الرؤية اليابانية للإسلام والعرب
من هاجس الاستعمار إلى واجب بناء الهوية: قراءة نقدية في تطور الدراسات الإسلامية في اليابان.. من عهد ميجي إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية

تقديم أ. أحمد خلف
هذا هو اللقاء الحادي عشر من منتدى الحضارة في موسمه الأول تحت عنوان جديد العلم والعالم، وهو اللقاء الفاصل الواصل بين الموسم الأول والموسم الثاني من منتدى الحضارة.
وقد حملت لقاءات هذا الموسم العناوين التالية:
اللقاء الأول: تجديد التفكير في العالم: نموذج طوفان الأقصى
اللقاء الثاني: المحاور الاستراتيجية في المنطقة العربية وجوارها الحضاري
اللقاء الثالث: المقاومة المعرفية للعلمانية الملحدة.. حوارات الإسلام والعلم
اللقاء الرابع: التحولات السياسية في غرب إفريقيا
اللقاء السادس: الأمة والعمل الخيري والإنساني: الدوافع / الأهداف والإمكانيات والقيود
اللقاء السابع: الذكاء الاصطناعي.. الآثار والتفاعلات العلمية والعالمية
اللقاء التاسع: كيف يتشكَّل عالمنا العربي الإسلامي في الحقبة الراهنة؟
اللقاء العاشر: التغير والاستمرارية في السياسة الخارجية الإيرانية تجاه العالم العربي منذ طوفان الأقصى
ويأتي هذا اللقاء تحت عنوان «الرؤية اليابانية للإسلام والعرب»، وتقدِّمه الدكتورة/ أياكا كوروردا.
نص المحاضرة:
من هاجس الاستعمار إلى واجب بناء الهوية: قراءة نقدية في تطور الدراسات الإسلامية في اليابان.. من عهد ميجي إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية
مقدمة:
جزيل الشكر وخالص التقدير لجميع العاملين في مركز الحضارة للدراسات والبحوث، وعلى رأسهم الدكتورة نادية مصطفى والدكتور مدحت ماهر، لإتاحتهم هذه الفرصة القيمة لعرض ورقتي الموسومة بـ (من هاجس الاستعمار إلى واجب بناء الهوية: قراءة نقدية في تطور الدراسات الإسلامية في اليابان من عهد ميجي إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية) التي أتناول فيها موضوع تصورات اليابانيين للإسلام والعالم العربي.
تتناول الورقة أربعة محاور، أولا التطور التاريخي لتفاعل اليابان مع العالم العربي والإسلامي، ثم في القسم الثاني تناقش الورقة مسار تطور الدراسات الإسلامية في اليابان منذ عهد ميجي وحتى فترة الحرب العالمية الثانية، وفي القسم الثالث تفصِّل في جانب القومية والدراسات العربية في يابان ما بعد الحرب، وفي القسم الرابع والأخير تتطرق الورقة إلى الدراسات العربية والإسلامية المعاصرة وتصورات اليابانيين المعاصرة عن الإسلام والمسلمين.
١. الجذور الأولى للقاء اليابانيين بالعالم الإسلامي:
(١) اهتمام اليابانيين بمصر الحديثة:
كان لليابان، الواقعة في شرق آسيا، تاريخ طويل من العلاقات مع الصين وآسيا الوسطى. وأثناء هذا التاريخ الطويل كان هناك بكل تأكيد بعض الاحتكاكات بالمسلمين والثقافة الإسلامية، وعلى الرغم من هذه الاحتكاكات إلا أن الاعتراف بثقافة الإسلام لم يكن صريحا، وظلت المعرفة بالإسلام عامة محدودة، ولا سيما في فترة إيدو بسبب سياسة العزلة التي اتبعتها اليابان حينها. خلال عصر إيدو (تقريبا من القرن السابع عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر)، انتهجت اليابان سياسة انعزالية خوفًا من التأثير الغربي وانتشار المسيحية؛ فقد منعت المسيحية وقصر التواصل مع الدول الأجنبية على تبادلات تجارية محدودة مع الصين وهولندا (وهي دولة بروتستانتية تعهدت بعدم نشر المسيحية في اليابان).
في بحث لي نشر عام ٢٠٢٣، فصَّلت كيف أن المؤرخين يرون أن حملة نابليون على مصر عام ١٧٩٨ تمثل بداية مرحلة الحداثة في العالم الإسلامي. وبشكل مماثل، يعد وصول الأسطول الأمريكي بقيادة بيري إلى اليابان عام ١٨٥٣، وإجباره اليابان على اتِّباع سياسة الانفتاح بعد عزلتها، نقطة الانطلاق لحداثة اليابان؛ إذ يشترك الحدثان في قاسم مشترك: دول غير غربية تواجه ضغوطًا من الغرب.
بعد ثورة ميجي عام ١٨٦٨، بدأت اليابان في مسيرة تحديث وتغرب سريعة وشاملة، وكان الانفتاح على دول الخارج من أهم شعاراتها. وفي تلك الفترة بالتحديد، ازداد اهتمام اليابانيين بمصر ضمن غيرها من الدول العربية (Sugita 1995: 112). وفي هذا السياق جرت مقارنات بين مشروع التحديث في اليابان والمشروع المشابه الذي قاده محمد علي في مصر؛ ففي كلتا الدولتين، أرسل الطلاب إلى أوروبا للدراسة، ثم عادوا ليعملوا جاهدين على تحديث وطنهم (Itagaki 1964: 37).
عندما حدث أخيرًا انفتاح اليابان على الغرب في أواخر عصر إيدو، أجبرت اليابان على توقيع معاهدات مع دول غربية عدة، وكانت معاهدات غير متكافئة تمنح الأجانب حق الولاية القضائية القنصلية وتمنع اليابان من فرض رسوم جمركية على النحو الذي تريده.
ومع سعي الحكومة اليابانية إلى إلغاء القضاء القنصلي في عهد ميجي، ضغطت الحكومة البريطانية، التي لم تكن راغبة في إعادة النظر في المعاهدات غير المتكافئة، على المسؤولين اليابانيين لإجراء زيارات ميدانية للمحاكم المختلطة في مصر. وفي الوقت نفسه، بدأ بعض علماء اليابان بدراسة القوانين المصرية ونظامها القضائي. وبالرغم من أن نظام المحاكم المختلطة لم يطبَّق في اليابان في نهاية الأمر، فإن الجدل حول تأسيس هذا النظام أثار أزمة متصاعدة لدى اليابانيين تجاه الاستعمار.
أيضا، في سياق حديثنا عن تاريخ العلاقات بين اليابان ومصر، لا يمكن أن ننسى اهتمام اليابان بحركة عرابي (١٨٧٩-١٨٨٢)؛ ففي تلك الفترة، ارتفع وعي اليابانيين بالنسبة للشعوب الآسيوية المظلومة، على خلفية انتشار حركة المطالبة بالحرية والحقوق المدنية (١٨٧٤-١٨٨٩) التي طالبت بوضع دستور للبلاد وإنشاء برلمان. ونتيجة لحركة الحرية والحقوق المدنية في اليابان، اضطرت الحكومة اليابانية في عام ١٨٨١ إلى وعد الشعب بتأسيس برلمان، وهو نفس العام الذي نشطت فيه حركة عرابي (Itagaki 1964: 39).
وبعد الثورة العرابية، قام الوزير الياباني آنذاك تاني تاتيكي (١٨٣٧-١٩١١) وسكرتيره شيرو شيبا (١٨٥٣-١٩٢٢) بزيارة عرابي في منفاه في سيلان، وأثناء هذه الزيارة أكد عرابي لهما خطورة الحكم الاستعماري وحذَّر منه. وبعد لقائه، زارا القاهرة وشاهدا واقع الاستعمار البريطاني، وعلى إثر ذلك بدآ في انتقاد سياسة التغريب التي كانت تتبعها اليابان حينها. وعند عودته، قام سكرتير هذا الوزير الياباني (شيرو شيبا) بنشر رواية سياسية تتناول شخصية عرابي، وحقَّقت هذه الرواية شهرة كبيرة وأقبل عامة اليابانيين على قراءتها بكثرة.
(2) المجتمع الياباني وقلة معرفته بالإسلام
من المفترض أن انفتاح اليابان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قد مهَّد الطريق لفهمٍ ومعرفةٍ أكثر بالعالم العربي والإسلامي، ولكن الواقع أن اليابانيين -باستثناء قلة زارت العالم العربي والإسلامي- لم يكن لديهم إلا قدر محدود من المعرفة بالإسلام، وهذه المعرفة على ضعفها كانت عبر ما ترجم من المصادر الغربية التي كانت منحازة ضد الإسلام، وتصفه بأنه «دين متخلف عصي على الإصلاح». وأيضًا على الصعيد الأكاديمي، تأخَّرت دراسة الإسلام بسبب الفصل الثنائي بين التاريخ الغربي والتاريخ الشرقي في نظام التعليم في اليابان حينها (Tamura 1987: 18).
ولكن من ناحية أخرى، شهدت الفترة من أواخر القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين صدور سلسلة عن سيرة النبي محمد، إلا أن ذلك كان من منطلق الاهتمام بشخصيته بوصفه بطلا عظيمًا في تاريخ البشرية وشخصية تاريخية مهمَّة، وليس من باب الاهتمام بالإسلام نفسه (Sugita 1995: 148-149).
وقد تأثرت هذه الكتابات عن الإسلام ونبيه بكتابات الناقد الإنجليزي توماس كارلايل الذي نبه إلى التحيز القائم في الآداب الغربية إزاء صورة النبي محمد، وقد منح توماس شخصية النبي محمد تقديرًا واحترامًا واضحًا إلى جانب كل من شكسبير ولوثر ونابليون (Sugita 1995: 148). ومع أن بعض المؤلفات اليابانية في ذلك الوقت تضمنت صورا مشوهة عن الإسلام، فإنها لم ترسم صورة همجية للنبي محمد كما كانت عليه في التصور الغربي الشائع، وإنما تناولته بوصفه بطلا في عصره أسس نظامًا اجتماعيًّا جديدًا في شبه الجزيرة العربية.
٢. الدراسات الإسلامية في اليابان في فترة الحرب العالمية الثانية وأنشطة معهد دراسات العالم الإسلامي
(1) الحرب الروسية اليابانية كنقطة تحول
كما ذكرت في بداية حديثي، فقد كان هناك قاسم مشترك في الوعي بين اليابان ومصر، وهما في طريقهما نحو العصر الحديث تجاه القوى الغربية. ويشير مؤرخ ياباني (اسمه تامورا) إلى أن اليابان، أثناء انفتاحها على الغرب، تكوَّنت لديها رؤية متضاربة بالنسبة لآسيا؛ فبعضهم رأى أن على اليابان الابتعاد عن الدول الآسيوية الأخرى والتعلم من الغرب لتجنُّب الاستعمار، بينما رأى آخرون أن هناك تاريخًا مشتركًا يدعو إلى التضامن مع شعوب آسيا بصفتهم أممًا مضطهدة أيضًا (Tamura 1972: 61-62).
وقد اعتبر اليابانيون مصر ضمن أصدقاء آسيا الغربية، مع أن مصر تقع جغرافيًّا في شمال أفريقيا. ولكن اليابان وبعد انتصارها في الحرب الصينية اليابانية (١٨٩٤-١٨٩٥) والحرب الروسية اليابانية (١٩٠٤-١٩٠٥)، بدأت تشعر بتفوق وأفضلية تجعلها تؤهِّلها لتكون قائدة الشرق في مواجهة الغرب. ومن جانب آخر، رأى كثير من العرب والمسلمين في اليابان نموذجًا يُحتذى به في تحديث الأوطان وبنائها.
بدأت اليابان في مطلع القرن العشرين في انتهاج سياسة إمبريالية. وبعد الحرب الروسية اليابانية (١٩٠٤-١٩٠٥)، ظهر في اليابان مفهوم الوحدة الآسيوية (Pan-Asianism)، لكنه لم يكن يعني التعاطف مع الدول الآسيوية المظلومة، بل كان ستارًا لنية سياسية للإمبراطورية اليابانية في استعمار دول آسيا الأخرى، تحت شعار خادع بأن اليابان ستحرِّر شقيقاتها الآسيوية من الغرب.
وسرعان ما ظهرت هذه النية الحقيقية في سياسات المسؤولين اليابانيين الذين تركوا التعاطف مع الدول الآسيوية الأخرى، وبدؤوا بدراسة طرق الحكم الاستعماري البريطاني والفرنسي، للاستفادة منها في إدارة مستعمرات اليابان في شرق آسيا. وقبيل ضم كوريا كمستعمرة عام ١٩١٠، درس بعض المسؤولين اليابانيين نظام الشرطة في مصر التي كانت حينها تحت الاحتلال البريطاني (Matsuda 2000).
كما ظهرت في هذه الفترة دراسات متتالية حول أوضاع مصر وتونس والجزائر في ظلِّ الاستعمار، وكانت المقارنة في هذه الدراسات بين أوضاع هذه الأقطار وأوضاع كوريا المستعمرة (Sugita 1995: 126).
وفي هذا السياق أيضًا، ترجم كتاب «مصر الحديثة» إلى اللغة اليابانية عام ١٩١١، وهو الكتاب الذي ألَّفه اللورد كرومر، المندوب السامي البريطاني في مصر.
(2) الدور الذي لعبه معهد دراسات العالم الإسلامي في اليابان
أحد أهم الآثار التي نتجت عن التمدد الإمبريالي الياباني كان التقدم السريع في مجال الدراسات الإسلامية، على نحو مشابه لبدايات دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة. ففي مرحلة الحرب الصينية اليابانية الثانية (١٩٣٧-١٩٤٥)، شعر المسؤولون اليابانيون بضرورة التعرُّف على عادات المسلمين المحليِّين وتقاليدهم في غرب الصين بغرض إقامة نظام موال لليابان هناك. وفي عام ١٩٣٨ تحديدًا، أُسِّسَتْ في اليابان عدَّة معاهد، من بينها معهد «رابطة مسلمي اليابان الكبرى» الذي كانت له صلات وثيقة بالجيش.
إلا أن «معهد دراسات العالم الإسلامي»، وهو أحد المعاهد التي تأسَّست في تلك الفترة، احتفظ بأجواء أكثر تحرُّرًا نسبيًّا من غيره من مراكز دراسات العالم الإسلامي. وكان مديره أوكوبو كوجي (١٨٨٧-١٩٥٠)، وكان في الأصل باحثًا في الشؤون التركية، وأنشأ هذا المعهد بدعم من أحد المتبرعين. ومع أن هذا المعهد استورد إنجازات الدراسات الإسلامية من أوروبا، فإنه في الوقت نفسه شجَّع بقوة على البحث القائم على المصادر الأصلية، فدرس الباحثون اللغات الإسلامية، ومنها التركية والفارسية والعربية، التي درست في المعهد.
وبسبب بعض المشاكل في التمويل، لم يَبْقَ هذا المعهد طويلًا حتى وُضِعَ تحت رعاية هيئةٍ مرتبطة بالجيش وبرعايتها المالية، والتي كانت تهدف لإجراء عمليات استراتيجية في آسيا، وقد سبَّب ذلك بشكل طبيعي الكثير من الضغوط على العاملين في هذا المعهد لإجراء أبحاث تفيد التوسع الياباني في آسيا.
بعد فشل هدف اليابان في إقامة حكومة إسلامية مؤيدة لها في غرب الصين، تحول اهتمام الجيش الياباني نحو جنوب شرق آسيا. وبين عامي ١٩٤٠ ونهاية الحرب عام ١٩٤٥، ازدادت دراسة أوضاع المسلمين في جنوب شرق آسيا، ولم يقتصر الأمر على المراكز المرتبطة بالجيش، بل شمل أيضا معهد دراسات العالم الإسلامي. ومع ذلك، حرص مدير المعهد أوكوبو على المحافظة على طابع البحث الأكاديمي المستقل عن السياسة.
وممَّن عمل في المعهد شيرو نوهارا (١٩٠٣-١٩٨١)، ثم تحول بعد الحرب العالمية الثانية إلى دراسة التاريخ الصيني. وقد وصف في مذكراته موقف مدير المعهد، أوكوبو، على النحو التالي(Tamura 1987: 22):
(كان المدير كثيرًا ما يشكو من أن الدراسات الأوروبية عن الإسلام مليئة بالأحكام المسبقة، وأنها تصور الإسلام دينًا دمويًّا همجيًّا بعبارات مثل: (القرآن بيد والسيف باليد الأخرى). لقد حاول المدير جاهدًا في شقِّ طريقه قُدُمًا في الدراسات الإسلامية من مراجِعها الأصيلة، دون المرور بالقنوات الأوروبية (Nohara 1966: 226).
وطرح نوهارا رؤية فريدة في كتاباته عام ١٩٤٢ أثناء الحرب العالمية الثانية إذ قال:
(أعتقد أنه ينبغي إجراء المزيد من الأبحاث حول العلاقة بين آسيا الشرقية وآسيا الغربية؛ فمثل هذه العلاقة تضرب بجذورها بعمق في الفكر الحديث لكل من آسيا الشرقية وآسيا الغربية. ولنا أن نتخيل هنا ارتباطًا يتجاوز مجرد عناصر التشابه أو القواسم المشتركة بينهما. فهذا فكر الأفغاني؛ بنى على تراث الشرق وناضل لكي يستوعب الغرب. وربما بقي هذا التراث حيًّا في مصر عبر محمد عبده إلى طه حسين. ومثل هذه المقارنات (وعناصر التشابه) في الفكر الحديث على طول آسيا هي أحد أسباب اتجاهنا لدراسة غرب آسيا. وبعد ذلك قد نتمكَّن من الفرصة (التي تؤهِّلنا) لإعادة فحص مفهوم آسيا ذاته… وحين تحدث الناس ذات يوم عن (الصراع بين الشرق والغرب)، كان الفكر المعاصر لآسيا الغربية غائبا تمامًا، بل لم يكن أصلًا معترفًا بوجوده. وحتى إن كان هناك من يعرفه عن طريق الصدفة، فلم تكن هناك أي محاولة جادَّة لفهم علاقته بفكرنا) (Nohara 1966: 167).
لكنه أتبع ذلك بقوله: (دراسة الإسلام هي وسيلة مهمة للنهوض بالدراسات الشرقية في اليابان في سياق بناء الإمبراطورية التي تهدف إليها حرب شرق آسيا الكبرى) (Nohara 1966: 168)، مما يبرهن بشكل واضح أن طرحه أيضا لم يكن بمنأى عن السياق السياسي والفكري لليابان في زمن الحرب. وفي مرحلة لاحقة، ندم نوهارا على موقفه هذا بعد الحرب، ناقدا نفسه لعدم اتخاذه موقفا نقديًّا ثابتًا إزاء السياسة اليابانية فيما يتعلَّق بالإسلام، معيدًا إلى ذاكرته أنه كان يعارضها، إلا أن المسؤولين اليابانيين والباحثين المرتبطين بالحكومة لم يكونوا ليفهموا حقيقة المسلمين وهويتهم العرقية ودينهم في جنوب شرق آسيا (Tamura 1987: 32).
على كل حال، فقد حُلَّ معهد دراسات العالم الإسلامي بعد هزيمة اليابان عام ١٩٤٥، ولقي بعض الباحثين حتفهم في الحرب بعدما جُنِّدُوا في الجيش. وعلى الرغم من بعض المحاولات اللاحقة لإحيائه مرة أخرى، فإن فقدان كتب المعهد ومصادره وتلفها بسبب القصف الأمريكي خلال الحرب قد حال دون أي محاولة من هذا النوع.
ومن آثار ذلك أن كثيرًا من الباحثين -ومنهم نوهارا- هجروا دراسة الإسلام وندموا على مشاركتهم في إجراء دراسات إسلامية كانت مدعومة بهدف التوسُّع الياباني، وانتقل أمثال هؤلاء إلى مجالات بحثية أخرى؛ فقد كان الكثير منهم مؤرخين أصلا وباحثين في تاريخ آسيا الشرقية أو أوروبا، وعندما تحولوا إلى الدراسات الإسلامية فقد فعلوا ذلك لنُدرة الفرص الوظيفية. وبهذا الشكل أهمل تراث الدراسات الإسلامية طويلًا في اليابان بعد الحرب، حيث نُظِرَ إليه على أنه شريك في المشروع الإمبريالي الياباني.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الإرث، وعلى الرغم من ارتباطه جزئيًّا بالإمبريالية اليابانية، إلا أنه أنتج أعمالا لها جوانبها القيِّمة في هذا المجال، منها أعمال نوهارا ومعهد دراسات العالم الإسلامي؛ لأن المعهد عمل جاهدًا على تناول الدراسات الإسلامية دون تحيُّز أوروبي، مركِّزًا على الظروف الاجتماعية والمعيشية للمسلمين، ولم يقتصر على الدراسات اللغوية وحدها والتي كانت سائدة لدى كثير من المستشرقين الأوروبيِّين. وقد اقترح نوهارا من ناحية أخرى في دراسته لآسيا أن ينظر اليابانيون إلى آسيا الغربية ويقارنوا بينها وبين آسيا الشرقية -بما في ذلك اليابان- لتكوين صورة شاملة عن القارة. ويعد تنبُّه نوهارا وإشارته إلى أهمية الفكر الحديث في آسيا الغربية سبقًا لافتًا حتى بمقاييس اليوم. وفي السنوات الأخيرة، ازداد اهتمامي بالمقارنة بين الفكر الياباني الحديث والفكر المصري الليبرالي الحديث، وأعتقد أن هذه المقاربة العالمية المقارنة في التاريخ الفكري، وخاصة المقارنة بين آسيا الغربية وآسيا الشرقية، ما تزال مجالا بحثيًّا غير مأهول يستحق التنبُّه العاجل وأن تتوجَّه إليه أنظار الباحثين.
٣. القومية والدراسات العربية في اليابان بعد الحرب
شهدت الدراسات العربية والإسلامية في يابان ما بعد الحرب، وتحديدًا في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، انتعاشًا ملحوظًا، وكان ذلك في إطار دراسات القومية، التي كانت نتيجة الاهتمام المتزايد بالحركات القومية في آسيا وإفريقيا. وقد تأثَّر الباحثون اليابانيون بالنظرية التاريخية الماركسية، فركزوا على الجوانب السياسية والاقتصادية في الدول العربية، وعدوا تحديثها مختلفًا عن النموذج الغربي.
وبرز أيضًا في تلك المرحلة موقف يدعو إلى أهمية فهم العالم العربي بوصفه جزءًا من آسيا الغربية، لبناء رؤية شاملة عن القارة، وهو ما كان قد اقترحه نوهارا خلال فترة الحرب.
تحدث سانئيكي ناكاوكا (١٩٢٧-٢٠١١)، الذي أجرى دراسات سياسية واقتصادية في مصر في ستينيات القرن الماضي، في كتاب له عن اختلاف في وعي بناء الدولة حين تواصل مع مفكرين عرب. وانتقد ميل اليابانيين إلى الخنوع إلى أوضاعهم الراهنة وعدم التمرد عليها في المجتمع الدولي، بسبب ضبابية في شعورهم بهدفهم الوطني (Nakaoka 1979: 5).
وهناك أيضًا يوزو إيتاغاكي (١٩٣١-)، وهو باحث في شؤون الشرق الأوسط، وقد أجرى بحثًا حول السياسة المصرية في الستينيات، ثم ازداد اهتمامه لاحقًا بقضية فلسطين. وقد نبَّه يوزو في محاضرة ألقاها عام ١٩٦٥ بعنوان «مصر والتحديث الياباني» إلى وجود العديد من أوجه الشبه بين التحديث في اليابان والتحديث في مصر، وشدَّد على أهمية سلوك اليابانيين في أبحاثهم حول مصر طريقة متفرِّدة تميزهم عن غيرهم.
وعلى هامش هذه الجزئية، فقد التقيت بيوزو إيتاغاكي في ندوة عن تاريخ مصر المعاصر عقدت في جامعة كيوتو عام ٢٠١٢. وعلى الرغم من تقدمه الكبير في السن (كان عمره تقريبا ٨٩ سنة)، فقد قطع مسافة نحو ٥٠٠ كيلومتر بالحافلة ليلا من طوكيو إلى كيوتو لحضور الندوة. وأتذكر أنه أكَّد على ضرورة إصدار مذكرات للمفكر المصري البارز المستشار طارق البشري، وتوثيق أحداث حياته بدقة أثناء حياته. ولما صدر كتاب «حوارات مع طارق البشري» عام ٢٠١٩ بجهود من مركز الحضارة للدراسات والبحوث، استحضرت فورًا فكرة «مذكرات طارق البشري» التي سبق أن اقترحها يوزو إيتاغاكي.
وأما إيجي ناغاساوا (١٩٥٣-)، وهو باحث في التاريخ الاجتماعي الاقتصادي المصري، وهو من جيل أصغر سنا مقارنة بناكاوكا وإيتاغاكي، ولكن يبدو أنه يحمل الوعي نفسه بالقضية. وقد عبر ناغاساوا عن قلقه من اتساع الفجوة بين اليابان وآسيا تزامنا مع اصطفافها المتسارع في مصاف الدول الغربية المتقدِّمة، على الرغم من تعزيز اليابان لعلاقاتها الاقتصادية مع دول آسيا في السبعينيات والثمانينيات (Nagasawa 2009). بعبارة أخرى، شهدت اليابان حالتي قطيعة مع آسيا: الأولى كانت في فترة الاستعمار بعد الحرب الروسية اليابانية، والثانية كانت أثناء النمو الاقتصادي الذي حقَّقته في السبعينيات والثمانينيات (١٩٥٥-١٩٧٣).
وقد وجه ناغاساوا انتقادا لليابانيين مضمونه أن اليابانيين باتوا فقراء في هويتهم الوطنية، وفقدوا الاهتمام بالبلدان الأخرى، وبخاصة الدول النامية والعالم الثالث، وذلك على حساب سعيهم للغنى والتطور الاقتصادي. وبعد ذلك وعندما خفت الازدهار الاقتصادي الياباني فجأة في أوائل التسعينيات، فقد اليابانيون إيمانهم بالنمو المتواصل، واهتزَّت هُويتهم الوطنية من جديد، فتنامى لديهم التطرُّف القومي. وهنا يدعو ناغاساوا اليابان إلى ضرورة فهم التجارب التاريخية لكل من العالم العربي واليابان مجددا لتجاوز هذه الأزمة.
٤. الدراسات العربية والإسلامية في اليابان المعاصرة والمخيل الجمعي
(1) تصاعد الاهتمام بالحضارة الإسلامية لدى الأكاديميين اليابانيين
منذ سبعينيات القرن العشرين، دفعت بعض الأحداث العالمية الكبرى -كأزمة النفط عام ١٩٧٣، والثورة الإيرانية عام ١٩٧٨- إلى مزيد من الاهتمام من الباحثين الأكاديميين اليابانيين للتركيز على تأثير الإسلام السياسي والاجتماعي، عوضًا عن التركيز على الجانب القومي. وفي الوقت ذاته، بدأ عامَّةُ اليابانيين يدركون الأهمية الاستراتيجية للعالم العربي.
وفي عام ١٩٨١، عُقِدَ مؤتمٌ دوليٌّ بعنوان «الحضارة الإسلامية والحضارة اليابانية: نحو تفاهم متبادل»، ودُعي إليه باحثون عرب وأتراك، الأمر الذي يعكس توجُّه الدراسات العربية والإسلامية في اليابان منذ سبعينيات القرن الماضي.
تأسَّف تاداو أوميساو (١٩٢٠-٢٠١٠)، وهو أحد رموز الدراسات الحضارية في اليابان، في كلمته الافتتاحية في هذا المؤتمر، لقلة المراكز البحثية المتخصصة في الإسلام في اليابان. وأكد على الحاجة الملحَّة إلى دراسات إسلامية تُراعي الجوانب الثقافية، فضلا عن الجوانب السياسية والاقتصادية. واقترح أيضًا نموذجًا يقارن بين علاقة الحضارة الصينية واليابانية، وبين الحضارة الإسلامية والأوروبية، وذلك برؤية شاملة واسعة.
وفي المؤتمر نفسه، شدَّد شونتارو إيتو (١٩٣٠-٢٠٢٣)، وهو مختصٌّ بالتأريخ للعلوم ومؤسِّسٌ لمجال (الدراسات المقارنة للحضارات)في اليابان، على أهمية فهم الحضارة الإسلامية فهما معمَّقًا عند بناء اليابان لعلاقاتها مع الدول العربية. وانتقد النظر السطحي إلى العالم العربي بوصفه نفطًا (油 أبورا باليابانية) و«علي بابا» فقط، مؤكدًا أنه لا يمكن إنشاء صداقة حقيقية مع العالم العربي بناء على المصالح الاقتصادية وحدها.
زيادة على ذلك، رأى إيتو أن اليابان (بسبب بعدها الجغرافي عن العالم العربي) هي الأكثر استعدادا لفهم القيمة التاريخية للحضارة الإسلامية وتقديرها من منظور إنساني حقيقي، فيما لم تستطع أوروبا التخلص من تاريخها ونظرتها الاستعمارية. ومن هذا المنطلق، عبر عن أمله في أن تتبادل اليابان والعالم الإسلامي التعاون والتفاعل من مشرق آسيا ومغربها بغرض النهوض بالحضارة الإنسانية.
وبناءً على هذا المؤتمر، تأسست الجمعية اليابانية لدراسات الشرق الأوسط عام ١٩٨٥. وانطلقت عدة مشاريع بحثية كبرى حول العالم الإسلامي منذ عام ١٩٨٨. واليوم يتلقَّى طلاب دراسات الشرق الأوسط والإسلام في اليابان تعليمًا مفاده أن «اليابان، خلافًا للغرب، لا تحمل في تاريخها أي عداوات أو أحقاد دفينة إزاء العالم الإسلامي، ومن ثم فهي قادرة على إجراء أبحاث مستقلة برؤية حيادية». ومع أن إيتو لم يكن متخصصًا في الدراسات الإسلامية، فقد انتشر منهجه هذا في الدوائر الأكاديمية اليابانية المعاصرة المعنية بدراسة الإسلام.
(٢) الإسلام في اليابان المعاصرة
أخيرًا، أريد أن أخصِّص هذا القسم للحديث عن الصورة الكلية للإسلام لدى عامة اليابانيين، وعن وضع الإسلام في اليابان بشكل عام.
يبلغ عدد سكان اليابان اليوم نحو ١٢٠ مليون نسمة. ولا توجد إحصاءات دقيقة، إلا أنه يقال إن في اليابان نحو ٢٠٠ ألف مسلم، معظمهم مهاجرون أو طلاب وافدون من جنوب شرق آسيا وجنوب آسيا وآسيا الوسطى، ويقدَّر عددُ المسلمين اليابانيين بنحو ٢٠ ألفا، وغالبيَّتهم اعتنقوا الإسلام للزواج بمسلمين أجانب. ولذلك، بقي العالم العربي والإسلامي بالنسبة لمعظم اليابانيين أمرًا لا يحتكُّون معه مباشرة إلا عبر وسائل الإعلام، لكن في السنوات الأخيرة صار هناك احتكاك أكثر مع المسلمين نتيجة ازدياد عددهم للدراسة أو العمل أو السياحة في اليابان.
وفي مؤتمر عام ١٩٨١ المشار إليه قبل قليل، نَبَّهَ يوزو إيتاغاكي إلى أن الصورة الشائعة عن الإسلام لدى اليابانيين فيها أخطاء جسيمة، كالنظر إليه على أنه «دين بدو الصحراء»، وأنه «دين غير عقلاني ويعرقل التحديث، وأنه على عداء متجذِّر مع الحداثة والتنوير».
وبعد مرور ٣٥ عامًا على كلام إيتاغاكي، كشفت دراسات استطلاعية محدودة أجريت على طلاب مدارس الثانوية والجامعات في اليابان، في منتصف العقد الثاني من الألفية (نحو عام ٢٠١٠)، أن نحو ٧٠٪ منهم يرون أن الإسلام «دين صارم في تعاليمه»، و«مقيد»، و«دين الصحراء»، و«غريب»، و«تقليدي»، وأن المسلمين «متَّحدون بقوة» (Kondo and Mukai 2017; Arai 2020).
كما توصل الباحثون إلى أن معلومات طلاب الجامعات اليابانيين عن أماكن انتشار المسلمين وأعدادهم حول العالم محدودة جدًّا.
وتعكس هذه التصوُّرات نظرة اليابانيين عمومًا إلى الدين أساسًا. فعلى الرغم من أن الكثير من اليابانيين يعتنقون بوعي أو بغير وعي توليفة تراثية من البوذية والشنتوية (وهي ديانة تؤمن بتعدُّد الآلهة في اليابان)، فإن وعيهم الديني عامة محدود. ويلاحظ أن هناك ميلًا واضحًا إلى اعتبار أي دين (سواء كان الإسلام أم المسيحية أم البوذية) نافيًا للعقلانية الحديثة.
واليابان قطعت شوطًا طويلًا في مسيرة العلمنة، ولا يزال معظم اليابانيين يعدُّون العلمانية حقيقة بديهية من متطلبات المجتمع الحديث. وقلَّما يدركون أن هناك صحوة دينية عالمية نشيطة في العالم الإسلامي وغيره، ويبقى اليابانيون ماضين في التسليم بنمط العقلانية الحديثة العلمانية التي أخذوها عن الغرب. وبصفتنا باحثين يابانيين في الدراسات الإسلامية، علينا العمل على تصحيح هذه التصورات المغلوطة عن الإسلام بين أفراد المجتمع الياباني.
وبالنسبة لما ذكره ناغاساوا سابقا حول حقيقة أن اليابان قد أصبحت منسلخة عن آسيا من خلال نموها الاقتصادي السريع، فإن الشعب الياباني، بعد أن نجح في التحديث وأصبح عضوًا في العالم المتقدِّم، أصبح أقلَّ اهتمامًا بالتعلُّم من الحضارات الأخرى، بما في ذلك الإسلام، على الرغم من أن هذا التحديث والنمو الاقتصادي في اليابان قد جلب مشاكل مختلفة في المجتمع الياباني (مثل ظروف العمل القاسية، وانخفاض معدل المواليد، وارتفاع معدل الانتحار، وانعدام الأمل تجاه المستقبل في اليابان، وما إلى ذلك). بدلًا من إصدار أحكام من جانب واحد أو الاستغراب من الوضع في العالم العربي والإسلامي من منظور عقلاني حديث مستورد من الغرب، من الضروري لليابانيين أن يقوموا بمراجعة عملية التحديث الخاصة بهم وتاريخهم ووضعهم الاجتماعي ونظام قيمهم.
الخاتمة
في الختام، على الرغم من بعد المسافة الجغرافية الذي أدَّى إلى محدودية معرفة العامة بالعالم العربي والإسلامي، فقد تمَّ تعزيز شعور بالصداقة بين اليابان والدول العربية والإسلامية، بما في ذلك مصر، منذ منتصف القرن التاسع عشر، بوصفهم شركاء آسيويين وغير غربيين. وفي المشهد العالمي المتغير اليوم، الذي يؤدِّي إلى انهيار المعايير الغربية، من الحيوي لليابان والعالم العربي، ككيانات غير غربية، وتعزيز التبادل الفكري والصداقة لتشكيل معايير ونظام عالمي جديد بشكل تعاوني. وأرجو أن يكون لهذه الورقة مساهمة في تعميق التبادل الفكري والصداقة بين مصر واليابان.
تعقيب د. مدحت ماهر:
يتَّصل هذا اللقاء بالجانب التعريفي والتعارفي بين الإسلام واليابان؛ فهو يتناول العلاقة بين اليابان والإسلام بعموم والفكر الياباني والفكر الإسلامي بخصوص. ومقدمة هذا اللقاء هي أستاذ مشارك بكلية الدراسات العليا للدراسات الآسيوية والأفريقية، جامعة كيوتو باليابان. وقد حصلت على الدكتوراه عام 2017 عن أطروحتها المعنونة: “علاقات الدين والدولة في مصر المعاصرة: صعود الوسطية في الفكر الإسلامي المعاصر”، والتي نُشرت بعدها بسنتين تحت عنوان: “مفكرون إسلاميون معتدلون يشكِّلون المستقبل: في وسط التحول السياسي الاجتماعي بمصر المعاصرة”[1]. ومنها طوَّرت دراساتها عن طارق البشري[2].
يثير هذا اللقاء إشكالية المعرفة القديمة بين اليابان والإسلام، فاقتراب الإسلام من اليابان قديم، إذ وصل في القرن الثاني والثامن الميلادي الهجري إلى جنوب شرق آسيا، ومع ذلك نبدأ الآن بعد 15 قرنًا من تاريخ الإسلام، نتحدث عن ثلاثية المعرفة والتعارف والاعتراف بين الطرفين. وهذا يبرز أن هناك إشكاليات بين الطرفين. وقد ذكرت الدكتورة كورودا في دراساتها عن وقوف الشرق بين الإسلام والغرب في القرون الثلاثة الأخيرة (من القرن الثامن عشر) ولكن ماذا عما قبلها؟ نعم كان الانعزال، واختيار اليابان العزلة، ولكن السؤال المطروح أين كان مسلمو جنوب شرق آسيا موقفهم من اليابان؟، فلماذا لم يعرفوا بإسلامهم؟ وهل حرصوا على ذلك؟
ولذا نجد أنفسنا بحاجة لأن نستكمل دراسة الدكتورة كورودا.
تتناول هذه المحاضرة العديد من القضايا المهمة: الاستعمار – الإمبريالية – قضية الهوية الوطنية – والتواصل والانقطاع بين التجربة اليابانية والتجربة العربية الإسلامية وبالأخص مصر – موضع الإسلام والفكر الإسلامي والمسلمين في اليابان – دراسات العالم الإسلامي في المعاهد اليابانية – ولكن أين الإسلام كرؤية للعالم وثقافة وفكر؟
ولكن يبدو -ممَّا سبق- أن غيابنا نحن -باعتبارنا مسلمين وعربًا- أثَّر على تصوُّر اليابانيِّين للإسلام؛ فتارة يُدرك على أنه المسلمون، وعلى أنه الاقتصاد أو السياسية أو العالم الإسلامي مع غلبة السياسي والاقتصادي لقادة اليابان على غيره من الأبعاد الحضارية، وهو ما غَيَّبَ الثقافيَّ عن العلاقات بين الجانبين. ولكن أين حوار الثقافات والأديان من ذلك؟ فهل سألنا أنفسنا: ونحن استمعنا اليوم إلى مُحاضِرة يابانية حاضرت بالعربية؛ هل نستطيع أن نقوم بذلك باليابانية؟ وهل يوجد من يهتم بذلك؟ فنحن بالكاد نعرف أن هناك مركزًا يهتم بالدراسات الشرقية في جامعة أو غيرها في مصر، فمشكلة التعارف والمعرفة بل والاعتراف باليابان أعتقد أنها محل سؤال، والموضوع أكبر من الغرب، وهو ما يحتاج أن نعيد النظر فيه.
أسئلة النقاش
دار النقاش حول عدَّة أسئلة تعلَّقت بصورة أساسية بطبيعة الدين والمجتمع في اليابان في محاولة لفهم آثار ذلك على العلاقة مع الإسلام والعالم الإسلامي وكيفية تعزيز التفاعل الإيجابي بينهما. فبينما طُرحت أسئلة عن مدى تجذُّر العلمانية في نفوس اليابانيِّين، وعن حقيقة علاقة اليابانيِّين بالأديان بصفة عامة والإسلام بصفة خاصة، ونظرتهم للآخر المختلف (غير الياباني) على أن فيها نظرة استعلاء أو تمييز زائد، وطُرحت أسئلة عن الثقافة اليابانية ومدى انتشارها وتأثيرها في الاقتصاد الياباني وسُمعتها، خاصة فيما يتعلَّق ببرامج “الأنمي” و”المانجا”. كما تساءل البعض عن دور “الإمبراطور” في الثقافة اليابانية وسبب إصرار الحلفاء بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية أن يُعلن الإمبراطور بنفسه أنه ليس إلهًا. كما أثيرت تساؤلات بشأن خلاصة رؤية النخبة اليابانية المهتمَّة بالدراسات الإسلامية بالفكر الإسلامي المعتدل الذي من رواده المستشار البشري؟ ورؤية اليابانيِّين للعدوان الصهيوني على فلسطين (تاريخيًّا والآن)؟ وكيفية تعزيز التفاعل بين الأكاديميين اليابانيين والمسلمين؟ والتقارب الحضاري بين مصر واليابان؟
تعقيبات الدكتورة أياكا كورودا
أشارت الدكتورة كورودا إلى أن للعلمانية جذورًا عميقة في التاريخ الياباني؛ ففي فترة الإمبراطور ميجي في منتصف القرن التاسع عشر، كان المثقَّفون اليابانيُّون يعتبرون أن “اليابان هي اليابان”، ومعظم اليابانيين ليس لديهم دين بالمعنى الشائع. فهم يرتبطون بثقافة الشنتو بوصفها تقاليد وأعرافًا أكثر منها معتقدًا دينيًّا. ولذلك يناقش المثقفون اليابانيون ماهية الدين الياباني حتى الآن. في هذا القرن اعتبروا أن البوذية هي دين اليابانيين. لكن -بوصفي يابانية يمكنني القول- إننا لا نؤمن بها بجدية. فالشنتوية، وهي ديانة يابانية تقليدية، أشبه بتقاليد تتعلَّق باحترام الأسلاف أو الذهاب إلى الأضرحة أو ممارسة الطقوس الموسمية. لذا، يعتقد المثقفون اليابانيون أن الغربيين لن يعترفوا بهذه الشنتو كدين بالمعنى الغربي.
لكن الكثير من اليابانيين -كذلك- لا يعتبرون الشنتوية دينًا، ولكن ثقافة شعبية، فالمعتقدات الشعبية الرئيسية للشنتوية قد تمَّ دمجها مع البوذية، لأن مفهوم الإله غير واضح في الثقافة اليابانية، في حين أن البعض الآخر يعتبرون أنفسهم بوذيين لأن التقاليد الجنائزية تتمُّ بالطريقة البوذية.
وهنا أوضحت أن اليابانيِّين بصفة عامة يعتبرون أن الإسلام دين قديم غير عقلاني ضد الحداثة شأنه شأن كافة الأديان الأخرى، فلا يستطيع أن يقدم حلولًا للمشكلات الحداثية. بل يرى 60% من اليابانيين أن المسيحية لا تساعد على التحديث، وكذلك البوذية. وهذا هو التوجه السائد في اليابان المتأثرة بالثقافة العلمانية.
وهو ما جعل د. كورودا تشير إلى أن اليابانيين -وفقًا لبعض المفكريين البارزين- ليس لديهم محور ثقافي معين، فالحضارة اليابانية تعتمد على الحضارات الأخرى إذ قامت على استيراد المفاهيم والأفكار الأوروبية، والمراكمة على ما قدمته الحضارات الأخرى من منجزات. ولكنها ترى أن ذلك يقتصر على المنجزات التقنية، في حين أن هناك أفكارًا متجذِّرة في المجتمع والثقافة اليابانية التقليدية.
وقد أكَّدت الدكتورة كورودا أن الثقافة اليابانية ممثَّلة في (الأنمي ومانجا) لها تأثيراتها على سمعة اليابان وشهرتها، وهي تعبر عن الثقافة الشعبية اليابانية، وأن جزءًا من المجتمع الياباني يعتبر أن هذه صورة من القوة الناعمة التي تنتشر تلقائيًّا، لكنها لا ترى أن الجهات الرسمية تعتمد على هذه الثقافات لنشر الثقافة اليابانية الرسمية.
أمَّا عن الفكر اليميني في اليابان، فأشارت إلى أنه يوجد تيار كبير في اليابان يحمل توجُّهات وأيديولوجية اليمين المتطرف. فبالنظر إلى التاريخ، مارس العديد من اليابانيين التمييز ضد الصينيين والكوريين لفترة طويلة منذ الحرب العالمية الثانية. لكن هذا التوجُّه بدأ يتغيَّر تدريجيًّا، إذ بدأ العديد من جيل الشباب الياباني اليوم الاهتمام بالثقافة الشعبية الكورية. أما بالنسبة للصينيين، فلا يزال هناك شعور قوي بالتمييز أو الخوف بين اليابانيين، حيث تزداد الصين قوةً في النظام العالمي، وتزداد قوتها في الجانب الاقتصادي. ومن هنا أصبح العديد من اليابانيين ينظرون إلى الصين كتهديد لنفوذ اليابان في النظام العالمي وفي منطقة جنوب شرق آسيا. وهناك تقارير تفيد بأن بعض اليابانيين قلقون بشأن زيادة عدد الأكراد في بعض المدن اليابانية. ولكنها لا تعتقد أن هذا مرتبط برُهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) ولكن بعدد السكان المهاجرين في اليابان، والذي يرفضهم البعض، ما يخلق خلافات بينهما وبين الوافدين.
أمَّا بالنسبة لموقع الإمبراطور في المجتمع الياباني، فقد تعرَّضت الشنتوية التي كانت المعتقد الرئيسي في اليابان لهزة خطيرة بعد الحرب العالمية الثانية، إذ اعتبرها الحلفاء على أنها جزء من نظرة عنصرية تجاه العالم. وكان دور الإمبراطور في الشنتوية مركزي، إذ أدمجت الإمبراطور كتجسيد للدولة والهوية اليابانية، وأصبغت عليه صفة الإله؛ لتعزيز هذه النزعة التوسُّعية تجاه جيران اليابان والعالم. ولذلك بعد هذه الهزيمة جعلت اليابانيين يكفرون بهذه الفكرة، ويتشكَّكون في جدواها، وفي كون الإمبراطور يحمل صفة الإله. وهذا من أسباب تراجع الشنتوية كمعتقد رئيسي داخل المجتمع الياباني. ومع ذلك وانطلاقًا من حرص المجتمع على بعض التقاليد الشنتوية، ظل الإمبراطور يقوم ببعض الأدوار البروتوكولية والمراسمية والاحتفالية، دون أن يحمل صفة الإله أو أن يجسد المعتقد الديني الياباني. ولكن يبقي أنه موضع احترام وتقدير من الشعب الياباني.
وخلصت الدكتورة كورودا إلى أن دراسة التحديث في الإسلام هي من أهم مجالات الاهتمام بالنسبة للباحثين اليابانيين، وخاصة العلاقة بين الأصالة والمعاصرة، التي من أبرز من تحدث فيها المستشار طارق البشري.
كما ألمحت إلى أن الأكاديميين اليابانيين يقفون ضد الممارسات الإسرائيلية بصفة عامة، وأنها تتلقَّى أسئلة من طلبتها بهذا الشأن. وأكَّدت أن هناك رفضًا عامًّا في المجتمع الياباني لما يحدث للفلسطينيين نتيجة العنف المتواصل الذي يتعرَّضون له من إسرائيل. حتى إنه تمَّ جمع العديد من التوقيعات في الأوساط الأكاديمية من أجل وقف النار. وذلك رغم -ما تراه- من وعي محدود في المجتمع الياباني بالقضية الفلسطينية. ولكن التطرف في العنف والدمار تجاه الفلسطينيِّين يدفعهم إلى استنكار ما يحدث.
وفي الختام، أشارت الدكتورة كورودا إلى أن دور معاهد الدراسات اليابانية للإسلام والعالم الإسلامي لم يكن كبيرًا في مسألة جَسْرِ الهُوَّةِ بين الشعوب والثقافات، لأن تطوُّر هذه المعاهد كان يهدف -تاريخيًّا- لدعم النزعة التوسُّعية لدى الدولة اليابانية قبل الحرب العالمية الثانية. أمَّا الآن فالمعاهد التي تهتمُّ بالعالم الإسلامي ينصبُّ اهتمامها الأساسي على الأبعاد الاقتصادية، والمعرفة بالسياسيات والأوضاع في الدول الإسلامية لتعزيز الاستثمارات والتعاون الاقتصادي مع اليابان. مؤكِّدة أنها سعيدة بالاهتمام الحضاري من قبل المصريين باليابان، ولكنها ترى أن الشعب الياباني أقل اهتمامًا بالجوانب الحضارية، فاليابانيون لديهم اهتمام محدود بالتفاعل الحضاري، فاهتمامهم الأكبر بالتقنية، وحتى إن كان لديهم اهتمام بمعرفة ثقافات الآخرين، وانفتاح على التعلم من الآخرين والاستفادة منهم، فإن ذلك من باب التعايش مع الآخرين، ومعرفة كيف تعيش الشعوب الأخرى، فهم يتطلَّعون أكثر لفهم أنفسهم لا فهم الآخرين. وهم يكتفون بحب التطلُّع ومعرفة الحضارات الأخرى، وليس معرفة آليات التفاعل الحضاري. ولذا رأت أنه يجب توعية الشعب الياباني بالعالم العربي والإسلامي، وبالثقافة الإسلامية.
————————————————————
[1] قُدِّمَ له عرض في:
شرين فهمي، قراءة في فكر البشري من أقصى الشرق: أياكا كورودا، (في): نادية مصطفى (إشراف)، إبراهيم البيومي (تحرير)، منهج النظر الحضاري في قضايا الأمة: قراءة في فكر طارق البشري، حولية أمتي في العالم، (الدار البيضاء: الدار المغربية للنشر والتوزيع، 2023)، ص ص 1029 – 1039
[2] ويمكن مطالعة المزيد عنها باللغة العربية في:
– أياكا كورودا، الانبعاث الحضاري ونقد الحداثة الغربية: مقارنة بين مصر واليابان، (في): نادية مصطفى (إشراف)، إبراهيم البيومي (تحرير)، منهج النظر الحضاري في قضايا الأمة: قراءة في فكر طارق البشري، مرجع سابق، ص ص ١٠٠٣-١٠٢٨.
– أياكا كورودا، إعادة النظر في نقاشات الدين والدولة في مصر المعاصرة، ترجمة: محمد صلاح، (في): نادية مصطفى (إشراف)، إبراهيم البيومي (تحرير)، منهج النظر الحضاري في قضايا الأمة: قراءة في فكر طارق البشري، مرجع سابق، ص ص 959 – 1002.
المصادر العربية والأجنبية للمحاضرة:
المصادر العربية:
كورودا، أياكا. ٢٠٢٣. “الانبعاث الحضاري ونقد الحداثة الغربية: مقارنة بين مصر واليابان”. في منهج النظر الحضاري في قضايا الأمة: قراءة في فكر طارق البشري، تحرير إبراهيم البيومي غانم ونادية محمود مصطفى، الدار المغربية للنشر والتوزيع، ص. ١٠٠٣-١٠٢٨.
مصادر باللغة الانكليزية:
Nagasawa, Eiji. 2009. Modern Egypt through Japanese Eyes: A Study on Intellectual and Socio-economic Aspects of Egyptian Nationalism. Cairo: Merit Publishing House.
Tanada, Hirofumi. 2012. “Islamic Research Institutes in Wartime Japan: Introductory Investigation of the “Deposited Materials by the Dai-Nippon Kaikyo Kyokai (Greater Japan Muslim League)”, Annals of Japan Association for Middle East Studies, 28(2), pp.85-106.
مصادر باللغة اليابانية:
Arai, Masataka. 2020. “Challenges in Teaching Social Studies: A Survey of Student Perceptions and Images of Islam and Textbook Descriptions” In How to Teach Islam and Muslims: Intercultural Understanding Without Stereotypes, ed. by Masataka Arai and Kobayashi Haruo, Tokyo: Akashi Shoten, pp. 10-22, Akashi Shoten.
Itagaki, Yuzo. 1965. “The Modernity in Egypt and Japan”, Islamic World, 4, pp. 33-43.
―――. 1981. “Intercultural Perception: Islamic Civilization and Japan,” in in Islamic Civilization and Japanese Civilization: Towards Mutual Understanding, ed. by The Japan Foundation, Tokyo: The Japan Foundation, pp.157-168.
Ito, Shuntaro. 1981. “Islamic Civilization from a Japanese Perspective: A Non-Western View,” in Islamic Civilization and Japanese Civilization: Towards Mutual Understanding, ed. by The Japan Foundation, Tokyo: The Japan Foundation, pp.148-156.
Kobahashi, Hajime. 1975. History of Cultural Exchange between Japan and the Muslim World. Tokyo: The Middle East Institute of Japan.
Kondo, Fumiya and Tomoya Mukai. 2017. “Considering the Determiniats of Tolerance Attitudes toward Muslims by Statistical Method for the Development of “Non-Muslim Studies,” Annals of Japan Association of Middle Eastern Studies, 33(1), pp. 95-117.
Nakaoka, San’eki. 1979. Modern Egypt. Tokyo: Institute of Developing Economies.
Nohara, Shiro. 1966. The Asian Thought and History, Tokyo: Kobundo.
Osawa, Koji. 2004. “Islamic Studies in the Early Showa Period: The Institute for the Study of the Islamic World and Koji Okubo,” Journal of Religious Studies, 78(2), pp. 493-516.
Sugita, Hideaki. 1995. The Japanese Discovery of the Middle East: Comparative Cultural History within the Reverse Perspective. Tokyo: University of Tokyo Press.
Tamura, Airi. “The Japanese View toward Asia through the Egyptian Studies,” Gakushuin Historical Review, (9), pp. 61-62.
―――. 1987. “The Institute for the Study of the Islamic World: The People and the Times”, Gakushuin Historical Review, (25), pp.16-35.
The Japan Foundation. 1981. Islamic Civilization and Japanese Civilization: Towards Mutual Understanding. Tokyo: The Japan Foundation.
Umesao, Tadao. 1981. “Islamic Civilization and Japanese Civilization,” in Islamic Civilization and Japanese Civilization: Towards Mutual Understanding, ed. by The Japan Foundation, Tokyo: The Japan Foundation, pp.1-10.
Usuki, Akira. 2006. “The Research of “Muslim Issue” in the pre-War Japan: Focusing of “Islamic Research Institute” in Knowledge in Imperial Japan: The Orientalist Study, ed. By Mio Kishimoto, Tokyo: Iwanami Publishing.
―――2009. Why was Islam Seen as the Enemy? Genealogy of Hatred. Tokyo: Seidosha.
لمشاهدة اللقاء اضغط هنا