في مفهوم حوار الحضارات والثقافات: إشكاليات الجدوى والفعالية

شهدت ساحة العلاقات الدولية خلال التسعينيات أحداثًا، ووقائع، ومناظرات وسياسات عديدة تترجم صعود الاهتمام بالعلاقة بين الحضارات، كما تعاقبت المؤلفات والمؤتمرات والندوات العالمية والإقليمية والمحلية التي تناقش إشكاليات هذه العلاقات بين الأنا والآخر، بين نحن وهم. وفي المقابل توالت المبادرات الرسمية أيضًا التي تعكس معاني وأهداف الحوار بصفة خاصة، ومن أهمها مبادرة الرئيس خاتمي، ومبادرة الأمم المتحدة.
بعبارة أخرى ماجت الساحة الأكاديمية والفكر والسياسة بالأنشطة حول هذا الموضوع، والتي شارك فيها باحثون من تخصصات مختلفة فلسفية، اجتماعية، سياسية، إعلامية، أديان مقارنة، تاريخ حضارات علوم شرعية ودراسات إسلامية … ناهيك عن المراقبين، وقادة الفكر والرأى العام والإعلام وعلماء الإسلام. وفي خضم هذا الزخم المتواتر والمتعاقب بلا توقف، والمنتشر بلا حدود بين مستويات متنوعة من الأنشطة، كان لابد لمتخصص العلاقات الدولية أن يسعى للتأصيل النظري لهذا الموضوع.
على ضوء قواعد وأسس الدراسة العلمية للعلاقات الدولية في مرحلتها الراهنة: أي الموصوفة بمرحلة ما بعد الحرب الباردة، أو مرحلة المراجعة النقدية لحالة العالم.
وكان الدافع لهذا التأصيل، والمبرر للحاجة إليه هو حالة الغموض والفوضى والتداخل والحركة في دوائر مفّرغة، والتي أحاطت بدراسة هذا الموضوع والحركة من حوله، والتي تبين الافتقاد للمنهج والرؤية، بالرغم من درجة الأهمية المرتفعة التي اكتسبها المفهوم.
ويبدأ تشخيص الحالة وتفسيرها من تحديد السياق الذي أفرز الاهتمام في الدائرة العربية والإسلامية بالعلاقة بين الحضارات، والاتجاهات الفكرية حول نمط هذه العلاقة، وموضع الحوار بالمقارنة بالصراع، وصولًا إلى معرفة من يحاور من أو يصارعه فكريًا؟ وحول ماذا تدور القضايا وكيف تكون آليات الحوار وقنواته؟
وهذا التشخيص تمهيد ضروري لتحديد ملامح رؤية إسلامية للحوار.

أولًا- سياق الاهتمام بالعلاقة بين الحضارات والاتجاهات حول نمط هذه العلاقة وأجندتها:

لم يبدأ الحديث عن حوار الحضارات بذاته ولكنه اقترن بقوة بالحديث عن صراع الحضارات، كما لم يبدأ هذا الحديث بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001؛ كما قد يعتقد البعض، ولكن قبل ذلك بعدة سنوات، وإن كان قد اكتسب زخمًا فجًا منذ هذه الأحداث مبرزًا بذلك وزن الأبعاد الثقافية الحضارية في تحليل العلاقات الدولية. ولم يكن معظم الحديث في الموضوع بشقيه الحوار أو الصراع بقدر ما كان حوله، وكذلك تركز معظم الحديث حول إشكالية حوار أم صراع أي حول نمط العلاقة بين الحضارات وذلك على حساب الأبعاد الأخرى للموضوع؛ قضاياه، آلياته وشروط انعقاده وأطرافه. وأخيرًا التقت الاتجاهات المختلفة حول وضع الإسلام والمسلمين بصفة خاصة باعتباره يمثل ساحة أساسية في خريطة هذا الموضوع؛ حيث تتقاطع بالطبع مع قضية نمط العلاقة بين الحضارات مناطق أخرى مثل العلاقة بين القيم والأخلاق، وبين الأبعاد المادية، العلاقة بين الأديان.
ويمكن التفصيل في السمات السابقة وتفسيرها على النحو التالي:
من ناحية: أضافت أحداث 11 سبتمبر زخمًا للاهتمام بالموضوع. وهو الاهتمام الذي كان تفجر مع نشر هنتنجتون مقاله الشهير في 93 باسم صدام الحضارات، وبدون الدخول في تفاصيل أطروحات هنتنجتون يكفي الإشارة إلى الملاحظتين التاليين: إن طرح هنتنجتون يقدم نموذجًا لتفسير السياسات العالمية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، يقوم على وحدة تحليل مغايرة للتي درج الاهتمام بها في الحقل، ألا وهي الحضارة باعتبارها من القوى المحركة والمفسرة للعلاقات الدولية. وبذا فإن هنتنجتون عبَر عن بروز الاهتمام بالأبعاد الثقافية والحضارية وفي مجملها الدين. ومن ناحية أخرى: مقولات هنتنجتون واضحة وصريحة حول الصدام بين الإسلام والغرب صدامًا حضاريًا ودينيًا، وهنا يجب الوعي لأمرٍ هام؛ وهو أن هانتنجتون لم يضع فقط الإسلام كعدو للغرب، ولكن يبرز تحليله وبقوة كيف أن الغرب هو عدو الإسلام والمسلمين والحضارات الأخرى. فإن غير المعلن لدى هنتنجتون هو أن مصدر التهديد بالصدام بين الحضارات هو هيمنة الغرب وقوته وليس الحضارات الأخرى حيث إن الأخيرة تصحو في مواجهة هذه الهيمنة الغربية ولهذا فهى تمثل تحديًا وخطرًا ثقافيًا على الغرب أن يواجهه.
وبدون الدخول في تفاصيل القراءات النقدية لأطروحات هنتنجتون يكفي القول في هذا المقام إنه قد تولد حولها جدال تفرع بين عدة اتجاهات اختلفت حول نمط العلاقات بين الحضارات وقدمت إجابات متنوعة حول مجموعتى الأسئلة التاليتين من ناحية: هل تعد الحضارة والأمة وحدة للتحليل في العلاقات الدولية؟ ما فائدة مفهوم الحضارة لدراسة العلاقات الدولية؟ ما قدر الأهمية الذي يجب إعطائه للأبعاد والقيم الثقافية، والدينية سواء عند دراسة العلاقات الدولية أو صياغة السياسات الدولية. ومن ناحية أخرى هل صراع الحضارات قد حل محل صراع القوى أو صراع الطبقات كمحرك للعلاقات الدولية؟ هل حوار الحضارات أم صراعها يقتصر على الأبعاد القيمية والثقافية أم يمتد إلى الأبعاد المادية للقوة وقضاياه؟ ما شكل حالة التوازن العالمي الذي يسمح بحوار حضارات سوى وفاعل؟ وقبل هذا وذاك يأتي السؤال: ما هو أصل العلاقة بين الحضارات: الحوار أم الصراع؟ وهل يصح طرح السؤال على هذا النحو أم يجب التساؤل متى يكون الحوار؟ ومتى يكون الصراع؟ على اعتبار أن الاختلاف بين الحضارات في حد ذاته ليس هو السبب في الصراع، وحيث إن السياقات الدولية هي التي تؤثر على بروز إحدى الحالتين على الأخرى وفقًا لطبيعة المرحلة التاريخية، ومن ثم هل يمكن أن تفرز حالة الفوضى العالمية الجديدة وضعًا آخر غير الصراع؟ وهل يمكن أن يكون الحوار هو السبيل أمام العالم للخروج من أزمته الحالية؟
ولقد انقسمت اتجاهات الجدل حول أطروحات هنتنجتون بين ثلاثة. الأول- يؤكد مقولات هنتنجتون، ومن ثم يرفض إمكانية الحوار انطلاقًا من حقائق اختلال توازنات القوى الدولية، وسياسات القوى الغربية تجاه الجنوب أو العالم الإسلامي، أو باعتبار أن مبعث هذه السياسات هو الأبعاد الثقافية الحضارية. أي مبعثها هو الصراع الحضاري من جانب الغرب تجاه عالم الإسلام والمسلمين، ومن ثم فإن الحوار لن يكون إلا سبيلًا جديدًا لفرض الهيمنة الثقافية والحضارية، واتجاه ثانٍ- يرفض مقولات هنتنجتون: إما رفضًا أن تكون العلاقة بين الحضارات –وليس توازن القوى والمصالح- هي المفسر الأساسى للعلاقات الدولية، انطلاقًا من رؤية واقعية للعلاقات الدولية ترفض تسييس الحضارات، وإما رفضًا لإلصاق التهمة بالإسلام والحضارة الإسلامية باعتبارها مصادر للصراع والتصادم، ومن ثم دفاعًا عن الإسلام والمسلمين الذين يقبلون الآخر ولا يرفضونه، بل يتعاونون معه ومستعدون للحوار معه، وإما دفاعًا عن التعددية الثقافية والحوار بين الثقافات والحضارات باعتباره الأساس في العلاقات الدولية انطلاقًا من رؤية إنسانية عالمية، أو انطلاقًا من رؤية إسلامية تعترف بأهمية الحوار، والتعارف الحضاري بين الأمم والشعوب، وكأساس من أسس الرسالة العالمية للإسلام، وليس مجرد الدفاع والاعتذار عن الإسلام.
والاتجاه الثالث- يقول إن الحوار أو الصراع هى حالات للعلاقات بين الحضارات وفي حين يرى رافد من هذا الاتجاه أن الحالة الدولية الراهنة لا تسمح بحوار ثقافات أو حضارات حقيقي نظرًا لاختلال ميزان القوى الدولية؛ بحيث لن يقود الحوار إلا إلى فرض نمط حضاري على الآخر، فإن رافدًا آخر يرى أن الحوار ضرورى للخروج بالعالم من أزمته الراهنة، إلا أنه لابد وأن تتوافر له الشروط لكي يحقق أهدافه الحقيقية ووفق ما يقتضيه مفهوم الحوار ذاته؛ أي باعتباره سبيلًا للتفاهم المشترك وإزالة العوائق أمام العلاقات السليمة.
بعبارة أخرى ولد اتجاه “حوار الحضارات” من رحم التصدي لمقولة صدام الحضارات في الدائرة العربية والإسلامية، ومن زخم الاعتراض على هذه المقولة وتفريعاتها انطلاقًا من تعريفات متنوعة للحضارة والثقافة، والعلاقة بينهما وللحوار الفكري والحضاري، وانطلاقًا من أسانيد معرفية وفكرية مختلفة تؤثر على طبيعة الرؤى للعالم، والعلاقة بين مكوناته، بل وتؤثر على الموقف من اتخاذ الحضارات، أو الثقافات وحدات للتحليل السياسي من عدمه.
* والجدير بالملاحظة هنا أنه يمكن القول إن الحدود بين هذه الاتجاهات الثلاثة الكبرى لا تتطابق بدرجة كبيرة مع الحدود بين المدارس الفكرية الكبرى، الليبرالية، القومية، الإسلامية؛ فكل من هذه المدارس له رؤيته عن العامل الحضاري كعامل مفسر للتفاعلات، وعن طبيعة هذه التفاعلات وجوهرها صراعية أم تعاونية.
وتمثل مواقف هذه الاتجاهات من قضية العلاقة بين الحضارات امتدادًا لمواقفهم من رؤيتهم عن العولمة، وآثارها ونتائجها بالنسبة لحالة النظام الدولي: نحو مزيد من التعاون والاستقرار (الليبرالية) أم نحو مزيد من الصراع والانقسام (القوميون، اليساريون، الإسلاميون: وإن اختلفت روافدهم في بعض التفصيلات)، فإذا كانت المدرسة الليبرالية هي الأكثر دفاعًا عن حوار الحضارات في عالم ما بعد الحرب الباردة والعولمة، فهى لا تعترف في نفس الوقت بأن الأبعاد الثقافية تفوق في تأثيرها الأبعاد الاستراتيجية والمصالح القومية، ولكن ترى أن الحوار أداة وعملية ضرورية لتحسين التفاهم العالمي على الساحة الثقافية، كسبيل لتسهيل حل المشاكل والقضايا المصيرية المشتركة.
أما المدرسة القومية والمدرسة اليسارية، فإن اجتمعتا مع الإسلامية في الاعتراف بالمصادر الصراعية في السياسات الغربية التي تحول دون إمكانية حوار حقيقي، إلا أنهم يختلفون فيما بينهم بالطبع حول وزن تأثير الأبعاد الثقافية الحضارية بالمقارنة بصراعات المصالح أو القوى أو الهياكل. فلا يرى القوميون واليساريون الصراع بسبب الاختلاف الثقافي والحضاري أساسيًا، ولكنهم يرجعونه إلى المشروعات الاستعمارية والإمبريالية والهيمنة الثقافية والاستعلاء الغربى، في حين يعطى الإسلاميون وزنًا كبيرًا إلى البعد الثقافي في تفسيراتهم وتحليلاتهم، ولكن تختلف الروافد الإسلامية من حيث إمكانية الحوار من عدمه.
فيصل البعض مثلًا إلى القول إن حوار الحضارات يهدف إلى تنصير المسلمين انطلاقًا من رؤية المؤامرة على الإسلام ويصل البعض الآخر إلى القول إن حوار الحضارات هو جهاد العصر بأساليبه الجديدة في مواجهة الصراع الحضارى من جانب الغرب.
بعبارة أخرى فإن الاتفاق على الموقف من إمكانية الحوار أو عدمه بين بعض الاتجاهات وإن تحقق إلا أنه نبع من أسانيد معرفية أو واقعية مختلفة. ولهذا –وكما سنرى– عند تناول قضايا الحوار (أم الصراع) أن مداخل المدارس الثلاثة تختلف من حيث تحديد القضايا.

ما الفارق منذ 11 سبتمبر؟

ومع أحداث 11 سبتمبر وبعدها تجددت الجدالات حول العلاقة بين الحضارات بقوة وزخم، وتم استدعاء مقولات هنتنجتون وأنصاره، والمقولات المضادة له. ولكن كان السياق أكثر تدهورًا مما كان عليه في بداية التسعينيات؛ حيث أضحى الطرف الإسلامي في موقف المتهم بعد أن كان في موضع مصدر التهديد المحتمل؛ ففي حين رأى البعض في الهجمات على نيويورك وواشنطن دليلًا على “الغضب المسلم” ضد سيطرة القيم الغربية وضد السياسات الغربية، فإن البعض الآخر اتجه إلى النظر الي الهجمات في سياق صراع المصالح ودور الشبكات المتشعبة الإرهابية في العلاقات الدولية؛ ولهذا فإن الجدال حول دور العلاقة بين الأبعاد الثقافية الحضارية، وبين الأبعاد الاستراتيجية في تفسير هذه الأحداث وما تلاها من تطورات في الخطابات الأمريكية والسياسات الأمريكية، قد اكتسب زخمًا كبيرًا؛ حيث برز السؤال التالي مجددًا: هل الصراع الحضاري هو الذي يحكم العالم؟ ما هو مصدره؟ وما السبيل لمواجهته؟ وهل يقدر حوار الحضارات على إدارة هذه المرحلة؟
واستمر نفس الجدل وانقسام الاتجاهات حول وزن الأبعاد الثقافية الحضارية بالمقارنة بغيرها، ولكن اقترن في هذه المرة بسياق زماني ومكاني محدد يرتبط بالسياسة الأمريكية العالمية وتجاه عالم الإسلام والمسلمين بعد الحادي عشر من سبتمبر؛ فبالرغم من تزايد الاعتراف بوضوح المفردات الثقافية والحضارية في الخطابات الأمريكية الرسمية وغير الرسمية –سواء الصدامية منها أو الحوارية– فلقد ظل هناك اتجاه يرفض التفسير الثقافوي للعالم على اعتبار أنه لن يقود إلى حل المشاكل نظرًا لصعوبة تنازل الثقافات عن ثوابتها، ومن ثم لا سبيل إلاَ إلى الحوار بعد توافر شروطه، وفي المقابل اعترف اتجاه آخر أن المرحلة الراهنة من السياسة الأمريكية تكشف بوضوح عن صراع حضاري تجاه الإسلام والمسلمين، يصبح معه الحديث عن الحوار من قبيل الاستسلام، لأن الحوار الذي سيدور سيكون بشروط الغرب، ووفق مدركاته، ونحو غاياته ألا وهو “الإسلام المعٌَدل” ولأن السياسة الأمريكية توظف الأبعاد الثقافية لخدمة أغراض سياسية بالدرجة الأولى في حين رأى اتجاه ثالث أن الحوار أو الصراع الفكري ليس إلا أداة أو نوعًا من التكتيك لإدارة مرحلة الأزمة التي تحتدم فيها الصراعات حول المصالح، وارتبط بهذا الانقسام انقسام آخر جدد ما سبق وثار حول أطروحات هنتنجتون، ألا وهو؛ الانقسام حول إمكانيات الحوار في مقابل الضغوط نحو الصراع في العلاقات بين الولايات المتحدة وعالم الإسلام والمسلمين.
ولكن الحوار في ماذا؟ أو الصراع في ماذا؟ وكيف؟ حقيقة تتعدد القضايا التي يتم تناولها بالتحليل المقارن بين المنظورات المختلفة: وعلى رأسها تأتى قضايا العنف، حقوق الإنسان بين الخصوصية والعالمية. ولكن ظلت أدبيات العلاقة بين الحضارات تفتقد الاهتمام بأجندة حوار الحضارات المتنازع على مصداقيته وجدواه.
كما تظل الأنباء تتواتر بلا انقطاع عن مؤتمرات وندوات ولقاءات ومناظرات، على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي، وعلى الأصعدة الرسمية والمدنية والشعبية، على نحو يثير التساؤل عن مدى وجود استراتيجية كبرى لتعظيم نتائج هذه الملتقيات؟ أم أن هذه الملتقيات أضحت غاية في حد ذاتها، ومجرد استجابة –غير منظمة- لحملة العدوان المتصاعدة ضد العرب والمسلمين وضد المرجعية الإسلامية من ناحية، ولحالة التأزَم العالمي التي تهدم الأمن والاستقرار من ناحية أخرى.
والجدير بالملاحظة أنه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، قفز الاهتمام بالقضايا والآليات قفزة واضحة. حيث فرضت طبيعة تحديات هذه المرحلة، على المؤسسات الرسمية بصفة خاصة – الانتقال بدرجة أكبر إلى هذه الجوانب العملية؛ فلقد أضحت الضغوط نحو ضرورات ومتطلبات الحوار أكثر وضوحًا، ليس في نظر الحكومات فقط ولكن بالنسبة أيضًا لبعض الروافد الفكرية التي كانت ترفضه أو تتحفظ عليه.
ويمكن التمييز بين ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الليبرالي والذي تتلخص مقولاته كالآتي:

1- العولمة تؤثر على شكل ومضمون واتجاهات الحوار حيث أن الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان هي من صميم موضوعاته.
2- الحوار بين حضارتين غير متكافئين ماديًا ممكنًا بل وضروريًا، لأنه سبيل خروج الحضارة المتخلفة من دائرة التخلف والدخول في عالم التقدم الإنساني، وذلك من خلال اقتباس عديد من قيم ومؤسسات وإنجازات الحضارة الأوروبية، ولن يمنع من هذا الاقتباس كل المناظرات في العالم العربي والإسلامي باسم الخصوصية الثقافية العربية والإسلامية. ذلك لأن قيم حقوق الإنسان أصبحت تعبر عن حضارة عالمية إنسانية.
3- في ظل إشكاليات التعريف بالذوات الحضارية فإن هدف الحوار هو التوصل إلى الاتفاق على صياغة مجموعة متناسقة من القيم العالمية التي تأخذ في اعتبارها التنوع الإنساني الخلاق.
4- تتسع أجندة حوار الحضارات لتشمل إشكاليات معرفية، ومشاكل عالمية، وليصبح مجال العلاقة بين الإسلام والغرب هو أحد مجالاتها وليس الوحيد.
5- يجب أن تساهم الحضارة العربية الإسلامية في صياغة الحلول للمشاكل العالمية وطرح تصوراتها القيمية الإنسانية.

الاتجاه اليساري فهو يقترب من الموضوع اقترابًا آخر مفاده الآتي:

أم أن هذا التعريف بالذوات الحضارية ليس إلاَ البعد الثقافي من حوار الحضارات، وتصبح القضايا الأخرى هى الأبعاد السياسية له؟
هل يمكن القول إن حوار الحضارات يفترض اقتراب التحليل الثقافي الحضاري لجميع هذه المشكلات مع الاهتمام بالقضايا الثقافية الحضارية المباشرة؟
1- رفض أن يكون العالم وكأنه في حالة صراع بين الأفكار والثقافات والمواقف؛ لأن حالة توازن القوى في ظل آليات العولمة المادية والثقافية توفر للنظام الرأسمالي هيمنة مفرطة، وهو الأمر الذي يجعل الثقافي والفكري مجرد أداة، وليس واجهة التعبير عن الواقع ومن ثم في ظل عدم التوازن ليس هناك معنى للحوار على الصعيد الفكرى والثقافي؛ لأن النظام ذو القطب الواحد لا يجعل للحوار إلا قيمة رمزية ولكن لن تساعدًا في مواجهة الحقائق.
2- رفض النقاش على مستوى عالمي ولكن حول جدول أعمال مختلف، ليس هو مجرد مضمون الرسائل الأمريكية أو الأوروبية حول أوضاعنا الثقافية … ولكن يجب نريد طرح جدول أعمال، وفي إطار حركة مقاومة أمركة العالم، وذلك حول نقاط مثل: معايير العالمية المزدوجة، ورفض لأولوية حوار ثقافي وسياسي مع الشمال دون البدء بحوار جنوب جنوب.. التصدي لنزعات العنصرية والإقصاء في قضايا اجتماعية ومحلية، دون تسمية أسبابها الحقيقية الصادرة عن النظام العالمي، الحوار الداخلي حول الحقوق الجماعية للشعوب في تقرير مصيرها وحقوقها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وموازنتها الضرورية مع حقوق الإنسان المدنية، التفكير في برامج هجوم مضاد ضد العنصرية “الشمالية”..

والاتجاه الثالث يمثله اقتراب المؤسسات الإسلامية الرسمية، وكذلك المفكرين الإسلاميين على اختلاف مواقفهم رفضًا أو قبولًا للحوار؛ بالنظر إلى اقترابهم من القضايا موضع الحوار أو الصراع نلحظ أن بؤرة الاهتمام هى صورة الإسلام والشبهات التي يتعرض لها، ومن ثم استحضارهم ما يتصل بطبيعة الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقًا وقيمًا، وما يتصل بخصائص الحضارة الإسلامية بالمقارنة بنظيراتها الغربية وما يتصل بالممارسات الإسلامية في التاريخ بالمقارنة بنظائرها الغربية تجاه أصحاب الديانات والثقافات الأخرى.
بعبارة أخرى يتصدى هذا الاتجاه للأبعاد الثقافية الحضارية المباشرة، وفي قلبها الموقف من الإسلام. وهي الأبعاد التي تطرح السؤال التالي: هل هناك لدى الغرب أزمة معرفة بالإسلام يترتب عليها هذا النيل من الإسلام؟ أم هي نوايا مبيتة لإلصاق التهمة بثقافته وحضارته وبأهله بزعم أنهم -أي المسلمون- يكرهون الغرب لاختلافه في الدين والحضارة..؟
هذا يمكن إجمالًا تلخيص الآراء حول جدوى الحوار من عدمه بين مجموعات ثلاثة: مجموعة المشككين في جدوى الحوار، ونقطة انطلاقهم أن موضوع حوار الحضارات برمته يعتبر موضوعًا مهرجانيًا بدأ الاحتفاء به بصورة مفاجئة منذ التسعينيات “كرد فعل” على نظرية صراع الحضارات لهنتنجتون، وأنه من ثم لا يعتبر موضوعًا أصيلًا ذا جدوى حقيقية. وأصحاب هذا الفريق ما زالوا يسوقون الحجج المعتاد الاستشهاد بها في موقف التشكيك في جدوى الحوار. فأولًا هم يؤكدون أنه لا يمكن أن يكون الحوار بين الحضارات مجديًا في ظل غياب التكافؤ بين أطراف الحوار. فانعدام توازن القوى لابد وأن يفضى إلى وضع يملي فيه أحد الأطراف ما يريد ويبادر بالفعل في حين يرضخ الطرف الآخر ويقوم فقط بفعل الرد على المبادرة. وليس أدل على صحة هذا عند أصحاب هذا الفريق من أن الغرب هو الذي يضع أجندة الحوار ويحدد قضاياه وهي عادة تدور حول قضايا الحريات والحقوق الفردية خاصة حقوق المرأة، التعددية وضرورة احترامها، حرية الرأي والتعبير، عالمية حقوق الإنسان، التفسيرات الجامدة للشريعة الإسلامية، وهي قضايا تهم الغرب مباشرة وتستهدف صياغة الشرق على الشاكلة التي يريدها الغرب تحت حجة معالجة جذور الإرهاب الذي يهدد الحضارة الغربية في حين أن المعنى الحقيقي لقيمة التسامح –وهي القيمة التي يروج لها الغرب- هو احترام حق الآخر في الاختلاف. ويرى هذا الفريق المتشكك والرافض أن حوار الحضارات ما هو إلا واجهة تخفي وراءها صراع المصالح. ومن هنا هم غير متفائلين حتى بالدعوة إلى الحوار والتفاهم والقبول بالتنوع والتي تأتي من بعض مفكري الغرب، وذلك أنها دعوة لا يمكن أن تثمر، في رأيهم، على المستوى الرسمي لأن هوى الإدارات الرسمية هو مع الصراع الذي من خلاله تفرض مصالحها من خلال منطق القوة وليس الحوار. ويؤكد أصحاب هذا الفريق أن مجرد الدعوة إلى الحوار التي تأتى من الغرب لا يمكن أن تحوز بثقة الشرق وذلك في ظل السياسات الغربية التي تساند الظلم الواقع على الفلسطينيين والعراقيين إما بالمشاركة الفعلية أو بالصمت، فهذا عندهم مناخ يؤدي إلى الصراع ولا يساعد على الحوار.
أما الفريق المؤيد للحوار والمؤمن بجدواه فينطلق من مسلمة أن العولمة حقيقة قائمة، وإن هذا الواقع يفرض التعايش وليس الصراع. وأن على الجميع أن يقبلوا هذا وبدلًا من أن يضيعوا الوقت والجهد في إحباطات لن تجدى فعليهم أن يبحثوا عن أرضية مشتركة.. عن قضايا تغذى الحوار وتساعد على ازدهاره ونجاحه. وحتى يتحقق هذا هناك مسئولية تقع على عاتق طرفي الحوار المأمول. أما الغرب فعليه أن يغير من منحى سياساته الخارجية وأن يتخلى عن منطق التحرك الأحادي على الساحة الدولية وأن يتحمل مسئوليته في تغيير الصورة السلبية عن الإسلام في الغرب والتي تتحمل وسائل إعلامه جزءًا غير قليل من مسؤولية قيامها. أما الشرق فعليه أن يتخطى دور المتلقي السلبي. وعلى الجانبين واجب أن يحملوا هؤلاء داخل مجتمعاتهم، الذين لا يؤمنون بجدوى الحوار، على التوجه هذه الوجهة. وعليهما أن يبحثًا عن أساليب جديدة غير تقليدية للحوار بين الحضارات ربما أهمها الوصول إلى المجتمعات وتقليص القنوات الرسمية للحوار مثل حوار الأديان.
هذا وتجدر الإشارة إلى أنه يمكن رصد موقف فريق ثالث بين فريقي المشككين والمدافعين وهو الذي يرى أن الطرح العربي الإسلامي لموضوع حوار الحضارات هو طرح قديم وهو الطرح الأصيل لأنه يبدأ من المصدر الأساسي وهو القرآن والسُّنة، وهو أساس من الأسس الإسلامية الأولى في التعامل مع الشعوب الأخرى انطلاقًا من الاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية، وفي المقابل فإن اليهودية ترفض أصلًا أي طرح للحوار سواء على مستوى الأديان أو الحضارات، كما أن الطرح الغربي الراهن ليس إلا طرحًا سياسيًا لتحقيق أهداف سياسية، ومن ثم فإن الطرح الإسلامي الراهن لحوار الحضارات ليس إلا رد فعل بل طرح مفروض فرضًا من الغرب على الشرق عمومًا وعلى العالم الإسلامي والعربي خصوصًا. وهذا الطرح الغربي، وهو تسييس للحضارات، هو أسوأ ما حدث للحضارات وللعلاقات بينها، حيث يجعلها موضوعًا وسببًا للحرب والصراع، في حين أن الطرح الأصيل لحوار الحضارات هو الطرح الإسلامي منذ بدايته مع الرسالة. ولهذا فيجب –وفق هذا الفريق الثالث- الوعى للعلاقة بين السياسي والثقافي التي تتنامي في الإستراتيجية الأمريكية بصفة خاصة والغربية بصفة عامة تجاه العالم العربي والإسلامي في المرحلة الراهنة من تطور النظام الدولي.
ويرتبط بالجدال حول جدوى الحوار من عدمه الجدال حول قضيتين بالغتي الأهمية وهما نظرية المؤامرة والنقد الذاتى. وعن نظرية المؤامرة فيرى البعض -وهم غالبًا المتشككون في جدوى الحوار- أن التشبث بها هام، فهى تفتح الأعين على ما حيك لنا في الماضي ومن ثم تكون عونًا على إدراك ما يحاك لنا في الحاضر وتكون مؤشرًا على ما سيحاك لنا في المستقبل. أما البعض الآخر: فيرفضون تمامًا تعليق كل إخفاقاتنا على شماعة نظرية المؤامرة، وأكدوا على أن تخلُّفنا وتبعيَّتنا ترجع لعدم السير في طريق العقل والعلم والحرية والعدالة التي سار فيها الغرب فتقدم بعد طول تخلف. ويستطرد أصحاب هذا الفريق ليؤكدوا أن الإيمان بنظرية المؤامرة هذه يواكبه عادة رغبة مرضية في تنزيه الذات. فالتأكيد دومًا على أننا كنا حضارة تعرف الحوار وتنفتح على الآخر فيه قدر غير قليل من التجاوز والمبالغة، فالشرق مارس هو أيضا المد والسيطرة والهيمنة والصراع عندما كان له اليد العليا. فموضوع حوار الحضارات عند هذا الفريق هو موضوع حٌمل بأكثر مما يحتمل، فالأمر كله لا يعدو على مدار التاريخ أن يكون صراعًا على المصالح، يأخذ في كل مرحلة تاريخية سمة محددة اقتصادية أو ثقافية أو عسكرية، ولكن المستمر هو أنه صراع ينجح فيه الأقوى في حين يخسر الضعيف، بغض النظر عمن هو القوى ومن هو الضعيف وبغض النظر عن موضوع الصراع وأدواته: عسكرية أو اقتصادية أو سياسية، وإن كان من الواضح والجلى الآن أن الأبعاد والأدوات الثقافية قد حققت قفزة للأمام لاعتبارات عديدة، بالمقارنة بما كانت عليه من قبل.
وفي مقابل نظرية المؤامرة تظهر نظرية النقد الذاتى التي تستند إلى تأصيل ظاهرة الحوار الحضارى بالرجوع إلى الجذور الفكرية للخطابات العربية المتنوعة في عصر النهضة، وإلى إشكاليات وقضايا التفاعل بين التيارات الإسلامية والليبرالية واليسارية العربية ومواقفها من الغرب. وتقوم هذه النظرية على تحديد أسس هذه التيارات الفكرية عند بدايتها ومتابعة تطورها وتقييمه. وإذا كانت منطلقات وقواعد هذا التقييم تتعدد إلا أن طرح الأستاذ/ السيد يسين قد جعل منطلق تقييمه هو موقف هذه التيارات من قضية الحداثة، وتفسير أسباب فشل المنطقة العربية في إحداث التغيير المطلوب بأنه فشل في تقبل نموذج الحداثة. ولهذا اعتبر أن من أهم شروط الحوار الحضارى الناجح هو نقد العلمانية وتقديم رؤية نقدية للحداثة من ناحية ونقد التاريخ والفكر الإسلامى من ناحية أخرى. فهذا النقد مزدوج الأبعاد هو السبيل إلى اكتشاف منطقة القيم المشتركة العالمية بين الحضارات.
ومما لاشك فيه أنه إذا كانت نظرية المؤامرة تواجه حججًا ومبررات ناقدة أو رافضة لمنطلقاتها في رفض حوار الحضارات، فإن نظرية النقد الذاتي ذات التوجه الليبرالي تثير بدورها حججًا ومبررات ناقدة لمنطلقاتها نحو تحديد أهداف الحوار وغاياته وآلياته. ومن ثم تثور الأسئلة التالية: هل ننقد أنفسنا قربًا أم بعدًا عن الحداثة أم عن نموذجنا الحضاري؟ وهل الحوار -في نظر التيار الليبرالي- هو سبيل آخر للنقل عن الغرب من جديد؟ هل نحتاج لنقد الذات من منطلقات ليبرالية فقط أم نحتاج أيضًا للدفاع عن المرجعية الإسلامية التي أضحت تتعرض لهجوم متسع النطاق؟ ومن هنا ففضلًا عن الحاجة إلى نقد الذات فنحن أيضًا في حاجة إلى اجتهاد فكرى معاصر قوى وفاعل؛ لأن الإسلام وإن كان يتضمن تنظيرات ورؤى تأصيلية حول وحدة الإنسانية والاستخلاف والعمران والتوازن في الكون وغيرها، إلا أن الممارسات فى تاريخ المسلمين وواقع المسلمين تثير أكثر من علامة استفهام حول الفجوة بين الأصل وبين الواقع مرورًا بخبرة التاريخ. ناهيك عن الحاجة للدفاع عن الأصول ذاتها وضد ما تواجهه من هجوم عليها وليس على المسلمين فقط.

ثانيًا- وماذا بعد؟ ملامح رؤية تقييمية

على ضوء العرض النقدى السابق، يمكننى الآن التوقف عند بعض ملامح رؤيتي عن “حوار الحضارات” وتتلخص هذه الملامح في مجموعتين: أحدهما نظرية وتدور حول عناصر التأصيل النظري لهذا المجال؛ والثانية حركية تدور حول إمكانيات وجود تيار رئيسي فكري عربي حول حوار الحضارات في المرحلة الراهنة المتأزمة من التاريخ العربي والإسلامي.
1- عناصر التأصيل النظري:
إن الانتماء للمجال البحثي في حوار الحضارات أكثر من الانتماء إلى المجال الحركي فيه يدفع للاهتمام بهذه العناصر، وباعتبار هذا المجال –كما سبق التوضيح– من أحدث مجالات دراسة العلاقات الدولية، والتي يثير التأليف والجدال حولها اهتمامًا راهنًا يناظر ما سبق وحظى به تجدد الاهتمام بالاقتصاد السياسي الدولي في بداية السبعينيات.
وتتلخص عناصر هذا التأصيل المطلوب في البندين التاليين:
أ-حول إشكالية حوار أم صراع (المبررات والدوافع: العلاقة بين الأبعاد الثقافية والاستراتيجية)
يمثل “حوار الحضارات أو صراعها” مجالًا أساسيًا من مجالات دراسة العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ويرجع ذلك إلى بروز الأبعاد الثقافية الحضارية للعلاقات الدولية الراهنة على عدة مستويات: المفسر لهذه العلاقات والمحرك لها، قضايا العلاقات، أدوات العلاقات، أنماط التفاعلات وهكذا… ويرجع ذلك بالطبع إلى العديد من الأسباب على رأسها انتهاء الصراع الأيديولوجي، وصعود دور الأديان، تهاوى الحدود بين الداخلي والخارجي على نحو أدى إلى درجة كبيرة من اجتياح الخارجي للداخلي من جراء الثورة في الاتصالات والمعلومات، وبعد أن تحققت الهيمنة الغربية السياسية والعسكرية ثم الاقتصادية، فلم يتبق إلا اكتمال الهيمنة على الصعيد الثقافي أيضًا.
ولذا فلا عجب أن يلحظ المراقب والباحث والأكاديمي، أن ساحة خطاب العولمة قد شهدت صعود الاهتمام بالحضارة والثقافة والدين بعد أن صعدت الاهتمامات وسادت في مراحل سابقة (الحرب الباردة والانفراج) بالعوامل الاستراتيجية العسكرية، ثم الاقتصادية السياسية على التوالي. كل هذا يعنى أن التفاعلات لم تعد حول السياسة والاقتصاد فقط، ولكن الحضارة والدين في قلبها.
ولهذا يجب النظر إلى مغزى أطروحة هنتنجتون من حيث درجة ما تمثله من تغيير في منظور دراسة العلاقات الدولية، وانتقاله إلى مرحلة جديدة بعد مرحلة الواقعية التقليدية، ثم الهيكلية، على اعتبار أن منظور هنتنجتون منظور واقعي (الصراع)، ولكن من منطلقات مغايرة (الحضارات).
كما يجب النظر من ناحية أخرى إلى أطروحة هنتنجتون باعتبارها تجسيدًا للعلاقة بين التطور في التنظير والرؤى وبين خدمة المصالح الاستراتيجية الكبرى. حيث إن طرح هنتنجتون لم يقدم طرحًا نظريًا جديدًا مجردًا، ولكنه تعبير عن آلية هجومية جديدة للحضارة الغربية وهي آلية ذات لباس ثقافي حضاري؛ وهذه الآلية ليست مستحدثة ولكن ذات جذور فكرية وسياسية سابقة، ولكن لم تكن بنفس درجة العمق والوضوح.
وعلى الصعيد المقابل فإن المتحدثين عن “حوار الحضارات” يمثلون بدورهم منظورًا مثاليًا في مرحلة جديدة، بعد مرحلة المثالية التقليدية (الأمن الجماعي)، ثم المثالية الجديدة (الاعتماد المتبادل)، وهي مرحلة المجتمعية والعالمية والحوار. وهؤلاء بدورهم يمثلون استجابات ذات دوافع متنوعة ترتهن بموقفهم على سلم القوة الدولية.
بعبارة أخرى فإنني أنظر إلى صعود مفهوم حوار الحضارات أو صراعها من خلال تحديد وضعه في السياق العام للدراسات الدولية الغربية، ومن خلال توظيفه في الاستراتيجيات الكلية؛ أي باعتباره أداة من أدوات إدارة السياسات الدولية الراهنة سواء انطلاقًا من الدائرة الغربية، أو استجابة من الدائرة العربية. ومن هنا خطورة نسبية في ظل خلل توازن القوى المادية.

2- الحوار ليس إلا شكلًا من أشكال العلاقات بين الحضارات

ولذا فإنني أنقد ذلك الترحيب الشائع انطلاقًا من دوافع دفاعية اعتذارية بوصف العلاقات الراهنة بأنها حوار أو يجب أن تتجه إلى حوار من ناحية، كما أنقد من ناحية أخرى التمترس وراء تشخيص هذه الحالة الراهنة أيضًا وانطلاقًا من مبررات أيديولوجية بأنها أسيرة الصراع الدائم والحتمي.
فإذا كانت أطروحة الصراع قد فجرها هنتنجتون، وإذا كانت أطروحة الحوار قد بدت كالأطروحة الاعتراضية إلا أن الانشغال على الساحة العربية بهذين الطرحين على هذا النحو الاستقطابي الثنائي الذي جرى (حوار أم صراع) يستحق الانتقاد المعرفي والمنهجي، بل والسياسي أيضًا.
فمن ناحية: إذا كانت أطروحة هنتنجتون تكرِّس الصراع كقانون تاريخي مطلق اتساقًا مع منطلقات المدرسة الواقعية، وانطلاقًا من ناحية أخرى مع إلباس صراع المصالح والقوى لباسًا دينيًا ثقافيًا حضاريًا، تحت دوافع ومبررات استراتيجية (كما سبق وأوضحنا)، إلا أن الصراع -وفق رؤية إسلامية- والذي يعبر عنه مفهوم التدافع يحمل مضامينًا أخرى. فهو سنة من سنن الاجتماع البشري، ولا يعنى القضاء على الآخر، أو تأكيد هيمنة قوم على قوم، أو ثقافة على ثقافة، ولا يعنى وهو الأهم أن الصراع يتولد بين الأقوام والملل المختلفة لمجرد الاختلاف الثقافي والحضاري ولذا يرتبط مفهوم التدافع بعالمية الإسلام في مقابل عولمة النموذج الغربي؛ لأن التدافع حالة من عدة حالات وليس قانونًا تاريخيًا، ولأن الحرب ليست حتمًا تخرجنا من الفوضى إلى حالة أفضل في كل الحالات.
ولكن من ناحية أخرى:
فإن حوار الحضارات باعتباره نمطًا من أنماط أخرى اتخذتها العلاقات بين الحضارات على مدار تطورها التاريخى له سياق دولي يبرزه أو يواريه. كما أن له شروطًا لازمة التحقيق وآليات لإدارته وصولًا لأهدافه.
وإذا كان الحوار قد برز في الخطاب والحركة خلال العقد الأخير من القرن العشرين (أي قبل 11 سبتمبر 2002)، ومع بداية القرن الـ21 فذلك باعتباره أداة من أدوات إدارة السياسات الخارجية لمراحل التأزم الدولي، سواء من جانب الفواعل القوية أو الضعيفة. وذلك في سياق دولي يفرز محدداته النابعة من طبيعة المرحلة الانتقالية من هيكل النظام الدولي، ومن حالة النظام الدولي الراهن المتأزمة تحت تداعيات كل من تصفية القطبية الثنائية والحادي عشر من سبتمبر، وانعكاساتهما على الأبعاد الثقافية الحضارية في النظام الدولي.
كما أن الحوار، لا يمكن أن يكون على صعيد النمط الرسمي فقط، وفي مراحل التأزم فقط وللتوظيف السياسي له، ولكنه عملية ممتدة عبر التاريخ صعودًا أو هبوطًا من حيث الأهمية ويمتد عبر نطاقات متنوعة من التفاعل البشري. ومن ثم فهو قد يترادف على هذا النحو مع مصطلحات أخرى: التثاقف، التفاعل الثقافي. ولكنها أمور مختلفة، فالحوار معه جانب إرادى واعٍ باعتباره أداة أو آلية من آليات إدارة العلاقات الدولية في ظل تأزم نظام العولمة على العكس من الأخيرين فهما ممتدَّان مستمران في جميع المراحل. كما أن الحوار ذاته قد برز أو تراجع في مراحل من التاريخ في ظل سياقات سياسية واقتصادية عالمية متنوعة.
والحوار -وفق رؤية إسلامية- له نماذجه في النص القرآني وفي السُّنة النبوية وفي الممارسات الإسلامية عبر التاريخ. وهو آلية تحقيق التعارف الحضاري، والذي تفترضه سُنَّتَا التعدُّد والتنوُّع.
ومن ثم فإن قبوله الآن كنمط من أنماط التفاعل الحضاري لا يجب أن يعنى موقفًا اعتذاريًّا دفاعيًّا في مواجهة اتهامات الغرب أو في مواجهة سياساتهم الصراعية، حفاظًا على البقاء أو درءًا للأخطار، واستعواضًا عن الضعف المادي، ولكن يجب أن يكون الحوار انطلاقًا من ذاتية ثوابت الأمة، ومن قضاياها وتعبيرًا عن مجرد آلية بين آليات أخرى، وليس غاية. وكذلك شريطة أن يكون مقرونًا في المرحلة الراهنة بالوعى عن الأبعاد الصراعية في دواعى الطرف الآخر، حتى ولو كانت مغلفة بخطابات الحوار، ومقرونًا بالوعي بحقيقة أثر توازنات القوى على تحديد قضايا الحوار، وغاياته، ونتائجه. وشريطة أن تتوافر له شروط الحوار السوي والفاعل، وعلى رأسها الحوار البيني المسبق على المستوى الرسمي والفكري، وأخيرًا شريطة ألاَ تنتقل ضغوط الواقع على الرسميين إلى النخب والمفكرين. فهم مطالبون بالحوار؛ لأنه جهاد العصر وليس اعتذار العصر.
وهو جهاد العصر من خلال تحرى نموذج المقاصد الشرعية، وقيم الاستخلاف والتزكية والعمران والتعارف. هو جهاد العصر الذي يتحدث عن العدالة والحرية والمساواة، والخصوصية والمقاومة والوطنية والاستقلال في مقابل لغة السلام والأمن والتسوية والديموقراطية التي يتحدث بها الداعون إلى الحوار من الدائرة الغربية. فإن السلام لا يتحقق بالحوار إذا كانت العدالة مفقودة. بعبارة أخرى فإن ثقافة الحوار -لدينا- يجب أن تنطلق من مفهوم العدالة كغاية وحتى لا يكون ثمن السلام هو الاستسلام، أو الاعتذار أو الدفاع عن براءة الذات الحضارية.

خلاصة القول:

على ضوء الحالة العامة لخبرات وجهود الجانب العربي والإسلامي في إدارة حوار الثقافات والإنتاج المعرفي حوله، وعلى ضوء الاعتراف بحقيقة خطورة التحديات الثقافية للعولمة والتي تواجه والعالم الإسلامي برمته وخاصة منذ ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، وعلى ضوء الاعتراف بضرورة تصميم استراتيجية للعمل الثقافي الإسلامي في الغرب وتجاهه، تعكس أهداف مشروع حضاري لإعادة بناء العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب، وتقدم تصورات عن سبل مواجهة العالم الإسلامي للتحديات الثقافية في القرن الواحد والعشرين (في ظل خصائص النظام الدولي القائم).

على ضوء كل ما سبق، يمكنني طرح العناصر التالية لأبعاد رؤية عربية إسلامية استراتيجية عن الحوار والتعاون الثقافي تتلخص كالآتي:

أ- المنطلقات:

إن جدالات العولمة ثم جدالات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر كشفت -ثم أكدت على التوالي- عن عمق ما وصلت إليه أزمة المسلمين في عصر العولمة وعصر الهيمنة الأمريكية، وعلى نحو أضحت معه الحاجة ماسة للبحث عن مؤشرات الممانعة والمقاومة في مقابل دعوات الانهزامية باسم العقلانية والرشادة والبراجماتية والواقعية حفاظًا على مصالح قطرية ضيقة.
إن على الرؤى الإسلامية في عصر ما بعد الحادي عشر من سبتمبر –وليد عصر العولمة- فريضةَ وضع أسس “فقه المقاومة”، و”فقه الحركة”. ولعل من أهم المنطلقات التي يجب أن تحكم تشكيل هذه الرؤى ومخرجاتها ما يلي:
لا يجب اعتبار العولمة قدَرًا محتومًا لا فكاك منه، يجب ألا نجعل تاريخ الحادي عشر من سبتمبر إسارًا لإدراكنا بأننا المتهمون، وأن الولايات المتحدة في موقف رد الفعل والدفاع نحرر مدركاتنا ومصطلحاتنا ومفاهيمنا، فنستدعي: التحرير، المقاومة، الاستعمار، العدوان.. في مقابل السائد الآن: الإرهاب، الآخر، السلام، الأقليات.. يجب عدم فصل الاهتمام بالبعد الحضاري الثقافي عن الأبعاد السياسية وتوازن القوى؛ بحيث لا نغرق في مقولات دوافع الصراع الحضارية، ناسين دوافع توازنات القوى ومصالحها أو العكس صحيح.
وأن نجمع بين أزمة العالم وأزمة الأمة تأكيدًا على ما أضحى عليه وضع الأمة في العالم الآن، وأن نفك الاشتباك بين المفهومين الذائعين: “حوار الحضارات” و”صراع الحضارات”، ونوفر أو تتضح لنا الشروط اللازمة لإجراء حوار صحي، ونحدد الظروف التي تعزز صراعًا حضاريًا؛ لأن الاختلاف بين الحضارات –وكذلك الأديان- لا يولد في حد ذاته الصراع.

ب- الفواعل:

إن العناصر السابقة، إنما تمثل عناصر رؤية فكرية إسلامية شاملة. وهي رؤية لن تتحقق بسياسات حكومية رسمية فقط، إنما هي رؤية تقوم على الاعتراف بمسئولية الإنسان الفرد وليس الحكومات فقط. فإذا كان واقع الأمة الراهن لا يفرز استجابات رسمية وحكومية فاعلة للتحديات التي تواجهها الأمة، فإن هناك مصادر أخرى لإمكانيات الحركة المستجيبة؛ ابتداءً من الفرد، وامتدادًا إلى الأسرة، إلى قوى المجتمع المدني في تكافلها وتداخلها فيما بينها، وعبر حدودها القومية نحو تضامن عالمي مع القوى الغربية والشرقية، المناصرة لحقوق الإنسان، والمضادة للعولمة وللحرب الأمريكية ضد الإرهاب إن مشاركة المسلمين –أفرادًا وهيئات ومؤسسات وحركات اجتماعية ومدنية- في هذه التفاعلات من أجل العدالة والحرية والمساواة، لهو من أهم سبل تفعيل الاستجابة للتحديات العالمية التي تواجه عالم الإسلام والمسلمين في القرن الواحد والعشرين، حيث تبدو النظم والحكومات غير قادرة وعاجزة عن الاستجابة بفعالية.
إن هذه المشاركات المدنية الشعبية عبر الحدود لهَيَ من أهم الإيجابيات التي يوفرها عصر العولمة للمسلمين والإسلام، في مواجهة تحديات “الحرب الأمريكية على الإرهاب”. إلا أنه يجدر القول أن هذه المشاركات لا يمكن أن تكون بديلًا كاملًا عن التغييرات الجذرية المطلوبة في الهياكل الدستورية والتشريعية والسياسية التي تنظم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على النحو الذي يحقق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، عندئذ تكتمل صور الاستجابة الفاعلة للتحديات الخارجية التي لن يكف عالم الإسلام والمسلمين عن مواجهتها.

جـ- الخصائص:

وإذا كانت الرؤية الإسلامية لا تنطلق من لغة “صراع” ولكن من لغة “تعارف”، ولا تسعى نحو “تنميط” ولكن تقوم على سنة التنوع، وإذا كانت الرسالة الإسلامية “دعوة للعالمين: لا إكراه ولا إجبار فيها إلا أنها أيضًا ليست اعتذارية، تبريرية، دفاعية.
ومن ثم فإذا كان التحليل السابق يثير علامات الاستفهام حول مغزى الدعوات من أجل الحوار الثقافي، الحضاري، حوار الأديان كصيغ “للتعاون الثقافي مع الغرب”، فهو أيضًا لا يتبنى أسانيد الأطروحات السائدة عن “الصراع الثقافي، الحضاري، صراع الأديان”. والتي تنعكس على علاقات الدول الإسلامية بالغرب بقدر ما تنعكس على علاقة الجاليات المسلمة مع أوطانها الجديدة.
إن التحليل إنما يسعى للتأكيد على بعض الأمور وهي:
– من ناحية: تعزيز التعاون حول “حوار ثقافي” بشروط ومضامين تجعله سبيلًا للتعارف الحضاري الحقيقي، ومن ثم تنأى به أن يكون سبيلًا لتمكين ثقافي لطرف على طرف آخر أو أن يكون قناة للاعتذار والدفاع والتبرير في مواجهة “الاتهامات” المتعددة للإسلام والمسلمين سواء في أوربا ذاتها أو خارجها.
– من ناحية أخرى: يقدم رموز الفكر الإسلامي المعاصر أطروحات متكاملة حول “البعد الثقافي” فمن المقاربة بين القيم الإسلامية والقيم الغربية إلى تقديم الرؤية عن الدلالات الثقافية المعاصرة في إطارها السياسي الراهن، إلى تحليل العلاقة بين العولمة والهوية ودور الأديان، إلى البحث في الأبعاد الثقافية السلوكية للمسلمين “الأقليات” في ظل ضغوطات العولمة وما بعد الحداثة، إلى الحديث عن حقوق الإنسان في الإسلام كضرورات وليس مجرد حقوق. إلى التمييز بين العالمية والعولمة ومن ثم العلاقة بين الإسلام والعولمة.
هذه ليست إلا نماذج على سبيل المثال وليس الحصر وهي تعني، في نظري، نماذج على “المبادرة” الثقافية وليس “الاعتذار” الثقافي، نماذج تدفع للتقدم نحو صياغة رؤية عربية إسلامية وتشارك في هذه الصياغة على المستوى العالمي.
فإذا كان الجميع يتفقون على أن هناك أزمة عالمية ذات بعد قيمي –ثقافي واضح الدلالة يستوجب مراجعة المنظورات: فإن الإسلام قادر على أن يقدم رؤية تساهم في تقنين الرؤية الجاري صياغتها للعالم وخاصة حول أوضاع الأقليات، ومنها المسلمة في العالم.
بعبارة أخيرة، نحن في حاجة لخطاب غير اعتذاري، غير دفاعي، نحن في حاجة لخطاب ينطلق من الذات الإسلامية وخصائصها “وبمبادرة” تجاه الآخر وذلك حتى يتحقق التوازن في الرؤية الذي هو أساس الفاعلية.
وإذا كانت مفاهيم “ثقافة السلام”، “ثقافة التسامح”، “ثقافة قبول الآخر” يتم تداولها في محافل “الحوارات الثقافية” فإن الطرح الإسلامي لها يجب أن يكون حاضرًا وفاعلًا ومؤثرًا، وإذا كانت ندوات وحوارات “الإسلام والغرب” تتعدد في تلاق وتقاطع حول أمور منهاجية ومضمونية شتى فيجب أن تكون الرؤية الإسلامية حاضرة وفاعلة ومؤثرة وإذا، وإذا….. إلخ.
إذن المطلوب “المبادرة الثقافية” عند تخطيط رؤية استراتيجية للعمل الثقافي الإسلامي في الغرب وذلك انطلاقًا من رؤية كلية عن وضع البعد الثقافي (بين أبعاد أخرى) في هجوم الآخر تجاهنا وعن وضع البعد الثقافي الإسلامي في مشروع النهوض الحضاري الإسلامي. فهذا البعد الثقافي الإسلامي -الهيئات الإسلامية- ليس منقطع الصلة بالأبعاد الأخرى: السياسية، الاقتصادية، العسكرية. وكذلك فإن مشاكل الدول الإسلامية الثقافية لا تنقطع أو تنفصل عن إمكانيات أو قيود العمل الثقافي الإسلامي لنصرة الجاليات المسلمة في الغرب أو عن العلاقة الثقافية مع الغرب.
بعبارة أخرى: فإن الرؤية الاستراتيجية المطلوبة يجب أن تنطلق من عدة أسس وتنبني على بعض الأسس الأخرى. فليس هناك حوار ثقافي حقيقي بين غير أكفاء من الناحية المادية، كما أن الحوار في ذاته ليس السبيل بمفرده لحل مشاكلنا مع الآخر أو لديه.
ومع ذلك، فانطلاقًا من وسطية الإسلام وانطلاقًا من رؤيته عن التعارف الحضاري فإن هذا التعارف الحضاري يمثل السبيل للتجديد الحضاري لدينا من ناحية ولمشاركة الفكر الإسلامي في عملية التجديد الحضاري العالمية من ناحية أخرى.
فبالرغم من إدراك خطورة أدوات السيطرة والهيمنة ومنها الثقافية الآن، إلا أن التجارب التاريخية جميعها تؤكد أن هناك أيضًا تفاعلات ثقافية- انسيابية هادئة تحقق الاحتكاك بين الحضارات. وهذا الاحتكاك لا يكون دائمًا في اتجاه واحد. فحتى الحضارة –الضعيفة ماديًا- بمقدورها أن تترك آثارها على الحضارات الأقوى ماديًا. وإذا كانت حضارتنا الإسلامية –بمعايير القوى المادية قد تراجعت الآن إلا أنه ما زال للعملة وجه آخر أكثر أهمية وأكثر حيوية وهو منظومة القيم في الإسلام ورسالته للعالمين. ومن هنا يمكن أن نفهم كيف يمكن أن يصبح مسلمو المهجر أو مسلمو الغرب رصيدًا للإسلام في الغرب من خلال هذا الاحتكاك الإنسيابي الهادئ ومن ثم فإن استراتيجية العمل الثقافي الإسلامي في الغرب وتجاهه هي جهاد من نوع خاص يستوجب كل سبل المساندة.
*****

المصادر:

1- د.نادية محمود مصطفى: العولمة والعلاقات الدولية (في) د. سيف الدين عبد الفتاح (محرر) العولمة والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1998.
– د. نادية محمود مصطفى: التحديات السياسية الخارجية للعالم الإسلامي (في) رابطة الجامعات الإسلامية. أعمال مشروع تحديات العالم الإسلامى في نهاية القرن العشرين، 1999 (الفصل الأول ).
2- د. نادية محمود مصطفى: البعد الثقافى للشراكة الأوروبية المتوسطية (في) د. سمعان بطرس فرج الله (محرر) أعمال ندوة مستقبل الترتيبات الإقليمية فى منطقة الشرق الأوسط وتأثيرها على الوطن العربي، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1998.
– د. نادية محمود مصطفى: التحديات السياسية الخارجية للعالم الإسلامي …مرجع سابق (الفصل الثاني: وضع الإسلام والمسلمين في الفكر الاستراتيجي الغربي في نهاية القرن العشرين: من أطروحات صدام الحضارات إلى أطروحات التهديد الإسلامي خرافة أم حقيقة).
– د. نادية محمود مصطفى: التعاون الثقافي مع المؤسسات الغربية (في) أعمال المؤتمر الحادي عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية تحت عنوان: نحو مشروع حضاري إسلامي، يونيه (1999).
– د. نادية محمود مصطفى: استراتيجية العمل الثقافي الإسلامي في الغرب بحث مقدم إلى اجتماع خبراء الإيسيسكو في برلين يوليه 2000.
– د. نادية محمود مصطفى: حوار الحضارات على ضوء العلاقات الدولية الراهنة (في) كتاب أعمال ندوة “كيف سندخل سنة حوار الحضارات (22-23/11/2002) المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، دمشق، 2001 ص 145-210.
– د. نادية محمود مصطفى: (الأبعاد الثقافية والحضارية فى أحداث الحادي عشر من سبتمبر ومستقبل حوار الحضارات) فى ندوة مستقبل حوار الحضارات بعد الحادي عشر من سبتمبر: المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، دمشق، يناير 2003.
– د. نادية محمود مصطفى: التحديات الحضارية الخارجية للعالم الإسلامي (في) العدد الخاص من حولية أمتي في العالم تحت عنوان “الأمة في قرن (2000) الكتاب السادس، مركز الحضارة للدراسات السياسية، القاهرة، 2003.
– د. نادية محمود مصطفى (محرر): السياسة الأمريكية تجاه الإسلام والمسلمين: بين الأبعاد الثقافية الحضارية وبين الأبعاد الاستراتيجية. سلسلة محاضرات برنامج حوار الحضارات (رقم 1)، برنامج حوار الحضارات، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، أكتوبر 2002.
– د. نادية مصطفى، د. علا أبو زيد (محرران): خطابات عربية وغربية في حوار الحضارات. برنامج حوار الحضارات، كلية الأقتصاد، دار السلام، القاهرة، 2004.
– د. نادية مصطفى: إشكاليات الاقتراب من مفهوم حوار الحضارات، حولية “أمتي في العالم”، العدد الثالث، مركز الحضارة للدراسات السياسية، 1424هـ/ 2003م.
– د. نادية مصطفى: تحديات العولمة والأبعاد الثقافية الحضارية والقيمية (رؤية إسلامية) (في) مجموعة مؤلفين: مستقبل الإسلام، دار الفكر العربي، دمشق، 2004.

للتحميل اضغط هنا 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى