تقسيم العراق بين الادعاءات والحقيقة.. دراسة في المسألتين الكردية والشيعية

إذا كان طرح مسألة انفصال الأكراد والشيعة عن العراق قد ارتبط منذ عدة عقود بالمسألة الكردية، فإن مسألة التقسيم قد ارتبطت بتداعيات حرب الخليج الثانية وسقوط أكثر من 14 محافظة بيد المنتفضين، وذلك خلال انتفاضة شعبان (مارس/ آذار 1991) وما تلا ذلك من تطبيقات وسياسات كالمنطقة الآمنة في الشمال ومناطق الحظر الجوي شمال خط 36 وجنوب خط 33.
هذه الخلفيات والتطورات قد فتحت الباب مجددًا للحديث عن تقسيم العراق. فهل هناك مشاريع لتقسيم العراق وفق خرائط عرقية أو مذهبية؟ أم أن السلطة في بغداد تريد تبرير سياستها المتشددة وإحكام قبضتها الحديدية وسياسة الحزب الواحد والتيار الواحد باتهام الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب بالسعي من أجل التقسيم؟ وهل تسعى الدول الأجنبية- وخصوصًا الولايات المتحدة- في تطبيقاتها للمناطق الآمنة وخطوط الحظر الجوي إلى ضمان مصالحها- خصوصًا في آبار النفط- أم إلى حماية سكان العراق، أم إلى الضغط على الحكومة في بغداد؟ أم أن هذه المناطق هي مقدمة للتقسيم، كما حصل مع الخط 17 الذي قسم فيتنام إلى دولتين شمالية وجنوبية، والخط 38 الذي تحول إلى حدود فاصلة ليقسم كوريا إلى دولتين شمالية وجنوبية أيضًا.
هل تحول تقسيم العراق إلى احتمال وارد وسياسة تحت التنفيذ؟ وإذا كان الأمر كذلك، فأين تكمن القوة التي تحمل التقسيم؟ هل هي عند الأكراد في شمال العراق؟ أم هي عند المسلمين الشيعة في الجنوب؟ أم هي في كليهما؟ أم هو مشروع دولي يتجه لأن يتكون العراق من ثلاث دويلات: كردية في الشمال، وسنية في الوسط، وشيعية في الجنوب؟

الجذور التاريخية للتقسيم:

1-القضية الكردية:

مع ازدياد النفوذ الأوربي عالميًا، وفي البلاد المشرقية والإسلامية وسيادة النظريات العلمانية السياسية المعاصرة لتنظيم الدول، وتأثر الدول العثمانية، التي كانت تعاني أصلًا من عوامل الضعف، بهذه النظريات، بدأت النزعة الطورانية باحتلال مكان الصدارة محل النزعة العثمانية ذات الجذور والخلفيات الإسلامية من حيث الأساس. أمام هذه التطورات وجدت الشعوب الإسلامية المنضوية تحت الراية العثمانية، وجدت نفسها مجردة من هويتها العثمانية الإسلامية، ولم تجد أمامها من إطار جديد يجمعها سوى الرابطة القومية. وكما تحالفت الحركة العربية مع بريطانيا للتخلص من السيطرة العثمانية، قام الزعيم الكردي المعروف الشيخ محمود الحفيد بالدعوة إلى إقامة دولة كردية مستقلة. “فاتصل الرجل “الشيخ محمود” قبل الحرب العالمية الأولى بالندرخانيين الذين كانوا يتمتعون بوزن سياسي واسع في كردستان. كما اتصل بقناصل الروس والإنكليز في بغداد والموصل، وعرض مشروع إقامة دولة كردية بعد الانقضاض على السلطة العثمانية”.[1] وفعلًا، ألمحت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى في اتفاقيات سيفر وسان ريمون إلى إمكانية منح الأكراد الاستقلال. لكن هذه الوعود تبخرت، فإذا تغاضينا عن التواجدات الكردية الأقل أهمية في المناطق الأخرى، فإن الشعب الكردي تقاسمته الدول الجديدة؛ أي كل من تركيا وإيران والعراق، دون أي وضع متميز خاص بهم، ذلك إن لم نقل إنهم حُرموا من حقوق المواطنة الإسلامية دون أن يتمتعوا في مجالات عديدة بحقوق المواطنة الجديدة.
وبعد أحداث حرب الخليج الثانية، قام الأكراد في مؤتمر فينا أولًا برفع شعار حق تقرير المصير، وتمت صياغة هذا الحق في إطار الحل الفيدرالي في إطار العراق في مؤتمر صلاح الدين، خصوصًا بعد أن قام الأكراد في ظل انسحاب الإدارة العراقية من الأراضي الكردية وضمان قوى الحلفاء لمنطقة آمنة في شمال البلاد بإجراء انتخابات وقيام برلمان كردستاني ووزارة كردية، تضم كل الوزارات عدا وزارة الدفاع التي سميت بوزارة البيشمركة، على اعتبار أن شؤون الدفاع هي من صلاحيات الحكومة المركزية.

الأكراد والانفصال:

لا يمكن القول بأن حلم الأكراد بتأسيس دول كردية مستقلة قد تلاشى وانتهى. لكن يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
1- بعد انهيار الدولة العثمانية والجدل الواسع حول طبيعة التقسيمات الجديدة التي تسكن عليها الولايات العثمانية القديمة، كان هدف الاستقلال وتوحيد كردستان هو المطلب الذي رفع شعاره الناشطون الأكراد. بل هو الحل الذي طرحته الحركة اليسارية في ذلك الوقت عندما استمرت في رفع شعار الاستقلال لكردستان حتى فترة متأخرة من الثلاثينات، بل استمر البعض في الكلام عن الاستقلال إلى فترات أكثر تأخرًا من ذلك. لكن مع استقواء الدول الإقليمية فإن الوقائع العملية فرضت نفسها على الأكراد أيضًا، وازداد تحركهم في إطار تحسين شروطهم ومطالبهم داخل إطار كل دولة. وتراجعت شعارات الانفصال والاستقلال من البرامج السياسية، رغم أنها لم تختف تمامًا من الأطروحات النظرية. ولم تبرز أية حركة انفصالية، بل لبى الأكراد كل دعوات المفاوضات التي عرضت عليهم لتقديم حلول لقضيتهم في إطار دولة العراق.
3-لقد ساهم الأكراد في جميع النشاطات الوطنية:
أ-بعد تقسيم الدولة العثمانية واحتلال بريطانيا للعراق طرحت قضية الموصل وإلحاقها بتركيا. وقد وقف الأكراد موقف العرب، وأنكروا مطالبة تركيا بالموصل وعبروا عن آرائهم بالمذكرات والبرقيات التي قدموها إلى اللجنة التي شكلت لبحث المسألة.[2]
ب-ساهم الأكراد بشكل نشط في ثورة العشرين التي ساهمت بصياغة مستقبل العراق وشروط العلاقة بينه وبين بريطانيا.
ج-ساهمت القوى السياسية الكردية في كل الفعاليات السياسية للقوى السياسية الأخرى. وكانت طرفًا رئيسيًا، سواء أثناء الحكم الملكي أو الجمهوري، في صياغة برامج الحركة الوطنية العراقية. كان المنفيون الأكراد يلجؤون إلى المناطق العربية وكذلك المنفيون العرب. ولم يسجل التاريخ علاقات توتر بين العرب والأكراد، اللهم إلا في تلك المناطق التي قامت فيها السلطات بتوطين بعض العشائر العربية، كما هو الحال في منطقة كركوك مثلا. كذلك في بعض نقاط الاحتكام، وهي قضايا بقيت هامشية بالنسبة إلى حجم القضية ككل.
وكان الأكراد طرفا أساسيًا ونشطًا في جميع المواثيق الوطنية والاتفاقيات الوطنية كجبهة الاتحاد الوطني (1957) في الفترة الملكية، ومن ثم ميثاق الجبهة الوطنية القومية التقدمية (1973)، والميثاق الوطني العراقي (1990)، والمؤتمر الوطني العراقي(1992).
د-ساهم الأكراد في معارك الجيش العراقي في فلسطين، وفي الدفاع عن حدود البلاد، وكانوا جزءًا مهمًا من قوات الشرطة والانضباط العسكري.
هـ-ساهم الأكراد بعدد كبير من العلماء والمفكرين والأدباء في الحياة الأدبية والفكرية والعلمية في العراق بما يكشف عن عمليتي مساهمة واختلاط واسعتين بين فئات الشعب العراقي. كما أن الشعب الكردي يتمسك كليًا بالدين الإسلامي، وأن عمليات التصاهر، والمشاركة، والتبادل التجاري، واعتماد الاقتصاد الكردي على السوق العراقية، والعكس، وتحول كردستان إلى مناطق سياحة للعراقيين، كل ذلك قد شد الكثير من أواصر العلاقة بين الشعبين العربي والكردي في العراق.
و-لم تتحول الحروب التي شنتها الحكومات العراقية المتعاقبة على الشعب الكردي إلى حروب شعبية. بل كانت حروبًا مدانة من قبل القوى السياسية العراقية، وكذلك من قبل المرجعيات الدينية. وقد صدرت فتاوى عديدة بتحريم خوضها، كما فعل ذلك المرجع الأعلى للشيعة السيد محسن الحكيم، ومن بعده السيد محمد باقر الصدر- وهما من علماء الشيعة- وكذلك الشيخ عبد العزيز البدري- وهو من كبار علماء السنة- كما أنه لا توجد قوة سياسية عراقية واحدة- عدا السلطة الحاكمة- كانت تبرر مثل هذه الحروب.

المنطقة الآمنة في الشمال والتقسيم:

بعد الانتفاضة الشعبية التي سيطر فيها الشعب على المحافظات الكردية- وذلك من جملة ما سيطر عليه- وبعد أن أخذت القوات الحكومية باستخدام الصواريخ والطائرات المروحية حسب الموافقة التي حصلوا عليها من قوات الحلفاء، وهو ما مكنها من استعادة مدينتي كربلاء والنجف من أيدي المنتفضين، وأن تعتقل المرجع الأعلى للشيعة آية الله السيد الخوئي، بدأت المخاوف تسيطر على الشعب الكردي من استخدام الحكومة العراقية الأسلحة الكيماوية كما حصل في حلبجة في 13 آذار (مارس) 1988، حيث قتل في لحظات أكثر من 5000 قتيل، ناهيك عن عشرات الآلاف من المشوهين والجرحى[3]، وكذلك كما حصل مع نهاية الحرب العراقية الإيرانية. نقول: بعد هذه التطورات سيطر على الشعب الكردي الهلع والخوف، وبدأ بهجرة مليونية نحو الجبال ومناطق الحدود مع تركيا وإيران، حيث قدر من وصلوا إليهما بحوالي 2-3 مليون مواطن. على أثر هذه الهجرة الجماعية، اتخذت قوات التحالف الدولي- خصوصًا بريطانيا وفرنسا في البداية ومن ثم الولايات المتحدة- قرارًا باعتبار المنطقة الكردية منطقة آمنة، وفرضت في آذار/ مارس حضرًا جويًا على شمال خط 36 الذي يشمل مدينة الموصل.
على أثر هذه التطورات قامت الحكومة العراقية بسحب إدارتها المدنية من المحافظات الكردية الثلاث: السليمانية وأربيل ودهوك للأسباب التالية كما يبدو:
1- عدم تعريض الإدارات التي تتشكل عمومًا من أنصار حزب البعث الحاكم أو الأكراد الموالين للسلطة لأعمال الانتقام بعد فقدان القدرة على الدفاع عنهم.
2- إرباك الوضع الاقتصادي والاجتماعي والإداري في هذه المناطق، وخلق منطقة فراغ، وفتح الباب لتصارع القوى المحلية، خصوصًا بعد فرض الحصار الداخلي وإقامة الحواجز وتقنين انتقال السلع من وإلى المنطقة، مما سبب أزمة محروقات وتدفئة اضطر فيها الشعب الكردي إلى قطع أشجار غاباته لمواجهة موجات برد الشتاء، خصوصًا في الأعوام 1991 ـ 1993.
3- تخفيف العبء عن الحكومة المركزية وتخليصها من الأعباء المالية والاجتماعية للمحافظات الثلاث، خصوصًا بعد تطبيق فرض قرار الحصار اعتبارًا من آب/ أغسطس 1990 وتدمير مرافق مهمة من البنية التحتية وتراجع الموارد المالية للدولة.
4- إثارة المخاوف الإقليمية، وخصوصًا لدى الدول المجاورة لكردستان العراق، كإيران وتركيا وسوريا.
بعد سحب الحكومة المركزية لإداراتها من المحافظات الثلاث، درءًا لحدوث حالة فراغ إداري، بادرت الجبهة الكردستانية التي يسيطر عليها الحزبان الرئيسيان: الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة السيد مسعود البرزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة السيد جلال الطالباني، بتشكيل إدارة ومن ثم حكومة باسم حكومة إقليم كردستان، مهدت لتنظيم انتخابات عامة وقيام برلمان إقليمي، انبثقت عنه حكومة ووزارات تقاسم فيها الحزبان المناصب الوزارية بالتناصف، وهو وضع استمر سنوات عديدة إلى أن تعرض إلى ضربة مع اندلاع القتال بين الحزبين الرئيسين وتشكيل كل حزب حكومة مستقلة عن الطرف الآخر، حيث يدير الحزب الديمقراطي الكردستاني المناطق الشمالية من كردستان العراق (دهوك وأربيل)، بينما يدير الاتحاد الوطني الكردستاني الجزء الجنوبي من كردستان العراق (السليمانية وأجزاء من كركوك).
ومن الواضح أنه بمرور الزمن تترسخ حالة من الاستقلال عن الحكومة المركزية، وهو ما قد يساعد- لو توفرت ظروف محلية وخارجية معينة- على تطوير تصورات الانفصال. رغم هذه الحقيقة فإن تعقيدات الظروف في المنطقة لا تسمح بذلك. خصوصًا الاقتتال الذي جرى بين الأكراد العراقيين والأكراد الأتراك من جهة وبين الأكراد العراقيين أنفسهم من جهة أخرى. والتجربة العملية في صعوبة الأوضاع الاقتصادية، وإدراك الأكراد لحاجتهم إلى الاعتماد على التواصل الاقتصادي والاجتماعي والإداري مع بقية مناطق العرب، التي ليس أقلها واردات جمارك إبراهيم الخليل، والتي، مع غيرها، تظهر مدى اعتماد الاقتصاد في المناطق الكردية على الاقتصاد في المناطق المجاورة من جهة، وفي الدول الإقليمية المحيطة بكردستان من جهة أخرى. فالتعاون والاعتماد المتبادل هو الذي يفرض نفسه. ويتطلب تصور قيام الانفصال أو الانقسام الآن، تطورات إقليمية ودولية تنسف كل الحقائق القائمة.
هذه الحقيقة تؤكدها مواقف القوى الإقليمية- خصوصًا إيران وتركيا وسوريا والعراق- الرافضة لأي شكل من أشكال الانفصال. ويؤكدها أيضًا عدم تحمس القوى الدولية التي مازالت أولويات تعاملها وتوازناتها الإقليمية قائمة على التعامل مع الدول القائمة والحفاظ عليها. وأن موقف وزير الخارجية الأمريكي بيكر عند لقاء وفد المعارضة العراقية الذي ضم في صفوفه السيد مسعود البرزاني على تأكيد وحدة العراق ما زال هو الموقف الرسمي للولايات المتحدة والدول الغربية أيضًا. لم يتعاطف مع الاستقلال سوى ليبيا التي أعربت عن تعاطفها مع إيجاد وطن كردي لأكراد العالم لأسباب تتعلق بنظرة قومية تحملها ليبيا. كذلك سعت السياسات العملية لإسرائيل إلى تشجيع سياسة الانفصال، لا حبًا للأكراد، بل رغبة في تفتيت الدول المحيطة بها وإضعافها. كل هذه العوامل قد رسمت الحدود العملية لأفكار الانفصال وولدت نزعة عقلانية بات يرددها المسئولون الأكراد في رغبتهم في العيش في عراق موحد، ولكن على أسس تضمن لهم حقوقهم المشروعة.
لذلك لا يمكن القول إن العراق مهدد بعملية تقسيم أو انفصال جزئه الشمالي عنه. بل نستطيع القول، على العكس، إن التجربة الماضية قد أبعدت الأمور عن الأطروحات النظرية القديمة، وبينت لكل الأطراف: الكردية، والعراقية، والإقليمية أيضًا، الحدود التي يمكن لهذه الأطروحات أن تقف عندها، وأن مسألة انفصال الأكراد في وطن مستقل لهم يمكن أن تتحقق في حالتين:
1-التدخل الدولي الواسع لفرض هذه الفكرة، وهو سيقود إلى تجزئة بلدان رئيسية كتركيا وإيران والعراق وبشكل أقل سوريا. وهذا مشروع يفتقد الأرضية الإقليمية والدولية، على الأقل في الظروف الراهنة أو المنظورة، وهو توجه ترفضه بقوة جميع الدول الإقليمية والأجنبية، بما في ذلك الدول العربية والولايات المتحدة الأمريكية.
2-تغيير جغرافيات المنطقة وإعادة رسم خرائطها على ضوء التطورات الاقتصادية والسياسية التي تمر بها المنطقة والعالم، واتجاه المناطق إلى التكتل والتوحد، مما قد يطرح خلال العقود القادمة تصورات جديدة تختلف عن التصورات التي أقيمت عليها خرائط المنطقة بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. لكن مثل هذه التطورات- إن حصلت- ستعتبر عملية تشكيل وتوحيد، قبل أن تكون عملية تفتيت وتقسيم، وهو ما سيلبي رغبة جميع الأطراف وجميع شعوب المنطقة، ويعيد التوازن إلى علاقة شعوب المنطقة بعضها ببعض من جهة، وفيما بينها وبين الأطراف الخارجية والدولية من جهة أخرى.

2- الجنوب العراقي والانفصال.. المسلمون الشيعة والتقسيم:

يمثل الوسط والجنوب ذو الغالبية الشيعية الكثافة السكانية في العراق[4]. وعند العودة إلى التاريخ القديم والمعاصر، لا نجد أية دعوة إلى تأسيس دولة مستقلة على أسس مذهبية.
فعند تأسيس المملكة في بداية العشرينات تنادى شيخ المحمرة الشيخ خزعل كأحد المرشحين لملكية العراق. كما قدَّمت مجموعة من العراقيين غير الشيعة مذكرة إلى الحكومة البريطانية لفصل البصرة عن العراق، لكن هذه الدعوة لم تلق أية استجابة، لا من العراقيين ولا من الحكومة البريطانية[5].
ورغم الخلافات التي كانت قائمة بين المسلمين الشيعة والدولة العثمانية، فإن الحكومة البريطانية لم تستطع أن تستميل الشيعة لمواقفها كما فعلت مع حركة الشريف حسين أو بعض الزعامات والكوادر العثمانية السابقة. على العكس، لبى الشيعة الدعوة التي أطلقها العثمانيون إلى الجهاد للدفاع عن الديار الإسلامية. وأصدر كبار علمائهم الفتاوى بالجهاد، بل توجه بعضهم إلى جبهات القتال لقيادة عشائر الجنوب والفرات الأوسط في التصدي للإنزال البريطاني في معارك معروفة[6]. وبعد أن احتل البريطانيون البلاد وبدأ الاحتكاك بين الجيش المحتل والشعب العراقي بالتصاعد، اندلعت ثورة شعبان أو ثورة العشرين بقيادة العلماء، حيث اتحد فيها أبناء الشعب العراقي من السنة والشيعة والعرب والأكراد وبقية الفئات والطوائف ضد الوجود البريطاني في العراق، ونظمت المضابط والمطالب لتحقيق الرغبات الشعبية والوطنية العراقية[7].
وبعد تأسيس المملكة العراقية تحت الانتداب البريطاني، دعي علماء الشيعة إلى مقاطعة الدولة، وصدرت فتاوى بتحريم التعاطي معها، باعتبارها دولة موالية للكفار. ولم يتم التعامل مع الدولة وقبول الدخول في خدمتها إلا بعد سنوات من ذلك. ولم يتقدم الشيعة بمطالب الانفصال، بل رفعوا مطالب الشعب العراقي برفع الظلم وتحسين ظروف الناس والتوقف عن التمييز بينهم حسب الهوية القومية أو المذهبية، وتوفير شروط متكافئة للجميع.
على العكس من ذلك، سنت الحكومة العراقية قانون الجنسية العراقية في عام 1925، وعدلته في عام 1941، ثم أجرت عليه سلسلة تعديلات وتعليمات- خصوصًا خلال السبعينيات والثمانينيات- تدفع كلها إلى التقسيم والتفريط بأبناء الشعب العراقي وتهجيرهم، إذ استمر عدم الاعتراف الصريح والضمني بالكثير من الأفراد والعشائر العراقية، لا لشيء إلا لأن قانون الجنسية العراقية قد سن على أساس التابعية العثمانية، دون الأخذ بالاعتبار أن ليس كل العراقيين تاريخيًا كانوا من أصحاب التابعية العثمانية، مما شكل عامل انقسام استغلته السلطة للتفريق بين المواطنين، وللطعن في إخلاصهم ووطنيتهم، وهو الأساس الذي استندت إليه السلطات لإسقاط الجنسية عن أعداد هائلة من العراقيين، وكذلك لتهجير مئات الآلاف، والاستيلاء على ممتلكاتهم، وهو أمر لم تقم به الحكومة العراقية حتى مع اليهود الذي هاجروا إلى “إسرائيل” في مطلع الخمسينيات، حيث أسست مديرية الأموال المجمدة لحفظ أموال المهاجرين.
ورغم قسوة موقف السلطات- خصوصًا في السنوات الأخيرة- تجاه الشيعة، والتمييز بينهم، وحرمان مناطقهم، ومحاربة أبناءهم على الهوية والاسم، والتدخل في شؤونهم، والسعي لوضع اليد على حوزاتهم، والاعتداء على علمائهم قتلًا وسجنًا ومحاصرة، فإن كل هذه الأعمال لم تقد الشيعة إلى التخلص من هذه الأوضاع عبر المطالبة بالانفصال أو التقسيم، بل شددوا على معالجة الأمور بالأساليب السياسية، وبالدعوة إلى إجراء تغيير سياسي يزيل هذه الممارسات الشاذة التي يتعرض لها مجموع الشعب العراقي بشكل عام، والشيعة بشكل خاص.
فقد دخل المرجع الأعلى للشيعة السيد محسن الحكيم في مواجه مع السلطات الحاكمة من أجل مطالب عامة. وقدم الشهيد السيد محمد باقر الصدر وأخته بنت الهدى حياتيهما في الدفاع عن حقوق العراقيين كافة، واعتقل المرجع الأعلى أبو القاسم الخوتي في أحداث الانتفاضة الشعبانية بعد انسحاب القوات العراقية من الكويت. وكذلك الكثير من الحالات الأخرى. لكن أيا من هذه التحركات أو الشخصيات لم يطالب، لا صراحة ولا تلميحًا، بأي حل يتضمن أية فكرة للانفصال أو التقسيم.
وأوضح موقف هو أنه عندما سقطت المحافظات الوسطى والجنوبية التسع بيد الثوار في انتفاضة شعبان 1991 لم نجد أي تلميح أو تصريح بالانفصال عن العراق، حيث كانت الجماهير تطرح حلولا عراقية، وترفع صورًا لرموز عراقيين. وأن تصريحات الزعماء الشيعة وتنظيماتهم السياسية المعروفة كالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وحزب الدعوة، ومنظمة العمل الإسلامي، وغير ذلك، تؤكد على وحدة العراق ورفض أية دعوة إلى التقسيم.

الحالة العراقية والمعارضة الكردية والشيعة:

إن تداعيات الحصار الدولية والسياسة الداخلية المتعنتة قد انعكست سلبًا على أوضاع الشعب العراقي بما يعقد مشاكله ويزيد من معاناته. وذهب بعض الاحتمالات الخاصة بمستقبل العراق إلى حد التشكيك في إمكانية استمرار الكيان العراقي كوحدة سياسية ونسيج اجتماعي.
وسواء كنا أمام هذا الاحتمال أو ذاك، فإن أوضاع العراق، ولأسباب وخلفيات لم تعد خافية، قد أصبحت على جانب كبير من الأهمية بذاتها وبعلاقتها بأوضاع المنطقة والعالم، لا سيما وأن العراق يمثل اليوم واحدًا من أكبر مختبرات السياسة الدولية وأدواتها الدبلوماسية والعسكرية والثقافية.

1- الوضع الثقافي والتعليمي:

– منع الكتب التي لا تنسجم مع سياسة السلطة وفكر الحزب الحاكم ومحاربة مقتنيها. وقد اشتد هذا الأمر منذ السنوات الأولى من الثمانينيات، بحيث اشتمل أحد أوامر منع تداول الكتب قائمة تضم ألف كتاب في الأديان والتاريخ والآداب والفنون[8]. هذا بينما شكلت وزارة الإعلام لجنة لإعادة كتابة التاريخ بالشكل الذي يراه الحاكمون. وقد تضمنت المؤلفات في هذا الصدد تزييفًا كبيرًا وصارخًا للتاريخ الحديث للعراق فضلًا عن تاريخه القديم وإثارات طائفية ضد الشيعة وعنصرية ضد الأكراد[9]. هذا وقد أشارت دراسة باسم (المجلة العلمية) يصدرها ديوان رئاسة الجمهورية العراقية إلى أن 7350عراقيًا يحملون صفة عالم تركوا العراق في الفترة 1998-1999. وأما الأمية فقد عادت إلى الانتشار والتوسع من جديد.

2- الوضع الاجتماعى:

إن تسع سنوات من الحصار الاقتصادي وسنوات طويلة من ممارسات السلطة غير الحكيمة أدت إلى بروز مظاهر اجتماعية سلبية جديدة في المجتمع العراقي، بعضها ذو نتائج خطيرة، ومن أهمها بصدد ما نحن فيه من دراسة المسألة الكردية والشيعية في العراق:
– التهجير القسري، إذ لا زالت سلطات النظام تمارسه لأسباب سياسية: طائفية، وعنصرية. وقد ذكر المقرر الخاص لحقوق الإنسان في العراق في تقريره الذي نشر أوائل تشرين الثاني 1998 أن 150 ألف مواطن كردي طردوا من ديارهم في كركوك، و200 ألف مواطن آخر طردوا من ديارهم في مناطق أخرى لا سيما مناطق الشيعة الجنوبية[10].
– في عام 1994 طرحت حكومة بغداد بقوة بعض الشعارات الإسلامية، ومنها شعار الحملة الإيمانية وحفظ القرآن في بعض دوائر الدولة. كما خفت الضغوط على المساجد ومراقد أهل البيت. بعد أن مارست ضغوطا على الظواهر الدينية ومناطق تجمعاتها ومحافلها العلمية لسنوات طويلة أدت إلى إعدام علماء كبار كالسيد محمد باقر الصدر عام 1980 واعتقال مئات العلماء وطلبة الحوزة الدينية. ونتيجة لهذه السياسة الجديدة بدأت تطفو على السطح ظواهر دينية جديدة في العراق أهمها:
أ-التوجه نحو المساجد للصلاة، مما أدى إلى ضيقها بالمصلين وامتدادهم إلى الشوارع، سواء في المناطق الشيعية والسنية.
ب-صلاة الجمعة لدى الشيعة: فقد أفتى الشهيد السيد محمد الصدر في أوائل تشرين الأول 1997 بوجوب إقامة صلاة الجمعة.[11] وقد امتلأت المساجد بآلاف المصلين، بل بمئات الألوف أحيانًا.
ج-انتشار الكاسيتات الصوتية التي تضم المحاضرات الإسلامية، وخاصة محاضرات السيد محمد باقر الحكيم، والشيخ أحمد الوائلي، والشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ رمضان البوطي، والسيد محمد الصدر الذي أقام صلاة الجمعة في مسجد الكوفة بالنجف.
د-الإقبال الهائل على زيارة مراقد أهل البيت.[12] فقد صرح الجنرال صابر عبد العزيز الدوري محافظ كربلاء بأن المدينة استقبلت أكثر من أربعة ملايين زائر يوم أربعينية الإمام الحسين (20صفر) هذا العام 1999[13].
هـ-إقبال الشباب على الدراسة الدينية بالحوزة العلمية في النجف التي أعادت نشاطاتها نسبيًا، وكذلك الحوزات الأخرى في مسجد الإمام أبي حنيفة في بغداد، ومساجد مدينة الرمادي، إذ تركزت فيها دراسات ودورات في الفقه واللغة وعلوم القرآن وحفظه رغم المضايقات التي قامت بها الأجهزة السرية للطلاب والأساتذة، فقد تم اغتيال آية الله الشيخ بشير النجفي الباكستاني في نهاية 1998، وقد حمل المقرر الخاص السلطات العراقية مسؤولية هذه الأحداث[14].
وقد أدى حادث اغتيال الشهيد السيد محمد الصدر في 19/2/1999 إلى حدوث مواجهات دامية في عدد من مدن العراق مثل بغداد، العمارة، الكوت، والبصرة، وازدادت هذه المواجهة بعد منع السلطات إقامة صلاة الجمعة للشيعة، مما دفع عددًا غير قليل من سكان بغداد إلى التوجه إلى الصلاة في المساجد السنية، إلا أن السلطات منعت تكرارها.
وعلى إثر هذه الإجراءات والمواجهات، قام النظام بهدم عدد من المساجد التي كانت تقام فيها صلاة الجمعة. فقد أغلق في بغداد مساجد: المحسن، والحكمة، والرسول، وهدم جامع الميرزا في محافظة البصرة (مدينة الفاو)، وتم اعتقال أئمة الجمعة الذين عينهم الشهيد محمد الصدر ومطاردتهم.
– حفل عام 1999 بأنشطة متنوعة للمعارضين لنظام الرئيس صدام حسين. ويمكن أن نميز في هذه الأنشطة نوعين: الأول نشاط سياسي في خارج العراق، والثاني نشاط للمقاومة دفاعًا وهجومًا في الداخل. وهذا الوضع بذاته يؤكد وجهًا من أوجه أزمة النظام المتمثل بحجب الحريات السياسية وانتهاك حقوق الإنسان داخل العراق مما يجعل المعارضين يبحثون لهم عن متنفس للتعبير في خارج البلاد، بينما يتعرض الباقون لممارسات سلطات النظام المباشرة فيدافعون عن أنفسهم تارة ويهاجمون السلطات المذكورة تارة أخرى.
وفي الفترة من 24-28/5/1999 زار وفد للمعارضة العراقية واشنطن، وغابت عنه فصائل سياسية في مقدمتها أهم الأطراف الإسلامية، والحزب الشيوعي، والآشوريون. وقد التقى الوفد بوزيرة الخارجية الأمريكية وريتشاد دوني ومارتن انديك. وكان التقييم العام لنتائج مهمة الوفد- كما عرضها بعض أعضائه- سليبًا إلى حد ما، بحيث لم تكن تلك النتائج المتواضعة موازية للضجة الإعلامية التي رافقت مهمة الوفد.
وفي 29-31/10/1999 عقدت الجمعية العمومية للمؤتمر الوطني العراقي الموحد بعد سبع سنوات من مؤتمر صلاح الدين (1992)، وذلك في مدينة نيويورك برعاية أمريكية، مستندة إلى القانون الذي أصدره الكونجرس الأمريكي باسم قانون تحرير العراق في تشرين الأول 1998، والذي صادق عليه الرئيس الأمريكي بيل كلنتون[15] وفيه يخصص 97 مليون دولار لدعم المعارضة العراقية. وقد شارك في الاجتماع شخصيات عراقية معارضة، بينما قاطعه أهم الفصائل الأساسية في المعارضة العراقية، وفي مقدمتها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق.
وقد علل رئيس المجلس المذكور آية الله السيد محمد باقر الحكيم عدم مشاركة المجلس فيه بعدة أسباب، أهمها غياب التحضير المناسب، وغياب الخطة العملية للتغيير المطلوب، ولعقده في مكان غير ملائم، حيث كان ينبغي عقده داخل البلاد، مما يجعل انعقاده عملية إعلامية وليست عملًا ذا طابع جدي وحقيقي. وقد أكد السيد الحكيم في هذا الصدد أن المجلس لم يتعرض لأي تأثيرات تخص قناعته بالحضور أو عدمه.
هذا ويبدو أن الأطراف المعارضة الأخرى التي لم تحضر اجتماع نيويورك لديها التصورات نفسها بخصوص غيابها عنه. ولكن ذلك لم يمنع من تمني النجاح لاجتماع نيويورك الذي قُيّم بعدم النجاح فعلًا، كما لم يمنع من العمل على عقد اجتماع آخر في داخل الوطن يكون على حد تعبير السيد الحكيم عمليًا بعيدًا عن الإعلام، وهو ما يجري العمل لتنفيذه في الوقت الراهن.
تتوزع المقاومة على نمطين: سلبي، وإيجابي. يتمثل الأول في عدم التجاوب مع سياسات سلطات النظام وقراراتها. والثاني في تحدي تلك السياسات والقرارات، بل وفي مهاجمة مراكز السلطة ورموزها الذين يمارسون إيذاء الشعب بمختلف الوسائل.
والحقيقة أن سياسة القمع التي أشار إليها القرار 688 مازالت تتصاعد بحجة الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد منذ مجيء الحكم الحالي في عام 1968 بحيث بقي الدستور مؤقتًا طيلة هذه الفترة، واستمرت القوانين القاسية في الصدور.
– عمليات التهجير وتنظيم الخارطة السكانية، ونزع الجنسية، ومصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة، والهجمات العسكرية، والحملات التأديبية والتفتيشية، والإعدامات وإشكال التصفية الجسدية، وهدم المنازل، وتجفيف المسطحات المائية، وإغراق المزارع، وما إلى ذلك من تجاوزات وانتهاكات تمارسها سلطات النظام جعلت أبناء الشعب يلجأون إلى ما يناسب من الأساليب للوقوف في وجه تعنت السلطة وتجاوزاتها. وقد حفلت متابعات المؤسسات المعنية بأرقام جديدة تخص هذا العام (1999) من تلك التجاوزات.[16] ولعل أبرز التصفيات التي لجأت إليها سلطات النظام هذا العام هي اغتيال المرجع الديني السيد محمد صادق الصدر بتاريخ 19/2/1999، ومحاولة اغتيال الشيخ بشير الباكستاني في النجف الأشرف في 8/1/1999. وقد سبقت ذلك سلسلة طويلة من التصفيات منها اغتيال آية الله السيد الغروي في 19/6/1998، وآية الله السيد البروجردي في 21/4/1998، ومحاولة اغتيال المرجع السيد السيستاني في 22/11/1996.
-وقد تميز عام 1999 أيضًا بحملات هدم منازل المعارضين والذين يشك في ولائهم لإدارة النظام، وهي طريقة كانت طبقت في كردستان العراق في سنوات سابقة، وتطبق اليوم بشكل خاص في الجنوب، فضلًا عن حملات إعدام شملت نزلاء السجون دون أن يكون هناك حكم بالإعدام.
– في مقابل ما تقدم اشتبك أفراد المقاومة المسلحة مع حملات التفتيش والمداهمة ومفارز التعقيب الرسمية وحراس المرافق الأمنية. كما هاجموا في أحياء كثيرة مسئولين معينين معروفين بإيذاء المواطنين. ومن هذه الحوادث نذكر محاولات جريئة للمقاومة طالت محمد حمزة الزبيدي نائب رئيس الوزراء وقائد منطقة الفرات الأوسط في 16/8/1999، وذلك قرب مدينة النجف الأشرف، ومحاولة الاغتيال التي تعرض لها طه ياسين رمضان في يوم 2/9/1999.
وعلى كل حال فإن شهود عيان يصفون معظم المناطق الخاضعة لسلطة بغداد بأنها محكومة للنظام نهارًا وخارجة عليه ليلًا، لما يتمتع به المواطنون من روح مقاومة عالية رغم المحن.
أما المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكم المحلي في كردستان العراق فقد شهدت صراعًا قويًا بين الجناحين الرئيسين للقوى السياسية الكردية (الطالباني والبارزاني). ولكن هذا العام شهد تقاربًا حثيثًا ورغبة من الطرفين في إنهاء نزاعهما لصالح قضية كردستان العراق خاصة والعراق عامة. وتشهد كردستان العراق حركة نشطة لتركيز السلطات المحلية وتوفير ما ينبغي لأجهزة الدولة عادة توفيره لأبناء الشعب، إلا أن (السلطات الكردية) تواجه مفارقات متعددة تعقد من عملية اتخاذ الموقف المطلوب، فكردستان العراق جزء من العراق الذي يمتلك سلطة مركزية في بغداد. وهي جزء من ظاهرة مقاومة النظام المركزي للمعاناة التي مرت بها، وهي أيضًا ساحة عمل سياسي منفتحة إلى حد ما، مما رشحها لاحتضان مؤتمرات واجتماعات مهمة للمعارضة، متفاعلة في ذلك مع أطراف المعارضة السياسية في الخارج من جهة ومع قوى المقاومة في الداخل من جهة أخرى، مما يميز موقفها عن حركات أخرى سياسية تختلف علاقاتها وإمداداتها وأوزانها في داخل البلاد وفي داخل المقاومة المشار إليها بشكل خاص.
خط العرض 33 ومشروع التقسيم:
عندما نعود إلى موضوع التقسيم وطرحه إعلاميًا، نجد أن هذا الموضوع قد طرح بشدة بعد اتخاذ قوات الحلفاء الأمريكية والبريطانية والفرنسية قرارًا في 25/8/1992 باعتبار المنطقة الواقعة جنوب الخط 32 والتي مدت لاحقًا إلى الخط 33 كمنطقة حظر جوي على الطائرات العراقية.
حيث بادرت بعض الدول إلى إثارة المخاوف من تقسيم العراق. عند الحديث عن الحظر الجوي في الجنوب بادرت قطر والسعودية إلى إبداء حرصهما على “وحدة العراق وعدم تجزئته”، وكذلك أعربت الجامعة العربية عن موقف مشابهة.[17] وقد استغلت الحكومة العراقية هذا الوضع فأثارت قلقًا وتخوفًا من التقسيم، حيث نشطت صحافة بغداد في هذا المجال قائلة: “إن الشعب العراقي وأفراد قواته المسلحة منتبهون لمؤامرة تقسيم العراق..”.[18]
والمعلوم أن منطقة الحظر الجوي التي طالما قيل إنها أقيمت لحماية الشيعة في جنوب العراق، قد أقيمت في الواقع لمنع انتشار القوات العراقية تجاه الكويت والسعودية، ولتضمن الدول الغربية مصالحها في العراق -خصوصًا النفطية والاستراتيجية- عبر مراقبة ما يجري فيه من الجو، وكذلك لإيجاد مرتكزات تدخل في منطقة حساسة للمصالح الأمريكية. إذ من المعروف أن أقسى حملات الاضطهاد التي تعرض لها الشيعة خلال تاريخهم الطويل قد تمت خلال العقدين الأخيرين- وخصوصًا منذ اجتياح الكويت ولحد الآن. بل إن الأمر لم يقف عند اضطهاد الأفراد، بل تعدى ذلك إلى تغيير المعالم الجغرافية لمناطقهم. وأشهر مثال يضرب على ذلك هو عملية تجفيف الأهوار، وتدمير هذه المنطقة وتحويلها إلى أراض قاحلة. فالحظر الجوي لا يحمي سكان المناطق الجنوبية والوسطى من الاضطهاد الذي يمارس عبر الحملات الأرضية، وأعمال القصف المدفعي، وحرق البيوت، وتدمير القرى. وهذه أمور لا يمكن للحظر الجوي أن يتوقف عندها.
إن من يناقش موضوع المسلمين الشيعة والتقسيم يجهل أن الشيعة في العراق لا يمثلون أقلية سكانية كما تتكلم عن ذلك بعض وسائل الإعلام. فالشيعة يشكلون أكثر من ثلاثة أرباع عرب العراق. وإن حوالي ثلثي العاصمة بغداد هم من المسلمين الشيعة. ومهما تختلف الإحصاءات فإنها تجمع على أنهم يشكلون نسبة قد تقل أو تزيد قليلًا عن 60% من مجموع سكان العراق.
لكن الأهم من ذلك هو أن المسلمين الشيعة يرتبطون بقوة بالعراق بعوامل عديدة دينية وتاريخية واجتماعية وحيوية. فهم لا يستطيعون أن يجزئوا بلدًا يرقد فيه ستة من أئمتهم، دون الكلام عن الكثير من الصحابة وأبناء الأئمة الذين تنتشر قبورهم في العراق كله. ففي سامراء التي تقع في شمال بغداد (والتي تضعها التقارير التي تتكلم عن التقسيم خارج المنطقة التابعة للشيعة) يرقد الإمامان العاشر والحادي عشر للشيعة الإمامية، ناهيك عن علاقة سامراء بأحداث وتاريخ الغيبة التي يقول بها الشيعة للإمام الثاني عشر.
كما يرتبط شيعة العراق بروابط تصاهر وعلاقات تجاور قوية مع بقية سكان العراق من العرب والأكراد والتركمان السنة. وإن روابطهم بالبلدان العربية لا تقل عن روابطهم بجارتهم إيران في مجالات عديدة.
ودون الخوض عميقًا في هذا الموضوع، لابد من الإشارة إلى أن المسلمين الشيعة يمسكون بعصب الأسواق التجارية والزراعية والصناعية في البلاد، وأن من يمسك بعصب التجارة لا يجزئ، بل يوحد ويسعى إلى التوسعة.
والأهم من ذلك كله هو أنه لم تبرز في إطارات الفاعليات السياسية الإسلامية الشيعية أية دعوة إلى التقسيم والانفصال، وأن هناك خلطًا بين الدفاع عن حقوق الشعب العراقي والتقسيم. فكما أن الوزن الشيعي هو وزن كبير في قاعدة الجيش العراقي وفي جهاز التعليم وفي الزراعة والصناعة بسبب الواقع السكاني للبلاد، كذلك فإن وزنها هو وزن كبير، ليس في المعارضة فقط، بل في الأجهزة القمعية التي تستخدمها السلطة أيضًا. وإن الإعلام وطبيعة المعارك السياسية تسعى لاستخدام خطاب تخويفي، وليس واقعيا، يخفي الحقائق، فيبرز عاملا ليخفي عوامل، فيحاول أن يظهر مقاومة الشعب العراقي وكأنها مقاومة شيعية لحكومة سنية، أو كمقاومة كردية لحكومة عربية، بينما الحقيقة هي أن الأمر هو مقاومة شعب بكل أطيافه وألوانه لحكم فردي ولمؤامرات أجنبية تستخدم كل الدعايات لتمرير سياساتها ليس إلا.
وفي هذا المقام من الضروري الإشارة إلى تشابك الداخلي والخارجي وتفاعلهما بصدد هذه المسألة التي تتعلق بالتعامل مع كيانات متمايزة تمثل قوى دينية أو عرقية، ذلك أن التعامل الداخلي مع هذه الكيانات على نحو تكيفي يحاول استيعابها من دون عنف، وفي إطار يسمح لها بالتعبير عن ذاتيتها الثقافية والحضارية هو المحك.
وإن التعامل على نحو يضيق على هذه القوى أو يقوض عناصر تميزها في إطار عملية إكراه قسري للدخول في منظومة الدولة القومية، لا يعد من قريب أو من بعيد ضمن سياسات التكامل القومي، وهو أقرب ما يكون إلى سياسات القسر والإلحاق، وهو أمر يؤجج عناصر المطالبة بالذاتية، والسماح بتعدد الانتماءات باعتبارها طبيعية.
ومن الممكن في هذه الحال وقد تواتر تعامل النظم السياسية في الدول القومية على تلك الوتيرة التي تتعلق بالنفي وعدم قبولها إلا بخيار الإلحاق القسري ـ أن يجد العامل الخارجي تكآت لتنفيذ بعض الخطط في تفكيك بعض هذه الدول وتفتيتها، خاصة إذا مثلت قوتها خطرًا على مصالحه في الداخل أو على النطاق الإقليمي والدولي.
الحالة العراقية في علاقتها بالمسالة الكردية والمسألة الشيعية نموذجً في هذا المقام، يمكن تدبر كيف يُمَكِّن الداخل بتعاملاته وعلاقاته للخارج وخططه وأهدافه.
*****

الهوامش:

[*] لدى بنك المعلومات العراقي

[1] تاريخ الوزارات العراقية بعد الرزاق الحسيني ج1 ص 176.
[2] موسوعة العراق السياسية عبد الرزاق الأسود ج2 ص 606.
[3] راجع جرائم النظام العراقي ضد العشب الكردي د. نوري الطالباني ص 23-24.
[4] يمثل الوسط والجنوب 9 محافظات وهي كربلاء، بابل، النجف، واسط، القادسية، المثنى، ميسان، ذي قار، البصرة.
[5] تاريخ الوزارات العراقية بعد الرزاق الحسني ج1 ص 96-100.
[6] راجع تاريخ الوزارات العراقية ج1 موسوعة العراق السياسية ج2.
[7] راجع الثورة العراقية الكبرى عبد الرزاق الحسني.
[8] راجع في هذا الصدد إصدارات المركز الوثائقي لحقوق الإنسان في العراق ذات العلاقة، وكذلك إصدار بنك المعلومات العراقي المعنون “المقومات الأساسية للبنية الشيعية في العراق” للسيد محمد الحيدري ص 39.
[9] مثل كتاب الجذور التاريخية لنشأة الطائفية للدكتور محمد جاسم المشهداني والذي نشرته صحيفة بابل في أكثر من ستين حلقة (مايس حزيران تموز 1999).
[10] انظر “أرقام وإحصاءات” بنك المعلومات العراقي ص 20
[11] يختلف علماء الشيعة في وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة الإمام (عصرنا الفعلي) فالاتجاه العام يقول باستحباب إقامتها.
[12] يضم العراق عددا من مراقد أهل البيت وهم الإمام علي بن أبي طالب في النجف، الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب وأخيه العباس في كربلاء، الإمام موسى الكاظم والإمام محمد الجواد في بغداد، الكاظمية، والإمام علي الهادي والإمام الحسن العسكري في سامراء.
[13] صحيفة الثورة البغدادية 6/6/1999.
[14] وكالات الأنباء في 4/11/1998.
[15] صادق الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في 1/كانون الأول 1998 على القانون وبعث برسالة إلى الكونجرس في 20/كانون الثاني 1999 إلى الكونجرس أعلن فيها أسماء سبع فصائل للمعارضة العراقية المؤهلة للمساعدة بموجب قانون تحرير العراق والفصائل السبع هي: الوفاق الوطني العراقي، المؤتمر الوطني العراقي، الحركة الإسلامية في كردستان العراق، الحزب الديمقراطي الكردستاني، الحركة الملكية الدستورية، الاتحاد الوطني الكردستاني، المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق.
[16] راجع إصدار المركز الوثائقي لحقوق الإنسان في العراق” يوميات” والذي بدأ يسجل تلك الوقائع يوميًا منذ بداية عام 1992 وحتى الآن.
[17] صحيفة الثورة السورية 27/8/1992.
[18] صحيفة القادسية الناطقة باسم القوات المسلحة العراقية 1/9/1992.

نشر في حولية أمتي في العالم، عدد 2000

للحصول علي الملف

اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى