خطوات في طريق التجدد الحضاري: ثقافة وتقاليد سياسية عربية مفتقدة

الثقافة مجموعة من الأفكار والقيم والمهارات، تتخلق منها تقاليد لكل مجال؛ تقاليد اجتماعية، وتقاليد تجارية، وتقاليد علمية وتعليمية، وتقاليد سياسية. التقاليد السياسية في عالمنا العربي اليوم مضروبة في مقتل؛ سواء من جهة أنظمة الحكم أو الموالين أو المعارضين. وينشد الحاكمون مجتمعا يسير على قوانينهم ويرضخ لرؤاهم المتغيرة، بينما يتشوف المجتمع إلى تقاليد غربية تمنحهم حرية ومشاركة، أو رؤى تغيير هي ذاتها متغيرة ومتقلبة. مفهوم التقاليد يعني أنظمة مستقرة عليها توافق، وسبب التوافق ثقافة سائدة خاصة في مجال هذه التقاليد.

إذًا يفتقد الواقع السياسي العربي إلى ثقافة عامة تكون محل توافق أساسي، ثم تنبثق مع الوقت عن هذه الثقافة أنظمة فعل وقواعد تفاعل سياسية تحكم الحركة السياسية للقوى المتدافعة.

الثقافة السياسية العربية قديما

كان للعرب قبل الإسلام ثقافة وتقاليد، ومع رسوخ الثقافة الإسلامية انبثقت عنها مجموعة أنظمة وتقاليد خاصة، (وكذلك عرفت الأمم الأخرى حال استقرارها ثقافة أساسية وتقاليد سياسية). اتسمت الثقافة العربية قبل الإسلام بتقدير المكونات المجتمعية، وأن المصلحة العامة التي ترعاها السياسة إنما تؤخذ من أفكار وقيم تلك التكوينات أو عرفائها وقادتها. وانبثق عن هذا تقاليد شورية، وسفارات بين القبائل، وتقديم الأشخاص الذين يرجح الإذعان لهم إلى مقام القيادة، وأن السياسي يجب أن يكسب الأتباع، ويدافع عنهم، ويتقدمهم في المغرم ويتأخر عنهم في المغنم (أو كما قال عنترة: أغشى الوغى وأعف عند المغنم). فسادت في السياسة قيم السؤدد والشرف والنبل والمجد وما شابه من معاني الترفع المادي والتسامي الأدبي. لذا سمي ووصف القائد بالشريف والكبير والعظيم والرأس والوجه والعين والصدر، وصاحب الكلمة والآمر والأمير وعالمهم وأحلم القوم وصاحب مشورتهم وهكذا.

وبعد الإسلام انتقل التقدير إلى هالة الشريعة ومكانتها وضرورة تقديسها من كل متصدر لشأن عام، ولو خالفها في جزئيات، وأصبح للعلماء بها مكانة في تقرير الثقافة العامة ونشرها، وفي إقرار التقاليد السياسية وتقنينها في صورة “الفقه”. وفرض اتساع الدولة تقدير القوة والشوكة والقدرة على هزيمة المناوئ، جمعا للكلمة وحفظا للاستقرار والأمان. ومع تراوح الرابطة بين القيم الشرعية في جهة والقوة الغالبة في جهة، اتصالا وانفصالا، تأرجحت تقاليد السياسة الإسلامية بين الشرعية والرضاء وبين التغلب والاستيلاء، وتاقت الشرعية إلى قوة تحميها، كما احتاج التغلب إلى قيم وقوى قيمية تمنحه الشرعية.

اضطراب الثقافة العامة اليوم

اليوم ومع غلبة مرجعية القوة في معظم البلدان العربية منذ قرون أخيرة، ومغالبة العلمانية للإسلام خلال القرن الأخير وحتى اليوم، اضطربت الثقافة العامة وافتقد العرب معها إلى تقاليد حكم ونظم إدارة عامة جيدة؛ بالمعنى الفكري والقيمي، وليس الإداري البيروقراطي بالضرورة.

ففكر وقيم السياسة العربية متناثرة وضعيفة جدا، ويقوم عليها أشخاص غير وارثين لتراث، ولا محسنين لنقل تقاليد غربية حديثة، ولا مبدعين لأنظمة بديلة لهذه أو تلك. حظهم من فهم السياسة ضعيف، وقيمهم الاجتماعية غير عادلة ولا معدولة.

لقد ورثنا من فترة الاستعمار تقاليده في السيطرة السياسية، وتقاليد الشعوب المستعمرة في التبعية، وبعضا من البيروقراطية التي أدار بها بلادنا عقود احتلاله لها، لكننا لم نرث منه ثقافته العملية السائدة في بلاده ولا تقاليده السياسية (وفيها خيرات وإن كانت منقوصة. ثم استلهمنا من تاريخنا عصوره الأخيرة الضعيفة وفيها الأنفاس المملوكية الإقطاعية، ومثالب الضعف الحضاري في الحقبة العثمانية الأخيرة. ولولا جهود من التجديد الفكري والثقافي عبر القرن العشرين لظننا أننا لم نكن يوما شعوبا حرة ولا كانت لنا تقاليد حكم ممتازة، كما تكشف لنا بعد ذلك.

اليوم، تفتقد الثقافة العربية العامة للاتفاق على أفكار مثل احترام التخصص وتقدير الكفاءة، ومع الوقت تتزايد مظاهر ضعف تقدير الأمانة والأخلاق الحسنة، ونفتقد ثقافة الفصل بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة. وتفقد الثقافة العربية كل يوم قيم الشجاعة الأدبية والاستعداد للتضحية وفداء الأمة وتحل محلها قيم أنانية ومطامع آنية. ولهذا مردوده في تقاليد السياسة، فأكثر قرارتها وممارساتها يتم في السر ويخشى العلن، وضمن التكوينات (الشلل) الصغيرة وشبه المغلقة، وعبر أساليب شخصية غير مؤسسية، ومصالح مالية شخصية أكثر منها أدبية أو عامة، وتفتقر التقاليد السياسية والعامة لروح العمل الجماعي، اللهم إلا في حالة هيمنة قائد شخص على الباقين، وخضوع الباقين له، وهذه أوهن أشكال العمل الجماعي، المرتهن لعقلية وقيم فرد واحد. إن واحدا من أخطر مثالبنا العامة والسياسية العجز عن المشاركة في عمل جماعي وفي إدارته، عجزا عميقا ومنتشرا بصورة فجة.

والسؤال الآن: كيف تتجدد الثقافة العامة لدينا نحن العرب؟

وكيف تتخلق نظم وتقاليد سياسية لائقة بواقعنا وظرفنا التاريخي، وفي الوقت نفسه تحقق قيمنا ومقاصدنا ومصالحنا؟ وكيف نجدد بالأخص روح العمل الجماعي: اجتماعيا، واقتصاديا، وسياسيا؟

أتصور –وكما تعلمت من أساتذتي- أن الثقافة تتجدد بالدعوة والممارسة، والدعوة يلزمها فكر، والممارسة يلزمها جهد، والممارسة هي دعوة حية قوية أقوى من الكلام. فيجب الاجتهاد الفكري ويجب الاجتهاد العملي.

وتتخلق النظم والتقاليد بالممارسة للقيم والأفكار التي تقدمها الثقافة؛ كل في مجاله. فالتقاليد السياسية تتطلب رجالا مؤمنين بثقافة مجتمعهم الحية الفعالة، ومحققين لها في أفعالهم وتفاعلاتهم؛ فتتجدد بين أيديهم مؤسسات وقواعد عمل وقيم حركة ومقاصد سياسات ووسائل إنفاذ وأساليب تنفيذ.

وفي هذا المقام من المهم أن ننتبه إلى سُنة الفضل؛ وأنه من فضل الله تعالى ألا يُتفتقد خير بكليته، كما لا يحضر شر بكليته، وأن الواقع الإنساني دوما مشتمل على خير وإن لم يكتمل، وشر بفضل الله تعالى لا يكتمل، وحال الزمان أو العصر بحسب غلبة هذا أو ذلك. ومن هذه السنة الإلهية نستنبط أن ثقافتنا العامة لم تمح أو تتلاش بكليتها، بل يمكن القول إن قدرا جدا منها متوافر في مجتمعنا وقليل من سياساتنا. كما أن التقاليد السياسية الفاعلة المراعية للمصلحة العامة للأمة ومكوناتها ليست مفقودة بالكلية، بل إن كثيرا منها تفرضه ضرورات سيرورة الحياة.

والمنشود تجديد لعناصر الثقافة التي تجدد الانتماء والنماء؛ أي تقوي الأصل وتفتح المجال أمام الحركة العامة لجميع القوى. ننشد تجديد مجموعة من الأفكار والقيم التي بحضورها يتجدد التوافق وتتجمع الطاقات ولا يكون بعضها خصما من البعض الآخر. المنشود ثقافة توافق معنوي واجتماع للأمة وتقدير لإنسانية الإنسان وتحرير للطاقات.

وكذا تجديد تقاليد تنظم ذلك تتراجع فيها الشخصنة لصالح المصلحة العامة، وتستبقي من شخصنة العرب والبحث عن المجد: تقدير الكفاءات والتحلي بالنبل والشرف.

المتعجلون على إصلاح سياسي قريب معذورون؛ نظرا لوطأة اللحظة، لكن الحقيقة أن إصلاحاتنا السياسية منذ حصلت بلادنا العربية على استقلالها من الاحتلال الأجنبي من النوع السطحي، وأن تجديدا تاريخيا عربيا ما ينبغي أن نأمل فيه. التجديد التاريخي والتجدد الحضاري غير التغيير اليومي أو الإصلاح الوقتي. الأخير يوقف نزيف اللحظة ويطرق أبواب تحسين وإصلاح في الأوضاع، لكنه لا يتطرق عادة إلى جذورها.

ماذا نفعل الآن من أجل تجديد ثقافي سياسي؟

نمسك الآن فكريا ببعض جذور أزمتنا السياسية التاريخية، يمكننا أن نشرع في اقتلاعها، بل إن جهودا فعلية سعت في ذلك منذ عقود، وينبغي أن نكمل طريقها.

ولعل البداية تكون في تشارك الدعوة إلى أفكار وقيم ثقافة النهوض التي عمل عليها أعلام القرن العشرين في أمتنا، وتشارك ممارستها في داخل التكوينات المجتمعية وفيما بينها.

ثلة من الشباب مطلوبون؛ يتعلمون تلك الأفكار وتغرس فيهم تلك القيم، بينما أقدامهم في تكوينات مجتمعهم، وأياديهم في العمل العام المحلي أو الوطني أو البيني.

هذا خط عريض مكانا ومجالات وموضوعات، وإن شاء الله تعالى لا يطول زمانا، ومن ورائه تتجدد تقاليد العمل الاجتماعي مثلا: الخيري (الرعائي والإغاثي)، التعليمي والتربوي والتوعوي، الاقتصادي (المهارات الإدارية والتجارية والتكنولوجية…)، فالتقاليد السياسية. نخبة قيادة المستقبل تحتاج إلى تجدد الحاضر تجددا متصلا مثابرا. والله المستعان.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى