في كشف زيف كل من هذين النمطين من التحالفات المستقطبة للمنطقة (الثورية/الرجعية، والجمهورية/الملكية، والاشتراكية/الرأسمالية، والقومية العربية/إسرائيل)، وهشاشتها وكارثية نتائجها.
فلقد كانت هزيمة 1967 نقطة مفصلية تغيرت -حولها وبسببها- أنماط التحالفات وعناوينها، في وقت أخذت تتغير مصادر القوة الإقليمية من الزعامة الكاريزمية وشعارات القومية والاشتراكية والاستقلال إلى مصادر قوة كانت أكثر كارثية بدورها على المنطقة؛ ألا وهي قوة البترو-دولار، وخاصة منذ 1973، وأعيد تشكيل التحالفات بعد أن اهتزت العداوة بين النظم “الملكية” والنظم “الجمهورية” تحت وطأة هزيمة 1967 ومقتضيات علاجها إقليميًا وداخليًا، والأهم من حيث إعادة تشكيل نمط العلاقة مع الغرب حليف “الملكيات” ومصدر المساندة المالية المطلوبة للنظم “الجمهورية” لتواصل معركتها.
وبرزت محاور وعناوين جديدة للتحالفات: تحالف دول المواجهة، تحالف دول المساندة، وكانت صريحة وواضحة وكبرى ومعلنة حتى بدأ ينافسها ويستبدلها منذ اتفاقية كامب ديفيد 1978 ما عرف بتحالف الاعتدال في مواجهة ما عرف بتحالف الصمود ثم دول الطوق ثم دول الممانعة .. وجميعها تركت بصمات قوية وسلبية منذ 1978 على الساحة اللبنانية (الحرب الأهلية 1975-1990) وعلى الساحة الفلسطينية (بعد أيلول الأسود 1969، ثم مذبحة بيروت 1982)، ثم كانت الثورة الإيرانية 1979، وغزو العراق للكويت 1990 ثم حصار العراق، ونهاية الحرب الباردة 1991 وما بدا أنه هيمنة أحادية أمريكية على العالم، وبداية عملية التسوية السلمية العربية-الإسرائيلية 1991، وتسوية الحرب الأهلية اللبنانية في ظل الاحتلال السوري، والتغيرات السياسية في الداخل التركي … جميع هذه الأحداث الكبرى وغيرها، وضعت بصماتها بقوة على نمط التحالفات والتحالفات المضادة في المنطقة، فلم تعد بنفس الصراحة والوضوح والاستمرار والاستقطاب، ولكن بدأت إرهاصات التعقد والتركيب والسيولة في التراكم تدريجيًا.
فلقد تفكك كل تحالف كبير وتحركت الحلفاء من تحالف إلى آخر وفق معايير أخرى؛ مثل: طبيعة الموقف من الأحادية الأمريكية العالمية ومن التسوية السياسية السلمية مع إسرائيل، ومن ثم الموقف من “القضية الفلسطينية”، وأخيرًا طبيعة الموقف من النظام الاقتصادي العولمي. فأضحت مصر–مبارك والخليج والأردن في قلب “محور الاعتدال”؛ وفي مواجهة ما يسمى محور “الممانعة والصمود”: سوريا والمقاومة؛ مدعومتين من إيران.
وبدا أن دولا عربية أخرى تقف موقف المراقب (اليمن، الجزائر، تونس، المغرب) في حين تورطت السودان ولبنان في حرب أهلية أو امتداداتها. وأضحت الاختبارات العملية للتحالفات ظرفية وفق كل حالة (حصار العراق، التهديدات لوحدة اليمن والسودان، الهجوم الأوروبي المرن الجديد باسم اتفاقيات الشراكة الأورومتوسطية، والهجوم الأمريكي بمبادرة الشرق الأوسط الكبير، توجهات تركيا وإيران نحو المنطقة منذ 2001). وفي المقابل كانت إرهاصات ما يسمى “الحرب الدولية على الإرهاب” قد أخذت في الظهور في “التسعينيات” وبمبادرة إسرائيلية لصيقة بالمقاومة الفلسطينية، وأضحت هذه الإرهاصات منذ 2001، استراتيجية أمريكية متكاملة يلتحق بها حلفاؤها الأوربيون (ولكن باختلافات تكميلية حول الأسباب والأدوات) ومن ورائهم حلفاؤهم من المنطقة.
بعبارة أخرى: مارست تطورات استراتيجية كبرى (الآثار السلبية للسلام المصري مع إسرائيل منذ 1978 ثم الثورة الإيرانية ومشروعها، ثم حرب الخليج الأولى ثم الثانية ثم احتلال العراق، التوجه التركي الجديد نحو المنطقة منذ 2002)، آثارها على أنماط التحالفات المتضادة في المنطقة واختبرتها على نحو يبرز كم كانت الظاهرة في تآكل وفي تغير، تفقد مصادرها الذاتية التي تشكلها وتصبح متغيرا تابعا بقوة للتأثيرات والتدخلات الخارجية.
وفي المقابل كانت قضية مهمة تتشكل في رحم هذه المنطقة منذ 1991، وقد خرجت إلى النور منذ 2001؛ وهي قضية الإصلاح والتحول الديمقراطي وحقوق الإنسان، والتصقت –كعلاج مقترح- بوجه آخر للعملة؛ وهو الحرب على الإرهاب. وفي قلب القضيتين كان يتشكل حال الحركات السياسية الإسلامية ومستقبلها، ولم تكن كافة النظم العربية بصديق حميم لقضية الديمقراطية بقدر ما كانت عدوا لدودا للإرهاب ومنفذا مطيعا لتعاليم الخارج بشأنه.
وبذا لم تكن هذه القضية بصالحة كمعيار للتمييز بين أنماط للتحالفات؛ بين نظم ديمقراطية أو غيرها، فلم تعد الشعوب وقودا للتعبئة لمعارك من أجل صالحها بقدر ما أضحت وقودًا لمعارك الخارج على أراضينا.

(3)

وكانت ثورات 2011 الشعبية نقطة انقلاب في مصادر وأشكال هذه التحالفات وعلى نحو صبغ طبيعة أنماطها. فلقد استدعت الثوراتُ الشعوبَ بقوة، ولكن على نحو مختلف عما حدث في مراحل سابقة؛ سواء في الخمسينات والستينيات أو السبعينيات والثمانينيات أو مرحلة ما بين 1990-2010. فكما رأينا كانت الشعوب مستهدفة وموظفة في تحالفات المراحل السابقة والأولوية كانت للحكام ونخبهم وفقط. إلا أن قيام الثورات، ثم الثورات والانقلابات المضادة، قد كسر من منظومة هذه المعايير لتقدم ساحة ما بعد 2011 حالة جديدة من التحالفات والتحالفات المضادة.
فمنذ 2011 دخلت الشعوب (الأحرار منهم بصفة خاصة) هذه المرة -بوضوح وصراحة وقوة- في معادلة الحرية والكرامة والعدالة، في مواجهة كاشفة مع النظم المتكلسة؛ ملكية كانت أو جمهورية، تلك النظم التي أضحت جميعها -مهما اختلفت قبعاتها أو شعاراتها- في تحالف واحد، وإن كان متعدد الروافد؛ وهو تحالف (النظم-الخارج) في مواجهة أحرار الشعوب، وعلى نحو ينال من التنمية والعدالة الاجتماعية، ومن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون، ومن الاستقلال الوطني والتصدي للمشروع الصهيوني، ومن هوية الشعوب وقوة المجتمعات وتماسكها؛ ومن ثم من وحدة وفعالية “ما يسمى” النظام العربي الإقليمي وعلاقاته بحواره الحضاري الإسلامي: الإيراني والتركي. فلم يعد إلا منظومة معايير واحدة لتحديد أساس تحالف النظم السائد في المنطقة: الهرولة تجاه إسرائيل، ومقاومة الإرهاب، ومنع التغيير الحضاري.
فالمرحلة الراهنة منذ 2011 تقدم تجسيدًا حيًا لنمط من التحالفات ونمط من التحالفات المضادة، مرتكزهما: التغييرات ما بعد الثورات، ومناط هذه التغييرات هو مستقبل الشعوب والأوطان في مقابل مستقبل النظم؛ وذلك في ظل تجزئة وطنية وإقليمية تلعب فيها العوامل المذهبية والطائفية والدينية دورًا أساسيًا في تأجيج صراعات دموية داخلية بالأساس، تخفي وراءها أو تُظهِر مصالح استراتيجية كبرى توظف لخدمتها هذه العوامل، حماية ودعمًا لمصالح قوى إقليمية وعالمية.
فلا يمكن القول، مقارنة مع الحالتين المفصليتين بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ونهاية الحرب العالمية الثانية، أو مع حالة مفصلية تالية منذ نهاية الحرب الباردة؛ لا يمكن القول إنه يمكن وصف نظام التحالفات في المنطقة بسهولة ودقة على نحو يرسم خرائطه بوضوح؛ حيث السيولة الشديدة والتغير المستمر وتداخل معايير التشكل هي السمات الغالبة للتحالفات الراهنة. فلم يعد ممكنًا الاحتكام إلى العامل الأيديولوجي فقط، أو المذهبي الطائفي فقط، أو طبيعة النظم (ثورية/محافظة، ملكية/جمهورية، ديمقراطية/سلطوية) فقط. فلقد تداخلت معايير التشكل التقليدية وغير التقليدية، وانهارت معايير التمييز التقليدية بين النظم كأساس لتشكل التحالفات؛ فظهرت سمات وملامح أخرى.
وليس بالطبع، ممكنًا في هذه الدراسة -التي تستهدف تقديم رؤية عن الحالة الكلية لنظام التحالفات الراهنة- أن تتوقف بالتفصيل لشرح ملابسات صعود هذه الحالة بأمثلة محددة من الأحداث والوقائع، ناهيك عن صعوبة وتعقد وتسارع هذه الأحداث الشارحة عبر أرجاء المنطقة طوال ثماني سنوات؛ بحيث يمكن الاكتفاء بصددها باستدعاء ما صدر من تقارير وتحليلات متتابعة طيلة هذه السنوات الثماني(7)، على نحو يمثل المادة الأولية اللازمة لاستخلاص الرؤية الكلية عن حالة الظاهرة؛ ومن ثم يمكن الاكتفاء بمنهج آخر؛ وهو: المراحل الزمنية، وخصائص الفواعل أطراف التحالفات، وانعكاساتها على أنماط التحالفات.
وبالنظر إلى مفاصل زمنية عبر هذه السنوات الثماني يمكن التمييز بين أربع مراحل فرعية مرت بها التفاعلات الإقليمية بين القوى وانطلقت هذه التفاعلات من “الثورات المتعاقبة”، ثم تمحورت حول الانقلابات والثورات المضادة التي حولت الثورات إلى حرب على الإرهاب(8)، كما تشابكت حول إدارة الصراعات المسلحة العنيفة (حروب أهلية) في اليمن، سوريا، العراق وليبيا؛ وهي حروب، بين نظم أو أشباه نظم وبين قوى وحركات مسلحة متعددة الأطياف، حروب وضعت على المحك مستقبل الدول القائمة ومستقبل النظم الحاكمة التي ثارت عليها الشعوب، بقدر ما تختبر مستقبل “الحركات الإسلامية السياسية” بكافة تياراتها (التي وضعت جميعها في كفة الإرهاب). ولقد مثلت هذه الحروب منظومة غير مسبوقة من حيث التزامن في الانفجار، ومن حيث الدموية، ومن حيث تعقد خرائط الفواعل الداخلية وتداعي الأعداء والأصدقاء من الخارجي على نحو تكتيكي فج.
وهذه المراحل المتمايزة الأربع هي كالآتي:
– مرحلة 1- صدمة اندلاع الثورات، وتشكل الموجة الأولى من التحالفات سريعة الأهداف (adhoc): (2011- 2012).
– مرحلة 2- سفور الثورات والانقلابات المضادة: الموجة الثانية من ردود الفعل بقيادة هجوم مصري سعودي إماراتي: (2013-2014): من الثورة إلى الحرب على الإرهاب.
– مرحلة 3- انفجار الحروب الأهلية: أدوار داعش، والحوثيين، وحفتر، والأسد، ورؤوس الحربة المحركة: السعودية-الإماراتية-المصرية، والدعم الخارجي المباشر (الروسي–الإيراني)، والتردد الأمريكي، والمناورة التركية القطرية، وانفجار الصراع الإيراني السعودي بعد عقد الاتفاق النووي (2014-2016).
– مرحلة 4: سيولة التحالفات وفشل استراتيجيات هجومية مضادة، وارتفاع التكلفة، وصعوبة التسويات السلمية، وارتفاع ثمن الحسم العسكري: (2016- 2018). وتمثل المرحلة الراهنة، منذ صعود ترامب للسلطة، والتي تركز عليها دراسات الملف، مرحلة كاشفة بقوة لمدى النجاح أو الفشل في تحقيق أهداف التحالفات المضادة للثورات العربية.
وكما تقدم ذكره، اتسمت هذه التفاعلات بسيولة التحالفات وتداخلها على نحو أبرز غياب “دور القائد”، أو “الميزان أو الموجه” للتحالفات، ناهيك عن تعدد وتعقد معايير انعقاد هذه التحالفات بسرعة وانفراطها بسرعة أيضًا. ولذا كانت الحالة هي حالة انفراط العقد وانفجار المجتمعات ومحاولات النظم الحاكمة إنقاذ أنفسها بأي ثمن، في مقابل صعود دور حركات سياسية مسلحة معارضة.
وعلى ضوء ما سبق، فإن التحالفات قد شاركت فيها أربع مجموعات من الفواعل: القوى العربية (نظمًا حاكمة وفصائل وحركات معارضة)، القوى الإقليمية من الجوار الحضاري (إيران، وتركيا)، القوى الكبرى، إسرائيل. وقد اتسم توجه كل مجموعة من هذه المجموعات بسمات واضحة ميزت هذه المرحلة من تاريخ تحالفات المنطقة منذ 2011، وتجسدت سمات هذا التوجه بوضوح في السلوك تجاه الأحداث الهامة، الأمر الذي انعكس على سيولة شبكة التحالفات ونمطها المتمايز: اشتراك الجوار الحضاري (إيران وتركيا) -وبشكل مباشر ومؤثر- في تشكيل المنطقة؛ فلم يعد هذا الجوار نظامًا تدخليًا أو هامشيًا في النظام الفرعي العربي، تنسيق تنافسي أو صراعي بين القوى الكبرى (روسيا-أمريكا) وعلى نحو تشاركي وليس استقطابيّا حادًّا، سلوك هجومي سعودي إماراتي غير مسبوق يفوق القدرات والإمكانيات، وإسرائيل شريك في التحالفات وليست هدفًا أو عدوًا لها.

أ‌) القوى العربية نظمًا وحركات مسلحة معارضة

خمسة ملامح رئيسية وسمت هذه الدائرة، وشكلت تحالفاتها، تتلخص في الأمور التالية:
الأمر الأول: بعد تزامن اندلاع الثورات، تزامنت الثورات والانقلابات المضادة، وفي حين لم تنجح الثورات في التحاضن فلقد كان حلف الشيطان سريع الانعقاد تُحرّكه حربة ثلاثية الرؤوس: توجه انقلاب مصر على الشرعية، والتوجهان السعودي الإماراتي المعاديان للثورات والهجومي التدخلي المباشر على نحو غير مسبوق يفوق القدرات والإمكانات (عدا الإمكانيات المالية)(9).
وبذا أضحى المحك في استمرار هذا التحالف هو ضرب “التيار الشعبي الوطني المستقل”، مسلحًا كان أو مدنيًا؛ سواء في سوريا، اليمن، ليبيا، أو في مصر. فاصطف هذا الحلف إلى جانب حفتر وإلى جانب السيسي، وانقسم –في أوله- حول سوريا؛ بين مساند للأسد وصامت تجاه إيران وروسيا (السيسي)، وبين مساند لحركات مسلحة -حتى حين- ورافض بقوة للدور الإيراني والروسي (السعودية والإمارات). كما انقسم هذا الحلف حول اليمن، فبعد التدخل السعودي المفاجئ تحت راية “تحالف عربي” وبعد اصطفاف الإمارات معه، ظلت مصر صامتة مراقبة تحسب حساباتها بدقة ليس خوفًا على تورط مصري؛ ولكن مناورة لتعبئة مزيد من المساعدات المالية من الخليج. ويواجه التحالف العربي بعد ثلاث سنوات من التدخل في اليمن –بقيادة السعودية والإمارات- صعوبات جمة تعكس من الفشل أكثر مما تعكس من النجاح.
وفي العام 2016 اصطف الحلف من جديد وبقوة لحصار قطر، ولمهاجمة تركيا بأكثر من ورقة، ووصلت مؤخرًا لتحذير ملك الأردن من زيادة النفوذ التركي. ولكن الأخطر في هذا المقام أنه لم يصطف حلف من قبل في المنطقة مثلما اصطف هذا الحلف وراء إسرائيل ومعها في خندق واحد، وكان الحدث الكاشف هو تنازل مصر عن تيران وصنافير وصولاً إلى ما يسمى صفقة القرن(10). وكان المحفِّز والمسرّع لذلك وصول ترامب إلى مقعد الرئاسة في أمريكا، وهو الذي وطد معه هذا الحلف أواصره باعتباره –وإسرائيل- الحليف الأبرز ضد إيران، وضد الإسلام السياسي، على عكس أوباما الذي بدا لهم صديقا لإيران وللإسلام السياسي خاصة خلال سنتي الثورات2011-2013(11).
ولقد كان تولي محمد بن سلمان ولاية العهد الثانية ثم الأولى في السعودية (وعلاقته مع محمد بن زايد) نقطة انطلاقة في هذه السياسة السعودية التدخلية الهجومية على أكثر من جهة في نفس الوقت. فلم يكن حصار قطر إلا حلقة تلتها حلقة التدخل في لبنان؛ مناوأة في حزب الله حليف إيران والأسد؛ خاصة بعدما أضحت إيران (منذ الاتفاق النووي 2015 الذي دشن إيران شريكًا للغرب) العدو الأول المعلن لهذا الحلف على نحو غير مسبوق.
وفي المقابل، ورغم ادعاء أذرع نظام السيسي عودة مصر لدورها الإقليمي الفاعل، ورغم إعلان النظام أن مصر تخوض حربًا على الإرهاب نيابة عن العالم، فلم تكن مصر تدير تحالفاتها الإقليمية بمثل الصبغة الهجومية الخارجية التي أضحت تصبغ السياسة السعودية والسياسة الإماراتية بفجاجة. وكانت مصر تراقب وتناور خارجيًا لحسابات داخلية بالأساس: استهداف “الإسلام السياسي الإخواني” أينما كان وبأي ثمن (في ليبيا، اليمن، سوريا..)، وتعبئة الدعم المالي الخليجي باستخدام كافة الأوراق. ورغم أن مصر تقود حربًا في سيناء منذ خمس سنوات، ولم تشهد صراعًا مسلحًا مفتوحًا مثل دول جوارها، فإن تحالفاتها لم تنفصل عن تفاعلات إدارة هذه المنظومة الدموية؛ تحالفًا مع النظم المتهالكة وهرولةً نحو ترامب ومن قبله إسرائيل.
الأمر الثاني يتصل بطبيعة ما أضحت عليه علاقة النظم المتكلسة بالقوى الخارجية الكبرى المتدخلة في المنطقة بأدوات عدة ولأهداف متنوعة متنافسة. فلم تعد هذه العلاقة مستقطبة بين نظم صديقة لطرف ونظم أخرى صديقة لطرف آخر، ولم تعد هذه النظم مجبورة لتقديم تنازلات استراتيجية وخاصة تجاه إسرائيل أو على صعيد ترتيبات الأمن الإقليمية أو على الصعيد الاقتصادي والمجتمعي (ويظل الداخل السياسي بعيدًا عن أية ضغوط خارجية من أجل تحول ديموقراطي حقيقي)، وذلك تحت ضغط الأمر الواقع (اختلال موازين القوى) وبذريعة الواقعية والبراجمتية وحماية المصالح الوطنية (وفقًا لتقدير نظم الحكم المتهاونة في حق الأوطان والشعوب). فلم تعد هذه النظم التي دخلت معركة حياة أو موت للحفاظ على بقائها، مجرد أدوات للخارج بل أضحت هذه النظم جزءًا من منظومة الخارج وجزءًا من الاستراتيجية التدخلية الخارجية، هي التي تدفع القوى الخارجية للتدخل لحمايتها وتقبل بفجاجة وعلانية ما كانت لا تقبله من قبل إلا سرًّا، بل وتبادر من جانبها بما يصب في صالح هذه الاستراتيجية ويسهل من خطواتها، وذلك خدمة لمصالح بقائها ولو على حساب المصالح الوطنية والقومية، كما تطمح إليها الشعوب. فلم يعد في “الخارج” -غربيًا أو شرقيًا- عدوٌ، ولكن توحدت النظم مع قوى الخارج -إما كتابع مستميت لأحد هذه القوى (الولايات المتحدة الأمريكية) أو بالمناورة تجاه الآخر(روسيا).
الأمر الثالث: العسكرة من جديد وبأردية أكثر تسلطية (السيسي في مصر) أو طائفية (صالح في اليمن والأسد في سوريا) أو قبلية (حفتر في ليبيا) على نحو يهدف لمنع التغيير الحضاري المدني السلمي التعددي لصالح استمرار تحكم فئة محدودة في مصائر الشعوب تحت زعم حماية “الدول” من تهديد الإرهابيين (الذين ضموا إليهم المعارضة غير الإسلامية أيضًا).
والوجه الآخر لهذه العسكرة –في حلف الشيطان- هو النظم الخليجية الملكية الموصوفة بالمحافظة والرجعية من جانب سلف العسكر الحاليين. فلقد أضحى أعداء الأمس في “الخمسينيات والستينيات” حلفاء اليوم، بعد أن نزع الخليج أرديته المحافظة وتمسك بأرديته الرجعية الرافضة لكل تغيير حضاري حقيقي نحو تحرر واستقلال وطنين. ثم زادت روابط تبعيته “للولايات المتحدة” مع ترامب بعد سحابة الصيف مع أوباما والاتفاق النووي الإيراني.
وعلى هذا النحو ظهر في هذه المرحلة من التحالفات، منذ 2014، كيف أن معايير تكوينها السابقة (طبيعة النظم) قد سقطت بلا رجعة. فلقد تحالفت كافة النظم المتآكلة مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية أو مع روسيا وإيران ضد الشعوب وضد كافة محاولات التغيير تحت ذريعة “الإرهاب” وحماية “الدولة”. وهكذا لم تعد التحالفات والتحالفات المضادة عربية بامتياز، بل أضحت “النظم العربية” في تحالف عسكري–رجعي واحد في مواجهة تحالفات مضادة من قوى إقليمية غير عربية مسلمة، أو من حركات مسلحة معارضة.
الأمر الرابع: لم تقتصر نطاقات التحالفات العربية على مناطق الصراعات الساخنة والحروب الأهلية المفتوحة فقط، ولكن امتدت إلى ما يسمى بـ”أطراف” ما كان يعرف بالنظام الإقليمي العربي مثل: الصومال، جيبوتي، وإريتريا، وظلت السودان حبيسة المناورة والمراقبة لا تدخل إلا لمامًا في قلب المعارك؛ فهي المحاصرة الموضوعة قياداتها على قائمة الإرهاب المقطَّعة الأوصال (جنوب السودان) والمهددة بمزيد من التقسيم (دارفور)، بعد أن كانت الضحية الأولى لإعادة رسم خرائط المنطقة.
ولم تقفز هذه الأطراف إلى قلب التحالفات الراهنة -وبهذه العلانية- إلا بعد الهرولة نحو التحالف مع إسرائيل عقب التنازل المصري عن تيران وصنافير، وبعد التحرك التركي نحو السودان والصومال وجيبوتي، وفي ظل التعثر المميت للتحالف العربي في اليمن إلى درجة فتح جبهة جديدة (الحديدة) قبل الحسم في جبهات أخرى، وخاصة “تعز”.
فلقد ارتفعت قيمة هذه “الأطراف” الاستراتيجية على ضوء الصراع الساخن المفتوح مع إيران من ناحية، وعلى ضوء التحالف الاستراتيجي السافر مع إسرائيل من ناحية أخرى، وأخيرًا، ظلت أطراف أخرى عربية (دول المغرب العربي وموريتانيا) بعيدة ظاهريًا عن هذا النمط من التحالفات العربية في القلب العربي، (مصر والشام “الهلال الخطيب”) وبعد أن التحق به النظام الفرعي الخليجي الذي تحول من الدفاع إلى الهجوم.
الأمر الخامس: يتصل بالحركات المسلحة داخل كل وطن من الأوطان التي تعاني الحروب والصراعات والتي تتمحور حول أزماتها التحالفات والتحالفات المضادة، ناهيك عن الحركة العابرة للحدود (في المنطقة وإلى خارجها) وهي داعش (ومن قبلها ومعها حتى الآن القاعدة)(12).
فبقدر ما سارعت الدول في الداخل ومن الخارج في عقد التحالف الدولي ضد “الإرهاب” يستهدف داعش سواء في سوريا أو العراق، بقدر ما فرضت خرائط الحركات المسلحة (متعددة الروافد والتوجهات الفكرية والسياسية) تحالفات أخرى لمساندة بعضها أو ضد بعضها الآخر.
ففي ليبيا، تم استهداف حركات الثورة المسلحة (الإسلامية) سواء في طرابلس أو بنغازي باعتبارها إرهابية، سواء كانت مرتبطة بداعش أم ضدها. وكلما أحرزت العملية السياسية تقدمًا كلما قفز إلى السطح تهديد إسلامي مسلح: ظهور داعش أولاً في سرت، التي قامت على مواجهتها فصائل الشرق المضادة لحفتر، ثم تصدي حفتر وما يسمى الجيش الوطني الليبي لفصائل أخرى في “الشرق الليبي” كما يحدث في درنة منذ رمضان 1439هـ. وفي حين يساند التحالف الانقلابي المصري-الإماراتي–السعودي حفتر، يساند حكومةَ طرابلس وفصائلها الاتحادُ الأوروبي، وتلعب دوله فرادي وخصوصًا فرنسا أدورًا متأرجحة بين الفريقين المتنازعين على ليبيا.
وفي سوريا: ما بين الجيش السوري الحر، وجبهة النصرة (فتح الشام لاحقًا)، وقوات سوريا الديمقراطية (الكردية) والميليشيات الشيعية و…إلخ، ينفرط عقد الحركات المسلحة المعارضة للأسد، حيث تتقاتل فيما بينها بقدر ما يقاتل كل منها داعش سواء بمناصرة دول عربية أو تركيا أو إيران وحزب الله وروسيا. وتعد ساحة المعارك هي المحدد للأوزان السياسية لهذه الحركات وانشقاقاتها واندماجاتها، وللتحولات في تحالفات هذه الحركات وفي نتائج المفاوضات بينها وبين النظم والقوى الخارجية.
وفي اليمن: تبدو الصورة أكثر وضوحًا؛ فالمبادرة الخليجية بعد ثورة 17 فبراير 2011، وكسبيل لاحتواء هذه الثورة وتقييدها أظهرت في الصورة نظامًا انتقاليًا برئاسة هادي عبد ربه (هو الوجه الآخر لنظام على صالح الذي ثار عليه الشعب)، سرعان ما تعرض لانقلاب داخلي من أعداء السعودية، الحوثيين حلفاء إيران، والذين تحالفوا مع عدوهم السابق علي صالح قبل أن ينقلبوا عليه ويقتلوه. ولم ينجح التحالف العربي العسكري حتى الآن في حسم المعارك؛ لأن لعبة التحالفات الخارجية والداخلية تفرض تأثيراتها على ساحة المعارك (لماذا عدم تحرير تعز وتحرير عدن؟… لماذا تشجيع الإمارات الاتجاهات الانفصالية الجنوبية في عدن على حساب ما يسمى الحكومة الشرعية… ولماذا…إلخ؟). فلقد أضحت اليمن، كما أضحت سوريا، ساحة للمواجهة الإيرانية–السعودية/الإماراتية بالأساس تلعب بهما وحولهما القوى الخارجية، والإقليمية.

ب‌) دول الجوار الحضاري (إيران وتركيا):

عرفت دومًا بدول “التدخل” أو النظام التدخلي intrusive أو دول الجوار الإقليمي للنظام العربي. وتاريخ علاقات هاتين الدولتين، ركيزتي الدائرتين التركية والفارسية، بالدائرة العربية من الأمة الإسلامية، تاريخ ممتد وغني بجولات الصراع والتعاون، (كما سبق ورأينا في الذاكرة التاريخية)؛ وهو تاريخ يبرز حقيقة الأركان الثلاثة للأمة (العرب، الترك، الفرس) وعملية التداول والتدافع بينها عبر تاريخ الأمة؛ تجسيدًا لسنن الله سبحانه وتعالى، وإن كانت رؤى أخرى قد رأت في هذه العلاقات إما صراعات قومية أو صراعات أيديولوجية، والآن تعلو الأقنعة الطائفية على الأقنعة القومية والأيديولوجية.
وإذا كانت استراتيجية كل من تركيا وإيران تجاه “العرب” قد شهدت نقاط تحول كبرى، سواء مع النظام العلماني في تركيا منذ 1923، أو النظام الشاهنشاهي في إيران منذ بداية القرن 20 أيضًا، أو سواء مع الثورة الإيرانية بالنسبة لإيران أو انتهاء الحرب الباردة بالنسبة لتركيا، فلقد ظلت الدولتان تتحركان تجاه المنطقة وتشتبكان في تحالفاتها من خارجها كقوى إقليمية تبحث عن موطئ قدم ونفوذ، إلا أن كلا من الدولتين حققتا تقدمًا في مشروعيهما الإقليمي بالتدريج خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، وكان التصدي الناجح لحزب الله في مواجهة العدوان الإسرائيلي على لبنان 2006 من ناحية، ووصول حزب العدالة والتنمية التركي إلى الحكم في تركيا منذ 2002، علامتين هامتين على بداية تسارع المشروعين الإيراني والتركي في المنطقة. وهما مشروعان متنافسان وفق حدود لعبة مصالح كبرى، وذلك في غياب مشروع عربي مقابل. كلاهما يبحث عن جوار مستقر وساكن لا يمثل تهديدا لمشروع كل منهما الإقليمي والعالمي في مواجهة الاستراتيجيات الغربية (وخاصة الأمريكية) التي لا تتربص بالقلب العربي فقط لإعادة تشكيله ورسم خرائطه من جديد، ولكن تستهدف أيضًا المشروعين الإيراني والتركي، كلاًّ بحسبه وكلاًّ بطريقته.
بعبارة أخرى: لم تعد تركيا وإيران قوى إقليمية تناور على أطراف النظام العربي في منظومة تدخلية تقليدية عن بُعد، ولكن أضحتا شريكين مندمجين ظاهرين في التحالفات المتحركة والسائلة وعاملين مساعدين على عودة الاستقطابات إلى التحالفات وخاصة خلال العامين الأخيرين (منذ وصول ترامب لرئاسة أمريكا في نوفمبر 2016).
فتركيا وقطر والمقاومة الفلسطينية والثورات عند اندلاعها شكلت تحالفًا في المرحلة الأولى يستهدف دعم اتجاه التحرر والديمقراطية، في حين أن إيران منذ البداية استهدفت الثورات لإجهاضها كما في سوريا؛ ولتحفيزها (ثورة المعارضة الشيعية) كما في البحرين، والقفز عليها كما في مصر، وللهيمنة عليها (ثورة السنة ضد حكم المالكي 2015) كما في حالة العراق. وبذا تشكل –عبر الحدود- تحالف أو محور إيراني مع نظام عراقي ونظام سوري وحركة حزب الله اللبنانية، والمعارضة الشيعية في البحرين، والحوثيين في اليمن.
ولم تكن المصالح القومية الكبرى، بعيدة بالطبع من حسابات القوتين الإقليميتين، مهما رفعتا من شعارات أو منظومات قيم متقابلة (مساندة تحرر الشعوب العربية وتدعيم الديمقراطية، أم مساندة النظم “المقاومة” حفاظًا على تماسك الدول أو النظم الموالية المهددة).
فعلي سبيل المثال: رغم مساندة تركيا فصائل الثورة المسلحة السورية (بمساندة مالية خليجية في البداية)، ورغم استقبال موجات اللاجئين السوريين وفق منظومة قيمية إنسانية حضارية لا مثيل لها في دول استقبال اللاجئين الأخرى، إلا أن تركيا لم تتدخل عسكريًا وبصورة مباشرة في الحرب الدائرة في سوريا، إلا بعد أن تبلور التهديد من جانب كيان كردي مستقل ذاتيًا على الحدود التركية، بمساندة أمريكية بالأساس وبرضاء خليجي وروسي وإيراني، كل ذلك بزعم أن هذا الكيان –الحليف للأسد ضمنيًا- يحارب داعش بالأساس (التي اتهموا تركيا بالتحالف معها). وبذا أضحت جولات التدخل العسكري التركي المتوالية تستهدف “حماية الأمن التركي” من الاتجاهات الانفصالية الكردية، حتى لو أدى الأمر إلى التنسيق مع روسيا ومع الولايات المتحدة الأمريكية، بل وإيران، تحت غطاء المفاوضات السياسية وخاصة بعد مأساة إسقاط المقاومة السورية في حلب 2016، والتي كانت البداية لهجوم مضاد للنظام السوري في أرجاء أخرى (الجنوب الغربي وإدلب) بمساندة إيرانية وروسية. بعبارة أخرى أضحى للمساندة التركية لفصائل المقاومة حدودها وقواعد ضوابطها.
وفي المقابل لم تمتنع تركيا، وعلى عكس مقتضيات تحالفها الابتدائي مع السعودية حول سوريا واليمن، وليس حول مصر أو ليبيا، من توسيع نطاق حركتها جنوبًا نحو مداخل البحر الأحمر (السودان، جيبوتي) والتمسك بمواقفها ضد تصعيد العدوان الإسرائيلي على القدس والمقاومة، وتدهور علاقاتها مع الولايات المتحدة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عليها (برعاية إماراتية وسعودية وغربية)، وبعد وصول ترامب إلى الإدارة الأمريكية، كما ظلت تركيا تتمسك بمواقفها ضد حصار قطر وتهب لمساندتها بطريقة قوية عسكرية ومالية، في نفس الوقت الذي كانت رؤوس الحربة الخليجية تتراجع عن مساندة فصائل سوريا، وتدعم حفتر وتحاصر قطر، وتتدخل في لبنان، وتهرول نحو إسرائيل وترامب وتتوالى هزائمها في اليمن.

ج) القوى الكبرى:

لم يعد النظام التدخلي الخارجي في القلب العربي يواجه مهاما صعبة مثل التي كانت تواجهه من قبل في الخمسينيات والستينيات، وبدرجة أقل بعد ذلك، حين كان يواجه مقاومة بعض النظم المتحالفة مع بعضها الآخر، ولكنه أضحى يواجه مهاما أكثر تعقيدًا وتركيبًا وتداخلًا، وبقدر ما يسهم في خلقها وانفجارها بقدر ما تمثل عبئا في عملية إعادة رسم خرائط المنطقة من جديد والجارية منذ 1991 وتصل لذروتها الآن. فإن كان النظام التدخلي لم يعد يجد مقاومة من النظم الحاكمة، بل تعاونًا، إلا أنه أضحى يواجه مقاومة فواعل أخرى معارضة للنظم القائمة، تزيد من تعقيد الحسابات والتكلفة. ولذا، لم يكن أسهل عليه من وضعها جميعًا في سلة “الإرهاب” والتحالف مع النظم المتهالكة في تحالف عالمي ضد هذا الإرهاب، يدير معاركه العسكرية “عن بُعد” بقدر المستطاع، ولكنه يرسم خططها ويحدد أهدافها ومآلاتها من وراء الكواليس ووفق توازنات وحسابات القوى العالمية.
ومن ناحية أخرى: لم يعد صراع القوى الكبرى على المنطقة، في ظل مرونة هيكل النظام العالمي بعد نهاية الثنائية القطبية والصراع الأيديولوجي، صراعًا استقطابيًا وفق اللعبة الصفرية، ولكن أضحت العلاقات تنافسية تنسيقية تشاورية؛ وهو الأمر الذي انعكس على نمط مشاركة هذه القوى الكبرى في تحالفات المنطقة وتحالفاتها المضادة.
فعلى سبيل المثال: لم يكن الدور الأمريكي في ظل رئاسة أوباما تجاه الثورات وتجاه الخليج وإيران دليلًا على انسحاب أمريكي من المنطقة لصالح “الشرق الأقصى”، ولكنه كان دورًا يعيد ترتيب أولوياته في مناطق العالم وفق منطلقات استراتيجيته العالمية وأهدافها (تخفيف التورط العسكري المباشر، وكسب أصدقاء جدد، وتقليص الأعداء، وإظهار مساندة “الحريات وحقوق الإنسان”). كذلك فإن تولي ترامب لم يؤجج حربًا باردة جديدة مع روسيا، فإن التنسيق الأمريكي-الروسي على كافة الجبهات وخاصة الجبهة السورية متعدد المستويات، يدعمه ويكمله نوع من توزيع الأدوار التنافسية على كافة الجبهات الأخرى.
ومن ناحية ثالثة: ففيما عدا الساحة السورية، حيث تتضح خطوط مشاركة القوتين الروسية والأمريكية في التحالفات والتحالفات المضادة السياسية والعسكرية على حد سواء، فإن هذه الخطوط واهية ومتداخلة على بعض الساحات بل ومتحركة ومتغيرة على ساحات أخرى، وذلك بالطبع على مستوى الأحداث والوقائع المتسارعة؛ ولكن إجمالًا يمكن القول إنه ما زالت المنطقة وتحالفاتها الداخلية ساحة لاختبار القوى الكبرى لحالة التوازنات العالمية فيما بينها، ولحالة علاقات القوى الجديدة والعالمية والإقليمية. فلقد كان الدور الروسي في سوريا مفتاح عودة دورها الإقليمي الهجومي دعمًا وحماية لمصالحها في جنوب البطن الرخوة للدولة الروسية.
إلا أنه تظل هذه العلاقات التنافسية المحكومة بين مصالح الكبار تدعم في مجملها النظم المتهاوية المتكلسة أكثر مما تدعم الشعوب. ولذا تظل مصائر تشويه الحروب الدائرة مرهونة ليس فقط بساحات المعارك وما تسفر عنها من توازنات بل أيضًا بالمفاوضات السياسية من وراء الكواليس حول مستقبل إعادة رسم خرائط أوطان المنطقة ولا تنفصل كل هذه الأمور عن مناط الأمر كله: المشروع الصهيوني.
ومن ناحية رابعة: إذا كانت النظم العربية المتهالكة غير الشرعية، المتحالفة في مواجهة شعوبها، لم تعد تجد ملجأً لها إلا حماية القوى الكبرى ودعمها بل ومساندة إسرائيل أيضًا، (ويصدق ذلك على الأسد كما يصدق على السيسي وحفتر، وعلى صالح قبل رحيله، وشيوخ الخليج وملوكه وأمرائه)، فإن قوى الجوار الحضاري الإسلامي، خاصة إيران وتركيا، يبدو أنها تلعب لعبة أخرى في مواجهة روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، فكما يبدو أن هذه القوى الكبرى قد جعلت من هذين الجارين –على وجه التحديد- متغيرًا أساسيًا في حساباتهما تجاه المنطقة: فالمحور الروسي–الإيراني في مقابل المحور الأمريكي-التركي ليس استقطابًا صريحًا وكاملًا، فمشاكل العلاقات الروسية الإيرانية حول سوريا، ناهيك عن الخليج واليمن ليست بالقليلة مما يعني أن إيران حليف وليس تابعًا. والاتفاق النووي الإيراني مع الغرب محكّ آخر واختبار لمدى قوة هذا التحالف.
وبالمثل فإن عضوية تركيا في حلف الاطلنطي لم تحل دون انفجار مشاكل العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة حول اللاجئين وحول طبيعة الموقف من الثورات ناهيك عن الموقف من سوريا، وتزايد التوتر في العلاقات، بعد الانقلاب الفاشل في تركيا من ناحية، وتزايد التدخل العسكري التركي في سوريا من ناحية أخرى، وأخيرًا بسبب التغيرات السياسية الداخلية في تركيا التي لا يتوانى الغرب عن نقدها من حين إلى آخر. ومن ثم لا تجد تركيا غضاضة من الاتجاه شرقًا نحو روسيا للتنسيق حول سوريا، أو من الاستمرار في العلاقات الممتدة مع إيران رغم كل الاختلافات حول سوريا.

د) إسرائيل:

منذ 1917 أضحى أحد أهم محكات التحالفات الخارجية–الإقليمية هو مصير المشروع الصهيوني ثم مصير دولة إسرائيل منذ 1948.
ولقد كان الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي أحد معايير التمييز بين أنماط التحالفات والتحالفات المضادة في المنطقة، إلا أنه -وبالتدريج ومنذ 1991 وكما سبق ورأينا- اهتزت الخطوط بين هذين التحالفين (المعتدل والممانع) بل والخطوط داخل كل تحالف حتى لنصل الآن إلى أن تصبح “السعودية والبحرين” الأكثر هرولة لإسرائيل. وفي حين كان “سلام السادات” قد انبنى حينئذ على “انتصار أكتوبر”، فإن السلام المهيمن الذي يهرول له “المتصهينون العرب” الآن ويبررونه بكل الحجج الشرعية والسياسية والأمنية الراهنة، ليس إلا استسلاما ذليلا من النظم المتهاوية المتكلسة، التي لم تعد ترى في إسرائيل إلا الحليف ضد إيران، وضد الإسلام السياسي.
ومن ناحية أخرى: فإن لمشروع الصهيوني وإسرائيل قد وجّـها ضربة قاصمة للنظم العربية العسكرية الثورية التقدمية في هزيمة 1967 على نحو نال من قوة ومصداقية أيديولوجية القومية العربية وقياداتها الكاريزمية، فلقد نجح المشروع الإسرائيلي وحلفاؤه في تحويل نصر أكتوبر إلى تسوية سياسية وسلام بارد مع مصر كان له تداعيات سلبية شديدة. فطيلة نصف قرن تحولت فيه القضية الفلسطينية إلى قضية شعب فلسطين فقط بالدرجة الأولى وتزايد عبر نصف قرن انخراط النظم العربية والقوى الفلسطينية في صراعاتهم الداخلية والبينية أكثر مما انصرفوا إلى مواجهة العدو الرئيسي. وصعد عبر نصف القرن هذا –على مستوى الشعوب- الحركات السياسية الإسلامية، التي ظلت تستحضر إسرائيل بأنها العدو الرئيسي الذي تهادنه النظم التسلطية وتتنازل له على كافة الأصعدة على حساب القضية الفلسطينية.
ومن ناحية ثالثة: إذا كانت الثورات العربية المتتالية 2011 مثلث صدمة لإسرائيل أفقدتها التوازن لفترة، إلا أن ما أجرته الثورات في نفسها بيد أبنائها وفي ظل التآمر الإقليمي والعالمي عليها، قد أعطى إسرائيل أكثر من فرصة انتهزتها باقتدار، في ظل الفوضى والاقتتال العربي-العربي، وعلى نحو انعكس بقوة الآن على مآل تحالفات المنطقة وتحالفاتها المضادة. فبالإضافة إلى دعم الاستيطان وتهويد القدس وحصار المقاومة والضغوط على السلطة الفلسطينية من ناحية، كان هناك المراقبة الدؤوبة للساحة السورية واستمرار انفجارها، حتى ولو لصالح استمرار بشار الأسد (العدو الظاهر لإسرائيل)؛ لأن استمراره يحقق مصالحها في تفكيك سوريا، ولذا يتم استهداف حزب الله وقوات إيران عن قرب كلما تخطيا حدود الأمن الإسرائيلي، كما كان هناك الدعم والتنسيق الكامل مع انقلاب السيسي والتحرك نحو البحر الأحمر بأيدي مصرية وسعودية، وكسر الهدنة مع الخليج والترحيب بالهرولة الخليجية…
كل ذلك وغيره لا يعني إلا شيئًا واحدًا أساسيًا؛ وهو أن التحالفات لم تعد تتشكل في مواجهة إسرائيل؛ ولكن أصبحت إسرائيل عضوا في حلف الشيطان ضد شعوب المنطقة في مواجهة حلفين آخرين (التركي-القطري-المقاومة)، (الروسي- الإيراني). وإذا كان لكل من تركيا وروسيا علاقات رسمية مع إسرائيل وقبول بوجودها في المنطقة، وإذا كانت قطر من أوائل الدول العربية التي أجرت علاقات “تجارية” مع إسرائيل بعد مؤتمر سلام 1991، فتظل إيران -ولو في الظاهر- العدو الرئيسي الآن لإسرائيل، لا يجاريها في درجة العداء المعلن إلا نظام بشار الأسد (ولا أتحدث عن المقاومة الفلسطينية السلمية والعسكرية).
ومن ناحية رابعة: أبرز الصعود الإسلامي، خلال الثورات، تهديدًا ظاهرًا لإسرائيل يضاف إلى تهديد المقاومة الفلسطينية المسلحة. ومن ثم فإن قراءة الدور الصهيوني طيلة ثماني سنوات يبين أنه لم يكن يستهدف نظمًا (فلم يعد هناك نظمًا معادية له بقوة)، بل كان يستهدف ما يسمي “الإسلام السياسي”؛ رأس الحربة للتغيير السياسي والمجتمعي، والذي لابد وأن ينعكس، سريعًا أو بالتدريج، على موضع إسرائيل في المنطقة ودورها.
ولهذا توطدت أواصر العلاقة بين إسرائيل وبين النظم المتكلسة التي ناصبت هذا الصعود الإسلامي العداء ورفضت مشاركته في الحياة السياسية، الأمر الذي مثل أحد أهم أسباب الانقلابات والثورات المضادة، ليس على الديمقراطية والحرية فقط بل أيضًا على أي مشروع إسلامي فاعل للتغيير.
وإذا كانت إسرائيل اول من دشنت ما يسمي “الحرب على الإرهاب” في السبعينيات وحتي التسعينيات في مواجهة عمليات المقاومة الفلسطينية ضدها في الخارج ثم الداخل، وإذا كانت إسرائيل الأولى التي أعلنت تضامنها مع الولايات المتحدة الأمريكية، فور وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، ضد الإرهاب و”ضد من يكرهوننا”، فلقد كانت إسرائيل هي التي أرست الحصار على غزة منذ 2007 كجزء من الحرب العالمية على الإرهاب التي دشنتها الولايات المتحدة منذ 2001، فإن إسرائيل –الإرهابية- أضحت شريكا فاعلا في التحالف الدولي ضد الإرهاب منذ 2013، والذي قادته الدول العربية برعاية أمريكية، ضد الحركات المسلحة التكفيرية أو الحركات المسلحة المعارضة أو الحركات السياسية السلمية على حد سواء، دون تمييز مقصود بين داعش، وبين جبهة النصرة، وبين الإخوان أو غيرهم… فهل ستكون إسرائيل وبعد نقل السفارة الأمريكية للقدس، وبعد الإعلان عن صفقة القرن، محفزًا لموجة أخرى من الانتفاضات الشعبية؛ تلك الانتفاضات التي تتشكل من جديد رفضًا لسياسات الانقلابات والثورات المضادة، سواء الداخلية أو الخارجية؟

*****

الهوامش:

(*) مدير مركز الحضارة للدراسات والبحوث، وأستاذ العلاقات الدولية المتفرغ، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
(1) د. نادية مصطفى، الهجمات الحضارية على الأمة وأنماط المقاومة: بين الذاكرة التاريخية والجديد منذ الثورات العربية، د.نادية مصطفى (إشراف) حولية أمتى في العالم العدد الثالث عشر ” المشروع الحضاري الإسلامي: الأزمة والمخرج” ( القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2017) ص ص30-31
(2) المرجع السابق، ص ص 72-88.
(3) د.نادية محمود مصطفى، أوربا الغربية وأمن الخليج (1980-1987)، مجلة الفكر الاستراتيجي العربية، العدد 28، أبريل 1989.
(4) د.نادية محمود مصطفى، العالم الثالث في النظام الدولي لما بعد الحرب الباردة: خريطة أنماط الصراعات وأدوات التدخلات الخارجية (1991- 2011)، مجلة الغدير اللبنانية، سبتمبر 2012.
(5) انظر الآتي:
– د. نادية محمود مصطفى، تحديات العولمة والأبعاد الثقافية الحضارية والقيمية (رؤية إسلامية)، في: مجموعة باحثين، مستقبل الإسلام، دمشق: دار الفكر العربي، 2004.
– د. نادية محمود مصطفى: التحديات السياسية الخارجية للعالم الإسلامي: بروز الأبعاد الحضارية الثقافية، (في): د. نادية مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (محرران)، موسوعة الأمة في قرن، عدد خاص من حولية أمتي في العالم، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، دار الشروق الدولية، 2002، (الكتاب السادس).
(6) جميل مطر، على الدين هلال، النظام الإقليمي العربي: دراسة في العلاقات السياسية العربية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2001.
(7) انظر على سبيل المثال: تقارير كل من موقع الجزيرة نت ومركز الجزيرة للدراسات.
(8) يتناول الملف التحالفات حول كل ساحة من هذه الساحات خلال العامين المنصرمين (نوفمبر 2016- يوليو 2018) على نحو يبرز التفاعل بين كافة هذه المحاور.

(9) انظر:د.نادية مصطفى، من الثورة للحرب على الإرهاب: تحالفات الداخل والخارج، دراسة منشورة على موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، بتاريخ 27 أبريل 2017، ص 3-4، ص ص 16-28.
(10) انظر : د.نادية مصطفى، الحاضر الغائب والمسكوت عنه في مشهد صفقة الجزيرتين”: التداعيات والدلالات الاستراتيجية الإقليمية، مقال منشور على موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، بتاريخ 13 أبريل 2016، متاح على الرابط التالي: https://goo.gl/zW9zDJ
(11) انظر: د.نادية مصطفى، في ذكرى انهيار سور برلين 9 نوفمبر 1990وبمناسبة فوز ترامب العنصري اليميني المتطرف الرأسمالي المتوحش برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية 9 نوفمبر 2016، مقال منشور على موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، بتاريخ 14 نوفمبر 2016، متاح على الرابط التالي: https://goo.gl/SVWUts
(12) انظر :
– د.نادية مصطفى، الحرب على داعش: ملخص دراسة الاستنفار الغربي ضد داعش، دراسة منشور على موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، بتاريخ 20 سبتمبر 2014، متاح على الرابط التالي: https://goo.gl/o35uEN
– د.نادية مصطفى، التحالف الدولي: ضد من ولماذا؟، دراسة منشورة على موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، بتاريخ 17 أغسطس 2015، متاح على الرابط التالي: https://goo.gl/bM5MQo

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى