مفهوم الانتماء ودوائره المتحاضنة

محاضرة للمستشار طارق البشري

أولًا- ما الذي أقصده، أو ما الذي أفهمه من هذا التعبير “دوائر الانتماء”؟
دائرة الانتماء هي: مجموعة من البشر، يشملهم وضع اجتماعي لوصف يتصفون به بالتشابه فيما بينهم، ويكون هذا الوصف ذا فاعلية اجتماعية، أي يشكل لمن يتصف به مركزًا اجتماعيًا يتعامل به ويؤثر في حقوقه وواجباته الفردية أو الجماعية، مما يوجد صالحًا مشتركًا بين من يشملهم، ويُنتج وعيًا ثقافيًا والانتساب إليه، ويحرك بواعث الدفاع عن وجوده.
كنا نقرأ في الكتب القديمة، ما يقرن الاسم بعبارات مثل: “الحسيني، البصري، الشافعي، الشاذلي، الأزهري، القرشي، السكندري، المالكي، القروي أو القيرواني…”. هذه كلها وحدات انتماء ما أن تقترن باسم ما حتى تعرف نسبة صاحبه النَسَبيَّة والإقليميَّة والمذهبيَّة والحرفيَّة والتعليميَّة، كل ذلك أو بعضه.
اسم الفرد لا يعرف الإنسان، إنما يعرفه إلى غيره ما ينتسب إليه من الجماعات، وهذه النسبة هي ما تشكل وعيه الثقافي وأسلوبه في إدراك الأمور.
الإنسان لا يكون فردًا أبدًا، إن لحظة ميلاده هي ذاتها لحظة انتمائه إلى “جماعة” وهي الأسرة المحيطة به، ثم ما تنسب إليه الأسرة من جماعات إقليمية جغرافية ومهنية وحرفية وتعليمية، ثقافية وسياسية. وهو يشب في إطار هذه الدوائر المترابطة، لأن ذويه ينتمون إليها جميعًا، ويتشكل وعيهم ويتطور من خلالها.
ومن هنا نلحظ العوار الذي تتصف به بيانات حقوق الإنسان العالمية (سواء بيان الاستقلال الأمريكي 1776، وبيان حقوق الإنسان الفرنسي 1789، وبيان الأمم المتحدة 10 فبراير 1948) لأنها نظرت إلى الفرد ولم تنظر إلى الجماعة، بل إنها أجرمت بحق الفرد في الوقت ذاته الذي أهدرت فيه حقوق الجماعات (احتلال مصر 1798، تقسيم فلسطين 1948).
إن تجريد الفرد من الجماعة التي ينتمي إليها هو أول خطوات خيانة هذا الفرد، وتجرده بنفسه هو خيانة لنفسه، لأنه لا وجود له ولا ضمان له إلا من خلال من يعايشهم من جماعات. ولننظر إلى ما حولنا قديمًا وحاضرًا، سنرى أن الناس دائمًا جماعات، ولكن ما هذه الجماعات؟
بالتعدد السابق لدوائر الانتماء، يمكن أن نلحظ أن الغالب منها إنما يتشكل وفقًا لعدد من المعايير أو التصنيفات التي تتكرر في المجتمعات كلها:
– ثمة تصنيف أساسه علاقة النسب، ومنه ظهرت الأسرة وظهرت القبيلة والعشيرة وغيرها من التكوينات البشرية التي تربط بينها علاقات القرابة أو العرق.
– ثمة تصنيف أساسه نوع العمل، ومنه ظهرت تجمعات الحِرف والمهن المختلفة قديمها وحديثها، فقديمها مثل نقابات الحرفيين، وحديثها مثل نقابات العمال واتحادات الفلاحين والنقابات المهنية.
– ثمة تصنيف أساسه اللسان، سواء ما تحدد وفقًا لاختلاف اللغات أو ما تحدد وفقًا لاختلاف اللهجات، ومنه ظهرت التشكلات القومية التي تتميز بتنوع اللغات.
– ثمة تصنيف أساسه نوع التعليم، وهو قد يتصل بتنوع المهن وما تستلزمه من تنوع دراسات، ولكنه أيضًا قد يتميز عن المهن بأنواع من التعليم تكون تقليدية أو حديثة أو دينية أو نظرية ثقافية عامة… إلخ.
– ثمة تصنيف أساسه أنواع عمل معينة ذات ثقافات ونظم خاصة، مثل الجيش ضباطًا وجنودًا، والقضاة، وأعضاء هيئات التدريس بالجامعات.
– ثمة تصنيف أساسه الإقليم، ومنه ظهرت الوحدات الصغيرة مثل القرى والأحياء والنواحي السكنية، أو الوحدات الكبيرة مثل الأقطار والأقاليم وغيرها.
– ثمة تصنيف أساسه الدين، ومنه ظهرت جماعات الأديان والمذاهب والملل والطرق والطوائف المختلفة: مسلمون ومسيحيون، سنة وشيعة، طرق صوفية…
هذه الوحدات أو الدوائر تتحدد وتتبين ملامحها وتتعدد طبقًا لمعيار التصنيف الذي نفرز به الظواهر والآحاد. ولذلك:
* فهي دوائر لا تقع تحت حصر؛ إذ كلما جدَّ معيار للتصنيف ظهرت دوائر جديدة، شريطة أن يكون معيار التصنيف معبِّرًا عما جد في المجتمع من علاقات ومراكز جديدة للتعامل.
* وهي دوائر ليس من شأنها بالضرورة أن تنشئ استقطابًا وصراعًا بين بعضها والبعض الآخر، لأن وصف التداخل والتشارك بين الأفراد المنتمين إليها وبين الدوائر الأخرى ينشئ إمكانية دائمة للتعامل وللتحاور وتحقيق المصالح بالاتفاق والمساومة.
* بمعنى أن هذا التداخل يشكل عاصمًا من التفكك والتضارب، ويسهم في توحيد القوى وفي التماسك الاجتماعي العام. وذلك كما يحدث في البنيان المرصوص عندما تتداخل أجزاؤه في بعضها البعض بما يشكل في النهاية بناءً واحدًا يشد بعضه بعضًا.
* وهي دوائر قد تتنوع بين خصوص وعموم؛ حيث يشكل بعض منها أجزاء من دوائر أخرى.
* وهي دوائر غير ثابتة ولكنها متغيرة ومتحولة، لأن حرفًا تذوي وحرفًا تنشأ، ومذاهب تزدهر ومذاهب تزول، وبما نفعله مثل الهجرة إلى المدن وما تؤدي إليه من خفوت الوزن الاجتماعي لعلاقات النسب والمصاهرة من أبناء العشائر والأسر.
* ودوائر الانتماء بعضها يحكم بعضًا، بمعنى أن يكون البعض منها خاصًا لمصالح عامة تجمعها وتجمع غيرها ممن يتشاركون في علاقة خصوص وعموم. فالأعم منها يحكم الأخص ويخضعه للصالح الأعم مع إسباغ الحماية عليه.
وثمة أمران متعلقان بمفهوم الانتماء:
أولهما: أن دوائر الانتماء هذه تتنوع نوعين متميزين: نوع منهما يشمل الفرد دون أن يكون للفرد المشمول إرادة في اندراجه في هذا الانتماء، مثل دائرة اللغة أو الدين أو النسب، وكذلك دوائر العمل والمهن ونوع التعليم التي يندرج فيها الفرد لا لكونه شاء أن ينضم إلى هذه الدائرة، إنما هو اختار العمل أو نوع التعليم أو الطريقة الصوفية في العبادة، لأسباب تتعلق باختياره لهذه المهنة أو نوع التعليم أو طريقة العبادة، ثم هو اندرج في هذا الانتماء نتيجة ذلك دون أن يقصده في ذاته.
والنوع الثاني هو هذا الاندراج في انتماء قصده الفرد لذاته ودخل فيه بموجب سعيه للاندراج فيه والانتماء إليه، وذلك مثلما نلحظ في إنشاء الجمعيات والأحزاب وغيرها من التكوينات الاجتماعية التي نشأت أصلًا بسبب سعي أناس لإنشائها لتعبر عن دعوة لهم سياسية أو اجتماعية، أو نوع نشاط يؤدونه لأنفسهم أو لغيرهم.
ثانيهما: أن دوائر الانتماء هذه تتنوع نوعين متميزين آخرين: نوع يصلح لأن تنشأ به جماعة انتماء سياسي تقوم على أساسه الدولة، ويغير حينها دائرة الانتماء الأعم التي تخضع لها كل دوائر الانتماء النوعية الأخرى. ونوع لا يصلح لهذه المسألة ولم يعرف التاريخ له صلاحًا في أي من تجارب الأمم والشعوب، وذلك لأن الوصف الذي قامت عليه أي من دوائر الانتماء الفرعية هذه إنما يقوم على أمر محدود لا يستوعب ما يستلزمه وجود الجماعة السياسية من أنواع عمل مادي وثقافي ومعيشي متكاملة ومتساندة ومتعددة في وظائفها. ويستحيل – نظرًا وواقعًا – أن تنشأ جماعة سياسية على أساس من انتماء لنوع حرفة معينة أو تخصص مهني محدود، إنما الأمر يستدعي أن تكون الأوصاف الصالح بعضها لنشأة الجماعة السياسية من الشمول والثبات بما يجعلها خليقة بأن تكون الحاكمة لغيرها من الجماعات والدوائر على المدى الزمني الذي تقاس به المراحل التاريخية طويلة المدى، وهذا ما يمكن الإشارة إليه الآن.
التصنيف الذي يصلح لقيام الانتماء لما يقوم بوصفه الجماعة السياسية، هذا التصنيف يتعين أن يتصف بعدة أوصاف لازمة:
الأول: أن يكون عامًّا يشمل من الجماعات ما يصلح لأن تتكامل به وظائف العيش المشترك وفقًا للمستوى الاجتماعي والحضاري والثقافي السائد في مرحلة تاريخية معينة وفي بيئة معينة، فهو يكون الوصف الأوسع والأشمل في نطاق تكامل الفاعلية الاجتماعية، ولذلك لا تصلح الأوصاف المتعلقة بالعمل المتخصص مثلًا، لقصورها عن تغطية هذا التكامل اللازم لقيام الحياة الاجتماعية.
والثاني: أن يكون وصفًا ذا استمرارية طويلة؛ بحيث لا يشمل التغيرات الطارئة والتغيرات الطوعية الإرادية للأفراد، وبحيث يستحيل على التغيير إلا عبر العديد من الأجيال وبما يتجاوز العمر الفردي للإنسان، فلا الإرادة الفردية ولا العمر الفردي ولا الممكنات الذاتية مما يمكن أن تغيره.
والثالث: أن يكون وصفًا لصيقًا بمن يتصفون به لا يقوم على اختيار حر لهم، وإنما يتشكل عبر مرحلة تاريخية، ويتشارك الاتصال الجغرافي والاستمرار التاريخي في تشكيله الموضوعي بين الناس المتصفة به، ثم في تشكل الوعي الثقافي الجماعي بوجوده وبكفايته لقيام جماعة سياسية متميزة بذاتها وقادرة على إدارة شئونها المتكاملة.
ومن ثم فإن جماعة الانتماء العام، وهي ما يسمى بالجماعة السياسية، يمكن التعريف بها بأنها “مجموعة من البشر تتحدد وفقًا لتصنيف معين يقوم على وصف لصيق وفعال يصدق على المتصفين به ويميزهم عن غيرهم، وذلك متى كانت الأوضاع التاريخية قد رشحت الجماعة المتصفة بهذا الوصف بأن تقوم بوظيفة محددة لحماية أمنها الجماعي المشترك وصالحها بعيد المدى، فضلًا عن إدارة أمورها المشتركة”.
وقد عرفت تجارب التاريخ المعروفة ثلاثة أوصاف قامت على أساسها الجماعات السياسية، وهي الوصف النَسَبِي الذي قامت به جماعات سياسية أساسها القبيلة أو العشيرة، والوصف الديني الذي قامت به دول وجماعات سياسية أساسها الدين، والوصف اللغوي الذي قامت به دول وجماعات سياسية أساسها القومية. وكل ذلك في أي من حالاته كان يجري اختماره باجتماع عوامل جغرافية وتاريخية وثقافية مع أوضاع سياسية مكنت من تبلور أي من هذه الجماعات، وبتمام قيام أي منها تقوم الدول على أساسها.
حركة التاريخ وتفاعلاته هي ما يصنع من هذه المادة الخام جماعة سياسية، وهي ما يمكن من قيام دولة على أساسها ويبقيها على المدى التاريخي المناسب:
– شاهدنا في حركة التاريخ الأوروبي قيام التجمعات الإقطاعية تحت هيمنة الكنيسة الكاثوليكية، ثم الانتقال إلى الجماعات القومية على أساس اللغة، ثم مرحلة التحول إلى الاتحاد الأوروبي الجارية حاليًا.
– وشاهدنا في حركة التاريخ العربي التكوين القبلي الذي تحول إلى جماعة الإسلام وقيام الجماعة بجامع الدين، ثم التجزؤ القطري الحادث بفعل الاستعمار الغربي وبتفاعل الوحدات القومية، وهكذا.
أقصد من ذلك أن ثمة حركية بين كل الانتماءات العامة الصالحة لتكوين جماعات سياسية، وأنها بفعل الحدث التاريخي وتفاعلاته تتبادل المواقع بين أن تكون إحداها حاكمة للأخريات، ثم تصير محكومة من جماعة أخرى.
– وعندما يكون الدين وحدة الانتماء العامة الحاكمة التي تنشأ بها الجماعة السياسية، تكون ما احتوته من وحدات لغوية وقبلية دوائر انتماء فرعية خاضعة للوحدة الحاكمة (العرب، الفرس، الترك): قريش حاكمة للمسلمين في صدر الإسلام ثم انعكس الوضع بعد ذلك.
– وعندما تكون اللغة هي وحدة الانتماء العامة الحاكمة، يصير الدين والقبائل والعشائر من وحدات الانتماء الفرعية المحكومة.
– كانت الجماعة السياسية القرشية قبل انتصار الإسلام تضم وتحكم الإسلام في صدره الأول وتحميه العصبية القبلية لبني هاشم، ثم بعد انتصار الإسلام صارت التكوينات القبلية محكومة بالجماعة الإسلامية مثلما رأينا في حروب الردة. ثم صارت هذه الجماعة بعد توسعها تضم العرب والفرس والترك وغيرهم. ثم مع نشأة القوميات في العصر الحديث، صارت القومية العربية مثلًا تضم مسلمين ومسيحيين وغير ذلك.
وقد شاهدنا في تاريخنا الحديث هذه العمليات من نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وكان قد ظهر من قبل التكوين الفارسي، ثم ظهرت حركة التتريك والجامعة الطورانية، وكذلك الحركة العربية، وغير ذلك.
* الجماعة الحاكمة عليها وظائف جد مهمة:
أولًا: أن تحمي الأمن الجماعي لذويها من المخاطر الخارجية.
ثانيًا: أن تحمي وحدات الانتماء الفرعي المشمولة بها وتوجد طبيعة التنسيق بين هذه الدوائر وفقًا للوزن النسبي لكل منها، وحماية مصالحها تجاه الأخرى في الوقت ذاته.
ثالثًا: الإدارة العامة للشئون الجارية للجماعة والتنسيق بين مكوناتها.
وإذا غُيرت أي من ذلك، فإما:
أ‌- أن تغير من سياساتها.
ب‌- وإما أن تنكسر وتتغير.
* الدائرة الفرعية، تخضع لحكم الجماعة العامة بشرط:
أن تجد الحماية منها والآليات لتحقيق مصالحها وتسيير شئونها، بما يتناسب مع حجمها وثقلها الاجتماعي بالنسبة للدوائر الأخرى.

ثانيًا- الأسئلة والمداخلات:

د/سيف:
إن الرؤية المتكاملة التي قدمها سعادة المستشار البشري تجمع بين القراءة التاريخية والقراءة الجغرافية المعمَّقة حول ما يمكن تسميته بـ”نشأة الدولة الفكرية”، والتي تسبر غور شبكة من القضايا تتعلق بالدولة وكيانها، والتجزئة وشروطها، والتبعية ودوامها. هذه القضايا يستدعي بعضها بعضًا، وبها من عناصر الاتفاق ما يوجب البحث فيه، والتعرف على الشروط الموضوعية والتاريخية التي تحكمها والتي تتعلق باستمرارية هذه الأوضاع على ما هي عليه. وكنت أقول دائمًا – في هذا الصدد – إن الحدود ربما لم توضع على الأرض بل إنها صنيعة عقول ضيقت على نفسها، وهو ما أكده سيادة المستشار حينما أشار إلى أن ذلك الفصل بين دوائر الانتماء لم يكن جبرًا بل كان اختيارًا، وهذا الاختيار الذي بدأ في صورة الجبر إنما شكل عنصرًا من عناصر وطأة الدولة القومية التي نشأت لدينا. وهو أمر ترك من الآثار الخطيرة في فهم وإدراك وتصور قضية الانتماء.
أ/ علي مسعود:
هناك ثلاث نقاط متعلقة بموضوع المحاضرة:
1. تعبير الدوائر المتحاضنة أكثر دلالة من تعبير الدوائر المتكاملة.
2. هناك فارق بين الانتماء والولاء، فالانتماء جبري، أما الولاء فهو يرتبط بمدى العطاء لمفهوم الانتماء، وكل من الانتماء والولاء يرتبطان بمفهوم المشاركة الشعبية، وهو ما يعرف بمثلث (الانتماء – الولاء – المشاركة)، وهذا المثلث من الأركان الرئيسة للدولة.
3. بالنسبة لاتجاهات التهديد لأمن مصر القومي والتي تتحدد في الشمال الشرقي ثم الجنوب، فهي على هذا النحو منذ عهد الفراعنة، لكننا نغفل ذلك في الفترة الراهنة على اعتبار أن إسرائيل لم تعد عدوًّا لنا. لكن ما يزيد الأمر تعقيدًا أنه إذا كانت اتفاقية سايكس-بيكو قد قسمت المنطقة منذ مائة عام تقريبًا، فإن هناك إعدادًا في هذه المرحلة للتقسيم الثاني للمنطقة سيتخذ من التمايزات الدينية والعرقية معيارًا له.
أ/ عبد الرحمن حسام:
من الممكن أن نلاحظ أن كل ما حدث في القرن الماضي ارتبط بمشروع إمبراطوري لإحدى القوى العالمية التي استطاعت أن تبني إمبراطورية قائمة على التعاون مع عدد من الأحلاف فيما يمكن اعتباره مشروعًا إمبراطوريًا متعدد الأقطاب. والسؤال هو: كيف يمكن لأي قوة صاعدة في العالم أن تواجه هذا المشروع الإمبراطوري دون أن تكون جزءًا منه؟ فالنظام الدولي به العديد من القوى الكبرى، ولكنها في النهاية تصبح بشكل من الأشكال جزءًا من المشروع الإمبراطوري ولا تقدم بديلًا عنه. وهذا يزيد الأمر صعوبة بالنسبة للقوى المتوسطة والصغرى في مواجهة المشروع الإمبراطوري الذي يعد مشروعًا استغلاليًا للعالم.
أ. محمد البديوي:
ما تأثير الأحداث في السنوات الأخيرة في تماسك المجتمع المصري، في ظل تصاعد وتيرة العنف الطائفي، واتهامات بعض المسيحيين للمسلمين بأنهم غير مصريين بل عرب، فضلًا عن بروز ظواهر أخرى مثل ظاهرة الزواج من الإسرائيليات واتساع قاعدة الفئات المهمَّشة وتزايد هجرة المصريين للخارج، وما أثر ذلك في مفهوم الانتماء؟
أ/ خالد يوسف:
أفهم كلمة متحاضنة في دلالاتها البلاغية ولكن لا أستطيع أن أحدد دلالاتها في الاستخدام الأكاديمي سواء في حقل التاريخ أم حقل الاجتماع أم غير ذلك، وما يرتبط بذلك الاستخدام من موضوعات لا سيما موضوع الانتماء الذي نحن بصدد الحديث حوله.
لقد فهمت من هذه المحاضرة أنه ليست هناك حتميات في التاريخ، وفي قضية الانتماء إلى الدوائر الثلاث؛ الإسلامية والعربية والوطنية، فلا شك أن الانحياز إلى أي من هذه الدوائر يكون نتيجة لصراع بين هذه الدوائر قد يؤدي إلى بروز منتج جديد من دوائر الانتماء. أعتقد أنه ليس هناك اتفاق أو إجماع وطني حول الانحياز إلى أي من الدوائر سالفة الذكر، ولعل السبب في ذلك يرد إلى المدخل العاطفي الذي يتم تناول الظاهرة من خلاله.
أ/ محمود علي:
إن قضية الانتماء قضية ذات امتداد حضاري وثقافي، لذلك ينبغي الإشارة إلى أن المخططات الخارجية التي تستهدف الهوية تلازمت مع التفريط الداخلي في هذه الهوية لا سيما على المستوى الإعلامي، فضلًا عن الخطاب السياسي الذي يخلط بين المرجعية الإسلامية وجماعة الإخوان المسلمين معتمدًا على أثر التخويف.
أ/ محمد خالد:
من المعروف أن نظام القانون المصري يدور في الفلك اللاتيني من الناحية التشريعية والقضائية، فكيف إذن يتأتى لذلك القانون أن يحمي الانتماء الوطني والعربي والإسلامي للمجتمع المصري؟
أ/ أحمد عبد الفتاح:
في ضوء ما تم ذكره عن تحاضن دوائر الانتماء، ما التركيبة المناسبة للمجتمع المصري المتعلقة بدوائر الانتماء؟
من ناحية أخرى أرى أن الدوائر المتحاضنة أكثر تعبيرًا من المتعايشة، لأن الأولى تفترض وحدة الاتجاه أما الثانية فتفترض الخلاف والاضطرار للتجاور.
أ/ أحمد عيد:
هل يدعم الثابت التاريخي انتماءً محددًا لمصر، لا سيما في ظل الانتقال من الهوية الفرعونية إلى القبطية فالإسلامية مرورًا بالدائرة القومية العربية وانتهاءً بالانتماء الوطني، والسؤال هو: كيف نحدد ما هو جوهري في الهوية وما هو عَرَضي؟
د/ إجلال رأفت:
تطرقت المحاضرة إلى الانتماء الديني واللغوي والثقافي والنَسَب، لكن الانتماء للإقليم نفسه ما موقعه بالنسبة للانتماءات التي ذُكرت؟
أتصور أنه في الحالة المصرية على وجه التحديد فإن مسألة الانتماء إلى إقليم محدد هو الأقوى في مصر.
النقطة الثانية تتعلق بفشل مصر في محاولات الوحدة مع السودان ثم مع سوريا، فما سبب هذا الفشل؟ هل لأن مصر متقوقعة في إقليمها؟ أم لأن لديها شعورًا بالاختلاف عن باقي الأقاليم المحيطة بها سواء أكانت أفريقية أم عربية؟ ومن ثم لا تكون مهتمة بمعرفة الآخرين المعرفة الكافية حتى تصل للوحدة، أم أن سبب الفشل يرجع إلى فشل النخبة الحاكمة نفسها؟
أ/ رجب السيد:
يذكر د. سيف عبد الفتاح دائمًا أن الإيمان يزيد وينقص والشرعية تزيد وتنقص، فهل يمكن للانتماء أن يزيد وينقص؟
تنتشر بيننا ثلاثة مناهج للتفكير، وهي مناهج التفكير المثالي والبرجماتي والحدي، وأخطرها منهج التفكير الحدي الذي يسبب العديد من المشاكل على صعيد الانتماء، فحينما يوجَّه لك سؤالٌ من قبيل: هل أنت مصري أم عربي أم مسلم؟ فإن الإجابة ستكون حدية لأن السؤال يفرض إجابته، وهذا لأننا تعلمنا منذ الصغر الاختيار بين الأشياء ولم نتعلم التوفيق بينها. نحن نحتاج إلى نمط تفكير توافقي أو وسطي، فمشكلة الانتماء هي مشكلة منهج في التفكير.
أ/ حلمي:
ما مسئولية رفاعة الطهطاوي عما وصلت إليه حالة الانتماء في مصر؟ ذلك لأنه كان مؤسسًا “لفكر سياسي” لم يحقق لمصر الارتقاء المنشود، بل كان تأثيره سلبيًا. من ناحية أخرى أريد الإشارة إلى أن الدولة هي التي تصنع الانتماء بتقديمها الخدمات الضرورية للمواطنين، ولكن ما زال لدي تساؤل حول كيفية بدء مشروع النهضة هل نبدأ من القاعدة أم من القمة؟
د/ ناجية:
إن دوائر الانتماء ليست بالضرورة متعارضة فهناك إمكانية للتوافق، كما أن مستويات الانتماء ودوائره من الانتماء الأُسري للمجتمعي للقومي للإقليمي للإنساني لا تتعارض البتة، ومن المعروف أن مصر تقع في الدوائر الأفريقية والعربية والأفروآسيوية والمتوسطية، وإذا نظرنا إليها من النواحي الفكرية والعقائدية والسياسية كنا في دائرة عدم الانحياز ولم يكن هناك تعارض. إننا إذا ما تمسكنا بما تعنيه كلمة قبطي فإن مشاكل عديدة ستحل، لأن الكلمة تشمل المسلم والمسيحي من المصريين. وهناك أيضًا مقولة تذهب إلى أن مصر هواها شيعي ومذهبها سني، وهذه المقولة تنطوي أيضًا على البعد التوفيقي.
د/ علاء:
لا شك أن تهديد الأمن القومي يهدد الانتماء في مصر، وأمن مصر القومي مرتبط إلى حد كبير بالأمن القومي في البلاد والأقاليم المحيطة بها، وبالتالي فإن كل تهديد للهويات في البلاد المجاورة لمصر ينال من الأمن القومي في مصر، ولذلك فإن الانتماء إلى الإقليم هو المعيار الأهم للانتماء في مصر. وفي هذا الصدد لدي عدد من الأسئلة:
1- هل لكي أحمي انتمائي للإقليم لا بد أن أتخلى عن انتمائي للهوية؟ مثلًا المسلم هل ليحمي انتماءه للإقليم يتخلى عن هويته وكذلك المسيحي.
2- ما سر عدم تفكك لبنان على الرغم من التنوع الطائفي الواضح ومن عدم وجود قبضة حكومية بوليسية مثلما هو الحال في بعض البلاد العربية الأخرى؟
3- فيما يتعلق باتفاقية سايكس-بيكو والتقسيم الاستعماري والتقسيم الحالي على أساس عرقي وديني، هل سيصل الأمر إلى أن يمتد هذا التقسيم إلى العالم كله ليصبح التقسيم القطري هو القاعدة الأساسية؟
أ/ كريمة محمد:
ما الوسائل العملية التي يمكن استخدامها لتعريف الشباب بمفهوم الانتماء وترسيخه لديهم؟
أ/ محمد مصطفى:
في إطار مدرسة ما بعد الحداثة ظهرت تيارات فكرية معاصرة معادية للانتماء، وهي تختلف عن التيارات التي كانت مسيطرة قديمًا على العقلية الإمبريالية الغربية والتي كانت متحيزة للانتماء، فهل هذه التيارات بتفكيكها لدوائر الانتماء أو فكرة الانتماء عمومًا تؤثر في الحركية التاريخية للوجود الإنساني فقط؟ أم إنها يمكن أن تهدد البقاء البشري بدحضها لفكرة الانتماء وسعي الإنسان الطبيعي إليه؟
وفيما يتعلق بقضية فشل الوحدة بين المجموعات القومية، ما المعيار الرئيسي الذي على أساسه تفشل عملية الوحدة؟
د/ أمل شمس:
فيما يتعلق بالربط بين قضيتي حقوق الإنسان وفكرة الانتماء، يلاحظ أن المجتمع الغربي اختزل قضية حقوق الإنسان في حقوق الإنسان الغربي في استغلال غيره من البشر للحصول على أقصى مكاسب ممكنة، مستخدمًا كل الوسائل بما فيها الاستعمار. كيف يمكن الربط أو المقارنة التاريخية بين الممارسة الغربية – في هذا الصدد – وتطور فكرة حقوق الإنسان إلى أن شملت حقوق الطفل والمرأة وغيرها من المجالات التي تفكك الانتماء لبقعة أو دين أو قبيلة، أي الأسس التي قام عليها الانتماء؟ وما الإستراتيجية التي نستطيع من خلالها مواجهة الاستغلال الغربي لقضية حقوق الإنسان؟
إن ما يجري في الممارسة الغربية هو استغلال حقوق الإنسان كفكرة متميزة في التفكيك، وبخاصة في ظل سيادة مفهوم العولمة في الحقبة الراهنة، وبالتالي يتم ضرب مفهوم الانتماء في مقتل، لأن الانتماء لم يعد لدين أو لقبيلة…، وإنما اتسعت دوائره حتى إنها أصبحت ضد فكرة الانتماء للدفاع عن مصالح البشر بالمفهوم المثالي وليس الإنسان بمفهومه البيولوجي.
المهندس/ عبد المعطي:
لدي عدد من الأسئلة:
1- هل يجب أن يكون للدولة انتماء واضح؟ وهل يجب أن ينعكس هذا الانتماء في نصوص الدستور؟
2- ما مدى دور الدولة في تعزيز دوائر الانتماء المتحاضنة؟ فلو كانت الدولة تأخذ بالديمقراطية ولها مشروع واضح فسيصبح من البدهي أن يكون هناك اهتمام بالشأن الوطني ثم القومي فالإسلامي، والمثال على ذلك دولة تركيا التي تتحاضن فيها دوائر الانتماء الثلاث، فهي دولة لديها مشروع تعكسه سياستها الخارجية وخصوصًا الرؤية المتعمقة لوزير خارجيتها، فمتى يتحقق هذا في مصر؟ وهل لابد من وجود الديمقراطية وسيادة القانون لتحصل عملية التحاضن أم لا؟
أ. د/ نادية مصطفى:
أشكر سعادة المستشار على تشريفنا، فهو لا يتردد في الاستجابة لدعوتنا.
لدي انطباع موجز استقيته من بعض الأسئلة، هناك كثير من الأسئلة – وبخاصة عن مشاكل الانتماء داخل مصر – تختزل مفهوم الانتماء وتقصره على الانتماء للوطن فحسب، وأعتقد أن الانتماء للوطن لن يتدعم إلا إذا تدعم الانتماء للدوائر المتكاملة التي تستغرق معنى الانتماء في هذا الوطن.

تعقيب المستشار/ طارق البشري:

سوف أجيب عن الأسئلة من خلال النقاط التالية:
1- الانتماء والولاء والمشاركة:
لقد مثلت مداخلة اللواء علي مسعود إضافة للمحاضرة، والتقسيم الخاص بالانتماء والولاء والمشاركة تقسيم موضوعي وعلمي. وأتصور أن الانتماء هو العنصر الموضوعي الذي نشأ تاريخيًّا، والولاء هو إحساس الجماعة بوجود هذا العنصر، والمشاركة هي توكيد للانتماء ودعم له، لأن الإنسان لا بد أن يدرك ما هو حتمي وما هو أساسي بالنسبة له، وأن يقبله ويجعله عنصرًا من عناصر تكوينه، ويدافع عنه على المستويات المختلفة (قيم، ثقافة، وجود، جماعة) فما ينشأ عليه الإنسان لا يحاول الخروج عليه بل ينتمي إليه.
2- تعدد الانتماءات:
التصنيف الواحد يقوم على معيار محدد مثل معيار الجنسية أو غيرها، مثال ذلك: أنا مصري أم سوداني؟ أنا مصري، أما إذا تعددت التصنيفات تعددت الانتماءات.
قديمًا كان يوجد كتاب يوزع على أبنائنا وهم صغار به صور لمربعات ومثلثات ذات ألوان مختلفة، فهو يدرب الطفل على التصنيف. إن القدرة على التصنيف جزء من السياسة ومن العلم أيضًا، وكلما تعددت التصنيفات تعددت الدوائر وكانت هناك قدرة على التوفيق بينها فضلًا عن منع العنصر العشوائي من التدخل. وتعدد الانتماءات يعني أننا إزاء توافق أو تناحر، إذ يمكن لهذه الانتماءات أن تتناحر أو تتآلف. ولن أتوسع في هذه النقطة لأنه توجد محاضرات أخرى في إطار هذه السلسلة ستشمل هذه الموضوعات، فلا أسبقها ولا تسبقني، فلكلٍّ اختصاصه.
3- قابلية الانتماء للنمو:
يزيد الانتماء وينقص، وهذا يرتبط بفكرة الولاء التي تم التعرض لها آنفًا.
4- تحاضن دوائر الانتماء وإدارته:
الانتماءات مثل التروس يوجد منها الكبير والصغير، ويوجد المربع والمستطيل، وكلها تدور مع بعضها، فهذه تكون حالة الانتماءات لمجتمع يريد أن ينهض، ويحاول أن يربط انتماءاته ببعضها البعض، وينسق بينها بطريقة تجعلها متناغمة مع بعضها البعض.
وقد كانت سياسة محمد علي وهو ينهض بالأمة ناجعة في إدارة دوائر الانتماء، فكانت تركيبة المجتمع الموجود في مصر تتكون من مسلمين وأقباط وألبان وشركس ومماليك وأتراك، فظل يعمل على التنسيق ما بين هذه التكوينات؛ فالأقباط يعرفون جيدًا ما يتعلق بحدود الأرض المصرية، وتحديد الضرائب والعمليات الحسابية، فأوكل لهم هذه المهمة ليفعلوها بكفاءة، أما المماليك فكانوا جزءًا من العسكر بعد قضائه على قادة المماليك الذين كانوا يناوئونه، فاستقطب البقية منهم ليعملوا تحت إمرته وعلمهم فنون الحرب، وولى العثمانيين المناصب العامة العليا في الحكم، وكان يبدل بينهم في الجيوش، فالجيش الذاهب لمحاربة الدولة العثمانية يجعل عدد المماليك فيه أكثر من العثمانيين. لقد كان يدير التكوينات الموجودة لديه على أساس تنسيقي يحدد الغرض منه بكفاءة غير عادية، ويرضي الجميع، ويكسب كل ما يمكن أن يحصله لحكمه ولدولته من إيجابيات تتعلق بهذا الموضوع، ولم تحدث قط في عهده مشاكل متعلقة بالانتماءات.
وعندما قامت ثورة 23 يوليو كان في ذهن قادتها تعدد دوائر الانتماء (الإسلام والعروبة وأفريقيا) فأما الدائرة الإسلامية فلم تفعّل لأسباب سياسية وليس لأسباب تتعلق بالفكر، وفي المقابل كان الانحياز إلى الدائرة العربية بسبب القضية الفلسطينية.
لقد أُصيبت الدائرة الإسلامية بمشكلة التناقض بين السياسات الإستراتيجية للدول العربية؛ ذلك لأن الدائرة الإسلامية تمتد لتشمل تركيا وإيران، وفي إبان الحرب الباردة والصراع الدولي بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية كانت هاتان الدولتان أكثر تضررًا وإحساسًا بالخطر الروسي من الولايات المتحدة الأمريكية، فالأخيرة لم تستعمرهما، أما الروس فكان توسعهم قبل ذلك على حساب أراضي الدولتين، فكان إحساسهما تجاه الخطر السوفيتي يتجاوز كثيرًا الإحساس بالخطر الأمريكي، لذلك تضاربت الإستراتيجيات في ذلك الوقت. وحدث هذا أيضًا معنا في بداية القرن العشرين، حيث كان أحرار الشام ضد الاستبداد التركي العثماني، فكانوا يتدفقون إلى مصر وكان الإنجليز يرحبون بهم، أما المصريون فكانوا ضد الاحتلال البريطاني، فكانت تركيا ترحب بتدفق المصريين المعارضين للاحتلال البريطاني إليها بمن فيهم مصطفى كمال أتاتورك، وذلك يرجع إلى التناقضات الإستراتيجية.
ومع ذلك يمكن القول: إن الدائرة الإسلامية وإن كانت خاملة في ذلك الوقت، إلا أنها كانت موجودة في الوعي الثقافي المصري منذ القِدم.
5- دوائر الانتماء والخصوصية:
لا بد أن تكون لدينا قدرة وقابلية للتفريق والتجميع في الوقت نفسه، أي نقدّر ما يجمعنا مع الآخرين وما يميزنا عنهم. نقدّر ما يميزنا عن الآخر حتى نستطيع أن نحترم خصوصياته، وأُقدر ما يجمعني بالآخرين حتى أستطيع أن أدافع عن المشترك بيني وبينه، وهذا هو التنسيق الواجب. إن التفريق والتوفيق لا يختلفان إذا أحسن توظيفهما كلٍّ في مجاله ودرجته، وهذا الأمر يحتاج إلى سياسة.
6- الانتماء والانفتاح على النماذج الثقافية المتمايزة:
أعتبر رفاعة الطهطاوي من أكابر الفضلاء، لقد كان يريد أن يزيد انتماءه بالأخذ من نماذج الأمم الأخرى وتجاربها، ثم يقوم بعملية هضم حضاري بما يساعد في تطوير الحضارة التي ينتمي إليها.
لا بد أن نتعلم كيف نقتبس نماذج تنظيمية من البلاد الأخرى في الجيش والحكم والإدارة والشركات، لكن ينبغي أيضًا ألا نغفل كيفية إخضاعها للمرجعيات الثقافية والفكرية التي تحركنا.
7- حتمية التاريخ ودوائر الانتماء:
من المهم أن نعرف كيف نعي الحتميات التي تحكم الجماعات وكيف نتعامل معها بالشكل الأمثل، فهي ليست حتميات تفرض على التاريخ، لكن حتميات التاريخ هي التي تفرض ذاتها علينا. فمثلًا لو أردنا فرض حتميات معينة على التاريخ، نقول لابد بعد الحكم القَبَلي أن يأتي الحكم القائم على القومية، إلا أن ذلك لا ينطبق بالضرورة، فأوروبا التي تحولت إلى النظام القومي الأمثل عادت لوحدات ثقافية وعادت إلى وضع الجماعة السياسية على أساس ثقافي وليس على أساس ديني.
8- التركيبة السليمة للقوميات:
يحتاج هذا الأمر لحكومات وطنية وتنسيق بين جماعات مستقلة. إن مشكلتنا الرئيسية أننا لا نملك أمر أنفسنا، وقليل جدًا من يملكون أمر أنفسهم، وربما يعود ذلك في بعض الأحيان إلى حجم الدولة وعدد سكانها؛ فمثلًا دولة عدد سكانها خمسة ملايين لا شك أن ذلك سينعكس على قدرتها وسلوكها السياسي. إن المحك الرئيسي يتعلق بحرية الإرادة الذاتية، ومن المدهش أن كوبا فيها قاعدة أجنبية تحتل بعضًا من أراضيها ومع ذلك إرادتها السياسية مستقلة، في حين أن هناك دولًا ليس فيها احتلال عسكري ومع ذلك تجد إرادتها السياسية كاملة الخضوع للإرادة الأجنبية.
9- مرجعية النظام القانوني وقضية الانتماء:
إن القانون المصري أصله قانون فرنسي، لكن مع مضي الوقت وتطور الثقافة القانونية المصرية تغير الأمر، فبعد بضعة عقود ظهرت إسهامات السنهوري في هذا الصدد، فالقانون المدني بات من خلال إسهامات السنهوري يعكس القانون المقارن في العالم بإدخاله مجموعة قيم شرعية مصدرًا من مصادر التكوين، وحينما ذهب السنهوري إلى العراق ليضع لهم قانونًا مدنيًا يمزج بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، استطاع إخراج قانون مدني يمزج بينهما ببراعة، وكتب مقالة مهمة في بداية الستينيات في مجلة عراقية بعنوان: “نحو قانون عربي مدني جديد” وذكر أن القانون المصري آخر ما وصل إليه الفكر القانوني المقارن في العالم. لا شك أن هناك حاجة إلى دراسات كثيرة في مصر والدول العربية وغير العربية لتوصلنا إلى حدود المقارنة بين القانونين، لنصل بعد ذلك لقانون يكون كل مصدره الشريعة الإسلامية.
كان السنهوري حينما يتحدث يُسكِّن إسهاماته القانونية في إطار النظريات الفقهية، والتي تعد معينًا للفكر الإسلامي، فمن يدرس الفقه الإسلامي يجده من الناحية الفنية والمهنية والعلمية قويًا جدًا ودقيقًا، وانعكس ذلك على ممارسات الفقهاء والقضاة وهم يفسرون القانون الوضعي بقدرتهم على المزاوجة بينه وبين الفقه الإسلامي.
إن حجم الرسائل الجامعية المتزايدة – من ماجستير ودكتوارة – في كليات الحقوق حول المقارنة بين القانون الوضعي والشريعة الإسلامية في مسائل معينة يعبر عن أن القضية ليست غريبة أو بعيدة أو جديدة، والقضية الأساسية هي التقارب بينهما لكنها مع ذلك قد تأخذ شكلًا سياسيًا صداميًا. فإذا أخذنا الجانب الثقافي البحت في الحسبان فستحل المشكلات بشكل أفضل مما يقدمه الصدام السياسي.
10- السند القانوني للانتماء:
هل يكون انتماء الدولة منصوصًا عليه في الدستور؟ نعم ولكن أحيانًا نكتفي بالانتماءات وفق معيار يحتاج للتوكيد، أما المستقر فقد لا نشير إليه. فعلى سبيل المثال كان دستور 1923 ينص على أن مصر دولة مستقلة ذات سيادة، لأن الاستقلال كان مشكوكًا فيه آنذاك، وكنا نحتاج إلى تأكيد الاستقلال بنص دستوري من هذا النوع، وعندما تم الاستقلال فعلًا تم الاستغناء عن هذا النص، ونُصَّ بدلًا من ذلك على أن “مصر دولة عربية”؛ وهذا انتماء ولكن كان هناك حاجة إلى التوكيد عليه.
11- الانتماء إلى الإقليم:
أثارت الدكتورة إيمان موضوعًا مهمًا جدًا أتفق معها بشأنه، فقد كنت أتحدث عن القبيلة وعلاقة النسب وعلاقة اللغة وعلاقة الدين، والدكتورة أضافت أيضًا علاقة الإقليم وأعطت مثالًا عن مصر وهو مثال مهم، فمصر على مر العصور لم تتجزأ، فالحقيقة أن مصر جامعة شاملة لسكانها لكنها ناقصة؛ ناقصة لأن أمنها القومي يقع خارجها. إن مصر مثل إنسان أمعاؤه خارج جسمه، فالأمعاء هي الأمن القومي لمصر، والأمن القومي لمصر يقع خارج حدودها، وهناك من يصوب السلاح على رأسه – وهذا من جهة الشمال الشرقي – ومأساتنا دائمًا تأتي من جهة أمننا القومي.
وعندما تم بناء السد العالي لم يكن ذلك لتوسيع رقعة الأرض الزراعية أو تنمية الاقتصاد فحسب، فمصر قبل بناء السد العالي كانت لا تستطيع أن تملك زمام أمرها من المياه لمحصول واحد لسنة واحدة. ولم يكن سد أسوان كافيًا لاحتياجات مصر المائية لأكثر من سنة واحدة، وهذا الأمر يعبِّر عن امتداد أمعاء الجسد المصري خارجه.
12- مقاومة المشروع الإمبراطوري:
أتصور أن بلادًا كثيرة تقاوم هذا المشروع وأخرى لا تقاومه. فكلما قويت الدولة القطرية قلت المقاومة للاستعمار، وكلما ضعفت قويت الحركات الشعبية القادرة على ضرب الاستعمار لأن الاستعمار لديه من العدد والعدة والأجهزة والتكنولوجيا والفكر والخطط والمال ما يستطيع به أن يهزمك في أي معركة نظامية. إن الحل الوحيد عندما تدعو الضرورة إلى أن تتحرك إما بالعصيان أو بالمقاومة الشعبية الإيجابية، وكلاهما ترفضه الحكومات المركزية، فكلما قويت الحكومة المركزية قلت إمكانية هذه المقاومة.
إن دراسة التجارب المختلفة للحركات الشعبية في البلاد المختلفة، توضح أن لبنان أكثر الدول العربية قدرة على مقاومة إسرائيل، والصومال قادرة على تحريك مشاعر الخوف لدى الولايات المتحدة، إن المعضلة الرئيسية التي نحن بصددها هي: كيف يمكن التوفيق بين إمكانيات الدولة في حفظ التوازن الداخلي وفي إدارة الشأن اليومي خصوصًا البلاد التي لا توجد بها طوائف، كيف يمكن القيام بهذه الأمور من جانب وفي الوقت ذاته أن نمارس المقاومة.
هذه المعضلة حاولت ثورة 23 يوليو حلها، فكانت تريد إخراج البريطانيين من البلاد وتُشكِّل في البلاد مقاومة شعبية، وليس من المفترض أن تترك المقاومة وهي تقوم بإلغاء الأحزاب، فألغت الأحزاب ونزل ضباط من الجيش للمقاومة ووفقت بين الأمرين. كما أرادت نقل هذه التجربة إلى فلسطين فذهب مصطفى حافظ لتدريب كتائب المقاومة الشعبية في فلسطين. ومثل هذه الأمور لا شك أنها تحتاج إلى حلول مبتكرة.
13- قضية العنف الطائفي:
لا تعكس الصحافة في مصر حقيقة الأوضاع الثقافية للمواطن المصري بشكل جيد، بل إنها على العكس قد تكون سببًا في مثل هذه الأزمات في العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، ولا شك أن ذلك يعود إلى قصور في المهنية، لذا ينبغي على كل محترف مهني أن يكون معبرًا عن الواقع الاجتماعي بالاندماج فيه لمعرفة حقيقته.
14- النخبة المصرية وفشل مشروعات الوحدة القومية:
إن قضية فشل النخبة في تحقيق الوحدة على المستوى القومي قد تكون أمرًا مقبولًا إذا كانت تشير إلى نخبة محددة في زمان محدد، أما إذا كان فشل النخب على تعاقب أجيال بعد أجيال ونظم بعد نظم وسنين بعد سنين فالظاهرة حينئذ لا تختزل في التعويل على النخب.
15- الهوية والأمن القومي:
لا شك أن تهديد الهوية يهدد الأمن القومي، وإن لم يدرك الإنسان ذاته وتمايزه فقد فرط في أمنه وأمن الجماعة السياسية التي ينتمي إليها.
16- ما بعد الحداثة وتأثيرها على قضية الانتماء:
أرى أن الغرب لا يتفكك من الناحية السياسية، فلقد كانت أوروبا مفككة قبل الحرب العالمية الثانية والآن أصبح هناك اتحاد أوروبي. إنهم لا يتفككون بل يفككوننا.
17- قضية حقوق الإنسان والجماعة السياسية:
إن الحق أساسًا إنما هو للجماعة ثم ننظر بعد ذلك لحقوق الأفراد، ولكن حقوق الإنسان ليست بهذا الإطلاق الذي يتم تصويره. لا يمكن للإنسان أن يتحرر وجماعته ليست متحررة، لذلك في الخمسينيات والستينيات كنا نتحدث عن حقوق الإنسان نحن الشعوب الآسيوية والأفريقية مركزين على حق تقرير المصير، وعلى مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية. ولكن في الفترة الراهنة أصبحنا نركز على حقوق المرأة والرجل والطفل.
*****

الهوامش:

* عقدت هذه المحاضرة في 7 أبريل 2010، بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ضمن أعمال ملتقى الحضارة الذي نظمه مركز الحضارة للدراسات السياسية. ونشرت في: د. نادية محمود مصطفى، أسامة مجاهد، ماجدة إبراهيم (محررون)، دوائر الانتماء وتأصيل الهوية، سلسلة الوعي الحضاري (5)، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، دار البشير، 2013).
** مفكر ومؤرخ مصري، ونائب رئيس مجلس الدولة سابقًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى