من العلوم السياسية للمصادر الإسلامية والعكس: نقاط موجزة حول خبرة بحثية في مجال النظرية السياسية

لتحميل الدراسة  اضغط هنا.

توطئة:

بعد انتهاء الباحثة كاتبة هذه السطور من دراسة العلوم السياسية في مرحلة البكالوريوس وأثناء الدراسة التمهيدية للماجستير شغلها سؤال: ما هو الموضوع الذي يجب أن تختاره لدراسة الماجستير؟ وفي أي مجال؟ فالعلاقات الدولية، والنظم السياسية، والقانون الدولي، وغيرها من الحقول مليئة بالموضوعات الشيقة، فأيها تختار؟ وفي أي مجال تتخصص؟

وبعد تقويم لما “تحبه” الباحثة من مجالات مرت عليها، وما “يشغلها” من قضايا فكرية وهموم ثقافية وجدت أن مجال النظرية السياسية هو مجالها المفضل، وتأملت في الموضوعات التي تشغلها فوجدتها: مستقبل الإسلام/ قضايا المرأة /التعددية والشورى في ظل الواقع الإسلامي، وقضايا أخرى.

وقد استقرت الباحثة على موضوع: “المرأة والعمل السياسي: رؤية إسلامية” ليكون بداية تعاملها كباحثة سياسية مع المصادر والأصول الإسلامية، وهي تسوق هنا خبرتها البحثية في سيرها من العلوم السياسية إلى المصادر الإسلامية، لكن الباحثة ما لبثت عند اختيارها لموضوع رسالة الدكتوراه، وبعد سنوات من البحث في مساحة التقاطع بين العلوم السياسية والمصادر الإسلامية في رسالتها للماجستير وفي مشروعات عديدة شاركت فيها كباحث مساعد أبرزها مشروع “العلاقات الدولية في الإسلام” الذي صدر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، ما لبثت أن وجدت نفسها تعود راجعة بهذه الخبرة إلى مجال النظرية السياسية، واختارت مرة أخرى ما يشغلها فكريًا، فإذا كانت قد بحثت وضع المرأة، فإنها متحيرة في وضع الأقليات في مجتمع إسلامي، ولأنها تعتقد أن الإجابة قد تبدأ من الإسلام، أو قد تبدأ من رؤى مغايرة حين نفهمها يتبين لنا توافقها أو تعارضها مع الإسلام، ويتم تقويمها وفق معاييره الدينية والإنسانية، فقد اختارت موضوع “المواطنة: دراسة لتطور المفهوم في الفكر الليبرالي” عائدة من الرؤية الإسلامية لقلب النظرية السياسية الغربية، فهل كانت هذه عودة “عن” الرؤية الإسلامية؟ أو محاولة لتقويم النظرية السياسية الغربية بمنظور إسلامي؟

ملامح الإجابة في السطور التالية.

أولًا: من المصادر الغربية للمصادر الإسلامية

قد يظن القارئ لرسالة “المرأة والعمل السياسي: رؤية إسلامية” التي حصلت بها الباحثة على درجة الماجستير أن هدفها كان إثبات أن للمرأة دورا سياسيًا.. بل ربما يذهب إلى حد أن يقول أنها استبطنت أن للمرأة دورًا سياسيًا ثم عادت للمصادر الإسلامية تفتش عما يؤيد وجهة نظرها، ربما كما فعل آخرون حين تحدثوا عن الاشتراكية في الإسلام أو احترام الإسلام للحقوق الفردية أو حقوق الإنسان في الإسلام، وربما يفسر من يظن هذا ذلك بصعود دراسات المرأة والدراسات النسوية وأن الباحثة تأثرت بها.

والحق أن الباحثة ـ للطرافة ـ قد بدأت البحث بافتراضات معاكسة تمامًا.. فقد كانت قناعتها التي تولدت عبر حركتها في الدائرة الواسعة للحركة الإسلامية في الثمانينات أن المرأة ليس لها دور سياسي.. وأن رسالتها السامية هي التفرغ لبناء الفرد الصالح في داخل الأسرة، لكن أسئلة وتحديات كثيرة في ملف المرأة في الإسلام كانت دومًا تثير علامات الاستفهام في ذهنها، لذا فقد بدأت البحث دون افتراضات مسبقة، وربما يكون هذه هو أول دروس الخبرة البحثية للبحث في مجال النظرية السياسية الإسلامية: إخلاص النية وصدق الطلب ورجوع الافتقار.

وقد يندهش البعض ويظن هذه “موعظة” لا مجال لها هنا في البحث العلمي، لكن نذكره بفكرة الموضوعية التي طالما درسناها في مناهج البحث بل وثار حولها لغط وجدل، بين الموضوعية والذاتية مرورًا بالذاتية المشتركة كحل وسطObjectivity, Subjectivity, Inter – Subjectivity.

الباحث في المصادر الإسلامية يبحث عن الحق.. والعدل.. وعليه أن يخلص في البحث،  وينقي قلبه ليستقبل هذا الحق والعدل..ويفهم (ففهمناها سليمان).

وإذا كان السند له هو نص في الكتاب وحديث شريف أو مذهب فقيه فإن “العثور” على النص الصحيح ـ المناسب ـ الكاشف –ثم فهمه على الوجه الصحيح هو من توفيق الله.. وفتح من الله.. ويستعصي هذا الفهم على قلب “غير موضوعي” يفتش عما يريد هو في النص ولا يسترشد بالنص ليعرف حكم الله.. أو يلتمس سننه في الأنفس والآفاق.

أما عند التعامل مع النصوص ذاتها فإن الباحث عليه أن يتعلم الدرس الثاني: كيف تقرأ نصًا شرعيًا أو تبحث في الفقه؟

1- ولنبدأ بكتاب الله، إذ أن البحث في مجال السياسة هو بحث في مجال المتغيرات الاجتماعية، وليس الثوابت الإيمانية أو العبادات بالمعنى الضيق، لذا فإن قراءة الآيات والرجوع للتفاسير يتم لإدراك كيف فهم المفسر النص ثم كيف وظفه الفقيه كدليل.. ولماذا؟

ويحضرني هنا مثال الخلاف والجدل الفقهي حول جواز تولي المرأة الولايات الكبرى.. فقد وجدت الباحثة أن جمهور الفقهاء كان ضد ولاية المرأة المناصب الكبرى في الدولة الإسلامية، بل أن تولي القضاء محل خلاف، ووجدت أن الدليل الأساسي كان في “قوامة” الرجال على النساء..

فكانت الرجعى للقرآن لتكشف أمرين:

 أولهما: أن الاستخدام القرآني للقوامة كلفظ ورد في ثلاث مواضع: اثنين يربطا القوامة بالإيمان والشهادة على العالمين والقسط (العدل) أما الثالث فكان قوامة الرجال على النساء، فهناك إذًا قوامة للمؤمنات في المجال العام ثم انفراد للرجال بالقوامة في المجال الأسري، وبذا هناك تركيب للمفهوم وتداخل..

والأمر الثاني: أن القرآن قرر للمرأة ولاية متساوية للنساء والرجال في المجال العام.. “المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض” (الآية) ثم وجدت الباحثة قصة سبأ في القرآن.. فعادت للفقه لتجد قاعدة أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ما ينسخه أو تعارض مع أصل..

لكنها سرعان ما تساءلت: وهل قدرة ملكة سبأ كانت شرع؟ أي هل للمرأة “أهلية” سياسية أم لا؟ وبذا فإن التشريع ليس هو الوصف الأمثل لما نحن بصدده، وهذه القاعدة ليست هي الملائمة، فالمرأة قادرة أو غير قادرة.. ثم الشرع يضبط الحركة مع القدرة، أو يمنع لافتقادها.

2– ثم استمر البحث مع دليل الإجماع، فقد بحثت الباحثة في الفقه في نظرية الإجماع ثم في الإجماع في هذه المسألة تحديدًا لتجد أن هناك “جمهور” من الفقهاء في منع تولي المرأة الولايات العامة / والكبرى، لكن ليس هناك “إجماع”، ووجدت (“إكتشفت” لأنها جاهلة) أن الإجماع المتأسس على المصلحة لا يلزم من يلحق لأن المصالح تتغير.. وهكذا وهكذا. ومع هذا الأخذ والرد والتحرير والتدقيق يتعلم الباحث كيف..يفكر!

3- دروس أخرى كان دروس التعامل مع الحديث النبوى؛ أولها: الحذر من التصنيف، ووفوائد القراءة الكلية.. الروحية والنظرية

فقد وجدت الباحثة أن الأحاديث “المتداولة” في الثقافة الشفهية (الخطب/الحلقات) في الواقع، والمستخدمة كدليل في الكتابات الفقهية الحديثة والقديمة عددها محدودًا جدًا، أبرزها “النساء ناقصات عقل ودين”.. وبذا يسهل الطعن في أهلية المرأة، لكن هل يؤخذ حكم من حديث أو آية؟

لذا كان لزامًا العودة إلى صحيح البخاري وقراءته كاملًا لعدة أسباب.

أ) لأنه ليس كتاب حديث وحسب بل هو أيضًا مع ذلك كتاب سيرة، فيه السيرة الاجتماعية للرسول المبثوثة في الأحاديث النبوية والتي قد تغفلها كتب السيرة.

ب) أن قراءته كاملًا تعطي صورة كاملة لحياة الرسول وحياة الصحابة معه.. وبذا تنقل صورة متكاملة وليست جزئية عن طبيعة هذا المجتمع الأول.. وتطوره.

ج) أن القراءة الكاملة تنقل للعقل والقلب حكمة كلية ومعرفة “شخصية” ـ إذا جاز التعبير ـ بالرسول وشخصيته وتربيته للمجتمع الأول. والسياقات الاجتماعية وغيرها.. وكيف تمت.

ومثال بارز كان رصد وضع المرأة في المجتمع الإسلامي الأول وتعامل رسول الله مع النساء.. ورؤيته لدور المرأة..

ومثلما كان متن الحديث على لسان الرسول هامًا في هذا الصدد كانت “الحواشي داخل المتن” أي ما هو في المتن لكنه ليس نص كلام الرسول.. ومثال ذلك حديث طويل يرويه عمر بن الخطاب عن الأزمة التي كادت تؤدي لتطليق الرسول لنسائه والتي قد لا يلفت “التصنيف والتبويب” لها نظر الباحث في موضوع المرأة والسياسة، فلا يقرأ الحديث ويمر عليه دون أن يقف، لكن الحديث يتضمن عبارات بالغة الدلالة والأهمية حيث يقول عمر بن الخطاب “كنا قوم نغلب نساءنا فملا هاجرنا كان الأنصار قوم تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار فصخبت يوما على امرأتي فراجعتني فأنكرت علها أن تراجعني فقالت وما لي لا أراجعك وابنتك تراجع رسول الله (تقصد حفصة).. وهكذا.

فيذهب عمر لابنته ينهاها عن ذلك.. ثم يبلغه بعد حين نبأ تظاهر زوجتين من زوجات الرسول عليه.. ثم موقف تخيير زوجاته بين السراح الجميل والصبر على حال بيت النبوة القدوة.. وهكذا فيما لا يهم الباحث من تفاصيل.

لكن ما ذكره عمر يوليه الباحث عناية بالغة: أولًا- هناك اختلاف في مكانة المرأة بين مجتمع مكة ومجتمع المدينة، ثم هناك هجرة أثمرت اختلافًا وتفاعلًا.. وهناك اتجاه للتفاعل باتجاه تمكين المرأة وليس العكس.. ثم هناك قوة مساندة لحركة تفعيل المرأة هي قوة النص الديني.. ففي حديث آخر يروي عمر بن الخطاب: “ما كنا نعد النساء أمرًا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم” فكان النص الديني عامل رفعة لشأن المرأة وسند لرفع مكانتها.

ويصبح السؤال في ذهن الباحث السياسي والاجتماعي: متى وكيف ولماذا يسير التطور الاجتماعي معكوسًا: من التوسعة إلى الضيق؟ ومتى وكيف ولماذا يوظف النص الديني للانتقاص من الحقوق الشرعية التي جاء بها الإسلام للمرأة ويصبح سلاح قهر لا أداة تحرير؟

إن النصوص التي يتوقف أمامها الفقيه بحثًا عن حكم ليست هي بالضرورة تلك التي تستوقف الباحث الاجتماعي والسياسي بحثًا عن صورة متحركة للواقع الاجتماعي. والفقيه يبحث في الأدلة وتزامنها ليرى أمر مثل النسخ وتعديل الأحكام، لكن الباحث يفعل ذلك ليرى حركة النص في التاريخ، والسياقات الاجتماعية التي يعكس النص تغيرها.. مثل اختلاف سلوك عمر بن الخطاب من وأد ابنته قبل الإسلام، والغيرة الشديدة على نساءه بل ونساء الرسول حتى نزلت آية “الحجاب” لنساء بيت النبوة، وموقفه في “لم نكن نعد النساء أمرًا”، ونقده لبعض نسوة قريش اللاتي كن يسألن رسول الله ويعلو صوتهن فنهرهن والرسول يضحك، ثم هو بعد ذلك وبعد سنوات من الإسلام ومن تأديب القرآن والرسول هو عمر الذي لا يمنع زوجته من الذهاب لصلاتي الفجر والعشاء في المسجد لأن الرسول أذن لهن، وهو الذي يسمع صوت امرأة يعلو ترده في أمر المهور للآية القرآنية، وهو الذي يولي “الشفاء” حسبة السوق، ويقف طويلًا ينصت للمرأة التي نزلت فيها سورة المجادلة تنصحه مستوقفة إياه مليا في الطريق، ويتفقد الأرامل ويتحسس أحوال الرعية من النساء- زوجات وأمهات- ويأخذ من التدابير ما يحفظ لهن حاجاتهن واحتياجاتهن.

وبخلاف الفهم والنظر يصبح لدى الباحث مع الوقت والدراسة يقين لا في إثبات مسلمات لديه، بل في أنه إذا بحث وسأل واسترشد بالعلماء وظل بدأب يطالع سيجد من الله البرهان لما ينشد من حق وعدل.

وأخيرًا فإن من أهم الدروس كان: الدراسة المقارنة تكشف مساحات الفراغ البحثي، والأهم أنها تبرز التمايز والخصوصية، وتحفز التجديد والاجتهاد.

فلم يكن موضوع المرأة يكفي للوصل لرؤية دون العودة إلى السياقات أوسع لتعديلها مع إعادة:”تحرير” مسائل والقضايا، فالحديث عن المرأة والبيعة أو المرأة والشورى يستلزم بداية إعادة النظر في مفهوم وتطبيق الشورى في النظرية السياسية الإسلامية، فإذا كانت تفاصيل مثل: الفتنة والاختلاط وما شابه عند ممارسة الشورى أو البيعة قد تتخذ ذريعة لسد باب المشاركة، فإن تحديد حدود العلاقة الوسطية بين الجنسين ثم وضع آليات الشورى في زمن المؤسسات والتقنيات (وصولًا للانتخاب عبر الانترنت) يسقط الكثير من التحفظات، والكلام عن مشاركة المرأة في البرلمان قد يصبح لا دلالة له عندما نعيد قراءة فكرة التمثيل النيابي الديمقراطي ذاتها ونتساءل: هل الرؤية الإسلامية أقرب للديمقراطية النيابية أم للديمقراطية المباشرة؟ وهل الأحزاب والبرلمانات هي الصيغ الوحيدة أم يكن تفعيل مؤسسات للتمثيل مثل مسجد الحي أو مجلس القبيلة، أو المجالس المحلية.. وهكذا.

فقد بدأ البحث بالمرأة وانتهي بإعادة تقويم كثير من الأبنية والعلاقات السياسية نقدًا للرؤية الغربية السائدة وللرؤية الإسلامية التقليدية معًا وبرزت الحاجة لاجتهادات تحفظ مقاصد الرؤية الإسلامية الاجتماعية والسياسية، بل تمت في نهاية دراسة الماجستير إعادة تعريف السياسة ونقد حصرها في مساحة القوة والسلطة والبناء الهرمي والمؤسسات السياسية، وإدراك الحاجة إلى توسيع قاعدة “المجتمع” في الممارسة السياسية، وحين تصبح مساحة الاجتماع أكبر من مساحة النخب في الممارسة السياسية فإن المرأة يتم تفعيل دورها دون اعتساف أو افتعال لأن هذه مساحتها الأصيلة التي تتحرك فيها بين الهام والخاص بسهولة، في أبنية أكثر حساسية للإنساني والتراحمي.

أيضًا عندما نقرأ أفكار النسوية الغربية ونظريتها المعرفية ندرك أهمية التوحيد في علاقة الرجل بالمرأة، فتجسد الرب في جسد رجل في العقيدة التي آلت لها المسيحية.

بعد قرون كانت مصدر الثورة ضد الرب –الأب، أم في ظل منظومة الله فيها ليس كمثله شيء فأمام النساء مساحة الولاية العادلة والمساواة الإنسانية مع الرجال أمام الله، وبذا تصبح المقارنة مدخلًا لتعميق وشحذ النظرية دون وقوع في محاكاة،أو مجرد رفض ومناقضة.

ثانيًا: من العلوم الإسلامية للعلوم السياسية.. العودة برؤية كلية توحيدية

عندما اختارت الباحثة في دراسة الدكتوراه أن تبحث في موضوع المواطنة وتطور هذا المفهوم في الفكر الغربي الأنجلو أمريكي المعاصر كانت تحمل همًا سيظل معها بعد الانتهاء- إن شاء الله -هو وضعية الأقليات في المجتمع الإسلامي، ولأنه كما ذكرنا لا يهم من أين نبدأ بل أين ننتهي.. فإن الباحثة وجدت أن الحل الذي يقدم بديلًا للذمة وأهل الكتاب هو “المواطنة” وكأن المواطنة كلمة سحرية والعلمنة بلسم شاف، حسنًا، فلنبدأ من المواطنة، فإن وجدناها كذلك قبلناها.. (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) ومرة أخرى: لا افتراضات مسبقة ولا رجوع استظهار.. فلو وجدنا أن النموذج الليبرالي الغربي يحقق عبر المواطنة كرامة الإنسان بأكثر ما يحقق نموذج مؤسسي إسلامي موروث قبلنا النظام ووظفناه كما وظفت الدواوين والأختام وبقية الأدوات والمؤسسات.. لكن البحث سار عبره سنوات حتى الآن (لم تنته الباحثة بعد) في مسار مختلف.

بدأت الباحثة باقتراب تحليل المفاهيم.. ووجدت أن “فوكو” يتحدث عن التفكيك. كي نفهم نفكك المفهوم لجزئيات.. مواطنة = مواطن + دولة +علاقة + حقوق وواجبات +مناخ وطني ودولي + رؤية للمجتمع وعلاقات المواطنين..الخ،  فإذا أمكننا بعد هذا التفكيك رصد التغير في المكونات نكون قد أجرينا دراسة ممتازة حول: تطور المفهوم تشرح كيف تم وما هي الدلالات الإضافية للمفهوم، مثل: مواطنة مدنية /سياسية تطورت لمواطنة اجتماعية كانت انعكاس لتطور الدولة ووظائفها من دولة حارسة لدولة راعية /رفاهية  وتطور الإنسان من فرد سياسي لكائن اجتماعي، والجماعة من رؤية نفعية إلى عدالة اجتماعية في ظل ليبرالية رأسمالية.

ثم ماذا بعد؟ ماذا بعد أن شرحنا وفككنا؟ هل هذا التطور له دلاله فلسفية؟ هل هو “جيد” بالمعنى الفلسفيوالسياسي.. وهل قادتنا هذه الدراسة “لفهم” أي شئ؟

كان هذا هو السؤال الذي برز في ذهن الباحثة وهي ترصد تطور هذه المواطنة الاجتماعية العادلة إلى مواطنة جنسية تركز على حقوق الشواذ وجماعات النسوية تركز على حقوق المرأة، وجماعات الأقليات العرقية تركز على المواطنة الثقافية وحقوق الأقليات الثقافية أو المواطنة متعددة الثقافات، فهل هذا مؤشر تعددية محمودة أم مؤشر تشظى وتفتت للهويات والأهداف، وتحول جماعة المواطنين إلى “جماعات” مواطنين ليست بالضرورة متفاعلة بل متجاورة في لا مبالاة سياسية تحت شعار “التسامح”، وأن المآل هو مجتمع اللا انتماء الذي تنخفض فيه المشاركة الانتخابية ويشهد عزوفا عن المشاركة في قضايا الوطن بل وزهدًا في الدفاع عنه..

كيف نفسر التحول ثم كيف نحدد إذا كان هناك ثمة مشكلة أم أن التطور جيد، أو ربما هو ليس جيد ولا سيئ.. بل ربما حتمي؟ (نهاية التاريخ؟) هل نحكم على التطور من سياق أو باردايم (رؤية كلية) مقابلة أخرى أم نحكم عليه ونفهمه من داخله؟

تعلمت الباحثة من القرآن (في الماجستير ) أن يتم فهم آليات ومنطق الرأي من داخله.. واختارت أن ترد التطور إلى قيم المنظومة الليبرالية نفسها، فبدأت بالحداثة، وتصوراتها للإنسان، والدولة، والجماعة، ثم رصدت التطور ولماذا تم، فوجدت أن “فوكو” لا يقدم لها أدوات كافية لتفسير التطور.. ووجدت أداة التفسير في الوسيلة ذاتها التي حركت التطور وهيمنت عليه ثم تحولت من أداة إلى رؤية حاكمة يخضع التطور لآلياتها وهي العلمنة.. نزع القداسة عن الله وإعطاءها للإنسان كمركز للكون، ثم اكتشاف أن الإنسان دون “تجاوز” و”ما وراء” هو مادة، وبالتالي خضوعه (إخضاعه) لقوانين المادة، وتحول العلوم الاجتماعية في منهاجيتها وموضوعاتها إلى هذا الطريق، ومع الانتقال من الإنسان/ المواطن في الوطن المقدس (من بقايا قداسة الله) إلى الإنسان المواطن المادي النفعي النسبي ثم التركيز على مصالحه النفعية النسبية، وقيمة النسبية ولأنه مادة فهو جسد وحسب، وبالتالي يصبح غاية مواطنته هو تحقق جسده.. ومن هنا هذا الاهتمام بالجسد.. لكنه اهتمام بالجسد في منظور مادي، وبذا فهو يختزل الجسد في المتعة، فهو مرجعية ذاته وغايته النهائية.. وبذا يدخل الجنس (حقوق المخادنة وحقوق الشذوذ) في المواطنة.. وهكذا.

وبذا فإن النهايات والمآلات لا توافق البدايات التي كانت تتحدث عن إنسان عاقل رشيد ومجتمع مواطنين متساويين في وطن واحد بل آل الأمر إلى أمور أخرى؟ فأين المشكلة؟

المشكلة في تفسخ المفهوم حتى يصفه البعض بأنه حدث له انفجار، وتفسخ المكونات بالتالي: الدولة ـ الإنسان ـ الجماعة ـ الهوية ـ والبيئة (العولمة).

فهل هناك أزمة أم أن هذا “جيد” بالمعنى السياسية؟ حرية وعدالة وحقوق إنسان ومساواة؟ (لاحظ: قيم مطلقة!!)

لا تظهر الأزمة إلا إذا وضعت في مقابلها (كما فعل نقاد الحداثة والليبرالية من داخل النسق الغربي) إحصاءات التردي الاجتماعي، ومعدلات الجريمة ـ وانهيار مؤسسات المجتمع وأولها الأسرة، وتزايد العنف الاجتماعي ثم العنف العسكري (الإبادة الجماعية) للآخر (وتوظيف التكنولوجيا في ذلك بمهارة) وهكذا.

الأمر لا يفيد فيه فوكو، فهو لا يزودنا بتوجيهات أو إرشادات تشغيل نجمع بها الأجزاء التي تفككت من الكل الذي بدأنا به، لابد من رؤية كلية.. تجمع الشتات وتعيد ربط الأجزاء وتقويم التحولات والتغير.. والتقويم لا يعني فقط الحكم عليه.. بل “تقويمه” أي رده لمقاصده التي بدأ بها، وجمع الفئات ربما بذات الفلسفة التي انبنى عليها مع تقويمها هي الأخرى لتجنب المآلات التي تناقضت مع الرؤية المثالية.

تلك الرؤية وجدتها الباحثة في المدرسة الفلسفية الألمانية التي لم تفقد “المتجاوز”  و”الما وراء” أبدًا، بل ظلت تؤمن به في التاريخ، وفي الإنسان والظواهر الإنسانية، وفي المعاني والمفاهيم، وبتوظيفها يتم جمع الشتات المادي في رؤية ترصده وتقومه.

فوكو لا يصلح.. جادامير وهابرماس أكثر تفسيرية (وليسوا “أفضل” أو “أسوأ”..فقط أكثر تفسيرية) في تحليل مايحدث حين يغيب المتجاوز / الما وراء.. وتسود المادية الطبيعة فقط.

ونعود للمفهوم..هل تكفي “إعادة بناءه” Reconstruct أم نحن في حاجة إلى إعادة إدراكه ابتداءً Re-conceptualize ! وأين هذا من الإسلام؟ وما صلته بالخبرة البحثية في الماجستير؟ مع الفقه والحديث والقرآن؟

 ___________

هوامش

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة ابن خلدون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى