اتجاهات التطوير الوقفي بمنظور حضاري: رؤى وتجارب وآفاق معاصرة (بين عامي 1993 و2035)

افتتاح اللقاء (د. مدحت ماهر)
هذا هو اللقاء السادس من الموسم الثاني لـ “منتدى الحضارة”. وهذا المنتدى، المعني بدراسة المنظور الحضاري، هو نشاط تفاعلي يقوم عليه مركز الحضارة للدراسات والبحوث؛ من أجل توفير مساحة للتحاور والتثاقف بين العلماء والباحثين والمثقفين المهتمين بشؤون الأمة العربية والإسلامية، وأوطانها، وأقاليمها، والعالم من حولها. لا سيما من زاوية الوصل بين العلم والعمل، وبين الفكر والواقع، وبين الأصل والعصر، والقيم والفاعلية، كما تلح هذه المدرسة على تأكيده.
سبق هذا الموسم موسمٌ أول كان بعنوان “جديد العلم والعالم”، وخُتم بمحاضرة ألهمت هذا الموسم الثاني، وهي محاضرة عن “الإسلام والمسلمين والعرب في رؤية يابانية” قدمتها الدكتورة “إيكا كورودا” اليابانية المعنية بالفكر الإسلامي[1]؛ مما فتح الباب للموسم الحالي عن أقاليم الأمة وقضاياها الكبرى.
وقد سبق هذا اللقاء عدة لقاءات مهمة، هي:[2]
- لقاء مع أستاذتنا الدكتورة نادية مصطفى -رئيس المركز- عن “التحديات الداخلية والخارجية أمام العالم الإسلامي في مسار ربع قرن (حتى 2025)”.
- ثم لقاء مع الدكتورة أماني برهان الدين لوبيس -رئيس جامعة شريف هداية الله- عن “المجتمع والثقافة في مجتمعات جنوب شرق آسيا”.
- ولقاء ثالث عن “الدولة والمجتمع والإسلام في أفريقيا” قدمه الدكتور محمد عاشور، الأستاذ الخبير في الشؤون الإفريقية.
- ولقاء رابع عن “الإسلام والمجتمع الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية” قدمه الدكتور عبد الرحمن رشدان، الباحث المختص في العلوم السياسية.
- ولقاء خامس مع الدكتورة مريم عطية عن “تسليع التعليم العالي وأثره على الأستاذ الجامعي المعاصر”، قدمت فيه رؤيتين: الإسلامية، والغربية الوضعية الرأسمالية. كانت خبرة من جغرافيا الغرب ولكن من معين الإسلام وفي أفق الإنسانية العالمية.
هذه اللقاءات الخمس جمعت بين إطار عام وأقاليم، وبين شرقي العالم وغربيه، وخاصة الأمة الإسلامية وقضاياها الحضارية الكبرى (الثقافة، المجتمع، الدولة، التعليم، والرأسمالية)، وبين تحديات الداخل والخارج.
أما اليوم، فنحن أمام استجابة إسلامية قديمة متجددة لتحدي المادة ودورها في صناعة الحضارة؛ ألا وهو تحدي المال والتمويل والفعل والتفعيل. وهي استجابة قديمة في تاريخ المسلمين متجددة في واقعهم، وكما يشي العنوان: واعدة لمستقبلهم. إنها تلك القضية النوعية الكبيرة: “قضية الوقف”. واحدة من أهم قضايا وأولويات الوقت، وتقريبًا “كل وقت” عند المسلمين؛ لأنها قضية الاستثمار الحضاري للشيء الذي جعله الله تعالى قوامًا وقيامًا للناس وحياتهم: {أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} ]المائدة: 5[.
الوقف -بطبيعة الحال- ليس اسمًا معنويًا يقتصر على معناه اللغوي، بل هو لقب يُطلق على مجال وبُعد ومستوى عظيم من مستويات الفاعلية، بالأخص الإسلامية ثم الإنسانية؛ إذ اقتبسته حضارات وأمم أخرى واستنارت به وأثمرت بهذا الاقتباس. هذا الابتكار الشرعي الإسلامي الذي يسمى “الوقف” كان في تاريخنا الحضاري والاجتماعي والاقتصادي شريانًا رئيسيًا يمد الحضارة بالحياة العملية الفاعلة عبر قرون وإلى يومنا هذا، وإن كانت تواجه هذا الشريان “جلطات” كثيرة.
ومع ذلك، نحن اليوم مع لقاء مستوعب ومتجاوز، عنوانه: “اتجاهات التطوير الوقفي بمنظور حضاري: رؤى وتجارب وآفاق معاصرة (بين عامي 1993 و2035)”.
ولا شك أن في العنوان ما ينبغي أن نقف أمامه؛ فهو عنوان مستوعب متجاوز؛ من التحديات إلى فكرة “التطوير واتجاهاته”، ومن منظور “الحكاية والشكاية” المعتادة عن الوقف إلى منظور “النهوض الحضاري والحركي”. وأيضًا من الاكتفاء بحكاية الماضي أو انتحال الاستغناء عنه والانقطاع عنه، أو الوقوع في أسر الواقع أو الهروب منه، إلى اختيار حضاري بمعنى الكلمة يجمع بين الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل (الاستصحاب من أجل التقدم أو الاستيعاب ثم التجاوز، كما تعلمنا من أستاذتنا الدكتورة منى أبو الفضل رحمها الله).
إذ إن حركة المحاضرة تغطي أربعة عقود. ومجرد العنوان يستثير في الذهن أشياء كثيرة، لكن لعل الأهم من كل ما قلت هو مَن يتصدر لهذا العنوان الجامع، محاضر هذا اليوم: أستاذنا الدكتور عبد الحليم زيدان.
والدكتور عبد الحليم زيدان، هوالسفير الأممي للشراكة المجتمعية، وأحد الشخصيات العربية المائة الأكثر تأثيرًا في المسؤولية المجتمعية لعام 2020 ولسنوات على التوالي، ورئيس “معهد برامج التنمية الحضارية” في لبنان، وعضو مجلس أمناء جامعة طرابلس بلبنان، وأمين عام المجلس الاستشاري للمعهد الدولي للوقف الإسلامي حيث اختير لهذا المنصب في أغسطس 2025.
قدم الدكتور عبد الحليم الكثير من الجهد والنشاط في الإطار المتعلق بالأمة والمسؤولية الاجتماعية وقضايا الوقف والتطوير المؤسسي وصناعة الرواد والقيادات؛ وهو المجال الذي نسميه “البناء الحضاري”. الدكتور عبد الحليم نموذج للجهد والجهاد، وله جهد في تأسيس منصات خدمات تطوير الصناعة الوقفية (مثل منصة “ذُخر”).
تقديم (أ. د. نادية مصطفى):
أرحب بأستاذنا الدكتور عبد الحليم زيدان، وبالسادة الحضور جميعًا. ستكون كلمتي ترحيبية بالدكتور زيدان وليست تعريفية، وتدور حول: “الإنسان العالم الحضاري”. ليس من عادتي أن أمدح أو أذكر خصالًا شخصية للضيف، ولكن ربما ما سأقوله سيشرح من زاوية أخرى ما أوجزه الدكتور مدحت.
سأقدمه ليس من خلال عناوين وظيفية، ولكن من خلال ما تابعته عن أنشطته الحية، المتفاعلة، الواصلة والموصولة بالناس وبالمجتمع. أقدمه من خلال شعوري به كإنسان وعالم، ومن واقع أحاديثه العميقة الشاملة الرائقة التي كنا نستمتع بها حين يتفضل بزيارة القاهرة وتشريفنا في مركز الحضارة، فلم يكن يبخل علينا بهذه الإطلالة الكريمة.
أرحب به من خلال ما سمعته عنه من دوائر معارفنا المتقاطعة من كل أقوام العرب والمسلمين. هو إنسان ينضح بعمق: زعتر فلسطين وزيتونها، وترويقة لبنان، وزهيرات الشام، ومآذن إسطنبول، وعطور باحات مسجد الحسين، وعلوم الأزهر الشريف. هو إنسان عابر للحدود المصطنعة بين أوطاننا؛ لأنه يعمل ويتفاعل ويتنقل مع جذور وقواعد الأمة الفكرية والمجتمعية أينما كانت، وأينما تيسر له الذهاب بعلمه وخبراته من أجل الناس.
إنه يتجاوز القيود القائمة أمام التجديد والنهوض الحضاري، ويتخطى ما هو رسمي وشكلي ليصل إلى الإنسان؛ الذي هو مبتغى ومحور جهود النهوض التي نأملها. إنه -كما أشعر به- نموذج “الإنسان المفكر العالم العامل” الذي يجمع خيوط ثنائيات عديدة بتناغم وانسجام وثقة، والأهم بتفاؤل وهمة. وهي ثنائيات يعتبرها البعض متصارعة، ولكن تكاملها هو من طبائع المنظور الإسلامي اللازم للتجديد، مثل:
- الفرد والمجتمع.
- المجتمع الوطني والأمة.
- المجتمع والدولة.
- الروحي والمادي.
- القيمي والمصلحي.
- الواقع والتاريخ.
- الداخل والخارج.
وأخيرًا، موضوع اليوم الذي يتصدر له الدكتور عبد الحليم، وهو في قلب خبرته: الوقف (شرعًا ومؤسسيةً وخبرةً وتجديدًا). وأعتقد أنه سيجسد ما سبق وذكرته.
ولكن سيظل في حلقي تساؤل حول هذه المنطقة المهمة التي تعني تعبئة موارد الأمة للاستجابة لاحتياجاتها عوضًا عن التمويل الأجنبي. السؤال العالق في ذهني هو: هل وكيف تظل السياسة بمعناها التقليدي عائقًا أمام تطور الوقف؟ أم يمكن أن تكون فرصة أمام هذا المجال ليتجدد وتتجدد معه الأمة؟ وما أولوية الإصلاح أو التغيير: هل من أعلى (من هياكل الدولة)، أم من جذور مجتمعاتنا ووعي شعوبنا والحفاظ على ثوابتها وعقيدتها وهويتها؟
محاضرة د. عبد الحليم زيدان:
“اتجاهات التطوير الوقفي بمنظور حضاري”
تقديم:
أبدأ الحديث عن هذا الموضوع بمقدمة يسيرة لتحديد نطاق الحديث؛ فالموضوع ليس عن الوقف من حيث كونه صانع الحضارة وعملاقها، وليس عن أنواعه وأشكاله التاريخية التي عهدناها وكُتب عنها الكثير، وتغنى بها مؤلفونا ومحاضرونا احتفاءً وتذكارًا وثناءً على من قاموا بها، وهي جديرة بذلك دون شك. كما أنه ليس حديثًا عن مفاهيم النهوض الحضاري المجردة، لأن ذلك موضعه ورش أو محاضرات أخرى.
- تاريخنا المعاصر والوقف:
نطاق الحديث هو أننا في هذا العصر الحديث -أو المعاصر- مررنا بمحطتين كبيرتين في تاريخنا أثرت على الأوقاف:
المحطة الأولى: سقوط الدولة العثمانية التي كانت تشكل دولة واحدة، وكان الامتداد الديموغرافي الشعبي للناس فيها واحدًا؛ وبالتالي كانت الأوقاف آنذاك جزءًا من نشاط في الفضاء الحيوي لدولة واحدة. فكان أحدهم يوقف وقفًا في المغرب على طلبة المغرب في “رواق المغاربة” بالأزهر، وشخص من ماليزيا أو إندونيسيا يوقف أوقافًا على الحجاج الماليزيين في مكة. فكانت هذه كلها بمثابة امتداد لدولة واحدة أو لنشاط واحد.
المحطة الثانية: بعد سقوط الدولة، نشأت فترة انتقالية -سُميت هكذا- وهي فترة الانتدابات أو الاستعمار الغربي، وأُسست مجموعة من التشكيلات الجديدة لهذه المناطق سُميت “دولًا قُطرية”. شُكلت لهذه الدول نماذج من التشكيلات الرسمية الحكومية والسياسية على منوال النموذج الغربي، وهذا طبيعي في الجهات التي نظمت ذلك (مثل الفرنسيين والإنجليز في منطقتنا)، فجاءت معها الحمولة الفكرية والثقافية والسياسية للتشكيل النظمي للدول الناشئة.
من ضمن الإشكالات التي واجهها هؤلاء فيما يخلص التعامل مع الوقف، أن الدراسات المعرفية الحضارية -سواء الاستشراقية أو غيرها- كانت ترى أن هذا “الوقف” يشكل العصب الحقيقي الفاعل في تمكين المجتمع المسلم باستمرار، رغم كل الانكفاءات التي تعرض لها على مر الزمان. فالحضارة الوحيدة التي كان لها عدة جولات وصولات هي الحضارة الإسلامية، وهذا ما كتب عنه “أرنولد توينبي” وغيره؛ إذ كان لكل حضارة ظهور وأفول لمرة واحدة (مثل الرومان، والبيزنطيين، والإغريق)، أما هذه الأمة وهذه الحضارة فقد مرت بمحطات كثيرة؛ ضُربت قواها وانهزمت في معارك كثيرة، ومرت بظروف تجعل من يرى المشهد يقول “انتهى الأمر” وقُضي على الأمة الإسلامية، ولكن في كل مرة كانت الأمة تمر عبر “نفق” تعيد فيه تشكيل قواها وعلومها وأشخاصها وقياداتها، ثم تبرز من جديد.
في قلب هذا النفق، هناك حضور دائم للوقف. وأكثر من أضاء على هذه النقطة هو “مارشال هودجسون” في كتابه “مغامرة الإسلام” (The Venture of Islam)، حيث يقول إن هناك ممرًا موازيًا لنظم الدولة وتشكيلاتها وقوتها، قائمًا على ثلاثية:
- العلم الشرعي: (وتلخصه مدرسة الحديث).
- التصوف أو التزكية: الذي يرفع من جهوزية المرء لتنفيذ أوامر الله وتجنب نواهيه.
- الوقف: وهو موضوعنا، وهو الذي يقول: “افعل، وسأنفق على هذا الفعل”.
فإذا كان العلم الشرعي يحدد “ما يفعل”، والتزكية تقول “تحرر من قيود الدنيا وانطلق”، فإن الوقف يقول “التمويل عليّ”. إذًا، النظر إلى الوقف من منظور استعماري كان يرى فيه شعلة الدفق المتجدد لهذه الأمة؛ ولذلك دعت الحاجة لديهم إلى قولبته بطريقة أخرى.
- واقع وزارات الأوقاف في الدولة الحديثة
كل الوزارات التي أُنشئت في العالم العربي بعد الاستعمار (وقد رصدنا حوالي 20 وزارة)، وإن لم يكن في بعض الدول وزارات بل دوائر أوقاف (مثل لبنان)، فإن النظم التأسيسية لهذه الوزارات واللوائح التنفيذية فيها تُظهر وكأننا نتحدث عن “حافظة أرشيفية للآثار” وليس عن “إطار جامع لمكونات استثمار”.
وفرق كبير بين الآثار والاستثمار. فاللوائح لا تتضمن أي بند معني بتجديد أو تطوير استثمار الأوقاف، وإنما هي ضوابط في السجلات والسندات والصكوك، وبعض المواد حول الترميم أو الاستبدال، ومعالجة إشكالات الأوقاف الذرية. أما ما سوى ذلك فكأنه ليس داخلًا في الخريطة.
إلى جانب هذا التجميد، تم تحميل هذه الوزارات كمًّا كبيرًا من الأدوار والأعباء، على رأسها: التوجيه الديني، ورعاية المساجد، وتكليف الأئمة، والتعليم الديني، وصيانة المرافق، والمقابر. وهذه كلها أعباء مادية. النتيجة هي: الجانب الذي سينتج المال جمّدناه، والجانب الذي سيستهلك المال كبّرناه، وجعلناه كله في مظلة واحدة اسمها وزارة الأوقاف.
هذا الواقع الذي أنتجه المستعمر تحول لدينا إلى “أمر واقع”، نتعامل معه على أنه الأصل، وتنشأ أجيال ترى الأمر “وظيفيًا”؛ يتبع تنظيم الدولة (المالية هنا، والصحة هنا، والأوقاف هنا)، وينتهي معه المفهوم الأصلي للأوقاف بأنها نشاط مجتمعي يقوم به المجتمع المدني أفرادًا وجماعات.
- التحدي المستقبلي للوقف: بين التراث والتجديد
أدخل من هنا إلى موضوعنا اليوم لنقول: إن حركة الشمول الوقفي عبر الزمن -كما نقرأ في كتب مثل “روائع الأوقاف”- والتي تعد لنا آلاف الأشكال الوقفية، لا تحدثنا فقط عن جمالية وغنى الماضي، بل تحدثنا ضمنًا أن ذلك الماضي كانت فيه معارف وعلوم وأحكام متداخلة لتنتج الوقف بالشكل الذي يناسب تلك المراحل.
هذا الماضي تحول إلى إرث، والحاضر فيه تحديات وتطلعات وعلوم مستجدة. لكن التجربة علمتنا أن الذي كان في التاريخ ولم يلحظ المتغير المستقبلي أحدث لنا إشكالات؛ فبعض شروط الواقفين مقيدة لعمل الوقف وكأن النمط القديم دائم لقيام الساعة، وهذا غير ممكن. هناك متغيرات تستجد تحول موضوع الوقف أحيانًا إلى “أثر بعد عين” وتفقده قيمته المضافة.
إذًا، نحن أمام تحدٍ مستقبلي، وهو: كيف ننتج نماذج جديدة، ونشبكها مع المعارف والأحكام الجديدة، ونترك من خلالها ذخرًا تراكميًا مستقبليًا يليق بهذه الأمة؟ هذه التفاعلية تقتضي أن نجمع بين الأزمنة: الماضي، والحاضر، وديناميكية المستقبل. علينا أن نلحظ كيف ندمج الأوقاف في سياق الإنتاج الوطني (التعليم، الطب، الصحة، الخير العام) وننتج من خلال ذلك نهوضًا حضاريًا.
- الإطار المنهجي للتناول الوقف في المحاضرة
حديثنا سيكون عن مسارين (مصفوفة ذات بعدين):
- البعد التاريخي (المراحل): ما قبل الموجة الأولى (1970-1994) وهي فترة التحولات التي ذكرتها، ثم الموجة الأولى، والموجة الثانية.
- البعد الموضوعي (المخرجات): العلم الفقهي، والبناء المؤسسي، وبناء القدرات البشرية، والتمويل والاستدامة، والتفكير الاستراتيجي.
وينبغي التنبيه هنا إلى الفرق بين “التطوير” و”التطور”:
- التطوير: هو فعل إرادي، رؤيوي، تنفيذي، مخطط، ممنهج، وممرحل، وله ميزانيات. (مثل: التطوير الكويتي للأوقاف، أو السعودي).
- التطور: هو فعل سياقي، نتاج التنامي في الواقع، وتغير الإدارات والحكام وتنوع الواقفين. (مثل: الأوقاف الصلاحية، المملوكية، العثمانية).
المحور الأول- إعادة تعريف الوقف: من “الحبس” إلى “الذخر”
بالنسبة للتعريف، جرت العادة على استخدام التعريف الفقهي السائد: “حبس الأصل وتسبيل المنفعة”. وهو أضبط تعريف فقهي “إجرائي” (يحدثنا عن كيفية إجراء الوقف، كما يحدثنا الفقه عن أركان الصلاة). لكن لو أردنا تعريفًا من منظور “قيمي” أو “حضاري” للصلاة مثلًا، لتحدثنا عن الصلة بالله.
لذلك، نحن اخترنا أن نعرّف الوقف من منظور التفكير الاستراتيجي والنهوض الحضاري؛ لأننا نعتبره مكونًا أساسيًا لتغيير نظرتنا. بعد ورش عمل عديدة، وصلنا إلى صيغة تعتمد فكرة “رواسي المجتمع”؛ فالوقف كالأوتاد أو كالرواسي التي تثبت السفينة إذا ماجت الظروف، ليكون جاهزًا للخدمة والإنقاذ.
المصطلحات السائدة (الوقف، الحبس) تحمل حمولة نفسية سلبية (الجمود، أو تقييد الحرية)، وهي صحيحة إجرائيًا (المنع من البيع). ولكن بالمنظور الحضاري، اخترنا مصطلحًا آخر هو: “الذُّخر”. هو ذخر هذه الأمة، المضاف باستمرار، والتراكمي، والجاهز، وكأنه الكنز المخبأ للأجيال.
ولذا فإن التعريف المقترح بمنظور النهوض الحضاري: “هو تخصيصٌ إراديٌ منظمٌ لمواردِ التمكينِ المستدام”.
- المقصود بالنهوض الحضاري هو أننا نعمل على “تمكين مستدام” للأمة.
- الموارد: هذا التمكين يحتاج إلى موارد؛ وهذه الموارد قد تكون: (طبيعية، بشرية، مادية، معرفية، تخصصية، وعلائقية).
- تخصيص: تشمل معرفة:(النوع، الحجم، المكان، الحالة، التسليم).
- الإرادي: هذه الموارد تحتاج لمن يخصصها بإرادته الحرة (دون ضغط أو تأميم)؛ أي تشمل معاني وقيم: (الحرية، النية، الصلاحية، مباشر في حياته أو بالوصية).
- منظم: أي مسجل ومضبوط بمؤسسية تمنع الفساد، كما يرتبط: بتسجيل، وترخيص، وتشكيل مؤسسة، ونوع التشغيل، وإدارة وإشراف، وحوكمة.
هذا التعريف يلحظ في نصفه الأول: الصياغة، التشكيل، التنظيم، والمؤسسية. ويلحظ في نصفه الثاني: الدور، الوظيفة، الأداء، الإنتاج، والفاعلية. وكأننا جعلنا له نطاقًا إشعاعيًا يمتد إلى الفكر والعلم والثقافة والاقتصاد، ويربط بين الأجيال.
إن التمكين المستدام يعتمد على نظم وأمن متعدد القدرات، وعلى الوفرة والتكامل والتبادل والتنافس. فعندما نغير نظرتنا إلى الشيء، تتغير معها تقديراتنا لمفاعيله وأدواره وفاعليته، ولقدرتنا على تسخيره للمستقبل.
المحور الثاني- السياق التأسيسي ومراحل التحول في الأوقاف
ننطلق الآن إلى المخطط المتعلق بالمراحل:
الموجة الأولى: مرحلة ما بعد التحرير وبداية النهضة الوقفية 1995 – 2015
في عام 1990، وبعد تحرير الكويت[3]، أُعيد تشكيل الوزارات، وقدر الله أن أكون ضمن الفريق الذي أسهم في هذه المرحلة؛ إذ كنا في فريق التأسيس لمجموعة من الأشياء في وزارة الأوقاف، ومن بعدها في الأمانة العامة للأوقاف. لكن التاريخ الحقيقي للنهضة أو التحول في النظر إلى الأوقاف بدأ عام 1994 بتأسيس “الأمانة العامة للأوقاف” (التي بدأت عملها فعليًا في 1995). ونحن نعتبر أن “الموجة الأولى” قد أحدثتها هذه الأمانة في سنواتها الخمس الأولى (1995-2000)، حيث حققت نقلات نوعية كبيرة في الصناعة الوقفية.
تحولت هذه التجربة إلى “قصة نجاح”، أثمرت تكليف الكويت بملف الأوقاف في منظمة التعاون الإسلامي، واقتبست تجربتها عدة هيئات عامة مشابهة (نذكر منها: الإمارات، وقطر، والبحرين، وعمان، وماليزيا).
أبرز منجزات الموجة الأولى (التجربة الكويتية):
- على المستوى العلمي الفقهي: تم إنتاج منظور علمي فقهي متداخل مع المجالات والتخصصات، وأُنتجت كمية ضخمة من الأبحاث العصرية حول استخدامات الأوقاف، وقواميس الأوقاف، وتقاطعات الوقف مع المجالات الأخرى (مثل التعليم والصحة)، وكيفية تحديد المسؤوليات والأولويات.
- على المستوى البنيوي: تمت إعادة صياغة نماذج مقننة لتشكيلات مؤسسية اقتصادية واجتماعية تناسب التحولات البنيوية، فأصبح لدينا مثلًا ستة أو سبعة نماذج لتشكيل الأوقاف، ودليل إنشاء الأوقاف، ودليل إرشادي لسن قوانين وقفية جديدة للدول التي تفتقر إليها.
- بناء القدرات البشرية: تم تطوير منظومة برامج للتوجيه والتدريب وبناء القدرات، بما يناسب التحولات الإدارية والمهنية والتخصصية.
- التمويل والاستدامة: تمت إعادة تشكيل منظومة موارد تشبيك اقتصادي للوقف وشراكات مجتمعية، وتبني أدوات تمويل حديثة، مثل: الصكوك، والتمويل الجماعي (ما يُعرف B.O.T).
- النقلات النوعية (وليس التطور التدريجي): تم رصد أكبر عشرة أوقاف جامدة أو متهالكة وتحويلها إلى أكبر عشرة مشاريع استثمارية في الكويت، بشراكة مع أكبر عشرة ممولين، مما أحدث ضجة إيجابية.
النتيجة أنه: بعد خمس سنوات، أصبح وزير الأوقاف يجلس في المنصة وبجانبه وزراء (الصحة، والعمل، والتعليم، والإعلام)، ويوقع مذكرات تفاهم تنفق بموجبها وزارة الأوقاف على برامجهم؛ فعادت للأوقاف “اليد العليا” التي تنفق على مشاريع خدمة المجتمع والوطن.
- على مستوى التفكير الاستراتيجي: تغيير الثقافة السائدة، استعادة الموروث وإحيائه، وتوسيع المظلة الخدمية التي ينشط بها الوقف.
وقد تركت هذه الحقبة (من 1995 إلى 2015) بصمتها في سائر المجال الوقفي عالميًا.
الموجة الثانية 2016 – 2025: (الهيئة العامة للأوقاف بالسعودية 2015)
تبدأ هذه الموجة مع إنشاء “الهيئة العامة للأوقاف” في المملكة العربية السعودية عام 2015، ونحن هنا أمام خريطة جديدة؛ بسبب ظهور اتجاه جديد هو “الرؤى الوطنية” (مثل: رؤية السعودية 2030، مصر 2030، وغيرها).
وتكمن قيمة الخطط الوطنية الكبرى في أنها تنظم الاتجاهات بأهداف محددة، وبدعم من الدولة، وبشراكة مع المنظمات، وبمحددات لقياس الأداء والأثر؛ مما يساعدنا في ربط عجلة التطوير الوقفي بمحرك كبير.
أبرز ملامح ومنجزات الموجة الثانية:
- على المستوى الأكاديمي (العلمي والفقهي): في المرحلة الكويتية، كنا نحاول إدخال مواد الوقف إلى الكليات دون استجابة كافية. أما في التجربة السعودية، فقد دخل الوقف في صلب العمل الأكاديمي؛ إذ أنشأت أكثر من 5 أو 6 كليات تخصصات جديدة (ماجستير ودكتوراه) في الوقف (في الاقتصاد الإسلامي، الشريعة، القضاء، والإدارة). كما بدأ التصنيف التخصصي العلمي المهني التطبيقي للمجال الوقفي يأخذ منحى جديدًا يبشر بإنتاج “أكاديميا وقفية” جديدة.
- في الإطار المؤسسي البنيوي (التشبيك القطاعي):
- الهيئة العامة للأوقاف: هي جهة متخصصة في التطوير الوقفي كمورد استثماري، مستقلة عن وزارة الأوقاف التقليدية (المعنية بالتوجيه الديني والمساجد).
- لجان الأوقاف في الغرف التجارية: تم إنشاء لجان أوقاف في كل الغرف التجارية لرجال الأعمال؛ لضبط إجراءات الوقف وحوكمته لديهم.
- الأوقاف الجامعية: تم توجيه الجامعات لإنشاء أوقاف وازنة تضمن استمرارية العمل الأكاديمي والرواتب عند الأزمات.
- أوقاف المؤسسات الخيرية: تم توجيه الجمعيات الخيرية الكبرى (التي يتجاوز حجم تعاملها رقمًا معينًا) لإنشاء أوقاف تغطي نفقاتها التشغيلية، لتقليص الاقتطاع من أموال التبرعات.
- القضاء التخصصي: إنشاء غرف تقاضي وقفية تخصصية؛ لأن للوقف خصوصية كشخصية اعتبارية، ولا يناسب أن يحاكم كأي قضية عادية.
كما حدث نوع من التشبيك الاحترافي بين المسؤولية والشراكة المجتمعية، إذ تمالانتقال من المفهوم “الإنشائي” للمسؤولية الاجتماعية إلى المفهوم “المهني الاحترافي”؛ حيث يتولى إدارة الأوقاف أشخاص مؤهلون وحاصلون على شهادات معتمدة وتدريبات متخصصة.
- بناء القدرات البشرية: تم وضع وصف وظيفي ومهني لكل المجالات (عموديًا وأفقيًا)، وتطوير برامج تدريب تخصصية. فبدلًا من الدورات العامة (مثل: إدارة الاجتماعات)، أصبحنا نقدم دورات تخصصية (مثل: إدارة اجتماعات مجلس النظارة: جدول الأعمال، عرض القرارات، اتخاذ القرار).
- التمويل: توسيع منافذ التمويل لتشمل الموارد والتطبيقات الحديثة أولًا (مثل: الاقتطاع البنكي، والتمويل الجماعي “Crowdfunding”).
ومن هنا، حدث تحول جذري؛ فسابقًا كان الوقف محصورًا في ذهننا بـ “الأغنياء”. الآن، تُطرح صيغة وقفية يسهم فيها عامة المجتمع بمبالغ بسيطة (5، 10، 20 دولارًا)، فتنتج الملايين في وقت قصير، دون انتظار الأثرياء.
- التفكير الاستراتيجي: تبني الأدوار الوظيفية (الإسعاف الاجتماعي، المساندة المجتمعية) المتكاملة مع أجندات التنمية الشاملة والمستدامة والرؤى الوطنية، وفق معايير ومحددات أداء واضحة.
المرحلة القادمة: الرؤية المستقبلية لقطاع الأوقاف (2025 – 2035)
نستعرض في هذه الرحلة خريطة الطريق لتطوير القطاع الوقفي، بدءًا من التأسيس ووصولًا إلى آفاق المستقبل، مع التركيز على المخرجات المنشودة والتطور العملي التلقائي.
- الشراكة بين الأكاديميا والسوق (فضاء التطبيق)
نواجه حاليًا تحديًا يتمثل في كيفية إنتاج شراكة فاعلة بين الأكاديميا والسوق. والمقصود بالسوق هنا هو “فضاء التطبيق الحيوي”، وليس المفهوم التجاري الضيق الذي قد يتحفظ عليه البعض عند ربطه بالوقف. ولتحقيق ذلك نحتاج إلى:
- حاضنات ومسرعات: إنشاء حاضنات لتطوير الأوقاف ومسرعات لضمان النجاح والاستدامة.
- صيغ وقفية مستحدثة: ابتكار صيغ تناسب المراحل القادمة، مما يضعنا أمام تكوينات جديدة كليًا.
- تشكيلات مؤسسية مقوننة: توسيع الصيغ لتشمل الأوقاف الرقمية، الفكرية، العقارية، والنقدية.
- نظم الحوكمة والضبط: تطبيق نظم حوكمة شمولية تتضمن التفتيش، الرقابة، القياس، منح الشهادات، والجوائز التقديرية، لضمان انضباط التطوير وعدم تحوله إلى فوضى.
- بناء القدرات البشرية (التمكين المهني)
الهدف هو التمكين المهني الوقفي الشمولي لكافة المهن والتخصصات، كمكون علمي مهني تطبيقي يرفع من تصنيف العاملين في سوق العمل.
- القيمة المضافة: أسوة بالعاملين في سلاسل الامتياز التجاري (Franchise) الذين تزداد قيمتهم السوقية بنسبة 30-40% لاكتسابهم مهارات متخصصة، نسعى لأن يكتسب العامل في الوقف قيمة مضافة مماثلة.
- قطاع الموارد البشرية: تكوين قطاع موارد بشرية تخصصي يشمل القيادات، والإداريين، والتنفيذيين.
- التمويل وأسواق رأس المال الوقفية
يتم تصنيف الأوقاف من منظور “النهوض الحضاري” إلى نوعين:
الأول- أوقاف وظيفية: مثل المساجد، المقابر، والمدارس (تؤدي وظيفة ولا تُدر مالًا).
الثاني- أوقاف إدرارية: مخصصة لإدرار المال للإنفاق على الأوقاف الوظيفية وغيرها.
- الطموح المستقبلي:
- إنشاء ما يشبه “البورصة” أو أسواق رأس المال للأوقاف المدرة.
- التقييم المستمر للأصول لرفع قيمتها السوقية (العقارية، واليد العاملة، والخدمات، والتشبيكات).
- تحويل القيمة إلى قيمة متعدية وعابرة للقطاعات، مما يخلق تمويلًا مجتمعيًا قطاعيًا مشتركًا.
المحور الثالث- التفكير الاستراتيجي وتطوير المناهج (منهج ذُخر)
لربط الوقف بأجندة النهوض الحضاري، يجب إطلاق معايير شمولية تغطي كافة التخصصات. ولذا تم اقتراح “المقرر المشترك” أو “منهج ذُخر” الذي يدمج الوقف في ستة مجالات أساسية (قانون، إدارة، اجتماع، اقتصاد، شريعة، تاريخ وحضارة)، ولكن قبل ذلك لا بد أن نلقي النظر على أهمية وضرورة تطوير مناهج أكاديمية لتدريس الوقف، وواقع تدريسها قبل مرحلة الهيئة العامة للأوقاف.
- ضرورة تطوير مناهج أكاديمية تلبي احتياجات الشراكات الوقفية المهنية والسوقية
عند النظر في ضرورة تطوير مناهج أكاديمية تلبي احتياجات الشراكات الوقفية المهنية والسوقية، نجد أن الأدوار تتوزع ضمن مصفوفة متكاملة بين الكليات المختلفة؛ فكليات الشريعة والقانون والحضارة والتخطيط الحضري تضطلع بمهام “التأصيل” والصياغة والتخطيط لضبط العمل الوقفي تشريعيًا وقانونيًا، بينما تتولى كليات الاقتصاد والتمويل والرقمنة مهمة توجيه الوقف نحو “التثمير” والاستثمار. وفي السياق ذاته، تركز علوم الاجتماع بفروعها المختلفة على “قابلية” العمل وتشغيله وربطه بحاجات المجتمع، لتأتي كليات الإدارة والمحاسبة لضبط هذا العمل، وإدارته، والتحقق من جودة مخرجاته.
وعلى مستوى العمل الأكاديمي ذاته، ينقسم المشهد إلى شقين متلازمين:
- شق “ناعم” يتمثل في البحث والتعليم داخل المؤسسة الأكاديمية؛
- شق “صلب” يمثل حركة السوق والتطبيق في الفضاء العام.
وتنتج عن هذا التلازم دورة متصلة لا تتوقف؛ حيث تبدأ العملية من “الثقافة الموروثة” وأدبيات الماضي التي يتم تحويلها عبر الاستدامة والنمذجة إلى مفاهيم وتصورات نظرية جديدة، وما إن تدخل هذه التصورات حيز التنفيذ في بيئة قانونية ونظامية، حتى تتحول إلى نماذج وصيغ تطبيقية تخضع لاختبارات السوق وتحديات النجاح والفشل.
وحين تثبت هذه النماذج نجاحها في بيئاتها المجتمعية والقطاعية، تصبح نماذج جاهزة للتعميم، لتعود وتنضم مرة أخرى إلى “الثقافة الموروثة” وتصبح جزءًا من إرث المراحل القادمة. وبهذا نكون أمام رحلة لا نهائية (Infinity) تجمع بين التنافسية التعليمية لصناعة المفاهيم، والشراكة التنفيذية بين الأكاديميا والسوق عبر الحاضنات، والتنافسية السوقية التي تفرز موجات تحديثية متتالية، مما يضمن أن يظل التعليم الوقفي متجددًا ويعيد إنتاج أدواته باستمرار.
- واقع تدريس مادة الوقف وإشكالياته (ما قبل الهيئة العامة للأوقاف)
عند النظر إلى المرحلة التي سبقت إنشاء الهيئة العامة للأوقاف في السعودية، نجد أن واقع تدريس مادة الوقف كان يعاني من إشكاليات جوهرية يمكن تحليلها من خلال ستة أبعاد رئيسية:
1- تشكيل المادة العلمية: كان الاعتماد غالبًا على كتب تقليدية، أو كتب معاصرة لكنها تقليدية في محتواها وطرحها، أو الاكتفاء بمذكرات مختارة وقراءات إثرائية غير ممنهجة.
2- مُدرّس المادة: في الغالب، لم يكن القائم على تدريس المادة متخصصًا دقيقًا في علم الأوقاف وتشعباته الحديثة.
3- قيمة المادة: في معظم الأحيان كانت المادة “غير محتسبة” ضمن المعدل التراكمي الأساسي.
4- إلزامية المادة: كانت تُطرح كمادة اختيارية أو إضافية إثرائية، وليست مادة إلزامية أساسية.
5- تنوع المادة والمنظور الحاكم: هناك غلبة المنظور الفقهي (أحكام الوقف) على المادة، مع التركيز على جوانب التقييد والضبط على حساب الجوانب الحيوية والإبداعية والتنموية، في ظل وجود فجوة كبيرة في معالجة الوقف من منظور الاقتصاد الكلي، وغياب احتساب الأوقاف كأصول مالية كلية رافدة للاقتصادات الوطنية والمجتمعية، واقتصادات الجاليات والأقليات المسلمة.
6- محتوى المادة وصياغتها:
- نصوص مكتوبة بلغة قديمة أو تراثية بحتة.
- طريقة تبويب تقليدية للموضوعات.
- الاعتماد على صور ونماذج تاريخية لا تحاكي الواقع المعاصر.
- المادة بصيغتها تلك كانت “غير جاهزة” للتطبيق العملي المباشر في العصر الحديث.
- الحاجة إلى التغيير: مقترح “منهج ذُخر“
بناءً على هذا الواقع، يبرز السؤال: كيف يمكننا استبشار حدوث نقلة نوعية في قطاع الأوقاف إذا كانت هذه هي مدخلات التعليم؟ لذا، نحن أمام تحدٍ كبير يتطلب إعادة صناعة المناهج والمواد التدريسية، وأن تترافق معها مواد تدريبية تطبيقية.
ولذا فإن المقترح الذي نقدمه هو المقرر المشترك (منهج ذُخر)؛ حيث تم تقديم مقترح لتطوير المناهج في الكليات تحت مسمى “منهج ذُخر“ أو “المقرر المشترك“، والذي ينطلق من فكرة أن الوقف هو قاسم مشترك بين عدة تخصصات وليس حكرًا على تخصص واحد. وهذه التخصصات مستمدة من: ستة مجالات أساسية (قانون، إدارة، اجتماع، اقتصاد، شريعة، تاريخ وحضارة)،
هيكلية المادة الدراسية المقترحة: لحل إشكالية اختلاف تخصصات الطلاب، يتم تقسيم المادة إلى:
- مادة أساسية موحدة: يدرسها الجميع (الذخيرة الأولى).
- مادة التخصص: (مثلًا: الوقف في القانون لطلاب القانون).
- مادة تكميلية: من تخصص آخر لتوسيع المدارك.
- مادة إثرائية: للتطوير العام.
- الحوكمة وربط الوقف بجودة الحياة
تطوير نظم حوكمة تخصصية تراعي احتياجات كل مجال وقفي (طبي، زراعي، تعليمي)، وربط الوقف بمؤشرات جودة الحياة القابلة للقياس:
- تحديد درجة إسهام الوقف في الصحة، التعليم، التفاعل الاجتماعي، والنشاط الترفيهي.
- تطوير تصنيفات للموارد البشرية (ممارس وقفي، استشاري، خبير، سفير).
- منظومة العلاقات لإنشاء مجتمع وقفي:
- المحلي: يشمل التوعية، التمويل، الإنشاء، والحماة (القودنة والجودة).
- الخارجي: يشمل السفراء (توعية وتمويل) والأصدقاء (التشبيك الدولي).
- دمج الأوقاف في النقابات والاتحادات الدولية والتخصصية.
- التحول الرقمي (الرقمنة والبلوك تشين)
نحن نتجه نحو عالم يعتمد على البيانات الضخمة (Big Data) وسلاسل الكتل (Blockchain)؛ وبالتالي نحتاج إلى الاستفادة من ذلك في تطوير الوقف:
- السجل الوقفي العالمي:
- إنشاء سجل عالمي على “البلوك تشين” يربط السجلات المعاصرة بالتراث الوقفي.
- رصد وضبط وتحليل البيانات واستخراج المؤشرات بشفافية عالية (Disclosure).
- التحدي ليس تقنيًا (فالتقنية جاهزة)، بل يكمن في “القرار” بالتصريح عن الأوزان والأحجام وطرق الاستثمار وقياس الأداء.
- الاقتصاد الرقمي:
- العالم يتجه لإنهاء دور العملات الورقية (Banknotes).
- البديل إما العودة للمعادن والجواهر (المنطقة الكلاسيكية التي عاش فيها الوقف طويلًا) أو الاتجاه نحو العملات الرقمية والمشفرة (Cyber Currency).
- التحدي أمام المفكرين والعلماء هو كيفية نقل الوقف إلى هذا المجال الرقمي وبأي صيغة.
- الهيكلة الإدارية (من النظارة إلى المؤسسية)
الانتقال من الإدارة الفردية (الناظر) التي قد تتعرض للمرض أو الموت أو الفساد، إلى الإدارة المؤسسية التي فيها نوع من الديمومة.
الاستدامة هي نموذج استمرار الأعمال (Business Continuity)؛ والاستدامة غالبًا ما ترتبط ببقاء “العقار” (الذي قد يكون عبئًا إذا تعطل). أما الديمومة الحقيقية تقوم على “استمرار الأعمال والنشاط” (Business Continuity)، وهو ما يتطلب الانفصال عن النظارة الفردية والتحول إلى المجالس المنتخبة.
الخلاصة أننابحاجة إلى منصة (Platform) للمرحلة القادمة تعتمد على تشبيك العلاقات القطاعية والدولية، والاستفادة من تقنيات البلوك تشين، لصناعة مستقبل وقفي متجدد وفاعل.
اتجاهات النقاش: “بين التجارب الوقفية والرؤى الوطنية وخارطة المستقبل”
تنوعت اتجاهات النقاش بين الحضور والمحاضر على نحو أثرى اللقاء، وأكمل جوانب مختلفة من الموضوع، وذلك على عدة محاور نعرضها موضوعيًا في صورة إشكالات أو أسئلة وتعقيبات من المحاضر:
أولًا- التجارب الوقفية التاريخية:
أشارت مداخلة د. كريم حسين إلى أهمية ما يلي:
1- إعادة الاعتبار للتجربة العربية: لا شك في أهمية التجربة العثمانية الوقفية، ولكن الحضارة الإسلامية هي حضارة جامعة لتجارب متنوعة. لذا، أدعو الباحثين الشباب للاهتمام بالتجارب العربية وإحيائها. في مصر مثلًا، نجد النقوش الوقفية في الآثار المملوكية (التي سبقت الدولة العثمانية) تغطي مجالات الطب، والتكايا، والمدارس، والأزهر الشريف.
وكذلك في بلاد الشام، والدور الوقفي والسياسي للحاج أمين الحسيني (مفتي القدس)، وفي المغرب العربي نجد نماذج أخرى. إذن، نحن بحاجة لتسليط الضوء على هذه التجارب المحلية وتشجيع الأجيال الجديدة على دراستها.
2- نماذج العمل الخيري الحديث في مصر: فمع تراجع الحالة الوقفية التقليدية في بداية القرن العشرين، ظهرت في مصر نماذج حديثة للعمل الخيري لعبت دورًا كبيرًا محليًا وعالميًا، مثل “جمعية الشبان المسلمين” (التي أصبحت عالمية)، و”الجمعية الشرعية” (بأدوارها الدعوية والصحية)، و”الجمعية الخيرية الإسلامية” (التي اهتمت ببناء المدارس الحديثة). هذه التجارب يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند الحديث عن الأشكال الجديدة للوقف.
3- الحوار مع المؤسسات الدينية: ارتبط الوقف في أذهاننا تقليديًا بالخطابة والوعظ، بينما هو أوسع من ذلك بكثير؛ فلإحياء الوقف، لا بد من فتح حوار مع المؤسسات الدينية القائمة. ولكننا نُواجه تحديًا يتمثل في “أحادية” هذه المؤسسات، حيث يصعب مراجعة رجال الدين في قراراتهم. لذا، يجب أن يكون الحوار تدافعيًا، يؤكد على أنه لا يمكن لرجال الدين الانفراد بإدارة المشروعات الاقتصادية والوقفية، بل لا بد من إفساح المجال للتخصصات الاقتصادية وغيرها.
4- الوقف كمنهج عابر للتخصصاتInterdisciplinary : تعلمت من المدرسة الحضارية أهمية الاشتباك مع العلم. الوقف لا يجب أن يقتصر على الدراسات الشرعية، بل يجب أن يكون له “دبلوماسية” تطرق أبواب الكليات الأخرى. أين بُعد الوقف في كليات الهندسة؟ والطب؟ والفنون؟ عندما يدرس المهندس أو الفنان الوقف كجزء من تخصصه، فإننا نُحيي فيه الاهتمام والانتماء، ونكسر الفصل الذي أحدثته المنظومة الاستعمارية، مما يحول العلم إلى مشروعات وقفية حديثة.
ثانيًا- من أين نبدأ تجربة وقفية “صفرية”؟
طرح الحاضرون عدة أسئلة حول: التخطيط في المساحات التي يمكن وصفها بأنها “مُصحرة” من الناحية الوقفية، انطلاقًا من هذه الفكرة الرائعة ومن التجارب التفعيلية المتراكمة التي عُرضت في المحاضرة؟ أي المساحات التي إذا أردنا أن نبدأ فيها بعد هذه الخبرة الطويلة، ووجدنا أنها تفتقر إلى الوعي الوقفي، وتفتقر إلى الكادر (مثل الكوادر التي نراها معكم في المعهد الدولي)، وتفتقر إلى دور الدولة الداعم. من أين نبدأ في هذه البيئات التي تعاني إمساكًا في أغلب الأمة من ناحية المنظور الوقفي؟ هل نبدأ بمادة تعليمية؟ أم بمادة تثقيفية؟ أم بصناعة كوادر؟ ما هي نقطة التوازن الحرجة التي تؤدي إلى النهوض؟ وهل هناك مرجع أو كتاب يحدد “من أين تبدأ التجربة” لكي يدرسه المؤمنون بالفكرة ويلحوا عليها حتى نكسر هذه الأطر؟
وأشار الدكتور عبد الحليم إلى أنه لا توجد إجابة واحدة تصلح للجميع، فالأمر يعتمد على تشخيص الحالة:
- هل يملكون الفكرة ولكن لديهم مشاكل في التمويل؟ إذن، الحل يبدأ من التمويل.
- هل لديهم التمويل ولكن مشاكلهم في القوانين والأنظمة؟ إذن، الحل يبدأ من التشريع.
- أما إذا كانت الفكرة نفسها غير موجودة، ولا التمويل ولا الأنظمة، فالبداية دائمًا “فكرية”.
يجب أن نبدأ من الفكرة: كيف نعيد النظر في رحلتنا الواقعية القادمة؟ كيف نهندس (ما أسميه “هندسة الفكر والوقف في المستقبل”)؟ فنضع الخريطة للمرحلة القادمة بناءً على معطيات الواقع. ومصطلح “مُصحرة” دقيق ولطيف. فكل بلد أو مجتمع يحتاج إلى تحديد “المربع الأول” الخاص به.
ولكن، بحسب ما رصدنا، فإن المشكلة في معظم الحالات هي “فجوة فكرية“؛ فجوة في فهم ماهية الوقف، ودوره، وفاعليته في المستقبل، وكيفية تسخيره للاستخدام الكامل.
ثالثًا- حقيقة التجارب الوقفية المتنوعة وتقويمها:
آثار المشاركون مجموعة من التساؤلات بشأن عدد من التجارب منها التجربة التركية والتونسية والمصرية وحتى التجربة الغربية، وآفاق كل واحدة منها:
- التجارب الوقفية في الغرب:
أشار الحضور إلى أن المحاضرة بنيت استراتيجيته لتطوير الوقف على بعض الرؤى والتجارب الموجودة هنا وهناك، ولكن هناك أيضًا تجربة وخبرة بشرية ضخمة في الغرب (مثل أوقاف الجامعات مثل هارفارد). فإلى أي درجة يمكننا الاستفادة منها؟
وجاء رد الدكتور عبد الحليم إلى أنه بدايةً، يجب أن نفرق بين مسألتين:
المسألة الأولى (موضوع هذه المحاضرة): وهي التحدي الذي يواجهنا في منطقتنا؛ كيف نصنع موجات تطوير لمنظومة الوقف الخاصة بنا في ظل واقعنا الحالي (دول قُطرية، أنظمة وزارية محددة). هذا هو الأساس.
المسألة الثانية: ما يمكن الاستفادة منه من تجارب الآخرين.
والاستفادة لا تقتصر على الجامعات الغربية فقط، رغم أنها “رأس الجبل الجليدي” الظاهر لنا. هناك تجارب وقفية كبرى في كل المجالات:
- الشركات التجارية والصناعية: على سبيل المثال، شركة “إيكيا” (IKEA) العالمية هي في حقيقتها وقف، وكذلك شركات ساعات عالمية (مثل رولكس وغيرها) تعمل بنظام وقفي.
- المؤسسات المانحة: مؤسسات مثل “روكفلر”، “ماكنزي”، وغيرها، هي أوقاف منتجة، ومدرة، ومثمرة، تنفق عوائدها على أهداف ثقافية واجتماعية وسياسية.
إذن، نحن أمام مهمتين: تطوير ما نملك، والانفتاح على تجارب الآخرين. يجب ألا ننشغل بالجدل حول التسميات (هم يسمونها Endowment، Fund، Trust، ونحن نسميها وقفًا)، ولا أن نتحجج بأنهم “اقتبسوها منا” أو أنها “ربوية”. التحدي الحقيقي هو: ما هي الآليات (Mechanisms) التي اعتمدوها لتطوير هذا المفهوم وتحويله إلى شراكة مجتمعية؟ وكيف تمكنوا من كسر حواجز القانون، والجغرافيا، والمال؟
أما العقلية الاستثمارية في الإدارة فإن تجارب الجامعات الغربية (مثل الـ 20 جامعة الكبرى) تعلمنا أن التنافس ليس في حجم الوقف فقط، بل في نوعية وتنوع المحافظ الاستثمارية. فجامعة “هارفارد” مثلًا حافظت على مكانتها باتباع استراتيجيات استثمارية ذكية (شبيهة بمنهج “بيركشاير هاثاواي”)، كالاستثمار في السندات البلدية، والأصول غير الملموسة (Intangible Assets)، والتنويع المدروس.
الخلاصة، أنه يجب أن تكون الإدارة الوقفية إدارة بعقلية استثمارية (لإدرار المال والربح)، وليست بعقلية اجتماعية بحتة، وهنا تأتي أهمية التكامل بين الدورين؛
- دور الإدارة الاستثمارية: جلب المال وتنميته بمعايير السوق.
- دور الإدارة الاجتماعية: تحديد مواصفات الجهات المستحقة للصرف (مثل دور الأيتام) وضوابطها.
عندما نفصل بين “الإدرار الاستثماري” و”الصرف الاجتماعي”، ونخضع كلاهما لضوابط وحوكمة فاعلة، حينها نخرج بتجربة ناجحة ونستفيد من اقتباسات الغرب بفاعلية.
- التجربة التونسية:
أشار الدكتور رضا بشير أنه نظرًا لطبيعة الوضع في تونس، فإن العمل الوقفي لم يعد مجرد أمر مرغوب فيه (مندوب)، بل نزل منزلة “الضرورة” (كما يقول الفقهاء)، وقد يرتقي في هذا السياق إلى مرتبة “الواجب”. فتونس تعيش أزمة قيمية وبنيوية عنيفة. الدولة -التي الأصل فيها أن تمثل “الإرادة العامة” الخيرة للمجتمع- أصبحت في حالة تناقض، وأحيانًا في “تصادم” مع المجتمع التونسي نفسه، ومع مؤسساته القيمية والرمزية والعقدية. هذا التصادم يظهر في الاختيارات الكبرى (التعليم، الثقافة، الإعلام، التشريع)، مما قوض قدرة المجتمع على الحفاظ على هويته وانسجامه مع ذاته.
والمخرج للإصلاح وتدارك هذه المعاناة يكمن في “المؤسسات الوقفية” أو صيغ عمل المجتمع المدني.
ونظرًا للتضييق، فإن هذه الأوقاف قد تؤسس حتى خارج تونس. كما نحتاج إلى إسناد من الإخوة في البلدان الإسلامية (كجسد واحد). والمطلوب هو تبني الوثيقة التي طرحها الدكتور عبد الحليم والعمل بإسناد من كافة الجهات لإنجاح هذه الحالة في تونس، أسوة بتطور العمل الوقفي في دول أخرى مثل تركيا (رغم بقائه تقليديًا هناك).
وكان رد الدكتور عبد الحليم أنه قد شارك سابقًا في لجان مراجعة وتحضير القوانين المقترحة للأوقاف في تونس، وتم تجميد الموضوع مرارًا لاعتبارات سياسية لا تخفى عليكم. ولذلك، كانتنصيحته الدائمة هي: يجب أن يكون ذهننا جاهزًا للتعامل مع كل الاحتمالات:
- السيناريو الأول: الموافقة على القانون واعتماده (وهذا السيناريو النموذجي).
- السيناريو الثاني: أن يأخذوا نصفه ويتركوا نصفه.
- السيناريو الثالث (الأسوأ): الرفض الكامل.
وعليه، لو قال شخص من تونس “الوقف ممنوع عندنا منذ إلغائه”، سأسأله: هل تريد “الاسم” أم “المعنى”؟ فإذا أردت المعنى (حبس أصل وتسبيل منفعة)، فهناك صيغ بديلة مثل “العملية الائتمانية” داخل الشركات، حيث يمكنك تخصيص بند ينص على صرف العوائد لجهات محددة. بهذا تكون قد حققت الوقف بمعناه الكامل. وحل آخر: أنشئ الوقف في دولة تسمح بذلك (مثل النرويج) وخصص ريعه للمستفيدين في تونس.
إذن، فالإشكالية تكمن في “العقلية النمطية” التي اعتادت على أقياس وحدود معينة، وليست في القوانين وحدها. والتفكير الاستراتيجي يوجب علينا توليد الحلول من خلال الفراغات المتاحة للعبور إلى المساحات الأخرى.
وهنا مهم أن يجري تطوير “المسارات البديلة”؛ ففي حال الرفض (وهو الواقع الحالي في بعض السياقات)، ماذا نفعل؟ لا نتوقف، بل نلجأ للبدائل الجاهزة للخدمة:
- العقود الائتمانية (Trusts): يمكن استخدامها كبديل قانوني يحقق غرض الوقف.
- الأوقاف الخارجية: إنشاء الوقف خارج البلد (في بيئة قانونية آمنة) وإدخال ناتجه وريعه إلى البلد.
- الشركات التجارية: إنشاء شركات تعمل بنسق تجاري، ولكن عقودها التأسيسية والائتمانية تجعلها في حقيقتها أوقافًا.
لذا يجب أن نطور ذهننا على التكيف والقدرة على النفاذ. التحدي الحقيقي ليس في “وجود التحديات الخارجية”، بل التحدي هو: هل عقولنا قادرة على التعامل مع تلك التحديات واجتراح الحلول؟ أم سيصبح عجزنا الذهني هو التحدي الأكبر الذي يحجزنا عن العمل؟
- التجربة التركية:
تساءل الحضور بشأن: لماذا لا توسع تركيا نشاطها للعمل في كل الدول الإسلامية بنفس المنطق المالي والديني لتوفير وسائل التمويل والادخار والعمل الخيري بما يتوافق مع الشريعة؟
فكانت إجابة الدكتور عبد الحليم، فيما يلي:
إن تركيا حاضنة وقفية كبيرة ومهمة، لكنها حتى الآن -وحتى إشعار آخر- تعتبر حاضنة “تقليدية وكلاسيكية جدًا”، وهذا لأن الكيانات التي لم تمر بتجربة الاستعمار الذي يغير هويتها وآلية عملها، بقيت على ما كانت عليه. التطوير فيها يشبه ما نسميه في التدريب الإداري “تطور الديناصورات“؛ أي أننا نتعامل مع مراوح زمنية كبيرة وأحجام ضخمة، فأي تعديل صغير فيها يُحدث أثرًا على مساحات واسعة نظرًا لضخامة الحجم. والحاضنات الكبرى (المغربية، الهندية، الباكستانية، التركية) كلها من هذا النوع؛ ضخمة وتاريخية ولكنها لا تزال نمطية.
وما تزال هذه التجارب ترزح في منطقة “الإسعاف الاجتماعي“، ونحن نرى أنه يجب ألا يزيد الإسعاف الاجتماعي عن ثلث الحجم الوقفي، بحيث يكون الثلث الثاني للنهوض الاقتصادي، والثلث الثالث للبيئة وحفظ حقوق الأجيال. (وهذا ما حاولت الأمم المتحدة الوصول إليه في أهداف التنمية المستدامة الـ 17، لكنها فشلت لأنها عالجت الأعراض ولم تعالج جذور المشاكل).
لماذا لا تتوسع فكرة الوقف التركية بهذه الطريقة في الدول الإسلامية؟
لأن التوسع يعتمد على اعتبارين:
- من هي الدولة التي لديها خطة توسع؟
- ما هي الدولة التي ستتوسع فيها ولديها “قابليات” لاستقبال هذا التوسع؟ الأمر هنا هو “متغير يحكمه متغير” وليس ثابتًا على ثابت. تركيا لها دور كبير وفاعل فيما يسمى “العالم التركي” (البلقان، وسط آسيا، تركستان) في صناعة المشتركات. فمثلًا، نصف القضايا المرفوعة في دول أوروبا الشرقية (بلغاريا وغيرها) لاسترجاع الأوقاف التي أُممت في العهد الشيوعي، تتم بخبرة قانونية ودعم تركي، لكن هل الدور التركي في تطوير “الاتجاهات الوقفية المعاصرة” وإعادة توجيه العجلة الوقفية لدمج المجتمع وتشريك القطاعات هو بنفس القوة؟ الإجابة: لا، هناك ضمور في هذه اللحظة.
ومع ذلك، يجب ذكر “عدوى حميدة” انتقلت من تركيا للعالم، وهي قرار اتخذوه منذ 30 عامًا بتحويل الجامعات والقطاع الخاص إلى أوقاف لضمان استدامتها وديمومتها. واليوم معظم الجامعات في تركيا وقفية، وهذه التجربة تنتقل الآن إلى السعودية وغيرها.
- تأثير الرؤى الوطنية في التجارب الوقفية مع التركيز على التجربة السعودية:
دار النقاش حول تأثير الرؤى الوطنية للدول مثل مصر 2030، السعودية 2030 على الوقف في هذه الدول.
إذ رأت الدكتور ريهام خفاجي – أستاذ العلوم السياسية المشارك- وانطلاقًا من تخصصها ومما أسمته “التشاؤم المنهجي” ومن قربها من التجربة السعودية للوقف قبل وبعد التحديث- التي تُعد رائدة عالميًا في هذا المجال من حيث عدد الأوقاف وحوكمتها، هي أن التطوير الذي يحدث هو، إلى حد كبير، تطوير على مستوى “الأدوات“؛ حيث يثار تساؤل حول مدى تحقيق هذا التطور المتسارع لتمكين الأوقاف ورسالتها في تمكين المجتمع.
إذ ترى أن هناك إشكالية في القوانين والتشريعات الأخيرة، فهي تضع أطرًا للتقويم، والمعايير، والمؤسسية، وهذه أمور محمودة، ولكنها في النهاية تقيد الوقف وتحد بشكل كبير من “حرية الواقف”، التي تعد قيمة أساسية وبنيوية في الوقف. كما أن توجيه الأوقاف لتتسق مع أولويات “الرؤية الوطنية” (وهو أمر جيد من حيث المبدأ) يثير التساؤل: هل نبعت هذه الرؤية وأولوياتها من حوار مجتمعي حقيقي؟ قد يكون هذا التطور مناسبًا في سياقات معينة (مثل أوقاف جمعية العون المباشر الكويتية في أفريقيا التي تتمتع بحرية كاملة)، ولكن عندما تتشابك أهداف الوقف مع أهداف الرؤية الوطنية في ظل تقييد الحرية، تظهر الإشكالات. فكيف يمكن الموازنة بين تمكين الوقف وتطويره في ظل هذه القيود؟
وفي المقابل، أكد الدكتور رجب عز الدين على أنه من المهم أن نحول فكرة الوقف إلى نظام يتناغم مع محيطه؛ وذلك عبر:
1- التناغم بين الوقف والرؤية الوطنية: هذا التناغم أصبح حتميًا وضروريًا لسبب جوهري: الدولة الحديثة لم تعد كالسابق؛ فهي الآن دولة “منفقة ومتدخلة” في كافة المجالات الاجتماعية (صحة، تعليم) التي يشتبك معها الوقف. الدولة تنفق “المال العام” (ضرائب أو موارد سيادية)، والوقف يخصص “المال الخاص”. التشبيك بين هذين المسارين ضروري لتكامل جهود التنمية.
2- جدلية التبعية (من يتبع من؟): الأصل في الرشادة أن تتبع الدولة مؤشرات الوقف؛ لأن الوقف يعكس الرؤى الاجتماعية، والتنوع، والاحتياجات اللامركزية والخرائط الجغرافية والديموغرافية للواقع. ولكن، إذا تعذر ذلك، يمكن إلحاق الوقف بالرؤى الوطنية، خاصة في الدول “المأزومة” اقتصاديًا (والتي تختلف عن دول الخليج الغنية)، للاستفادة من تكامل الجهود، فالملايين في النهاية هي مال الناس.
وكان تعقيب الدكتور عبد الحليم زيدان أنه من المهم الالتفات إلى مجموعة من النقاط:
1- يجب أن نفكر بطريقة استشرافية وواقعية، متجاوزين “السردية الواحدة” التي تبحث عن وقف مثالي يحاكي الماضي في ظل دولة الخلافة الشمولية. الواقع الحالي هو دول قُطرية، أنظمة علمانية أو غير ملتزمة، وأوقاف تعاني الجمود. المثالية غير ممكنة الآن، وقد نجد النموذج الحيوي للوقف في الغرب (بسبب اختلاف السياقات والحريات) أكثر منه في الشرق. لقد اقتبس الغرب منا في عصور إشراقنا، بينما انكفأنا نحن على أنفسنا.
إذا كان الواقع يسير بسرعة 10 كم/ س، وجاءت فرصة (متمثلة في رؤية أو دولة) لنسير بسرعة 40 كم/ س، فعلينا استغلالها لتحريك عجلة الوقف (بما فيها القوانين والمجتمع المدني والثقافة). التجربة الكويتية (وإن كانت جزئية) فقد أنتجت “موجة أولى”، ونحن الآن بصدد “موجة ثالثة” تستفيد من زخم الموجات السابقة. كل موجة تكسر المستحيل وتفتح أبواب الممكنات، ولا تخلو من الإخفاقات والمشاكل، فهذا طبيعي في الانتقال من التنظير إلى التطبيق.
أما فيما يتعلق بالقيود المفروضة على الوقف، فهي من منظوري، ضرورية لضمان نجاح الوقف وعدم توريط المجتمع في أعباء جديدة:
- مثال المدرسة: إذا أراد واقف أن يوقف عقارًا ليكون مدرسة، لا يجب أن يقبله القاضي فورًا (كما كان في الماضي بدافع العاطفة). بل يجب إحالته لجهات الاختصاص (وزارة التعليم، الدفاع المدني…) للتأكد من صلاحية المبنى ومواصفاته الفنية. هذا ليس تقييدًا للحرية بل ضمانًا للجودة.
- مثال المسجد: إذا أراد متبرع بناء “أعظم مسجد” مليء بالزخارف والمكيفات، سأقول له: “شكرًا، لا نريده” إذا لم يرفق معه وقفًا استثماريًا يغطي نفقات التشغيل والصيانة. لأنك بذلك تظهر كرمك الآن، وتبخل على الأجيال القادمة التي ستتحمل عبء التشغيل.
إذن، التقييد هنا هو خروج من “الإطلاقية العشوائية” إلى “العمل المؤسسي المنضبط” الذي يضمن استدامة الوقف ونجاحه.
أما بخصوص الرؤية الوطنية السعودية، أنا شاركت شخصيًا في عشرات الندوات التخصصية التي دُعي إليها المجتمع المدني والغرف التجارية لمناقشة مفاصل الرؤية، وتم الأخذ بالكثير من الملاحظات المتعلقة بالعمل الخيري والوقفي. قد تكون هناك فجوة في التنظير، لكننا بحاجة لمن يتبنى هذه الرؤى ويضعها على طريق التنفيذ. لدينا الآن حوالي 10 دول عربية تملك “رؤى وطنية”؛ ويجب أن نستفيد من الحيز المتاح في هذه الرؤى لخدمة الوقف والعمل الاجتماعي، والمساهمة في قطاعات النهضة (التعليم، الصحة الوقائية، الزراعة السيادية…).
- التجربة المصرية:
طلب المشاركون من المحاضر الحديث عن التجربة الوقفية المصرية، الذي قيل تاريخيًا عنها إن 40-60% من أراضيها كانت موقوفة عند دخول السلطان سليم الأول). لكنها مرت بتحولات كبرى منذ الستينيات (الإصلاح الزراعي والاستيلاء على بعض الأوقاف).
وهنا أشار الدكتور عبد الحليم إلى عدة نقاط:
1- أنه من الإنجازات المصرية الأخيرة في هذا المجال هو إصدار (أطلس الأوقاف المصرية): وملاحظاته أن الإخوة في مصر أنجزوا في العقد الماضي عملًا ضخمًا ومهم جدًا وهو “أطلس الأوقاف المصرية“ حوالي 20 مجلدًا ونسخة إلكترونية؛ هذا الأطلس ليس مجرد رصد إحداثيات، بل هو مسح شامل للأنواع، الأحجام، الفاعلية، الجاهزية الاستثمارية (ما هو مؤجر، ما يحتاج لإعادة تأهيل، المتهالك، الجديد)، ضمن خريطة مدخلات متعددة العوامل (Multi-factorial).
ورغم ضخامة الإنجاز، إلا أن الدور الإعلامي لمصر يبدو “ضامرًا” ولا يتناسب مع حجمها ومكانة الأزهر التاريخية ودوره في صناعة الوعي (حيث كانت البعثات الأزهرية بمثابة دبلوماسية شعبية فاعلة). من حقنا على مصر أن تنقل هذه التجربة للآخرين، وتدربهم عليها، وتظهر ما وجدته، لتفتح باب الاستثمارات والشراكات (مثل نظام BOT بناءً على هذه الخارطة الوقفية الدقيقة، مما يسهم في إحداث نقلات في الواقع المصري.
إن العمل الخيري في مصر نشط جدًا، والجمعيات الكبرى تعطي انطباعًا بمجتمع شريك وفاعل. ولكن، يعيب هذا العمل في معظمه أنه لا يعتمد الصيغة الوقفية، بل يعتمد عملًا “استهلاكيًا” (يأخذ المال ويصرفه)، ويحتاج دائمًا لإعادة ضخ (Re-injection).
ولذا، أدعو لاعتماد سياسة مالية جديدة في العمل الخيري (تشبه البروتوكول الطبي في التشخيص والعلاج)، وهي تقوم على “تنسيب المساعدات“، أي توزيع أي مساعدة مالية وفق النسب التالية:
- 10% مصاريف تشغيلية (تمويل تشغيلي للمؤسسة).
- 60% إنفاق مباشر على الهدف (Direct Cost) مثل شراء الكتب المدرسية أو السلال الغذائية (مع مراعاة تكاليف التخزين والنقل).
- 20% إنشاء نواة وقفية؛ لضمان الاستدامة وتدوير التطور المستمر للمستقبل.
- 10% احتياطي طوارئ.
والهدف من هذا المقترح هو: تغيير الثقافة السائدة بتدريب العقل الخيري بكامل أطرافه (المانح، الوسيط، المنفذ) على التفكير الاستراتيجي: كيف نطيل عمر المال؟ وكيف نعظم الفائدة؟ وكيف ننتقل من “الاستهلاك الكامل” والهدر، إلى بناء “احتياطي دائم” (وقف) و”احتياطي سائل”.
ومن ثمّ،إذا تبنت الجمعيات المصرية الكبرى (بما تملكه من تشبيكات مع المستشفيات والمراكز) هذا النهج، فخلال 10 سنوات (أي دورتين ماليتين، باعتبار الدورة 5 سنوات)، سيتضاعف الرقم المتبرع به، وتنشأ ثقافة جديدة تحول العمل الخيري من مجرد “إطفاء حرائق” بمد اليد مجددًا، إلى تنمية مستدامة حقيقية، دون تعطيل الصرف الاستهلاكي القائم.
رابعًا- المسؤولية الاجتماعية بديلًا عن الوقف؟
استفسر الحضور عما يجري الترويج له من ‘المسؤولية الاجتماعية والمجتمعية للشركات”، وهل هي صيغة لاستبدال الوقف والحلول محله؟ وهل يمكن التوفيق بين هذا وبين منظومة الوقف بالتنسيق مع هيئات وقوانين الضرائب والإعفاءات؟
وجاء رد الدكتور عبد الحليم زيدان في أنه:
يستغرب طرح فكرة “المسؤولية الاجتماعية للشركات” بوصفها مؤامرة لاستبدال الوقف. نعم، قد يكون هناك ميل لدى “الآخر” (غير المسلم أو غير الملتزم) لتسمية الأشياء بمسميات علمية حديثة بدلًا من المسميات الشرعية. ولكن السؤال هو: أين نحن من هذا؟ نحن نعاني من “مرض ثقافي” يتمثل في البحث عن سردية واحدة ذات نتيجة واحدة (نظرية المؤامرة).
والحقيقة أن أي طرح له أهداف متعددة وظروف بيئية حاضنة؛ مهمتي هي أن أستعيد للوقف حيويته ودوره، وأن أربطه بصفته الوطنية، وأقول للمجتمع: “هذا هو الدور الوقفي الفاعل”. حينها، من سيستطيع أن يزاحمك؟ أما إذا غبتَ أنت وتقاعست، وقام “الآخر” بطرح ما لديه (المسؤولية الاجتماعية) وجعله الأساس في العمل المجتمعي، فلا يصح أن تأتي وتقول له: “أنت تستبدل الوقف”. سيسألك: أين هو الوقف؟ هل هو فاعل؟ أين أنتم يا جماعة الوقف؟”. فالسؤال يرتد إلينا. وبدلًا من اتهامهم، فلنبدأ بأنفسنا ونطور الفاعلية الوقفية ونسخرها في الخدمة العامة.
خامسًا- أسئلة واستفسارات متنوعة:
في نهاية النقاش طرح الحاضرون مجموعة من الأسئلة منها: عن كيفية الوصول إلى التجارب التي تتحقق فيها فعليًا قيم ومقاصد الوقف بعيدًا عن الشكلية؟ وعن وجود تصورات لتفعيل الوقف البحثي والعلمي بوصفه محركًا للتنمية الحضارية؟ وكيفية الاستثمار في مشروع “ذُخر” على المستويين الداخلي والخارجي، لا سيما في قضايا الأمة المصيرية؟ وكيف يمكن إدراج استراتيجية “ذُخر” ضمن مشروع الأمة الحضاري الأكبر؟ وكيفية تحرك الفرد الذي يريد نفع حيّه أو مدرسته؟ أو المؤسسة البحثية التي تريد إنشاء وقف لاستدامة عملها؟ كيف نعد مقترحًا لذلك وعلى من نعرضه (بحثًا عن التمويل)؟ وعن أهمية طرح مبادرات شبابية وبرامج تعليمية وتدريبية لربط هذا المفهوم بالأدوات والهموم المعاصرة، وسد الفجوة بين الجيلين (الأصغر والأكبر) وبين العوام والمثقفين، لتفعيل الرؤية من المستوى الفردي إلى الجماعي. وأخيرًا عن نصائح للجالية المسلمة في أمريكا الشمالية للعمل على توسيع جهود الوقف الإسلامي في مجتمعاتهم، مستفيدين من الحرية القانونية المتاحة منذ 50 عامًا، بدلًا من الاقتصار على التبرعات لبناء المساجد والمدارس؟
وجاء رد الدكتور عبد الحليم زيدان كالتالي:
في الحقيقة، نحن اليوم نتحدث في إطار “الاستراتيجية الكلية” (Macro-Strategic)؛ أي الاتجاهات الرئيسية للتطوير، ومفاعيلها، والنتائج المرجوة منها لإحداث النقلة. أما الحديث عن “أفضل نموذج لمدرسة” أو “أفضل نموذج لمستشفى” وتفاصيل التشكيلات الوقفية، فهذا ليس موضوعنا اليوم، بل يُخصص له دورات تفصيلية حول “التشكيلات الوقفية ونماذجها الواقعية”.
أما الشق المتعلق بالذهنية “التشاؤمية” (أو الحذرة) التي أشرتم إليها، وهي نتاج لتجربتنا التراكمية المليئة بالإحباطات والإشكاليات والإخفاقات (سواء ما جاءنا من الآخرين أو ما كان من صنع أيدينا). يجب أن نوظف هذه الخبرات في اتجاه التحسين والتطوير، بمفهوم “التغذية الراجعة” التي مهمتها تسديد التجربة.
القرآن الكريم علمنا التفريق وتحديد المصدر: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} أو من كيد الشيطان، وغير ذلك. الخطأ يكمن في “محاكمة الفكر المستقبلي” بآثار التجربة الماضية المريضة والمأساوية؛ فهذا لا يفيدنا. الصحيح هو دراسة التجارب للاستفادة منها في ملء الفراغات الكامنة. أما اتخاذ التجارب الماضية كحاجز نفسي يمنعنا من تطوير فكرنا وأدواتنا، فهذه مشكلة فكرية كبرى.
إن التحدي الحقيقي لمواجهة التحديات هو: “تحدي تمكين الفكر من التفكير”؛ لأننا إذا حجزنا الفكر، تحول ذلك إلى مانع نفسي يحول دون العبور للمرحلة القادمة.
وردًا على السؤال المهم حول الجاليات في أمريكا وكندا: فمن خلال عملنا في “المعهد الدولي للوقف الإسلامي” وعقدنا لورش عمل مع المجتمعات المسلمة في الغرب (من أستراليا إلى أوروبا والأمريكيتين)، خلصنا إلى نتيجة مفادها أن الإشكال الحقيقي يكمن في أن الفكر الوقفي هناك لم يبدأ بعقلية التطلعات “النهوض”، بل بدأ بعقلية “تلبية الاحتياجات”.
وهناك فرق كبير في التخطيط الاستراتيجي بين المنطقين:
- “الاحتياج” هو نتاج الماضي (تركة المراحل السابقة)؛ نقص في التعليم، نقص في المستشفيات، إلخ. أي شيء يمثل “ناقصًا” (Minus) هو ابن الماضي. إذا كان سقف تفكيرنا هو “كيف نملأ هذه الحفرة”، فنحن نتحرك في “معادلة صفرية” (من السالب إلى الصفر). وهذا هو حال معظم الجاليات الآن: أزمة مدارس، وإصلاح أسري، وأحوال شخصية، وحلال وحرام، وأزمة قيمية للأبناء. العقل يفكر مباشرة في ملء هذه الحفر (جمعيات خيرية، تبرعات) لتسكين الأوجاع.
- ولكن التحدي الحقيقي للفكر الوقفي هو ربطه بـ “التطلعات” وليس مجرد الاحتياجات. عند تحقيق التطلعات، ستُلبي الاحتياجات تلقائيًا كجزء صغير من السياق. نحن كمجتمعات مسلمة في الغرب مقبلون على “اضمحلال” وتلاشٍ للثقافة والدين والهوية بعد 50 عامًا (وهذه تجربة مكررة، وأكبر نموذج لها ما حدث في أمريكا اللاتينية). التحدي هو: كيف نبني لهذا المجتمع قدرة على الدوام، والحفاظ على الهوية، والتأثير في الآخرين، وصناعة الشخصية؟ لماذا يمتلك الأيرلنديون والاسكتلنديون في أمريكا لوبيات قوية وتأثيرًا وهوية؟ لأنهم فكروا مبكرًا بعقلية الأقليات الخائفة على ذوبان نفسها، فأسسوا ما يحميهم.
إذن، المسألة ليست مجرد “إتاحة الحرية القانونية” في الغرب. السؤال هو: مع وجود هذه الحرية، كيف أطور فكري الاستراتيجي؟ كيف أصنع تطلعات وازنة للمستقبل، وأربط بها الأهداف، وأربط بالأهداف (بنك محتوى) وخططًا مرحلية؟
عندما نعمل بهذه العقلية، حينها يصبح الوقف المكون الأهم لضمان “ديمومة” هذا العمل واستدامته. أما بغير ذلك، فيظل الوقف مجرد أداة تكميلية للتعامل المؤقت مع المراحل.
المداخلة الختامية للأستاذة الدكتورة نادية مصطفى:
الحقيقة أنني اجتهدت في المتابعة، وتكون لدي تصور عام تأكد لي الآن. حضرتك قدمت “رؤية استراتيجية كلية” انطلقت من تحذيرات وتنبيهات مهمة حول تحول الوقف من “شعلة الدفق المتجدد للأمة” إلى مجرد “إسعاف طارئ”، في ظل إرث الدول القومية والجمود. وتتمثل أهم عناصر هذه الرؤية في:
1- الرؤية كـ “مخيال” (Re-imagination): هذه الرؤية ليست مجرد خطة لإدارة وضع قائم، بل هي “مخيال” لإعادة تخيل الوضع، يعمل على مستويين:
- مستوى الفلسفة: تغيير الإدراك لطبيعة الوقف من شيء ساكن وجامد وممنوع، إلى كيان حي (تخصيص إرادي منظم لموارد التمكين المستدام).
- مستوى التنفيذ الاستراتيجي: شراكات متعددة المستويات (بين الدول والكيانات المجتمعية)، وتغطية مجالات متنوعة (تعليم، صحة، ثقافة، فنون) مع إعداد فكري وعلمي وتدريبي للموارد البشرية.
2- الوقف كخيط ناظم للنهوض الحضاري: شعرت أن هذا التصور يستحضر خريطة التحديات المعاصرة التي تواجه الأمة، ويجعل الوقف خيطًا ناظمًا ممتدًا (أفقيًا ورأسيًا) وروحًا سارية في مشروع “النهوض الحضاري”. بينما نركز نحن في مدرستنا (في مجال العلاقات الدولية) على “وحدة الأمة” وبناء القوة، ركزت حضرتك على البناء من الداخل (المجتمعات، الأوطان، الإنسان).
3- التساؤلات والسياقات: الأسئلة التي طُرحت ركزت على حالات محددة (تركية، مصرية، تونسية، سعودية، كندية…)، وجميعها تستحضر المشاكل الخاصة بكل سياق. وحضرتك أكدت أن هذه أمور تطبيقية تتأثر بمعطيات كل حالة، ولكنك حددت بوصلة واحدة: “يجب أن تتطلعوا، لا أن تحلوا وأنتم واقفون”.
4- سؤال الوعي والأرقام: كيف ننمي الوعي العام لتغيير الصورة النمطية عن الوقف؟ وهل توجد أرقام ومؤشرات حول حجم نمو الوقف في المراحل التي عملتم عليها، مقارنة بنسب الادخار والاستثمار؟
لذا أرى أن المحاضرة قدمت تصورًا استراتيجيًا بمفردات معاصرة (من علوم الاجتماع والإدارة) تجعل الذهن أكثر استقبالًا لها، بعيدًا عن المفردات الفقهية التقليدية (مع اعتزازنا بها).
كما أن الخريطة التي قدمتها محكمة وشبكية، وفكرة “المنصة الرقمية” (Platform) لتبادل الخبرات وتوظيف الإمكانيات المعاصرة لخدمة الأمة في عالم متغير، هي فكرة رائدة.
ونحن في مركز الحضارة نفكر جديًا في مبادرة لإنشاء وقف للمركز وللمراكز البحثية لضمان استمراريتها، مستفيدين من هذه الرؤية ومن آليات الحوكمة والشفافية.
التعقيب الختامي للدكتور عبد الحليم: خارطة الطريق المستقبلية
1- الثقافة الوقفية المتكاملة: نحن نتحدث عن ثقافة متكاملة، ومشروع كامل لنقلات مطلوبة في الثقافة الوقفية. جزء من تغيير الثقافة هو كسر الحاجز النفسي من خلال “دمج الوقف في كل المجالات”. عندما أتحدث عن البحث العلمي، أطرح الوقف كنموذج تطبيقي. وعندما أتحدث عن الحضارة، أطرح الوقف كنموذج. هكذا نكسر الصورة النمطية السلبية.
2- إشكالية البيانات والرصد (التقرير الاستراتيجي): في “المعهد الدولي للوقف الإسلامي”، نصدر “التقرير الاستراتيجي للأوقاف” (صدرت النسخة الأولى في 2023). أكبر مشاكلنا هي “غياب البيانات” (Data). نراسل الجهات الوقفية الرسمية لشهور طلبًا لمعلومات أساسية (حجم الأوقاف، أنواعها، استثماراتها، عائداتها)، وبدلًا من الأرقام والحقائق (Facts)، نتلقى كلامًا إنشائيًا عامًا (الحمد لله زادت الأوقاف…). نحتاج إلى بيانات حقيقية (Factual Data) لنبني عليها مؤشرات واتجاهات، وليس انطباعات. هذه مشكلة نتشارك فيها جميعًا كباحثين.
3- مقترح للتعاون البحثي (تجاوز الوصف إلى البناء): بما أن معظم المشاركين هنا يمثلون جهات بحثية، أدعوكم لتعاون مشترك في مشاريع بحثية وقفية “بينية” (Interdisciplinary). لقد طورنا حوالي 120 عنوانًا بحثيًا تقاطعيًا، ولكن لنجاحها يجب أن نغير طريقة البحث العلمي:
- تجاوز المنهج الوصفي التحليلي: (الذي يكتفي بتفكيك وتحليل ما هو موجود).
- اعتماد المنهج البنائي والبدائلي والتجريبي: (كيف نحدث نموذجًا تطبيقيًا؟ كيف نجربه في بيئات مختلفة؟ كيف نقارن النتائج ونعتمد الأنجح؟).
هذه إشكالية أكاديمية تتطلب باحثين ومشرفين لديهم الاستعداد لتطوير أدواتهم البحثية لتكون “استشرافية وبنائية” لا مجرد وصفية. يمكن لمركز الحضارة، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، والمعهد الدولي للوقف، التعاون في عقد مؤتمرات وندوات، وتوجيه طلاب الدراسات العليا في الجامعات المختلفة (الجزائر، المغرب، الكويت…) لتبني هذه الأفكار البحثية الجديدة وتكييفها مع سياقاتهم. المهم أن نبدأ بـ “العدوى الحميدة” ونكسر قالب المثاليات والأوهام الحاجزة عن التفكير.
[1] انظر تقارير هذه اللقاءات في: منتدى الحضارة 2024 / 2025، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/dWIOP
[2] للاطلاع على تقارير هذه اللقاءات، انظر:
منتدى الحضارة 2025 / 2026، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/7XLjQ
[3] تنويه: الحديث عن التجربة الكويتية أو ما يليها ليس تقليلًا من شأن الحاضنات الوقفية الكبرى الأخرى كالمغربية والتركية والماليزية والهندية، ولكننا نركز هنا على “اتجاهات التطوير” ومؤشرات التحول التي تحدث أثرًا إشعاعيًا ينقل الفكر إلى مساحات جديدة.



