الهجمات على أمريكا.. ومستقبل العالم

يعد الهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك وعلى البنتاجون في واشنطن أخطر الأحداث العالمية وأهمها، منذ أحداث تفكك الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة. وإذا كانت الأخيرة قد نتجت عن تحولات عالمية كما أفرزت تحولات أخرى، فإن ما يُسمّى الآن “الحرب على الولايات المتحدة” لا بد وأن يؤثر على حالة العالم؛ لأن هذه “الحرب” إنما تصيب في الصميم كل ما تمثله الولايات المتحدة في النظام العالمي بعد الحرب الباردة؛ كما تختبر هذه الحرب أهم تفاعلات هذا النظام وقيمه وقواعده. ولهذه الأسباب والآثار النُظمية والهيكلية المحتملة، تنبع أهمية تسجيل بعض النقاط من واقع متابعة الأيام الثلاثة الأولى منذ وقوع الهجمات.

فبعد نهاية الحرب الباردة، تعددت الأطروحات عن هيكل النظام الدولي ونمط تفاعلاته وطبيعة قواعده وقيمه الحاكمة. ومن أهم هذه الأطروحات: من ناحية أن أمريكا هي القوة العظمى الوحيدة، ومن ناحية أخرى صراع الحضارات بين الحضارة الغربية وغيرها من الحضارات؛ (ومن ثم كون الجنوب مصدرًا أساسيًا من مصادر التهديد للاستقرار العالمي ولمنظومة القيم الغربية)، ومن ناحية ثالثة عن كيفية إقامة نظام عالمي جديد تسوده قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.

أمريكا تجني حصاد أعمالها

وخلال التسعينيات، تعددت محطات اختبار هذه الأطروحات على نحو أثار التساؤلات حول حقيقة العصر الذي نعيشه. ومن أهم محصلات ونتائج تفاعلات هذا العقد واختباراته ما يلي:

أولاً: أن القوة العظمى الأمريكية تدرك مصالحها وأمنها على نحو منعزل عن أمن واستقرار بقية مناطق العالم؛ ومن ثم فهي لا تقود العالم بل تُسيره بإرادة منفردة.

ثانيًا: أن الأبعاد الحضارية الثقافية قد أخذت وضعها بوضوح – إلى جانب الأبعاد الاقتصادية والسياسية – للفجوة بين الشمال والجنوب، ولم يكن مؤتمر دوربان الأخير لمكافحة التمييز العنصري إلا محطة الاختيار الأخيرة لمدى ما أضحت عليه هذه الفجوة من عمق.

ثالثًا: أن قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان يتم استدعاؤها وتطبيقها فيما يختص بقضايا الشمال ومصالحه فقط، كما لو أن ما يُسمّى منظومة القيم الغربية لا تجد مجالاً للتطبيق في مكان آخر، ذلك بالرغم من الادعاء بعالميتها والعمل على فرضها بشتى الطرق المرنة أو الصلبة.

الدلالات الدولية

وتأتي أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 فتهز العالم – ليس لنمطها الجديد أو ما ترتب عليها من خسائر بشرية ومادية فادحة – فلقد سبق وعانت مناطق عديدة من العالم من خسائر أكثر فداحة؛ وإن كانت هذه هي المرة الأولى، منذ ما يزيد عن النصف قرن، الذي تتعرض فيه أراض أمريكية لمثل هذه الخسائر. ولكن جاءت هذه الأحداث – أيًا كان وصفها “كارثة قومية أمريكية” أو “هجوم على أمريكا” و”أعمال حرب ضد أمريكا” أو “أعمال إرهابية ضد أمريكا”- جاءت محمّلة بالعديد من الدلالات حول حال العلاقات الدولية.

ويمكن تسجيل ملاحظاتي الخاصة لهذه الدلالات على أربعة مستويات، وهي: وضع الولايات المتحدة في النظام العالمي ومصادر تهديد أمنها، علاقات التحالف الغربي أي علاقات الولايات المتحدة بحلفائها ومن بينها إسرائيل، العلاقات مع الجنوب، الداخل الأمريكي وأثره على السياسة الخارجية الأمريكية وتفاعلاتها العالمية.

المستوى الأول: وضع الولايات المتحدة في النظام الدولي

الأمن الأمريكي لا ينفصل عن أمن العالم، ومصادر تهديده ليست خارجية فقط. فمنذ نهاية الحرب الباردة، والإستراتيجية الأمريكية “العالمية” تضع “الإرهاب الدولي” على قائمة ما تراه من مصادر التهديد لاستقرار العالم وأمنه. ومن ثم جعلت الإدارة الأمريكية من محاربة الإرهاب أحد أهم أهداف هذه الإستراتيجية، وأحد أهم قضايا السياسة الخارجية الأمريكية.

وإذا كانت أهداف أمريكية قد تعرضت خلال العقدين الماضيين لما يُسمى ضربات إرهابية متتالية – وراء البحار- (بيروت، لوكيربي، السعودية، كينيا، وتنزانيا، ميناء عدن)، فإن الأراضي الأمريكية تعرضت لعمليتين أخريين إحداهما في مركز التجارة العالمي (1993)، والثانية في أوكلاهوما (1995)؛ وحيث اقترنت هذه الضربات (ما عدا أوكلاهوما) بعناصر “شرق أوسطية”، فلقد استقر في الإدراك الأمريكي أن الجنوب بصفة عامة والشرق الأوسط بصفة خاصة – والعرب المسلمين بصفة أخص – هم مصدر هذا التهديد الإرهابي في ظل ما يُسمى الصراع مع “الأصولية الإسلامية”، وتصاعد عواقب عدم تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي.

بعبارة أخرى، لم يكن الداخل الأمريكي مرشحًا بقوة لمعايشة مثل هذه التهديدات والضربات الإرهابية. ولذا فإن السياسات الأمريكية ركّزت على إجراءات مقاومة الإرهاب فيما وراء البحار، بعيدًا عن واحة الأمان الأمريكية. وبالمنطق نفسه- أي منطق حماية “الجزيرة الأمريكية” وعزلها عن مصائب العالم وتهديداته – تبلور من جديد منطق الدفاع عن حيوية إقامة درع الصواريخ الأمريكي بالنسبة للأمن العسكري الأمريكي، وحمايته من مصادر التهديد العسكرية الخارجية.

وتأتي الهجمات على نيويورك وواشنطن- انطلاقًا من طبيعة عملياتها المبتكرة والدقيقة – بدلالات عديدة مختلفة. فهي هجوم مباشر من داخل الأراضي الأمريكية وبطائرات أمريكية مدنية مخطوفة، وهي هجوم ليس على أرض وشعب أمريكي فقط ولكنها هجوم على أهم رمزين من رموز القوة الأمريكية العالمية أي القوة المالية والعسكرية، بل هما أهم رموز الحضارة الغربية بقيمها المادية عن الرفاهية وعن الأمن؛ ولهذا وُصفت هذه الهجمات بأنها غير مسبوقة وغير متوقعة.

ولكن تأكدت معها معان جديدة عن طبيعة الحرب التي يمكن أن تتعرض لها قوة عظمى تمتلك أضخم ترسانة عسكرية رادعة في العالم، والتي سبق وأذاقت دولاً وجماعات عدة صنوف من أعمال الحرب. فلقد بات واضحا – بعد هذه الهجمات – أن مثل هذه الدولة يمكن أن تهتز مصداقية أمنها المطلق وتفوقها المطلق. والمهم في هذا الصدد، أن ذلك الاختبار الذي واجهه الأمن الأمريكي لم يتم بواسطة تهديد خارجي من قوة عالمية مناظرة أخرى؛ ولكنه تم بواسطة أفراد ينتمون إلى جماعات ذات عقائد خاصة أياً كانت هذه العقائد، استطاعوا أن يُوجهوا مثل هذه الضربات – التي وصفها المراقبون والساسة الأمريكيون – أنها بمثابة إعلان حرب على الولايات المتحدة الأمريكية.

إنه إذن ميلاد نمط جديد من الحروب تشاهدها الأرض الأمريكية؛ فهي حرب من الداخل ونحو الداخل (مهما قيل عن امتداداتها الخارجية)؛ فمهما تصاعدت اتهامات المراقبين والمحللين الغربيين لأطراف الشرق أوسطية وعلى رأسها أسامة بن لادن، فإن المسئول عن هذه الهجمات لم يتحدد نهائيا بعد.

بل إن الخطاب الأمريكي الرسمي نفسه لم يوجه الاتهام لطرف محدد؛ وإن كانت بعض الآراء المتناثرة والمنخفضة الصوت قد أشارت بأصابع الاتهام إلى قوى أخرى – قد تكون مسئولة عن هذه الهجمات، مثل قوى اليمين المتطرف الأمريكي ذاته، أو جماعات إرهابية غربية عالمية تتبنى مواقف إيديولوجية مناهضة للرأسمالية والديمقراطية الغربية.

ولذا نتساءل نحن: هل تستبعد السلطات الرسمية الأمريكية وأجهزة الإعلام الغربية مسئولية قوى أمريكية من الداخل ذات أهداف تتصل بالمجتمع والسياسة الأمريكية الداخلية والعالمية؟ ولماذا هذا الإصرار على المصادر الخارجية؟ هل الداخل الأمريكي بخير؟ ألا يمكن أن يأتي الضعف من الداخل؟ أليس هذا ما يخبرنا به تاريخ سقوط الإمبراطوريات الكبرى؟

ومن ناحية أخرى، فإن التهديد الذي أعلنت عنه وجسدته هذه الهجمات إنما يبين – بفرض مسئولية أطراف خارجية – أن أمن الولايات المتحدة ليس بعيد المنال، وأنه لا ينفصل عن أمن واستقرار العالم وحل مشاكله المختلفة بطرق عادلة وديمقراطية حقة، وأن الأمن القومي الأمريكي الشامل لا يتحقق بإجراءات عسكرية وتوازنات قوى عالمية فقط، ولكن يجب أن تدعمه إجراءات أخرى تنبع من طبيعة سياسات الولايات المتحدة تجاه القضايا العالمية.

تلك السياسات التي تثير التقديرات حول مسئوليتها عن تفجير العداء لأمريكا؛ وهو العداء الذي يستند عليه الكثيرون في تفسير حدوث مثل هذه الهجمات، وحول ضوء ما سبق ذكره من تحديات تفرضها الهجمات الأخيرة على وضع الولايات المتحدة من النظام الدولي ومكانتها العالمية ومدى مصداقيتها؛ ومن ثم يثور التساؤل التالي: كيف سيكون رد فعل الولايات المتحدة؟.

المستوى الثاني: طبيعة رد الفعل الأمريكي

من البديهي، أن ترتبط ماهية رد الفعل بالتكييف الأمريكي الرسمي لطبيعة هذه الهجمات وأهدافها وأثارها من الأمن الأمريكي، وعلى الدور الأمريكي في قيادة العالم. ومن واقع خطاب بوش، ومن واقع خطابات بلير وقادة حلف الناتو – منذ وقوع الهجمات – نلحظ تكييف الهجمات بما يلي: بأنها هجمات ضد الديمقراطية والحرية، ليس في الولايات المتحدة فقط ولكن ضد العالم الحر والعالم المتمدن؛ وبأنها حرب بين الخير والشر؛ وأنها هجمات من عدو جديد ضد الجميع؛ وأنها إعلان عن معركة القرن 21، أي المعركة بين منظومة القيم الغربية وأعداء الحضارة الغربية؛ وأن العالم يجب أن يتوحد ويتحالف ضد هذا العدو للقضاء عليه.

والجدير بالتسجيل هنا، هو أن إسرائيل قد أدخلت نفسها في غمار هذا التكييف، باعتبارها جزءًا من الحضارة الغربية والعالم الحر الذي يواجه إرهاب الأعداء. فمثلا تحدث إيهود باراك ولمرتين متتاليتين – خلال 5 ساعات منذ بداية الهجمات في محطة BBC المرئية – قائلا ومؤكداً “أن عالمنا المتمدن المتحضر في خطر، ويحتاج للتحالف وللتضامن للوقوف ضد الإرهاب.. هذا العدو الذي يهدد العالم الحر بأكمله”.

ومن أقوى صور التضامن الغربي الواعي وراء الولايات المتحدة، ذلك القرار الذي صوّت عليه بالإجماع – في اليوم الثاني بعد الهجمات – أعضاء الناتو؛ وذلك لأول مرة في تاريخه، لإدخال المادة الخامسة الخاصة بالدفاع الجماعي محل التنفيذ. وبمقتضى ذلك القرار، تعلن دول الناتو أن الاعتداء على الولايات المتحدة هو اعتداء عليها يستوجب اتخاذ إجراءات الدفاع العسكري الجماعي؛ وهو الأمر الذي يعني استعداد الناتو لمساندة أي خيار عسكري تقرره الولايات المتحدة ضد من تعتبرهم مسئولين عن الهجمات.

والجدير بالملاحظة، أن خطابات بوش – وخاصة ذلك الخطاب الصادر من البيت الأبيض في اليوم الثاني من الهجوم – قد تضمن الإشارة إلى التحالف مع القوى الصديقة لمواجهة العدو الجديد؛ وهو الأمر الذي فسره البعض بأنه رغبة من الولايات المتحدة في اقتسام الأعباء السياسية والمادية لهذه المعركة العالمية الجديدة؛ حيث إن الولايات المتحدة لن تستطيع الاستمرار في إدارة العالم بمفردها.

ومع ذلك، تظل طبيعة رد الفعل الأمريكي لهذا التحدي – الذي فرضته هذه الهجمات على الصورة الأمريكية في العالم – محل تساؤل لم تتحدد بعد الإجابة النهائية عليه. هذا ولقد انقسمت الاتجاهات في الأوساط الغربية والأمريكية حول ما يجب أو يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة، ويمكن تمييز اتجاهين أساسيين:

اتجاه يتحدث عن عقاب المهاجمين بعد تحديدهم بدقة، مع ضرورة تساؤل الولايات المتحدة عن أسباب تصاعد العداء ضدها، والذي يُعرضها لمثل هذه الهجمات، حتى تتحكم في المستقبل من علاج الأسباب وتفادي تكرار مثل هذه الأحداث العدائية.

أما الاتجاه الثاني، فيدعو إلى الحرب وليس إلى محاكمات وإجراءات قانونية وسياسية، أي يدعو لاستخدام القوة العسكرية بشدة وبسرعة ضد المعروفين بمساندتهم للإرهاب؛ وهي بالطبع الدول والجماعات التي تضعها الإدارة الأمريكية على قائمة الإرهاب الدولي.

وفي حين تضمنت تصريحات أخيرة لبوش الإشارة إلى ضرورة التؤدة والأناة في تحديد المهاجمين ومن يساندونهم حتى يتم عقابهم، فإن الاتجاه الثاني يعلو صوته في الأوساط الأمريكية والغربية والإسرائيلية في حين لا يجد الاتجاه الأول مساحة كافية للتعبير عن نفسه. ولذا – ومع بداية اليوم الثالث منذ الهجمة 13-9 تواتر الحديث عن قرب وقوع ضربة عسكرية أمريكية ضد أفغانستان، إذا لم تسلم الأخيرة أسامة بن لادن المتهم الأول عن الحادث في نظر الأوساط الأمريكية والغربية.

أما ردود فعل الأوساط العربية والإسلامية الرسمية، فلقد اتسمت بسمتين أساسيتين: إدانة الهجمات بشدة، والتعبير عن التضامن مع الشعب الأمريكي وحكومته لمواجهة هذه الكارثة، وإدانة أية أعمال إرهابية ضد المدنيين، مع تجنب إلقاء المسئولية على السياسات الأمريكية عن تحفيز مثل هذا العداء؛ وكذلك تجنب التعرض لطبيعة رد الفعل الأمريكي المحتمل.

وباستثناء هذه القاعدة، جاءت بعض التصريحات العراقية المقتضبة حول أن أمريكا تذوق الآن ما سبق وأذاقته للعالم؛ وكان لكاسترو السبق على غيره من قادة دول الجنوب بفضل تذكرة الولايات المتحدة بضرورة مراجعة سياستها العالمية التي تُولد مثل هذا العداء.

بعبارة أخرى، في حين يجمع الشمال أو الغرب صفوفه إلى جانب أو وراء أمريكا – فيما يفترض أن يكون حربا حضارية معلنة على الحضارة الغربية – فإن أبناء الحضارات الأخرى وخاصة الإسلامية (العربية منها وغير العربية) لم يكن أماهم إلا الإدانة والاعتذار والدفاع وإعلان التضامن، في حين يبدون هم موضع الاتهام – كما كانوا ضحايا السياسات الأمريكية الجائرة – بأكثر من صورة وعلى أكثر من مستوى.

هذه الصورة تبين استحكام شدة ثنائية قائمة في العالم؛ وهي ثنائية الشمال – الجنوب، ولكن في ثوب جديد وأكثر خطورة من الأثواب التي سبق وارتدتها في ظل الحرب الباردة، وفي مرحلة ما بعد الحرب الباردة.. وهاهي تدخل الآن مرحلة جديدة – مرحلة ما بعد الهجوم على نيويورك وواشنطن – بعد أن كان مؤتمر دوربان قد أفصح عن مؤشرات مولدها.. وكان للهجمات فضل الإعلان عن ميلادها. ولذا لا بد وأن نتساءل: ماذا عن الآثار بالنسبة للعلاقة مع الجنوب؟

المستوى الثالث: مستوى العلاقات مع الجنوب

من واقع متابعة خطاب الأوساط الغربية والأمريكية في بعض وسائل الإعلام المرئية، نلحظ اتجاها هجوميًا – وإن لم تحدد بعض روافده مصادر محددة للهجمات، وإن حدد بعضها الآخر أسامة بن لادن صراحة – إلا أنها جميعًا تتفق على أن الحضارة الغربية في خطر، ومن ثم يجب الوقوف بقوة أمام هذا الخطر، حيث إن الولايات المتحدة الآن في حالة حرب؛ ولكن يظل السؤال قائمًا: حرب مع من؟ هل مع الجنوب كله الذي يرزح تحت بؤر ما يُسمى بالإرهاب؟

أما وسائل الإعلام العربية، فتسودها التعليقات والتحليلات عن مسئولية السياسات الأمريكية العالمية، وعن خطورة المكاسب الإسرائيلية في هذه الأيام في ظل الدخان المتصاعد من نيويورك وواشنطن. وإذا كانت هذه التحليلات والتعليقات المذاعة تتوخى العقلانية و”الرشادة”، فلا أحد ينكر أن الانفعالات الطبيعية لدى الشارع الإسلامي العربي وغيره تحمل رياحًا أخرى؛ وهي رياح ” الارتياح” والغبطة مما حدث للولايات المتحدة التي عانى هذا الشارع من عواقب سياساتها الجائرة وغير العادلة وغير الديمقراطية في مناطق شتى من العالم الإسلامي.

ولهذا كله، فإن السؤال الكبير المطروح الآن هو: كيف سيتغير موقف القوى الغربية الكبرى ـ وهي تعد لحرب شاملة ضد الإرهاب الدولي لاستئصاله ـ من قضايا الجنوب برمته السياسية والاقتصادية أو العسكرية؟ هل سيزداد تهميش الجنوب الذي بدأ منذ نهاية الحرب الباردة؟ هل ستتعمق الفجوة بين مواقف الشمال ومواقف الجنوب؟ هل ستتعرض نظم الجنوب وسياساته لمزيد من الضغوط؛ عقابًا على انتمائها لحضارة أخرى برزت منها مصادر تهديد للحضارة الغربية؟

وهنا يجب التوقف لتوضيح أمر هام: وهو أن السيناريو الجاري لا يدلل على صراع حضاري لمجرد اختلاف الحضارات؛ ولكنه يدلل على صراع من جراء إساءة توظيف خلل ميزان القوى العالمي لصالح اتجاه حضارة معينة للهيمنة على حضارات أخرى، دون مراعاة فعلية لما تعلنه هذه الحضارة من قيم ومبادئ تدّعي عالميتها وصلاحيتها للجميع.

المستوى الرابع: الداخل الأمريكي

ركّز جانب هام من عملية تغطية أحداث الهجوم على ردود فعل الشارع الأمريكي القريب من موقع الهجوم، ويبدو أن أهم سمات ردود الفعل هذه كانت كما يلي: شهد الأمريكيون معركة لم يتوقعوها أبدًا، لم يتصوروا أبدًا أن تتعرض عاصمتا المال والسياسة في أقوى دول العالم لمثل هذا الهجوم.. لم يصدقوا ما حدث.. لم يعرفوا لماذا حدث وكيف حدث؟ لم يدركوا في البداية فداحة ما كان يحدث.

وكان لا بد أن يعقب الصدمة والارتجاف وعدم التصديق شيء آخر- وهو الغضب. كيف سيتم التعبير عنه؟ وكيف سيتطور؟ وكيف سيؤثر على اتجاهات السياسة الأمريكية؟ كان لا بد ـ وقد حملت أجهزة الإعلام الغربية مسئولية توجيه الاتهام للعرب والمسلمين ـ أن يكون مسلمو وعرب أمريكا الساحة الأولى للتعبير عن غضب الشارع الأمريكي.

ومن هنا، كان حرص قادة وأجهزة المنظمات الأمريكية الإسلامية والعربية على أمرين: من ناحية، توجيه التحذيرات والإرشادات عن كيفية مواجهة أعمال العنف والتمييز المضادة، ومن ناحية أخرى كيفية تأكيد تضافرهم مع المجتمع الأمريكي باعتبارهم جزءًا منه؛ ومن ثم فإن هذا المناخ النفسي والعملي – الذي يحيط بالجماعات المسلمة والعربية في أمريكا في هذه الآونة – يطرح التساؤل حول حقيقة مقولة التعددية الثقافية التي ترفعها الحكومات الغربية والأمريكية، وحول حقيقة اندماج هذه الجماعات في مجتمعاتهم الجديدة، وحول ثقلهم النسبي في التأثير على الرأي العام والسياسة الأمريكية نحو اتجاهات جديدة أكثر تضامنا مع قضايا الأوطان المسلمة العربية منها وغير العربية.

ومن ناحية أخرى، تثور قضية الداخل الأمريكي بعد الهجمات على صعيد آخر- وهو تأثيره على مسار السياسة الأمريكية- فمن المسلمات الأكاديمية في مجال دراسة السياسة الخارجية الأمريكية، تلك القائلة بأن الرأي العام الأمريكي لا يهتم بقضايا السياسة الخارجية ولا يضغط بشأنها إلا بقدر تأثيرها المباشر على مصالحه. وكانت خبرة حرب فيتنام من أكثر الخبرات وضوحًا، وكذلك خبرة الحظر البترولي، فهل سيصبح لخبرة الهجوم على نيويورك وواشنطن دلالاتهما أيضًا؟ وفي أي اتجاه؟ هل نحو مزيد من الانعزال عن مشكلات العالم؟

وحيث إن هذا لم يعد ممكناً في مرحلة العولمة، فهل سيكون التأثير نحو اتجاه أكثر “تدخلية” لمزيد من العقاب والانتقام من الجنوب؟ أم نحو الدعوة لمزيد من مراجعة السياسات الأمريكية العالمية – وخاصة تجاه مناطق العالم الإسلامي – على نحو يساعد على علاج أسباب العداء المتصاعد ضد الولايات المتحدة؛ وهو العداء الذي لا يرجع إلى صراع حضاري وعداء للحضارة الغربية، بقدر ما يرجع إلى عدم عدالة وعدم ديمقراطية سياسات الولايات المتحدة التي تدّعي أنها قائدة العالم الحر، عالم الديمقراطية الإنسان؟

لعل من أكثر مناطق العالم تأثرًا بما يحدث في الولايات المتحدة من مراجعات، هي مناطق الصراع العربي- الإسرائيلي؛ وفي قلبها الانتفاضة الفلسطينية في مواجهة العدوان الصهيوني الصارخ، وفي ظل المراقبة العربية الوجلة والعاجزة، التي تخشى عواقب رد الفعل الأمريكي على نحو أغلق أعينها عما أخذت إسرائيل في تصعيده، أي الاتجاه نحو إعادة احتلال جنين وأريحا في الضفة الغربية.

إن الأوضاع الدولية الراهنة – في ظل ما سيكون للهجمات من عواقب سريعة الأجل أو طويلة الأجل – تقتضي من النظم العربية تفعيلا واضحًا لحركتها، يأخذ في الاعتبار ما تتجه إليه إسرائيل من استغلال للفرص لإتمام خطتها التي بدأها شارون في 28 سبتمبر 2000، وللحديث بقية في هذا الشأن.

نشر في موقع إسلام أون لاين، في 15 سبتمبر 2001

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى