“كيف يتشكل عالمنا العربي الإسلامي في الحقبة الراهنة؟”
تقرير القاء التاسع من منتدى الحضارة


تقديم: دواعي اختيار الموضوع والتفكير فيه (د. مدحت ماهر)
هذا هو اللقاء التاسع من منتدى الحضارة الذي يدور تحت عنوان “جديد العلم والعالم”. واليوم نحن مع جديد العالم، وبالأخص مع عالمنا العربي والإسلامي، بعد أن كنا في الأمس مع جديد العلم في اللقاء الماضي حول “حوارات المعارف والعلوم الاجتماعية والإنسانية”.
وهذا اللقاء يدور حول تحولات منطقتنا. والحقيقة أننا حين وضعنا الفكرة أو الموضوع، كنا نفكر في المنطقة العربية بجوارها الحضاري الإسلامي وما جَدَّ عليها من تطورات متلاحقة لا تتوقَّف، وفي القلب منها المقاومين في فلسطين ومن حولهم وأنصارهم.
لكن الحقيقة نحن نمر بتغيرات أكبر مما تملكه قوة واحدة، ووصلنا إلى صورة من صور التشكل وإعادة التشكيل، وطرحنا السؤال فيما بيننا وبين أستاذتنا الدكتورة نادية حول الوصف الذي تتَّسم به المنطقة والأسئلة الأجدر بالتناول: فكنا نتكلم عن من يُشَكِّلُ المنطقة؟ لكن وصلنا إلى أن السؤال الأجدر هو: كيف تتشكَّل هذه المنطقة؟ ثم غيَّرنا لفظ المنطقة وعدنا إلى تعبير أفضل من وجهة نظرنا وهو “عالمنا العربي الإسلامي” عسى أن نتقدَّم نحو مفاهيمنا الأكثر تعبيرًا عما نؤمن به: أمتنا ووطننا العربي والإسلامي. إذ إن مفهوم المنطقة هذا -أثناء التحضير- وجدناه باردًا ويفصلنا عن عالمنا وعن وطننا وعن أمتنا بالمعنى الحضاري.
كلنا نتابع ونعيش التغيرات والتحولات والتشكُّلات الكثيرة التي تجري في فلسطين وفي لبنان وفي سوريا وفي السودان، وفي اليمن. وننتظر مع مجيء هذا الترامب، إذ من المتوقَّع أن تحدث أشياء متعدِّدة في الخليج، وربما تحديدًا في العراق. وبالطبع هناك تغييرات في المغرب الأقصى، وتغييرات في تونس، وكذلك في مصر. وفي كل مكان هناك تغييرات لكن النظرات إليها تتعدَّد بتعدُّد المنظورات كما تتباين في درجاتها بثقل النظر.
لذلك آثرنا أن يكون لقاؤنا هذه المرة حول موضوع بعنوان “كيف يتشكل عالمنا العربي الإسلامي.. في الحقبة الجارية؟” مع خبير يتمتع بثقل الذاكرة العلمية والبحثية وثقل المنظور المركَّب بتركُّب الظاهرة الدولية والسياسية كما نعيشها الآن. ولذلك طلبنا من أستاذتنا الدكتورة نادية مصطفى أن تقود هذا اللقاء. فأستاذتنا الدكتورة نادية من أقدر الناس على أن يقوموا بهذه المهمة بما عندها من تراكم و تركيب، ومن رؤية عميقة ودقيقة في متابعة ما يجري في العالم، وقدرة على الربط بين الأشياء، كما تتميَّز أستاذتنا برؤية “فرقانية” تميز ما بين بين الأشياء التي يختلط فهمها على البعض.
محاضرة “كيف يتشكل عالمنا العربي الإسلامي في الحقبة الراهنة؟” (د. نادية مصطفى)
إن هذا اللقاء يحمل في بدايته، وكما سيتضح من مضمونه، تحيةً وشهادةً ذاتية. تحيةً في البداية إلى أساتذتي الذين كان لهم الفضل أن أتبين مسار الفكر والنظر والعمل من منظور حضاري مُقارن منذ أكثر من أربعة عقود. فمن خلال مساري معهم وبهم وبعدهم تكوَّنت خريطة معارفي وأفكاري كما تبلْورت خريطة جهودي. وهي ليست جهودي بمفردي بقدر ما هي جهود جماعية جاءت نتيجة تبنِّي مفاتيح مفاهيمية ومعرفية تمثل أساس المنظور الحضاري.
ولذلك أوضح، أولًا- هذا اللقاء ليس محاضرة علمية بالمعنى التقليدي الذي اعتدت عليه، ولكن يمكن وصفه بأنه شهادة ورسالة ذاتية عما يجتاحني منذ 7 أكتوبر وصولًا للحظة الراهنة التي نعيشها. وأقول ذاتية بالمعنى الرشيد وليس ذاتية بالمعنى المتعصِّب؛ ذاتية بالمعنى الذي أخذناه عن أستاذنا الدكتور المسيري حين يقول إن الذاتية هي أساس التحيز، وإعلان التحيز هو قمة العلمية، إذا كان هذا التحيز مُبررًا ومسندًا بحُججِه وانطلاقًا من رؤية ومرجعيةٍ معرفيةٍ ذاتية للأمة.
تقسيم المحاضرة
هذه المحاضرة أبدأها بمقولة تلخص الفكرة الأساسية التي صاحبتْني طيلة أجزائها ثم يليها كما اعتدتم مني دائمًا مجموعة من المقدِّمات التي أقول فيها: لماذا اخترت هذا الموضوع؟ ولماذا مفردات العنوان على هذا النحو؟ ثم أنتقل في ثلاثة أجزاء تمثل صلب المحاضرة.
الجزء الأول: أتحدَّث فيه عن من يحفِّز التشكُّل؟ ولماذا؟ وكيف؟ ومن يهدِّد عالمنا العربي الإسلامي ويتحدَّاه الآن وعبر التاريخ، وعلى نحو يسْهم في تشكيلنا وتشكيل عالمنا؟ ومن الذي يقاوم؟ لا أتكلم فيه فقط عن ذاكرة تاريخية، ولكن أتكلم عن ذاكرة تاريخية تصل بين الماضي وبين طوفان الأقصى وتداعياته في الجوار الحضاري في سوريا ولبنان وفي إيران وفي تركيا وفي بقية عالمنا العربي الإسلامي.
الجزء الثاني: أتحدَّث فيه عن علامات التشكُّل أو التشكيل الحالية؛ فاستخلص من واقع هذه الشهور الـ 15 دلالات معينة عن ماذا يتشكل؟ وكيف نقاومه بتشكل مضاد؟
الجزء الثالث والأخير: أقف فيه مع نفسي ومعكم لأجمع خيوط تحذيرات وتنبيهات لحالة المقاومة الآن في عالمنا العربي الإسلامي من موقع ماذا ننتظر فيما بعد؟ وما المطلوب منا حتى لا يصبح طوفان الأقصى مجرد واقعة وأحداث تنتهي؟ ولكن أن يصبح روحًا سارية في هذه الأمة؛ حتى تتمكن من التجدد الحضاري والنهوض مرة أخرى ومقاومة كل من يهدد أركانها وخصوصيتها.
مقولة المحاضرة
أبدأ بمقولة المحاضرة وهي: “يتشكل عالمنا العربي الإسلامي وفق سنة إلهية من خلال التدافع والتداول بين قوى الداخل المتقابلة ولا أقول المتصارعة من ناحية، وبينها وبين العدو الرئيس الخارجي لنا عبر التاريخ استعمارًا كان قديمًا أو حديثًا (يتمثل في لحظتنا الراهنة في الغرب وإسرائيل والصهيونية) من ناحية أخرى”.
والخارج الذي أقصده سواء دوليًّا عالميًّا أو إقليميًّا وإن كان قد اشتدَّ اختراقه منذ عقود لعالمنا العربي الإسلامي إلى درجة التدخل المباشر في الشؤون الداخلية والإقليمية، ليس السياسية والعسكرية فقط، ولكن الدينية والثقافية والحضارية أيضًا، فإنه واجه ويواجه دائمًا مقاومة حضارية شاملة اشتركتْ أحيانًا فيها النظم حين كانت قادرة أو راغبة في هذه المقاومة، ولكن عادةً ودائمًا كانت الشعوب هي التي تقوم بهذا الدور في ظل تزايد الفجوة بينها وبين النظم والدول التي تحتويها.
وقد كشف طوفان الأقصى ثمَّ ما تبعه من عدوان في الحقبة الراهنة من عالمنا العربي الإسلامي بجلاء على هذا الجديد في التدافع والتداول والجهاد والمقاومة.
ولقد تقاطع وتشابك هذا الطوفان الأقصى، ونواته غزة في فلسطين، مع جواره الحضاري وليس الدول المجاورة جغرافيًّا فقط؛ إذ امتدَّ جوارُه الحضاري إلى لبنان وسوريا واليمن وإن كانت بعيدة جغرافيًّا، مع إيران وتركيا، فهما جوارنا الحضاري وليس الإقليمي؛ ولا يمكن أن نساوي بين مشروعيهما -مهما كانت المنافسة- وبين المشروعات الخارجية الغربية.
وهذا التدافع والتداول والجهاد والمقاومة يقدِّم قيمًا أصيلةً في ديننا وحضارتنا ثبت جدواها عبر تاريخنا الحضاري، وحين ضعفت وتضاءلت هذه القيم، وابتعدتْ وانزوتْ تجلَّت خطورتها في عالمنا المعاصر. وكل هذا يبرز -في النهاية- أن عالمنا العربي الإسلامي يتشكَّل بالأساس من الشعوب في مواجهة ثنائية الاستبداد والصهيونية.
مقدمات ضرورية
المقدمة الأولى: لماذا هذا الموضوع؟
عندي -كما قلت- رافدان من المقدمات؛ المقدمة الأولى خاصة بالإجابة على سؤال: لماذا هذا الموضوع؟
ثلاثة أسباب تجيب على هذا السؤال.
السبب الأول: سبب استفزازي، فكلما سمعت نتنياهو يتحدَّث بعجرفة واستعلاء في أكثر من مناسبة؛ أولها وهو يزف إلى يمينه المتطرف خبر اغتيال الشهيد هنية والشهيد حسن نصر الله والشهيد السنوار. وثانيها، حين الهجوم البرِّي على جنوب لبنان، وحين تبادل الهجمات الردعية مع إيران، وعقب سقوط نظام الأسد على يد المعارضة السورية المسلحة؛ كل ذلك في ظلِّ استمرار طوفان الأقصى والعدوان الصهيوني الشديد على غزة وصمود المقاومة وصمود أهل غزة. وكأنه لو كان يريد أن يثبت ما لا يشعر به. فقلت في نفسي والله لست أنت الذي تشكل عالمنا العربي الإسلامي، ولكن أمتنا بإذن الله. ولم ولن تكون أنت، كما لم يكن من قبلك التتار أو الصليبيون أو الاستعمار الأوروبي الحديث. فنحن ما زلنا أمة قائمة وإن ضعفنا واستُضعفنا وتراجعنا لأسباب كثيرة.
ولكن الخيط المتَّصل دائمًا هو استمرار المقاومة، ونحن ما زلنا موجودين وما حدث في طوفان الأقصى من مقاومة، ومن حاضنته في غزة دليل على هذا. وذلك مهما كان الخذلان والصمت العربي المحيط الرسمي أو الشعبي من ناحية، ومهما كانت الأسطوانات المشروخة المكرَّرة من النظم وأذرعها الإعلامية التي تستجْدي السلام من إسرائيل ومن المجتمع الدولي وتتحدَّث عن سوءات ما أحدثه طوفان الأقصى بأهل غزة والمنطقة بأسرها، بل وبالقضية الفلسطينية كما يدَّعون من ناحية أخرى.
ليست إسرائيل التي تشكِّل أو ستشكِّل المنطقة، ولكن نحن الذين نشكِّل المنطقة، وهذا هو السبب الثاني في اختياري لهذا الموضوع؛ لأن التعايُش والتحاضُن مع أجيال شابة واعية حضارية من كل الاتجاهات السياسية التي أخذت موقفًا مؤيِّدًا ومدافعًا عن المقاومة ورحَّبت بما حدث في سوريا ورفضتْ ما حدث لجنوب لبنان على اختلاف توجُّهاتهم ولا أقول من الدائرة الإسلامية الحضارية فقط = كل ذلك أكَّد هذه الفكرة.
فما استشهدوا به من آيات جامعة شاملة تشرح حال المقاومة في قرآننا المجيد، الذي يمثل في نظرنا الميزان الأول، والذي أعطى لهذه المقاومة مصداقيتها وشهادتها وشرعيتها ومشروعيتها. هؤلاء الشباب الذين استبشروا وأملوا وحمدوا وشكروا وحذروا في نفس الوقت حين أرادوا التحذير أو الانتقاد كما أظهروا التوجع وحيوا من أعدوا القوة وبادروا وقاتلوا بشجاعة وأذلُّوا الجبَّارين وصمدوا وأبدعوا وثبتوا وصبروا على البأس. وهذا هو ثالث سبب لاختيار الموضوع أنه يستدعي الميزان لدى مدرستنا من واقع الاستقراء الذاتي والجماعي ومصداقيته.
وهذا الأمر يبرز جانبين؛ الجانب الأول: هو أن الشعوب وحركات المقاومة لها دور وليس فقط النظم والحكومات إذا أرادت، والجانب الآخر: هو أن المقاومة والصمود ليست دائمًا بالقوة المادية المتفوقة فقط وخاصة العسكرية. كما أن معايير النصر والهزيمة ليست مادية فقط، ولكن عقيدية إيمانية أيضًا، كما أنها مدنية شعبية في دوافعها أو مسارها أو نتائجها. وهي أمور تتحدَّى جميعُها كلَّ مقولات موازين القوة التقليدية، التي ركَّز منظورنا الحضاري على تفنيدها ونقدها منذ أن علَّمتنا أستاذتنا منى أبو الفضل كيف أن نقد المنظورات الغربية هو المنطلق والبداية ليس لإعلان تفوُّق منظورات أخرى، ولكن لبيان أن هذه المنظورات ليست عالمية وأن هناك منظورات تُبنى وتؤسَّس من واقع خبرات وقيم وأصول وإطارات حضارية أخرى يمكن أن تكون أيضًا عالمية، حتى لو كانت في مرتبة أدنى من القوة المادية السائدة.
كلُّ هذا يعني أن هذه الحالة التي نعيشها وأعيشها بكل حواسِّي منذ 15 شهرًا تختبر من جديد الميزان الذي ترتكز عليه مدرستنا ومصداقيته وما يواجهه من صعوبات. وأقصد بالميزان الرؤية الحضارية المنبثقة من فقه أصولنا وفقه سنة نبينا وفقه تاريخنا -بمراحله الزاهرة ومراحله المنحدرة- وفق واقعنا وفكرنا المعاصر المتجدد الساعي للتجديد لأجل النهوض الحضاري.
المقدمة الثانية.. لماذا مفردات هذا العنوان؟
“كيف يتشكل عالمنا العربي الإسلامي في الحقبة الراهنة؟”
في الواقع هذه المفردات -كما قال دكتور مدحت- لم أخترها جزافًا، ولكن انطلاقًا من مجموعة من الأسباب المعرفية والنظرية التي يبرزها واقع ما سأقدمه عنها، وكيف أنها ترتكن وتنطلق من مدرستنا معرفيًّا وعمليًّا.
أولًا– التشكُّل: هو عملية تضم سلسلة متشابكة تمثِّل منظومة، وهي ليست عملية بسيطة، ولكن مركبة أو مزدوجة الأوجه وقد تنتج الشيء وضده. والتشكُّل في هذه المحاضرة ليس بالمعنى الإيجابي وحده، الذي يمثله طوفان الأقصى، ولكن أيضًا التشكُّل بوجهه السلبي الذي يمثِّل تقييدًا لهذا النموذج، أو النموذج المقابل (الصهيوني) الذي انكشف زيفه.
والتشكُّل هنا ليس التغيُّر وفقًا للمعنى الذي تقدِّمه الدراسات النُّظمية؛ فالتغير يحدث في فترة ممتدَّة، هو أمرٌ يتَّصل بالهياكل العليا للدول أعضاء هذا النظام، أي النظم الحاكمة والمؤسسات الرسمية أكثر ممَّا يتطرَّق إلى ما هو دون الدولة أو فوقها. أما التشكُّل فيعني التعامل مع الشعوب والمجتمعات ويستدعي الحركات المجتمعية والحركات المقابلة في عملية التغيير، التي تُهمل في نطاق الدراسات النظمية التقليدية، وهو ليس في طريق أحادي، ولكنه يأخذ سمة دورانية بقدر توافر الشروط مثل: السنن الشرطية التفاعلية. والتشكل حالة تبدأ من الإنسان والجماعة والمجتمع والحركة.
وثانيًا- عالمنا هنا ليس منطقتنا وليس نظامنا الإقليمي. فالمنطقة حيِّز جغرافي تتغيَّر عوالمه مع الزمن. ونحن في حقبة يتشكَّل فيها عالمنا من جديد وسيقود إلى ما هو أفضل بإذن الله. أما النظام الإقليمي فيعكس انتظامًا وفاعلية قد لا تكون موجودة الآن. ونظام الإقليم عادة يكون مرتهنًا بمعيار قومي: مثل النظام الإقليمي العربي. ولكن عالمنا هنا تعود علينا نحن الشعوب، عقائد وهوية وتاريخًا وآمالًا وطموحات وليس دولنا ونظمنا فحسب.
وثالثًا- لماذا عالمنا العربي الإسلامي؟ لأنه عادةً في الأدبيات الآن، يُقصد بالعالم العربي الدول العربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ فيُسقطون بهذا مكوِّنًا كبيرًا من شعوبنا العربية الإسلامية في موريتانيا والسودان والصومال وجزر القمر وجيبوتي، وطبعًا بالأساس فلسطين، نتيجة لافتقاد المرجعية المعرفية الواحدة والأصيلة.
ولكن نحن باستخدام مفهوم “عالمنا العربي الإسلامي” إنما نقصد الإعلان عن رؤية معرفية وفكرية غير ذائعة. فلسنا مجرد منطقة أو إقليم مجرد من الوصف الحضاري. إن عالمنا هو جزء من أمتنا؛ هذا الكيان الاجتماعي السياسي الحضاري الشامل. ونقول العربي الإسلامي لاستمرار اتصال العروبة بالإسلام.
وهذا أمر يجب أن يتبلور قويًّا بعد أن قطعت الأيديولوجيا القومية الصلة بين العروبة والإسلام. وإذا كانت قد تهاوت أو تراجعت هذه الأيديولوجيا التي تجلَّت في عدد كبير من المنظومات الثقافية والسياسية. إلا أن العروبة تظل متصلة بالإسلام، فالعروبة كما هي في تراثنا وتاريخنا لا تنفي الجوار الحضاري غير العربي؛ فالفتوح اتَّجهت شرقًا أولًا لعالم الفرس ثم إلى أعلى إلى عالم الشام. ولا نرى في تقدُّم تركيا أو إيران خصمًا من رصيد الأمة العربية فهم ليسوا خصومًا أو أعداءً مثل إسرائيل، ومثل الصهيونية العالمية، وإن كانوا منافسين داخل الدائرة الحضارية الجامعة كما كانوا دائمًا متنافسين عبر تاريخ أمتنا، وما توالِي عواصم الخلافة من مكان إلى مكان، حتى وصلت من المدينة إلى دمشق إلى بغداد إلى إستنبول إلا دليل على هذا المعنى. وتحديد الصديق والأخ مهم من أجل تحديد من هم الأعداء القريب منهم والبعيد، الصغير والكبير.
ورابعًا- ما المقصود بالحقبة الراهنة؟ نحن نتحدَّث عن دلالات الأشهر الخمسة عشر الماضية، ولكن دون انقطاع عن الذاكرة التاريخية المعاصرة على الأقل منذ 1991م، ولا عن الذاكرة التاريخية الأكبر. فحين أقول الحقبة الراهنة لا أقطعها إطلاقًا عن ذاكرتها التاريخية؛ لأن طوفان الأقصى كان له دلالته وتأثيره على ما يجري في عالمنا العربي الإسلامي من تشكيل موصول بدلالات مهمة في الذاكرة التاريخية؛ فمنذ طوفان الأقصى تتوالى تغييرات تصبُّ في مفهوم إعادة التشكيل دون انفصال عن مراحل سابقة من حيث التدافع بين الداخل والخارج وبين النظم والشعوب وبين مرجعية الشعوب والنظم.
الجزء الأول “من يحفز التشكُّل ومن يقاومه؟”
كان دائمًا الشام الكبير، ويظهر متجليًا في قلبه غزة وفلسطين، وفي جواره لبنان وسوريا والعراق، هذه المساحة الحضارية التي يحدث فيها التفاعل الآن ومن حولهما جوارنا الحضاري التركي والإيراني الذي طالما كان لهما تأثيراتهما على هذا الفضاء الحضاري الشامي الممتد، والذي لم ينفصل أبدًا عن الفضاء الحضاري العربي.
هذا الشام الكبير الآن الذي ننظر إليه ويقول لنا سواء في لبنان عن شيعة وسنة، أو في سوريا عن أكراد وعن دروز وعن شيعة وسنة وعن عرب….، وفي فلسطين عن عرب ومسلمين وفيهم مسيحيون ويهود كان تواجدهم قبل وجود الكيان الصهيوني. والآن يُقسم الفلسطينيون بين إسلامي ووطني. هذه التقسيمات الخطيرة مثَّلت آفات أمَّتنا في مرحلة استضعافها وما زالت آثارها حاضرةً في الحقبة الراهنة.
مفاصل أربعة من واقع الذاكرة الحضارية
من واقع التراكم عبر الذاكرة الحضارية أستطيع أن أتوقَّف عن دلالات ثلاث مفاصل قبل أن أصل إلى دلالات المفصل الرابع (الراهن) مع طوفان الأقصى، وذلك في العلاقة ما بين الأدوات والأبعاد الدينية والثقافية والحضارية وبين الأخرى السياسية والعسكرية في التدخل الخارجي وفي الاستبداد الداخلي وتحالفهما.
وهذه الذاكرة المعاصرة على الأقل منذ 1991، مرت بعدة مفاصل: 1991- 2001، 2001- 2011، 2011- 2023.
أولًا: مفصل 1991- 2001
شهدت هذه المرحلة:
- تدخلا دوليًّا عسكريًّا باسم الشرعية الدولية ضدنا لأننا نحارب بعضنا (الكويت والعراق).
- تدخلًا دوليًّا آخر سلميًّا في مؤتمر مدريد 1991 واتفاقات السلام الأوروبية والفلسطينية مع السلطة الفلسطينية في 1993 و1994.
وشهدت هذه المرحلة استحضار بُعدٍ سياسيٍّ في التعامل مع القضية الفلسطينية وحركات المقاومة باستدعاء الإرهاب من جانب السلطة الفلسطينية والولايات المتحدة، وبُعدٍ عسكريٍّ باستدعاء الخطر الأخضر والتحذير من الإسلام والمسلمين (هنتنجتون). فكان الهجوم على أرجاء الأمة لإعادة تشكيلها بنفس السلاحين: الإرهاب والإسلام في أفغانستان، والقوقاز، والبلقان.
- ولم تكف المقاومة خلال هذه المرحلة دفاعًا عن أرضنا.
ثانيًا: مفصل 2001- 2011
شهدت هذه المرحلة:
- تدخلًا عسكريًّا أمريكيًّا ضدَّنا في أفغانستان والعراق لأننا هاجمناها ولأننا مصدر تهديد (أسلحة دمار).
- تدخلًّا سلميًّا تم فيه استدعاء الديني الثقافي في قلب المعركة العسكرية وعبر الأمَّة وبتدخُّلات ثقافية ودينية باسم الإصلاح لتجفيف منابع الإرهاب رغبةً في إعادة تشكيل وعينا عن أنفسنا وعقيدتنا حتى لا نصبح إرهابيِّين (إصلاح التعليم – التربية المدنية – تجديد الخطاب الديني).
كما بدأ القلب العربي يتحرك: انتفاضة الأقصى الأولى 2000-2002 – المقاومة في العراق – المقاومة من جنوب لبنان – المقاومة من غزة.
ثالثًا: مفصل 2011- 2023 (الثورات والثورات المضادة)
انطلقت هذه المرحلة من أننا نريد تغيير أنفسنا بأنفسنا، كما شهدت صعود الإسلام الحركي في مواجهة الاستبداد أولًا. ثمَّ شهدت تدخُّلًا مضادًّا لنتقاتل بأيدٍ عسكرية علمانية ليس لمجرد تشويه صورة الذات، ولكن لاستبدالها وتدمير كل من يرفع مرجعيتها.
كما شهدت تحرُّكًا نحو تصفية القضية الفلسطينية، واستمرَّت المقاومة منهكةً ومحاصرةً.
رابعًا: مفصل طوفان الأقصى (أكتوبر 2023 حتى الآن)
إذن هنا كشف طوفان الأقصى وحواره عبر 15 شهرًا عن قوى التشكيل القهري وقوى التشكيل الحضاري والمقاومة من الشعوب. ولكن مع الجديد الذي برز خلال عقود ثلاثة وتكشَّف أكثر مع طوفان بعد حروب ثقافية وحروب على الإسلام ممتدة على كل الجهات وبأشكال متنوعة.
لقد أضحى المتغير الأعظم الآن هو “التصهين العربي” الواصل بين الاستبداد وبين العدو الرئيسي.. فلم تعد أدواتهما قاصرة على النظم بعد أن استسلمت واندمجت في اقتصاديات رأسمالية عالمية، وفي روابط تبعية عسكرية وسياسية وانشغلت بمحاربة شعوبها أو استئناسها أو تحذيرها وتخديرها…
أمَّا الآن فلقد تكشَّفت عبر الأشهر الماضية شراكة عضوية بين تجريبية صهيونية وصهيونية تجريبية، وعن توحُّش العدو الخارجي وتوحُّد وتخاذل وتواطؤ العدو الداخلي الذي وصل إلى أقصاه في الترصُّد “للإسلاميين”… فلم يعد للنظم إلا بوصلة معاداة “الإسلاميين”، حتى ولو وصل الأمر إلى التحالف مع الصهيونية الإسرائيلية، وفقدان ما تبقَّى من استقلال خارجي للقضاء عليها.
فلماذا هذه الرؤية التي تُهاجم المقاومة وتقول بعد أكثر من خمسة عشر شهرًا أو عبرها إنها تنهزم أو أنها انهزمت بالفعل؟ ولماذا -في المقابل- هذه الرؤية التي تُساند المقاومة وتقول إنها صمدت، وهذا الصمود هو الانتصار؟ وإن لم يكن الانتصار بالمعنى التقليدي كما تعرفه الجيوش.
هناك صمود شعبي لا مثيل له في غزة، حتى وإن قيل إن بعضهم يتذمَّرون ممَّا حدث؛ فهذا أمر طبيعي. كما أنه من الطبيعي أن يكون هناك احتقان شعبي في الأمة والعالم العربي الإسلامي، ليس بسبب ما يحدث في غزة، ولكن بسبب أنهم لا يستطيعون تقديم النصرة والمساندة اللازمة لهم كشعوب، وأن نظمهم لا تقدم النصرة الواجبة لهم.
وفي نفس الوقت، فقد أدى انكشاف الصهيونية ودوائرها عالميًّا إلى تحوُّل المعركة إلى مستقبل من سيبقى على أرضه؟ ومن سيستطيع استكمال تشكيل اللعبة حتى يشاء الله أمرًا كان مفعولًا.
الجزء الثاني: “علامات التشكل والتشكل المُضاد”
إن التشكُّل له وجهان: تشكيل الوعي بالمفاهيم المسمومة أو المدسوسة أو المستوردة وفي مقابلها مفاهيم الأمة. والوجه الآخر هو سياسات التشكل والتشكل المضاد.
المجموعة الأولى من الآفات: المفاهيمية المسمومة التي لعبت دورها دائما في تاريخنا المعاصر عبر 50 سنة وبأشكال أخرى عبر تواريخنا السابقة وظهرت جذورها في:
- المذهبية التي تحول دون التضامن في وجه عدو مشترك.
- المقاومة العسكرية دمار للاستقرار والتنمية.
- مستوى الأمة خيانة للوطن.
- الإسلامية خيانة للوطنية وهي ليست وطنية.
- مفهوم الوطن ذاته.
- الإسلامية نقيض العروبة وتدب إسفينًا بين المسلمين وغير المسلمين.
- مشروعات المقاومة يجب أن تكون وطنية وليس إسلامية.
- الحركات الإسلامية إرهابية تهدد الأوطان ودولها.
- الأمن القومي للدول القومية هو حماية ما بداخلها فقط، والنظم أساسًا من خطر الإسلامية والإرهاب.
فأضحت محصلة هذه المفاهيم أن فلسطين قضية أهلها وليست قضية العرب، وعليهم -أي أهلها- واجب الدفاع عنها، وأن المقاومة العسكرية لم تعد مجدية، بل هي مدمرة، ولا بد من حل سلمي للدولتين، وأن الجهاد العسكري له شروط لا تتوفر الآن؛ لأن هناك خلل كبير في توازن القوة مع العدو. كما أصبح الخطاب الديني المقبول / المطلوب هو ما كان مكرَّسًا لخدمة الوطن والدولة وطاعة الحاكم، وما عدا ذلك يغذِّي التطرف والإرهاب الذي هو في الواقع الظلم والفساد كما يغذي العداء للعالم، والأمن والاستقرار الإقليمي الذي هو الأساس الذي يجب الدفاع عنه، وأن هذا الاقليم يضم أيضًا إسرائيل.
وهذ المفاهيم المسمومة مفاهيم شديدة الخطورة، نجدها إذا استمعنا إلى فضائيات معينة أو إذا قرأنا في أدبيات معينة أو استمعنا إلى جهات معينة رسمية أو غير رسمية، وللأسف بعضها فلسطينية. وعلى المستوى النخبوي والمستوى الشعبي سنجد هذه المفاهيم حاضرة. بما جعلها تمثل آفات الأمة من جانب، والأبعاد الفكرية في صراعات الأمة من جانب آخر.
في المقابل هناك مجموعة أخرى من المفاهيم التي نتجت عن تشكُّلٍ من نوع آخر بأدوات وأساليب أخرى موازية للأدوات التي أفرزت المجموعة السابقة من المفاهيم وربما تستطيعون إضافة الكثير إلى القائمتين. وهذه المجموعة الثانية تضم مقولات من قبيل أن:
- فصائل المقاومة المختلفة التي شاركت في النضال من أجل فلسطين على مَرِّ تاريخ المقاومة في فلسطين منذ 1917 ومن قبلها ومنذ 1948م، جميعها انتهج حمل السلاح، وقاوم عسكريًّا أيًّا كانت أيديولوجيته، من اليسار إلى من أسموا أنفسهم الوطنية الفلسطينية (فتح) ثم بعد ذلك الإسلامية. ولكن تداولوا على هذا الخط، واختلفت مساراتهم، وإن ظلَّت رؤيتهم الاستراتيجية هي مصلحة الفلسطينيين، وليس تحرير فلسطين.
- الشعوب على غير دين حكامها ونظمها.
- يمكن مقاومة العدو إذا توفَّرت الإرادة مهما كان الخلل في توازن القوة؛ فالإبداع الناجم عن الإيمان والعقيدة والتوكُّل على الله والالتزام بموجبات طاعته وخشيته تولد الإبداع الذي يسدُّ الفجوة.
- يقع هذا الإبداع في أوطاننا ودولنا في قلب المرجعية الإسلامية وليس خارجها، ويتَّسع لمعنى الوطن ذي الامتداد والصلة بالأمة والدولة العادلة القوية وليس الظالمة الفاسدة ودعاة حفظ الدين شكليًّا.
أمَّا مستوى السياسات، ويعني كيف تنتهج النظم في حَدِّ ذاتها وفي تحالفاتها مع الخارج سياسات من شأنها تشكيل الشعوب على نحو معيَّن، على غير ما فاجأهم به طوفان الأقصى، وتفكيك المجتمعات وتصفية وإضعاف المجتمع المدني، وتوظيف المؤسسات الدينية، والإفقار والتهميش لطبقات واسعة من الشعوب، وتحقيق انعدام في العدالة التوزيعية، والتغريب العلماني. وكل ذلك باندماج النظم في النظام الرأسمالي العالمي على نمطين: نمط المصدر للأموال، ونمط المقترض والمتسول للاستثمار الخارجي؛ تحقِّق هذه السياسات ما ليس في مصلحة الشعوب على الإطلاق.
في المقابل هناك الجانب المقاوم من الشعوب والحركات لهذه المفاهيم ولهذه السياسات من خلال إعلام موازٍ، ومؤسسات دينية موازية، ونظم تعليم وتربية موازية تتكشَّف نتائجها باستمرار. وقد تبلْورت بقوةٍ عبر 15 شهرًا، فكيف ظهرت؟ وكيف صمدت؟ وكيف ما زالت لم تعلن انهزامها؟
وتجسَّدت هذه السياسات والخطابات في مواقع التواصل الاجتماعي خلال هذه الفترة، وشارك فيها الكثير من الشباب من دوائر مختلفة داخل العالم الإسلامي، وحتى خارجه، ولكن لفت نظري فيديو قصير لمدة دقيقة لطباخ يقف في غزة ويقول الآتي وهو يطبخ:
“أنا إنسان عادي، وأنا قاعد في بلدي، ومش همشي وهتحمل. أنا إنسان عادي محدش استشارني لا في مفاوضات ولا في حرب، ولكن أنا عندي ثلاث حاجات أتمسك بيها: ديني لا أتخلى عنه، اللي بيقول لي مَنْ عدوي؟، وأرضي التي هي أرضي وأرض أجدادي وأرض أولادي لن أتركها مهما كان الثمن، ومقاومة محتل يريد أن يقتلني ويأخذ وطني لن أتركه يفعل هذا، ولن أتعاون معه على الإطلاق بأي صورة من الصور”.
وهذا المشهد أغناني عن كل التعليقات وكل التحليلات وكل الفذلكات وكل الفلسفات لكي أوصل أفكارًا أؤمن بها وأدافع عنها، وأحاول تقديمها بمصداقية لتكتسب شرعية ومشروعية أخلاقية. في مقابل ذلك تأكَّدت من الانهيار الأخلاقي لإسرائيل، إذا كان هناك أصلًا أخلاق لتنهار.
ولذلك انتقلنا من طوفان الأقصى إلى طوفان الوعي كما قال أبو عبيدة، وإلى طوفان العمران كما قال دكتور مدحت ماهر في منشور رائع له على مواقع التواصل الاجتماعي[1]. وهو ما ينقلنا للجزء الثالث من هذه المحاضرة.
الجزء الثالث: “من طوفان الأقصى إلى طوفان الوعي إلى طوفان العمران: بين التحذيرات والآمال”
العنوان نفسه يدل على أن طوفان الأقصى جدد الوعي… ولكن كيف يصبح طريقًا لعمران وتجديد حضاري ليس فقط في غزة، ولكن في فلسطين بأكملها، والأهم في عالمنا العربي الإسلامي.
وإن كانت هناك مقولة تقول “إن فلسطين لن تتحرَّر إلا إذا تحرَّرت أوطانه”، أتساءل لماذا لا يكون طوفان الأقصى مثالًا ونموذجًا على ما يمكن أن نحقِّقه في مواجهة أنفسنا وأعداءنا؟
مجموعة التنبيهات والتحذيرات التي أسوقها هنا، ليست مثل خطابات وَصْمِ المقاومة بالانهزام وبتدنِّي المقدَّرات، ولكنها تحذيرات موضوعية مهمة توجه النظر لما هو قادم، وكيف سيتم التعامل معه ليس فقط على مستوى الإعمار، ولكن أيضًا على مستوى إتمام وقف إطلاق النار، وعلى مستوى مستقبل من يحكم غزة، وعلى مستوى العلاقة بين من يحكم غزة وبين الدفع تجاه قضية واحدة لغزة، أو بمعنى أصح الذين يريدون أن يكون للمقاومة وأيضًا للسلطة رؤية استراتيجية فلسطينية واحدة عما يمكن فعله خلال هذه الأمور وهو أمر صعب جدًّا.
لماذا هذا التفكير؟ والبعض يقول: لماذا أنتم مشغولون بما بعد الحرب؟ فمثلما تصرَّفت المقاومة في الحرب يمكنهم أن يتصرفوا في ما بعد الحرب.
الحقيقة أن طوفان الأقصى لم يتحدَّ فقط السلطة الفلسطينية، والنظام العربي، ولكن ألقى الحجارة في مياه عربية ودولية راكدة، بقوة الإيمان والتوكُّل والعقيدة. وكل هذه أمور مهمَّة جدًّا، سواء بعد وقف إطلاق النار في غزة، أو وقف إطلاق النار في جنوب لبنان، أو إسقاط نظام الأسد، ولكن ليست هذه الأمور المعنوية إلا قاعدة للتشكيل الإنساني الذي يدفع للتمسُّك بالحق ورد العدوان واتِّخاذ كافَّة السُّبل الممكنة للدفاع عنه. فالإيمان إن كان سلاحًا أساسيًّا، فإنه لا يكفي بمفرده سواء في وقت العسر أو اليسر، بدليل أن طوفان الأقصى طيلة 15 شهرًا كان له عوامل قوة عسكرية موجودة بالأساس من الداخلي ومن إمدادات لها في الخارجي لا يمكن أن ننساها.
وماذا بعد سقوط الأسد، وتوقف الإسناد الإيراني وحزب الله وتعثر اليمن؟ (ماذا بعد إيران؟)
بعبارة أخرى يجب الأخذ بأسباب السياسة كلها: أي كيف يُدار الأمر؟ أو القيام عليه بما يصلح الأحوال؛ هذا يتطلَّب -والمقاومة تقوم بهذا بالتأكيد- فقهًا للواقع الحالي بإمكانياته وقيوده، وفقهًا بمن الحليف الممكن؟ ومن الحليف السابق؟ فقهًا بالموازنات والمواءمات وفق مقتضى المقاصد وفقه السُّنن واهتداءً بثوابت الأصليْن، وذلك من الضرورات الآن.
ومن هنا تتَّضح أهمية التحذيرات التي يقدِّمها الحريصون على المقاومة في غزة، وفصائل المعارضة في سوريا، والمقاومة الإسلامية في لبنان. وهي ليست مثل خطابات الهزيمة والتهوين، فالأخيرة انهزامية استسلامية تقيم معاييرها على المادي فقط مدعيةً بما يسمى مصالح الناس، وليس حقوقهم أو كرامتهم أو حماية دينهم…
كل هذه الأمور والنماذج التي قدِّمت في هذا المحاور وطوال المحاضرة، أقول إنها مترابطة، وفي قلب الشام الذي هو مناط تشكُّل توازنات عالمنا العربي الإسلامي في المرحلة القادمة.
أخيرًا أقول إن المقاومة تُواجه قيودًا عديدة عليها أن تنتبه إليها. ولكن السؤال المهم دائمًا: ما العمل لننتقل من طوفان الأقصى ومنه إلى الوعي ومنه إلى العمران؟
هذا أمر يتصل ليس فقط بالهياكل العليا، ولكن يحتاج لرؤية استراتيجية، كما يحتاج إلى عمل آجل وعمل عاجل. ولا بد من الحفاظ على هذا الزخم التربوي والدعوي الذي أنتج هذا النموذج من المبادرة والصمود والاستمرار فيه لنشره وتدعيمه سواء بأساليب داعمة وليس لتغيير سياسي من أعلى، ولكن من أجل استقلال وتجدُّد حضاري.
__________
مداخلات الحضور
دارات مداخلات الحضور حول عدة محاور نوجزها فيما يلي:
أولًا- أنه لا يمكن إسقاط البعد “الإنساني” والعالمي من قضايانا وبخاصة القضية الفلسطينية وفكرة المقاومة ومفهومها، فلا يمكن النظر إلى أمتنا دون النظر إليها في إطار عالمنا (أمتي في العالم)، ولا يمكن لأحد أن يلغي البعد الإنساني العالمي لطوفان الأقصى.
ثانيًا- أهمية إعادة النظر في المفاهيم السائدة والمداخل المنهاجية لقراءة ودراسة السياسة وتفاعلاتها في المنطقة وبخاصة مدخل “النظام الإقليمي”، خاصة في ظل تراجع / انهيار النموذج الليبرالي عالميًّا، وتبدُّل وتغيُّر دور أنظمة الحكم في المنطقة، والاختلافات بين الشعوب والنظم، وفي ظل الحديث عن مدى جدوى نموذج الدولة القومية في “عالمنا العربي الإسلامي”.
ثالثًا- ضرورة الانطلاق من مفهوم “فعالية الشعوب” في مواجهة “فعالية النظم”، وعدم وضع الشعوب في موضوع “المفعولية دائمًا”، بل من المهم النظر في الأدوات والآليات التي تمتلكها هذه الشعوب، وسبل تفعيلها، إلى جانب ما تحمله من أفكار وعقائد وقيم، ولكن مع الأخذ في الاعتبار التأثيرات / والاختراقات التي يمكن أن تحدثَ لهذه الشعوب في ظلِّ تزايُد الاختراق الخارجي لها، وتزايُد وطأة الاستبداد وسياساته.
رابعًا- الاستبداد أم الخارج (الصهيونية) أيهما أولًا؟ هل يكون التغيير بالبدء من مجابهة الاستبداد أم الخارج وعدوانه وتسلطه بما يفرضه من أجندة صهيونية على عالمنا؟ وهل يمكن التخلص من أحدهما دون الآخر؟
خامسًا- بينت المداخلات أن “الجهاد أو المقاومة المعرفية” لا تقل أهمية عن المقاومة العسكرية، بل هي ميدان مهم للجهاد والمقاومة بِرَدِّ الأفكار المعادية، وتوجيه الأفكار نحو فعالية الشعوب، ونُصرة قضايا الأمة. ومن هنا كانت أهمية المراكمة العلمية، بقراءة مستجدات الواقع، وربطها بما سبق إنتاجه من دراسات وتقارير وكتب، وذلك في إطار فهم “الذاكرة التاريخية الحضارية” للقضايا.
سادسًا- أشارت بعض المدخلات إلى ضرورة التعاطي مع آثار الوحشية التي قامتْ بها إسرائيل على شعوب عالمنا العربي الإسلامي والجوار، وما يمكن أن تتركه من آثار سلبية تتمثَّل في أنه لا يمكن مواجهة إسرائيل وإلا سيكون المصير نفس الوحشية والعدوان والقتل والتشريد الذي تعرَّض له سكَّان غزة، وأنه لا يمكن أن يُطاق ذلك. وهذا ممَّا يجب رصده والتعامل الجاد معه.
سابعًا- ركَّزت التعليقات على أهمية الأخذ في الاعتبار تبدُّل الأدوار في المنطقة، انطلاقًا من تزايد الدور الخليجي (مركزية الفاعل الخليجي) وتحديدًا السعودية والإمارات في مقابل تراجع الدور المصري، الذي كان يعني نهوضه نهوض القضية الفلسطينية ودفعها للأمام. ولذلك فإن مصر لا يمكن أن يكون لها دور فاعل إلا إذا امتدَّ اهتمامُها إلى الشام وأمنها القومي؛ الذي لن يتحقَّق بانكفائها على ذاتها، ولكن بامتدادها إلى شرقها، وما يحدث في غزة تهديد خطير للأمن القومي المصري. والكل يُجمع على هذا ويحذِّر منه بدرجات وبأشكال مختلفة.
ثامنًا وأخيرًا- كيف يمكن حماية المخرجات والنتائج الإيجابية التي أوصلنا إليها الطوفان وتلافي الأضرار والسلبيات والفخاخ التي يُراد لعالمنا العربي الإسلامي أن يقع فيها؟
تعقيب ختامي (د. نادية مصطفى)
يلزم توظيف ما حدث في أعقاب طوفان الأقصى لتوسيع دلالاته والتدبُّر في مجمل قضايا الأمة، التي لا يمكن فصل مسألة “تشكُّلها” من دون الحديث عن موضوع التربية والتعليم والدعوة وزيادة فعالية المجتمعات الأهلية بوصفها ضرورة أساسية لتكوين جيل فاعل من مرجعية حضارية ينظر بنقدية إلى الذائع والسائد من الأفكار ومن السياسات ومن الممارسات يكون هو النواة للانتقال والتغيير الحضاري، إذا وجدت مجالات حرية أكثر للعمل السياسي إلى تشكلات سياسية تتحرك بهذه المرجعية.
ومما لا شك فيه الآن أن وظائف الدولة متراجعة أو منهارة، والتي تشمل في الرؤية الإسلامية الوظائف العمرانية والوظائف الجهادية والوظائف التوزيعية. ولكن هل البديل لها أن نعيش بلا دول؟ الإجابة: بالتأكيد لا. ولكن أقول دائمًا حين تعجز الدول عن القيام بوظائفها، فهناك أمة قائمة بدول أو بغير دول فالأمة هي الأساس، والشعوب يلزم أن تكون قادرة على الحركة بطرق مختلفة الأشكال والمجالات في التربوي، والدعوي، والتعليمي، والجهادي، والتنموي.
لذا من الضروري الإشارة إلى أن وسائل الإعلام التقليدية أو الرسمية هي إحدى الوسائل التي تقوم بالتشكيل السلبي، في المقابل تقوم وسائل إعلام أخرى جديدة أو مضادة بمحاولة التشكيل الإيجابي. فمثلًا نحتاج أن ندرس علاقة الإعلام بنتنياهو، والإعلام ونظمنا في المقابل.
ورغم الإجماع على مساندة المقاومة العسكرية بصفة عامة ضد الاحتلال وفي غزة بصفة خاصة، فإنه من المهم الانتباه إلى أن حماس ليست مثالية أو بلا أخطاء، وأن غزة ليست جنة الله على الأرض التي أبرزت هذه الكرامات، ولكنها تحوي بشرًا مجاهدين وصامدين يحتاجون إلى المشورة والنصيحة وخاصة على ضوء تغيُّر الحلفاء: أين إيران منهم الآن؟ وأين لبنان؟ وعلى ضوء التغيُّر في التحالُفات العالمية والإقليمية مع السعودية والولايات المتحدة؟ وهل ستكون هناك نسخة جديدة من صفقة القرن؟ وكيف سيكون شكل الحكم في غزة؟ وما السيناريوهات التي تجهزها المقاومة لذلك؟
لذا يجب أن يكون هناك حراك وأفكار جديدة وفق طبيعة المرحلة القادمة ولكن دون التخلِّي عن الثوابت. مع الأخذ في الاعتبار التغيُّرات الحادثة في عالمنا: سوريا ما بعد الأسد؟ حزب الله في لبنان بعد انتخاب الرئيس وتعيين رئيس وزراء جديد؟ وما حدث هناك منذ وقف إطلاق النار يجعلنا نتساءل أسئلة كثيرة. وكل هذا يحتاج إلى رؤية وتفكير وتدبُّر فيما يحدث؟ وماذا سيحدث؟ وكذلك في إطار أن مركز النظام أو النظام العربي الإقليمي تحوَّل إلى الخليج، وأن السعودية أضحت تنافس الإمارات كما كان من قبل بين مصر وسوريا والعراق. وأن هذا الانتقال وذلك المركز الجديد لم يَعُدْ على أساس الأيديولوجية ولكن أضحى على أساس المال؛ وليس أي مال، ولكن المال المندمج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي الصهيوني كمصدر للأموال ومصدر للمعونات ومصدر لحبس الأموال عن كذا أو كذا أو كذا.
وعلى ذلك تنبع أهمية أسئلة التدبُّر العديدة المنطلقة من الرؤية الحضاري والذاكرة التاريخية، ومن التأصيل، والأصول؛ فأهم شيء هو الميزان، الذي يوزن عليه ما يَمُرُّ من أفكار أو أحداث أو وقائع وفق ما يُعرف بالنموذج المعرفي أو المنظور الفكري أو المنظور العلمي الخاص بالبحوث.
________________
[1] https://www.facebook.com/share/p/15y2Fw1TA8/
إعداد تقرير اللقاء: الباحث أحمد عبد الرحمن خليفة