محاكمة جارودى: محاكمة الفكرة وآليات الانتقاء

بينما كانت فرنسا تحتفل بمرور مائة عام على كتابة ” اميل زولا مقاله الشهير ( إني أتهم)، على الصفحة الأولى لجريدة (لورور)، والذي وجه خلاله رسالة إلى الرئيس الفرنسي حينذاك (فيلكس فور) في 13 يناير 1898 للدفاع عن الضابط  اليهودي (ألفريد دريفوس ) الذي نفى إلى أمريكا اللاتينية، بعد إدانته بالتجسس لصالح ألمانيا، كانت تجري في الوقت ذاته محاكمة كاتب فرنسي آخر هو ” روجيه جارودي ” بتهمة مخالفة قانون يحظر مناقشة قرارات محكمة نورمبرج التي عقدت بعد الحرب العالمية الثانية .

وثارت تساؤلات عن كيف أن فرنسا التي تكرم اليوم جرأة زولا، هي نفسها التي تحاكم جارودي كمجرم.

وبينما كانت كلمات زولا هي السبب في إعادة محاكمة الضابط اليهودي التي انتهت إلى تبرئته، فإن فرنسا ربما ستحتفل عام 2098 بمرور مائة عام أيضا على مساندة الأب بيير لجارودي وتشجيعه له في الدفاع عن رأيه .

لماذا المحاكمة ؟

والحقيقة أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها تقديم جارودي للمحاكمة  فقد قدم إليها منذ خمسة عشر عاما بعد نشره بيانا في صحيفة ” لوموند” الفرنسية يدين فيه الغزو الإسرائيلى للبنان، ويعتبره أحد أشكال التعبير عن الصهيونية .

ويومها قامت ” الرابطة العالمية لنصرة الشعوب ومكافحة العنصرية ” (ليكرا) برفع دعوة ضده انتهت بتبرئته وتحميل الجماعة مصاريف الدعوى.

أما هذه المرة فهناك تهمة أخرى هي التشكيك في عدد ضحايا المحرقة اليهودية والتي اعتمدت محكمة نورمبرج رقما رسميا بشأنه هو  “ستة ملايين ضحية ” وكان جارودي قد نشر كتابا له بعنوان ” الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية” عام 1995 وتم توزيعه على نطاق محدود قبل أن يعيد جارودي نشره على نفقته الخاصة أوائل عام 1996، وفند فيه الأساطير التي قامت عليها إسرائيل، وهي في نظره تسعة، ثلاث منها انتزعت من العهد القديم وهي الأرض الموعودة، الشعب المختار، التطهير العرقي الذي ورد في سفر يشوع، وستة معاصرة تتعلق بمعاداة الصهيونية للفاشية، عدالة محكمة نورمبرج، ملايين الهولوكوست ” الستة، فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، المعجزة الاقتصادية الإسرائيلية .

وهذا الكتاب هو الجزء الأخير من ثلاثة كتب بدأت بكتاب ” ملف إسرائيل ” ثم “فلسطين أرض الرسالات الإلهية” إلا أن تعرض جارودي في كتابه الثالث إلى التشكيك في رقم الملايين الستة الذي يروج له الصهاينة، وإعلانه أن هذا الرقم تمت زيادته لابتزاز الدول الأوربية والحصول على مساعدات منها هو ما أوقعه تحت طائلة القانون الذي يحاكم بموجبه ” فابيوس جايس ” والذي صدر في 13 يوليه 1990.

ومن المهم الإشارة لأن القانون صدر في ظروف حملة جرت عام 1990 لنبش بعض قبور اليهود في فرنسا، وهو ما استغلته المنظمات الصهيونية هناك من أجل إخراج هذا القانون مستغلة موجة التعاطف مع اليهود في ذلك الوقت وهو ما حدا بالسيد  “توبون”  وزير العدل في حكومة آلان جوبيه السابقة للقول ” أنه ليس قانونا ضد العنصرية، أنها عملية تلاعب .. سيطرة سياسية، إن القانون الذي يصوتون عليه يستجيب فقط لمسرحية إعلامية “(1).

مدلول الانعقاد.

مما لاشك فيه أن المحاكمة ذاتها قد أثارت دهشة الكثيرين، وبخاصة خارج فرنسا التي ينظر إلى شعار ثورتها الحرية والإخاء والمساواة بتقدير واحترام شديدين، وإذا كانت المنظمات الصهيونية قد حاولت الربط بين الذكرى المئوية لمقال إميل زولا ” اني اتهم ” وبين محاكمة جارودي للتدليل على أن اضطهاد اليهود لا يزال مستمرا في فرنسا إلا أنه فيما يبدو أن النتيجة جاءت عكس ذلك، إذ ثارت تساؤلات كثيرة عن وجود محرمات داخل الحياة الفكرية الفرنسية، وعن المفارقة في أن احتفال فرنسا بهذا المقال الجرئ قد واكبه ما اعتبر في نظر البعض إرهابا فكريا لكاتب آخر كان – قبل إصدار الكتاب – محل تنافس من دور النشر العالمية على نشر كتاباته.

ولأن المدعين على جارودي قد حاولوا الربط بين اعتناقه الإسلام في أواخر السبعينيات وبين كتابه الذي اعتبروه موجها ضد اليهودية والسامية، فقد برز على الفور الموقف الفرنسي المؤيد بشدة للكاتب المسلم البريطاني الهندي الأصل سلمان رشدي الذي كان قد أصدر كتابا بعنوان ( آيات شيطانية ) أثار جدلا واسع النطاق وقفت فيه وسائل الإعلام الفرنسية بالذات متخذة جانب الكاتب، مؤكدة على حقه في حرية التعبير وعدم جواز الاعتراض بغير الوسائل الفكرية، على ما يكتب، وفي هذا الصدد كتبت إحدى الصحف العربية(2)” عندما هاجم سلمان رشدي في كتابه نبي الإسلام، وقف الإعلام الغرب يدافع عن العبقرية الفذة لكاتب هندي متوسط القيمة وخصصت انجلترا حراسة مشددة حرصا على حياته .. وعندما يقف جارودي أمام القضاء الفرنسي ليحاكم بتهمة العيب في الذات الصهيونية لا يجد من يدافع عنه!..”

 

 

المحاكمة : ردود الفعل واتجاهات التفاعل .

أثار انعقاد المحاكمة ردود أفعال واسعة النطاق داخل فرنسا وخارجها وتحديدا في العالمين العربي والإسلامي . وقبل أن نستعرض ما أثارته من آثار داخل فرنسا ذاتها نشير إلى أن  التوقيت الذي صدر فيه الكتاب كان عاملا هاما في بلورة ردود الفعل تجاه الكتاب والكاتب .

فقد أصدر جارودي كتابه أواخر عام 1995 أي بعد خمسة شهور على صدور تصريح شهير للرئيس الفرنسي جاك شيراك عن مسئولية الفرنسيين الجماعية، ومسئولية الدولة الفرنسية عن ملاحقة اليهود داخل الأراضي الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية .

قد تلى هذا التصريح صدور بيانات اعتذار علنية لليهود من طرف الكنيسة الكاثوليكية والشرطة والإدارات الفرنسية . وقد استاء كثير من الفرنسيين لهذا التصريح باعتباره مهددا للوحدة الوطنية . وفتحا لصفحة جديدة يجب أن تطوى .

ويستفاد مما سبق أن جارودي قد اختار اللحظة السياسية الداخلية النفسية المناسبة لنشر كتابه – أو ربما المصادفة البحتة التي جعلت نشر الكتاب مناسبة صريحة لخوض مواجهة علنية في الأساطير الصهيونية وقد ألقى هذا الجو بظلاله على مواقف المؤسسات والأفراد من الكتاب . إذ لوحظ أن الكنيسة الكاثوليكية التي كان قد سبق وقدمت هذا الاعتذار لليهود شنت هجوما على أبرز مؤيدي جارودي داخل فرنسا وهو الأب بيير وقامت بإصدار بيان “يرثي تورط الأب بيير إلى جانب روجيه جارودي”(3). وهو البيان الذي أثنى عليه رئيس مجلس المعاهد اليهودية في فرنسا واعتبره ” تهميشا لجارودي”.

والأب بيير هو أحد رجال الكنيسة الفرنسية ويحظى بشعبية كبيرة في فرنسا وله تاريخ طويل في المقاومة ضد الاحتلال النازي، وفي مساندة الفقراء والمشردين وتوفير المساكن لهم في حملة شهيرة قادها في العاصمة باريس عام 1954، وقد أصدر اعتذار علنيا للفلسطينيين في غزة عن مسئولية أوربا عما حل بهم(4)، كما يحتفظ بصداقة حميمة مع جارودي عمرها 40 سنة واعتبر كثيرون أن السند الحقيقي لجارودي كان هو الأب بيير وأن موقفه الداعم له والمؤيد لكتابه كان ذا أثر هام في عدم استجابة السلطات الفرنسية للأصوات التي تصاعدت عند صدور الكتاب مطالبة بمصادرته، كما كان له أثر هام في تخفيف الحكم على جارودي كما سيرد لاحقا.

وقد حاول المتضررون من الكتاب حرمان جارودي من هذا الغطاء بأسلوبين ”

الأول هو الإدعاء بأن بيير لم يؤيد جارودي، وأن الأخير قد تحايل للحصول على دعمه المعنوي للكتاب من دون قراءته، وهو ما نفاه بيير نفسه ورفضه كثيرون أشاروا لأن “عاقلا لا يمكن أن يصدق أن شخصية دينية بثقل الأب بيير أو وعيه بالحساسية الدينية والسياسية لتهمة معاداة السامية .. يمكن أن يتعامل بمثل هذه البساطة والخفة مع مثل هذا الموضوع، ويقدم تأييده المعنوي لكتاب صديقه جارودي دون أن يقرأه(5).

أما الأسلوب الثاني فهو الضغط على الأب بيير ذاته، وهو ما حدث من جهات عديدة أولهما ( الليكرا ) ذاتها التي أسقطت عضوية بيير، وشنت عليه حملة تشهير لوحت باتهام الأب بيير هو الآخر بمعاداة السامية، وكان للصحافة الفرنسية دور في الضغط على بيير حيث ظهر في إحدى الصحف خبر بعنوان ” الأب بيير عشيق كارولين أميرة مونت كارلو، إضافة للبيان الذي أصدرته الكنيسة الفرنسية والذي أشرنا إليه توا.

إزاء ذلك قرر الأب بيير ترك فرنسا، ونفى نفسه إلى دير إيطالي ولم ينفع ذلك إذ طلبوا منه الاعتذار(6)، إلا أنه استأنف تأييده لجارودي بقوه فيما بعد وبعث اليه برساله لخص فيها المشكلة بقوله ” الحركة الصهيونية الموجودة في الولايات المتحدة وفي كل الأماكن الاستراتيجية، لديهم عملاؤهم السريون في فرنسا وخارجها، ويوما بعد يوم تتضح سلطتهم العنصرية والامبريالية في التعامل مع الفلسطينيين..(7)

أما العالم العربي والإسلامي فإن تعبير ( الصدمة ) يبدو هو الأدق في وصف الانطباع الذي ساد فيه، وتجلى ذلك في شكل أسئلة طرحها أحد الكتاب(8) بقوله هل حقا تقدم فرنسا للمحاكمة رجلا بسبب أفكاره ؟ .. هل هي فرنسا التي تقدم فيلسوفا إلى القضاء في نهاية القرن العشرين ؟؟ هل حقا هي فرنسا التي نشرت الوجودية الملحدة من دون اعتراض؟ هل الشك بالعزة الإلهية أكثر سهولة من الشك بعدد ضحايا الهولوكوست .. لماذا تنسى فرنسا أنها فرنسا؟”

وعبر آخر عن رأيه في المحاكمة بقوله ” ان محاكمة جارودي ليست إلا محاكمة المجتمع الفرنسي ذاته، ومحاكمة الثقافة والتاريخ الفرنسيين”(9) وسرعان ما تم الربط بين اعتناق جارودي للإسلام وبين محاكمته، وهذا الربط رغم سرعته إلا أنه لم يكن متسرعا كما ادعى البعض بقوله(10)” فإذا زعم زاعم أن جارودي مضطهد في فرنسا، أو أنه يحاكم لأنه اعتنق الإسلام فهذه أسطورة من الأساطير المؤسسة للنشاط السياسي المتستر بالإسلام مثلها مثل الأساطير المؤسسة للصهيونية المتسترة باليهودية ” إذ أشار محامي جارودي ذاته إلى ذلك بقوله في مرافعته ” سيدي القاضي، سيداتي وسادتي : يوجد عيبان في السيد جارودي : الأول أنه فرنسي والثاني أنه مسلم”(11).

وكان يشير بذلك لأن جارودي لم يكن أول من شكك في رقم الضحايا اليهود بل سبقه في ذلك كثيرون من بينهم يهود.

وقد تم التعبير عن الاتجاه المؤيد لجارودي في شكل الكثير من الممارسات إذ عقدت الكثير من الندوات والمؤتمرات لمناصرة جارودي، وكان جارودي نفسه مشاركا في العديد منها، وتوالت عليه رسائل التأييد والمناصرة والتعبير عن التنديد بالمحاكمة كما ورد في رسالة الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب ” أن الاتحاد يدين هذه المحملة الصهيونية الظالمة على جارودي ويشجب الممارسات ضده ويعرب عن دهشته لمثل هذه المحاكمة الجائرة التي تمنع البحث والتفكير “(12).

وفي الدوحة تم تشكيل لجنة مناصرة لجارودي ضمت عددا من المفكرين والكتاب، وانضم إلها عدد آخر من القاهرة من بينهم محمد حسنين هيكل، ومحمد سليم العوا، وعبد الوهاب المسيري ..” وتبرعت لها الشيخة فاطمة بنت مبارك زوجة الشيخ زايد ب50000 دولار”(13).

وفي طهران انتقدت اللجنة الإسلامية لحقوق الإنسان في طهران المحاكمة واعتبرتها عدوانا على حرية الرأي(14).

كما أرسلت جماعة علماء المسلمين في بريطانيا رسالة تأييد لجارودي أعربت فيها عن قلقها الشديد لهذا الحدث الخطير ” الذي يخشى أن يكون بدءا لعصر جديد من عصور محاكم التفتيش وعودا إلى عهود القرون الوسطى الظالمة، وسحقا للجهود الكبرى التي بذلها رعاة التحرير في العصر الحديث في سبيل الحرية وحقوق الإنسان “(15)، هذا بالإضافة إلى عقد ندوة موسعة في القاهرة حضرها جارودي ضمن أعمال المعرض الدولي للكتاب خلال شهر فبراير 1998، وقام بشن هجوم حاد على الولايات المتحدة واسرائيل وأدان استمرار عمليات التفتيش على الأسلحة العراقية ودعا إلى انسحاب الدول العربية من منظمة الأمم المتحدة، ومقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية(16) ولم يمنع هذه التأييد من ظهور أصوات أخرى طالب بعضها بالتريث في اتخاذ موقف حيث أشار أحد الكتاب لأن محاكمة جارودي هي محاكمة مواطن فرنسي على اتهامات مجالها الأرض الفرنسية، وهي مسألة داخلية وليست ذات صلة مباشرة وحتمية بجوانب الصراع العربي الإسرائيلي(17)، وأشار آخر إلى مفارقة هامة في تأييد العرب لجارودي بقوله ” إن من يرى التاييد العربي الجامح لجارودي يعتقد أن القانون عندنا في عالم العرب مصان والحرية أو الحريات لا تمس، وأننا غارقون في الديمقراطية حتى الثمالة.. ويعتقد أنه لم يضطهد عندنا مفكر أو يسجن صاحب رأي وأن سجوننا لم تشهد معتقلا سياسيا واحدا في تاريخها العريق”(18) أما المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد فقد شن هجوما حادا على جارودي أدان فيه التغيرات الجذرية التي يمر بها كل فترة في إشارة لأنه كان ماركسيا قبل إسلامه واصفا إياه بأنه يبحث عن إله جديد كل فترة، وأن أغلب ما جاء في كتابه عبارة عن اقتباسات من مصادر مختلفة ولا وجود لرأي واضح له”(19).

ممارسات المحاكمة، وأليات الدفاع

نشير بداية إلى نقطتين أساسيتين

الأولى : أهمية المحاكمة بالنسبة للوبي الصهيوني في فرنسا ؛ حتى أن الجمعيات اليهودية رافعة الدعوى قد جندت أربعة عشر مكتبا للمحاماة إضافة لعدد كبير من الشهود.

الثانية : أن المحاكمة لم تقتصر على الافكار الواردة في الكتاب . وأن القاضي بدأ المحاكمة بمفهوم واسع للقضية، إذ سأل جارودي عن تحولاته الفكرية قبل أن يطلب إليه سرد سيرة حياته الفكرية كاملة، كما تمت الإشارة إلى جارودي في عريضة الدعوى على أنه ” روجيه جارودي الذي يدعي أنه كاتب”(20).مما دفع إلى التساؤل حول إحتمال تعرض المحكمة إلى ضغوط من جهة ما، وقد أشار جارودي نفسه لذلك بقوله ” إنني أعلم أن القاضي رجل كبير السن على شاكلتي، وسوف يحال على التقاعد قريبا فإذا أدانني فإنه في واقع الأمر يخاطر بسمعته، وإذا لم يدني فإنما يخاطر بوظيفته أيضا”(21). كما ألمح جاك فيرجس محامي جارودي لذلك ” القضاة في فرنسا لا يقيمون فوق كوكب المريخ، وإنما يعيشون في أجواء من الضغط ولو غير المباشر .. وأرى أن القاضي في هذه القضية لا يحتاج إلى الشجاعة فحسب بل إلى البطولة ليحكم بالحق”(22).

وقد سارت استراتيجية الدفاع في اتجاهين ..

الأول : تعلق بالكتاب موضوع المحاكمة إذ أوضح جاروي أنه يحترم الديانة اليهودية، وأن خلطا ما قد حدث بين مصطلحي الصهيونية واليهودية وعبر عن ذلك بقوله ” وبالطبع فإن المدعين لم يقدموا إلينا مرافعتهم، ذلك لأنها تتلخص في هذه القضية التي تتعلق بالنوايا : ليجعلونني أقول يهودي في كل مرة أقول فيها صهيوني”(23).

الثاني : تعلق بالقانون الذي تتم المحاكمة وفقا له، فقد شن المحامي فيرجس هجوما حادا على القانون واصفا اياه بعدم الإنسانية، والعنصرية، وأنه استبعد كل ضحايا المذابح والجرائم الأخرى التي ارتكبت في العالم، وأشار إلى ذلك بقوله ” السيد جيسو، وقانونه قاموا بفرز جثث الأطفال والنساء “(24).

ثم ينهي مرافعته بقوله : ما يطلبونه منكم اليوم بمقتضى هذا القانون الآثم هو أن تقوموا بحراسة أكذوبة، ما يطلبونه منكم هو أن تقودوا قضية ضد حرية الفكر ستجعل من فرنسا أضحوكة .. وعليكم الواجب في أن تقولوا، لا  من أجل شرف فرنسا والجمهورية “(25).

الإرهاب الصهيوني قبل الحكم،..وبعد‍‍‍‍ه .

قبل أن يصدر الحكم تظاهر 50 عنصر من أنصار حركة بيتار الموالية للصهيونية وضجت ساحة المحكمة بهتافات إسرائيل ستبقى، إسرائيل ستحيا،الموت للفلسطينيين، كما حاولوا الاعتداء على صاحب دار النشر التي نشرت الكتاب.

أما قرار المحكمة فكان :” إدانة جارودي وفقا للتهم الخمس الموجهة إليه والتي تدور حول التشكيك بحقيقة الإبادة التي تعرض لها اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، ووجود غرف الغاز، والخلط بين الديانة اليهودية والنظرية الصهيونية، كما حكم عليه بأداء غرامات مالية متعددة قيمتها 120 ألف فرنك فرنسي “(26).

هذا وقد وصف الحكم بأنه ” معتدل ” مقارنة مع أحكام القانون الفرنسي الذي ينص على عقوبة السجن لمدة سنة وغرامة مالية تقدر بحوالي 300000 فرنك فرنسي.

وقد تلى الإعلان عن الحكم تظاهرات من مؤيدي اللوبي الصهيوني، أعقبها الأعتداء على صحفيين مصريين في محطة مترو أنفاق بباريس نتج عنه إصابتهما إصابات بالغة ” كما طرح صحفي إيراني أرضا وضرب بعنف(27).

السؤال الذي يطرح نفسه الآن ..

لماذا لم تأخذ شبكة  C.N.N. –وغيرها_ خبراً بأنباء المحاكمة، مع أن مراسليها لا يفتئون يكررون علينا أنهم منتشرون في أنحاء العالم كله لبث الأحداث أولا بأول ؟

لماذ لم توفر الشرطة الفرنسية الحماية لأصحاب المكتبات التي قامت بنشر الكتاب وتعرض أصحابها لإعتداءات مستمرة حتى توقفت عن بيع الكتاب؟

لماذا لم يستقبل الرئيس الأمريكي –بيل كلينتون روجيه جارودي لكي يدعم حقه في التعبير عما يعتقد كما فعل مع سلمان رشدي؟

الإجابة تبدو واضحة : فحقوق الإنسان لم تعولم بعد، ولا يبدو أنها ستعولم طالما أن عولمتها ليست في مصلحة من ينادون بالعولمة ويعتبرونها وجها أخر للحتمية التاريخية.

_________________________

إشراف : أ.د. سيف الدين عبد الفتاح

الهوامش

(1) أخبار الأدب، 15/2/1998، نقلا عن الجريدة الرسمية الفرنسية ص 929

(2) العالم اليوم، 18/1/1998.

(3) محاكمة جارودي، القاهرة، دار الشروق، ط1 1998، ص 64

(4) الحياة، 16/1/1998

(5) فؤاد السعيد، آليات بشعة لتشوية الفكري، الحياة، 30مارس 1998.

(6) العالم اليوم، 21/2/1998.

(7) محاكمة جارودي، مرجع سابق ص 30.

(8) سمير عطا الله، الشرق الأوسط، 16/1/1998.

(9) أحمد عباس صالح، روجية جارودي المفكر الحر، الشرق الأوسط 16/1/1998

(10) أحمد عبد المعطي حجازي، الأهرام، 18/2/98.

(11) محاكمة جارودي، مرجع سابق ص 136

(12) الشرق الأوسط، 17/1/98

(13) المجتمع، العدد 12،85 20/1/98

(14) الشرق الأوسط 13/1/98

(15) الحياة 16/1/98

(16) الأهرام 16/2/98

(17) محمود الريماوي، الحياة 22/1/98

(18) نبيل خوري، الأهرام 22/2/98

(19)العالم اليوم 8/3/1998

(20) محاكمة جارودي، مرجع سابق ص 29

(21) حوار مع جارودي أجراه د. قيس جواد الغمراوي، العالم 18/1/98

(22) حوار مع جارودي أجرته أنعام كجه جي، الشرق الأوسط 27/2/98

(23) محاكمة جارودي، مرجع سابق، ص

(24) محاكمة جارودي، مرجع سابق، ص 129

(25) محاكمة جارودي، مرجع سابق، ص149

(26) الحياة، 28/2/98

(27) الوفد، 1/3/98

  • نُشرت هذه الدراسة في: أمتي في العالم.. الأمة والعولمة، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية،1999).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى