السياسات الاقتصادية الماليزية وآثارها على العدالة الاجتماعية

مقدمة:
تكتسب دراسة التجارب التنموية الناجحة أهمية في عالمٍ يسعى إلى تحقيق التنمية المستدامة والشاملة. وهنا، تبرز تجربة ماليزيا كنموذجٍ ثري يستحق التحليل المعمق. وعليه، يهدف هذا التقرير إلى استكشاف وتحليل معمق للاستراتيجية التنموية الماليزية، التي تميزت بدمج رؤية متكاملة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية، انطلاقًا من الإدراك بأن التنمية الحقيقية تتجاوز النمو الاقتصادي المجرد لتشمل تحقيق العدالة والتماسك الاجتماعي. إذ تمثل العدالة الاجتماعية مفهومًا واسعًا ومعقد، يهدف في جوهره إلى تعزيز مجتمع عادل ومنصف يُقدر التنوع ويُوفر فرصًا متساوية لجميع أفراده، بغض النظر عن عرقهم، أو جنسهم، أو عمرهم، أو دينهم، أو إعاقتهم. كما تضمن العدالة الاجتماعية التوزيع العادل للموارد والدعم اللازمين لحقوق الإنسان الأساسية.
ويمكن تعريف العدالة الاجتماعية بأنها التوزيع العادل للموارد، والفرص، والامتيازات في المجتمع. وقد نشأ هذا المفهوم في القرن التاسع عشر؛ نتيجة للتفاوتات الكبيرة في الثروة والمكانة الاجتماعية التي كانت تنتجها الهياكل الاجتماعية في ذلك العصر. وتطور المفهوم ليشمل التنظيم العادل للمؤسسات الاجتماعية التي تُتيح الوصول إلى المنافع الاقتصادية. ويُشار إلى هذه المعاني أحيانًا باسم “العدالة التوزيعية”[1].
وتشمل العدالة الاجتماعية تعزيز الإنصاف والمساواة والعدالة في جوانب متعددة من المجتمع، بما في ذلك الفرص الاقتصادية والتعليمية والوظيفية. تتضمن العدالة الاجتماعية خمسة مبادئ رئيسية مترابطة، هذه المبادئ هي: (1) الوصول إلى الموارد: يشير ذلك المبدأ إلى مدى حصول مختلف الفئات الاجتماعية والاقتصادية على فرصٍ متساوية في الحصول على الموارد الأساسية والخدمات، مثل الرعاية الصحية والغذاء والمأوى والتعليم وفرص الترفيه، مما يمنح الجميع بداية متكافئة. (2) الإنصاف: حيث الاعتراف بأن لدى الناس احتياجاتٍ مختلفة، وبالتالي قد يتطلب تحقيق العدالة توزيعًا غير متكافئ للموارد والفرص لضمان نتائج عادلة للجميع. (3) المشاركة: أي حق جميع أفراد المجتمع في المشاركة في صنع القرارات التي تؤثر على حياتهم ومجتمعاتهم. وتتضمن المشاركة الفعالة سماع أصوات الفئات المهمشة، وإشراكها في العمليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. (4) التنوع: حيث تقدير الاختلافات بين الأفراد والجماعات، والسعي إلى خلق مجتمع شامل يوفر فرصًا متساوية لجميع الأفراد بغض النظر عن اختلافاتهم. (5) حقوق الإنسان: ترتكز العدالة الاجتماعية على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمعايير الدولية الأخرى ذات الصلة. ذلك بما يتضمن الحق في الحياة والحرية، والأمن، والمستوى المناسب من المعيشة والتعليم والرعاية الصحية.[2]
بشكلٍ عام، العدالة الاجتماعية ليست مجرد مفهوم مثالي، بل هي هدف عملي يتطلب جهودًا مستمرة لمعالجة أوجه عدم المساواة والتمييز، وتعزيز مجتمع يتمتع فيه الجميع بالحقوق والفرص والموارد اللازمة لتحقيق إمكاناتهم الكاملة.[3] وهو ما تعكسه التجربة الماليزية في التنمية منذ السبعينيات، من خلال تبني سياسات اقتصادية واجتماعية على مستوياتٍ متعددة، مما يجعلها نموذجًا لفهم تأثير السياسات الاقتصادية على تحقيق العدالة الاجتماعية، وهو المحور الرئيسي الذي تسعى هذه الدراسة لبحثه.
ينقسم التقرير إلى أربعة محاور؛ يتناول المحور الأول المراحل التاريخية لاستراتيجية التنمية الماليزية وأبرز محطاتها منذ مرحلة ما بعد الاستقلال، ويقوم المحور الثاني بتحليلٍ للسياسات الاقتصادية والاجتماعية المتكاملة التي تبنتها ماليزيا لتحقيق العدالة الاجتماعية منذ الثمانينيات في عهد مهاتير محمد، بالتركيز على رؤية 2020، بينما يناقش المحور الثالث رؤية 2030 وكيفية تناولها للعدالة الاجتماعية، وأخيرًا يتطرق المحور الرابع إلى التحديات الراهنة لتحقيق العدالة الاجتماعية في ماليزيا.
المحور الأول- ملامح التطور التاريخي للسياسات الاقتصادية الماليزية
يتكون المجتمع الماليزي من المالايو (سكان البلاد الأصليين)، ويُشكلون ما يزيد عن نصف السكان. كما يضم الصينيين والهنود والماليزيين، فضلا عن عددٍ من الأقليات الصغيرة من التايلانديين والإندونيسيين والأستراليين والأوروبيين. ويرتبط ذلك التعدد العرقي بتعدد ديني، حيث يدين نصف السكان بدين الإسلام، وهم من المالايو، وبعض الصينيين والهنود. ويشكل النصف الآخر ديانات متعددة من البوذية والهندوسية والكونفوشيوسية والتاوية والمسيحية. هذا، وتتعدد أيضًا اللغات واللهجات في ماليزيا. وقد بدأت ملامح الشكل الديموغرافي للمجتمع الماليزي في التغير إبان فترة الاستعمار البريطاني للبلاد، فقد عمل على جلب العديد من العمال من الصين والهند للعمل في المناجم والمزارع في ماليزيا، مما تسبب في ازدياد عدد المهاجرين عامة والصينيين خاصة.
كما اتبع الاستعمار سياسات تحيزية لصالح المهاجرين الصينيين الساعين للثروة. واستمرت سيطرة الصينيين على الصناعة (مثل إنتاج القصدير والمطاط) والتجارة التي تُدر دخلا كبيرًا، وتولى الهنود الخدمات المهنية مثل الطب والمحاماة وغيرها. بينما عمل المالايو بالصيد والزراعة، والتي تدر دخلا ضئيلا. مما أسس لأوضاعٍ غير عادلة لطبقة المالايو، حيث سيطر الصينيون على أكثر من ثلث ثروة الدولة، بينما كان نصيب المالايو حوالي 2.4% فقط من تلك الثروة. وبالتالي، تمتع الصينيون بقدرٍ كبيرٍ من النفوذ الاقتصادي مكنهم من الهيمنة على الحياة الاقتصادية، على الرغم من أن السكان الأصليين يشكلون غالبية السكان[4].
تراجعت حدة الخلافات الإثنية نسبيًا أثناء تعاون الإثنيات الثلاث للمطالبة بالاستقلال عن بريطانيا، حيث تم تأسيس التحالف الوطني لنيل الاستقلال عام 1952 مكونًا من حزب الآمنو، ومنظمة تحالف اتحاد الملايا، والجمعية الصينية الماليزية، وحزب المؤتمر الهندي. وقد كان التحالف الوطني هو المنظمة التي قادت البلاد إلى الاستقلال سنة 1957، بزعامة تكنو عبد الرحمن الذي استطاع أن يجمع الإثنيات في جبهةٍ واحدة. وقد سعت الدولة في فترة ما بعد الاستقلال إلى تحقيق تقارب بين المالايو والصينيين؛ بيد أن جهودها في تحقيق ذلك قد باءت بالفشل. فقد استمرت سيطرة الصينيين على القطاعات ذات الإنتاجية المرتفعة كالصناعة والتجارة، بينما انحصر عمل المالايو في القطاعات ذات الإنتاجية المنخفضة كالزراعة. عامةً، تولد لدى المالايو حالة من عدم الرضا نتيجة التهميش الاقتصادي، في حين استاء الصينيون من التهميش السياسي. ومثل عام 1969 قمة الخلاف العرقي بين المالايو والصينيين؛ إذ جاءت الانتخابات البرلمانية في هذا العام والتي أسفرت عن فوز المعارضة بعددٍ كبير من المقاعد لتزيد الوضع تأزمًا. فبعد خروج مسيرات احتفال المعارضة بالفوز، اندلعت مواجهات عرقية عنيفة أسفرت عن مقتل حوالي 200 شخص، وألحقت الضرر بأكثر من 750 منشأة. وهذا ما دفع تكنو عبد الرحمن إلى تقديم استقالته من منصب رئاسة الوزراء، وتم إعلان حالة الطوارئ وحل البرلمان، وبعدها تولى تون عبد الرزاق حسين رئاسة الوزراء[5].
اتسم الاقتصاد الماليزي بعد الاستقلال بالضعف والهشاشة، وعانى من مشكلاتٍ هيكلية تتمثل في الفقر والبطالة والانقسامات العرقية. بيد أن ماليزيا استطاعت النهوض باقتصادها وتحقيق التنمية الاقتصادية المتكاملة، بجانب تحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، وخفض الفقر والبطالة، وتقليل حدة الانقسامات العرقية ومراعاة الفئات الأكثر فقرًا؛ إذ بعد حصولها على الاستقلال اتبعت ماليزيا سياسة تعتمد على التنمية الريفية، وتنمية الصناعات صغيرة الحجم. وقد حددت ملامح هذه السياسة في الخطة الخمسية الأولى (1956- 1960)، والخطة الخمسية الثانية (1960-1965).
وكان قد تم اللجوء إلى الاستراتيجية التقليدية، وهي الإحلال محل الواردات، وهذه الاستراتيجية في التصنيع إنما تعني التصنيع المحلي للسلع التي يتم استيرادها من الخارج. وكانت البداية التركيز على صناعات السلع الاستهلاكية التي كان معظمها مملوكًا لشركاتٍ أجنبية. وبالفعل تكونت نواة صناعية عبارة عن صناعات صغيرة كصناعة الأغذية، ومواد البناء والطباعة، والبلاستيك، والمواد الكيميائية. وساندت الدولة هذه الخطوة الناجحة بإصدار قانون تشجيع الاستثمار عام 1968 لجذب الاستثمارات الأجنبية، بهدف زيادة القاعدة الصناعية. وحدث توسع في إنتاج زيت النخيل، والخشب، والمطاط، والكاكاو، كما شهد القطاع النفطي تطورًا كبيرًا[6].
ومع مطلع السبعينيات، انتهجت الدولة السياسة الاقتصادية الجديدة، والتي عملت على تعزيز النمو الاقتصادي الكلي، فاتجهت ماليزيا إلى الاعتماد على التصنيع الموجه للتصدير بدلا من الإحلال محل الواردات. حيث وجدت الدولة أن سياسة الإحلال محل الواردات غير كافية لتحقيق التنمية نظرًا لضيق السوق المحلية وضعف حجم الطلب المحلي، والذي عزز من ضعفه سوء توزيع الدخول بين فئات المجتمع المختلفة. وقد شجعت الحكومة دخول الاستثمارات الأجنبية في مجال الإلكترونيات وصناعة النسيج، وذلك بتوفير العمالة الماليزية وتقديم حوافز ضريبية مغرية وإصدار التراخيص للمنتجات الأجنبية وإنشاء مناطق تجارة حرة. كما بدأت الحكومة في استضافة الشركات الكبرى متعددة الجنسيات لتشغيل خطوط الإنتاج في ماليزيا. وعملت على معالجة الفقر من خلال زيادة مستويات الدخل، وتخفيض معدلات البطالة والتضخم. وتمثل هذه الفترة أولى مراحل التحول الاقتصادي، حيث زاد متوسط معدل النمو إلى 8.6% في الفترة 1976-1980 بعد أن كان 7.2% في الفترة 1971-1975. بيد أن تلك الإنجازات لم تنجح بشكلٍ كامل في تخليص الاقتصاد الماليزي من الفقر والتخلف، فحتى نهاية السبعينيات عانى الاقتصاد من الاختلالات الهيكلية والضعف. وكانت الدولة حينها تعتمد على إنتاج وتصدير السلع الأولية مثل المطاط، والقصدير، وزيت النخيل[7].
على مستوي تحقيق العدالة الاجتماعية، فقد كانت السياسة الاقتصادية الجديدة بجانب كونها خطة اقتصادية تهدف إلى تحقيق النمو الاقتصادي، كانت بمثابة خطة اقتصادية اجتماعية تهدف في المقام الأول إلى تعزيز الوحدة الوطنية والتكامل. فعملت على التوسع في مشاركة المالايو في التنمية الاقتصادية من خلال اتباع سياسات التمييز الإيجابي، وصياغة السياسة الثقافية الوطنية بهدف تنظيم التعددية الثقافية الماليزية، كما فرضت الخطط الحكومية الكثير من القوانين لتحقيق التقارب العرقي. وقد استطاعت تلك السياسة تحقيق جانب كبير من التقارب العرقي، على الرغم من الانتقادات التي وُجهت لها منذ بداية التطبيق، والتي يأتي على رأسها التحيز لصالح المالايو. وقد واجهت الحكومة تلك الأوضاع بشعار win-win situationأي أن الجميع يمكن أن يستفيد، وأن ذلك لا يعني حرمان العرقيات الأخرى من الاستفادة من الفرص المتاحة.
فتزامنًا مع تلك الفترة، طُبقت الخطة الماليزية الثانية، والتي كانت تقوم على خفض نسب الفقر، ورفع مستويات المعيشة، وتضييق الفجوة بين المالايو والصينيين؛ حيث بلغت نسبة الفقر حينها أكثر من 50%، ومثل المالايو أكثر من 75% من الفقراء. ونظرًا لأن معظم المالايو كانوا يعملون في الزراعة، زاد الاهتمام بالقطاع الزراعي، كما فُرضت بعض السياسات التمييزية في القطاع الصناعي لصالح الملايو[8].
تمثل جوهر هذه السياسة في دعم التعايش السلمي بين الإثنيات عن طريق حفظ حقوق الجميع، وعلاج الاختلالات مع إتاحة فرص المشاركة في المسؤولية وفي برنامج التنمية، وزيادة أنصبة الجميع من خلال التوسع في التنمية وليس من خلال مصادرة حقوق الآخرين. وتنفيذا لهذه السياسة، عمل تون عبد الرزاق -رئيس الوزراء آنذاك- على إعادة تشكيل التركيبة السياسية الماليزية؛ حيث وسع التحالف الحاكم الذي كان يضم ثلاثة أحزاب إلى 14 حزب سياسي ليُصبح تحت مسمى الجبهة الوطنية لتمثيل مختلف الاتجاهات السياسية والإثنية في البلاد، وتشكيل قاعدة حكم ائتلافي أكثر صلابةً، ورسم الخطوط العريضة لسياسة اقتصادية تؤمن خلق فرص العمل وتُعزز مجالات التنمية في ظل الوحدة الوطنية[9].
وقد تميزت هذه السياسة في مرحلتها الأولى 1970-1980 بدورٍ أساسيٍ للحكومة في توفير التمويل والبنية التحتية والتنظيمية لمختلف الهياكل الإنتاجية والخدماتية كالتعليم والصحة والحماية الاجتماعية، وتقديم مساعدات للفقراء وغيرهم من الجماعات الأكثر تهميشًا عن طريق منظمات المجتمعات المدني، مع زيادة نسبة المدارس العامة والخاصة والمستشفيات، إضافةً إلى تركيز الاهتمام بالمناطق الريفية. وقد ظهر ذلك من خلال جهود تنمية البنية التحتية مثل بناء الطرق والجسور، ومكاتب البريد، وتوفير الكهرباء والماء وخدمات الهاتف[10].
المحور الثاني- سياسة مهاتير محمد ورؤية 2020 وتحقيق العدالة الاجتماعية:
مع بداية الثمانينيات، وتحديدًا مع تولي مهاتير محمد السلطة في 1981، تبنت الحكومة سياسة النمو الذي يقوده القطاع الخاص، وفي نفس الوقت تبنت تحقيق مفهوم الدولة التنموية. ويعني ذلك عدم انسحاب الدولة كليًا من الحياة الاقتصادية، ولكن تحديد مهامها في قيادة الدور التشريعي والتنظيمي للتنمية الاقتصادية، بالتزامن مع وجود قطاع خاص قوي. وفي سعيها لذلك، اتجهت الدولة إلى خصخصة المشروعات العامة منذ 1983 كالطرق السريعة، والاتصالات، والسكك الحديدية، والمطارات وغيرها. وكان الهدف من ذلك هو تقليل الأعباء الاقتصادية والإدارية عن الدولة، وتحسين الكفاءة الإنتاجية من خلال تشجيع المنافسة. وقد حققت الدولة مكاسب مالية عبر عملية خصخصة القطاع العام، ووجهت تلك المكاسب نحو برامج إعادة الهيكلة والقضاء على الفقر.
ونتج عن ذلك ارتفاع معدل النمو الاقتصادي خلال النصف الثاني من الثمانينيات إلى 6.9% مقارنةً بـ 5.2% في النصف الأول من هذا العقد. من أجل تحقيق ذلك، اعتمد مهاتير محمد على استراتيجية ماليزيا المدمجة (Malaysia Incorporated) باعتبارها واحدة من القواعد الأساسية للتنمية الوطنية، وهي استراتيجية تهدف إلى تحقيق اقتصاد تنافسي ديناميكي قوي ومرن، من خلال المزيد من التكامل والتعاون بين القطاعين العام والخاص في إدارة عملية التنمية. الأمر الذي يعود بالنفع على الجميع، خصوصًا شريحة الفقراء ومناطق جيوب الفقر، مع إعطاء القطاع الخاص دورًا قياديًا في علمية التنمية واقتصار دور الدولة على لعب دور الداعم والمكمل والمشرف والمراقب، أو بمعنى آخر الدور التدخلي لضبط آليات السوق وضمان عدم إخفاقها[11].
ومع مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وتحديدًا عام 1991، استبدلت السياسة الاقتصادية الجديدة بسياسة التنمية الوطنية، والتي هدفت إلى تحقيق معدل نمو متسارع من خلال زيادة الإنتاجية وتطوير الهيكل الصناعي لمواجهة تحديات التطورات التكنولوجية السريعة والبيئة الاقتصادية العالمية المتغيرة. وذلك كي تستطيع ماليزيا المنافسة بقوة في الأسواق العالمية، فضلا عن تعظيم الاستفادة من الخبرات اليابانية والكورية، وجذب الاستثمارات الأجنبية، إلى جانب بعض الأهداف الاجتماعية كمحاربة الفقر وتقوية الشعور بالقومية الماليزية لدى جميع الأعراق في المجتمع. وفي فبراير 1991 قدم مهاتير محمد رؤية 2020، والتي تُعتبر من أبرز الخطط الاستراتيجية التي تبنتها ماليزيا منذ حصولها على الاستقلال؛ فهي تقدم جدول أعمال يشمل كافة الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية، والتي تعتبر من أعلى مستويات التخطيط التنموي المعاصر.
وتتضمن مجموعة من الأهداف تسعي من خلالها ماليزيا إلى تحقيق معدلات عالية للنمو الاقتصادي، والانتقال إلى مصاف الدول المتقدمة خلال فترة زمنية محددة. ولتحقيق ذلك؛ حددت تلك الرؤية مجموعة من التحديات التي لا بد من تخطيها في البداية، وتتمثل في: توحيد الأمة الماليزية، وإيجاد مجتمع ماليزي حر آمن ومتطور، وتشجيع بناء مجتمع ديمقراطي ناضج، وتكوين مجتمع حر متسامح، وتأسيس مجتمع علمي ومتقدم، وإنشاء مجتمع الرفاهية والعدالة الاجتماعية، وتحقيق العدالة الاقتصادية، وإنشاء اقتصاد متطور ومزدهر تسود فيه المنافسة ويتسم بالمرونة[12].
وقد حدد مهاتير محمد عناصر رؤية 2020 في أربع نقاط؛ أولا، القومية الماليزية التي تقوم على تقوية الشعور بالدولة الماليزية لدى جميع الأعراق في المجتمع؛ هذا لكي يلتقي الجميع حول وعيٍ واحد بالعيش المشترك بين عرقيات المجتمع الماليزي. ثانيًا، تقديم نموذج للتنمية الرأسمالية يشجع المشروعات الخاصة، ومن ثم يسعى للتحرك شرقًا حتى يستفيد من الخبرات اليابانية والكورية أيضًا. وتجدر الإشارة إلى أن الأسباب التي دفعت ماليزيا لاختيار الشرق كمحطة استراتيجية في خططها التنموية منذ عام 1981 هو الرغبة في خلق جيل جديد من الشعب الماليزي قادر على مواكبة التطورات الصناعية الحديثة، من خلال الالتزام بالأخلاقيات المهنية، واتباع السياسة المنهجية في التصنيع، وإيجاد كفاءات اقتصادية متطورة تراعي خصوصية الظروف الماليزية.
ثالثًا، الاهتمام بدور الإسلام في التكنولوجيا المعاصرة عن طريق تشجيع بناء مؤسسات اقتصادية وتعليمية إسلامية. رابعًا، التركيز على الدور القوي للدولة في الاقتصاد والسياسة. فالخصخصة لا تعني انسحاب الدولة من النشاط العام، ولكنها تعني تحول الدولة لتكون الدولة الرشيدة القادرة على التخطيط. إذ ارتبط ذلك بمفهوم الدولة التنموية، وحسب هذا المفهوم تضطلع الدول بدورٍ بفعال يقترن بالالتزام بقضية التنمية[13].
تم تقسيم الرؤية إلى ثلاث خطط عشرية، وضمن كل خطة عشرية خطتين خمسيتين؛ خلال الخطة العشرية الأولى (1991-2000)، تبلور مشروع مهاتير محمد في التنمية الاقتصادية المنفتحة على العالم من دون التخلي عن القيم الوطنية. وتمثلت أبرز السياسات المتبعة في هذه الفترة: اعتماد استراتيجية ماليزيا الموحدة، واستبدال السياسة الاقتصادية الجديدة بسياسة التنمية القومية. أما الخطة العشرية الثانية (2001-2010)، فقد ركزت على تطوير مبدأ التنمية المستدامة من خلال تشجيع مجتمع أكثر إنصافًا واستدامةً. وتزامنت مع إقرار أهداف الألفية في قمة الألفية في 2000، والتي انبثق عنها برنامج عمل دولي لتحقيق ثمانية أهداف بحلول 2015.
فيما يتعلق بالخطة العشرية الثالثة (2010-2020)، فقد أطلقت ماليزيا عام 2010 برنامج التحول الاقتصادي الجديد الذي يُعد خطة شاملة للتحول الاقتصادي، تركز على12 مجالا اقتصاديًا رئيسيًا وطنيًا وست مبادرات استراتيجية للإصلاح. وقد شملت المجالات الرئيسية توسيع منطقة كوالالمبور، والنفط، والغاز، والطاقة، والخدمات المالية، وتجارة الجملة والتجزئة، والتعليم، والزراعة، والرعاية الصحية. أما مبادرات الإصلاح الاستراتيجية، فشملت المنافسة والمعايير والتحرير، وإصلاح المالية العامة، وتوفير الخدمات العامة، وتقليص الفوارق، والحد من دور الحكومة في الأعمال التجارية، وتنمية الرأسمال البشري[14].
بالنظر إلى تلك الرؤية، نجد أنها تضمنت أهدافًا متنوعة تتسق مع مفهوم التنمية البشرية. وتضمنت مجموعة من الأهداف الفرعية، مثل مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي، وتحقيق معدلات نمو سنوية مرتفعة، وبناء اقتصاد متوازن ومتنوع وقادر على المنافسة الدولية، وتحسين جودة الحياة، كما وضعت نموذج الاقتصاد الجديد والذي يُمثل تحولا نحو اقتصاد السوق.
هذا، وقد كان الهدف الأساسي من الرؤية هو تحقيق التنمية الاقتصادية المتوازنة مع الالتزام بتحقيق العدالة الاجتماعية، ومن هذا المنطق ركزت الرؤية على ضرورة إرساء دعائم اقتصاد ديناميكي قادر على إيجاد المزيد من الفرص ويُتيح استخدام الموارد لتوسيع النشاط الاقتصادي. وقد حرصت تلك الرؤية كذلك على توفير البيئة المناسبة لعمل القطاع الخاص[15].
نتج عن هذه الرؤية أن حقق الاقتصاد الماليزي معدلات نمو مرتفعة، حيث بلغ متوسط معدل النمو خلال الفترة 1991- 1995 حوالي 9.5%، وهو معدل مرتفع للغاية إذا ما قورن بفترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وقد استمر معدل النمو في الارتفاع حتى تخطى حاجز 10% عام 1996، وذلك بعد أن حقق الاقتصاد الماليزي قفزات هامة على مستوي المؤشرات الاقتصادية. فقد هبط الدين الخارجي ليصل إلى 40% من إجمالي الناتج القومي، وانخفضت معدلات التضخم حتى وصلت إلى 2.1%. وصاحب عملية النمو زيادة حقيقية في متوسط دخل الفرد وانخفاض مستويات الفقر، الأمر الذي أدى إلى رفع مستوى المعيشة للأفراد في المجتمع[16].
بيد أن الأزمة الاقتصادية التي عصفت بدول جنوب شرقي آسيا في صيف 1997 سببت إرباكًا شديدًا للاقتصاد الماليزي، فانخفضت الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتدهورت سوق الأوراق المالية، وتبعها انخفاض قيمة العملة فوصل إلى النصف تقريبًا. كما حدث انخفاض في معدل النمو الاقتصادي، إلا أن الاقتصاد الماليزي قد استطاع التعافي سريعًا من تلك الأزمة خلال عامٍ واحد.
ومن أهم الإجراءات التي اتخذتها ماليزيا في مواجهة الأزمة المالية ما يلي: اتخاذ قرار برسم سياساتها الخاصة لمواجهة الأزمة بعيدًا عن مساعدة وبرامج المنظمات الدولية، وفرض الضوابط والقيود على معاملات الحساب الرأسمالي لميزان المدفوعات، وخفض معدلات الفائدة، وإطلاق برنامج للإنعاش الاقتصادي. مع العلم أنه قد انخفض متوسط معدل النمو مرةً أخرى خلال النصف الثاني من العقد الأول للألفية الجديدة إلى 4.5%، وذلك بسبب الأزمة العالمية عام 2008، وهو ما دفع الحكومة إلى اتباع عدد من السياسات منها سياسات تقشفية وسياسات أخرى قائمة على دعم القطاع المالي لتمكين الاقتصاد من تجاوز الأزمة[17].
فيما يتعلق بتحقيق العدالة الاجتماعية، فقد عكست سياسات مهاتير محمد فلسفةً جديدة في التنمية تقوم على مفهوم النمو مع التوزيع المنصفGrowth and Equitable Distribution. إذ قامت على اعتقاد بأن النمو الاقتصادي لم يكن كافيًا لدفع التنمية القومية، كما لا يمكن اعتباره غاية في حد ذاته، خاصةً في سياق الانقسامات والفجوات العرقية والاختلالات الاقتصادية. وكان الهدف النهائي لهذه السياسة هو الوحدة القومية، وقد تطلب ذلك أن تلعب الدولة دورًا فاعلا في الاقتصاد ودعم الخدمات الاجتماعية وإعادة توزيع الثروات[18].
وقد هدفت رؤية 2020 إلى تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال تنمية الشعور بالمواطنة لدى جميع الأعراق ودعم العيش المشترك، من خلال سياسات إعادة التوزيع وتساوي الفرص بين الإثنيات مع مراعاة الأقل دخلا والأكثر تهميشًا. وقد واصلت الدولة من خلال هذه الرؤية سياسة التمييز الإيجابي في إعطاء الأفضلية في تملك المشاريع العامة للعنصر المالايو[19].
استمرت الدولة في سياق الخطة الخمسية العاشرة (2010-2015) والحادية عشر (2015-2020) في تعزيز العدالة والاتجاه نحو المجتمع العادل، مع التركيز بشكلٍ خاص على أقل 40% من الأسر الأقل دخلا بالمجتمع الماليزي، وكذلك المناطق الريفية. ويتم ذلك عبر تحسين مستويات التعليم وإمكانية الحصول عليه، وتحسين فرص العمل، وإنشاء المشروعات، والبنية التحتية والمرافق الجيدة. هذا فضلا عن تحسين مستويات الرفاهية، وتوفير الرعاية الصحية عالية الجودة، وتوفير الإسكان الميسر، إضافة إلى السعي وراء النمو الأخضر في سبيل تحقيق التنمية المستدامة، وضمان الحفاظ على البيئة والهبات الطبيعية من أجل الأجيال الحالية والمستقبلية. وقد اشتركت جميع الخطط الماليزية، سواء الخطط العامة أو الخطط الخمسية، في أهداف تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال محاربة الفقر وإعادة توزيع الثروة بين الأعراق المختلفة. وذلك في سبيل تحقيق المواطنة والتغلب على الاضطرابات الداخلية وتحقيق التنمية[20].
المحور الثالث- رؤية الازدهار المشترك 2030 وتحقيق العدالة الاجتماعية
شهد الاقتصاد الماليزي قبل إطلاق رؤية الازدهار المشترك 2030 تحديات اقتصادية متزايدة تجلت في تباطؤ النمو. ففي حين كانت ماليزيا تُعد من الاقتصادات الصاعدة الواعدة بمعدل نمو سنوي بلغ حوالي 8% في تسعينيات القرن العشرين، تراجعت هذه النسبة إلى 4% بحلول عام 2018. ويعكس هذا التباطؤ جملةً من العوامل الداخلية والخارجية التي أثرت في قدرة البلاد على الحفاظ على وتيرة التوسع الاقتصادي. وبالرغم من الجهود المبذولة في إطار السياسات السابقة، والتي أثمرت عن انخفاض في التفاوت في الدخل خلال الفترة الممتدة من الثمانينيات وحتى عام 2018، إلا أن هذا التفاوت ظل نسبيًا أعلى مقارنةً بالدول الأخرى الأعضاء في رابطة دول جنوب شرق آسيا، مما يُشير إلى أن ثمار النمو لم تتقاسمها جميع فئات المجتمع بالقدر الكافي.
علاوة على ذلك، واجه الاقتصاد الماليزي منذ ثمانينيات القرن الماضي تحديات أخرى تمثلت في ازدياد حساسيته للصدمات الخارجية الناجمة عن الأوضاع الاقتصادية والجيواستراتيجية الإقليمية والعالمية، مثل الأزمات الاقتصادية والحروب والكوارث الطبيعية والأوبئة، بالإضافة إلى التغيرات السياسية. وقد زاد من تعقيد المشهد الاقتصادي استمرار هجرة الكفاءات الماليزية إلى دولٍ أخرى توفر فرصًا أفضل، مثل سنغافورة وأستراليا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، الأمر الذي أدى إلى تفاقم التحديات التي تواجه التنمية الاقتصادية المستدامة في البلاد. وقد أدت هذه الظروف مجتمعة إلى الحاجة الملحة لتبني نهج جديد وشامل للتنمية، وهو ما تجسد في إطلاق رؤية الرخاء المشترك 2030 بهدف معالجة قضايا التنمية الشاملة وعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية[21].
في أكتوبر 2019، أعلن رئيس الوزراء آنذاك، مهاتير محمد، عن رؤية الازدهار المشترك (رؤية 2030) كمبادرة استراتيجية تهدف إلى معالجة الفجوة الاقتصادية المستمرة بين مختلف الأعراق في ماليزيا. وقد جاءت هذه الرؤية استجابةً للتحديات التي حالت دون تحقيق تنمية شاملة وتوزيع عادل للثروة، والتي تفاقمت بسبب الأزمات العالمية المتتالية، وممارسات الفساد التي أعاقت التنفيذ الفعال للخطط التنموية السابقة. وفي هذا السياق، أطلقت الحكومة الماليزية في عام 2020 رؤية الازدهار المشترك 2030، التي تُمثل إطارًا أكثر شمولية لمواجهة التعقيدات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة، وترتكز على مبادئ أساسية تشمل التوزيع العادل للثروة الوطنية، وتعزيز القوة الشرائية للمواطنين، وتحسين مستوى الرفاهية العامة[22].
تهدف رؤية الازدهار المشترك 2030 إلى تحقيق نمو اقتصادي مستدام ومستند إلى أسسٍ عادلة ومنصفة وشاملة، بحيث يستفيد من ثماره جميع فئات الدخل والأعراق والمناطق وسلاسل الإمداد في البلاد، مع التركيز بشكلٍ خاص على تحقيق نتائج اقتصادية عادلة للجميع بدلًا من التركيز على توفير فرص متساوية فقط. ولتحقيق هذه الغاية، حددت الرؤية ثلاثة أهداف رئيسية تتمثل في ضمان التنمية الشاملة للجميع دون استثناء، ومعالجة الفجوات العميقة في الدخل وتوزيع الثروة الوطنية بين مختلف شرائح المجتمع، وتعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ أسس مجتمع متماسك ومزدهر. ولتحقيق هذه الأهداف الطموحة، اشتملت الرؤية على خمسة عشر مبدأ توجيهيًا تعمل بمثابة بوصلة لتوجيه السياسات والمبادرات الحكومية، وسبعة محاور استراتيجية تمثل المجالات ذات الأولوية للتدخل، وثمانية ممكنات أساسية تشمل الأدوات والآليات اللازمة لتفعيل هذه المحاور وتحقيق الأهداف المنشودة[23].
تتميز الرؤية بوضع أهداف وغايات واضحة ومحددة قابلة للقياس، مما يتيح للحكومة والمؤسسات المعنية تتبع التقدم المحرز وتقييم مدى تحقيق النتائج المرجوة. ولا تعتمد المؤشرات الرئيسية لقياس التنمية الوطنية على نمو الناتج المحلي الإجمالي كمقياسٍ وحيد للنجاح، بل تشمل أيضًا معايير أخرى أكثر شمولية مثل توزيع الثروة الوطنية بشكلٍ عادل بين جميع فئات المجتمع، وزيادة القوة الشرائية للمواطنين بما يُمكنهم من تحسين مستوى معيشتهم، وتعزيز الرفاهية العامة لتشمل جوانب الحياة المختلفة.
وبهذا المعنى، تُعتبر رؤية الازدهار المشترك 2030 أكثر شمولية وتكاملًا من السياسة الاقتصادية الجديدة التي تم تطبيقها في الماضي؛ حيث تأخذ في الاعتبار التعقيدات المتزايدة للاقتصاد العالمي والظروف الاجتماعية الديناميكية التي تشهدها ماليزيا. ويتم استخدام مؤشر النتائج الرئيسية كأداة أساسية لمراقبة وتقييم فعالية تنفيذ مبادرات الرؤية، وضمان تحقيق أهدافها وغاياتها على أرض الواقع. وتغطي رؤية الرخاء المشترك جميع جوانب التنمية، سواء كانت مادية كالبنية التحتية والاقتصاد والنظام الإداري، أو اجتماعية كالاهتمام بالبيئة وتعزيز القيم المجتمعية وتطوير قطاع التعليم. ويتم تنفيذ ومراقبة وتقييم التقدم المحرز في تحقيق أهداف الرؤية من خلال لوحة معلومات مفصلة وديناميكية، كما يستمر هذا الجهد بشكلٍ دوري ومنتظم في إطار الخطتين الماليزيتين الثانية عشرة والثالثة عشرة لضمان تحقيق أهداف التنمية المستدامة والشاملة بحلول عام 2030.
وتُمثل هذه الرؤية استمرارًا للجهود التنموية السابقة، وعلى رأسها رؤية 2020 التي تبناها مهاتير محمد قبل ثلاثة عقود، بهدف دفع عجلة التنمية الاقتصادية والارتقاء بمستوى معيشة المواطنين وتعزيز الوحدة الوطنية. ويعتمد نجاح هذه الرؤية على تنفيذ سياسات ومبادرات فعالة لتشجيع الاستثمار والتجارة في القطاعات ذات النمو المرتفع، وتعزيز الحوكمة الرشيدة القائمة على النزاهة والشفافية، وترسيخ الانسجام الاجتماعي للحفاظ على السلام والاستقرار، مما سيساهم في خلق بيئة اقتصادية مواتية لتحقيق النمو المستمر وتوزيع الثروة والازدهار بشكلٍ عادل على جميع أفراد المجتمع. كما تتضمن الرؤية تنفيذ برامج ومبادرات متنوعة تهدف إلى زيادة دخل الأسر ذات الدخل المنخفض، والتي تحتاج إلى مساعدة ودعم الحكومة لتحسين مستوى معيشتها وضمان حصولها على فرص أفضل في المستقبل[24].
رؤية 2030 وتحقيق العدالة الاجتماعية:
تسعى رؤية الازدهار المشترك 2030 في ماليزيا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال تبني نهج شامل ومتعدد الأوجه يُعالج أوجه عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية القائمة. تتمثل إحدى الآليات الرئيسية في التحول من سياسات التمييز الإيجابي القائمة على العرق، والتي تميزت بها المراحل التنموية السابقة في ماليزيا مثل السياسة الاقتصادية الجديدة، إلى سياسات أكثر شمولية تستند إلى الاحتياجات. يهدف هذا التحول إلى ضمان وصول الموارد والفرص إلى جميع الماليزيين بغض النظر عن خلفيتهم العرقية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية.
من خلال التركيز على تلبية الاحتياجات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية والسكن والعدالة للجميع، تسعى الرؤية إلى تضييق الفجوات بين الفئات الأكثر حظًا والأقل حظًا في المجتمع. علاوة على ذلك، تشدد الرؤية على أهمية التوزيع العادل للثروة والفرص الاقتصادية، مع التركيز على تحقيق نتائج عادلة بدلًا من مجرد تكافؤ الفرص. يتضمن ذلك تنفيذ مبادرات وبرامج تهدف إلى زيادة دخل الأسر ذات الدخل المنخفض B40)) (تشير هذه المجموعة إلى الأربعين بالمائة الأدنى من حيث الدخل في ماليزيا)، وتوفير فرص عمل ذات أجورٍ جيدة، وتعزيز ريادة الأعمال بين المجتمعات المهمشة.[25]
بالإضافة إلى ذلك، تولي الرؤية اهتمامًا كبيرًا بتعزيز الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي، وهما عنصران حاسمان لتحقيق العدالة الاجتماعية في مجتمعٍ متعدد الأعراق مثل ماليزيا. تؤكد الرؤية أهمية الاحتفاء بالتنوع العرقي والثقافي باعتباره أساسًا للدولة القومية، وتسعى جاهدةً لضمان عدم تخلف أي شريحة من المجتمع أو تهميشها عن مسار التنمية الرئيسي. يتم تحقيق ذلك من خلال مبادرات تُعزز الحوار بين الثقافات، والتسامح، والتفاهم المتبادل بين مختلف الجماعات العرقية. علاوة على ذلك، تسعى الرؤية إلى تعزيز الحوكمة الرشيدة القائمة على النزاهة والشفافية والمساءلة، حيث يُنظر إلى هذه المبادئ على أنها ضرورية لضمان توزيع الموارد والفرص بشكلٍ عادل ومنصف. ومن خلال مكافحة الفساد وتعزيز سيادة القانون، تهدف الرؤية إلى بناء مجتمع أكثر عدلًا وإنصافًا للجميع. وأخيرًا، تتضمن الرؤية أهدافًا وغايات قابلة للقياس لضمان مساءلة الحكومة عن التقدم المحرز في تحقيق العدالة الاجتماعية، مما يوفر إطارًا لتقييم فعالية السياسات والمبادرات وتنقيحها بمرور الوقت[26].
في إطار هذه الرؤية وفي سياق الخطة الخمسية الثانية عشر (2021-2025)، تبنت الحكومة الماليزية تحولًا استراتيجيًا نحو سياسات ترتكز على الاحتياجات الشاملة للمواطنين، وقامت بتنفيذ العديد من السياسات والمبادرات لتحقيق العدالة الاجتماعية. تضمنت هذه السياسات والمبادرات تبني منظور متعدد الأبعاد لمعالجة الفقر، إذ تُدرك الحكومة أن الفقر ليس مجرد قضية تتعلق بالدخل، بل يشمل جوانب أخرى مثل الحصول على التعليم والرعاية الصحية والمرافق الأساسية. لذلك؛ تتبنى الحكومة سياسات تهدف إلى معالجة هذه الجوانب المتعددة لتحسين نوعية حياة الأسر الفقيرة.
كما عملت الحكومة على تمكين مجموعة B40 -كما أُشير- إذ تولي اهتمامًا خاصًا لهذه المجموعة من خلال برامج ومبادرات تهدف إلى زيادة دخلها، وتوفير فرص التدريب والتأهيل، وتحسين فرص حصولها على التعليم والرعاية الصحية. بالإضافة إلى ذلك، دعمت الحكومة مجموعة M40، وتُمثل هذه المجموعة شريحة الدخل المتوسطة. تسعى الحكومة إلى ضمان عدم تهميش هذه المجموعة وتوفير الدعم اللازم لها للمساهمة في النمو الاقتصادي، والتمتع بمستوى معيشة جيد. كما تم تحقيق نتائج عادلة للبوميبوترا (الأغلبية في ماليزيا من السكان الأصليين)، ومع الأخذ في الاعتبار السياق التاريخي والاجتماعي، تهدف الحكومة إلى تحقيق نتائج اجتماعية واقتصادية أكثر إنصافًا لمجموعة البوميبوترا، مع ضمان عدم التمييز ضد أي مجموعة أخرى.
تتضمن السياسات تسريع التنمية الاجتماعية والاقتصادية للبوميبوترا، وتعزيز قدراتهم في مختلف المجالات. كما عملت الحكومة على تمكين مجموعات مستهدفة محددة، فبالإضافة إلى المجموعات الرئيسية المذكورة، تُركز الحكومة على تمكين فئات أخرى مثل الأشخاص ذوي الإعاقة، والشباب، والنساء، وكبار السن من خلال سياسات وبرامج مخصصة.[27]
وقد نجحت الحكومة في إنعاش الاقتصاد الماليزي بعد تداعيات جائحة كورونا من خلال تحفيز النمو الاقتصادي، وتنويع مصادر الدخل. كما تمكنت من تحقيق الشمول الاجتماعي من خلال برامج توفير فرص عمل، وتحسين مستوى المعيشة، وتوسيع نطاق الخدمات الأساسية. وأولت الخطة اهتمامًا خاصًا بالتحول الرقمي، من خلال تعزيز البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتطوير المهارات الرقمية للقوى العاملة، وتشجيع الابتكار التكنولوجي[28].
المحور الرابع- التحديات الراهنة للعدالة الاجتماعية في ماليزيا
تواجه عملية تطبيق العدالة الاجتماعية في ماليزيا في الوقت الحاضر مجموعة معقدة من التحديات المتجذرة في الهياكل الاجتماعية والاقتصادية التاريخية، والديناميات السياسية المتطورة، والتفاوتات المستمرة عبر مختلف الأبعاد. وبينما حققت ماليزيا تقدمًا ملحوظًا في التنمية الاقتصادية والحد من الفقر على مدى العقود الماضية، فإن التوزيع العادل لهذا الرخاء وتحقيق العدالة الاجتماعية الحقيقية لا يزالان من الشواغل المستمرة.
أحد أكثر التحديات استمرارًا هو عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية المتأصلة بعمق، والتي غالبًا ما تتشابك مع التفاوتات العرقية. فعلى الرغم من عقودٍ من سياسات التمييز الإيجابي التي تهدف إلى النهوض بمجتمع البوميبوترا، لا تزال هناك تفاوتات كبيرة في الدخل والثروة بين مختلف الجماعات العرقية. إذ لا يزال المجتمع الماليزي الصيني، الذي يُشكل نسبة أصغر من السكان، يحتفظ بحصةٍ كبيرة بشكلٍ غير متناسب في شرائح الدخل الأعلى، بينما مجتمع البوميبوترا لا يزال يُشكل الأغلبية في النسب المئوية للدخل الأدنى[29].
يُشير هذا إلى أنه في حين تم خفض معدلات الفقر بشكلٍ عام، لا تزال الفجوة بين الأثرياء والأقل ثراءً، وخاصةً بين الجماعات العرقية، تشكل عائقًا كبيرًا أمام العدالة الاجتماعية. وتجدر الإشارة إلى أن التطبيق طويل الأجل لسياسات تستهدف عرقًا معينًا، مثل السياسة الاقتصادية الجديدة (NEP)وخلفائها، في حين أنها حققت بعض النجاح في الحد من الفقر، ربما عززت دون قصد الهويات العرقية وأعاقت تطور مجتمع شامل حقًا من خلال احتمال استفادة البعض داخل المجموعة المستهدفة أكثر من غيرهم، ومن خلال خلق تصورات بالظلم بين المجتمعات الأخرى. وقد أدى ذلك إلى وضع لا يتم فيه تقاسم فوائد النمو الاقتصادي بشكلٍ عادل، مما يخلق توترات اجتماعية ويُقوض أسس المجتمع العادل.[30]
تُشكل العوامل السياسية أيضًا تحديات كبيرة أمام تطبيق العدالة الاجتماعية في ماليزيا. فانتشار سياسات الهوية، حيث غالبًا ما تتم التعبئة السياسية على أسسٍ عرقية ودينية، يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية ويُعيق تطوير هوية وطنية موحدة تستند إلى قيم مشتركة من العدالة والمساواة. كما أن غياب قيادة سياسية ثابتة وعدم الاستقرار السياسي، يمكن أن يُقوض جهود تنفيذ إصلاحات العدالة الاجتماعية طويلة الأجل. وعلى جانبٍ آخر، قد يطغى التركيز على الحفاظ على السلطة السياسية أحيانًا على معالجة أوجه عدم المساواة النظامية، وضمان معاملة عادلة لجميع المواطنين.
علاوة على ذلك، فإن قضايا الحوكمة، بما في ذلك الفساد وأوجه القصور في الإنفاق العام وتقديم الخدمات، يمكن أن تؤثر بشكلٍ غير متناسب على المجتمعات المهمشة وتعوق وصولها إلى الموارد والفرص الأساسية، مما يؤدي إلى إدامة الظلم الاجتماعي. على سبيل المثال، يمكن أن تمنع التسربات في الأموال العامة المخصصة لبرامج التخفيف من حدة الفقر أولئك الأكثر احتياجًا من الحصول على المساعدة. وبالتالي يُمثل تحسين آليات الحوكمة، وضمان الشفافية، وتعزيز المساءلة خطوات حاسمة نحو تعزيز مجتمع أكثر عدلًا؛ حيث تيسير توزيع الموارد بشكلٍ عادل لتكون الخدمات في متناول الجميع بغض النظر عن خلفيتهم.[31]
وتُشير الانتقادات الموجهة إلى رؤية الرخاء المشترك 2030 إلى أنه في حين تتبنى الخطة أهدافًا تتمثل في الشمولية والإنصاف، فإن تصورها وتنفيذها العملي لا يزال قاصرًا في معالجة أوجه عدم المساواة الهيكلية والتفاوتات العرقية المتأصلة بعمق. ومن ثم، هناك مخاوف بشأن مدى وضوح أهدافها وآليات ضمان تقاسم فوائد الرخاء بشكلٍ حقيقي بين جميع شرائح المجتمع، وخاصةً المجتمعات المهمشة. ويتطلب تحقيق نهج قائم على الاحتياجات الحقيقية، كما هو متوخى في رؤية 2030، تحولًا أساسيًا بعيدًا عن السياسات القائمة على العرق وفهمًا أكثر دقة للتحديات التي تواجهها مختلف المجتمعات والأفراد، بناءً على عوامل اجتماعية واقتصادية، وموقع جغرافي، ونقاط ضعف أخرى. ويتطلب هذا التحول عملية إعادة تقييم شاملة للسياسات القائمة، وتطوير استراتيجيات جديدة تستهدف بشكلٍ مباشر الأسباب الجذرية لعدم المساواة بدلًا من التركيز فقط على التصنيفات العرقية[32].
علاوة على ذلك، تواجه مجتمعات مهمشة محددة في ماليزيا، مثل أورانج أسلي (أحد الشعوب الأصلية)، واللاجئين، وعديمي الجنسية، وأولئك الذين يعيشون في المناطق الريفية والنائية، حواجز متفاقمة أمام العدالة الاجتماعية. غالبًا ما يُعاني الأورانج أسلي، على الرغم من الاعتراف بهم كبوميبوترا، من التهميش من خلال التعدي على الأراضي، والتمثيل السياسي المحدود، والتفاوتات في الحصول على التعليم والرعاية الصحية والفرص الاقتصادية. كما أن فقدان الأراضي الأصلية بسبب مشاريع التنمية وإزالة الغابات يزيد من تفاقم ضعفهم، ويقوض رفاهيتهم الاجتماعية والثقافية[33]. أما بالنسبة للاجئين وعديمي الجنسية، فغالبًا ما تواجه هذه المجتمعات غموضًا قانونيًا ووصمة عار اجتماعية، مما يحد من حصولهم على الحقوق والخدمات الأساسية مثل العمل والتعليم والرعاية الصحية. غالبًا ما تعيش هذه المجموعات في ظروف محفوفة بالمخاطر، وتواجه التمييز ونقص شبكات الأمان الاجتماعي[34].
بالإضافة إلى ذلك، تُساهم التفاوتات الجغرافية أيضًا في الظلم الاجتماعي، حيث غالبًا ما يواجه الأفراد الذين يعيشون في المناطق الريفية، وخاصةً في صباح وساراواك، تحديات تتعلق بالبنية التحتية والاتصال والحصول على خدمات جيدة مقارنةً بنظرائهم في المناطق الحضرية. يؤدي نقص البنية التحتية الكافية، بما في ذلك الطرق والكهرباء والوصول إلى الإنترنت، إلى إعاقة الفرص الاقتصادية ويحد من الوصول إلى المعلومات والخدمات الأساسية، مما يُسفر عن إدامة دائرة من الحرمان. تتطلب معالجة هذه التحديات المحددة سياسات وتدخلات تعترف بالاحتياجات ونقاط الضعف الفريدة لهذه المجتمعات، وتضمن إدماجها في أجندة التنمية الوطنية وتكفل حقوقها الأساسية.[35]
بجانب ذلك، يُمثل التقاطع بين مختلف أشكال عدم المساواة تحديًا هامًا آخر أمام تحقيق العدالة الاجتماعية في ماليزيا. فقد يواجه الأفراد أشكالًا متعددة من التمييز والحرمان في الوقت ذاته بناءً على عرقهم، ودينهم، وجنسهم، وإعاقاتهم، ووضعهم الاجتماعي والاقتصادي. يمكن أن تخلق هذه الهويات المتقاطعة حواجز معقدة لا يتم تناولها بشكلٍ كافٍ من خلال سياسات تركز على بعد واحد من أبعاد عدم المساواة. على سبيل المثال، قد تواجه امرأة، من خلفية ذات دخل منخفض، تنتمي إلى مجموعة عرقية أقلية صعوبات متفاقمة في الحصول على التعليم والعمل والعدالة مقارنة بالآخرين. وبالتالي، يتطلب التعرف على أوجه عدم المساواة المتقاطعة هذه ومعالجتها اتباع نهج أكثر دقة وشمولية في صياغة السياسات وتنفيذها، وضمان أخذ احتياجات جميع الأفراد، بغض النظر عن هوياتهم المتعددة، في الاعتبار[36].
أخيرًا، يمكن أن يكون تعريف العدالة الاجتماعية وفهمها موضع خلاف، حيث يحمل مختلف أصحاب المصلحة وجهات نظر مختلفة حول ما يُشكل مجتمعًا عادلًا وكيف ينبغي تحقيقه. يمكن أن يؤدي ذلك إلى خلافاتٍ وتحدياتٍ في صياغة وتنفيذ سياسات يُنظر إليها على أنها عادلة ومنصفة من قبل الجميع. وعليه، إن الانخراط في حوارٍ شامل، وتعزيز فهم مشترك لمبادئ العدالة الاجتماعية أمران حاسمان لبناء توافق في الآراء والتحرك نحو مجتمع أكثر عدلًا وإنصافًا في ماليزيا.[37]
بشكلٍ عام، يُمثل تطبيق العدالة الاجتماعية في ماليزيا مسعى متعدد الأوجه يواجه تحديات كبيرة. تساهم أوجه عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والعرقية المستمرة، والديناميات السياسية المعقدة، وقضايا الحوكمة، والقيود في تنفيذ السياسات، ونقاط الضعف الخاصة بالمجتمعات المهمشة، وتقاطع أوجه عدم المساواة، ووجهات النظر المختلفة حول العدالة الاجتماعية، تساهم في تعميق الصعوبات التي تعترض تحقيق مجتمع عادل ومنصف حقًا. وبينما تقدم رؤية الرخاء المشترك 2030 التزامًا متجددًا بمعالجة هذه القضايا، فإن نجاحها سيعتمد على التنفيذ الفعال، والتحول الحقيقي نحو سياساتٍ قائمة على الاحتياجات، وجهد متضافر لمعالجة الأسباب الجذرية لعدم المساواة والتهميش عبر جميع أبعاد المجتمع الماليزي. سيتطلب التغلب على هذه التحديات إرادة سياسية مستمرة، وإصلاحات سياسية شاملة، والمشاركة النشطة للمجتمع المدني.
سعت الدولة في ماليزيا إلى مواجهة التحديات المعقدة المرتبطة بتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال تبني سياسات وخطط تنموية مختلفة منذ السبعينيات، وقد مثلت خطة 2020 وخطة 2030 أبرز هذه السياسات. وهدفت هذه السياسات الأخيرة إلى معالجة الفجوات الاقتصادية والاجتماعية المتجذرة، وتوسيع نطاق الاستفادة من النمو الاقتصادي ليشمل جميع فئات المجتمع. كما ارتكزت الجهود الحكومية على التحول من سياسات التمييز العرقي إلى نهجٍ قائم على الاحتياجات الفعلية، من خلال تعزيز الشفافية، وتحسين كفاءة الحوكمة، وتوجيه الموارد نحو البرامج التي تستهدف الأسباب الجذرية للفقر والتهميش بدلًا من التركيز على الانتماء العرقي وحده. ويُعد تعزيز البنية التحتية في المناطق النائية، وتوسيع فرص الحصول على التعليم والرعاية الصحية، وضمان الحماية القانونية والاجتماعية للفئات المستضعفة، من بين الركائز الأساسية لهذه الجهود.[38]
وعلاوة على ذلك، تبذل الدولة جهودًا لتعزيز العدالة من خلال إصلاح النظام السياسي والاجتماعي بما يسمح بمزيدٍ من الشفافية والمساءلة، وتقوية مشاركة المجتمع المدني في عملية صنع القرار. كما تدعو الحكومة إلى حوارٍ وطنيٍ شامل لتعزيز فهم مشترك لمفهوم العدالة الاجتماعية، بما يساهم في بناء توافق مجتمعي حول سبل المضي قدمًا نحو مجتمع أكثر عدلًا وتماسكًا. وبينما لا تزال التحديات قائمة، فإن نجاح هذه المبادرات سيعتمد على الإرادة السياسية المستدامة، وتطبيق إصلاحات مؤسسية جادة، وتفعيل آليات شراكة حقيقية بين الدولة والمجتمع لتحقيق تغيير هيكلي شامل وعادل[39].
خاتمة:
تُبرز التجربة الماليزية كيف يمكن للسياسات الاقتصادية أن تتحول إلى أداة فعالة لتعزيز العدالة الاجتماعية في مجتمعٍ متعدد الأعراق، والخلفيات (رغم المآخذ). فقد أظهرت مراحل التنمية المختلفة، منذ تطبيق السياسة الاقتصادية الجديدة، وحتى رؤية الازدهار المشترك 2030، مساعي الدولة لتحقيق توازن بين النمو الاقتصادي والتوزيع العادل للموارد والفرص. ورغم ما تحقق من تقدم في خفض الفقر وتحسين مستويات المعيشة، إلا أن التحديات لا تزال قائمة، خصوصًا ما يتعلق بعدم المساواة الهيكلية، والتفاوتات العرقية، ومحدودية الشمول الاجتماعي لبعض الفئات المهمشة
إن تحقيق العدالة الاجتماعية في السياق الماليزي لا يتطلب فقط الاستمرار في تنفيذ السياسات الشاملة القائمة على الاحتياجات، بل يقتضي أيضًا تحولات عميقة في أنماط الحوكمة، وتعزيز الشفافية والمساءلة، وتوسيع نطاق المشاركة المجتمعية الفعالة. لذلك؛ فإن مستقبل العدالة الاجتماعية في ماليزيا يعتمد على قدرة الدولة على إعادة تشكيل نهجها التنموي ليكون أكثر شمولًا وإنصافًا، يتجاوز التصنيفات العرقية الضيقة، ويستجيب لتقاطع أوجه التهميش المتعددة في سبيل بناء مجتمع عادل ومتماسك ومستدام.
————————————
الهوامش:
[1] What is social justice?, Taylor & Francis, accessed at: 20 May 2025, available at: https://2u.pw/BCYn8
[2] Daniel Thomas Mollenkamp, Social Justice Meaning and Main Principles Explained, Investopedia, 31 January 2025, accessed at 20 May 2025, available at: https://2u.pw/zBVbV
[3] Melanie Killen, Kathryn M Yee, Martin D Ruck, Social and Racial Justice as Fundamental Goals for the Field of Human Development, Hum Dev. December 2021, accessed at: 20 May 2025, available at: https://2u.pw/S3drR
[4] Noraini M. Noor, Multicultural Policies in Malaysia: Challenges, Successes, and the Future, Georgetown Journal of International Affairs, 1 June 2024, accessed at 19 May 2025, available at: https://2u.pw/ni7vI
[5] وفاء لطفي، التجربة الماليزية في إدارة المجتمع متعدد الأعراق والدروس المستفادة للمنطقة العربية، (القاهرة، المكتبة المصرية للنشر والتوزيع، 2010)، ص 92-93.
[6] بازم عثمان، استراتيجية التصنيع في ماليزيا، (في): كمال المنوفي، جابر سعيد عوض (محررون)، النموذج الماليزي للتنمية، (القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، مركز الدراسات الآسيوية، 2005)، ص 193.
[7] فيصل المناور، عبد الحليم شاهين، تجارب تنموية رائدة، ماليزيا نموذجا، دراسات تنموية، العدد 54، نوفمبر 2017، ص 13.
[8] محسن صالح، النموذج السياسي الماليزي وإدارة الاختلاف، مركز الجزيرة للدراسات، 21 يونيو 2012، تاريخ الاطلاع 19 مايو 2025، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/gp0Ww
[9] المرجع السابق.
[10] علي عبد الرازق جلبي، التجربة الماليزية في التنمية الإنسانية، مركز الدراسات المعرفية، ابريل 2008، ص 8.
[11] أحمد محي الدين، التجربة الاقتصادية الماليزية، المجلة العلمية لكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية، المجلد 2019، العدد 7، يناير 2019، ص 27-28.
[12] حسن أحمد هديوه، خالد عبد الكريم رعد، التجربة الماليزية في التنمية المستدامة، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والسياسية، المجلد 40، فبراير 2024، ص9.
[13] نادية فاضل عباس، التجربة التنموية في ماليزيا من العام 2000 -2010، دراسات دولية، العدد 54، ص 174-176.
[14] حسن أحمد هديوه، خالد عبد الكريم رعد، التجربة الماليزية في التنمية المستدامة، مرجع سابق، ص 9-10.
[15] نادية فاضل عباس، التجربة التنموية في ماليزيا من العام 2000 -2010، مرجع سابق، 175-176.
[16] فيصل المناور، عبد الحليم شاهين، تجارب تنموية رائدة، ماليزيا نموذجا، مرجع سابق، 18.
[17] المرجع السابق، ص 19-20.
[18] علي عبد الرازق جلبي، التجربة الماليزية في التنمية الإنسانية، مركز الدراسات المعرفية، ابريل 2008، ص 8.
[19] صباح كزيز، مربعي بالقاسم، إدارة التنوع الاثني في ماليزيا ودوره في بناء الدولة، (في) عائشة عباش، نهى الدسوقي (محررون)، أبعاد التجربة التنموية في ماليزيا، (برلين: المركز العربي الديمقراطي، 2019)، ص 54.
[20] فيصل المناور، عبد الحليم شاهين، تجارب تنموية رائدة، ماليزيا نموذجا، مرجع سابق، ص 25-26.
[21] Nga Koe Hwee, Choong Pai Wei, Understaning Shared Prosperity Vision 2030 From the Malaysin Grassroots Perspective, International Journal of Asia Pacific Studies, Vol.21, No.1, February 2025, P 26.
[22] Shared prosperity vision 2030, Ministry of economic affairs, 5 October 2019, Introduction, available at: https://2u.pw/vZr3P
[23] Ibid, pp 18-21.
[24] Ibid, pp 24-26.
[25] Nga Koe Hwee, Choong Pai Wei, Understanding Shared Prosperity Vision 2030 From the Malaysian Grassroots Perspective, OP. cit. 68.
[26] Shared prosperity vision 2030, Ministry of economic affairs, OP. cit.
[27] Twelfth Malaysia Plan (2021-2025), Federal Government Administrative Centre, pp 21-24, available at: https://2u.pw/lEOUP
[28] Rajan Rauniyar, Twelfth Malaysia Plan: Key Insights, Goals, and Economic Impact, Cleartax,22 April 2025, accessed at 14 June 2025, available at: https://2u.pw/4F7mO
[29] World Inequality Database, Malaysia, 2024, accessed on 14 June 2025, available at, https://wid.world/country/malaysia/
[30] REDUCING INEQUALITY AND ENHANCING MOBILITY IN MALAYSIA, International Bank for Reconstruction and Development, 2024, pp 13-16, avilable at: https://2u.pw/Vv45Q
[31] Nalini Elumalai, Malaysia: An inclusive policy measure is needed to end hate speech and discrimination, Article19, 16 June 2023, accessed at 14 June 2025, available at: https://2u.pw/pLpBK
Emanuela Mangiarotti, Malaysia 2023: A reform agenda overshadowed by identity politics, Asian Major, 2023, accessed at 14 June 2025, available at: https://www.asiamaior.org/?p=1980
[32] Lee Hwok Aun, Malaysia’s Shared Prosperity Vision 2030 Needs a Rethink to Make a Breakthrough, ISEAS-Yusof Ishak Institute, 23 December 2019, pp 2-3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ, Can Mahathir’s government get Malaysians to believe in shared prosperity – regardless of race, South China Morning Post, 27 November 2019, accessed at 14 June 2025, available at: https://2u.pw/fPQDl
[33] Masni Mat Dong, Peter Midmore, Maria Plotnikova, Understanding the experiences of Indigenous minorities through the lens of spatial justice: The case of Orang Asli in Peninsular Malaysia, Regional Science Policy & Practice, Vol. 14, No. 5, October 2022, accessed at 15 June 2025, available at: https://2u.pw/aBv3R
[34] Dayang Hajyrayati Binti Awg Kassim, Noor Azlan Bin Mohd Noor, A Qualitative Study on Risk of Statelessness Among Indigenous Communities in Sarawak, Malaysia, International Journal of Research and Innovation in Social Science (IJRISS), 19 July 2024, accessed at 15 June 2025, available at: https://2u.pw/oZhFK
[35] Samuel Chua, Sabah, Sarawak Need Higher Allocation To Narrow Development Gap, Free Malaysia Today, 18 February 2023, accessed at 15 June 2025, available at: https://2u.pw/bt8Q7
[36] Ajlaa Shazwani Mokhtar, WOMEN IN SENIOR MANAGEMENT IN MALAYSIA: AN INTERSECTIONAL ANALYSIS, PhD thesis, University of the West of England, June 2020, pp 24-26.
[37] Kwame Sundaram Jomo, Comment on “Social Justice and Affirmative Action in Malaysia: The New Economic Policy after 50 Years”, International Islamic University Malaysia, accessed at 15 June 2025, available at: https://2u.pw/PP8gW
What’s Social Justice In Malaysia? The History, Challenges, And How To Get Involved, Impact, 16 Febuary 2023, accessed at 15 June 2025, available at: https://2u.pw/rzunU
[38] Shared prosperity vision 2030, Ministry of economic affairs, OP. cit.
[39] Priority: People and Prosperity, UNDP Malaysia, accessed at 15 June 2025, available at: https://www.undp.org/malaysia/inclusive-growth