التغير والاستمرارية في السياسة الخارجية الإيرانية تجاه العالم العربي منذ طوفان الأقصى

تقرير اللقاء العاشر من منتدى الحضارة

تقديم د. مدحت ماهر:

هذا هو اللقاء العاشر من منتدى الحضارة تحت عنوان "جديد العلم والعالم"، وهذا العنوان هو الخيط الناظم لعمل المركز في العقد الأخير وأيضًا متصل بعموم عمل مركز الحضارة للدراسات والبحوث منذ نشأته الواصلة إلى ثلاثين عامًا قريبًا إن شاء الله عز وجل.

عنوان اليوم هو عن «التغير والاستمرارية في السياسة الخارجية الإيرانية تجاه العالم العربي منذ طوفان الأقصى»؛ فمنذ 7 أكتوبر 2023 وحتى اليوم 22 فبراير 2025 حوالي سبعة عشر إلى ثمانية عشر شهرًا. وهذا اللقاء مهمٌّ في أجندة الاهتمام لدينا نحن الباحثين، ولدى المعنيِّين بالمجال الاستراتيجي والسياسي في وطننا وأمَّتنا وأيضًا في العالم باعتبار أن المنطقة الآن ولفترة في قلب الأحداث العالمية.

والمحاضِرة اليوم هي واحدة من أعمدة هذه المدرسة، المعطاءة لمدرسة المنظور الحضاري، الدكتورة/ سماح عبد الصبور، وهي مدرِّس العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة، ومتخصِّصٌ مَكين في المسألة الإيرانية وسياستها الخارجية منذ أن قدَّمت رسالتها للماجستير في عام 2014 عن القوة الذكية في السياسة الخارجية وطبَّقتها على أدوات السياسية الخارجية الإيرانية تجاه لبنان منذ عام 2005 وصدرت في كتاب عن المركز، وهو مرجعٌ مهمٌّ جدًّا في السياسة الخارجية الإيرانية وأدواتها. لماذا هذا الموضوع الآن؟

هذا الموضوع ينتسب إلى حقل العلاقات الدولية -وبالأخص حقل السياسات الخارجية- وهذا المجال المعرفي والعملي هو واحدة من منصَّات إبراز ما هو منظور حضاري في العلوم السياسية بخاصة والعلوم الاجتماعية بصفة عامة، خاصة أن الجهد الأكبر في هذه المدرسة قامت عليه أستاذتنا الدكتورة/ نادية مصطفى، ومركز الحضارة، ومن ثمَّ تأثَّر جدًّا بهذا الحقل وتأثَّر هذا الحقل به، حتى يكاد يكون أكثرَ حقل في العلوم الاجتماعية خدمتْه مدرسة المنظور الحضاري هو حقل العلاقات الدولية وفي قلبها السياسات الخارجية.

والسياسة الخارجية باعتبارها العلمي هي نهوج وطرائق لإدارة الوحدات الدولية أو العالمية لشؤونها وتفاعلاتها مع العالم تُدرس من خلال نظريات متعدِّدة، المنظور الحضاري يُعنى فيها بالربط ما بين جزئيَّات الدولة وكليَّات الأمَّة؛ فنجد هناك طرحًا مهمًّا جدًّا في المنظور الحضاري متعلِّق بما بين الدولة والعالم اسمه مستوى الأمة؛ كمستوى تحليل. والأمر الثاني أن من بين النظريات الكثيرة في تحليل العلاقات الدولية والسياسات الخارجية التي تتعلَّق بالمتغيِّرات الاستراتيجية والعسكرية والسياسية يُرَكِّزُ المنظور الحضاري على البُعد الثقافي ولكن لا يقطعه عن الأبعاد الأخرى، وإذا أخذنا في الاعتبار هذه الأمور عند الحديث عن سياسة خارجية إيرانية فنجد أنفسنا أمام تساؤل مهم: ما موقف المنظور الحضاري من إيران والأمة؟ إيران الآن بالمنظور العربي واقعة ما بين تيارات سلفية أو بعض التيارات الإسلامية تخرجها من الأمة باعتبارات دينية أو عقائدية أو مذهبية، وتيارات أخرى علمانية أيضًا تخرجها من الأمة، مثل التيار القومي المتطرف الذي يرى أن الأمة العربية منقطعة عن الأمة الإسلامية ومن ثم يساوي أحيانًا ما بين تركيا وإيران وإسرائيل)، لكن المنظور الحضاري يرفض هذين الاتجاهين، فإيران مهما اختلفنا معها من منطلقاتنا العربية هي جزء من الأمة الإسلامية؛ جزء قد يكون إيجابيًّا أو سلبيًّا لكنها جزء، والسياسات حين تصبح سلبية لا يعني هذا أنها تفقد الانتماءات، من ثمَّ فدائمًا نحن نتكلَّم مع إيران وعن إيران داخل المنظور الحضاري من منظور أنها جزء من الأمة ولا نقابل طائفيَّتها أو طائفية سياساتها بطائفية مضادَّة، لأنه إذا كنتَ تستهجن الطائفية فمن العجيب أن تتبنَّاها كموقف.

وللأسف فإن دول المحيط العربية معظمها لا دخل لها في المعنى السلفي ولا القومي ولا الحضاري، ومعظمها إمَّا تابعة وإمَّا براجماتية وإما خاملة لا قيمة لسياساتها الخارجية تجاه إيران. المنظور الحضاري ينبِّه إلى كل ذلك. ومن ثم نسعى لأن نعرف ما أثر التطورات الأخيرة؛ لأن السياسة الخارجية الإيرانية مرَّت بمراحل مختلفة، لكن بالنسبة للمراحل الأخيرة أصبحت هناك خريطة استراتيجية عربية أمامها محور استراتيجي إيراني دخل عليه طوفان الأقصى أحدث فيه تغيرات كبيرة نتيجة دخول إيران وحلفائها فيه بقوة، نبحث عن هذه التغيُّرات من خلال دراسة التغيُّر والاستمرارية في السياسة الخارجية الإيرانية تجاه العالم العربي منذ طوفان الأقصى.

تقديم د. نادية مصطفى:

أهلًا بالجميع على هذه المنصة في هذه الأيام المباركة في الأسبوع الأخير من شهر شعبان الكريم، اللهم بلغنا رمضان جميعًا معًا ونحن في وضع أفضل مما نحن فيه -وإن كان هو فالحمد لله عليه- أيضًا اليوم السبت فيه مشهد متميز نتابعه جميعًا معًا وهو مشهد تسليم الأسرى الإسرائيليين من جانب حماس وبعدها في المساء نشاهد مشهد تسليم الأسرى الفلسطينيين، في مشهدين متناقضين تمامًا يُبَيِّنَانِ مدى المسافة الحضارية بين هذا المشهد وذاك، وبين العدو الاستيطاني وبين أهل الأرض المُقاومين.

فأهلًا وسهلًا بكم، هذا هو السياق العام. أما السياق الخاص فنحن اليوم بصحبة زميلة وابنة عزيزة هي د. سماح عبد الصبور، التي صاحبتُها في مسيرتها العلمية منذ أن كانت في البكالوريوس في السنة الرابعة وشرَّفتني بأن أكون مشرفة لها في الماجستير وفي الدكتوراه، وكانت مساعدة معي في كلِّ المقرَّرات التي قمتُ على تدريسها منذ تخرُّجها، ونحن هنا في محفلٍ علمي، فنعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه؛ تتَّسم د. سماح بالجدية والإخلاص والنظام ودقة الأداء والتفاني في حب العلم وفي إعطائه قدره وفي إعطاء عملها في ساحة العلم كل متطلباته قبل أي شيء. وهذه شهادة حق وأعتقد أن هذا ينعكس في إنتاجها العلمي في رسالتها للماجستير ورسالتها للدكتوراه ورسالة الدكتوراه هي في قلب أحداث العالم الآن، الفرد كفاعل دولي من منظور علم الاجتماع السياسي الدولي، وقدَّمت نماذج مقارنة متميزة جدًّا على أصعدة مختلفة إعلامية ودعوية وسياسية تبيِّن هذا الأمر، والآن هناك دلالات كثيرة على أهمية هذا الموضوع، فهي تجمع ما بين الحسنيين، الجديد في العلم والجديد في قضايا العالم، وربما موضوعها للماجستير -كما قال الدكتور مدحت- بدأ بها من منطقة مهمة جدًّا، على أرض واقع أمَّتنا، في إيران ولبنان في بداية فورة ونمو وتبلور المشروع الإيراني في المنطقة العربية، ارتكازًا من لبنان بداية ثم انتقالًا إلى اليمن ثم انتقالًا إلى سوريا، انطلاقًا من مدخل القوة الذكية لأن إيران لم تستخدم فقط انتماءَها المذهبي للمتواجدين على هذه الساحات الثلاثة (المذهب الشيعي) ولكن انطلقت من مفهوم القوة والاستراتيجية الصلدة أيضًا ولكن المُؤطَّرة على نحو يخدم نفوذها، انطلاقًا من القضية الأساسية في المنطقة وهي قضية فلسطين.

ذكر الدكتور مدحت نقطة مهمَّة جدًّا عن الرؤيتين المتضادَّتين حول إيران (القومية التي تستبعدها من نطاقنا الإقليمي ولا تعتبرها إلا متدخلة، والرؤية السلفية التي تعتبرها أيضًا نقيضًا مذهبيًّا فتستبعدها) على عكس رؤيتنا الحضارية الأشمل التي تحاول أن تتجاوز هذه الثنائيات القومية والمذهبية في رؤية رحبة، ولهذا فأنا دائمًا أطلق على إيران وعلى تركيا الجوار الحضاري وليس الجوار الإقليمي لما يسمَّى النظام الإقليمي العربي، فلا أُساوي على الإطلاق ما بين إيران وتركيا وما بين إسرائيل أو إثيوبيا، فهما جواران حضاريان لنا ما لنا وعلينا ما علينا من تنافس قوة بيننا وبينهم كعرب وفرس وأتراك هكذا يقول التاريخ، ولكنه كان التنافس المحمود في معظم الأحيان الذي يصبُّ في عافية الأمة وليس صراع استبعاد أو استئصال أو إقصاء كما كان التاريخ يقول لنا بيننا جميعًا كأمة إسلامية وما بين أعداء هذه الأمة استراتيجيًّا ودينيًّا وحضاريًّا، وبالتالي نحن الآن في قلب مرحلة مهمة جدًّا منذ طوفان الأقصى بعد حوالي عقدين من تدعيم النفوذ الإيراني الإقليمي في المنطقة وأيضًا تدعيم النفوذ التركي في المنطقة، وهما مشروعان متنافسان متكاملان في غياب مشروع عربي للأسف. وجاءت السبعة عشر شهرًا الأخيرة لتختبر كل هذه الفرضيات عن حقائق الوجود للمشروع الإيراني ومن يناوئه، وعن إلى أي حدٍّ هي جزء من هذه الأمة بغضِّ النظر عن الاختلاف المذهبي.

وأتذكَّر جيِّدًا أنني كنت في زيارة لإيران في العام 2007، وكان من ضمنها اللقاء مع الشيخ التسخيري والذي كان يقود عملية الحوار الشيعي السني في مقابل فريق آخر مستدام من الأزهر في هذا الأمر، وكان سؤالي له واضحًا: ما هو المحرك الأساسي للسياسة الخارجية الإيرانية؟ قال لي إيران أمة ووطن وقبل هذا دين ومذهب. فجمع ما بين المعطيات كلها؛ القوم والأرض والمذهب وفي إطار دين واحد هو الإسلام الذي يجمعنا.

الإطالة في المقدمة تأتي في إطار احتفائنا بهذا الموضوع الذي نشعر أنه في صميم اهتمامنا دائمًا، وفي كل إصداراتنا مثل حولية أمتي في العالم لا يوجد عدد إلا به تقرير أو دراسة عن إيران أو تركيا أو أي جزء أو ركن من أركان الأمة، إيران وتركيا يمثِّلان اختبارًا مهمًّا جدًّا لحقيقة العلاقات البينية بين مكوِّنات الأمة وأثر اختلاف القوم والمذهب والمصالح على جميع هذه الأمور، ومن هنا كان احتفاؤنا بهذا الموضوع وترحيبنا وشكرنا للدكتورة سماح عبد الصبور على قبولها تقديم هذا الموضوع الهام الشائك الصعب في هذه المرحلة، ولكن أعتقد أنها تستطيع أن تدلي جيدًا بدلوها في هذا الأمر على نحو يفتح الباب للنقاش والتفكير معًا في هذا الأمر الهام.

محاضرة د. سماح عبد الصبور " التغير والاستمرارية في السياسة الخارجية الإيرانية تجاه العالم العربي منذ طوفاني الأقصى"

هيكل المحاضرة:

■ الجزء الأول: مدخل تمهيدي يركز على الجزئين الأساسيين في المحاضرة:

- ماذا يعني التغير والاستمرارية في السياسة الخارجية لدولة ما؟ وما مستويات وما دوافع أن تتغير السياسة الخارجية لدولة ما؟ وهو إطار نظري موجود لدى المتخصِّصين في السياسة الخارجية يجيب عن هذه الأسئلة.

- خصوصية السياسة الخارجية الإيرانية: حيث لا يمكن أن يُدْرَسَ التغيُّر والاستمرارية في السياسة الخارجية بدون النظر إلى خصوصية الحالة التي يتم دراستها.

■ الجزء الثاني: محفزات التغير في السياسة الخارجية الإيرانية: محفزات داخلية ومحفزات خارجية بناء على إطار التغير والاستمرارية.

■ الجزء الثالث: السياسة الإيرانية تجاه المنطقة العربية وسيناريوهاتها المستقبلية على مستوى الأهداف والأدوات والسياسات ما بين التغير والاستمرارية منذ طوفان الأقصى.

أولًا- الجزء التمهيدي:

نتحدَّث فيه عن إطار التغيُّر والاستمرارية في السياسة الخارجية كإطار نظري، ونضع اتجاهات عامة لمعنى أن تتغيَّر السياسة الخارجية لدولة ما وما مستويات هذا التغير، ولماذا تتغيَّر السياسة الخارجية للدول؟

بدايةً؛ السياسة الخارجية كما تفضَّل د. مدحت هي برامج وأنماط سلوكية وخطط تجاه العالم الخارجي للدولة، هذه السياسة الخارجية قد تكون معلنة في وثائق وخطابات وقد تكون خط عمل غير معلن لدولةٍ مَا.

دارسو السياسة الخارجية في دراستهم لأنماط التغير أشاروا إلى أربعة مستويات للتغير في السياسة الخارجية لدولة ما -والتغير لا يعني إعادة الهيكلة الكاملة-:

- المستوى الأول هو مجرد تغيرات كمِّيَّة في مستوى الجهود، ولا يعني ذلك أن تتغيَّر الأهداف ولا أن تتغيَّر أدواتُ السياسة الخارجية للدولة، بل مجرد تغيُّر كمِّيٍّ ملموس على مستوى الأنشطة أو الجهود التي تتحرَّك بها دولةٌ ما في محيطها الإقليمي والدولي.

- المستوى الثاني للتغير في السياسة الخارجية يعني تغير البرنامج، وهو ما يشير إلى تغير في الأدوات دون أن تتغير أهداف السياسة الخارجية للدولة.

- المستوى الثالث للتغير في السياسة الخارجية يشير إلى تغير أهداف السياسة الخارجية للدولة، وتغير الأهداف بطبيعتة يشير إلى تغير الأدوات.

- المستوى الرابع يُشار له بأنه شكل راديكالي من أشكال التغير في السياسة الخارجية، بمعنى إعادة توجيه السياسة الخارجية للدولة بشكل كامل في محيطها الإقليمي والدولي.

التغيُّر في السياسات الخارجية للدول له سِمات؛ يشير الدارسون له على أنه غالبًا يكون بشكل تدريجي تراكمي وليس تغيُّرًا مفاجئًا أو جذريًّا في السياسة الخارجية للدولة، يحدث أيضًا التغيُّر بشكلٍ جذري وبشكل مفاجئ ولكنه أكثر ندرة. والطبيعي في تحولات أو تغيُّرات السياسة الخارجية لدولةٍ ما أن تكون تدريجية وتراكمية، وله أسباب معيَّنة وهذا هو الجزء الثاني من الإطار التمهيدي:

لماذا تتغير السياسات الخارجية للدول؟

الأسباب تُفسر على ثلاثة مستويات تقليدية تُسَمَّى مستويات التحليل:
  • المستوى الأول وهو على المستوى الدولي يعني على المستوى الكلي: بما أن السياسة الخارجية لدولة ما بالأساس موجَّهة تجاه الكائنات أو الكيانات الخارجية في محيطها الإقليمي والدولي فمعظم العوامل التي تدفع إلى تغيير السياسة الخارجية معظمها وليس كلها تحدث خارج اختصاص صانع القرار السياسي، وبالتالي هناك مجموعة من العوامل على المستوى الدولي التي تؤدِّي إلى تغيير السياسة الخارجية لدولة ما، منها مثلًا العوامل النظمية أو التغيُّرات النُّظمية بمعنى أن هيكل النظام الدولي ثنائي أو متعدِّد الأقطاب يؤثِّر في مدى تغيُّر السياسة الخارجية لدولةٍ ما، يسمح بالتغيُّر من عدمه أيضًا موقع الدولة ضمن النظام الدولي يؤثر على تغيير السياسة الخارجية للدولة أو استمراريتها، مثلا الدول الراضية عن العمل في النظام الدولي وعلاقتها جيدة بالدول على مستوى النظام الدولي أو على الأقطاب المختلفة تكون أقل ميلًا لتغيير سياستها عن الدول غير الراضية عن الأوضاع في النظام الدولي، وهناك أيضًا ما يسمَّى الأحداث الدولية أو التي يسميها البعض الصدمات الخارجية التي يكون تأثيرها كبيرًا من حيث الرؤية والتأثير الفوري وتدفع في اتجاه تغير السياسة الخارجية لدولة ما.
  • المستوى المحلي: هناك عوامل مثل تغيير القيادة في دولة ما قد يدفع إلى تغير السياسة الخارجية، وكذا تغيير الحكومة أحيانًا، وتوزيع القوى والنفوذ بين النخب المتنافسة، وأيضا الأزمات الداخلية: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية قد تدفع باتجاه تغيير السياسة الخارجية للدولة.
  • على المستوى الفردي: يُشار لتغير السياسة الخارجية بتغير في إدراك الأفراد صانعي القرار أو النخب للمتغيرات، ماذا يعني هذا على مستوى التغير في السياسة الخارجية؟ يعني أن هذه الأسباب قد تؤدِّي إلى إعادة تصوُّر التهديدات الخارجية للدولة، وبالتالي يؤثِّر على الأولويات أو وضع الأولويات، وهو ما يعني وضع أهداف الدولة في سياستها الخارجية، ممَّا يؤثِّر على الأدوات والسياسات لدولةٍ ما في سياستها الخارجية.
هذا بشكل مختصر معنى التغير والاستمرارية في السياسة الخارجية لدولة ما.

 لا تُدرس جميع الدول بنفس الشكل في التغير والاستمرارية ولكن السياسة الخارجية الإيرانية تفرض خصوصيَّتها وهذا هو الجزء الثالث في إطار المدخل التمهيدي للمحاضرة:

ماذا يعني أن ندرس السياسة الخارجية الإيرانية؟

تحت عنوان "خصوصية دراسة السياسة الخارجية الإيرانية"

في هذا العنوان تناقش الباحثة نقطتين أساسيَّتين:

- النقطة الأولى هي هوية السياسة الخارجية الإيرانية.

- النقطة الثانية وهي مركزية مشروع المقاومة في السياسة الخارجية الإيرانية.

هوية السياسة الخارجية الإيرانية:

الدول كيانات اجتماعية لها هوية تتحرَّك بناءً عليها في إطارها الإقليمي والدولي. وإيران نموذج مهم في هذا السياق؛ إيران دولة لها دورٌ على المستوى الإقليمي وتتمتَّع بأهمية استراتيجية حتى منذ ما قبل قيام الثورة الإيرانية. في إطار هوية السياسة الخارجية الإيرانية، فتحدِّدها عدَّة عوامل، فإيران دولة ذات سياسة خارجية مستقلة عن الدول الغربية ليست فقط مستقلَّة ولكن منافسة للسياسات الخارجية الغربية. والثورة في إيران مرتكز مهمٌّ جدًّا لفهم تحرُّكات السياسة الخارجية الإيرانية لأن الهدف الأكبر للسياسة الخارجية الإيرانية هو الحفاظ على مكتسبات الثورة الإيرانية.

وهو أمر يلقي بظلاله على ثنائيات مهمة جدًّا يقابلها دارس السياسة الخارجية الإيرانية، ولكن قبل الإشارة إلى هذه الثنائيات نشير إلى أنها ليست ثنائيات جامدة أو ثنائيات مفصولة ولكن كلاها يخدم الآخر، من أهم الثنائيات المستهلكة جدًّا في دراسة السياسة الخارجية الإيرانية الإشارة إلى أنه هل السياسة الخارجية الإيرانية أيديولوجية أم مصلحية؟ والباحثة لا ترى تناقضًا في هذه الثنائية، لأن التحركات المصلحية الإيرانية تخدم الأيديولوجية الإيرانية، والتوسُّع الأيديولوجي الإيراني يخدم المصلحة الإيرانية فكلاهما متصلان. الثنائية الثانية التي تظهر بشكل مستهلك جدًّا في دراسات السياسة الخارجية الإيرانية هي: هل إيران تتحرك في محيطها العربي كونها فارسية أم كونها دولة إسلامية؟ والحقيقة أن هذه دوائر انتماء متحاضنة؛ بمعنى أن الفارسي قومي والإسلامي حضاري، وليس هناك تعارض فيما بين ذلك، وتتحرك إيران في سياستها الخارجية كونها حضارة لها آلاف السنين أسهمت للبشرية بالكثير، وتتحرَّك على أنها ترفض نظرة التعالي من الآخر الغربي، ولها أولوياتها في السياسة الخارجية التي تقوم على مبدأ تصدير الثورة الإيرانية في إطار هذه الخصوصية.

الثنائية الثالثة وهي ثنائية المؤسسات ذات الصلة بصنع قرار السياسة الخارجية الإيرانية، فهل هذه المؤسسات التي تصنع القرار، مؤسسات الدولة أم مؤسسات الثورة؟ والردُّ على هذه الثنائية يتمثَّل في أن الثورة والدولة متداخلان في إيران، وبنص الدستور فإن جميع المؤسسات الإيرانية العاملة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية ذات رسائل عقيدية تلعب دورًا أساسيًّا في احترام دين الدولة ومذهبها ونشره وتحقيق أهداف السياسة الخارجية الإيرانية.

أما الثنائية الأخيرة فهي ثنائية المحافظ أو الإصلاحي وكيف تؤثِّر في تحركُّات السياسة الخارجية الإيرانية في محيطها الإقليمي والدولي؟ مرتبطة أكثر بتوجُّهات الرئاسة الإيرانية.

والحقيقة أن ما يجعل هذه الثنائيَّات مترابطة أن النظام الإيراني سياسيًّا له مركز وهو الولي الفقيه، وهو الذي يوحِّد تحرُّكات مؤسسات الجمهورية الإسلامية الإيرانية بتحرُّكاتها الخارجية وهو عامل أساسي في مؤسسات الجمهورية الإسلامية الإيرانية.




هذا فيما يخصُّ خصوصية السياسة الخارجية الإيرانية وهُويتها وثنائيَّاتها.

الجزء الثاني في خصوصية السياسة الخارجية الإيرانية والذي لا يمكن أن ندرس السياسة الخارجية الإيرانية بدون فهمه هو:

مركزية مشروع المقاومة في السياسة الخارجية الإيرانية على مستوى الخطاب وعلى مستوى التحرُّكات.

تتبنَّى إيران منذ الثورة الإيرانية مشروعًا للمقاومة الحضارية مضادًّا للمشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة العربية، وهذا المشروع على رأس أولويات إيران.. هذا المشروع يكسر ثنائية الأيديولوجي والمصلحي في تحركات السياسة الخارجية الإيرانية، ولا يمكن أن نفهم ذلك إلا في ضوء أن إيران تتعامل مع المنطقة العربية بناءً على امتدادٍ لرصيدٍ تاريخيٍّ وامتدادات طائفية وسياسية في المنطقة وامتدادات جغرافية أيضًا. المشروع الشرق أوسطي الأمريكي يتعارض مع مشروع المقاومة الحضارية الإيرانية بناء على أُسُسٍ أيديولوجية وعلى أسس مصلحية كلاهما موجود في المشروع الإيراني.

يمثِّل المشروع الشرق أوسطي الأمريكي تحدِّيًا كبيرًا جدًّا على المستوى السياسي للنموذج الإيراني الذي يقوم على عدم الفصل ما بين الديني والسياسي على عكس النموذج العلماني الغربي، ويمثِّل المشروع الشرق أوسطي الأمريكي تحديات اقتصادية كبيرة لمشروع المقاومة الإيراني وفي قلب ذلك العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، كما يمثِّل أيضًا تحدِّيًا ثقافيًّا ودينيًّا وحضاريًّا، وفي قلبه القضية الفلسطينية التي تدعمها إيران ولها رؤية مختلفة للقضية الفلسطينية عن ما يتبنَّاه المشروع الصهيوني الأمريكي، والتحدِّي العسكري أيضًا موجودٌ في إطار سياسات محاربة الإرهاب أو سياسات منع الدول من امتلاك السلاح النووي وغيره، كلُّها تحديات موجودة على أرض الواقع، تحديات أيديولوجية وتحديات مصلحية لمشروع المقاومة الحضاري الذي تتبنَّاه إيران. هذا ما أنتج استراتيجيات مواجهة ومقاومة لإيران في محيطها الإقليمي والدولي واسعة جدًّا.. اقتصاديات المقاومة - توسيع شبكة الحلفاء - مراجعة العلاقات الإقليمية.. وبالتالي كيف تنعكس هذه الخصوصية على صنع قرار السياسة الخارجية الإيرانية تمهيدًا لفهم تحرُّكات إيران في المنطقة؟ إن قرار السياسة الخارجية الإيرانية يكون بداية من دور الولي الفقيه الذي يحدِّد التوجُّهات الخارجية لإيران نزولًا إلى دور الحرس الثوري الإيراني -الذي سيأتي ذكره في إطار ثنائية ساحة المعركة والدبلوماسية- وهناك الدور التنفيذي للحكومة ووزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي وغيرهم. وبالتالي فهذا هو المدخل التمهيدي باختصار لفهم التغير والاستمرارية في السياسة الخارجية لدولةٍ ما وخصوصية الحالة الإيرانية.

الجزء الثاني- محفزات التغير في السياسة الخارجية الإيرانية: لماذا قد تتغيَّر السياسة الخارجية الإيرانية تجاه المنطقة العربية؟

الإطار النظري الذي انطلقتْ منه الباحثة يشير إلى أن محفِّزات التغيير ومستوياته مختلفة، وأن محفِّزات التغيير على مستوى كلي وعلى مستوى جزئي، وبشكل مختصر تمَّ تقسيمهم إلى محفِّزات خارجية ومحفِّزات داخلية لتغيير السياسة الخارجية الإيرانية تجاه المنطقة العربية.

بداية فعنوان المحاضرة التغيير والاستمرارية في السياسة الخارجية الإيرانية منذ طوفان الأقصى، والمهم قوله في المحفزات الخارجية بداية أن طوفان الأقصى ارتبط بسلسلة من الأحداث المتتالية والمرتبطة به والتي لا يمكن فصلها عنه بأي شكل من الأشكال، وهنا نركِّز على ثلاثة محفِّزات خارجية لتغيير السياسة الخارجية الإيرانية: المحفز الأول هو طوفان الأقصى، والمحفز الثاني هو سقوط نظام بشار الأسد، والمحفز الثالث للتغيير هو وصول دونالد ترامب للسلطة في الولايات المتحدة الأمريكية. هذه هي المحفزات في البيئة الخارجية للسياسة الخارجية الإيرانية.
  • المحفز الأول طوفان الأقصى: تدعم إيران القضية الفلسطينية وهي مرتكز أساسي من مرتكزات السياسة الخارجية الإيرانية على مستوى الخطاب وعلى مستوى السياسات، ولا ينفك فيه المصلحي عن الأيديولوجي لأنه يخدم في النهاية النفوذ الإقليمي لإيران كما يخدم توجُّهاتها الأيديولوجية، وإيران تقدِّم دعمًا على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري وفقًا لشواهد وتقارير كثيرة جدًّا حتى من قبل طوفان الأقصى. وعلى الرغم من إنكار إيران معرفتها ببداية طوفان الأقصى فقد كان لها دور مركزي على مستويات مختلفة في الطوفان؛ تحركاتها الأساسية بدأت بشكل غير مباشر في جبهات الإسناد في المنطقة العربية من اليمن ومن سوريا ومن العراق ومن لبنان، وما ربط بين هذه الجبهات جميعًا هو الدعم الإيراني. والملاحظ أن جبهات الإسناد يربط بينها المشترك الإسلامي والمذهب الشيعي، ومن بداية أحداث طوفان الأقصى تحمِّل إسرائيلُ إيرانَ مسؤوليةً عن الأحداث، في إشكالية غير مفهومة حول أن معظم السيناريوهات ترى أن إيران تسعى إلى نقل الحرب خارج أراضيها وجبهات الإسناد التي فتحت ردًّا على الكيان الصهيوني جميعها تعجِّل من الصراع المباشر بين إيران وإسرائيل. وهذه إشكالية حقيقة كانت قائمة في هذا الوقت، فماذا تريد إيران من جبهات الإسناد أو دعم جبهات الإسناد للمقاومة الفلسطينية؟ كما أن دور إيران أيضًا لم يقتصر على دعم جبهات الإسناد للمقاومة الفلسطينية وحسْب، ولكن أيضًا انتقل إلى الصراع المباشر بين إيران والكيان الصهيوني، وكانت الأحداث الأساسية للتحرُّكات الإيرانية هي الهجمات على السفارة الإيرانية في دمشق والتي بناءً عليها قرَّرت في أبريل توجيه ضربات عسكرية إلى الكيان الصهيوني، والحقيقة أن الضربة الأولى كانت رمزية؛ فتأثيرها المادي لم يكن واسعًا، ولكن تأثيرها الرمزي كان كبيرًا ومهمًّا ولا يمكن إنكاره، وكانت أول مرة تاريخيًّا تستهدف فيها إيران الكيان الصهيوني ذاته، ثم جاءت بعد ذلك الضربة العسكرية الثانية لإيران بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية على الأراضي الإيرانية واغتيال حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، والضربة الثانية لإيران في تدخُّلها في الصراع مباشرة في قلب المنطقة العربية كانت بإيعاز من داخل إيران، حيث كانت هناك مظاهرات كبيرة جدًّا تدعو إيران إلى التدخُّل، بسبب الاعتداء على السيادة الإيرانية، وكانت هناك احتجاجات على اللهجة الحذرة التي كان يتحدَّث بها الرئيس الإيراني وتم معارضتها داخليًّا بشكل كبير، وفعلًا كانت الضربة الإيرانية الثانية مهمَّة ولها تأثير مادِّي تجاوزَ التأثير الرمزي للضربة الأولى. والتي بناءً عليها ردَّت إسرائيل في نفس الشهر في آخر أكتوبر بضرب الأراضي الإيرانية واستهداف المجال الجوي الإيراني، وكان هناك تصريح مهم للمرشد الإيراني أن الضربات الإسرائيلية يجب أن لا يُبالغ فيها ولا يُستهان بها.
ومن هنا كانت تحركات إيران في قلب الطوفان بشكل مباشر وبشكل غير مباشر، وتحركاتها لم تكن في المنطقة العربية بناءً على أدوات عسكرية فحسْب، ولكن الدبلوماسية الإيرانية تجاه المنطقة العربية في أحداث الطوفان كانت مهمة جدًّا، فزيارات المسؤولين الإيرانيين للبنان وسوريا والسعودية وقطر والعراق وعمان والأردن ومصر وتركيا والبحرين والكويت كانت تعبيرًا عن دبلوماسية نشطة جدًّا قُبيل الضربة الإيرانية على إسرائيل، وكان هذا مؤشِّرًا هامًّا وخصوصًا في ظلِّ تحسُّن علاقاتها مؤخَّرًا مع دول الخليج، وبالأخص السعودية منذ بداية المصالحة عام 2023. ومن مؤشِّرات التحول أيضًا أن أصدرت السعودية بيانًا أدانتْ فيه الهجومَ الإسرائيلي على إيران وكان فيه تطوُّر ملحوظ هامٌّ جدًّا في هذا السياق، أن حصل تقدُّم في التعاون العسكري، حيث قامت الدولتان بتنفيذ تمرين عسكري مباشر في بحر العرب، لم يكن بين إيران والسعودية وحدهما، لكن كان مع ست دول أخرى، منها روسيا، لكنه تقدُّم أو مؤشِّر يؤخذ في الاعتبار على تحولات التحركات الإيرانية تجاه المنطقة العربية، وبعدها زار رئيس الأركان السعودي طهران في نوفمبر بعد الضربة الإسرائيلية على إيران بشهر، والتقى نظيرَه الإيراني وبحث فرص التعاون العسكري، وهذه مؤشِّرات هامَّة في تغيرات السياسة الخارجية الإيرانية تؤخذ في الاعتبار ولو على مستويات بسيطة.
  • المحفز الثاني للتغيير هو سقوط نظام بشار الأسد في سوريا: وهو له علاقة مباشرة بأحداث الطوفان، فإيران كانت متدخِّلة في الوضع في سوريا منذ 2012 وكان لها دور كبير جدا في التدخل لدعم نظام بشار الأسد، وكان ذلك من القضايا التي تحدث مشاكل في العلاقات العربية الإيرانية على مستوى الشعوب على الأقل، وكان الدعم واسعًا، بعض المصادر تقول إن الدعم الإيراني وصل إلى خمسين مليار دولار في سوريا لضمان بقاء الأسد وفي وجود للقوات الإيرانية على الأرض وفي تدريب من الحرس الثوري الإيراني لميليشيات النظام. مع سقوط نظام بشار الأسد كان هذا محفزًا كبيرًا جدًّا لتغيير السياسة الخارجية الإيرانية تجاه المنطقة العربية لأننا في النهاية نتكلم عن قطع الاتصال الجغرافي بين أطراف محور المقاومة وخصوصًا بين إيران وحزب الله، وأهمية هذا الموضوع مع طوفان الأقصى ما تعرَّض له حزب الله من خسائر كبيرة جدًّا. الأمر الذي وضع علامات استفهام كبيرة حول تأخُّر عملية استشفاء حزب الله بعد الهجمات الإسرائيلية الأخيرة في أحداث طوفان الأقصى. فخسارة سوريا لم تكن فحسْب قطع محور المقاومة بين إيران وحزب الله، ولكن سوريا نفسها نظريًّا كانت الدولة الوحيدة عربيًّا في محور المقاومة، وتمتلك جيشًا نظاميًّا يعتبر الأقوى بين أعضاء المحور (حزب الله والحوثيين وغيرهم)، وبالتالي كان لقطع الامتدادات البرية الحيوية بين إيران وسوريا ولبنان دورٌ كبيرٌ في إعادة هيكلة السياسة الخارجية الإيرانية لمحور المقاومة. ويتمثَّل محفز التغيير الأكبر في أن القيادة السورية الجديدة لا ترغب في إدخال سوريا في أيِّ حروب إقليمية، وأعلنت صراحةً أنها لن تسمحَ باستمرار خطوط الإمداد بين إيران وحزب الله، وهذا محفِّزٌ كبيرٌ يدعونا للتساؤل كيف ستتشكَّل السياسة الخارجية الإيرانية اتجاه المنطقة العربية وفي قلبها محور المقاومة.
  • المحفِّز الثالث لتغيير السياسة الخارجية الإيرانية على المستوى الدولي والذي لا ينفكُّ عن أحداث طوفان الأقصى ويؤثِّر فيه ويتأثَّر به بشكلٍ كبيرٍ جدًّا هو وصول دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية وعودة ما أسْماه سياسات الضغوط القصوى على إيران، هذا العامل كان له تجربة في الفترة الأولى بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران في 2018، ومنذ وصول ترامب إلى السلطة في ظلِّ تطوُّرات أحداث طوفان الأقصى ووجود إيران في قلب هذه الأحداث، أعلن ترامب أنه سيستخدم سياسة الضغط القصوى على إيران حتى تتوقَّف عن أنشطتها النووية، وكان هناك إعلان يمكن أن نعتبره بمثابة إعلان حرب في 6 فبراير فُرِضَتْ فيه عقوبات على إيران وقال إنه يسعى إلى تصفير الصادرات الإيرانية النفطية إلى الخارج. يعدُّ هذا ضغطًا كبيرًا جدًّا داخليًّا وخارجيًّا على النظام الإيراني، فوصول دونالد ترامب لا يعني ضغطًا على إيران في اتجاهات تغيير السياسة الخارجية على مستوى العقوبات الاقتصادية وحدها، لكن بعض الدراسات أشارت إلى قرب ضرب المفاعلات النووية الإيرانية بضربة استباقية من قبل إسرائيل، وحدَّدت موعدًا في منتصف العام الحالي، ولم تعد تقارير سرية بل نشرت في النيويورك تايمز. وبالتالي فمن المتوقع في ظل سياسات الضغوط القصوى.. عقوبات اقتصادية واحتمالات بضرب المفاعلات النووية الإيرانية، كل هذا ينتج ضغوطًا على صانع القرار الإيراني كيف يتحرَّك تجاه المنطقة العربية وكيف يمكن أن يُعيد تشكيل علاقاته مع المنطقة بما يساعد على تهدئة الأوضاع أو الضغوط على إيران.
المحفزات الداخلية لإيران لا تقل أهميةً أبدًا عن المحفزات الخارجية، وإحدى الدراسات المهمَّة أشارت إلى أن السياسة الخارجية الإيرانية في مرحلة انتقالية مهمَّة، وأن هناك أربعة شواهد على هذا الانتقال وهو يؤثِّر على تحرُّكاتها تجاه المنطقة العربية.

أربع مؤشِّرات لهذا التحوُّل وارتبطت بطوفان الأقصى:

- المؤشر الأول هو التغيير القانوني: أي تغيير الأطر القانونية لصنع قرارات السياسة الخارجية الإيرانية، فوفقًا لخطة التنمية في يناير 2024 في إيران فقد تمَّ استثناء العديد من المؤسسات الحكومية في أن تنسِّق مع وزارة الخارجية الإيرانية في تحرُّكاتها واستثنت بالأساس وزارة الاستخبارات ومنظمة الطاقة الذرية الإيرانية والقوات المسلحة، وبعد ضغوط داخلية كبيرة من الدبلوماسيين الإيرانيين استمرَّت وزارة الاستخبارات ومنظمة الطاقة في التنسيق مع وزارة الخارجية دون القوات المسلحة، ومحمد جواد ظريف مساعد الرئيس الإيراني الحالي ووزير الخارجية في عهد روحاني قال إن إيران أصبحت لها سياستان خارجيتان سياسة خارجية لوزارة الخارجية وسياسة خارجية للقوات المسلحة والذي يقصده هنا الحرس الثوري الإيراني، ومفهومٌ أن هذه التغيرات في ظلِّ الضغوط التي تواجهها إيران أو الأزمة التي تواجهها في المحيط الإقليمي والدولي.

- التغير الثاني هو تغير مؤسسي: إذ تتم إعادة هيكلة السياسة الخارجية الإيرانية بتغيرات مؤسسية، وباختصار فإن مجلس الأمن القومي الأعلى في إيران أصبح في يده الملفات الاستراتيجية -وبالأخص ملف البرنامج النووي الإيراني والتحرُّكات الخارجية الأمنية لإيران- على عكس المعتاد من أن هذه الملفات تديرها وزارة الخارجية الإيرانية.

- التغير الثالث هو تغير وظيفي: وقد تحدَّث أيضًا عنه جواد ظريف، وهو ثنائية ساحة المعركة مقابل الدبلوماسية. إن الحرث الثوري دائمًا يتدخَّل لإفساد ما تتوصَّل إليه الدبلوماسية الإيرانية وهو ما يخلق ثنائية في التحركات الخارجية.

- التغيُّر الأخير على مستوى الشخصيات: فقد تمَّ استبدال أفراد مؤثِّرين جدًّا في التحرُّكات الخارجية لإيران على رأسهم علي شمخاني وعلي لاريجاني، وتمَّ تركيز السلطات أكثر في يد الحرس الثوري الإيراني، لأن إيران في مرحلة أزمة وهناك تهديدات خارجية بضرب مفاعلات نووية وتهديدات بعقوبات قصوى وتصفير عائدات النفط الإيراني.

هذه التغيرات تشير إلى أن الداخل مهم في معادلة السياسة الخارجية الإيرانية تجاه المنطقة العربية، وقد ظهرت مؤخَّرًا دعوات لإقالة الرئيس الإيراني ناتجة من الأزمة الاقتصادية الداخلية والاختلاف ما بين الرئيس بزشكيان الإصلاحي وخط المحافظين المتشددين في إيران فيما يخص التفاوض حول البرنامج النووي الإيراني وغيره من ملفَّات سياسية مثل المعتقلين وخروجهم، مؤشرات تشير أن هناك احتقان داخلي داخل إيران.

ما دلالة ما سبق وكيف نقرؤه في ضوء الإطار التمهيدي؟

ما تمَّ ذكره في الجزء الثاني من المحاضرة يؤكِّد على أن هناك محفِّزات على المستوى الخارجي والمستوى الداخلي تستدعي إعادة إدراك التهديدات الخارجية لإيران وهو ما يعني إعادة رسم الأولويات أو الأهداف في السياسة الخارجية الإيرانية لأن هناك أزمة يواجهها النظام الإيراني، والمنطقة العربية في قلب هذه الأزمة وفي قلب التصورات الإيرانية الجديدة، وهو ما ينقلنا إلى الجزء الثالث من المحاضرة:

الجزء الثالث- عن تحولات السياسة الإيرانية منذ طوفان الأقصى تجاه المنطقة العربية

وهو ما نرصده على نفس المستويات التي تناولناها في الإطار النظري للتغير والاستمرارية، فهي تغيرات على مستوى الأهداف وعلى مستوى الأدوات وعلى مستوى السياسات.

Ø     على مستوى الأهداف يمكن الإشارة إلى مقال مهمٍّ نشرته الـ Foreign Affairs في 2 ديسمبر 2024، وكتبه محمد جواد ظريف نائب الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية تحت عنوان How Iran See the Path to Peace? "كيف ترى إيران الطريق إلى السلام؟" يشرح فيه أهداف السياسة الخارجية الإيرانية تجاه المنطقة العربية ويتكلَّم فيه عن ملفات الأمن الإقليمي بشكل مباشر عن أهداف السياسة الخارجية الإيرانية لحكومة بزشكيان، وكتب مباشرة في المقال أن رؤية إيران للسلام تقوم على تحقيق الاستقرار في المنطقة من خلال تحسين العلاقات مع دول الجوار، وخلق نظام يقوم على القوة والثراء والأمن والتكامل. وهنا يقول جواد ظريف إنه يجب أن ننتقل من قضايا الأمن العسكري إلى التعاون الاقتصادي والحوار الثقافي، وقال مباشرة إنه يجب أن نتغلَّب على الحاجز الطائفي بين إيران والمنطقة العربية. الجديد في المقال أنه قدَّم حلولًا ومؤشِّرات على رؤية إيران وأهدافها الجديدة تجاه المنطقة، وقال إنها يجب أن تكون حاضرة، أو تدعو إلى وجود ترتيبات جديدة للأمن الإقليمي، وذكر أن إيران والدول العربية يمكن أن تنسخ مباشرةً عملية هلسنكي التي جاءت بعد الحرب الباردة في 1975، والتي أنتجت حوارًا بين الكتلتين السوفيتية والغربية، وقال إن إيران والدول العربية من الممكن أن تنسخ نفس الإطار وتتشاور وتصل إلى ترتيبات جديدة للأمن الإقليمي كما فعلت الدول التي كانت مختلفة على مستوى أيديولوجي، وقال من الممكن أن نفعِّل قرار الأمم المتحدة الذي صدر بعد الحرب الإيرانية العراقية والذي أدَّى إلى وقف الحرب والتشاور بين العراق وإيران، فعلى إيران والدول العربية أن تتشاور لتصل إلى ترتيبات جديدة للأمن الإقليمي، وقال صراحةً إن سياسات الضغوط القصوى على إيران من محيطها الإقليمي أو من محيطها الدولي لن تؤدِّي إلى حلِّ المشكلات الإقليمية، ولن يُجدي استهداف البرنامج النووي الإيراني، ووقف الاتفاق النووي سيؤدى إلى تسريع تخصيب اليورانيوم، ودعا الدول العربية إلى دمج إيران بدلًا من اتفاقيات إبراهام والتصالح مع الكيان الصهيوني وأن يكون هذا جزءًا من مشروع إقليمي يسعى إلى حل القضية الفلسطينية، وقال بصريح العبارة إن محاولات عزل إيران عن الترتيبات الإقليمية في المنطقة لم تؤدِّ إلى نتائج جيدة، وأن الدخول في اتفاقات إبراهام وعزل إيران كانت له نتائج سلبية على الأمن الإقليمي، وقال إن إيران على استعداد للمشاركة كلاعب بنَّاء في تسوية القضية الفلسطينية، حتى إنه طرح رؤية تختلف عن الخط الرسمي الذي تطرحه إيران في خطابها دومًا، وقال إن إيران موافقة على أيِّ تسوية للقضية يرتضيها الشعب الفلسطيني، ودعا إلى التقليل من تدخُّلات الدول الخارجية.

إن مقال جواد ظريف فيه دلالات مهمة جدًّا عن الجديد في أهداف السياسة الخارجية الإيرانية تجاه المنظومة العربية. فإيران دومًا كانت تطرح رؤيتها للأمن الإقليمي في إطار مجزَّأ أو يركِّز بالأكثر على دول الخليج، ولكن جواد ظريف نفسه عمل على مبادرة اسمها مبادرة هرمز للسلام عام 2019 عندما كان وزيرًا للخارجية في عهد روحاني، ودعا فيها للتشاور بين دول الخليج وإيران، وكان الجديد في هذه المبادرة كونها مبادرة شاملة للمنطقة العربية، وهو لم يتحدَّث عن مبادرة مجزَّأة مثل المبادرات التي طرحوها سابقًا، ولكن كانت رؤية شاملة تتناول القضية الفلسطينية والبرنامج النووي الإيراني والرغبة في الانفتاح الإيراني على الحوار مع الدول العربية وإدماجها بدلًا من اتفاقيات التصالح الحالية مع الكيان الصهيوني، وبعض التحليلات أشارت إلى أن هذه الرؤية فيها توافق مع الرؤية السعودية 2023 لاستقرار المنطقة والتي قالت فيها إنها مستعدَّة لتتحاور مع دول الجوار ومنها إيران للتخفيف من الصراعات الإقليمية وحل المشاكل العالقة بين الدول العربية وجوارها الحضاري.

Ø     على مستوى الأدوات: جاءت التحرُّكات منذ طوفان الأقصى لإيران لتدمج بين ما نسمِّيه تقليديًّا العصا والجزرة، أي الدبلوماسية والأداة العسكرية، فإيران بدأت تتحرَّك عسكريًّا بشكل ملحوظ.. فتم إنتاج حاملة طائرات مسيَّرة لها مدى بعيد، وأشاروا إلى أنهم ضاعفوا مخصَّصات القوات المسلَّحة الإيرانية ثلاثة أضعاف، بالإضافة إلى إدخال تعديل كبير جدًّا في القوى البحرية الإيرانية.

كيف تُقرأ هذه المؤشرات؟

هذه المؤشرات العسكرية تُقرأ في إطار أن إيران تستعدُّ بالفعل لعمل عسكري مضاد وأن التقارير وما ينشر في الصحف الأجنبية عن استهداف للمنشآت النووية الإيرانية في حالة عدم التوصل إلى اتفاق هي إشارات صريحة للاستعداد لعمل عسكري مضاد في ضوء التطورات الإقليمية والدولية، وهناك إمكانية للوصول إلى مصالح أمريكية وإسرائيلية مؤثِّرة، حتى إنه من ضمن المؤشِّرات الهامَّة أن هناك نقاشًا داخليًّا في إيران بأنه يجب على المرشد الأعلى الإيراني الرجوع في فتوى تحريم الأسلحة النووية، وأن على إيران أن تكون لاعبًا نوويًّا مهمًّا في الشرق الأوسط لمواجهة التهديدات التي تقابلها، وليس معنى هذا التصعيد للأداة العسكرية الرغبة في أعمال عسكرية، لكن التاريخ يثبت أن أيَّ طرفٍ يفاوض لا بدَّ أن يكون في موقع قوة، فالأداة العسكرية ليست متوجِّهة فحسْب للمصالح الأمريكية والإسرائيلية، بل إن المنطقة العربية في قلب هذه التحرُّكات الإيرانية. وهناك أيضًا أداة دبلوماسية إيرانية نشطة جدًّا تجاه المنطقة العربية يمكن قراءة مؤشراتها من خلال تحركات مهمة في دول الخليج والمحادثات الأخيرة مع قطر والتي كان من أهم أبعادها القضايا غير المحسومة مثل الأموال الإيرانية المجمَّدة الموجودة في قطر بسبب العقوبات الأمريكية على إيران، وفي مصر مثلًا أعلن مساعد الشؤون السياسية في مكتب الرئيس الإيراني قرب افتتاح السفارة الإيرانية في مصر والسفارة المصرية في إيران، وأن العلاقات بين الدولتين شهدت تحسُّنًا مهمًّا العام الماضي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى