الأمن القومي المصري بعد مئة عام من وعد بلفور

(1)

إنني اعتدت أن أصدر من فكرة تكاد أن تكون مسلَّمة عندي، وهي أن الواجب الأساسي والذي قامت عليه “الدولة” بوصفها جهازًا حاكمًا للجماعة السياسية، هو حفظ الأمن العام للجماعة المعنِيَّة تجاه المخاطر التي ترد إليها من خارجها، وكذلك تجاه ما يمكن أن يهدِّدَ قوى التماسُك الداخلي لهذه الجماعة، وذلك إذا اختلَّتْ موازين القوى بين الجماعات الفرعية وعناصر التكوينات العديدة التي تشكَّلت منها الجماعة السياسية، وإن الجماعة السياسية التي قامت عليها الدولة، لا ترتضى حاكميَّة هذا الجهاز في المدى الطويل إن هي أيقنت بعدم صلاحيته أو عدم قدرته على القيام بأي من الوظيفتين المذكورتين.
ونحن عندما ننظر في الشأن الفلسطيني وإقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين منذ سنة 1948م وذلك إنفاذًا لوعد بلفور البريطاني، بإنشاء وطن قومي لليهود في أرض فلسطين العربية، والصادر في سنة 1917م، علينا أن نفكِّر فيما يمسُّ ذلك الأمن العام للجماعة المصرية التي كانت تشكَّلت في ذلك الوقت بالابتعاد التدريجي عن الدولة العثمانية على مدى القرن التاسع عشر، وبإعلان الحماية البريطانية عليها منذ سنة 1914م وبظهور حركة استقلال وطني لمصر عن هذه الحماية وإعلان استقلال مصر، عندما نفكِّر في ذلك علينا أن ننظر فيما يمسُّ ذلك الأمن العام لهذه الجماعة الوطنية المصرية.
لقد كانت مصر عند صدور هذا الوعد البريطاني تحت الاحتلال العسكري البريطاني منذ 35 سنة سابقة، وكان هذا الاحتلال محض احتلال عسكري ليست له صفه دولية إلا ما أعلنته بريطانيا مع بدء الحرب العالمية الأولى في سنة 1914م من صيرورة مصر تحت “الحماية البريطانية”، وذلك لتقطع علاقة مصر بالدولة العثمانية التي دخلت الحرب العالمية ضدَّها ولتضع وصفًا شبه قانوني ودولي لوجودها في مصر في مواجهة حركة وطنية مصرية تقاومها.
وكانت بريطانيا بإمبراطوريتها مترامية الأطراف وشمولها شبه القارة الهندية كلها، كانت حريصة على الوجود العسكري لها في مصر، لا للاستفادة من استعمارها فقط ولكن لأنها على خط التواصل البحري والبرِّيِّ لها مع ممتلكاتها في آسيا، ومصر تقع على طريق الاتصال الجغرافي ذي الأهمية القصوى لهذه الإمبراطورية.
وإذا كان سعي اليهود بدعوة هرتزل لإقامة دولة يهودية لهم قد ظهرت في نهايات القرن التاسع عشر، فإن الاستجابة البريطانية لهذه الدعوة والسعي لتحقيقها إنما يعكس السعي البريطاني لاستغلال الدعوة اليهودية لدعم الهيمنة البريطانية على مستعمراتها.
ونحن نعرف من وقائع تاريخ هذه الفترة أنه جرى التفكير لدى الإنجليز في أن يكون مقر الدولة اليهودية المدعو لها في أعالى النيل بأوغندا، ثم جرى التفكير أن يكون مقرها في سيناء المصرية، ثم استقر التفكير على أرض فلسطين، بحسبان أن ذلك يشمل ضمان نجاح للدعوة لما تتلبَّسه من قيمة تاريخية تتعلق بالأراضي المقدسة، ويساعد هذا على استجابة اليهود لهذه الدعوة ليخرج كل من جماعاتهم من الشتات إلى التركُّز فيما سُمِّيَ بأرض الميعاد.
ويلحظ القارئ طبعًا أن المناطق الأولى المقترحة للدولة اليهودية المشروع في الدعوة لها، كانت ذات صلة بمصر، لا لأن احتلال الإنجليز لمصر لم يكن ذا وضع دولي فقط، ولكن لأنه احتلال جرى عقب ثورة مصرية للاستقلال وفي شعب قام بثورته مطالبًا بأن تكون مصر للمصريين، وهي أيضًا بلد بها دولة ذات جهاز حديث جرى بناؤه بتخصُّصات ومهارات وتشكيلات مهنية بحيث إنه يحتاج لمن يديره أو يبغي السيطرة عليه إلى تعامل خاص وأساليب غير تقليدية في حكم المستعمرات في ذلك الوقت المبكر من نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ومن هنا نلحظ مثلًا أن الإنجليز عندما احتلوا مصر لم يحكموها حكمًا مباشرًا، إنما كانوا ذوي وجود عسكري فعلي جاء بدعوة من خديوي مصر، ثم بقيت الوزارات تُشكَّل تشكيلا مصريًّا صرفًا مع وجود مستشار بريطاني في كل جهاز وزاري يقوم بما سُمِّيَ وقتها “بالنصائح الملزمة” حسب تعبير وزير الخارجية البريطاني أمام مجلس العموم في بلده عندما سُئل عن كيفية حكمهم لمصر. لذلك كان لابد للإنجليز -لضمان البقاء والاستقرار- من أساليب غير تقليدية لا تكتفي بالوجود المادي ولكنها تنشد الاستقرار بطريق “الإحاطة”، أي بالهيمنة من الخارج الجغرافي والسياسي للبلد المعنيِّ.
وإن ما ساعد على ذلك وأبقاه كأسلوب حكم وسيطرة قادر على الاستمرار على نحو تاريخي ويمكن أن يُكفَل به الاستقرار الذي يُطْمَأَنُّ إلى مداه الطويل، ما ساعد على ذلك أن مصر من حيث الأوضاع الجغرافية السياسية فيما تبيَّن لي، كانت دائمًا تُحتل من خارج أراضيها من جهة الشرق، وإن الناظر لتاريخ مصر يلحظ أنها كانت دائمًا يأتيها الغزاة والفاتحون من حدودها الشرقية الشمالية، الحملة الفرنسية فقط هي من غزا مصر من جهة الشمال الغربي ولم يبق الفرنسيون في مصر أكثر من ثلاث سنوات، ونعرف أن نابليون بحسِّه العسكري عندما دخل مصر توجَّه إلى الشرق ليحتلَّ أرض الشام ولكنه فشل بفضل بسالة الدفاع عن عكا، ورجع مهزومًا منها وضاعت مصر من الفرنسيين. والإنجليز حاولوا دخول مصر من الغرب وعدلوا ودخلوها من طريق قناة السويس والشرق، وهُزم الجيش العُرابي المصري في موقعة التلِّ الكبير المعروفة والواقعة شرقًا بين قناة السويس وأرض وادي النيل.
وهذا الوضع يثير الظن الراجح أن من يريد ضمان الوجود بمصر عليه أن يسعى لأن يكون له وجود بأرض الشام، ولم يَدُمْ نظام سياسي في مصر إلا بضمان الاطمئنان لعلاقته بأرض الشام وهذا من دروس التاريخ على مدى العصور، ولذلك كان من الطبيعي للسَّاسَة البريطانيين أن يمتدَّ بصرُهم لأرض الشام ولفلسطين المتاخمة للحدود المصرية الشرقية الشمالية. ولذلك نلحظ من اتفاق سايكس-بيكو الذي جرى عقده سنة 1916م بين الإنجليز والفرنسيين حول اقتطاع أرض الشام بينهما، أن منطقة سوريا ولبنان كانت من نصيب الفرنسيين، ومنطقة فلسطين وشرق الأردن والعراق من نصيب الإنجليز؛ وذلك لضمان طريق بري للإنجليز إلى ما يقترب من الهند ولمتاخمة فلسطين شرقًا للأرض المصرية.
والنقطة الأخرى كان نبَّهنا إليها ما كتبه داود بركات -رئيس تحرير صحيفة الأهرام- طوال الثلث الأول من القرن العشرين، أي من 1899م إلى 1933م عندما ذكر في بعض كتاباته أن “مصر تُحتل بالقوة العسكرية وبالماء”؛ بمعنى أن من يتحكَّم في المورد الوحيد للمياه الآتي لمصر من خارج حدودها الجنوبية إنما يكون قد تحكَّم في مصر وأخضعها لسيطرته؛ لأن مصر ليس لها وجود بغير هذا المورد الوحيد. ومن هنا نلحظ أن مصر عندما كانت تابعة للخلافة العثمانية كانت هذه التبعية تمتد إلى السودان بموجب الجامعة الإسلامية، وأن السودان لم تكن له حكومة كاملة ذات بأس بعدُ وذات قرار سياسي يتعلق بالخارج السوداني، ولما نمت الذاتية المصرية لدولة محمد علي منذ بدايات القرن العشرين بدأ يتوغَّل بجيشه في السودان وليجعل البحر الأحمر بحرًا إسلاميًّا كاملًا من خلال السيطرة على شواطئه الغربية كلها، فضلًا عن السيطرة على الشواطئ الشرقية في حربه ضد الوهابيين التي جرت لصالح مصر ولصالح دولة الخلافة ومنها، وذلك حسبما أرشدنا أستاذ أساتذة التاريخ المصري الحديث الدكتور شفيق غربال في كتابه عن محمد علي.
وذات الفكرة والسياسة نراها في الممارسة الإنجليزية بحرب 1896م إلى 1899م المسمَّاة بإعادة فتح السودان بعد أن استقل بها السيد محمد أحمد المهدي، وحرص الإنجليز بعد إعادة الفتح أن يجبروا مصر على توقيع معاهدة 1899 التي تعترف فيها مصر باشتراك بريطانيا معها في حكم “السودان المصري الإنجليزي”، وكل ذلك يعكس فكرة صحيحة وبسيطة مؤدَّاها أن التحكُّم في مياه النيل من خلال حكم السودان أو غيره من دول الجنوب يفيد تحكُّمًا في مصر وسياساتها. ولذلك نلحظ أن شعار “وحدة وادي النيل بين مصر والسودان” شعار متحد تمامًا مع مطلب استقلال مصر من الهيمنة الأجنبية طوال النصف الأول من القرن العشرين، وكان مرفوعًا بذلك ضدَّ السيطرة الإنجليزية سواء على مصر أو السودان، فلما استقلَّ السودان في سنة 1956م ورفض الوحدة مع مصر جاءت فكرة بناء السد العالي ليكفل لمصر قدرًا من الصمود بضعة أعوام إن استُخدم “سلاح الحياة” أو تمَّ التحكُّم فيه لإرغامها على شيء، ولكي تتدبَّر مصر أمورها خلال هذه الفترة ضد أيَّة مشاريع للمياه في الجنوب تؤثِّر على جريان المياه إليها ومواعيدها.
وخلاصة ذلك، أننا عندما نتكلم عن الأمن القومي لمصر في إطار حدودها المصرية، فلابد أن نلحظ أن مصر يمكن أن “تُحتل من خارج أراضيها”؛ وذلك بالسيطرة المعادية لها على أرض الشام المتاخمة أو القريبة من حدودها الشمالية الشرقية، أو من خلال السيطرة والتحكم المعادي لها من الجنوب بالسودان أو غيره من دول منابع النيل.
ومن هنا ننظر في الشأن الفلسطيني وفي إنشاء دولة إسرائيل، وإذا كانت بريطانيا قد أدركت هذا الأمر إبان سيطرتها على مصر وتحكُّمها فيها، فإن الولايات المتحدة الأمريكية ورثتها في السيطرة على العالم، وفي سياستها تجاه مصر والدول العربية وسائر أركان المعمورة منذ بدأ نجم الإمبراطورية البريطانية في الأفول بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكانت هي -أي الولايات المتحدة الأمريكية- من دعم إسرائيل ودولتها من بعدُ وهي من تمتَّع بالآثار السياسية لهذا الاحتلال الإسرائيلي تجاه مصر والمنطقة العربية كلها.
وفي مواجهة هذا الأمر، لا نكاد نجد أيه مسألة التقت فيها سياسات كل من الملك فاروق ومصطفى النحاس زعيم الحركة الوطنية المصرية في الربع الثاني من القرن العشرين والمخاصم للملك فاروق، وكذلك جمال عبد الناصر الذي أطاح بالملك فاروق وحَلَّ محل النحاس في الزعامة الوطنية للبلاد بعد أن صفَّى حزب الوفد وألغاه، لا نكاد نجد اتفاقًا في أي أمر بين هؤلاء الثلاثة وتوجُّهاتهم وسياساتهم إلا اتفاقهم تمامًا على العداوة لدولة إسرائيل نشأةً واستمرارًا، إدراكًا لخطرها على مصر، ووقف كلٌّ منهم ضدَّ هذا الكيان الدخيل ما وَسِعَهُ جهدُه وقدرته وظروف إعمال سياساته. كما نلحظ أنه ما من مرة انتكست فيها السياسات الوطنية المصرية وابتعدت عن طريق الاستقلال، إلا كان لإسرائيل شأن في هذا السعي للانتكاس، كما حدث في سنة 1956م ففشلت، وفي سنة 1967م فنجحت.

(2)

أنتقل إلى نقطة أخرى، تتعلَّق بسؤال عما حدث لمصر ولدولتها ولشعبها حتى تجري سياسة دولتها على غير هذا الطريق الذي كان جمع بين الملك فاروق وزعيم الأمة في وقته مصطفى النحاس وقائد ثورة الاستقلال والتنمية منذ 23 يوليو 1952 جمال عبد الناصر؟ ما الذي حدث وجعل الدولة المصرية تسير في طريق تصفه الصحافة الصهيونية الآن في إسرائيل بأنه حلف استراتيجي بين مصر وإسرائيل؟
إن إسرائيل هي عدو استراتيجي لمصر، فكيف لدولة مصر أن تُجْرِيَ حِلْفًا استراتيجيًّا مع العدو الاستراتيجي؟ كما أنه من المعروف في إطار الخبرة الوطنية المصرية خلال عشرات السنين الماضية أن الولايات المتحدة الأمريكية ساندت إسرائيل في قيامها الأول واستخدمتها ضدَّ مصر في سياساتها التالية، وكانت الدولتان الأمريكية والإسرائيلية متَّحدتيْن في سياساتهما منذ هذه النشأة وحتى الآن، وبذات درجة الوثوق والترابط بما يقطع أنهما ليستا ذاتًا سياسية واحدة فقط، ولكنهما تكادان تُشَكِّلان دولة واحدة، كما لو أن إسرائيل هي إحدى الولايات الأمريكية، وبهذا النظر التاريخي والسياسي تعتبر الولايات المتحدة عدوًّا استراتيجيًّا لحركة التحرُّرِ المصرية المستقلَّة، ورغم ذلك فإن ساستنا المصريين في مراكزهم الحاكمة للدولة المصرية يكرِّرون القول الفصيح بأن مصر على تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة، أي أنها تتحالف استراتيجيًّا مع من يرتبط بحلف وجودٍ استراتيجي مع العدو الاستراتيجي. والسؤال الذي يرد على الذهن هو: كيف يمكن أن يُحَلَّ هذا التناقض؟ وإذا قام تحالف استراتيجي مع عدو استراتيجي فضدَّ من يُوَجَّه؟ وعلى أيِّ أساس يقوم هذا التحالف؟ وما هي الأهداف التي يسعى لتحقيقها؟
هداني إلى الإجابة على هذا السؤال العويص، خطاب كان وجَّهه الرئيس السابق لمصر محمد حسني مبارك في 10 نوفمبر سنة 2003 إلى الهيئه البرلمانية لحزبه الحاكم “الحزب الوطني الديمقراطي” بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية لسنة 2003 – 2004م، وأذاع هذا الخطاب الأمينُ العام للحزب وقتها، السيد صفوت الشريف، في صحيفة الأهرام، فنُشر في اليوم التالي في الصفحتين الأولى والثالثة، تحدَّث الرئيس عن مخاطر زيادة السكان في مصر ثم قال: “إننا لا نريد يومًا أن نصل إلى تلك الدول التي لا تهتم سوى بنسبة 10% من سكانها، وتترك الآخرين في العشوائيات دون رعاية أو تعليم”. وكانت هذه العبارة من العناوين التي نشر بها الخطاب في الصحيفة، كما لو كانت تحمل تهديدًا للمصريين ببلوغ هذا المصير.
بهذا أفصحت الحكومة عما يجول في ذهنها من بدائل وحلول لما تواجه من صعوبات، وكشفت عن أنها تضع أمام نفسها من بدائلها العملية والواقعية ألا تعترف إلا بنسبة محدودة من السكان هي 10% أو أقل وتترك الباقي بغير رعاية ولا تعليم، وهي تحرص أن تسميهم “سُكانًا” ولا تشير إليهم بوصفهم مواطنين؛ لأن السكان يمكن ألا يعتبروا مواطنين ذوى حقوق عليها، كما أنها تجردهم من وصف يجعلهم مشمولين بحاكميتها عليهم ومسؤوليتها نحوهم، وهي ترى ذلك أمرًا ممكنًا ومطبقًا في دول أخرى، فهو بديل سياسي عملي وذو اعتبار وله سوابق حياتية في سياسات الدول.
ومن هذه الإشارة ومع أخذها في الاعتبار من حيث كونها بديلا سياسيًّا عمليًّا لما تنتهجه الحكومة من سياسات على مدى الفترة المعيشة، نجد ما يُظْهِرُ أنها سياسة مطبَّقة فعلًا في العقدين الأخيرين أو أكثر قليلًا، فنلحظ أن التعليم العام قد انهار في المدارس الحكومية أو التي تُشرف عليها الحكومة، ونلحظ أن العشوائيات قد انتشرت حول المُدن بغير اهتمام بحل مشاكلها أو إيجاد بدائل لحدوثها، ونلحظ فعلا أن فقدان الرعاية يعمُّ بين “السكَّان” في كل مجال. وإشارة الرئيس السابق إلى التعليم تكشف مثلًا حقيقة ما حدث، وهو انهياره شبه الكامل مع نشوء التعليم الخاص والأجنبي لقلَّةٍ محدودةٍ بمصروفات باهظة لم تعرفها مصر قط في سابق تاريخها الحديث، ولا يقدر عليها إلا نخبة النخب من الأثرياء القادرين. وحتى في تاريخنا السابق على العصر الحديث قبل بدايات القرن التاسع عشر، كان التعليم مجانًا تقريبًا في الكتاتيب وفي الأزهر، ويُنْفَقُ على هذه الأنشطة العامة من أموال الأوقاف وأموال الزكاة، بل كان الشباب من طالبي التعليم الأزهري يتقاضون “الجراية” من إدارة الأزهر وقتها.
ومن جهة أخرى، نلحظ مثلًا أن كثيرًا من الصناعات التي كانت قامت على مدى القرن العشرين قد توقَّفت أو آلت إلى مجال الخسائر الباهظة، وأن البطالة قد تزايدت، وأن النهضة في زراعة الأرض وإدارتها عن طريق الدورات الزراعية التي تشرف فيها الحكومة من ما قبل ثورة 23 يوليو 1952 أيضًا (مثل الدورة الخماسية لكل سنتين لمحاصيل يحتاجها الوضع الاقتصادي للبلاد)، هذه النهضة قد توقَّفت وتركَتها الرعاية الحكومية. كما كاد أن يتوقف النشاط الحكومي الفعلي لاستصلاح الأراضي، وأن النشاط الاقتصادي السائد الآن على مستوى المجتمع جذبًا لرؤوس الأموال المتاحة واستخداما للطاقة العاملة هو بناء المنشآت العقارية في المدن وغيرها، وذلك لفئة من المشترين والمستثمرين ليسوا في حاجة إلى السكن الفعلي لهذه الوحدات السكنية، ولكنهم يشترونها ويستغلون فيها أموالهم كمجرد تخزين لهذه الأموال في عينيات عقارية غير مطلوبة للاستخدام الحالي ولكنها ذات قيمة مستقرة. ومن الظاهر أن النشاط الصناعي والزراعي المهجور الآن إنما هو كذلك لأنه يحتاج دائمًا إلى عمل من عمال وأيد عاملة من غير الـ10% من السكان الذين اقتصرت رعاية الحكومة عليهم. وقد ظهر من مطالعة الصحف أن من النتائج الأولية للتعداد العشري لسكان مصر الذي كان يجري في سنة 2017م أن بمصر 45 مليون وحدة سكنية في القرى والمدن، وأن منها عشرة ملايين وحدة بلا سكَّان أي غير مستعملة، ومن هذه الملايين العشرة ما يقل عن المليون يخص المصريين المقيمين بالخارج، بمعنى أن ثمه تسعة ملايين وحدة سكنية(1) أُنشئت بغير حاجة آنية وبغير احتياج حالٍّ، ولنا أن نقدِّر ما أُنفق في هذه المنشآت من رؤوس أموال وما كان يمكن أن يُنتفع به منها في تشغيل الصناعات المتوقِّفة واستصلاح الأراضي الزراعية، وليس من سبب لهذا العوار إلا أن الدولة تُوَجِّهُ الناس لاستثمارات لا يحتاجها كل سكَّانها وتضع كل قدرتها في إطار من اعترفت بهم من سكَّان البلاد في حدود نسبة لا تزيد على 10%.
كما يلحظ مثلًا أن فكرة التنمية الاقتصادية صارت تعتمد أكثر ما تعتمد وأكثر من أي وقت سابق، على السياحة بأكثر كثيرًا من الاهتمام بالزراعة والصناعة وتنميتهما، كما صار الاهتمام أكثر باستخراج الخامات الطبيعية والسعي لاكتشافها لتصديرها بحالتها الطبيعية لا بتصنيعها وإعدادها، وذلك يعني الحرص على استخراج الثروات بأقل احتياج للعمالة البشرية، ويصاحب ذلك الاتجاه، خروج الفئات النخبوية من أرض وادي النيل حيث تعلو نسبة الكثافة السكانية إلى مجالات مدن وأحياء بعيدة عن أرض وادي النيل، وقد تبلور مع هذا التوجُّه السعي لبناء عاصمة إدارية جديدة لمصر بعيدًا عن وادي النيل حيثما يسكن أكثر من تسعة أعشار المصريين، أي العمل على تهجير الحكومة وأجهزة الدولة المصرية من القاهرة عاصمتها لأكثر من ألف عام فضلًا عن سوابقها كالفسطاط والقطائع وغيرهما. وذلك لأن الحكومة تبنَّت فيما يُظن الاكتفاء بنسبة تدور حول 10% من سكان مصر ليكونوا هم المواطنين وحدهم دون السكان الباقين. والحاصل أيضًا أنه ظهر للحكومة من إحداث 25 يناير 2010 أن شعب ال90% يمكن أن تتجمع جماهير غفيرة منه وتحاصر قيادات أجهزة الدولة الأساسية من قوات مسلحة، كما حدث في حي حدائق القبة، أو الشرطة كما حدث في أحداث شارع محمد محمود.
إن دولة الـ10% تحتاج إلى مصادر دخل لا تعتمد على العمالة الكثيفة، وهي تفتش عن ذلك في السياحة واستخراج الخامات من المناطق النائية البعيدة عن الوادي، وعن كل ما فيه من أنشطة العمالة الكثيفة في الزراعة والصناعة وغيرها. وحتى النشاط السياحي يجري التفضيل بشأنه والاهتمام الزائد لا بالسياحة للآثار الفرعونية والإسلامية التي تتركَّز في وادي النيل، إنما يجري التفضيل والاهتمام بشواطئ البحرين الأبيض والأحمر بعيدًا عن أرض الوادي، مثل السواحل الشمالية لمصر المتاخمة للصحراء ومثل شرم الشيخ والغردقة على البحر الأحمر.
وكان مما يتَّفق مع هذا النظر الذي يحصر مصر في عُشْر سكانها أو أقل، أن ينحصر كذلك جهاز الدولة ذو الفاعلية السياسية في التقرير والتنفيذ في قلة محدودة من النخب الحاكمة، وقد بدأ اتخاذ هذه السياسات من زيادة سلطات القلة الحاكمة على جماهير الموظفين في الأجهزة التابعة للدولة من التسعينيات من القرن العشرين، وذلك بهدف نزع الذاتية الخاصة بكل جهاز من أجهزة الدولة لديه تميُّز مهني وتاريخي ومحاربة الأعراف السائدة من قديمٍ والتي يحملها موظفوه وعماله، وكانت هذه الذاتية تنظِّمها القوانين وتتبعها أعراف العمل وأحكام المحاكم. ويجري بتعديل القوانين نزع هذه الذاتية لكي تكون لكل قيادة فردية في أي من مجالات العمل، سلطة طليقة في اختيار من دونها من مستويات، ممَّا سبق أن عرضتُ له سابقًا في دراسة لي نشرت ضمن ما نشر في كتاب بعنوان “مصر بين العصيان والتفكك” وذلك في طبعتين سنتي 2006م و2010م، ومما لا أجد مجالا لتفصيله الآن. وأعقبتها بدراسة أخرى نشرت في ذات الكتاب بعنوان “هذه إمارة شرم الشيخ وليست دولة مصر”.
ولكن، ما تتعين الإشارة إليه هو أن هذه السلطة الفردية والتي قامت ثورة 25 يناير للعدول عنها قد عادت على أكثر مما كانت عليه غلوًا وسيطرةًا فيما آلت إليه الأوضاع من بعد.

(3)

إن ما حدث من أحداث في 25 يناير سنة 2011 قد أثبت لهؤلاء الداعين والعاملين على إنشاء وإبقاء “مصر الصغرى”، أي مصر الـ10% أو الأقل، أثبت لهم أن الحلول التوفيقية التي تعتمد على الاستبقاء الشكلي “لمصر الكبرى” والإحلال العملي لسياسات مصر الصغرى أو إمارة شرم الشيخ، هذه الحلول التوفيقية لن تجدي كثيرًا ما دامت الدولة بأجهزتها الهامة باقية في وداي النيل وبين أحضان الشعب المصري برمَّته، وأنه لابد من الخروج كلية بالأجهزة ذات التقرير والتنفيذ من هذه الأحضان حذر أن يحدث ما حدث في الفترة من 25 يناير حتى 10 فبراير سنة 2011. فقد كان الظن من قبل أن شرم الشيخ بما فيها من سكَنٍ لرئيس الجمهورية ومن مكاتب وقاعات محدودة تكفي، وظهر أنه لابد من مدينة تسع كل الأجهزة الحيوية التي تحويها الدولة وتكون خارجة عن مجال التجمع السكاني العريض في أرض وادي النيل فنشأت فكرة “العاصمة الإدارية الجديدة”.
إن التهديد الأساسي لمصر الصغرى إنما يأتيها من هذا التجمع الكبير الذي يسعى لإتمام الانسلاخ عنه، ويعلمنا التاريخ أن أي كيان سياسي ينسلخ عن كيان أكبر لابد لنجاح مسعاه في الانسلاخ أن يعتبر هذا الكيان الأكبر هو مصدر الخطر الرئيسي عليه، وذلك سعيًا لتحطيم أي محاولات للعودة والانجذاب إلى التشكُّل القديم بأفكاره وقواه وتشكيلاته وانتماءاته، ولأن الانسلاخ في جريانه إنما يحرص على إنهاء ما لايزال عالقًا من الروابط واللحمة مع التشكيلات الاجتماعية الجاذبة للقديم. ومن هنا نلحظ المبالغة في رفع شعار “الإرهاب” لا للقضاء عليه وحده، وهذا مسلك صحيح وواجب، ولكن المبالغة تتمثَّل في إلصاق كل معارضة وكل حركة احتجاج به، والقصد من ذلك ليس مجرد مواجهة أعداء الحكم، إنما المقصود لدى المبالغين السعي لإزالة الروابط القديمة والمضي في عملية الانسلاخ الفكري والسياسي والثقافي والتنظيمي والمجتمعي، أي إرساء تشكيلات تتَّفق في تكوينها التشكيلي وفي أجهزتها وفكرها مع جديد ينبني في نطاقه المحدود. وأنا لا أقصد بذلك الموقف من الإرهاب والعمل العنيف الذي يجب لصالح “مصر الكبرى” مقاومته وإنهاؤه، وإنما أقصد التضخم في هذا الأمر والمبالغة فيه وجعله هو الشكل الأضخم وأساس القرار الوحيد بمصر كلها على نحو استراتيجي طويل المدى.
ومن الطبيعي والمنطقي أنه متى اتَّضح مصدر الخطر لأيِّ كيان أو سياسة واتَّضح التوظيف اللازم لمواجهة هذا الحظر، فإنه من الطبيعي أن يجري السعي للتحالف مع كل من يُعادي هذا الحظر ومصدره. وهنا نلحظ الإجابة على السؤال السابق إثارته، وهو كيف يمكن التحالف استراتيجيًّا مع من يُعتبر خصمًا استراتيجيًّا، ويمكن من هذه الزاوية تتبُّع ما يجري من سياسات تنبع في الجانب الشرقي من حدود البلاد الشمالية، ومن هذه الزاوية أيضًا نفهم قصر مشروعات الإصلاح الاقتصادي على ما كان خارج وادي النيل والتركيز في ذلك على محور قناة السويس والنظر إلى إقليم قناة السويس بحسبانه مجالًا متميزًا في الساحة المصرية.
والحاصل أنه بدأ الحديث عن إقليم قناة السويس بوصفه منطقة ذات استقلال نسبي عن مصر وادي النيل في أوائل سنة 2013م، وقد كان نشر في صحيفة “المصري اليوم” في 27 أبريل 2013 مشروع قانون أعدَّته الحكومة لا يتضمَّن أي جوانب اقتصادية، إنما يكتفي بأن يذكر أحكامًا قانونية تفضي إلى عزل منطقة قناة السويس عن سيادة الدولة المصرية واستقلالها عنها وعدم تبعيَّتها إلا إلى رئيس الجمهورية بعيدًا عن أجهزة الدولة الإدارية، وبعيدًا عن نطاق القوانين والنظم المصرية المطبَّقه في سائر أنحاء البلاد، وذلك تربُّصًا لسياسات تُتَّبع لا ندري عنها شيئًا. وقد سبق لي أن نشرت مقالًا ناقشت فيه هذا وهاجمته وذلك في صحيفة “الشروق” في 10 مايو سنة 2013، ولقد استمرَّ الاهتمام الجوهري بهذه المنطقة إلى الآن حتى بعد تغيُّر النظام تمامًا في يوليو سنة 2013.
كما يُلاحظ أن السياسات تعدَّلت بالنسبة لعلاقة مصر بقطاع غزة الذي يسيطر عليه الفلسطينيون، وذلك من حيث تضييق الحصار على القطاع أكثر ممَّا كان من قبل، مع الإجراءات التي اتُّخذت لإخلاء قطاع رفح المصري من المواطنين وغير ذلك ممَّا لا يتَّسع المجال لتفصيله، وفي ذات الوقت الذي تنفَّذ فيه هذه الإجراءات، نلاحظ اهتمامًا مصريًّا سعوديًّا للحديث عن مشروعات في سيناء تموَّل من المملكة السعودية، وذلك حسبما ذكرت الأخبار عند زيارة الملك سلمان ملك السعودية لمصر في أبريل سنة 2016 وتوقيع وفده مع المصريين ما قيل في الصحف إنه 36 اتفاقية ومذكرة تفاهم قيمتها 26.5 مليار دولار لتطوير منطقة قناة السويس، وإنشاء شبكات المرافق والمنطقة الحرة والمشروعات السياحية على البحر الأحمر.
وكان من توابع هذا التوجُّه ما أُبرم من اتفاق بين مصر والسعودية خلال هذه الزيارة حول تحديد الحدود البحرية بين البلدين في البحر الأحمر، واشتمل على تنازل مصر عن سيادتها المؤكَّدة بالوثائق وأحكام المحاكم عن جزيرتي تيران وصنافير، وهما الجزيرتان اللتان كانت مصر تمارس سيادتها عليهما منذ بدايات القرن العشرين في سنة 1906م، ويكفلان لمصر السيادة الكلية البحرية على مضيق العقبة والتحكم في الملاحة التي تأتي للخليج عبر هذا المضيق من مدخله الجنوبي، وقد صار المضيق بهذه الاتفاقية مشتركًا بين دولتين بما يكفل حرية الملاحة العالمية فيه، لا لإسرائيل وحدها ولكن لكل دول العالم وسُفُنِه الآتية عبره، ولن يستفيد من ذلك إلا إسرائيل التي يقع ميناء إيلات التابع لها في أقصى شمال الخليج.
ونحن نذكر الحديث الإعلامي الذي أجراه الإعلامي وائل الإبراشي في قناة دريم في 13 يونيو 2017 مع الفريق أحمد شفيق الذي كان رئيسًا للوزراء في آخر عهد حسني مبارك في فبراير 2011 ووزير الطيران المدني منذ 2002، وهو حديث أصرَّ فيه على سيادة مصر على الجزيرتين وأنهما من أرض مصر، كما أكَّدت أحكام مجلس الدولة من قبل، وذكر أن مضيق تيران بين الجزيرة وساحل سيناء عرضه ثمانية كيلو مترات، وتعتبر بامتلاك الجزيرتين مياهًا مصرية، وأن ترك تيران للسعودية يؤدِّي إلى إزالة هذه السيادة المصرية عن مياه الخليج فيصير لكل من مصر والسعودية كيلو متران بحريان فقط وتعتبر الأربعة كيلو مترات الوسطى مياها دولية. وذكر أن هذا الطريق الدولي سيفتح لإسرائيل مشروعًا لإنشاء خط سكة حديد أو قناة بحرية موازية لقناة السويس تحل محل قناة السويس كطريق للتجارة العالمية أو تقوم كمنافس لها في هذا الشأن، وأن المسألة لا تفيد السعودية المتمسكة بهذه الجزيرة وإنما تفيد إسرائيل في الأساس.

(4)

يعلِّمنا القانون الدولي أن الدولة هي شعب على أرض له حكومة، والشعب وهو الجماعة السياسية التي تداخلت روابطها الثقافية والمصلحية هو حجر الزاوية في هذه الأركان الثلاثة، واستطرادًا للحديث الجاري في هذه الصفحات يمكن القول بأنه متى هان الشعب على حكومته واستبدَّت به فلم تعد انعكاسًا ثقافيًّا وسياسيًّا ومصلحيًّا له، متى حدث هذا فقد هانت الأرض أيضًا على هذه الحكومة من باب أولى، وصارت الحكومة لا تمثل انعكاسًا لهذا الشعب ولكنها صارت محدِّدة له وهي تعبِّر عن ذاتها وعن النخب المضمحلَّة المحدودة التي ترتبط وتتَّصل بها بروابط العلاقات الاقتصادية والمصالح السارية المشتركة.
ومن هنا نفهم الحراك الشعبي العريض غير التابع لتنظيمات متكونه بعينها في 25 يناير سنة 2011 اعتراضًا وخوفًا من الوصول إلى هذا المصير، ومن هنا نفهم مدى العنف والتضييق الذي واجهوا به هذا الحراك من بعد، ومن هنا المؤدَّى الحقيقي لما جرى التعبير عنه بهدف “الديمقراطية” في الحراك الشعبي الواسع، ومن هنا يجري الربط بين ما يظهر بوصف كونه أسلوب حكم مستبد وبين ما يتحقَّق منه بحسبانه إزالة لوصف المواطنة عن الشعب بحسبانهم مجرد “سُكَّان”. ومن هنا ندرك في مواجهة هذه الحالة أن مطلب الديمقراطية ليس محض مطلب لتعديل أسلوب الحكم الذي تدار به شؤون المواطنين، ولكنه ينطوي على جوهر التحقُّق الفعلي والحقيقي للوجود السياسي لعامَّة الشَّعب لاتِّصافهم بوصف المواطنة، أي إنه ينطوي على الوجود الفعلي للوطن وللشعب ويتعلَّق بالتحقُّق الواقعي لما نُسَمِّيه “الجماعة السياسية” التي هي أصل تكوين الدولة ومنبت وجودها وشرعيتها.
لقد كان لدينا دائمًا هدفان سياسيَّان نسعى لتحقيقهما ونخوض معاركهما بين كرٍّ وفرٍّ، وهما مطلب “الديمقراطية” ومطلب “الاستقلال الوطني”، وكانا على مدى القرن العشرين يبدوان كثيرًا كهدفين منفصلين، وكان مطلب “الاستقلال الوطني” يطغى على مطلب “الديمقراطية” بدليل قيام أحزاب وحركات سياسية تركز على هذا المطلب دون المطلب الآخر، وذلك في النصف الأول من القرن العشرين، وبدليل ما تحقق بعد ذلك في ثورة 23 يوليو 1952 من استقلال كامل لمصر طوال عهد جمال عبد الناصر، وتحقَّقَ ما تفرَّع على هذا الاستقلال السياسي الكامل من تنمية اقتصادية مستقلَّة ومن توجُّه للعدالة الاجتماعية، رغم أن الحكم كان استبداديًّا تمامًا. ثم جاء العدوان الإسرائيلي على مصر في سنة 1967م، ثم زوال حكم عبد الناصر بوفاته (رحمه الله) وعدول خلفه أنور السادات عن كافَّة سياسات الاستقلال السياسي، مما أقَرَّه وعَمَّقه وأكَّد عليه حكم محمد حسني مبارك، حتى آل الأمر إلى ما آل إليه ممَّا سبقت الإشارة إليه من اتِّباع سياسة 10% من السُّكَّان وترك الآخرين بغير رعاية ولا تعليم ولا غيرهما.
انتكست ثورة 23 يوليو 1952 لغياب المشاركة الشعبية في تفعيل سياساتها المستقلَّة، ولما ظهر جليًّا في النصف الأخير من حكم حسني مبارك انفصال “مصر الصغرى” أي مصر الـ10% عن الشعب كله وسكَّان مصر جميعًا؛ قامت ثورة 25 يناير 2011 لتستجيب لهذا الدرس التاريخي وليكون مطلب الديمقراطية هو مطلب استعادة “مصر الكبرى” ذات الـ100% من مواطنيها، ولكن سرعان ما نهضت “مصر الصغرى” للانتكاس عن هذا المطلب كما سبقت الإشارة، وفي ذات الوقت حدث في البلاد العربية الأخرى، كل بأسلوب عمله وطريقة إنقاذه ما لا تزال نتائجه لم تَتِمَّ فصولًا.
إن المسألة الآن في جوهرها وسياقها التاريخي وبعد التجارب السياسية المريرة التي جرت، هي مسألة الوجود الحقيقي السياسي والفعَّال للشعب العربي كله، في مصر وفي غيرها من بلاد العرب، كل في حدوده وسياق أحداثه، أن تتولَّى كلٌّ من هذه الشعوب والجماعات السياسية زمام أمرها بنفسها، لا خضوعًا لإرادة أجنبية عنها ولا تفريطًا في وجودها العام الشامل لصالح نسبة قليلة من سكانها تملك زمام الأمر وحدها وتبدو أنها هي الشعب وهي الوطن، شأنها شأن الكيان الإسرائيلي الذي وعد به بلفور وأقامته الإرادة الأجنبية.
وما جرى في مصر بالأسلوب المصري من خلال سلطة الاستبداد، جرى في العراق بأسلوب مختلف وتجري محاولته في سوريا واليمن وليبيا بأساليب أخرى، فيستبدل بدولنا التي عرفناها على مدى القرن العشرين إمارات الـ10% البعيدة عن سكانها، سكان العشوائيات.
*****

الهوامش:

(*) المفكر والمؤرخ المصري ونائب رئيس مجلس الدولة سابقًا.
(1) من نتائج التعداد الرسمي التي نُشرت فيما بعد أنه بمصر 16,2 مليون مبنى بها 43,2 مليون وحدة سكنية (الأهرام ا أكتوبر 2017، ص 5). وذكر رئيس الجمهورية في تعقيبه على نتائج التعداد أنه أظهر أن ثمة 10 ملايين وحدة سكنية غير مشغولة (الشروق 1 أكتوبر 2017). وذكر صلاح منتصر عن التعداد أن ثمة تسعة ملايين وحدة سكنية خالية، وأن إجمالي المباني 16,2 مليون مبنى تضم 43 مليون وحدة سكنية وأن منها 4,6 مليون مبنى تضم 15 مليون وحدة سكنية أنشئت بعد سنة 2011 (الأهرام 2 أكتوبر 2017).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى