في التكوين والتدريس: أجيال العلوم السياسية والمدرسة الحضارية

تعاني عملية تدريس العلوم السياسية في العالم العربي من إشكاليات عديدة، تضخمت خلال العقد الأخير، حتى صرنا أمام تراجع شامل وحالة من الاختلال غير المسيطر عليه. أزعم أن أكثر دارسي العلوم السياسية العرب اليوم يواجهون كافة مشكلات المتعلمين: ضعف المادة، ضعف القدرة على التحصيل، ضعف منهج البحث والقراءة. يعاني طلبة العلوم السياسية ضعف المدخل المعرفي مع ضعف المستوى القادم من التعليم ما قبل الجامعي. لكن الأدهى والأمر هو هشاشة الاستعداد للتعلم وعدم الرغبة في بذل الجهد فيه. هذا بالطبع غير مشكلات هوية العلم ومرجعيته، وذاكرته، وصلاته بالواقع وكيفية تفاعله معه. في هذا الإطار تقف مدرسة المنظور الحضاري تراجع مسيرتها حتى اليوم ومسارها المستقبلي.

عندما تأسست كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة بمصر، كانت الطبقة المتعلمة عبر التعليم العام (غير الديني) قد أضحت بعيدة عن العلوم والثقافة الإسلامية بنسبة كبيرة. ومن ثم فإن هذه الكلية –مثل كليات الحقوق والآداب والتجارة والطب والهندسة وغيرها- كانت تدرس مناهج ومقررات العلوم المترجمة والمستوردة عن الغرب، ولا تكاد تدرس معرفة علمية ذاتية الإنتاج. وقد كانت المعرفة الغربية الحديثة مشربة بالفلسفة الوضعية التي تغمر الدارس في الواقع والوقائع، والحقائق والنظريات المتصلة بالواقع، على حساب تعلم الدين والواجبات الإسلامية والأخلاقية. ومن ثم فإن هذه الكلية الجديدة (المأمول أن تخرج نخبة مصرية جديدة من الباحثين والممارسين السياسيين المتميزين) كان طلابها وأساتذتها من الأذكياء والمتفوقين دراسيًّا، نعم، لكنهم كانوا أيضا غالبا ضعيفي الثقافة الإسلامية، وكانت مقررات الكلية تكرس ذلك في مجالها المعرفي: العلوم السياسية، والاقتصاد.

ومع هذا دخل هذه الكلية نسبة من أبناء الأقاليم من ذوي الثقافة الدينية الأساسية الموروثة أسريًّا، أو المؤسسة عبر الكتاتيب والمساجد الأهلية. ومن ثم حدثت لهؤلاء الصدمة المعتادة بين ثقافتهم الإسلامية وتلك الروح العلمانية السارية في تدريس علم السياسة وفروعه. هجر كثير منهم المجال بمجرد تخرجهم، وبقيت قلة قليلة تبحث عن جواب لسؤال: ما علاقة هذا بهذا؟ ونجحت فئة منهم في استكمال طريق البحث عن جواب.

البداية من الهزيمة إلى العزيمة

يبدو أن تاريخنا المعاصر يبدأ حقيقة من يوم 5 يونيو 1967، حين أيقظتنا الهزيمة العسكرية ونبهتنا على كل أوجه الهزيمة الحضارية. ففيما بعد هذه الهزيمة بدأ الدكتور حامد ربيع -أحد أساتذة الكلية وأستاذ النظرية السياسية المتفرد في شخصيته وتكوينه- في الإشارة إلى البعد القيمي في دراسة السياسة وممارستها، وحاضَرَ منظرا لنظرية القيم السياسية. في النصف الثاني من السبعينيات، كان ربيع وزميلة تصغره بنحو عشرين سنة –هي د.منى أبو الفضل- يتحدثان عن البعد الحضاري في التنظير السياسي، وفي التنظيم السياسي (مادة النظم السياسية العربية- د.منى)، وفي تقاليد السياسة الخارجية ونظرية الأمن القومي (د.ربيع). ومن مجموع ذلك تفتحت أعين الطلبة على إجابة كبيرة وناضجة عن موقع الدين –وبالتحديد الإسلام- من السياسة وعلم السياسة والتنظير السياسي، والبحث السياسي.

من المهم التفكر في سبب نضج إجابة هذين الأستاذين المبكرة عن سؤال علاقة الإسلام بالسياسة علما وعملا. لا شك أن ذلك له علاقة بتكوينهما والبيئة الفكرية والسياسية التي تشكلا وتطورا وطرحا طرحهما فيه. حامد ربيع ابن القاهرة تعلم جامعيا في الغرب؛ في إيطاليا وفرنسا، وحصل على العديد من الشهادات (الدكتوراه والدبلومات) من كليات عريقة، وقرأ وسمع بلغات مختلفة غير عربيته. لقد تعلم العلوم السياسية –ومعها العلوم القانونية والتاريخ والاقتصاد وعلم الاجتماع العام والسياسي وغيرها- في بلاد الغرب، وقرأ ونهل كثيرا من ذلك. ومنى أبو الفضل وليدة القاهرة وربيبة انجلترا ابنة د.عبد المنعم أبو الفضل الطبيب الإسلامي ود.زهيرة عابدين أم الأطباء إسلامية الهوية. اطلع كلاهما على الفكر الغربي بلغته وبين قومه، وتشبعا من معارفه الحديثة وفلسفاته وتاريخها. إذًا، فتكوينهما في العلوم الحديثة أو الغربية ومناهجها عميق وواسع، خاصة مع الاعتبار بذكائهما وإخلاصهما لمفهوم العلم. لم تبد في كتاباتهما الأولى (موضوعات رسائل ربيع التي قدمها في الغرب في الخمسينيات والستينيات، وكتاباته الأولى في النظرية السياسية وعلم السياسة والقضايا العربية ومجال الصهيونية، ورسالة د.منى عن فترة وزارة إسماعيل صدقي في مصر، وهي غير مكثرة في الكتابة) نوازع حضارية أو إسلامية واضحة.

أمر آخر مهم بل ربما يكون مفسرا لكثير من مساحات القضية: لقد رأى الأستاذان تراجعا حضاريا غربيا، ورصداه، وأشارا إليه، وتابعا تيارا نقديا كبيرا، وآخر يعترف بالتراجع الحضاري، وفي قلبه الاعتراف بأزمة في العلوم الاجتماعية، وبالأخص بالنسبة لهما في علم السياسة والتنظير السياسي. ومن هنا اختار كل منهما أن يبدأ دوره البنائي والتجديدي من حيث انتهى النقد الغربي ذاته، ونقدهما لوضعية علم السياسة، وبالأخص لفكرتي الثقافة السياسية والتنمية السياسية اللتين عبر عنهما جابريل ألموند، وكذلك للماركسية المتهاوية –رغم استفادتهما الصريحة وتقديرهما لأجزاء منهجية فيها- اختارا أن يبدءا من النهاية، ولكن من مرجعية مختلفة. ومن ثم أخذا بقوالب العلوم الاجتماعية وعناوين مفاهيمها الكبرى (فلسفة العلم، النظرية العامة، التنظير، الكيانات السياسية، النظم، العمليات، التحليل، دراسة التطور، التوازنات، وظائف الدولة، السياسات العامة والخارجية، العلاقات الدولية، العمليات، التفاعلات، الصراع..)، أخذا هذه القوالب وجددا مضمونها وبنيا عليها بشكل جديد. ومن هنا جاء نضج وتقدم طرحهما التجديدي: النقدي والبنائي من منظور حضاري: أنه بنى على ما وصلا إليه من تعلم وفهم في العلوم الاجتماعية الغربية ومناهجها.

ثم هي فترة السبعينيات لا سيما النصف الثاني منها التي انبلجت فيها توجهات الأستاذين الذكيين، عبر التدريس، والكتابة، وبدأت ناضجة بفعل التكوين النفسي والتربوي الشرقي الإسلامي، وبفعل التكوين العلمي والمنهجي الغربي، وبفعل الصدمة السياسية الموقظة على الخلفية الحضارية للهزيمة أمام إسرائيل والغرب. تحتاج هذه المرحلة إلى تعميق نظر أكثر؛ من حيث ما قدم فيها، ومنطلقاته، وغاياته، ومسار تطوره. لقد كان الإطار مزدوجا ما بين النظرية السياسية وقضاياها ومنها تتفرع نظرية السياسة الخارجية عند ربيع ونظرية النظم السياسية المقارنة عند د.منى، وبين الواقع العربي الذي طبق كل منهما عليه. كانت د.منى أسبق وأوجز طريقا في تبني مفهوم “الأمة الإسلامية” إطارا للنظر في النظم السياسية العربية، أولا باسم الكيان الاجتماعي الحضاري، ثم بصفة الأمة القطب. وظهر مفهوم الأمة في التدريس والكتابة وتشجيع ربيع للباحثين للكتابة في رسائلهم في هذه المنطقة الواصلة بين علم السياسة والخلفية الإسلامية.

في هذا الإطار، كان ثمة أساتذة ذوو خلفية ثقافية إسلامية نوعية في دراستهم أو تدريسهم؛ على رأسهم د.حورية توفيق مجاهد، د.كمال المنوفي. لكن الدفعات التي درست على د.ربيع أو د.منى أو كليهما سيكون لها شأن آخر. وكان أكثرهم وأهمهم من تمكنوا من الحصول على درجات عليا؛ ومن ثم صاروا من هيئة التدريس في كلية الاقتصاد، أو ممن انتسبوا إلى أقسام علوم سياسية في جامعات أخرى؛ في أسيوط أو حلوان (في كليتي التجارة)، أو غيرهما. (على سبيل المثال، ظل قسم العلوم السياسية في كلية التجارة جامعة الأسكندرية وسطا باهتا غير براق لا في تغربه ولا في محافظته؛ فرغم وجود أعلام مثل د.طه بدوي وتكريسه للعلمية وللعناية بالمنهج والنقد، وإشاراته المهمة في هذا الصدد خاصة للفكر الإسلامي، فإن دوره النقدي لم يبلغ أعماقا معرفية مؤثرة، ولا دوره البنائي أظهر آفاقا حضارية مجددة، على غرار ما عمل د.ربيع ود.منى).

قضى ربيع سنوات في العراق يمارس السياسة العملية خبيرا للسلطة، ويكتب، ويدرس، وترك وراءه طلبة كلية الاقتصاد الذين درسهم في السبعينيات، لا سيما طلبة النصف الثاني، وكانوا للقدر العجيب ذوي منزع إسلامي؛ سواء أثرا عن بيئاتهم الريفية أو عن حالة الصحوة الإسلامية العامة في السبعينيات. ثم توفي ربيع رحمه الله تعالى 1989. وسافرت د.منى في الفترة ذاتها إلى الولايات المتحدة ولم ترجع إلى الكلية إلى متأخرا في العقد الأول من القرن الجديد. ثم توفيت رحمها الله تعالى 2008. (كل منهما مات عن 63 عاما). ولكن في هذه الفترة من السبعينيات إلى نهاية القرن، ثم إلى اليوم جرت في النهر مياه غزيرة.

ترك حامد ربيع ومنى باقة من الطلاب الذي اقتنعوا بطرحهما أو الجزء المشترك والأساسي فيه؛ وهو الوصل بين علم السياسة والمعين الإسلامي بأصوله وتراثه الفكري. وقد بدأت فعلا محاولات جيدة وجديرة بالتقدير، عبر عدد من الرسائل في الماجستير والدكتوراه في مفاهيم وقضايا إسلامية سياسية، وغيرها من الدراسات والأبحاث، لكن دوائر النشر والاحتضان لهذه المحاولات الأساسية لم تكن كثيرة في ظل البيئة العلمية والثقافية العربية.

في بداية الثمانينيات ظهر المعهد العالمي للفكر الإسلامي، تطويرا عن جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين في الولايات المتحدة، وانتمت إليه د.منى أبو الفضل انتدابا منذ منتصف الثمانينيات، ثم انضمت منتصف التسعينيات إلى جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بفرجينيا. وفي منتصف الثمانينيات أسس المعهد له مقرا في القاهرة، باسم مركز الدراسات المعرفية، واتصل المركز بتلك الباقة التي تركها د.حامد ربيع وبدأ تعاون بين دائرة علوم سياسية ودائرة معارف إسلامية. ظهر في هذه الباقة د.سيف الدين عبد الفتاح، د.نصر محمد عارف، وغيرهما. وهذه الباقة تتميز بأنها قادمة من ثقافة إسلامية واضحة ثم تعلمت العلوم السياسية بمادتها الغربية في كلية الاقتصاد، وأرادوا رد هذه العلوم إلى أصول معرفية إسلامية، أو دراسة قضاياها في الخبرة الإسلامية.

في منتصف الثمانينيات تلك طرح المعهد فكرة عمل مشروع عن “العلاقات الدولية في الإسلام”، فاجتمع عدد من هذا الفريق ومن جيل تال لهم على العمل فيه، بقيادة د.نادية محمود مصطفى. ود.نادية في تكوينها أقرب إلى حامد ربيع ومنى أبو الفضل. فهي ذات أصول محافظة لكنها لم تكن في ثقافتها العلمية ذات ثقافة إسلامية واضحة. حضرت فعلا على حامد ربيع، لكن ربيع نفسه ساعتها لم يكن كما ظهر في النصف الثاني من السبعينيات وما بعدها. وبدخول د.نادية مشروع “العلاقات الدولية في الإسلام” باحثة ومديرة علمية ومشرفة على فرق العمل، بدأت قصة جديدة من التعرف على المعرفية الإسلامية اللازمة لإظهار الرؤية الإسلامية للعلاقات الدولية. ساعد مخطط المشروع على تنظيم معارف د.نادية الإسلامية؛ ما بين الأصول (القرآن والسنة)، وعموم الاتجاهات الفقهية الدولية، والتاريخ (الذي استقت الاهتمام الأساسي به والمنهجية الأساسية لدراسته من نظريات العلاقات الدولية الغربية)، فالفكر السياسي الإسلامي. تجربة وخبرة خاصة في التكوين على وعي وعلم ونضوج؛ من أجل تكوين باحث علوم سياسية من منظور حضاري إسلامي.

كانت د.منى أبو الفضل أشارت إلى مستوى في بنية العلم عامة، والعلوم السياسية خاصة؛ هو مستوى المنظور، ودعت إلى بناء وتبني منظور حضاري إسلامي في علم السياسة. لكن الذي أعطى هذا المستوى حقه من الإعداد والتخطيط والبناء والتجديد كان د.نادية ود.سيف الدين عبد الفتاح. توسع د.سيف في التنظير داخل النظرية السياسية والتراث السياسي الإسلامي، على خُطى أستاذه د.حامد. بينما فعلت د.نادية ذلك الإعداد والتخطيط والبناء والتجديد وأيضا التطبيق في حقل العلاقات الدولية، واجتمع كلاهما –ولو من منطلقات مغايرة- في تطبيق ذلك على قضايا مصر والأمة والعالم، عبر منابر متعددة. وصار اليوم هناك ما يعرف بالمنظور الحضاري في علم السياسة يعتمد بالأساس على جهود وكتابات الأساتذة الأربعة: د.حامد، د.منى، د.نادية، د.سيف.

مسارات الأجيال

استمرت بقية الباقة في التدريس والإنتاج العلمي من النقطة التي وصل إليها د.حامد ود.منى، لكن مع اختلاف في المسارات على النحو الآتي:

  • فريق طور في اتصاله بالعلوم الإسلامية مباشرة والتراث ومصاحبة العلماء المختصين، واستمر يجتهد في العلوم السياسية من منظوره الإسلامي. وانضم إليه من ذهب يدرس العلوم الإسلامية في جامعات أو معاهد متخصصة كجامعة الأزهر مثلا، لكي يعمق معرفته وقدراته. وغلب على هذا الفريق تكوينه الإسلامي؛ حتى وصفت دراساته بالدراسات السياسية الإسلامية وليس السياسية من منظور حضاري. ويتميز بسهولة الاتصال بالتراث الفكري والفقهي الإسلامي، وربطه بالقضايا السياسية النظرية والعملية، ويمثل هذا الفريق تيار التأصيل أكثر من التفعيل.
  • فريق اعتمد على تحصيل رؤية إسلامية كلية أساسية تتكون من التصور الإسلامي الأساسي والعقيدة، ومن المعرفة بمنظومة المفاهيم والقيم والمقاصد والسنن الإلهية، ووصلها بالبحث في العلوم السياسية. ويتميز هذا الفريق بقوة خلفيته بالعلوم السياسية كما تتجدد وتتطور في الغرب، وبطريقة جديدة في وصل العناصر الإسلامية بالبحوث السياسية؛ من قبيل الاعتماد على التاريخ الإسلامي، أو الفكر السياسي الإسلامي لا سيما الحديث، والوصول إلى التطبيق من طريق أيسر.

وقد آل هذان المساران إلى تنويعات عديدة، وهما يتعاونان ويشتركان في كثير من الجهود والأعمال، وتجمعهما اليوم مدرسة واحدة، تبحث عن التكوين الجامع والأداء الفعال في البحث السياسي.

في هذا الإطار أصبح هناك أكثر من نوع من الأبحاث والدراسات السياسية، تنضوي تحت المنظور الحضاري.

ففي النظرية السياسية يبدو الأمر أكثر جذرية، والفواصل بين الرؤية الإسلامية والغربية كبيرة، ويتمثل ذلك في عالم المفاهيم، ثم عالم القيم. أما مساحتا السنن والمقاصد فثمة تقاطعات غير قليلة بين التنظير في الجهتين، خاصة مع اختصاص السنن بالتفسير الشرطي أو السببي، واختصاص المقاصد بالمصالح وموازينها وترتيب الأولويات ورعاية المآلات. وتلتقي النظرية السياسية من منظور إسلامي مع الكتابات السياسية الحرة والحركية في مواجهة التغريب والمتغربين والرؤى العلمانية للسياسة. وقد قطع هذا الحقل شوطا كبيرا بقيادة أ. د. سيف الدين عبد الفتاح؛ التلميذ الأبرز لحامد ربيع، والأستاذ لفريق من الباحثين كبير، والمكثر من الدراسات التأصيلية والتنظيرية.

في حقل النظم السياسية المقارنة تواردت دراسات وتأصيلات مهمة لمفهوم الدولة ولوظائفها المختلفة (العقدية، الأمنية، الخارجية، والقضائية، …)، ولمفاهيم المصلحة العامة والشورى والاستبداد والحزبية والمؤسسية والدور المجتمعي أو المجتمع الأهلي،.. وهكذا. لكنها لا تزال تراوح حالة المقارنة دون البناء والتفعيل إلا قليلا، نظرا لعدم استجابة الواقع لها إلا قليلا. إلى أن قام مركز الحضارة بإعداد مشروع عن “النظم السياسية المقارنة من منظور حضاري” ونفذ قدرا أساسيا منه.

في حقل العلاقات الدولية قطعت المدرسة شوطا آخر ومتميزا، وغلب على فريقها التكوين المعرفي الغربي أولا، ثم الاستناد إلى رؤية إسلامية متنامية؛ لطرح منظور حضاري إسلامي مقارن يقابل منظورات الحقل، ويتصل بنسق معرفي غير وضعي. هذا الحقل هو أكثر مسارات مدرسة المنظور الحضاري في العلوم السياسية تنظيما وتراكما، وينتقل من بناء تأسيسي للمنظور إلى مشروعات مفاهيمية وتطبيقات. وتقود هذا المسار د. نادية مصطفى وتتشكل حولها دائرة جماعية تمثل مدرسة فرعية على المدرسة الأكبر.

واليوم تتحرك هذه المدرسة بتؤدة، وسط تراجع عام في تدريس العلوم السياسية، ويؤازر حركة هذه المدرسة الجادة نوع حركة واهتمام بدراسة العلوم السياسية لكنها حركة عامة مضطربة؛ بدأت بتزايد الاهتمام من قطاعات عديدة تأثرت بالثورات، ثم عادت تتراجع وتتباطأ مع فشل هذه الثورات وتحولها -بفعل أعدائها- إلى كوارث ماحقة للأوطان. هذه الحالة تفرض على المدرسة وعيا متجددا بما جد على ساحتي العلم والواقع، وبحثا عن سبل أكفأ لمتابعة السير وتحقيق مقاصدها في إطار إمكانياتها.

تتنوع المواقف السياسية داخل هذه المدرسة تجاه الواقع؛ مما هو جدير بالنظر. فقد تباينت رؤى أساتذتها للثورات، ثم بالأخص لقواها. ورغم ظاهر التلاقي مع التيار الإسلامي في غايات أو قيم أو منطلقات، إلا أن أكثر رواد هذه المدرسة وجيلها الثاني احتفظوا بمسافة من الحركة الإسلامية للحفاظ على علميتهم، ولتشككهم في مساحات الالتقاء ولإمكانيات إدارة الاختلاف مع قوى هذه الحركة المختلفة. وآلت أكثر المواقف إلى العودة إلى النظري والعلمي والابتعاد عن الحركي والعملي المباشر. وفي هذا تميل أكثر خطابات المدرسة إلى المعارضة الخطابية القيمية أكثر من الموافقة للأنظمة وسياساتها، ولكن بعيدا عن المعارضة السياسية العملية المباشرة. هذا فيما تغرق ممارسات الأكاديميا السياسية في العالم العربي في إظهار الموافقة للأنظمة أو ممارسة الحياد والالتفاف حول الموقف السياسي القيمي أو العملي؛ لدرجة أن الحالة العربية المعاصرة أثارت عند البعض السؤال التالي: لماذا فشل علم السياسة العربي؟ وهو سؤال يناظره سؤال آخر طرح قبل ثلاثة عقود عند نهاية الحرب الباردة: هل علم السياسة الوضعي عالمي؟ والسؤالان يجسدان الآن “أزمة” في العلوم السياسية تختلف طبيعتها من دائرة حضارية لأخرى.

وتستمر عملية تطوير المنظور الحضاري في الحقول الثلاثة الرئيسة لعلم السياسة وفروعها، عبر الكتابات والتدريس والتدريب من قبل جيل الأساتذة، وجيل من تلاميذهم الذين كبروا وصاروا أساتذة أو أساتذة مساعدين، لجيل جديد يتوافد ويتشكل. ورغم ضآلة عددهم إلا أنهم يزيدون، ولو على غير صعيد الأكاديميا. ويمكن ملاحظة تطور أهداف عملية بناء المدرسة ومنظورها ودورها من أن أهداف اليوم هي البحث عن:

  • تشابك مع الباحثين العرب والمسلمين القريبين من المدرسة والقابلين للإسهام فيها.
  • اشتباك مع الباحثين الوضعيين خارج الدائرة العربية والإسلامية. ومنه التأليف باللغات غير العربية والترجمة إليها.
  • الاهتمام بالمدارس غير الغربية كالصينية والهندية.
  • إخراج كتب مرجعية في العلوم السياسية من منظور حضاري قابلة للتدريس منها في الجامعات العربية.
  • مداخل منهاجية ذات صياغات محددة إجراءات قابلة للتطبيق والتدريب المهاري عليها.
  • تجديد تفعيلات في قضايا العالم والإنسانية ومجاراة التحولات العالمية والإقليمية.

في إطار الأوضاع العلمية والواقعية القائمة منذ نحو عقد من السنين تعود المدرسة للاغتراب أو الشعور بغربة وضيق من جهة محيطها؛ حيث تتراجع قيمة العلمية التي تؤمن بها هذه المدرسة ويتأسس عليها وجودها، وتتراجع القيم العامة والعلمية والبحثية التي تحتمي وراءها، وتتراجع المقاصد الوطنية والحضارية التي تسعى إليها، وتتزايد مخاوف التسييس والحمل على ما للمعارضين السياسيين من مواقف في ظل بيئة غير آمنة.

إن ثمة سؤالا قائما ومطروحا دائما حول: كيف يمكن “نقل” المسئولية، و”التراكم” المعرفي والبحثي، و”الاستمرار” في المسار العام، من التأصيل إلى التشغيل والتفعيل، فالنشر والانتشار والتواصل والتوصيل؟ هذا ما تحاول أنشطة العقدين الأخيرين الإجابة عنه على الأقل عبر مركز الحضارة منذ 2005.

وفي هذا الإطار فإن المدرسة تتسم بالاتصال الزمني والعملي، ونوع من الاتساع الأفقي، عبر طرق مختلفة، لكن التواصل بين أجيالها يعد شرطا وركنا أساسيا في حياتها. إن الجيل الجديد (الرابع) يتوق إلى تعلم أكثر كفاءة ويسرا من سابقيه؛ بحيث يتعرف على نوعي المعرفة (الإسلامية والغربية) ومصادرهما منذ بداية تكوينه صغيرا. ولعل هذه فرصة ذهبية لتكوين جيل متكامل من جذوره، يتجاوز المعاناة التي عاناه الجيلان الأولان، وحتى الجيل الثالث القائم؛ حتى يتحول هذا الطريق ذو الاتجاهين إلى طريق مزدوج ذي اتجاه واحد. هذه الفرصة الذهبية دونها المعوقات البيئية المشار إليها، وتحدي اكتمال وإيناع التكوين لدى الجيل الثالث القائم.

يتجلى بعد آخر مهم في إطار ما سبق، وهو التدرب السياسي العملي؛ على فنون العمل الحزبي والبرلماني والإعلامي والجماهيري، وفنون الإدارة العامة للعمل في جهاز الدولة، وفنون العمل في المجتمع الأهلي والمدني، وفنون العمل الدبلوماسي، وفنون صنع السياسات، وصنع القرارات السياسية والعامة، وفنون التحليل الاقتصادي السياسي، والتحليل السياسي الاجتماعي، وفنون الحوار والتفاوض وما إليه. ولعل هذا يكون جزءا من خريطة مستقبلية لترسيخ المدرسة وتوسعة آفاقها.

————————-

مراجعة: أ. د. نادية محمود مصطفى

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى