قوى الشرق والطوفان بين المساندة والخذلان

مقدمة:

(1) قوى الشرق المقصودة مجموعتان؛ هي: مجموعة الدول العربية والإسلامية، ومجموعة القوى الكبرى الشرقية.

وضمن المجموعة الأولى أستدعي بالأساس خمس دول عربية أكثر ضلوعا في الطوفان (مصر، السعودية، الأردن، الإمارات، قطر)، وأربع دول عربية أخرى حاضرة بصورة أخرى؛ وهي: اليمن، لبنان، العراق وسوريا؛ وهم من الفاعلين فيما يتصل بتوسيع نطاق الحرب الإقليمي من عدمه. ومن ناحية أخرى، أستدعي -في نفس المجموعة- دول الجوار الحضاري التركي والفارسي (تركيا وإيران). وأجمع بين الجانبين في مجموعة واحدة نظرا لانتمائهما لنفس الدائرة الحضارية الإسلامية؛ وثم لا يمكن الفصل بينهما، مع أهمية المقارنات بين مواقفهم في مثل هذه القضية المركزية. وهذه المجموعة تضم الدول الفاعلة مباشرة تجاه طوفان الاقصى، وتتكثف التفاعلات بينها جميعًا حوله وحول القضية الفلسطينية بعامة.

أما المجموعة الثانية من قوى الشرق، فأقصد بها الصين وروسيا والهند. وبقدر ما تستدعي المجموعة الأولى خصائص الأوضاع النظمية الشرق أوسطية، وتحولاتها خلال العقد الماضي، فإن هذه المجموعة الثانية تستدعي –بدورها- خصائص الأوضاع النظمية العالمية وتحولاتها خلال العقد الماضي أيضًا، فضلا عن خصوصيات التحولات في شرق آسيا وجنوبها.

ومن ثم فإن تفاعلات المجموعتين تجسد جانبا مهما من التأثير المتبادل بين النظام العالمي والنظام العربي (الشرق أوسطي) حول الصراع العربي الإسرائيلي، وخاصة حول طوفان الأقصى الذي هو قلب المرحلة الجارية من تطور هذا الصراع.

(2) تهدف الورقة إلى: أولاً- البحث عن القواسم المشتركة والتباينات ومدى التغير أو الاستمرارية بين مواقف كل مجموعة من الفواعل حول القضايا الخمس الرئيسية في طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلي على غزة وهي: تكييف عملية طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلي وأهدافه وعواقبه، الموقف من المقاومة، وقف إطلاق النار الإنساني والهدنة والإغاثة الإنسانية لغزة، اتساع نطاق الحرب إقليميًا، ما بعد الحرب وأفق الحل السياسي.

كما تهدف الورقة -ثانيًا- إلى تفسير أسباب التباينات ومدى ما قدمته المواقف المشتركة من مساندة وطبيعتها، وتهدف –ثالثًا- إلى رسم خريطة نماذج الخذلان، من واقع ما تعرضت له مواقف الدول المعنية، من انتقادات أو اتهامات (على ضوء الفجوة الظاهرة بين القول والفعل)، ورسم خريطة محددات تفسير هذا الخذلان. نبحث ذلك خلال المراحل الأربع لتطور الأوضاع: مرحلة القصف الجوي الإسرائيلي 7- 24/10، مرحلة العمليات البرية الإسرائيلية 24/10–24/11، مرحلة الهدنة الإنسانية وتبادل الأسرى 25/11-30/11، مرحلة تجدد العمليات البرية والجوية وامتدادها لجنوب القطاع 1/12- 15/12. وأخيرًا تقدم الورقة خلاصة تقودنا إلى بعض الأطروحات عن “ماذا بعد”.

(3) ومن ثم فإن المقولة الرئيسة التي تنطلق منها الورقة لتحديد نماذجها وتفسيرها هي: أن الدول المعنية لم تقدم إلا خذلانا كبيرا أو مساندة ضعيفة، لا ترقى إلى المطلوب -أو الممكن تقديمه- من كل منها في مثل هذه الحالة، وكانت مسانداتها مشروطة ومقيدة وتتفاوت درجاتها من حالة إلى أخرى، إلا أنها اقتصرت في مجموعها –ماعدا استثنئاءات محدودة- على المساندة بالخطابات، التي انتشرت وامتدت وتطور بعضها عبر المراحل التي مر بها طوفان الأقصى والعدوان على غزة من 7/10/ 2023، ولم تكن على مستوى الحدث الجلل والكارثة الإنسانية والسياسية الأشنع في التاريخ المعاصر.

ومن ثم تنقسم الورقة إلى ثلاثة موضوعات وخاتمة تمهد لها دلالات من الذاكرة التاريخية.

تمهيد من الذاكرة التاريخية: دلالات ومنطلقات

بالنظر لتطور موضع قضية فلسطين من التفاعلات النظمية العربية–الإسلامية عبر قرن تقريبًا، ووصولاً إلى ما قبل طوفان الأقصى، يمكن أن نستخلص دلالات ومنطلقات حول تطور مواقف وأدوار أركان الأمة العربية والإسلامية، وحول تطور مواقف وأدوار القوى الكبرى الشرقية (خاصة الصين وروسيا) لمنافسة أو مناوأة القوى الغربية حليفة وشريكة إسرائيل.

  • الدائرة العربية الإسلامية:

حدث تداول بين الدول العربية والإسلامية من حيث قيادة عملية نصرة القضية الفلسطينية ودرجة هذه النصرة، وتعبر عنها منذ 1948 الثنائيات التالية: الجيوش العربية/ جيش إسرائيل، دول المواجهة/ دول المساندة (1956، 1967)، دول الاعتدال/ دول التشدد (بعد 1973)، دول الممانعة / دول السلام (بعد 1978)، دول السلام/ دول المقاومة (بعد 1991)، دول السلام/ دول التطبيع (بعد 2020)، دول السلام والتطبيع / دول فاشلة (بعد 2014).

وبالمثل كما تحرك مركز الثقل السياسي والحضاري العربي بصفة عامة من مصر والشام إلى الخليج، فلقد انتقل مشروعا إيران وتركيا الإقليميان من جوارهما التركماني والفارسي فقط لكي يضم جوارهما العربي أيضًا؛ ابتداء من الثورة الإيرانية 1979، ثم انتهاء الحرب الباردة وصعود حزب العدالة والتنمية في تركيا منذ 2002.

وتزامن ذلك مع التحول من جوار تركي إيراني حليف لإسرائيل دون قيد أو شرط إلى جوار حضاري يتشارك المواجهة مع إسرائيل بدرجات وأهداف متنوعة؛ مقارنة بالعرب من ناحية، وباختلافٍ بين المقتربين الإيراني (الثوري العسكري المرتبط بالعداء للغرب) والتركي (الإصلاحي، الجسر بين الشرق والغرب). وكان لهذه الخصائص في تحول التوجهات التركية الإيرانية نحو العرب بصفة عامة تأثيراتهما على مواقف إيران المعادية بوضوح لإسرائيل، وعلى مواقف تركيا التي تدير توازنا حرجا في علاقاتها بين إسرائيل والقضية الفلسطينية.

ولقد اقترنت حلقات هذا التداول بما يمكن وصفه بالانحدار في المسار التاريخي للمساندة العربية والإسلامية للقضية الفلسطينية؛ من حيث النطاق والأسلوب والأدوات، بل والغايات.

وإجمالاً يمكن أن نلخص خصائص كبرى لهذا الانحدار في المساندة، أو النصرة، فيما يلي:

  • تحول الصراع العربي-الإسرائيلي، إلى ما يُسمى الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، إلى الصراع الإسرائيلي مع حماس، بعد أن دخلت دول عربية في سلام وتطبيع مع إسرائيل.
  • تحولت إدارة الصراع من الخيار العسكري الرسمي إلى الخيار العسكري لدى فصائل مقاومة متنوعة، إلى خيار المقاومة المسلحة في غزة (حماس والجهاد والجبهة الشعبية).
  • ثم تحولت الأداة الدبلوماسية للحل السياسي من التعدد (مؤتمر مدريد) إلى الثنائية (الأردن، منظمة التحرير، الإمارات، البحرين، المغرب،..).
  • كما تحولت الأداة الاقتصادية من الحظر البترولي الجزئي (1951- تفجير خطوط أنابيب) إلى الحظر الكلي (1973)، إلى مشروعات التعاون المصري والخليجي مع إسرائيل في مجال الطاقة وغيرها.
  • كما تحول السلام من نمط بارد (مصر منذ 1978) إلى سلام دافئ (مصر منذ 2014) إلى سلام ساخن (الخليج منذ 2019)، مع اندماج متزايد في روابط الاندماج في النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي؛ إما في شكل قروض ومعونات وتبعية كبيرة للخارج (مصر والأردن)، وإما في شكل استثمارات في الخارج ومشروعات مشاركة رأسمالية عالمية في ظل اعتماد كبير مع الخارج (الخليج).

بعبارة أخرى: انتهى الخيار العسكري مع إسرائيل إلا لدى حماس وحركة الجهاد وبعض الفصائل الأصغر، وفشل الحل السياسي السلمي من أجل “الدولتين” وفق أوسلو 1993، في نفس الوقت الذي فقدت فيه القضية الفلسطينية مركزيتها باعتبارها الصراع الاساسي في المنطقة؛ حيث كانت إسرائيل هي العدو الأول الواضح الجليّ الذي لا اختلاف عليه، وأضحت القضية واحدة من عدة صراعات إقليمية وعبر إقليمية، بل وداخلية حادة، حيث قفزت مصادر الصراعات القومية والمذهبية والدينية -بل والأيديولوجية- بين الدول وداخل كل منها، كما صعد إلى الصدارة عدو جديد وهو ما تسميه الأنظمة بـ”الإرهاب”.

وهكذا، وحتى بداية العقد الثاني من الألفية الثالية، مارست عديد من العوامل الداخلية (التغيرات في النظم العربية)، والعوامل الاقليمية (التغيرات في مراكز الثقل العربية ونمط الصراعات والتحالفات العربية-العربية، والانقسامات الفلسطينية)، والعوامل الخارجية (انتهاء الحرب الباردة ثم الحرب الأمريكية العالمية على الإرهاب)، مارست تأثيراتها على هذا المسار التاريخي للقضية الفلسطينية ومآلاتها.

أضاف العقد الثاني من الألفية الثالثة المزيد من المتغيرات ذات التأثيرات السلبية على المساندة العربية والإسلامية للقضية، في مقابل تنامي الدور الصهيوني والهرولة الخليجية للتطبيع.

وكان من أهم هذه المحددات أو المتغيرات: الثورات المضادة للثورات العربية وتبلور عداء السياق الإقليمي لها بقيادة خليجية ورعاية أمريكية وغربية، والضربات للحركات السياسية الإسلامية الإصلاحية ووسمها بالإرهاب؛ ومن ثم إحكام الحصار على المقاومة في غزة الموسومة بالإرهاب، وزيادة التقييد للسلطة الفلسطينية المدجنة في رام الله التي تنسق مع المحتل، وتنامي المشروع الاستيطاني اليميني الصهيوني في الضفة وتهويد القدس … وإغلاق كل ملفات التسوية السلمية وتبديد حل الدولتين. وهكذا تجلت -عبر هذه العملية التاريخية عبر القرن- أنماط من الخذلان العربي الإسلامي للقضية؛ حيث أضحت فلسطين، منذ 1967، تحارب لنفسها وبنفسها عسكريًا ودبلوماسيًا، بعد أن أضحت النظم العربية المجاورة تحارب من أجل “أمنها القومي” كما تحددة نظمها، بل وتعكس صراعاتها الأيديولوجية والسياسية على حركات المقاومة الفلسطينية. ومن ثم لم يكن الخذلان الحالي مفاجئا؛ فما الجديد؟ ومن ناحية أخرى، كانت الهيمنة الغربية بقيادة أمريكية قد بدأت تواجه تحديًا حادًا من جانب روسيا–بوتين، ومن جانب الصين.

وفي نفس الوقت كان الجوار الحضاري الإيراني يمارس صدامه المفتوح مع الولايات المتحدة وإسرائيل؛ سواء بالدبلوماسية أو بالوكلاء في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. أما الجوار الحضاري التركي فكان –بدوره- في ذروة الانحراط في مشروعه الإقليمي؛ إما في مواجهات عسكرية مع جواره السوري والعراقي الكردي، ولمساندة بعض قوى الثورة ضد النظام السوري، أو في مواجهات دبلوماسية مع الثورات المضادة في مصر وليبيا وحلفائهما في السعودية والإمارات.

  • دائرة قوى الشرق الكبرى، الصين وروسيا:

كان الاتحاد السوفيتي أول دولة تعترف اعترافًا كاملاً بإسرائيل كدولة 1949، ولكن قادت الحرب الباردة بين القطبين الاتحاد السوفيتي ليتخذ مسارًا آخر في مساندة بعض الدول العربية إبان احتدام المواجهة بين النظم الثورية والنظم المحافظة، تلك المساندة التي تنامت تدريجيًا مع توالي الانقلابات العسكرية في مصر ثم سوريا والعراق واستقلال الجزائر وانقلاب السودان وانقلاب ليبيا، وتولي نظم متصارعة مع مشروع الغرب في المنطقة. وتعددت أدوات المساندة السوفيتية ما بين صفقات سلاح، وقواعد عسكرية، ومساندة دبلوماسية في الحرب مع إسرائيل وما بعدها 1956، 1967.

ولقد قطع الاتحاد السوفيتي علاقاته مع إسرائيل (1967-1991)؛ وهي الفترة التي شهدت تطورات في النظم العربية، أهمها تصاعد اتجاهات تميل أكثر نحو الغرب، وتغير التحالفات العربية مع صعود الدور المساند من الخليج في معارك ما بعد 1967، وتغير مناخ الحرب الباردة نحو الانفراج، ثم تصفية القطبية الثنائية والتغيرات في توجهات السياسات الخارجية السوفيتية حتى تفكك الاتحاد السوفييتي ووراثة روسيا الاتحادية له؛ ومنه تطور الموقف من إسرائيل.

ومع عودة العلاقات السوفيتية-الإسرائيلية منذ 1991، في وقت انفردت فيه الولايات المتحدة الأمريكية بإدارة الصراع وبالتسوية السياسية، عاد التعاون السوفيتي الإسرائيلي في ثوب جديد، كان من أبرز علاماته في التسعينيات هجرة اليهود الروس إلى إسرائيل (ما يقرب من المليون مهاجر)، والتي مثلت قوة دعم ومساندة للمجتمع والسياسة والاقتصاد الإسرائيلي، ثم أخذت السياسات الروسية تجاه إسرائيل مسارات يشوبها التوتر والاحتكاكات الجزئية، ولكن دون الوصول إلى “الألعاب الصفرية” التي تقود إلى التأزم. ومن أبرز نماذج هذه الحالة العلاقات الإسرائيلية الروسية عقب التدخل الروسي في سوريا دعمًا لنظام الأسد (أحد قوى محور المقاومة في المنطقة)، فلقد ظل التنسيق الأمني الروسي الإسرائيلي قائمًا تجنبًا لصدام عسكري، كما ساند بوتين قوى المعارضة الإسرائيلية ضد نتنياهو والتي انتزعت منه الحكم فترة واحدة قبل عودته الأخيرة.

وأخيرًا، أدت الحرب الروسية على أوكرانيا لتأزم في العلاقات بين البلدين إلا أن عدم اندفاع إسرائيل في مساندة أواكرانيا، كما كان يطلب الغرب، حال دون انفجار هذا التأزم ومن ثم ظل في حدوده المحكومة من الطرفين. وفي نفس الوقت الذي بدأ من مسار التطبيع الإسرائيلي الخليجي، كان الخليج يتوجه شرقًا أيضًا نحو روسيا، في نمط جديد من العلاقات أثار التساؤل عن موضعه وتأثيره على التحالف الاستراتيجي الخليجي الغربي، بل وطبيعة علاقته أيضًا بالتوجه الخليجي نحو الصين.

ومن ناحية أخرى، اربتط توجه جمهورية الصين الشعبية منذ تأسيسها تجاه القضية الفلسطينية بالذاكرة التاريخية لصراع الصين ضد كافة أنواع النفوذ والسيطرة والتدخل والاحتلال الغربي، وتطور التنافس بين القوى الغربية الكبرى منذ القرن السابع عشر وبين روسيا القيصرية والإمبراطوية اليابانية والولايات المتحدة منذ القرن التاسع عشر، ومن ثم تطور التوجه الصيني نحو فلسطين بمنظور النظام الدولي بقدر تطور التوجهات الصينية الداخلية والخارجية.

ولذا، ففي إطار دعم سياسات الصين الشعبية لحركات التحرر الوطني في العالم الثالث إبان الحرب الباردة، دعمت الصين منظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها وحتى تم الاعتراف بها بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، ثم اعترفت بدولة فلسطين 1988. وفي نفس الوقت لم تعترف الصين بإسرائيل ولم تقم معها علاقات كاملة إلا منذ 1992 منذ نهاية الحرب الباردة وبداية عملية التسوية السلمية في الشرق الأوسط عقب حرب الخليج.

وفي حين استمر الدعم الصيني لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم على حدود 1967، دخلت إسرائيل في علاقات متنامية مع إسرائيل على كافة الأصعدة الاقتصادية والعلمية والعسكرية؛ حيث تزيدات الاستثمارات الصينية في إسرائيل وتضاعفت التجارة بين البلدين عدة مرات. ولكن هذا لم ينل من “النهج المتوازن” الذي حرصت عليه الدبلوماسية الصينية الجديدة منذ 2015؛ فهي لم تصنف حماس بوصفها حركة إرهابية، ولم تتوقف عن انتقاد إسرائيل في العديد من المناسبات (مثلاً بناء الجدار العازل)، لكن من الجدير بالذكر أيضا أن الصين لم تنبنَّ مبادرات خاصة مستقلة تجاه القضية.

ومن الملاحظ، ومع تصاعد التنافس الأمريكي الصيني عالميًا، تأثر التوجه الصيني نحو القضية، ولم يعد يتمسك بالنهج المتوازن بين الطرفين، كما تبين مثلاً في جولة العدوان الإسرائيلي على غزة 2021، فلقد استغلت الموقف، وغيره من المواقف السابقة؛ للتركيز على انتقاد السياسات الأمريكية بشدة، ولكن ظلت السياسة الصينية تجاه فلسطين أسيرة الدبلوماسية التقليدية في المحافل الدولية بدرجة أساسية، والتنسيق والحوار مع الدول العربية والإسلامية النافذة والمؤثرة مثل إيران والسعودية ومصر. فلقد لعبت المصالح الاقتصادية الصينية أيضًا مع هذه الدول دورها وخاصة في إطار الاستراتيجية الصينية العالمية لطريق الحرير الجديد.

خلاصة القول عن دلالات ومآلات هذه الذاكرة التاريخية:

إن العملية التاريخية لتطور وضع القضية الفلسطينية بين مطرقة وسندان النظام العربي وجواره الحضاري ومطرقة وسندان النظام العالمي المهيمن والقوى المناوئة لهذه الهيمنة، قد آل بها إلى جمود كاد يعلن عن موت القضية وانتصار الصهيونية، إلا أن الخبرات التاريخية تبين -من ناحية أخرى- أن الصراع، وعبر 75 عاما لم يتطور دائمًا في خط هابط ولا صاعد، ولكن في دورات شرطية؛ هبوطًا أو صعودًا لصالح القضية، وذلك إنفادًا للسنن الإلهية. فلقد استمرت المقاومة الحضارية الشاملة، العسكرية وغيرها، قائمة وحاضرة عبر مفاصل هذه العملية، ومن نماذجها على سبيل المثال داخل فلسطين وخارجها (ثورة البراق 1929، ثورة 1936)، حرب 1948، حرب 1973، حرب جنوب لبنان 1982، الانتفاضة الأولى 1987، الانتفاضة الثانية 2000، حرب لبنان 2006، سيف القدس 2021، وانتفاضة القدس والضفة ضد الاحتلال، وصولا إلى هذا الطوفان.

أولاً- طوفان الأقصى بين القواسم المشتركة والاختلافات في ردود الفعل الرسمية:

بدت القضية الفلسطينية، في ظل سوءات وضبابيات العقد الأسود في تاريخ المنطقة العربية (2013-2023)، كأنها قد غابت عن أولويات الاهتمام الرسمي والشعبي. فقد بدت القضية كما لو كانت لم تعد تمثل تهديدًا لإسرائيل وتقع ضمن منظومة الأمن الاقليمي العربي أو ضمن أولويات المشروعات الإقليمية لدول الجوار الحضاري، اللهم إلا حين ينتفض أهلها عبر موجات متقطعة ضد العدوان الإسرائيلي في الضفة أو غزة؛ فيهرع حينها الكبار للتهدئة والاحتواء والتسكين، وتعود إسرائيل لغيها، ويعود العرب إلى الشكوى لله، وحسب.

جاء طوفان الأقصى ليغير قواعد هذه اللعبة المتكررة منذ 2000، جاء ليكسر ثوابت كثيرة تكرست عن نظرية “أمن العدو” وعن أوهام “السلام” معه, وافتتح طوفان الأقصى معه -منذ بدايته وعبر تطوره- حقبة أخرى من الجهاد والمقاومة الفلسطينية.

في إطار هذا، كيف جاءت استجابة المواقف العربية الإسلامية للطوفان؟ هل أدركت هذه الدول طبيعته وما يفرضه من جديد على مستويي الخطاب والفعل، أم ظلت تكرر نمطها السابق عليه من الخذلان المعتاد، أم شيء غير ذلك؟

ثمة مشتركات وتباينات فيما بين المواقف العربية والإسلامية من الطوفان يمكن أن نجمل ملامحها الكبرى، ونتابع مدى التغير أو الاستمرارية فيها عبر تطورات طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلي عليه. فهذه المواقف لم تحمل مبادرات بقدر ما مثلت ردود فعل على التحام المقاومة مع العدوان على غزة والضفة، ولقد ظلت فلسطين تحارب بنفسها لنفسها على أرضها في محيط عربي إسلامي لم يدرك ساسته منذ اللحظة الأولى قدر التغيير الذي يحدث.

(1) ردود الفعل الأولى عند انتصار 7/10:

بالنظر في البيانات الرسمية الصادرة عن مصر، الأردن، السعودية، الإمارات، قطر، إيران، وتركيا، يوم 7 أكتوبر، يمكن القول:

أولاً- إنها جميعًا (فيما عدا إيران) قد حملت مفردات دبلوماسية باردة تقليدية لا تعكس إدراكًا لقدر طبيعة ما حدث وما سيليه: مثل الإعراب عن القلق، الحديث عن تصعيد من الجانبين، وعن تصاعد أعمال العنف من الجانبين، وعن مستوى العنف والتوتر، وعن ضرورة التهدئة وضبط النفس من الجانبين، وعن استفزازات إسرائيلية. هذا مع الاقتصار على ذكر عبارة “فصائل فلسطينية” دون ذكر أسمائها أو عنوان العملية “طوفان الأقصى”، مع عدم ذكر واضح لمسئولية ممارسات الاحتلال عن شن هذه العملية إلا قليلا، لكن الفعل الأبرز هو الإسراع بدعوة المجتمع الدولي لاستئناف عملية السلام وتفعيل اللجنة الرباعية من أجل “حل الدولتين”… (كأن الغاية هي احتواء وتهدئة الموقف كما في النمط السابق).

ومن حيث التباينات، نلحظ -ثانيا- كان بيان قطر الأكثر قوة بين بيانات العرب الرسمية، حيث حمل إسرائيل مسئولية تدهور الأوضاع والتصعيد الجاري ووصف ممارساتها بالانتهاكات وحذَّر من مخاطر حرب جديدة، ولم يدع إلى استئناف عملية السلام، ولكن طالب بتطبيق مقررات دولية سابقة. وفي المقابل كان بيان الإمارات الأكثر تخاذلاً بين العرب، حيث تضمن إشارة إلى التعازي لجميع الضحايا، والأكثر من حيث عدم الإشارة إلى مسئولية إسرائيل.

ونلحظ كذلك أن تركيا كانت قريبة من مفردات البيانات العربية، وأنها كانت عرضت عرضا سريعًا التدخل لمنع التصاعد: “بصفتنا تركيا، نحن مستعدون دائمًا لتقديم أفضل مساهمة لضمان السيطرة على هذه التطورات قبل أن تتصاعد أكثر وتنتشر إلى منطقة أوسع”. هذا بينما جاء بيان إيران بالطبع هو الأكثر قوة من حيث المفردات، ومن حيث المضمون؛ ذاكرًا عملية طوفان الأقصى بالاسم، وواصفًا إياها “بأنها حراك عفوي لفصائل المقاومة والشعب الفلسطيني المظلوم؛ دفاعًا عن حقوقه المشروعة وغير القابلة للإنكار، ورد فعل طبيعي على السياسات المثيرة للحرب والاستفزازية والعنجهية للصهاينة، خاصة رئيس الوزراء المتطرف والمغامر للكيان الصهيوني الغاضب”. وأكد البيان الإيراني أن الحق الأصيل للشعب الفلسطيني المظلوم في الدفاع عن نفسه وأرضه ومقدساته ضد الاحتلال والعدوان والانتهاكات اليومية والإرهاب المنظم للكيان الصهيوني هو حق طبيعي ومشروع يستند إلى كافة المعايير الدولية المعترف بها والمبادئ الأساسية للقانون الدولي.

(2) المشتركات والاختلافات بين التغيير والاستمرارية منذ 7/10:

بالنظر إلى منظومة القضايا الخمس التي فجرها طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلي، فلقد قدمت الدول العربية والإسلامية أنماطًا من المواقف من حيث أولوية القضايا محل الاهتمام، ومن ثم لا يمكن تصنيفها بوضوح؛ حيث إنه ليس كل مشترك تجاه قضية معينة قابله اختلاف نفس الدول حول القضايا الأخرى. فلقد مثلت كل دولة أو مجموعة دول حالة شبه منفردة؛ وذلك من حيث قربها الجغرافي ودرجة انخراطها السابق في الصراع المباشر مع إسرائيل (مصر، الأردن)، ومن حيث توقف اتفاقيات السلام وطبيعها (الخليج في مقابل مصر والأردن)، ومن حيث انقطاع أو استمرار العلاقة الاستراتيجية مع إسرائيل (إيران مقابل تركيا).. إلى غير ذلك من العوامل التي تسهم في تفسير هذه المشاركات وتلك الاختلافات؛ ومنها ايضا الحالة الاقتصادية والمجتمعية لكل دولة أو مجموعة دول.

  • بالنسبة لمصر:

فقد تصدرت خطابات رئيسها أولوية رفض التهجير القسري إلى سيناء أو التحذير منه والعمل على منعه، مع استمرار التأكيد على أهمية استمرار السلام مع إسرائيل الذي “استثمرت فيه مصر عقودًا طويلة” من أجل الأمن القومي المصري، مع عدم التركيز في البداية على تكييف ماهية 7 أكتوبر أو تكييف ماهية حماس (هل هي مقاومة أم إرهاب؟)، والاكتفاء بالإشارة إلى فلسطين إجمالاً، والإشارة إلى حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، مع إدانة قتل المدنيين على الجانبين، ومع الإشارة إلى تجاوز إسرائيل حق الدفاع عن نفسها.

والأخطر والأهم في هذه التصريحات المصرية أمران:

الأمر الأول- الإصرار دائمًا على القول إن مصر لا تغلق معبر رفح، وإن ما يعيق تدفق المساعدات وخروج المصابين وأصحاب الجنسيات الأجنبية -قبل وخلال وبعد الهدنة- هي الإجراءات الإسرائيلية باعتبار إسرائيل هي قوة الاحتلال. ولقد ظلَّ الموقف المصري المعلَن عن حالة معبر رفح وعلاقته بأمن مصر القومي محل تساؤلات عديدة عن موضع السيادة المصرية عليه في مواجهة تعنت إسرائيل بوصفها قوة الاحتلال، وبالنظر إلى الاتفاقيات التي تنظم إدارته على الجانبين، وإلى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وخاصة في مثل هذه الظروف الإنسانية المتدهورة لأهل غزة في ظل استمرار وحشية العدوان، التي كانت تستلزم إجراءات استثنائية من مصر، دون إعلان حرب “لا سمح الله”! وظلت مصر –كغيرها من الدول العربية- تكرر في تصريحاتها على كافة المستويات الداخلية والخارجية، أن المجتمع الدولي مسئول عن تيسير دخول المساعدات وحمايتها وتدفقها بالقدر اللازم والسريع، كأن مصر ليست دولة الجوار، ودولة العبور، وكأن هذا الأمر ليس له علاقة بمنع “التهجير القسري” الذي اعتبرته مصر خطًّا أحمر بالنسبة لأمنها القومي.

الأمر الثاني- هو ضبابية الموقف حول أهداف إسرائيل من العدوان، وخاصة تلك المتعلقة بتصفية حماس والفصائل وتدميرها؛ ومن ثم ضبابية الموقف من حماس كقوة مقاومة أو منظمة إرهابية تحاصرها مصر فعلاً بدرجات مختلفة منذ 2008، وبلغت ذروتها منذ 2014. ظهر ذلك في مناسبتين؛ هما: المؤتمر الصحفي المشترك مع المستشار الألماني أولاف شولتس خلال زيارته للقاهرة في 18 أكتوبر، قبل انعقاد مؤتمر السلام الإقليمي في القاهرة 21 أكتوبر، ثم مؤتمر التضامن المصري مع فلسطين في استاد القاهرة 24/11 ليلة بداية الهدنة المؤقتة. ففي المناسبة الأولى لم يبد السيسي اعتراضًا على إعلان إسرائيل هدف تصفية المقاومة أو التهجير القسري، ولكن كل ما كان يهمه أن يتم ذلك بعيدًا عن سيناء حتى لا يتصدع السلام المصري الإسرائيلي. وفي الثانية أطلق السيسي على الدولة الفلسطينية المأمولة أنها ستكون “منزوعة السلاح”.

وفي المقابل كان الإعلام المصري يقود حملة شديدة الضراوة ضد الصهيونية وإسرائيل تذكرنا بأجواء الستينيات من القرن الماضي وحتى حرب أكتوبر 1973، كما يعرب عن تضامن شديد مع المقاومة الفلسطينية (أحيانًا بذكر اسم حماس أو بدونه)، مع استضافة تلفزيونية مهمة لخالد مشعل في البداية ثم إسماعيل هنية.

إلا أنه مع استمرار العدوان الإسرائيلي وتزايد التضامن من الرأي العالمي مع المقاومة وحماس، ومع تكرار الفيتو الأمريكي على قرارات أممية بوقف إطلاق النار ولو إنساني، بدأت تظهر ملامح تغير في الخطاب المصري، وخاصة خلال جولة اللجنة السباعية (المنبثقة عن مؤتمر الرياض للقمة العربية الإسلامية الطارئة 11/11) في نيويورك وواشنطن؛ حيث أشار وزير الخارجية المصري في حديث له إلى ثلاثة أمور مهمة: (1)أن حماس حركة تحرير وطنية ولا تخضع لتصنيف مصر لمعايير تصنيف جماعة الإخوان المصرية داخليا، (2)عدم التأكد من النتائج النهائية للحملة العسكرية الإسرائيلية ومدى تحقيقها لأهدافها (أي تدمير حماس)؛ مرة أخرى: بدون اعتراض على أهداف هذه الحملة، وبدون وصفها بالعدوان، (3)لم يحمِّل الوزير المصري حماس مسئولية الحرب. كما بدأت البيانات المصرية -وخاصة في الأمم المتحدة، (وليس على لسان رئيس مصر الذي سبق وأعطى إسرائيل حق الدفاع عن النفس وأن وصفه بأنه كان متجاوز الحد)- في إدانة إسرائيل بجرائم حرب، واتهامها بالقيام بإبادة جماعية؛ وهو ما كانت قد تجاوزته دول أخرى -مثل قطر وتركيا- بالدعوة لمحاكمات دولية لقادة إسرائيل.

وأخيرًا: لعبت مصر -بالمشاركة مع قطر وتحت رعاية الولايات المتحدة- دور الوساطة للوصول إلى الهدنة الإنسانية (24/11- 30/11)؛ وهو الأمر الذي ركز عليه الإعلام المصري باعتباره دورًا رائدًا.

ورغم تكرار مطالبات مصر بصوت أعلى، مثل غيرها، بضرورة وقف النار الإنساني؛ وذلك عقب الفيتو الأمريكي على قرار مجلس الأمن في 8/12، ورغم أن اشتداد العدوان الإسرائيلي على جنوب قطاع غزة كان يزيد من مخاطر التهجير أو النزوح القسري أو الإرادي، ورغم تزايد تهديد الأمن القومي المصري (وفق مفهوم النظام) إلا أن مصر لم تعرب أو تعلن عن توتر في علاقاتها مع إسرائيل، إلا أن مصادر “عبرية” هي التي سربت أخبارا نقلاً عن اتصالات مصرية أمريكية، عن “توتر شديد” بما قد يهدد بتصدع السلام المصري–الإسرائيلي؛ وذلك في الوقت الذي تزايد الإعلان عن جهود مصرية من أجل هدنة جديدة، بعد تعثر وقف إطلاق النار حتى ما بعد 8/12.

بعبارة أخرى، رغم تكرار مناطق التوتر بين مصر وإسرائيل، وتعدي إسرائيل مرارًا على الاتفاقات مع مصر حول المعبر (قصفه أو إغلاقه)، وحول تصدير الغاز، وحول استمرار الحديث الإسرائيلي عن التهجير، وحول قضايا أخرى، إلا أن مصر لم تستخدم ايا منها -ولو بوصفها أوراق ضغط- لخدمة هدف “منع التهجير القسري”.. لماذا؟ هل حفاظًا على دور وساطة مصرية؟ ومن أجل ماذا؟ هل حفاظًا على مصالح مصرية؟ أم لمفهوم مخصوص للأمن القومي المصري وللدور المصري في الصراع؟

إن الموقف المصري من حماس ومن إسرائيل يرتبط أيضًا ويصب بالطبع –كما سنرى- في الموقف المصري من “إدارة قطاع غزة والحل السياسي بعد الحرب”؛ ومن ثم من احتمالات الأدوار المصرية المطلوبة من إسرائيل والكبار لاحتواء نتائج “طوفان الأقصى”.

  • أما بالنسبة للموقف الأردني:

فالأردن ذو علاقة خاصة مع القضية، من خلال الروابط التاريخية بالضفة منذ 1948، ثم الدور الدعائي تجاه المسجد الأقصى منذ 1967، والأهم الوجود الفلسطيني في المملكة منذ 1948 وما بعد 1967، وبالطبع اتفاقية وادي عربة للسلام مع إسرائيل من 1993.

ومن ثم كان الرفض الأردني للعدوان الإسرائيلي، وحين امتد أمد العدوان على غزة وتصاعدت تداعياته في مزيد من احتمالات انتفاضة الضفة من ناحية، والانتهاكات الإسرائيلية العسكرية المستمرة ضد مخيماتها، وصل الرفض الأردني إلى اعتبار أن هدف التهجير القسري الذي قد يصل إلى الضفة سيكون بمثابة “إعلان حرب”.

وكانت المواقف الأردنية لوزير الخارجية شديدة الوضوح والحسم في بيان كيف أن طوفان الأقصى هو نتاج عواقب الاحتلال الإسرائيلي وممارساته، وأن حماس حركة مقاومة وتحرير، كما سحبت الأردن سفيرها من إسرائيل، وأوقفت التعاون مع إسرائيل في اتفاقات مياه وطاقة محدودة. هذا ولقد لعب وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي دورًا هامًا في إطار المجموعة العربية في الأمم المتحدة (خلال اجتماعات مجلس الأمن والجمعية العامة) وذلك بخطاب حاسم وشديد الإدانة لإسرائيل ورغم عدم امتداد الإدانات الأردنية إلى الولايات المتحدة بوضوح وشدة، إلا أن إعلان الأردن عن إلغاء زيارة بإيدن للمملكة أو اللقاء الرباعي الذي كان معتزما إجراؤه مع السيسي وعباس والملك عبد الله، كان له دلالة مهمة عن مدى الرفض الذي أضحى يمثله المشاركة الأمريكية المباشرة مع العدوان الإسرائيلي، الذي يهدد صميم المملكة وصميم دورها الحرج في الاستراتيجية الأمريكية.

والأردن أكثر الدلو التي تشهد تظاهرا ضد العدوان وتأييدا للمقاومة وشعبها، وهي الدولة العربية الوحيدة في ذلك الموقف، وذلك تحت ضغط الشارع الأردني الذي لم تكف مظاهراته الحاشدة المنددة بالعدوان على غزة والمطالِبة بإلغاء اتفاقية وادي عربة. وكانت المظاهرات الأردنية هي الأكبر والادوم مقارنة بانعدامها في معظم الدول العربية (ماعدا اليمن) إلا من قبيل الاستثناء (مظاهرات قليلة في العراق، والمغرب وتونس، وفي مصر كانت مرة واحدة بأمر من السيسي لتفويضه بشأن الأمن القومي المصري).

ورغم البعد الجغرافي عن “معبر رفح” إلا أن المملكة أصرت على تحدي الإجراءات الإسرائيلية وتمكنت، ولكن بالطبع من خلال تنسيق مباشر مع إسرائيل (مثلها في ذلك مثل الإمارات)، في إسقاط جوي -أربع مرات- لمتطلبات المستشفى الأردني في جنوب قطاع غزة.

ومع هذا، تظل مخاوف الأردن كبيرة، ومعلنًا عنها بوضوح، من امتداد مخطط التهجير إلى الضفة؛ ومن هنا حرصها على ما سيؤول إليه الوضع في غزة، وما بعد الحرب (كما سنرى).

ج) أما بالنسبة إلى دول الخليج الثلاث (قطر والسعودية والإمارات): فقد تتفاوت علاقاتها الرسمية والعلنية مع إسرائيل من حيث التوقيت والمضمون:

فلقد كانت قطر الأولى، دون اعتراف رسمي أو تبادل علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، في التعامل النوعي مع إسرائيل من خلال مكتب تمثيل تجاري إسرائيلي في الدوحة؛ وهي الوحيدة التي تحتضن منذ 2012 مقر قيادة حماس السياسية في الدوحة بعد خروجه من سوريا. ومع وجود أكبر قاعدة أمريكية في الخليج في قطر، فإن أدوار قطر في الوساطة تتم بتنسيق دائم مع الولايات المتحدة؛ ولذا لم تتسم مواقفها بإدانات واضحة أو هجوم صريح وواضح على مشاركة أمريكا في العدوان الإسرائيلي على غزة.

ولم تنسق قطر مباشرة مع السعودية والإمارات ومصر إلا في مناسبات محدودة منذ 7/10 مع مصر في الإعداد للهدنة الأولى، ومع السعودية والإمارات على هامش قمة الرياض الإسلامية–العربية، ثم القمة الخليجية في الدوحة 5/12. ورغم الخلافات الكامنة منذ الحصار الرباعي على قطر منذ عدة سنوات، فلم تكف قطر عن التواصل المباشر عند الضرورة، كما مع مصر في الهدنة ومع الإمارات بعد الفيتو الأمريكي على وقف النار 8/12 (لقاء سريع بين الشيخين).

كما اتسم الموقف القطري بالمبادرة والحركية، على عكس الدول الخليجية الأخرى ومصر، كما اتضح خلال الإعداد للهدنة الأولى وتنفيذها، وخلال الإعداد لوقف النار المؤقت أو الهدنة الجديدة المطلوبة بعد فشل مجلس الأمن 8/12. ومن أهم ملامح الموقف القطري الرسمي ما يلي: (1)المبادرة بإعلان واضح وصريح لإدانة العدوان الإسرائيلي، ووصف جرائمه الممتدة ضد أهل غزة بأنها جرائم حرب تستوجب التحقيق الدولي، وكشف الأسباب الحقيقية لطوفان الأقصى. (2)إعلان أن حماس ليست إرهابية ولكنها حركة مقاومة، وأن 7 أكتوبر نتاج ممارسات احتلال. (3)المبادرة والإصرار على الهدنة لأغراض إنسانية، (4)إبداء الاهتمام الشديد بالإغاثة (وزير الدولة القطرية للتعاون الدولي لولوة الخاطر في غزة 26/11 للإشادة بأهلها ومقاومتها والعمل على كسر الحصار والوقوف على الاحتياجات الإنسانية)، (5)الاهتمام بإبراز دور حماس في التفاوض غير المباشر، من خلال مكتب الحركة في الدوحة، والتذكرة دائمًا بأنه لا يمكن تدميرها أو تفكيكها وأن دورها قائم ولن ينتهي.

مع تجدد العدوان بعد انتهاء الهدنة، برزت مطالبة قطر بمحاكمة إسرائيل على جرائم الحرب التي ترتكبها؛ وهو ما لم تذكره مصر أو السعودية والإمارات فرديًا، وإن كان جاء بعد ذلك في نطاق بيان قمة الرياض في 11/11، وبيان قمة الدوحة 5/12، وخلال جولة اللجنة السباعية.

هذا، وتجدر الإشارة إلى أنه مع الفشل في تمديد الهدنة الأولى لما بعد اليوم السابع تعرضت قطر لهجوم مباشر من نتيناهو، على أساس أنها ترفض الضغط على حماس احترامًا لشروطها بعد تصاعد العدوان واستمراره. وفي مقابل إعلان نتيناهو عن استهداف قادة حماس بالاغتيال في الخارج (يقصد قطر وتركيا)، وذلك عقب القمة الخليجية في الدوحة التي حضرها الرئيس أردوغان، لم تدخل قطر في صدام مباشر مع إسرائيل كما فعلت تركيا، وتم الإعلان عن مغادرة عدد من قادة حماس لمقرهم في الدوحة متجهين إلى مكان غير معلوم.

يالنسبة لموقفي السعودية والإمارات: فقد اجتمعا في كونهما الأقل حركية ومبادرة بالرغم من ثقل وزنهما الاقتصادي وأدوارهما التاريخية السابقة (الملك فيصل، والشيخ زايد آل نهيان) في مساندة القضية الفلسطينية وحرب أكتوبر 1973، إلا أنهما دخلتا في طريق السلام مع إسرائيل، وقد سبقت الإمارات منذ 2020 السعودية والأخيرة كانت على وشك التوقيع.

وعدا الإدانة التقليدية للعدوان الإسرائيلي أو عبارات المساندة التقليدية (وفق مبادرة 2002 العربية) لعملية السلام وحل الدولتين؛ فيمكن القول إن الغياب السياسي شبه الكامل هو سمة دور الدولتين.

وكان الإعداد السعودي للمؤتمر المشترك الطارئ للقمة العربية والإسلامية، استثناءً على السياسة السعودية، ولكن الدبلوماسية السعودية في تأخير انعقاد كل منهما منفردًا -من ناحية- ومن ثم في احتواء مضمون البيان المشترك الختامي ليظل في نطاق المواقف القولية فقط دون آليات حركة ومبادرة. ولم تكن اللجنة السباعية وجولاتها إلا تقليدًا متبعًا في مثل هذه الحالات.

أما الإمارات، فلقد كانت مشاركتها في تقديم مشروعي قرار في مجلس بوقف إطلاق النار، بحكم عضويتها في هذه الدورة؛ والأول كان بمشاركة روسية في نوفمبر، والثاني كان بعد تحريك الأمين العام للأمم المتحدة جوتيريش وتفعيله للمادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة لاعتبار أوضاع غزة مهددة للسلم العالمي وأنه يستوجب تدخل مجلس الأمن.

ومن ناحية أخرى، قامت الدولتان بمنع المظاهرات المؤيدة والمتضامنة مع أهل غزة والمقاومة، كما منعت لاحقًا المتضامنين البارزين الناقدين لمواقفهما، فضلاً عن مظاهر خذلان أخرى أكثر وضوحًا (كما سنرى).

وأخيرًا: فإنه حين تزايد الضغط العالمي المدني والشعبي ضد العدوان الصهيوني، وحين تفاقمت المأساة الإنسانية في غزة أمام العالم، وحين بدت تلوينات في موقف الإدارة الأمريكية من أجل “تخفيف الاستهداف الإسرائيلي العشوائي للمدنيين ضمن العمليات العسكرية الإسرائيلية، ومع تزايد ضغوط حكومات وشعوب غربية من أجل وقف النار، بدا أن السعودية والإمارات مستهدفتان بتحركات سياسية لفواعل أخرى، وخاصة روسيا (زيارة بوتين السريعة للسعودية، وزيارة الإمارات على هامش مؤتمر Cop28 في أبو ظبي 30 نوفمبر- 12ديسمبر)، إلا أن المصالح الاقتصادية والمالية المتبادلة هي التي تصدرت بيانات الزيارتين، وجاءت قضية غزة على استحياء بعد ذلك.

وحتى لو بدت اللقاءات الثنائية أنها -شكليًا- ذات أهداف في مواجهة الولايات المتحدة في المنطقة، إلا أن التحالف الاستراتيجي السعودي والإماراتي مع الولايات المتحدة أقوى من أن تحاول الدولتان الفكاك منه مباشرة، ولكن التوجه نحو الشرق –الصين وروسيا- ليس بالنسبة للدولتين إلا أوراق توازن. ويتضح ذلك من ثلاثة أمور: الاتصالات المستمرة من ناحية بين السعودية والإمارات وبين إيران من أجل احتواء توسيع نطاق الحرب في المنطقة وذلك بتقديم “جزرة لإيران” (لم تتبين بعد). ومن ناحية ثانية يأتي التواصل الصيني السعودي الإيراني الأخير في بكين في 15/12، (ونترقب ماذا نتج وراء الكواليس)، علمًا أن الصين وروسيا أقوى حلفاء إيران. ومن ناحية ثالثة: الدور الذي تطلبه الولايات المتحدة وإسرائيل من الدولتين فيما يسمى “إعمار غزة بعد حماس”، والذي ما ينفك شريكا العدوان في استدعائه -علنًا وتسريبًا- عند التخطيط لما بعد الحرب.

وبالنظر إلى منظومة هذه المشتركات والتباينات العربية–العربية (في نطاقها المحدد في الدراسة)، نجد أنها في حدودها الدنيا التي لم تصب في دعم القدرة الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية لحماس من ناحية، ولم تـنَل من قدرات العدو من ناحية أخرى.

ولهذا أقول إن هناك عملة من وجهين: ما حققته المقاومة من إنجازات وانتصارات عسكرية مع صمود أهل غزة غير المسبوق على جرائم القصف الإسرائيلي المتزايدة من ناحية، وهزيمة إسرائيل العسكرية الاستراتيجية يوم 7/10 واستمرار هزائمها العسكرية على يد المقاومة مع تنامي خسائرها الاقتصادية والسياسية والاخلاقية والمعنوية داخليًا وخارجيًا من ناحية أخرى. وهذه العملة بوجهيتها هي من نتاج جهاد حماس عسكريًا وإعلاميًا (بفضل الله تعالى) ليس منذ 7/10 فقط ولكن منذ عقدين، وما كانت انجازات طوفان الأقصى، وحتى الآن، إلا الثمرة بفضل الله تعالى. ولم يكن للدول العربية، التي تشارك في حصار حماس وإدانتها بالإرهاب، أي فضل في هذه الإنجازات، بل لم تكتف بعدم النصرة –بالمعنى الإيجابي- ولكن امتدت إلى أنماط من الخذلان تفوق نظائرها السابقة في تاريخ المقاومة الفلسطينية منذ نشأة دولة إسرائيل. لكن لماذا؟ هل عن عدم قدرة أم عن عدم رغبة؟ ولكن ماذا عن الجوار الحضاري؟

د) الجوار الحضاري: إيران وتركيا بين العداء المفتوح لإسرائيل والتوازنات:

تقدم الدولتان -منذ عقدين– نموذج “الإخوة المتنافسين”؛ كل على طريقته ومنواله، ووفق نموذج مشروعه الإقليمي تجاه المنطقة العربية.

فإيران تجسد دور العدو الصريح واللدود لإسرائيل والولايات المتحدة، تدير معهما معركة صعبة منذ عقود؛ تتراوح أدواتها بين التصعيد العسكري والمفاوضات الدبلوماسية الثنائية أو متعددة الأطراف، العلنية أو من وراء الكواليس. فتتراوح حالة العلاقات بين التوتر والتصعيد والتهدئة حول كافة القضايا المفتوحة في المنطقة؛ وفي قلبها فلسطين.

أما تركيا فهي تجسد دور الجسر بين حضارتين غربية وشرقية، وهي عضو الناتو والحليف الصعب للغرب، وهي وريثة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل والتعاون العسكري والاقتصادي معها. وتقوم سياستها على المناورة -بذكاء وصعوبة- بين روسيا والحلف الغربي، وبين العرب وإسرائيل، مع انحياز أكبر تجاه القضية الفلسطينية، منذ عقدين.

وفي إطار هذه التوجهات للدولتين تتبدى علاقات خاصة مع الصين وروسيا تصل بالنسبة لإيران إلى درجة من التحالف أقوى مما عليه تركيا.

هذا وقد نشط وزير الخارجية الإيراني بزيارات إلى لبنان وإلى الدوحة، واتصالات متعددة المستويات إقليمية ودولية؛ لدعم المقاومة وفضح العدوان، كما تواصل قادة حماس مباشرة مع عبد اللهيان في بيروت، ومع الرئيس الإيراني ضمن زيارة إلى طهران، هذا ناهيك بالطبع عن الاتصالات مع الأطراف المسئولة عن تصعيد الضغط العسكري إقليميًا على إسرائيل؛ أي حزب الله والحوثيين وفصائل سوريا والعراق.

ويتضمن الموقف الإيراني الهجوم الشديد على الولايات المتحدة باعتبارها الشريك في العدوان؛ وهو الأمر الذي لم يظهر في الخطابات العربية على اختلافها، وظهر بقدر أقل في الخطاب التركي. ويتضمن الإدانة الصريحة والواضحة للعدوان الإسرائيلي وأهدافه؛ سواءٌ بتصفية حماس أو تصفية القضية، وكذلك الإدانة بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية، والمطالبة بمحاكمته على جرائمه، مع تكثيف التذكرة الدائمة بتفاصيل هذه الجرائم وانتهاكها لكل المواثيق الدولية، والأهم هو التلويح بالمخاطر التي تحيط بتوسيع (وليس تصعيد) الحرب إقليميًا، مع إنكار المسئولية المباشرة عن استجابات حزب الله أو الحوثيين أو حتى المعرفة بعملية 7/10.

ولم تقتصر المواقف الرسمية الإيرانية على الرئيس الإيراني ووزير خارجيته، مثل بقية الدول، ولكن امتدت أيضًا إلى وزير الدفاع الإيراني، وقائد الحرس الثوري الإيراني. ولقد حرص وزير الدفاع على بيان أن عمليات المقاتلين والمقاومة الفلسطينية انطلقت من قدراتهم المحلية وروح المقاومة، وأن عملية طوفان الأقصى، هي عملية فلسطينية ناجحة خالصة، وأنها أجهضت استراتيجيات الاحتلال العسكرية. أما رئيس الحرس الثوري فلقد اعتبر نجاح المقاومة هزيمة للكيان الصهيوني وأفول لأمريكا؛ ومن ثم فإن الثورة الإسلامية تحقق قفزة على صعيد التطورات السياسية والأمنية في المنطقة والعالم. وفي المقابل: فإن سفير وممثل إيران الدائم في الأمم المتحدة في رسالته إلى مجلس الأمن كذَّب ورفض الادعاءات الأمريكية أن الأعمال العسكرية ضد قواعدها العسكرية في سوريا والعراق تتم بتحريض من إيران، كما وظفت إيران هجومها الخطابي على الولايات المتحدة في مجال حقوق الإنسان أيضًا.

وفضلاً عن التواصل المباشر بين الرئيس الإيراني وإسماعيل هنية رئيس الحركة في طهران فإن قائد الحرس الثوري إسماعيل قاآني بعث برسالة مهمة لقائد القسام محمد الضيف والمقاومة مفادها أن المقاومة سطرت ملحمة عظيمة عنوانها “طوفان الأقصى” حقّقها الله على يد المجاهدين في كتائب القسام ومجاهدي المقاومة في غزة، وأظهرت بوضوح ضعف وهشاشة الكيان الصهيوني الغاصب، وأثبتت بشكل عملي وحاسم أن هذا الكيان أوهن من بيت العنكبوت. وخاطب الضيف بقوله:

أيها القائد العزيز، إن العمليات البرية التي بدأها العدو والضربات المتتالية التي وجهتها المقاومة لقواته ومدرعاته أثبتت للجميع أن المقاومة في غزة قادرة على المبادرة والابتكار، مع الحفاظ على تنظيمها وقدرتها الميدانية. وقد جعل هذا الإنجاز الواعد أبناء الأمة الشرفاء يزدادون التفافًا حول خيار الجهاد، وأملا باقتراب الفتح، وإيمانًا بأن دخول المجاهدين إلى المسجد الأقصى وتطهيره من دنس الصهاينة قد بات أقرب من أي وقت مضى. وكما أن غزة اليوم تدافع عن شرف الأمة وعزتها وكرامتها، فلتكونوا على ثقة بأن إخوانكم الملتحمين معكم في محور القدس والمقاومة ومعهم كل شرفاء الأمة وأحرار العالم لن يسمحوا لهذا العدو المتوحش ومن يقف خلفه بالاستفراد بغزة وأهلها الأبطال الصامدين ولن يمكنوه من الوصول إلى أهدافه القذرة على مستوى غزة وفلسطين. أيها الأخ المجاهد، إنه يشرفني باسمي وباسم إخوانكم في قيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن أتقدم إليكم وإلى جميع المجاهدين وسائر أبناء الشعب الفلسطيني بالتهنئة والتبريك على هذا النصر المؤزر والإنجاز النوعي الذي لا سابق له في تاريخ الصراع مع هذا الكيان، سائلين الله عز وجل أن يمن على الشهداء برفع الدرجات، وعلى الجرحى بالشفاء العاجل. وختامًا فإننا تؤكد العهد والميثاق والالتزام الإيماني والأخوي الذي يجمعنا، ونطمئنكم بأننا وضمن استمرارنا في الحماية والدعم المؤثرين للمقاومة، سنقوم بكل ما يجب علينا في هذه المعركة التاريخية. أخوكم إسماعيل قاآني قائد قوة القدس في حرس الثورة الإسلامية”.

يشير هذا إلى كيف أن البعد العسكري في السياسة الإيرانية الداعمة للمقاومة المسلحة في غزة يعد بعدًا أساسًا وفقًا لأيديولوجيتها الثورية، وكونها أحد أهم مصادر التسليح الرئيسية للمقاومة منذ أكثر من عقد.

إلا أن الأدوات الدبلوماسية أيضًا لم تكن أقل أهمية، وخاصة تجاه الأمم المتحدة ومنظماتها؛ مثل: مجلس حقوق الإنسان حيث شنت إيران على أمريكا وإسرائيل حربًا ضروسًا باستخدام كل المفردات المتصلة بانتهاك حقوق الإنسان وارتكاب جرائم إبادة وعقاب جماعي تخالف وتنتهك كل المواثيق والأعراف الدولية.

هذا، ولم ينقطع التواصل بين إيران ودول خليجية، وخاصة قطر، وخاصة خلال الإعداد للهدنة وتنفيذها، وبعد تجدد العدوان، وكذلك التواصل مع السعودية، وخاصة خلال قمة الرياض 11/11 التي حضرها الرئيس الإيراني بدعوة من الملك سلمان، والتقى على هامشها بولي العهد السعودي. وكانت تصريحات الرئيس الإيراني قبل القمة تعرب عن الأمل والتفاؤل على أساس أن أنظار الأمة تتطلع إلى هذه القمة؛ لتكون ساحة للعمل وليس ميدانا للكلام فقط، وأن توجه رسالة قوية، ولقد بين أنه هو الذي طلب عقد القمة الإسلامية الطارئة إلا أنه تم تأجيلها لأسباب مختلفة، ولقد أعلن وزير الخارجية الإيراني أن إيران أرسلت تحفظاتها على بيان قمة الرياض للأمانة العامة لمنظمة التعاون الإسلامي.

ويظل ما يميز الدور الإيراني تجاه غزة عدا دعمه العسكري لحماس والجهاد، أمران أساسيان: من ناحية أولى أنه رغم المساندة المطلقة لحماس ودورها العسكري، يأتي التأكيد الإيراني على مسئولية حماس وقوى المقاومة عن قراراتها وأن طوفان الأقصى كان تخطيطًا وقرارًا ذاتيًا. ومن ناحية أخرى: يأتي الموقف من قضية التوسيع الإقليمي لنطاق الحرب منذ بداية العدوان الإسرائيلي، وخاصة بعد بدء العملية البرية منذ 24/10؛ وهو الأمر الذي يستدعي أدوار كلٍّ من لبنان واليمن والعراق وسوريا، وأدوارها في مساندة غزة والتصدي للعدوان عليها، ولو من خلال أحزاب وحركات وفصائل سياسية ومسلحة؛ على رأسها حزب الله والحوثيون، والفصائل التابعة لإيران في العراق وسوريا.

فلقد أقدم حزب الله على استهداف مواقع عسكرية إسرائيلية في ويستمر تبادل القصف المتقطع ولكن المحدود من حيث النطاق والتدمير. مما يعني أن هناك تقييدًا لدور حزب الله عبر عنه حسن نصر الله في خطابيه الوحيدين عن الحرب منذ اندلاعها.

فعدا الجدال الداخلي في لبنان عن خطورة جرّ لبنان إلى حرب مفتوحة، تهدد إسرائيل بأنها ستدمر بيروت خلالها مثلما تدمر غزة، فهناك الضغوط الأمريكية، وربما السعودية، على حكومة لبنان وجيشها، بل والضغوط على حزب الله ذاته بالعمل على التطبيق القسري لتنفيذ الكامل للقرار 1701 (أي إبعاد حزب الله عن الحدود الجنوبية)؛ سواء دبلوماسيًا، أو عسكريًا بواسطة إسرائيل.

ومهما كانت هذه المحدودية في الدور العسكري والتفسيرات لها، إلا أنها تشير إلى حسابات إيران حول مخاطر التوسع السريع والكثيف لنطاق الحرب. وهنا تبرز مغزى الاتصالات السعودية والقطرية مع إيران.

ومن ناحية أخرى، يمثل الدور الحوثي درجة أكبر من الضغط العسكري ضد العدوان على غزة؛ سواء من حيث اطلاق الصواريخ والمسيرات نحو أم الرشراش (إيلات)، أو سواء من حيث منع السفن الإسرائيلية من المرور عبر مضيق باب المندب بعد أن أقدم الحوثيون على احتجاز سفينتين ابتداء. ولقد تصدت القطع البحرية الأمريكية في أعلى البحر الأحمر للصواريخ والمسيرات الحوثية، كما أعلنت القيادة البحرية الأمريكية أن التصدي لمنع الملاحة في البحر الأحمر أمام السفن المتجهة لإسرائيل يحتاج جهدًا دوليًا مشتركًا؛ مما يعني أن أمريكا لا تريد الدخول في صدام مباشرة مع حلفاء إيران في البحر الأحمر؛ وذلك في نطاق بذل الجهود لعدم توسيع نطاق الحرب أساسًا، والاعتماد على الضغوط من وراء الستار (العصا والجزرة) قبل الاضطرار إلى الخيار العسكري الذي ليس من مصلحة إسرائيل أو الولايات المتحدة فتح جبهات ساخنة له قبل “الانتهاء من غزة”. ويظل هجوم فصائل موالية لإيران على قواعد عسكرية في سوريا والعراق الأقل من حيث التهديد بتوسيع نطاق الحرب، والأقل من حيث التكرار ودرجة التدمير، ولقد تصدت الولايات المتحدة لذلك مباشرة بضربات انتقائية مضادة. وظلت إيران تنكر مسؤوليتها عنها.

ولقد ظلت مخاطر توسيع نطاق الحرب قائمة، رغم جهود احتوائها، وخاصة بعد تجدد العدوان الإسرائيلي على القطاع عقب انتهاء الهدنة في 1/12، وبعد فشل الجهود المتكررة لوقف اطلاق النار؛ حيث يمكن اعتبارها ضغطًا مستمرًا -ولو مقيدًا- من أجل وقف العدوان.

ولقد انتهزت إيران فرصة الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن 8/12، لتجدد هجومها واتهاماتها للولايات المتحدة على نحو أكثر شدة من حيث اللهجة والمضمون.

أما تركيا: فكعهد أردوغان، في توجيه الخطابات الساخنة ضد إسرائيل واعتداءاتها، اتسم الموقف التركي بتصاعد الإدانة لإسرائيل بالعدوان ومسئولية الاحتلال؛ ومن ثم المبادرة منذ وقت مبكر بما لم يأت على لسان رئيس عربي؛ وهو اتهام إسرائيل بالإرهاب بل بالنازية، واعتبار حماس منظمة مقاومة وتحرير، وأنها حزب سياسي سبق وفاز بانتخابات حرة وسلبت حقوقه. كذلك اتهام الرئيس التركي لإسرائيل بأنها لا تدافع عن نفسها، ولكن ترتكب جرائم حرب لابد من معاقبتها عليها، ولابد من إجبارها على وقف إطلاق النار. وهكذا فإن تركيا، مثل إيران وعلى عكس معظم الدول العربية، مصرة على عزل إسرائيل دوليًا وضمان محاكمة قادتها أمام محاكم دولية.

وعلى عكس إيران لم يصبَّ الخطاب التركي الغضب والاتهام على الولايات المتحدة وعلى تآمرها مع إسرائيل، ولكن حرص على بيان أنه رغم عضوية الناتو إلا أن تركيا تحرص على التوازن بين الشرق والغرب، وأن ذلك لا يجعل تركيا عاجزة عن انتقاد المسلك الغربي شديد الانحياز لإسرائيل، أو مطالبة الغرب بالضغط على إسرائيل واستحضار أبعاد أخلاقية وثقافية مع توالي الإدانات الأخلاقية لكل منهما على جرائم الحرب والإبادة، وضرورة العقاب عليها، والأهم إدانة الغرب بالنفاق والمعايير المزدوجة (معاداة السامية أمام الإسلاموفوبيا)، والأكثر أهمية الهجوم الشخصي على نتنياهو “جزار غزة”، وكيف أن مستقبله السياسي انتهى.

ولقد اتسمت السياسة التركية بالمبادرة والحركة واستحضار قضية غزة إلى كل المحافل الأممية والأوروبية والآسيوية، خلال اتصالات أو زيارات متبادلة، فلم تقتصر الدولة التركية على العرب أو الغرب فقط، ولكن اهتمت بالتواصل مع العالم التركي.

وتجدر ملاحظة اهتمام أردوغان بالتواصل مع الخليج وخاصة السعودية، كما بان من اتجاه جولته الأولى في الخارج -عقب انتخابه- نحو الخليج. وبعد مؤتمر الرياض في 11/11، حضر أردوغان قمة COP28 في أبو ظبي، ولم ينس أن يستحضر -في كلمته في المؤتمر- قضية غزة، بقوة وعلى عكس السيسي مثلاً، كما شارك ضيفًا في قمة مجلس التعاون الخليجية (44) في الدوحة برئاسة قطر. واتسقت مفردات خطابه خلال الزيارة مع مفردات البيان الجماعي الصادر عن القمة، فيما يتعلق بغزة وفلسطين.

ويظل الموقف التركي، تجاه ما بعد الحرب، أقل وضوحًا وأقل صدارة من المواقف تجاه الحرب ووقف إطلاق النار والمساعدات الإنسانية (كما سنرى).

ومن مظاهر الاهتمام التركي بسرعة الحركة والمبادرة في وقت مبكر من العدوان، ما اقترحه أردوغان في القمة ال(16) لمنظمة التعاون الاقتصادي طشقند 7/11، في أول بيان، عن استعداد تركيا لتولي “دور ضامن” لحل الأزمة بين إسرائيل وفلسطين في قطاع غزة؛ وهو الاقتراح الذي لم يجذب الاهتمام بقدر ما أثار انتقادات عن أهداف تركيا؛ وخاصة وهي مدافع قوي عن عدم توسيع الصراع في المنطقة، وعن وقف الحرب، إلا أن تركيا أوضحت أنها تعمل على تطوير الأفكار.

ومن سمات الموقف التركي -مثل الإيراني أيضًا- الخطاب الموجه إلى المسلمين والدعوة لتعزيز وحدتهم؛ ومن هنا الاهتمام الكبير بالعمل الجماعي (كما سيلي).

ومن ناحية أخرى: اهتمت تركيا بالإعلان عن تجاوز سياستها القول إلى الفعل؛ مثل إعلان وزير التجارة 7/11 أن التجارة انخفضت بين تركيا وإسرائيل بقدر 50% منذ 7 أكتوبر، والإعلان عن بدء محاكمة 57 متهمًا بالتجسس لصالح الموساد.

كما توافق 3000 محام تركي لرفع قضايا ضد جرائم حرب إسرائيل، وغيرها من مظاهر نشاط مدني تركي برعاية رسمية؛ مثل: الإعانات والإغاثات الإنسانية، واستقبال المرضى والجرحى من غزة، وخروج العديد من المظاهرات في مدن تركية.

التواصل التركي –الإيراني: استكمالاً للتواصل الدائم بينهما حول الأزمات الإقليمية العربية والتركمانية، وبقدر ما كان للدولتين –كما سنرى- من قيود على حركتيهما تحد من مساندتهما المأمولة لغزة، أهلاً ومقاومةً، إلا أن الإعلان عن إلغاء زيارة الرئيس الإيراني المرتقبة 27-28/11 لأنقرة كانت مؤشرا مهمًّا على الاختلافات. ولقد تباينت تفسيرات الدولتين؛ حيث كشفت بعض المصادر أن الإلغاء جاء بسبب محاولة الرئيس الإيراني الضغط على تركيا لاتخاذ موقف يتجاوز مجرد الخطاب الحاد ضد إسرائيل، وأن يمارس ضغطًا أيضًا بسبب استمرار علاقات تركيا الاقتصادية والعسكرية مع إسرائيل، ورأت مصادر أخرى أن الحرب قد كشفت عن نوع من تنافس الأدوار بين البلدين وخاصة من حيث درجة التأثير على مواقف حماس.

وعدا هذه الحلقة من التواصلات الإيرانية-التركية ومع دول الخليج، ومن خلالهما وعبرهما أيضًا ما يجري من تواصلات مع روسيا والصين (كما سنرى)، فإن أعضاء الدائرة العربية الفاعلين الآخرين -أي مصر والأردن- لم ينخرطا في هذا المستوى من التفاعلات؛ لانشغالها المباشر بعواقب الجوار المباشر للضفة ولغزة، وخاصة ما يتصل بالإعاشة الإنسانية ومخاطر التهجير القسري أو النزوح الإرادي إلا أن هذا لم يحل دون لقاء الرئيس المصري بكل من الرئيس الإيراني والتركي على هامش مؤتمر الرياض.

ثانيًا- نماذج الخذلان لغزة: المؤشرات والمبررات

كان طوفان الأقصى مفاجأة، وصدمة، وصفعة، وكان الصمود المستمر حتى الآن (72 يومًا)، بقدر ما أضحى محركًا للعديد من الاستجابات المناصرة، بقدر ما أضحى محلاً للتساؤل: فيم كانت تفكر حماس حين بدأت طوفان الأقصى: هل تحدي الأوضاع الإسرائيلية والعربية والعالمية الراهنة التي تدفع بالقضية إلى التصفية (هدف طويل المدى)؟ أم استكمال نزع ما تبقى من شرعية أوسلو، أو ما تبقى من وجود مهترئ للسلطة الفلسطينية التي فشلت في خدمة القضية بالأسلوب السياسي (هدف متوسط المدى)؟ أم هدفت إلى تطوير دورها ليصبح سياسيًا عسكريًا على صعيد الضفة وغزة، منفردة، أو بالتعاون مع القوى الوطنية التي تشاركها نقد السلطة واتهامها بالفشل (هدف قصير المدى)؟

هذا السؤال المركب ازدادت أهميته مع تعقد واستدامة أجل المعركة العسكرية (على غير توقع الكثيرين)، وعلى نحو عقد من إدارتها والتفكير فيما بعدها. وهذا السؤال هو أحد وجهي عملة يجسد وجهها الثاني سؤال آخر: ما الذي تريده النظم العربية أو تتوقعه من نتيجة المعركة العسكرية وانعكاساتها على إدارة أوضاع غزة ما بعد الحرب وأفق الحل السياسي؛ حيث لابد وأن يعقب كل حرب طالت أو قصرت، تسوية سياسية؟

لا تساعد المواقف العربية الإسلامية، السابق بيان خصائصها، بمفردها، على الإجابة عن هذين السؤالين، ولكن تدعم منها ما نسميه “نماذج الخذلان” لغزة: مقاومة وأهلاً، ودلالاتها الكلية، بالنسبة لهذه الإجابة المنتظرة.

ومن واقع جملة التحليلات الناقدة أو المعترضة أو المتهمة لتخاذل الدول العربية والإسلامية، فإن خريطة أطروحات أبعاد النصرة المأمولة وأسباب الخذلان يمكن أن تتلخص في الآتي: تتعدد أشكال هذه النصرة المأمولة ما بين أبعاد عسكرية واقتصادية وسياسية، وتتنوع درجات كل بُعد من هذه الأبعاد من تدخل عسكري إلى جانب حماس إلى ضغط وتهديد أو توسيع نطاق الحرب من جانب الجوار (لبنان، اليمن، العراق، سوريا) أو إمداد بسلاح أو حظر سلاح على إسرائيل، ومن تهديد بورقة الطاقة إلى إعلان حظر -ولو جزئي- أو وقف مشروعات تعاون مع إسرائيل، ومن إلغاء اتفاقيات السلام ووقف عمليات التطبيع إلى سحب السفراء أو قطع العلاقات.

بالنظر إلى مجمل الانتقادات والاتهامات بالتخاذل، يمكن أن نلحظ كيف تتعدد منظومات أسباب الخذلان من قبيل: أولوية المصالح القومية، المخاوف على الأمن القومي، المعايير المزدوجة، التماهي مع العدو شريكته الولايات المتحدة، التحفظات والمحاذير من تجدد صحوة “الإسلام السياسي” في المنطقة ممثَّلاً في حماس، أولوية المصالح الاقتصادية والتنمية والرفاهية على أعباء وتكلفة النصرة العسكرية، الاستجابة للجوانب العقدية والحضارية من أجل فلسطين، أولوية سلام الكبار وشروطهم على حقوق الشعوب، غياب الإدارة السياسية لدى النظم، اختلال توازن القوى العسكرية بين جيوش عربية وبين إسرائيل وشركائها… جملة القول: إلى أي حد تظل إسرائيل والصهيونية هم العدو؟ وأين ذهبت متطلبات البعد العقدي أمام صعود البعد المادي؟

ونماذج الخذلان متنوعة، وتتباين التحليلات حولها؛ ما بين مبرر وما بين مفسر، وأقدم منها النماذج العشرة التالية؛ سواء على مستوى الوعي والرأي العام أو عناصر السياسات وأدواتها:

(1) خذلان المفاهيم سيئة السمعة:

الحرب في غزة، التوازن بين المدنيين على الجانبين، الموضوعية والحياد في التحليل السياسي، التصعيد العسكري الإسرائيلي، تهديد حماس للأمن الإقليمي، الفصائل الفلسطينية، حل الدولتين، السلام الشامل والدائم والعادل، حق الدفاع عن النفس، العداء للسامية… الخ.

(2) خذلان مشايخ السلطان والأذرع الإعلامية:

الهجوم على حماس وتشويه جهادها شرعيًا وسياسيًا، وتنطق هذا النماذج بما لا يصرح به السادة الرسميون علنًا من دوافع سياسية وأيديولوجية لعدائهم مع حماس وما يناظرها من حركات إسلامية توصف بالإرهاب. ومن ناحية أخرى، يأتي دور مشايخ وأذرع إعلامية في توجيه العامة نحو الانصياع لمواقف الحكام والقبول بها باعتبارها من البطولة والزعامة في خدمة قضية فلسطين، ناهيك بالطبع عن تبرير عدم الخروج بمظاهرات بل وتجريمها إلا ما يكون بتفويض أو أمر من الحكام.

والملاحظ محدودية نطاق المظاهرات بين الشعوب العربية وندرتها -مقارنة بنظائرها الغربية- نظرًا للحظر الرسمي لها في بعض الدول (السعودية، مصر، الإمارات)، والأكثر خطورة هو توقيف المتضامين علنًا -في بعض البلاد- مع القضية، ومنع رفع علم فلسطين.

(3) النفاق على صعيد الإعلام العربي:

في حين تتسم الخطابات الرسمية لبعض الدول (مثل مصر) بمحدودية الانخراط في النصرة، فنجد أن الأذرع الإعلامية للنظم تخوض حربًا ضروسًا ضد إسرائيل والصهيونية، وتشن حملة مساندة قوية لنصرة شعب غزة؛ بعبارة أخرى: كانت القوة الناعمة الإعلامية وسيلة للنصرة تعوض من -أو تخفي- محدودية النصرة المادية لا سيما من الأنظمة.

ومن نماذج النفاق الإعلامي الأخرى تركيز كل قناة أو شبكة على أداء الدولة الراعية: مصر، قطر، السعودية، الإمارات؛ باعتبارها الأكثر فعالية وأداءً. بل من الملاحظ أن نمط الأخبار والتغطيات والمحللين والتحليلات المبثوثة تعكس توجهًا سياسيًا (هل التركيز مثلاً على أهل غزة المساندين لحماس والصامدين أم على الشاكين من الأحوال والراغبين في السلام، هل التركيز الدائم على مشاهد الدمار والمعاناة الإنسانية الشديدة أم بث صور سريعة متفرقة وبعضها لأوضاع “عادية”، هل النقل المباشر عن الإعلام العسكري والسياسي الصهيوني أم عن جانب المناظر الفلسطيني… وهكذا).

(4) توظيف العدوان على غزة في السياسة الداخلية: استحضارًا أو إسقاطًا

من أبرز النماذج على استحضار القضية إلى الداخل، مشهد الانتخابات المصرية التي تواكبت مع طوفان الأقصى منذ بدايتها، ولقد ربط خطاب مرشح الدولة وحملته وأذرعه الإعلامية بين انتخابه وبين حماية أمن مصر القومي من تداعيات الحرب في غزة. وكان مشهد “مؤتمر تضامن مصر مع أهل غزة” الذي عقد في استاد القاهرة الدولي بحضور مرشح الدولة 23/11، علامة دالة على هذا التوظيف شكلاً ومضمونًا، كما أن مرشح الدولة، الرئيس المصري، أعطى الإذن -مرة واحدة- للشعب للتظاهر حين دعاه للأسف، خلال مؤتمر صحفي مع المستشار الألماني خلال زيارته لمصر، بالنزول لتفويضه في اتخاذ ما يلزم لحماية الأمن القومي المصري، وذلك دون تحديد واضح ودقيق للمقصود بهذا. وخرجت مظاهرات محدودة مقارنة بنظائرها في الخارج، وتم توظيفها إعلاميًا ودعائيًا للمرشح أكثر من كونها دعمًا لغزة. وعقب الإعلان عن فوزه الساحق بالرئاسة في 18/12، وفي نطاق أعلى نسبة تصويت شهدتها البلاد، استدعى السيسي الأوضاع في غزة باعتبارها تهديدًا للأمن القومي يستلزم استنفار كل الجهود لوقف الحرب، دون ذكر لجهوده السابقة في هذا المجال طيلة شهرين ونصف.

ومن أبرز نماذج الإسقاط لما يحدث في غزة من أنشطة السياسات الداخلية: الحالة السعودية ابتداء من مهرجانات الترفية الفنية الدورية، إلى مهرجانات الألعاب الكروية العالمية (إلا أن جمهور الأهلي المصري لم ينس فلسطين وغزة في مبارة 15/12). وهي أنشطة تحدَّت فيها الأجهزة المنظمة دعاوي المقاطعة لعلامات تجارية عالمية، وكذلك الإعلان عن افتتاح أكبر مدينة رياضية ثقافية ترفيهية في الرياض، ومهرجانات أفلام في المغرب، كذلك أسقطت كلمات عدد من القادة العرب (مثل مصر) غزة من كلماتهم في افتتاح COP28 الذي عقدته الإمارات المتحدة بحضور رئيس الدولة الإسرائيلي!

(5) التماهي مع العدو المشارك مباشرة لإسرائيل في الحرب:

رغم العداء الواضح الذي أبدته إدارة بإيدن وحلفاؤها الأوروبيون -وخاصة ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا- منذ 7/10، لدرجة المشاركة المباشرة في الحرب من خلال المساندة العسكرية والدبلوماسية القوية، فإنها لم تتعرض لهجوم شديد أو انتقاد صريح من “الحلفاء” العرب. وعدا الزيارة الملغاة للرئيس الأمريكي إلى الأردن، فنجد في المقابل تماهيًا مع هذا العدو “الغربي الأمريكي والأوروبي”. اتخذ شكل الاستقبال الرسمي من النظم العربية لرؤساء أو وفود على مختلف المستويات والتسميات؛ باسم العمل الدبلوماسي أو التنسيق أو “الوساطة”. وكانت الوساطة القطرية المصرية من أجل هدنة إنسانية، تتم برعاية أمريكية، ولم ينس بايدن أن يشكر في كلمته، عقب الإعلان عن الهدنة، السيسي وأمير قطر ثلاث مرات في مدى خمس دقائق، في حين لا ينسى أيضًا أن يؤكد أن حماس “إرهابية” لا تريد السلام، ولا تريد أن يكون الفلسطينيون وإسرائيل جنبًا إلى جنب بوصفهما دولتين في سلام. في المقابل لم ينس الطرفان المصري والقطري توجيه الشكر للرئيس الأمريكي من أجل الضغوط التي مارسها على إسرائيل لتقبل الهدنة.. شكرا للقاتل الأصلي على الموافقة على وقف المقتلة تحت رداء “الدبلوماسية”.

ومن ناحية أخرى، وفي حين لم يكف المتحدثون باسم حماس سياسيًا عن توجيه الاتهامات لأمريكا، وفي حين لم يكن المتحدث باسم القسام “أبو عبيدة” يتجه بكلمته إلا إلى الشعوب العربية والإسلامية، فإن الرئيس عباس -خلال لقاءاته مع كل الساسة الأمريكيين والغربيين الذين توافدوا على قبلة تل أبيب طيلة أسابيع وحرصوا على لقاء عباس- لم يكف عن الإعلان عن الشكر لهم للاهتمام بعملية السلام وحل الدولتين. وإذا كانت أهداف هذه الزيارات للسلطة معروفة؛ ومفادها الالتفاف على حماس واستمرار الاعتماد على “السلطة الفلسطينية المدجنة”، فإن عباس –بدوره- لم يكف عن تذكيرهم بأن حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني، وأن السلطة تنأى بنفسها عن أعمالها وترفضها. واستمر عباس يتراوح ما بين تكذيب موقفه هذا، وما بين تكراره: تحت ضغط المصلحة من ناحية، وتحت تأثير الانتقادات الفلسطينية له من ناحية أخرى، حتى بدأت مرحلة إعلان “السادة” الغربيين والإسرائيليين عما يعني ضرورة استبداله، وضرورة تجديد دماء السلطة… وهكذا، فبدأت أذرعه أو بدائله تفتح النيران صراحة على حماس (أحاديث حسين الشيخ مثلا وغيره).

(6) المصالح الاقتصادية القومية والاندماج في الاقتصاد العالمي بين ضغوط الحسابات الداخلية وبين الشراكات عبر القومية:

لم تكف تركيا الرسمية عن خطاباتها السياسية عالية الحدة ضد إسرائيل والمساندة للمقاومة، ولكن لم تتخذ أي من الإجراءات الاقتصادية الرادعة أو المعاقبة لإسرائيل التي بإمكانها القيام بها؛ نظرًا لشراكاتها العديدة مع إسرائيل في هذا المجال؛ سواء على مستوى القطاع الحكومي أو الخاص.

وفي المقابل اتسمت السعودية والإمارات بخطاب سياسي تقليدي وغياب المبادرة للضغط بصوت عالٍ (باستثناء ما بعد الفيتو الأمريكي 8/12)، وفي المقابل لم تكف الأولى عن الإعلان عن اتفاقات اقتصادية وبترولية مع الصين وروسيا، وعن تدشين -أو الانتهاء من- مشروعات اقتصادية عملاقة داخلية أو عبر قومية مما يبرز ما أضحت عليها مكانتها بوصفها مركزا ماليا واستثماريا واقتصاديا عربيا وعالميا مهمًّا. وفي حين توقف مشروع التطبيع الرسمي السعودي مع إسرائيل منذ اندلاع طوفان الاقصى، ومازال الغموض يحيط بمآل مشروع الممر الاقتصادي من الهند وعبر السعودية والأردن إلى إسرائيل ثم أوروبا، فإن الإمارات لم تكفَّ مشروعات التعاون مع إسرائيل.

بل وتناولت بعض مصادر إعلامية، ما لم يتم التأكيد من صحته، عن عدة أمور أثارت انتقادات مهمة؛ وهي: تبرع رجل أعمال إماراتي بمائة وسبعين مليون دولار لفقراء إسرائيل، وتصدير الإمارات خضروات طازجة إلى إسرائيل عبر طريق بري من الإمارات إلى إسرائيل عبر السعودية والأردن لتعويض وتجنب عواقب منع الحوثيين للسفن المتجهة إلى إسرائيل. والجدير بالذكر أن الإمارات كانت قد بررت توقيع الاتفاق الإبراهيمي مع إسرائيل 2020 بأنها ستستخدم ورقة المصالح لخدمة القضية الفلسطينية؛ أي بالجزرة وليس بالعصا. ولكن ما النتيجة؟ وما حقيقة هذا المبرر؟

وعلى الجانب الآخر، نجد نموذج تركيا المعاكس، فلقد أثار موضوع الخذلان التركي لغزة مصادر تركية معارضة داخلية على رأسها زميل درب أردوغان أحمد داوود أوغلو، ثم معارضه اللدود لاحقًا، حين تساءل مستنكرًا: أين الفعل التركي الممكن واللازم والذي ينتظره الشعب الفلسطيني؟ كما تقدم حزب الشعب التركي المعارض للبرلمان بمشروع قرار حول طبيعة ما يتم تصديره إلى إسرائيل من منتجات تركية؟ ولقد استخدم حزب العدالة والتنمية الأغلبية لرفض مشروع القرار الذي لم يصل إلى حد المطالبة بوقف التصدير أو التعاون. كذلك وجه خالد مشعل عتابًا قويًا لأردوغان باعتباره زعيما تركيا ومسلما قويا كان بمقدوره الضغط بقوة على الغرب لوقف الحرب على الأقل.

إلا أن مصادر عربية وأجنبية فسَّرت الموقف التركي بأمرين: أحدهما- أن سياسة أردوغان قد أنجزت كثيرًا خارجيًا خلال العقد الأخير على نحو أنهك السياسة والاقتصاد والتحالفات التركية، وعلى نحو يبدو أن إدارة أردوغان، منذ إعادة انتخابه، قد تبنت استراتيجية للهدنة على كافة الجبهات لالتقاط الأنفاس وإعطاء الأولوية لعلاج مشاكل الاقتصاد الداخلية (وخاصة تراكم الديون الخارجية على القطاع الخاص؛ نظرًا للاندماج الشديد في النظام الراسمالي العالمي)؛ وذلك باستثمار بناء علاقات جديدة مع الخليج بل ومع مصر وشرق أوروبا. ومن هنا اتجه الرئيس أردوغان لتتناغم مع مواقف التيار العربي الرسمي العام، وتجاوزًا إياه من حيث شدة وكثافة الفعل القولي. وظهر ذلك في مقاصات مؤتمر الرياض للقمة العربية الإسلامية الطارئة في 11/11 وحضوره كضيف على القمة الخليجية في الدوحة في 5/12، وعدم الإصرار على فرض إدخال المساعدات التركية أو غيرها؛ وهو الأمر الذي كان يتطلب جهدًا استثنائيًا من الجميع لكسر “القيود الإسرائيلية”.

(7) حسابات مصالح الحفاظ على السلام مع إسرائيل: تناقضات خطاب الأمن القومي المصري

النظام والدولة والمجتمع في مصر -بعد عقد من الثورة المضادة المصرية- يعانون من مشكلات عديدة تجعل اندفاع النظام إلى حرب ضربًا من الجنون، حتى ولو كانت القيادة المصرية ترغب في ذلك، ولكن القيادة بالطبع لم تكن ترغب في ذلك أو تقدر عليه، إلا أن سلوكها اتسم بمجموعة من المتناقضات؛ لا لأنها لا تستطيع، ولكن لأنها لا تريد -في الوقت نفسه- أن تعترف بذلك، وأيضًا ليس خوفًا على الأمن القومي من التهجير القسري كما تعلن، ولكن بسبب حسابات تضع الأولوية لعدم الإضرار بالتعاون والسلام مع إسرائيل، فهل الإضرار بالأمن القومي المصري كان يعني الحفاظ على السلام مع إسرائيل حتى ولو كانت الكلفة عدم النصرة لغزة؟

ولذا يظل للضبابية في الخطاب الرسمي حول مفهوم “الأمن القومي المصري” ذاته وكيفية حمايته خلال حرب غزة، دلالات مهمة تطرحها العديد من الأسئلة أثارها عدد من الخطابات: كيف تتم إدانة جرائم إسرائيل ضد أهل غزة، وفي الوقت نفسه إدانة قتل المدنيين على الجانبين، واعتبار عدوان إسرائيل حق دفاع عن النفس تجاوز حدوده؟ كيف يتم التأكيد على رفض التهجير القسري دون العمل على وقفه فعليًا، حتى بعد أن بدأ النزوح من الشمال نحو الجنوب، وتدهورت أحوال أوضاع غزة لدرجة رفعت من احتمالات النزوح الجماعي “المجبر عليه” أهل غزة؟ كيف لا يتم قيادة حركة -أو المبادرة بها- وخاصة بعد مؤتمر الرياض 11/11 والفيتو الأمريكي 8/12، من أجل قرار أممي ملزم لإدخال المساعدات بسرعة واستدامة دون عراقيل إسرائيلية ولو بحماية دولية؟ فإن المساعدات تساعد أهل غزة على الصمود وعدم الاضطرار للتدافع، لا سمح الله، على معبر رفح؟ كيف يتم استدعاء حل الدولتين، مع الاستباق في 23/11 بالإشارة أن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح؟ أليس في هذا تقدير مسبق أن نتائج الحرب لن تكون في صالح المقاومة بحيث يمكن الضغط عليها أو فرض شروط عليها بما لا تقبله؟ ما البدائل التي تعدها مصر، في حالة اضطرار بعض من أهل غزة للنزوح أو “اقتحام معبر رفح”؟ هل السواتر الترابية والدعامات تكفي لمنع الاقتحام؟ كيف لا يتم في أول تجمع دولي شامل خلال احتدام الحرب في أبو ظبي (COP 28) 4/12، وبحضور الرئيس الإسرائيلي، لا يتم الإشارة في الخطاب الرسمي إلى غزة، على عكس خطابات رسمية أخرى ومقارنة بخطاب شيخ الأزهر؟

تعدت إسرائيل أكثر من مرة على المصالح المصرية، مثل ضرب المعبر عدة مرات (ولو من الجانب الفلسطيني)، وتم ضرب مواقع مصرية (ولو بالخطأ) ما أدى إلى قطع الإمداد بالغاز.. ذلك كله دون اعتبار مصر له تهديدًا لأمن مصر أو لمعاهدة السلام؟ ألم يبلغ الانصياع المصري “للعراقيل والقيود الإسرائيلية” على المعبر مداه، بحيث لم يقتصر فقط على المساعدات الدولية والمصرية الإنسانية، ولكن امتد إلى عبور الأجانب -بل والمصريين- من غزة إلى سيناء؛ فإسرائيل شديدة الحرص على أمنها، ومصر شديدة الحرص على عدم تكدير صفو السلام المصري-الإسرائيلي. ومن ثم كيف ستدير مصر علاقاتها بين السلطة في رام الله وبين المقاومة في غزة خلال جولة “ما بعد الحرب” التي بدأت بالفعل مقترنة بجهود وقف إطلاق النار منذ 8/12؟ لماذا الاكتفاء بذكر أن مقذوفات قد سقطت على طابا وشرم الشيخ دون شرح أسبابها أو طبيعة رد الفعل المصري؟ في المقابل كانت التقارير الدولية المتنوعة تشير إلى تنسيق مصري سعودي إسرائيلي أمريكي للتصدى للصواريخ والمسيرات التي يطلقها الحوثيون من اليمن. ثم أين وزير الدفاع ومجلس الأمن القومي المصري؟ هل الأمن القومي المصري مسئولية الرئيس المصري فقط؟

ولماذا عدم الإعلان بقوة وعلانية عن عدم اشتراك مصر في القوة البحرية الدولية التي اقترحتها الولايات المتحدة وأعلنت المشاركة فيها عدة دول، ولم تشارك فيها مصر والسعودية؟ لقد اكتفى الإعلام المصري والعربي والدول بتقدم عدة تفسيرات شكلية أو حقيقية، رغم أن هذا الرفض يحسب للسياسة المصرية لعديد من الاعتبارات الهامة، وعلى رأسها عدم المشاركة في تصعيد عسكري إقليمي ضد دولة عربية تتصدى للعدوان الإسرائيلي وتضغط من أجل وقفه وإدخال المساعدات إلى غزة، وليس من أجل منع الملاحة البحرية بكليتها في البحر الأحمر أو تهديد السلم والأمن الإقليمي، كما تدعي إسرائيل والولايات المتحدة، فأمن واستقرار إسرائيل مرتهن بوقف عدوانها واحتلالها.

لماذا تكرار حلفاء ومشاركي إسرائيل في العدوان خلال زياراتهم المتتالية لمصر الشكر لمصر على دورها في الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة، في حين يستمر العدوان الإسرائيلي الذي يهدد كل المنطقة بتوسيع نطاق الحرب؟

خلاصة القول: إن الخطابات المصرية الرسمية لم تشرح لشعب مصر أسباب السلوك أو الإجابات المحتملة على هذه الأسئلة.. لماذا؟ هل توخيا لاعتبارات أمنية أو حفاظًا على الدبلوماسية السرية، أو رغية في عدم “تصدع العلاقات السلمية المصرية الإسرائيلية، أو انتظارًا لما ستسفر عنه الحرب في النهاية، فيمكن عندئذ تقديم تفسيرات أو مبررات ما تم السكوت عنه أو ممارسة الغموض حوله؟ إن هذا يعني أن الأداء المصري يعكس تبنيا لمفهوم دفاعي ضيق عن الأمن القومي المصري، من خلال الامتناع أو الصمت، في حين أن حماية هذا الأمن كان يقتضي نصرة أكبر لقضية غزة، ولو كانت التكلفة قدرًا من “التكدر في العلاقات المصرية الإسرائيلية”، فلم تكن القيادة المصرية تريد النيل مما تسميه دور التنسيق بين الأطراف المتحاربة، أو دور الوساطة في عقد الهدنة، ولكن لم يكن هذا يصب في مصلحة غزة فقط، ولكن إسرائيل أيضًا. ومن ناحية أخرى، لم تستطع مصر التصدي لكل العراقيل الإسرائيلية أمام المساعدات وأمام عبور المصريين.

وأخيرًا، يظل الدور المصري في “الإعداد لما بعد الحرب” شديد الأهمية ليس لمستقبل القضية فقط، وليس قطاع غزة فقط، ولكن لأمن مصر القومي بالأساس.

وتجدر الإشارة إلى أن نموذج خذلان مصر لغزة يفرق عن نماذج خذلان الأردن من ناحية، والسعودية والإمارات من ناحية أخرى؛ لأن مصر لعبت –وتلعب- دورًا مهمًا مركزيًّا في إدارة الصراع العربي مع إسرائيل ثم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وذلك بحكم الدور المركزي في المنطقة، وعبر ما مر به من تحولات، وكذلك نظرًا بالطبع للجوار الحضاري لفلسطين التاريخية ثم لغزة الآن؛ وهو الأمر الذي لم يتوفر للسعودية أو للإمارات بدرجة أكبر. وفي حين دخلت مصر في اتفاقية سلام منذ 1978 إلا أنه ظل سلاما باردا، حتى حينٍ قريب، لم يقترن بتطبيع كامل كما ظهر في تطبيق الاتفاقات الإبراهيمية منذ 2020، حيث كان التطبيع شاملاً وسريعًا وذا نغمة عالية، تعكس أن الرؤية لإسرائيل والصهيونية مختلفة عنها في مصر.

(8) خذلان إيران؟: لماذا عدم التدخل العسكري القوي؟

بالنظر إلى طبيعة النظام الإيراني ومشروعه الإقليمي في المنطقة وموضع إسرائيل منه، ثارت التوقعات عن طبيعة الاستجابة العسكرية الإيرانية بدرجة أساسية. ولقد تعددت أشكالها، كما سبق البيان، وجميعها لم ترق إلى مستوى أكثر اتساعًا وشدةً؛ أي “الدخول في حرب إلى جانب حماس”.

وترجع التحليلات ذلك إلى عدة أمور: صعوبة تعبئة المجتمع الإيراني -بكل مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الراهنة- من أجل حرب مفتوحة، توجيه الجناح المعتدل في النظام الإيراني تحذيرات متتالية من الاندفاع في التدخل العسكري ولو المحدود، نجاح طوفان الأقصى في كسر نظرية الردع الإسرائيلي لا يعني تغيير حسابات إيران العسكرية عن الردع المتبادل بينها وبين إسرائيل، حماس ليست أداة من أدوات إيران في المنطقة بقدر أدوات أخرى، الدخول في حرب مفتوحة سيكون في مصلحة الخليج لإنهاك قدرات إيران بغرض عدم امتداد شرارة الحرب إليه، لم تدخل الصين وروسيا الشريكان الاستراتيجيان لإيران بمساندة كاملة وقوية لحماس…إلخ. كل هذه التفسيرات تعني أن “إيران” لم تعد إيران-الثورة؛ حيث إن الحسابات “الواقعية” -وليس العقدية فقط- تفرض نفسها في معظم الحالات؛ وأهمها عدم الدخول في حرب مفتوحة مع الولايات المتحدة، وإن لم يمنع ذلك من استمرار استفزازها وتحديها، كلما تسنح الفرص وبدون تكلفة عالية.

وفيما يبدو أن ما يحدث في غزة طوال أكثر من شهرين ونصف لم يمثل دافعًا كافيًا لإيران للقيام بما هو أكثر من التوسيع المحدود للحرب من لبنان واليمن والعراق وسوريا؛ وهو التوسيع الذي تحرص أمريكا على احتوائه بكل السبل، ويبدو أن ما وراء الكواليس -من عصا أو جزرة- يدفع إيران وحلفاءها إلى الاستجابة لعدم التصعيد حتى الآن، ولو من أجل وقف إطلاق النار.

(9) الخذلان الروسي والصيني: حسابات المنافسة مع الغرب

اتسمت مواقف الصين وروسيا بالتوازن خلال العقود التالية على التسويات السلمية بين العرب وإسرائيل، وكان لكل منهما علاقات اقتصادية وسياسية متميزة مع إسرائيل، وجميعها كانت محددة بالعلاقات مع الغرب، وبالداخل الإسرائيلي، والمصالح مع العرب. ولم تكن طوفان الأقصى والعدوان على غزة إلا فرصة أدارتها كل من الدولتين بطريقتها، الروسية الاقتحامية، والصنينة الهادئة.

فلقد بدت المواقف الروسية أكثر اتجاهًا نحو حماس: السلوك الروسي في الأمم المتحدة، والسعي لوقف إطلاق النار في مجلس الأمن، الخطاب السياسي القوي في إدانة إسرائيل ولو على فترات متقطعة، زيارة وفد قيادات حماس لموسكو، التنسيق مع إيران وتركيا، وأخيرًا الزيارة السريعة للسعودية وأبو ظبي خلال انعقاد COP28، الحديث عن أن أنواعا من سلاح وخبرة حماس الإليكترونية مصدرها روسي. ولم يمنع ذلك من الاتصال مع نتيناهو مباشرة من قبل بوتين.

لم يكن المسلك الروسي يستهدف القضية الفلسطينية لمشروعية حفقوقها بالطبع، ولكن كانت الدبلوماسية الروسية -خلال الأزمة- استكمالاً للنهج الروسي في مغازلة العالم العربي والإسلامي منذ أكثر من عقد؛ أي منذ أن انفجر صراع روسيا من جديد مع الغرب بسببب أواكرانيا، وفي ظل توجه أولويات السياسة الأمريكية نحو الشرق الأقصى وأوكرانيا متجاوزة الشرق الأوسط. بعبارة أخرى: كانت روسيا تنتهز فرص الهجوم العربي والإسلامي على السياسة الأمريكية لانخراطها المباشر في الحرب مع إسرائيل؛ لتكسب أوراقا على حسابها في اللعبة الجديدة بين القوتين لإعادة تشكيل التوازن العالمي. وكان هذا الدور الروسي يدافع أيضًا ضد تهديد أمريكا لمحور المقاومة في المنطقة وهم حلفاء روسيا، وخاصة في حالة توسيع نطاق الحرب إقليميًا، إلا أن إرث روسيا -في القوقاز من ناحية وفي البلقان من ناحية أخرى وفي أواكرنيا من ناحية ثالثة- يبين كيف أن تدخلاتها المعاصرة لا تستقيم فقط بسبب المصالح، ولكن تتدخل فيها أبعاد تاريخية: عرقية (سُلافية)، وقومية (روسية)، ودينية (أرثوذكسية)، تمثل جذورًا في القومية الروسية التي ينطلق منها مشروع بوتين ويتأسس على إحيائها وتجديدها علو مكانتها عالميا.

أما الصين، فرغم توطد العلاقات معها خلال العقدين الماضين، على الصعيد الاقتصادي والتكنولوجي، إلا أن المصالح الصينية لها حسابات أخرى ترتبط بمشروعها الاستراتيجي الكبير الذي يضعها في منافسة مباشرة مع الولايات المتحدة، ليس في الشرق الأقصى فقط (عسكريًا بالأساس)، ولكن في الشرق الأوسط، خاصة بالأدوات الناعمة. وكانت الوساطة الصينية في المصالحة السعودية-الإيرانية خطوة مهمة، إلا أن مشروع التطبيع السعودي-الإسرائيلي وخاصة مشروع “الممر الاقتصادي” من الهند إلى أوربا عبر السعودية وإسرائيل، كان سيمثل منافسًا خطيرًا في حال تنفيذه.

كان الخطاب الصيني تجاه طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلي، متوازنًا؛ فلا تقدم الصين أي مبادرة دبلوماسية أو سياسية وإن حرصت على استمرار التواصل مع إيران والسعودية، كما ظهر من اللقاء الصيني –الإيراني-السعودي في بكين 15/12.

ومما لا شك فيه أن التورط العسكري الغربي في الحرب يصب في صالح الدولتين لأنه ينال من القدرات المالية والعسكرية الغربية الموجهة لجبهة أوكرانيا.. وهو ما حدث بالفعل حين رفض الكونجرس حُزم التمويل المقترحة لإسرائيل وأوكرانيا.

(10) خذلان المواقف الجماعية العربية –الإسلامية والدولية:

تعددت الجهود الجماعية، ابتداء من مؤتمر السلام الدولي القاهرة الذي سارعت مصر بالدعوة إليه وبعقده 21/ 12 بعد أسبوعين من طوفان الأقصي، إلى مؤتمري القمتين العربية والإسلامية الطارئتين اللذين تأخر انعقادهما مرارًا حتى تم الانعقاد المشترك (المفاجئ أيضًا) في 11/11، إلى مؤتمر القمة الخليجية الدورية الرابعة والأربعين في الدوحة 5/12، إلى الانعقاد الخاص بجلسة مجلس الأمن 29-30/11 قرب انتهاء الهدنة الأولى، ثم الانعقاد الخاص له بناء على تفعيل الأمين العام للمادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة في 8/12، إلى الإعداد للانعقاد التالي لمجلس الأمن من أجل وقف النار.

شهد المؤتمر الأول الانقسام بين مواقف عربية وغربية حول إدانة طوفان الأقصى من عدمة، وحول تحميل إسرائيل المسئولية عنه من عدمه، وحول ماهية حماس (مقاومة أم إرهاب)، وحول تكييف العدوان الإسرائيلي (دفاعًا عن النفس أم عدوانًا).. ولم يتمكن المؤتمر، في وقت مبكر من الأزمة، من إصدار بيان، رغم اتفاق الجميع على “الشعار التقليدي”: العودة إلى عملية السلام من أجل حل الدولتين استباقًا لنتيجة الحرب.

ولم تكن مخرجات هذا المؤتمر، أو مواقف الوفود الأساسية مفاجئة، ولكنه كان كاشفًا ومؤكدًا لحقيقة الاصطفاف الغربي الجماعي في هذه المرحلة وراء الانخراط الأمريكي المباشر في الحرب من ناحية، وهو المحور الذي ستظل الدبلوماسية المصرية أسيرة له، رغم موقفها المعلن الرافض لـ”التهجير القسري” لكن دون قدرة على الفعل الفردي، إلا أن انعقاد المؤتمر الطارئ في 11/11 جاء في سياق مختلف تمامًا من حيث استمرارية العدوان الوحشي، وقرب انهيار الوضع الإنساني في غزة من جراء التدمير الممنهج، والنزوح القسري، والأخطر تأخر دخول المساعدات من معبر رفح حتى 30//10 وتقتيرها وتبطيئها حتى بدية الهدنة 24/11، مع استمرار معدلات دخول بطيئة وبأحجام محدودة لا تتناسب مع ضخامة الكارثة ومن ثم الإغاثة المطلوبة. ورغم أن بعض مفردات البيان الختامي للمؤتمر جاءت أكثر قوة، وجاءت بنوده أكثر شمولاً واتساعًا من بيانات فردية، إلا أنه -مقارنة بطبيعة الحرب- كان أقل من المتوقع في مثل هذه الأوضاع؛ حيث لم يعلن عن أية آليات ضغط سياسية أو اقتصادية أو عسكرية. وكان تكليف لجنة سباعية بمهمة التواصل مع القوى الكبرى الأعضاء في مجلس الأمن هو الإجراء الفعلي الوحيد.

والدلالة والنتيجة في حد ذاتهما هما الخذلان؛ يجتمع وزراء خارجية (7) من أكثر الدول العربية والإسلامية ثقلاً ليطوفوا العواصم الكبرى لإقناع ساستها أو الضغط عليهم، لكن بماذا؟ بوقف المذبحة أم بتقرير الحقوق السياسية أما بماذا..؟ وكانت البيانات التي تصدر عن كل لقاء للوفد، بوزراء الخارجية (ربما كان إيمانويل ماكرون هو الرئيس الوحيد الذي استقبلهم من بين رؤساء الدول التي زاروها)، متطابقة تمامًا، ماعدا معلومات التعريف باللقاء، وجميعها تؤكد المبادئ والمطالب. وهي بلا شك مهمة وضرورية في المعارك الدبلوماسية،.. فهل كانوا ينتظرون من العواصم الغربية، المتورطة في الحرب، تنفيذها؟ لعل ما دار في الكواليس يكون أمرًا آخر، إلا أن أمرين على الأقل يؤكدان أن هذه الجهود لم تثمر:

من ناحية أولى: عدم الإسراع في إدخال المساعدات الإنسانية، واستمرار الجميع -بما فيهم مصر- في الشكوى من القيود أو التعقيدات من قوة الاحتلال الإسرائيلية. فرغم أن بيان القمة طالب بكسر الحصار وفرض إدخال المساعدات بصورة سريعة ودائمة ومناسبة على إسرائيل، إلا أن الأمر ظل على ما هو عليه رغم ازدياد الأوضاع الإنسانية تدهورًا وسوءًا في شمال القطاع أو جنوبه.

ومن ناحية أخرى: جاء الفيتو الأمريكي الوحيد، مع الامتناع البريطاني، على مشروع قرار مجلس الأمن الذي قدمته دولة الإمارات في 8/12، وما زال الوفد السباعي يختم جولته بزيارة الأمين العام للأمم المتحدة، ثم اللقاء مع وزير الخارجية الأمريكي. وهكذا انتهت جولة اللجنة السباعية هذه دون إصدار بيان نهائي، والوضع ما زال يشهد اشتداد العدوان، وتغير تكتياته بالتشاور مع شريكته الولايات المتحدة، والمقاومة تزداد صمودا، والوضع الإنساني يزداد سواءً وأهل غزة صامدون دون نزوح قسري إلى معبر رفح، كما تأمل إسرائيل.

انتهت جولة اللجنة السباعية، لتثبت أنها كانت مجرد واجهة لرفع الحرج عن (57) نظاما حاكما في الدول العربية والإسلامية، اجتمعت عن بكرة أبيها؛ شعوبًا وموارد، ولم تجد أمامها أو أمام العالم في مجلس الأمن، إلا صوتًا إسرائيليًّا صلف لم يتحدث إلا بكلمتين جوفاوين: لن نوقف الحرب حتى نقضي على حماس، وأمَّنت عليه بالطبع المندوبة الأمريكية في المجلس. ورغم شدة كلمات المندوبين العرب في المجلس وحسمها في الإدانة والتحذيرات والمطالب، إلا أنها بدت وكأنها لا حيلة لها ولا تتحكم فيما يحدث؛ لأنها لا تعلن عن حركة تهديد أو تنفيذ. ولقد عبر وزير الخارجية السعودي -في حديث له في نيويورك- عن هذه “الحالة الذهنية” بقوله: لم يبذل القادرون المتنفذون في السياسة العالمية القدر اللازم من النفوذ لوقف الحرب. وكذلك أشار الوزير القطري إلى جانب آخر حين قال إن تعقيدات الحرب جعلت الوضع أكثر صعوبة بالنسبة لنا جميعًا.

وهكذا تركت 57 دولة الأمر بيد المتنفذين؛ اعترافًا -من ناحية- بأنهم ليسوا من المتنفذين القادرين على التأثير، وتركا للأمر -من ناحية أخرى- في يد المقاومة الصامدة أمام العدوان الإسرائيلي ومشاركيه.

وما زالت جهود وقف إطلاق النار، أو التهدئة، جارية منذ 8/12، ولكن في سياق عالمي وإقليمي مغاير بعد الانكشاف الذي أحدثه هذا الفيتو المنفرد عن شدة التورط الأمريكي، ولكن مع بداية التصدع في مواقف الكتلة الغربية، مقارنة بما سبق في 7/10، وظهر ذلك في عدم مشاركة الولايات المتحدة الفيتو، وامتناع بريطانيا، وبالمثل في الجمعية العامة والتصويت على قرارها الثاني في 12/12 من أجل وقف إطلاق نار إنساني والذي وافقت عليه بنسبة أكبر (153 دولة مقارنة بـ120 في القرار الأول)، وامتنعت بريطانيا ورفضت الولايات المتحدة.

وفي المقابل لا تنتظر المقاومة الجديد من النظم العربية أو المؤسسات الدولية، وتظل معلنة عما توقعه بالعدو من خسائر، ويظل أهل غزة على صمودهم، وتظل المقاومة متمسكة بشروطها عن عدم التفاوض حول أسرى قبل وقف إطلاق نار كامل.

ثالثًا- وماذا بعد هذا الخذلان … ولماذا الخذلان؟ محاذير الطريق نحو “الخذلان الأكبر*

منذ أن تجدد العدوان 1/12 وتصاعد حتى الآن، وعلى ضوء كل ما سبق طرحه عن المواقف ونماذج الخذلان طيلة ما يزيد عن 70 يومًا، وبعد أن اتضحت الصورة أمام الجميع؛ سواء من يريد أن يرى حقيقة المقاومة والعدوان أو يتغافل عنها..، لابد أن يطل سؤال مركب الوجه يقودنا إلى أسباب الخذلان ومخاطر الطريق نحو الخذلان الأكبر:

الوجه الأول من السؤال: إلى متى ينتظر العرب والمسلمون نصرة أهل غزة، والتهجير أوشك أن يتحقق، والإبادة الجماعية ما زالت مستمرة؟ من ينتظرون تدخله للنجدة وللضغط على إسرائيل: من يشاركون إسرائيل في الحرب مع دعواهم ضرورة الإغاثة فقط للتجمل، بينما تعرقلها شريكة العدو وعدوانه؟ أم هل ينتظرون هزيمة حماس واحتلال إسرائيل كامل قطاع غزة؛ وهو ما يتأكد استحالته بسرعة أو بدون تكلفة أكبر على إسرائيل ذاتها؟ أم ينتظروزن قرارا ملزما من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار؟

الوجه الثاني من السؤال: ممَّ يخاف العرب والمسلمون لو تحركوا بفاعلية أو بغالبية أكبر، ولو لمجرد التهديد بأوراق ضغط عديدة يمتلكونها، يخافون: حربًا مع إسرائيل؟ عقابًا من الكبار شركاء إسرائيل في العدوان؟ تهديدًا للأمن والسلام الإقليمي؟ أم ما زالوا يعتقدون أن “السلام مع إسرائيل” ما زال قائمًا وما زال يمكن الحفاظ عليه؟ ألم يتضح بعد من العدو الخطر على الأمن في المنطقة؟ ألم تتضح بعد مخاطر السلام والتطبيع مع إسرائيل على مصالح الدول (الضيقة) وليس القضية الفلسطينية فقط؟ ألم تتضح مخاطر التصهين على دول الخليج نظمًا ومجتمعاتٍ بالنظر إلى تركيبتها السكانية؟ ألم يتضح لمصر مطامع إسرائيل في سيناء، وكيف أن ضياع غزة نقطة ضعف في خاصرة أمن مصر القومي؟ ألا يدركون أن التماهي مع العدو الصهيوني من حيث العقيدة الفكرية (الخوف أو العداء للإسلام الحضاري المقاوم الثوري) لن تحمي النظم والعروش من المشروع الصهيوني التوسعي؟

أسباب الخذلان بين طغيان المصالح الضيقة وإعلان موت البعد العقدي والقيمي:

إن محصلة الإجابة عن هذه الأسئلة بالنسبة لأسباب الخذلان هي الآتي:

لم تعد القضية الفلسطينية بالفعل قضية النظم القائمة بالرغم من كل الشعارات التي ترفعها –ببرود- الخطابات الرسمية الشفوية والمكتوبة، ولكنها تظل قضية الشعوب العربية والإسلامية، وأضحت منذ طوفان الأقصى، والحمد لله، قضية أحرار العالم. ولهذا تنعدم الإرادة السياسية للفعل الفعال؛ سواء الفردي أو الجماعي، وحتى من تحركوا -مثل حزب الله والحوثيين وفصائل من سوريا والعراق- يتم الضغط عليهم لاحتوائهم أو إغرائهم بحملة تهديدات ومحفزات. وانعدام هذه الإرادة هو ما يجعل إسرائيل ليست عدوًّا بل حليفًا يتم التعاون والتنسيق والتفاوض معه من أجل إدارة الأزمة، لا التصدي له لردعه أو منعه. يرجع ذلك إلى جملة من الأسباب التي تتمحور حول العلاقة بين المصالح المادية التي تحفز الخذلان، وبين الأبعاد العقدية أو الأيديولوجية التي قد تحفز النصرة ولو في ظل الاستضعاف.

من ناحية أولى: محددات المصالح والحسابات الاقتصادية القومية في مقابل البعد العقدي للقضية:

هذه الحسابات -التي بدأت تبرز من عقود على حساب الأيديولوجية أو العقيدة- وصلت إلى ذروتها مع زيادة أواصر الاندماج في النظام الرأسمالي العالمي (وخاصة الخليج الذي رغم ثروته فهو ليس قويًّا)، أو زيادة أواصر التبعية لنفس النظام مع تفاقم الفشل الاقتصادي الداخلي وتعاظم الديون والاعتماد عليها وعلى المعونات والاستثمارات الخارجية (مصر، الأردن، لبنان، العراق…). بعبارة أخرى: الاقتصاد الآن يقود “السياسة الواقعية” التي تقود إلى “الوقوعية” والانهزامية، وليس إلى الواقعية الصامدة.

ومن ثم مع تواري “الأيديولوجية” لم يعد هناك أمن قومي عربي جامع، أو حركات معارضة مدنية وإسلامية تقاوم من أجل أمن إنساني وحضاري شامل. فمثلاً لقد أضحت جزرة الوعود بالمعونات -وهي إسقاط الديون أو تخفيفها- حاضرة بالنسبة للبعض (مصر والأردن ولبنان…)، كما أضحت حاضرة أيضًا من أجل إلغاء عقوبات أو إفراج عن أموال مجمدة أو مصادرة (إيران من أجل عدم توسيع نطاق الحرب إقليميًا من خلال احتواء حلفائها في لبنان واليمن والعراق وسوريا). بعبارة أخرى: أضحت “المصالح المادية” فقط -ولا أقول “الوطنية” لأن الأخيرة تتجاوز هذه فقط- هي الأساس دون بُعد عقدي أو قيمي (يمكنه أيضًا أن يحقق مصالح أخرى).

وهكذا هيمنت –الآن- وغلبت معادلة “الرفاهة والأمن والتنمية مقابل السلام”، على معادلة “الأرض مقابل السلام” التي برزت منذ ثلاثة عقود، بعد أن تغلبت بدورها منذ 1967 على معادلة أسبق؛ وهي أن “ما أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة”، ولا للاعتراف ولا للتطبيع ولا للسلام، ولا للتفاوض المباشر، بعد أن تغلبت تلك الأخيرة على معادلة أسبق منذ 1948؛ وهي معادلة “الحرب من أجل تحرير فلسطين كاملة من البحر إلى النهر والقضاء على إسرائيل”.

بعبارة أخرى، واستدعاءً للذاكرة التاريخية، لقد تهاوى البُعد العقدي للقضية من حسابات النظم الحاكمة، بل يمكن القول إنه اختفى تمامًا، وأضحت إسرائيل الحليف أو الشريك في المصالح للنظم، وظلت فقط العدو بالنسبة لإصرار الشعب الفسطيني والشعوب العربية على تحرير فلسطين.

ومن ناحية أخرى: لا تجتمع النظم العربية والإسلامية، علنًا أو سرًا، على نصرة المقاومة المسلحة في غزة والضفة بقيادة حماس وبقية الفصائل المسلحة.  بل، وكما تسرب التقارير وتصريحات إسرائيلية رسمية وإعلامية نافذة، فإن بعض هذه النظم توافق على القضاء على حماس أو أن تُضعف منها، ليس رفضًا لأسلوب الحل العسكري فقط، ولكن رفضًا لمرجعية هذا الفصيل المقاوم. هذا الموقف هو جزء من حالة كلية راهنة منذ عقد، كشفت عنه مواقف بعض النظم ضد الصعود الإسلامي المدني الديمقراطي خلال الثورات العربية، وخلال المراحل الانتقالية السلمية في مصر وتونس، أو خلال الحروب الأهلية في سوريا واليمن والسودان وليبيا، وهنا يفرض الدوران السعودي والإماراتي نفسيهما بوضوح -في تحالف مع نظم الثورات المضادة- على هذه الساحة؛ وهي أدوار قامت وانطلقت من عقيدة أنه لا دور للإسلام في إصلاح أو تغيير الأوضاع العربية جذريًا، ولا دور إلا لما يوصف بأنه إسلام علماني أو مُدخلي أو صوفي أو ما شابه. وتتشارك هذه النظم مع إسرائيل -ولو بدرجات وأشكال مختلفة- التحذير أو الحملة على النشاط الإسلامي في الغرب، كما يتشاركون معها أمرًا آخر أكثر خطورة؛ وهي ما أسماه نتنياهو -في حديثه مع إيلون ماسك- تغيير “التطرف في المجتمعات العربية في مناهج التعليم والإعلام”؛ والمقصود به إعادة رسم صورة إسرائيل، وإعادة رسم الصورة عن الجهاد والعديد من ثوابت الإسلام ودعائمه اللازمة للمقاومة الحضارية الشاملة في مواجهة موجات العلمنة والشذوذ وتفكيك الأسرة والمجتمعات.

ومن ثم فإن المقاومة الإسلامية في فلسطين هي التي تقود الصراع مع إسرائيل على مستقبل القضية الفلسطينية؛ انطلاقًا من طوفان الأقصى وتداعياته على الضفة الغربية وفلسطين 1948، بعد أن تأكد فشل الخيار السلمي الذي اضطرت إليه السلطة الفلسطينية منذ 1993 ونجحت إسرائيل في تفريغه من هدفه ومضمونه طيلة ثلاثة عقود.

ولهذا فإن مآل طوفان الأقصى وأهدافه، واستنادًا للذاكرة التاريخية عن حركات المقاومة والتحرير، هو الذي يحدد الآن على الصعيد العكسري؛ ليس مستقبل القضية الفلسطينية فقط، ولكن سيقدم نموذجًا في المنطقة، كما قدم لأحرار العالم المساندين لغزة عبر العالم، نموذجًا تجديديًا عن الطاقات والقدرات الإيجابية الكامنة في النموذج الإسلامي، على نحو يدحض التشويهات المتعمدة باستخدام ممارسات للقاعدة وداعش، لدرجة دفعت البعض إلى طرح سؤال تحذير: هل هناك ثورة إسلامية من جديد في الشرق الأوسط اهتداء بحرب غزة؟

ومن ناحية ثالثة؛ ثمة ثلاثة ديكورات: وعي الشعوب والأنسنة، والأمن القومي: تتلاعب النظم، لخدمة أولوياتها وحساباتها، بثلاثة ديكورات:

أولاً- “وعي الشعوب” الذي يُصدر له، من خلال أذرع إعلامية، أن القضية الفلسطينية هي قضية مركزية، في نفس الوقت الذي تقيد فيه هذه النظم شعوبها وتمنعها من التظاهر مثلاً، وأن النظم حريصة وداعمة ومتلهِّفة على وقف الحرب وعلى الإغاثة الإنسانية لشعب غزة.

ثانيًا– أضحت “أنسنة” الحرب في غزة هي المحور الرئيس في الخطابات الرسمية لتهدئة الشعوب، وفي الوقت نفسه عدم الصدام المباشر مع إسرائيل.

وثالثًا– أضحى مفهوم “حماية الأمن القومي” ذريعة ومبررا لعدم الصدام مع إسرائيل، مع تحريك مخاوف الشعوب من عدم الاستقرار وضياع الأمن؛ مثل شعوب أخرى في دول في المنطقة يسمونها “دولا فاشلة”؛ لأن شعوبها تجرأت على الثورة وعلى الصدام للنهاية مع نظمها وجيوشها وحلفائهم من قوى الثورة المضادة في المنطقة. ولهذا فإن “مفهوم الأمن القومي” أضحى “تابوه” لابد من إعادة النقاش حوله وإعادة تعريفه بحيث لا يصبح حاجزًا أو مانعًا ضد حماية المصالح بالمبادرة، وليس بالامتـناع بالدفاع عن المصالح في الجوار، وليس داخل جدران الحدود. وفي هذه الحالة من المراجعة لا تصبح الشعوب مفعولاً به، ولا تصبح الدولة متماهية مع النظام أو الحاكم، ولا تصبح مساندة المقاومة للظلم والعدوان والاحتلال حبيسة الخوف على ما يسمى “التنمية”؛ وبحيث يضحى خطاب المقاومة من أجل فلسطين خطابًا إنسانيًا عالميًا حضاريًا ينطلق من مرجعية هذه الأمة، التي في قلبها فلسطين، وبانفتاح وتشابك مع مرجعيات أخرى تدافع عن “الإنسان” وكرامته وحقه في الحرية في كل مكان.

خلاصة القول في أسباب الخذلان (على ضوء الذاكرة التاريخية، وماهية المواقف المعلنة، ونماذج الخذلان الكامنة)، أنه يكمن فيها كل معضلة سقوط “العقدي القيمي الأخلاقي” الذي من المفترض أن يدفع لنصرة فاعلة، لحساب مادي مصلحي ضيق.

والخذلان على هذا النحو الآن، لم يكن مفاجئا، ولكنه يمثل ذروة الخذلان الذي ما بعده خذلان آخر؛ حيث تأكد أن العقيدة -كدافع لدى النظم- مفقودة، والقيم والأخلاق ليست إلا ديكورا، وتوازنات القوى ليست إلا مبررات، وإنما حسابات أولويات مصالح النظم الحاكمة، المستبدة داخليا التابعة للخارج، هي الأساس.

إن هناك حاجة لرؤية استراتيجية حضارية من أجل دعم صمود نموذج المقاومة الذي جسده طوفان الأقصى ليستكمل مساره في فلسطين، وباعتباره أيضًا نموذجًا للتجدد الحضاري للأمة برمتها، وربما للتجدد الحضاري للإصلاح والتغيير العالمي في مواجهة تحالف الاستكبارات المحلية مع الاستكبارات العالمية الرأسمالية الصهيونية، ولكن ماذا سيكون مآل الحل السياسي؟ فلكل حرب نهاية تقودنا إلى السياسة ومؤامراتها.. ولقد بدأت بالفعل دوائر هذه السياسة عما بعد الحرب تنتظم بدرجة أوضح منذ 8/12، وعلى نحو يفرض مزيدًا من التحديات أمام المقاومة؛ وهي ما زالت تدير الحرب والصمود، وعلى نحو يبين معه أن الخذلان العربي يمتد أيضًا إلى هذه الساحة… وهذا له حديث آخر بعد أن تقف الحرب لرسم الصورة كاملة حول “السياسي ما بعد الحرب بل وخلالها”.

الحمد لله

20/12/2023

يمكن تحميل الدراسة من خلال الرابط التالي

 

*  ساعدت مداخلات مجموعة من الأساتذة على أحكام خريطة هذا الجزء من الدراسة؛ وهم: هشام جعفر، معتز أحمدين، سامح راشد، آية عنان، مازن النجار، حازم علي ماهر، مدحت ماهر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى