تطور الدساتير المصرية 1952-2011


مقدمة
لم يكن غريبا أو طارئًا تدخُّل الجيش المصري في الحياة السياسية المصرية، بالإضافة لمهامِّه العسكرية، حيث كان الجيش ركنًا مهمًّا -أو للدقة الركن الأهم- في بنية الدولة المصرية منذ تأسيسها على يد محمد علي باشا، وتمحورت بنية الدولة ومؤسساتها حوله، وطوال عهد أسرة محمد علي، تمَّ حل الجيش خلالها ثلاث مرات وإعادته في كل مرة بهدف تعضيد ملك الأسرة أو القيام بدور في السودان لمصلحة الاحتلال الإنجليزي وصولًا للثورة العرابية وانكسارها، ولحظة معاهدة 1936 في ظل حكومة الوفد ودخول أفراد من الشعب المصري في المنظومة العسكرية وتعرُّض الجيش لهزَّتين قويَّتين في حادثة فبراير 1942 وحرب فلسطين 1948، وكان لفساد الحياة السياسية وسوء استغلال النظام لصلاحياته الأثر الكبير في تحطم آمال الشعب في أن النظام الملكي في صورته وبممارساته تلك لا يمكن أن يصل إلى تحقيق الاستقلال والجلاء.
وبالتبعية؛ تحطَّمت هيبة الدستور والقانون والنظام السياسي الذي أطرت له ثورة 1919 ونتائجها، والتي تم استخدامها كمسوِّغ شرعي للتلاعب من قبل الملك، بالإضافة إلى سوء استخدام الصلاحيات الممنوحة له بموجب دستور 1923 وإقصاء الأغلبية من السلطة بعد كل الحراك الذي صاحب ثورة 1919 وما بعدها.
وبلغ هذا الاضطراب ذروته في أواخر حكم الملك فاروق مع فرضه حكومات على رأسها رؤساء وزراء من الأقليات السياسية، وما نتج عن ذلك من فجوة عظيمة بين النظام من جانب، وبين الشارع والقوى السياسية “الإخوان والشيوعيين” من جانب آخر، وعدم قدرة النظام على استيعابها.
فصار هناك خطَّان متوازيان لا يلتقيان: خط السلطة وما حولها من النخب السياسية، وخط القوى السياسية الملتحمة مع الشعب بالإضافة إلى مطالب الأخيرة، فكان لا بدَّ من حدوث شيءٍ ما يغيِّر تلك المعادلة ويسمح للقوى على الهامش بمساحة وشرعية للفعل وإعادة بناء نظام بعقد اجتماعي جديد وبظهير شعبي جديد.
أولًا- دستور 1954:
الخلفية السياسية لإصداره:
في كافَّة المجتمعات عندما تحدث حركة للإطاحة بالنظام وإقامة غيره، فإن هذه الحركة يجب أن تكون شاملة وحاسمة، بحيث يترتَّب عليها الإنهاء الجذري والقطيعة مع ما سبقها، وهذا ما أكَّدته حركة الجيش في 23 يوليو 1952، وإن كان سبقها انهيار النظام من الداخل وتآكله بحكم الزمن والمتغيِّرات الداخلية والخارجية وعدم قدرته على استيعابها.
وعلى ذلك تمت السيطرة على السلطة بسهولة لم يكن يتوقَّعها حتى من قاموا بالحركة، واستعانوا بأهل الخبرة من النظام السابق ليكونوا جسرًا للنظام الجديد، ولم يبد أي من الأطراف السياسية القديمة مقاومة لهذا الحراك بسبب العداء الطويل للملك ونظامه وسلوكه معهم كأغلبية لم تستطع ممارسة دورها التي كانت تُنتخب لأجله.
وكان التفكير في الدستور الذي سيكون أساس الشرعية والعقد الإجتماعي، فهل سيكون مجرد التعديل على ما سبق أم وضع دستور جديد بفلسفه مغايره تتناسب مع التغيرات الجذرية التي طرأت على الحياة السياسية ولاعبيها.
كان دستور 54 مشروع لم يتكمل حيث أن طول مدة تحضيره لمدة عام ونصف كانت قد حسم فيمها الصراع السياسي لصالح مجلس قيادة الثورة وليس لصالح الحياة الحزبية، وذلك للعديد من الأسابا أهمها أن الدستور تجاهل الوضع السياسي بعد يوليو 52 وخلع الملك من اختلال الأوضاع السياسية واختلال في موازين القوى السياسية السابقة على قيام الثورة؛ أما من حيث المضمون فكان ذلك المشروع تنقيح لدستور 1923 الملغي حيث عالج الثغرات في الأخير ولذلك لم يكتب له الظهور تحت قيادة راغبة في تولي السلطة منفردة وليس منحها للشعب.
مضمون دستور 1954:
- الأحكام العامة في مواد الدستور:
تبنَّى مشروع دستور لجنة الخمسين مبدأ “الجمهورية البرلمانية”، ثم أورد الموادَّ الخاصَّة بالحريات العامة وضمانات الأفراد، فالنص الخاص بالمساواة بين المصريِّين في الحقوق والواجبات العامة لا يحظر فقط التمييز بينهم بسبب الأصل أو اللغة أو العقيدة، بل أيضًا عدم التمييز بينهم بسبب الآراء السياسية والاجتماعية (المادة 3).
وتحظر (المادة 7) إبعاد أي مصري من بلاده أو منعه من العودة إليها، كما تحظر (المادة 8) إلزام المصري بالإقامة في مكان معين إلا بحكم من القاضي، وينفرد المشروع في (المادة 9) منه بالنصِّ على إلزام الدولة بالتعويض عن أخطاء العدالة، إذا تمَّ تنفيذ العقوبة بناء على حكم جنائي نهائي ثبت خطأه، ونصَّ في (المادة 20) على حظر المحاكمات أمام محاكم خاصة أو استثنائية وحظر محاكمة المدنيِّين أمام محاكم عسكرية[1]. ولم يقيِّد الدستور هذه الحريات إلا في حالات مخصوصة كالقبض في حالة التلبُّس وشرط لذلك سماح القانون وإذن القاضي دون أن يخول السلطة التنفيذية وحدها أمرًا ما (المادة 14والمادة 15).
وبالنسبة للحريات الجماعية، أطلق المشرِّع حرية الصحافة والطباعة ومنع تقييدهما بأي قيد ومنع فرض الرقابة عليها وحظر إنذار الصحف أو وقفها أو إلغائها أو مصادرتها بالطريق الإداري (المادة 26).
وأباح حرية الاجتماع ومنع الشرطة من حضور الاجتماعات ولم يقيِّدها إلا بأن تكون لغرض سلمي ودون حمل السلاح وأباح المواكب والمظاهرات في حدود القانون (المادة 29) وأباح تأليف الجمعيات والأحزاب دون سابق إنذار ما دامت الوسائل والغايات سلمية وأن تكون الأحزاب بعيدة عن النفوذ الأجنبي وخصَّ المحكمة الدستورية بالفصل في كلِّ ما يتعلَّق بهذه الأوضاع من منازعات (المادة 30)[2].
- النصوص السياسية “الخاصة بنظام الحكم”:
يتعلَّق الفصل الثاني من الباب الثاني برئيس الجمهورية، وفي الدستور هو رئيس الدولة فقط، وليس رئيس السلطة التنفيذية، ويشترط ألا يقل عمره عن 45 سنة، وينتخب من هيئه مكونة من أعضاء مجلس النواب والشيوخ مضافًا إليهم أعضاء الهيئات المحلية العاملون يوم انتهاء مدة الرئيس السابق، وعلى العكس من كل الدساتير المصرية السابقة واللاحقه فإن دستور 54 ينص في (المادة 94) على المسؤولية الجنائية لرئيس الجمهورية في حالة الخيانة العظمى وانتهاك حرية الدستور واستغلال النفوذ، وبالإضافة إلى الجرائم الأخرى التي يعاقب عليها القانون، على أن يكون اتهامه بقرار من أحد مجلسي البرلمان، وتكون محاكمته أمام المحكمة الدستورية العليا، فإن أُدين عُزل من منصبه.
أما المادة المحورية في هذا الفصل فهي (المادة 11) والتي تنص على أن رئيس الجمهورية يتولَّى جميع سلطاته بواسطة الوزراء، وتوقيعاته في شؤون الدولة يجب لنفاذها أن يوقِّع عليها رئيس الوزراء والوزراء المختصُّون، وأوامره شخصية كانت أو كتابية لا تعفي الوزراء من المسؤولية بحال، وهو لا يستقل إلا بسلطة تعيين رئيس مجلس الوزراء أو إعفائه على أن يستشير ممثِّلي الأحزاب السياسية، بالإضافة إلى تعيين أعضاء مجلس الشيوخ الذين يكون اختيارهم عن طريق التعيين، فهو باختصار وفقًا لمشروع الدستور يملك ولا يحكم، وربما كان أهم ما يتضمَّنه الباب التاسع النص على تحصين بعض مواده ضدَّ التعديل وهي المواد الخاصة بمبادىء الحرية والمساواة وشكل الحكومة والنظام الجمهوري النيابي البرلماني[3].
- النصوص الاقتصادية:
نصَّ الدستور على أن النشاط الاقتصادي الخاص حر ولكنه أورد على هذا المبدأ قيودًا كثيرة بقصد تحقيق التوافق بين النشاط الاقتصادي العام والخاص، حيث قيَّد الدستور مبدأ الحرية بعدم الإضرار بالصالح العام أو الاعتداء على حرية الأفراد أو كرامتهم (المادة 8)، كما قرَّر ضرورة تنظيم الاقتصاد القومي وفقًا لخطط مرسومة تهدف إلى تنمية الإنتاج وهذا هو نظام الاقتصاد الموجَّه (المادة 7)، وإعمالًا لفكرة القضاء على التحكُّم أو السيطرة أورد الدستور نصوصًا خاصَّة لمنع استخدام السلطة العامة للاستغلال أو لتحقيق كسب مادي، فحرَّم على أعضاء مجلس الأمة التعيين في مجالس إدارة الشركات في أثناء مدَّة عضويَّتهم (المادة 115)، كما حرَّم عليهم التعاقد مع الدولة من أجل بيع أو شراء أو تأجير أموال مملوكة لهم أو للدولة (المادة 117)، كما أورد نصًّا مماثلًا بشأن رئيس الجمهورية، فلا يجوز له أن يزاول مهنة حرَّة أو عملًا تجاريًّا أو صناعيًّا أو أن يشتري أو أن يستأجر شيئًا من أموال الدولة أو يؤجِّرها أو يبيعها شيئًا من أمواله (المادة 125).
ونصَّ أيضًا على حماية الملكية الصغيرة (المادة 43) وحماية المستأجرين من الملَّاك (المادة 14) وحماية العمَّال من أرباب الأعمال (المادة 54)، وجعل الدستور من العمل حقًّا للمصريِّين تُعنى الدولة بتوفيره (المادة 52) ونصَّ على أن التضامن الاجتماعي أساس المجتمع المصري وألزم الدستورُ الدولة بكفالة التأمين الاجتماعي والمعونة الاجتماعية وجعل العدالة الاجتماعية أساسًا للضرائب والتكاليف العامة[4].
ثانياً- دستور 1956
- الخلفية السياسية لإصداره
نظرًا لأن مشروع دستور 1954 لم يحقق أهداف ضباط حركة 1952، وأنه لم يكن يرضيهم أن تظل القوى السياسية متحكمة في المشهد السياسي وأن يعودوا لثكناتهم، بل إنهم أصدروا دستورًا مؤقتًا، مما يشير إلى وجود نية لعدم تفعيل هذا المشروع، كما أنهم لم ينضموا للجنة الخمسين التي التأمت لصياغته، لذلك لم يُعمل به وتمَّ العدول عنه، فعهد رئيس الجمهورية إلى المكتب الفني بإعداد مشروع دستور يحقق أهداف الثورة، وبالفعل قام المكتب الفني لرئيس الجمهورية بإعداد مشروع دستور جديد تمَّ عرضه على مجلس قيادة الثورة ثمَّ على مجلس الوزراء لنظره وإبداء الرأي فيه.
وقد أُجري استفتاء شعبي على هذا الدستور بتاريخ 23 يونيو 1956 وأصبح ساريًا من هذا التاريخ، وبناءً على ما سبق يُعتبر دستور 1956 قد صدر عن طريق الاستفتاء الشعبي بعد أن وضعته لجنة معيَّنة من قبل الحكومة. ولم يستمرَّ العمل بهذا الدستور طويلًا، إذ لم يزدْ عمره على سنةٍ وثمانية أشهر وذلك بسبب الوحدة التي تمَّتْ بين مصر وسوريا في 21 فبراير 1958، حيث انتهى العمل به منذ ذلك التاريخ[5]. وعلى أساس هذا الدستور تمَّ تشكيل أول مجلس نيابي في ظلِّ ثورة 23 يوليو وبدأ جلساته في 22 يوليو عام 1957 وقد أطلق عليه اسم مجلس الأمة واستمرَّ هذا المجلس حتى 10 فبراير عام 1958[6].
- مضمون الدستور:
- النصوص السياسية:
نصَّ الدستور في مادته الأولى على أن مصر جمهورية ديمقراطية وعلى أن شعبَها جزءٌ من الأمة العربية، وهذا النص يقرِّر أمرين بالغي الخطورة في التطور السياسي المصري، أولهما، تقرير الجمهورية وتأكيدها حيث لم يكن هناك احتمال غير ذلك بعد أن أُلغيت الملكية وأما ثانيهما، أكَّد على الانتماء العروبي لمصر، وذلك بحكم الاتجاهات القومية التي تبنَّاها النظام في الحقبة الناصرية [7].
وقد تبنَّى هذا الدستور مبدأ الجمهورية الرئاسية، حيث يتمُّ اختيار رئيس الجمهورية بالاستفتاء الشعبي العام، وهو الذي يتولَّى السلطة التنفيذية ويعيِّن الوزراء ويرأس مجلسهم، ويضع السياسة العامة للدولة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، وهو القائد الأعلى للجيش ورئيس مجلس الدفاع ويعيِّن القائد العام.
أما السلطة التشريعية فيتولَّاها مجلس الأمة الذي يتشكَّل بالانتخاب العام السِّرِّيِّ المباشر، ويراقب المجلس أعمال السلطة التنفيذية، والرقابة هنا محدودة بكون المجلس يملك سحب الثقة من أحد الوزراء دون أن تقوم مسؤولية تضامنيَّة للوزارة كلها أمام المجلس، لأن رئيس الجمهورية هو رئيس الوزراء المستفتى عليه مباشرة من الشعب، فلا يملك مجلس الأمة إزاءه سلطانًا، ورئيس الجمهورية أيضًا له حلُّ مجلس الأمة.
ومن جهة أخرى أورد الدستور في (المادة 192) منه “أن المواطنين يشكِّلون اتحادًا قوميًّا، وتبيَّن طريقة تكوين الاتحاد بقرارٍ من رئيس الجمهورية، ثم قرَّر أنه يتولَّى الإتحاد القومي الترشيح لمجلس الأمة” وبهاتين العبارتين تمَّ للسلطة التنفيذية التي يرأسها رئيس الجمهورية استيعاب المجلس التشريعي، إذ صار الرئيس هو من يقيم المؤسَّسة التي تملك وحدها اختيار المرشَّحين لعضوية المجلس، فضلًا عن سلطة الرئيس في حلِّ المجلس، والقاعدة أن من ملك التعيين والعزل فقد ملك الإرادة أو على الأقل أحاط بها[8].
- النصوص الاقتصادية:
نص الدستور على أن ينظَّم الاقتصاد القومي بواسطة خططٍ مرسومة تراعَى فيها مبادىء العدالة الاجتماعية، وتهدف إلى تنمية ورفع مستوى المعيشة (المادة 7) ، ونصَّ على حرية النشاط الاقتصادي الخاص على ألَّا يضرَّ بمصلحة المجتمع (المادة 8)، ونصَّ على عدم جواز التعارض في استعمال رأس المال مع الخير العام للشعب (المادة 9).
وحمى الملكية العامة ونصَّ على أن لا تُنزع إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل وفقًا للقانون (المادة 11)، وفيما يتعلَّق بالملكية الزراعية عيَّن القانون الحدَّ الأقصى للملكية الزراعية بما لا يسمح بقيام الإقطاع وأنه لا يجوز لغير المصريِّين تملُّك الأراضي الزراعية إلا في الأحوال التي يبيِّنها القانون (المادة 12)، ويحدِّد القانون وسائل حماية الملكية الزراعية الصغيرة (المادة 13)، وينظِّم أيضًا القانون العلاقة بين ملَّاك العقارات ومستأجريها (المادة 14).
ثالثًا- دستور 1958:
- الخلفية السياسية لإصداره:
بعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا في 22 فبراير عام 1958 بتوقيع ميثاق الجمهورية المتَّحدة من قبل الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس السوري شكري القوتلي، اختير عبد الناصر رئيسًا كما اختيرت القاهرة عاصمة للجمهورية الجديدة، ونظرًا لقيام الوحدة ألغي دستور 1956 وصدر دستور مؤقَّت للجمهورية المتَّحدة في مارس 1958، وبمقتضى دستور الوحدة تمَّ تشكيل مجلس أمة مشترك بواقع 400 عضو من مصر و 200 عضو من سوريا[9]. ولقد جاء هذا الدستور وجيزًا وجاءت أحكامه تلخيصًا لنصوص دستور 1956 إلا أنه لم يستمرَّ طويلًا فقد انفصلت سوريا عن مصر في انقلاب عسكري في سوريا، وترتَّب على ذلك انقضاء العمل بهذا الدستور[10].
- مضمون الدستور:
جاء هذا الدستور في 73 مادة، وتمثَّلت أهم خصائصه في أنه تضمَّن الأُسُسَ الاجتماعية والاقتصادية لتوجُّهات دولة الوحدة وعمل على السعي لإقامة نظام العدالة الاجتماعية والتخطيط الاقتصادي والاجتماعي واستبعد تعدُّد الأحزاب وأكَّدَ على التوجُّه القومي ومنح سلطات وصلاحيات واسعة للرئيس حيث يُعتبر هو رئيس السلطة التنفيذية وهو الذي يعيِّن ويعزل نوابه والوزراء ونوابهم ويقوم بوضع السياسة العامة (المواد 44 – 47) وقد استمرَّ العمل به حتى 28 سبتمبر 1961[11].
رابعًا- دستور 1964:
- الخلفية السياسية لإصداره:
نشأ هذا الدستور كدستور مؤقَّت لحين وضع دستور دائم، وقد أعلنه رئيس الجمهورية في 23 مارس 1964 بعد أن وضعته الحكومة، ليُعمل به من يوم الأربعاء الموافق 25 مارس 1964 ولتصبح نصوصه أساسًا للنظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للدولة، وقد استحدث الدستور منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية[12].
ويعتبر هذا الدستور أكثر دساتير الحقبة الناصرية تعبيرًا عن تصوراتها الأيديولوجية والتنظيمية لكلٍّ من الدولة والمجتمع، وقد عكست التجارب الدستورية المتتالية تطوُّر مسار ثورة يوليو من إلغاء الملكية وبداية الجمهورية وما استتبعه ذلك من تحول مفاهيم الديمقراطية الحزبية التي سادت قبل يوليو انتهاءً إلى نظام رأسمالية الدولة الذي سُمِّيَ بالنظام الاشتراكي وفق التجربة الناصرية القومية.
- مضمون الدستور:
1 – النصوص السياسية:
نصَّت المادة الأولى من دستور 1964 على أن “الجمهورية العربية المتحدة دولة ديمقراطية اشتراكية تقوم على تحالف قوى الشعب العاملة”، كما نصَّ على أن “الوحدة الوطنية التي يصنعها تحالف قوى الشعب الممثلة للشعب العامل وهي الفلاحون والعمال والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية هي التي تقيم الاتحاد الاشتراكي المصري ليكون السلطة الممثلة للشعب والدافعة للثورة والحارسة على قيم الديمقراطية” (المادة 3).
جاء بالباب الرابع من هذا الدستور المعنون “نظام الحكم” النص على أن رئيس الدولة هو رئيس الجمهورية ويباشر اختصاصاته على النحو المبين في هذا الدستور، ويتولَّى رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية ويمارسها على النحو المبيَّن في الدستور، حيث يضع السياسة العامة للدولة في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والإدارية مع إشرافه على تنفيذها، ويختص وحده بتعيين رئيس الوزراء والوزراء وسلطة إعفائهم من مناصبهم، الأمر الذي يبدو معه أن مفهوم المشاركة بين رئيس الجمهورية والحكومة أمر مشكوك فيه من الزاوية العملية، وأيضًا له سلطة اقتراح القوانين والاعتراض عليها وله سلطة إصدار قرارات لها قوة التشريع في فترات حل البرلمان، كما قرَّر أن للبرلمان سلطة تفويض رئيس الجمهورية في الأحوال الاستثنائية بإصدار قرارات لها قوة القانون على أن يكون التفويض محدودًا زمنيًّا وموضوعيًّا، ولرئيس الجمهورية أيضًا سلطة إعلان حالة الطوارئ، وسلطة إصدار القرارات اللازمة لترتيب المصالح العامة.
وعلى نفس النهج فرئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وله سلطة إعلان حالة الحرب بعد موافقة مجلس الأمة، وإبرام المعاهدات ثم إبلاغ البرلمان بها، بالإضافة أن له سلطة تعيين 10 أعضاء في مجلس الأمة “البرلمان”، وسلطة دعوة مجلس الأمة للانعقاد، فضلًا عن سلطته في حلِّ مجلس الأمة؛ ليتبيَّن الوزن النسبي الثقيل لمنصب رئيس الجمهورية داخل التكوين المؤسَّسي لهيكل الدولة المصرية في الدستور.
وفي هذا نتحدَّث عن مركز سياسي سلطوي شديد الفاعلية لرئيس الجمهورية دون أن يُحاط هذا المنصب بأيِّ ضمانات أو ضوابط تحدُّ من هذه السلطات فائقة الإتساع، وعلى هذا فلم يوجد دستور 1964 مؤسَّسة رئاسية، وإنما أوجد رئيسًا فحسب ولا يقع على عاتقه أيُّ نوعٍ من المسؤولية.
2 – النصوص الاقتصادية:
نص دستور 1964 على أن الشعب يسيطر على كل أدوات الإنتاج وعلى توجيه فائضها وفقًا لخطة التنمية التي تضعها الدولة لزيادة الثروة (المادة 12) وعند تعيينه لأنواع الملكية قرر أن تكون على الأشكال التالية:
- ملكية الدولة: أي ملكية الشعب وذلك بخلق قطاع عام قوي وقادر يقود التقدم في جميع المجالات، ويتحمَّل المسؤولية الرئيسية في خطة التنمية.
- ملكية تعاونية: أي ملكية كل المشتركين في الجمعية التعاونية.
- ملكية خاصة: قطاع خاص يشترك في التنمية في إطار الخطة الشاملة من غير استغلال.
على أن تكون رقابة الشعب شاملة للقطاعات الثلاثة، مسيطرة عليها كلها (المادة 13).
ويستخدم رأس المال في خدمة الاقتصاد القومي (المادة 14)[13]، وللأموال العامة حرمة وعلى المواطنين حماية ودعم ملكية الشعب باعتبارها أساسًا للنظام الاشتراكي (المادة 15)، ويعيِّن القانون الحدَّ الأقصى للملكية الزراعية ووسائل حماية الملكية الزراعية الصغيرة (المادة 17).
خامسًا- دستور 1971:
- الخلفية السياسية للدستور:
كان دستور 1964 المؤقَّت قد نصَّ على أن يبدأ العمل به ابتداءً من يوم الأربعاء الخامس والعشرين من مارس 1964 بعد طرحه على الاستفتاء، غير أن ظروف العدوان في يونيو 1967 عرقلت إصدار الدستور الدائم، وذلك على الرغم مما جاء في بيان 30 مارس 1968 من تقرير للمبادئ الأساسية التي يتعين أن يطويها الدستور الذي أعلن عبد الناصر أنه سوف يصدر بعد إزالة العدوان.
ثم ما لبث الوضع السياسي أن تبدَّل بوفاة الرئيس عبد الناصر وخلافة الرئيس السادات له، وبحكم ما اتَّخذه من إجراءات عدَّها هو تصحيحًا لمسار ثورة يوليو، فقد عجَّل بوضع دستور مصر الدائم، وذلك من خلال تشكيل مجلس الأمة للجنة تحضيرية من بعض أعضائه، استعانت بدورها بعدد من رجال القانون والقضاء والفكر وقامت بوضع مشروع للمبادئ الأساسية التي يقوم عليها الدستور وليمرَّ بعد ذلك هذا الدستور بسلسلة من الإجراءات المتعلِّقة بصياغته. وقد انتهت إلى إعداد مشروع متكامل عرض على الشعب للاستفتاء العام في 11 سبتمبر 1971 ووافق عليه وأصدره رئيس الجمهورية بناءً على هذا[14].
ويعدُّ هذا الدستور أطول الدساتير المصرية عمرًا، وبمقتضاه جرت انتخابات مجلس الشعب الذي عقدَ أول جلساته في 11 نوفمبر 1971، وهو أول مجلس يستكمل مدَّته الدستورية بعد 1952، وهي خمس سنوات كاملة، ويطلق على هذه المرحلة “حقبة التعدُّدية السياسية المقيَّدة” حيث شهدت عملية التحول من تنظيم شرعي وحيد للبلاد خلال فترة الخمسينيَّات والستينيَّات وحتى منتصف السبعينيَّات، إلى نظام المنابر ثم إلى نظام التعدُّدية الحزبية.
ويؤخذ على دستور 1971 أنه تمَّ وضعه من قبل لجنة حكومية وليس جمعية تأسيسيَّة، وأن نصوصه لم تتحْ لها الفرصة الكافية للمناقشة العلنية، كما يؤخذ عليه توسيعه لسلطات رئيس الجمهورية وتركيزها في يديه وجعله حكمًا بين السلطات مع تخويله سلطات استثنائيه حدَّدتها المادة 74 وغيرها.
وقد عانَى دستور 1971 منذ مولده من فجوات واضحة بين نصوصه وبين التطورات على أرض الواقع، فعلى سبيل المثال ظلَّتْ نصوصه تؤكِّد على المفاهيم الاشتراكية رغم سياسة الانفتاح الاقتصادي التي انتهجتْها الدولة، وقد خضع للتعديل ثلاث مرات في أعوام 1980 و2005 و2007، ويتكوَّن الدستور من ديباجة و211 مادة في سبعة أبواب، وهو دستور مدوَّن وجامد لأنه يستلزم لتعديل أحكامه إجراءات خاصة أشدَّ من إجراءات تعديل القوانين العادية[15].
- مضمون الدستور:
- النصوص السياسية:
ينصُّ الدستور على أن مصر دولة بسيطة موحَّدة، فإقليمها واحد وشعبها واحد ولها دستور واحد والسلطة السياسية فيها واحدة، وكذلك السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية.
وفيما يتعلَّق بنظام الحكم، فقد جاء فيه أن جمهورية مصر العربية دولة نظامها اشتراكي ديمقراطي يقوم على تحالف قوى الشعب العاملة ونظام الحكم فيها جمهوري منذ إلغاء الملكية، فرئيس الدولة هو رئيس الجمهورية يُختار بالاستفتاء الشعبي، وهو ديمقراطي نيابي، بمعنى أن الشعب لا يحكم نفسه بنفسه مباشرة وإنما عن طريق نواب يختارهم.
وهناك بعض مظاهر الديمقراطية شبه المباشرة فيه من أهمها ما تنص عليه (المادة 152) من أنه لرئيس الجمهورية أن يستفتي الشعب في المسائل العامة التي تتَّصل بمصالح البلاد العليا، وكذلك فإن حلَّ مجلس الشعب لا يكون إلا بعد الرجوع إلى الشعب واستفتائه (المادة 126 والمادة 127). وقد أكَّد الدستور على الانتماء للقومية العربية والإيمان بوحدة الأمة العربية في الفقرة الثانية من المادة الأولى.
ونصَّ على أن دين الدولة هو الإسلام ولغتها الرسمية هي العربية، كما نصَّ على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وهذه الفقرة لم تكن موجودة في الدساتير السابقة، كما أنها كانت محلَّ تعديل دستوري في عام 1980، حيث أضيفت “ال” إلى كلمتي “مصدر” و”رئيسي”، وعلى هذا فإن دستور 1971 من الدساتير التي أبرزت الدين ونصَّتْ عليه صراحة وذلك على خلاف الدساتير الأخرى التي لم يرد فيها ذكر الدين . وقد أعطى الدستور السيادة للشعب وحده ، فهو وحده صاحبها وهو مصدر جميع السلطات ويمارسها على النحو المبين في الدستور[16].
2-النصوص الاقتصادية:
حدَّد الدستور الأساس الاقتصادي لمصر وهو النظام الاشتراكي الديمقراطي القائم على الكفاية والعدل بما يحول دون الاستغلال ويؤدِّي إلى تقريب الفوارق بين الدخول ويحمي الكسب المشروع ويكفل عدالة توزيع الأعباء والتكاليف العامة (المادة 4).
وعرَّف الدستور “الملكية” بأنها الملكية العامة للشعب، أما الملكية التعاونية فهي ملكية الجمعيات التعاونية ويكفل القانون رعايتها ويضمن لها الإدارة الذاتية (المادة 31)، وتتمثَّل الملكية الخاصة في رأس المال غير المستغل، ولا بدَّ أن تكون للملكية الخاصة وظيفة اجتماعية تؤدِّيها في خدمة الاقتصاد القومي، ولا يجوز أن تتعارض مع الخير العام للشعب (المادة 32). وهكذا يقيم الدستور توازنًا بين حرمة الملكية العامة واحترام الملكية الخاصة في إطار من النظام الاشتراكي الذي يجعل من الشعب رقيبًا على كل صور الملكية[17].
سادسًا- التعديلات الدستورية:
- تعديلات 2005:
في سنة 2005 عُدِّلَ الدستور لينظِّم اختيار رئيس الجمهورية بانتخابات مباشرة، فيما عُرف بتعديل (المادة 76)، والتي جرتْ على إثرها أول انتخابات رئاسية في مصر، وكانت قد تصاعدت حدَّة الأصوات المطالبة بإصلاحات ديمقراطية مع بداية عام 2005 وتراوحت مطالبها بين إدخال تعديلات على البنية الدستورية والتشريعية للحياة السياسية في مصر ومعارضة التجديد للرئيس السابق حسني مبارك لفترة رئاسية خامسة.
ففي فبراير 2005 أعلن الرئيس السابق مبارك عن مبادرة لتعديل (المادة 76) من الدستور، بحيث يكون انتخاب رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع السري العام المباشر من جميع أفراد الشعب الذين لهم حق الانتخاب، بدلًا من اختيار رئيس الجمهورية بطريق الاستفتاء.
ووفقًا لنصِّ (المادة 189) تقدَّم الرئيس بطلبٍ إلى مجلس الشعب بشأن التعديل المذكور وبإضافة مادة جديدة برقم (192 مكررًا) التي تمَّ في ضوئها تغيير مسمَّى الاستفتاء إلى الانتخاب في كل المواد التي ترتبط باختيار رئيس الجمهورية، وقد أقرَّ مجلس الشعب في 10 مايو 2005 تعديل (المادة 76) بعد موافقة 405 من الأعضاء على هذا التعديل، وطرحت للاستفتاء في 25 مايو من نفس العام وجاءت الموافقة عليها بنسبة بلغت 83% من إجمالي المشاركين في الاستفتاء.
وأصبح نص المادة بعد التعديل “اختيار رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع السري العام المباشر ويلزم لقبول الترشيح أن يؤيد المتقدِّم للترشيح مئتان وخمسون عضوًا على الأقل من الأعضاء المنتخبين بمجلسي الشعب والشورى والمجالس الشعبية المحلية للمحافظات، على أن لا يقلَّ عدد المؤيِّدين عن خمسة وستين من أعضاء مجلس الشعب وخمسة وعشرين من أعضاء مجلس الشورى، وعشرة أعضاء من كل مجلس شعبي محلي للمحافظة من أربعة عشرة محافظة على الأقل.
وللأحزاب السياسية تقديم مرشحين لرئاسة الجمهورية فإنه يشترط أن يكون مضى على تأسيسها خمسة أعوام متَّصلة، مع حصول أعضائها في آخر انتخابات على نسبة 5% على الأقل من مقاعد المنتخبين في كل من مجلسي الشعب والشورى وأن يكون مرشحهما أحد أعضاء هيئتها العليا وفقًا لنظامها الأساسي، ومضى على عضويَّته في هذه الهيئة سنة متَّصلة على الأقل.
استثناء ممَّا سبق يجوز لكلِّ حزب سياسي أن يرشِّح في أول انتخابات رئاسية تجرى بعد العمل بأحكام هذه المادة أحد أعضاء هيئته العليا المشكَّلة قبل العاشر من مايو 2005 وفقًا لنظامه الأساسي.
وتُقَدَّم طلبات الترشيح إلى لجنه تسمَّى “لجنة الانتخابات الرئاسية”، تتمتَّع بالاستقلال وتشكَّل من رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيسًا، وعضوية كلٍّ من رئيس محكمة استئناف القاهرة وأقدم نواب رئيس المحمة الدستورية العليا وأقدم نواب رئيس محكمة النقض وأقدم نواب رئيس مجلس الدولة وخمسة من الشخصيات العامة المشهود لهم بالحياد، يختار ثلاثة منهم مجلس الشعب ويختار الاثنين الآخرين مجلس الشورى، وذلك بناءً على اقتراح مكتب كلٍّ من المجلسيْن…. إلخ.
ويرى عدد من الخبراء أنه رغم الانتقادات والملاحظات النقدية الموضوعية التي وُجِّهت إلى منطوق تعديل (المادة 76) إلا أنها بلا شك أحدثتْ حراكًا سياسيًّا غير مسبوق في التاريخ السياسي المصري المعاصر[18].
- تعديلات 2007:
في 26 مارس جرى استفتاء تم بموجبه تعديل الدستور مرة أخرى، وشملت التعديلات حذف الإشارة إلى النظام الاشتراكي للدولة ووضع الأساس الدستوري لقانون الإرهاب (المادة 179)، وكان الرئيس السابق حسني مبارك في ديسمبر 2006 قد بعث برسالة جديدة للبرلمان طلب فيها تعديل 34 مادة من مواد الدستور، ووافق كلٌّ من مجلسي الشعب والشورى على التعديلات الدستورية المطروحة، وفي 26 مارس 2007 أُجري الاستفتاء على هذه التعديلات للمواد الأربعة والثلاثين وأُعلنت النتيجة بموافقة نسبة بلغت 75%.
ولعل أبرز ما تضمَّنته هذه التعديلات تمثَّل في الآتي:
- إلغاء كل ما يخص الاشتراكية والسلوك الاشتراكي وتحالف قوى الشعب العاملة وما شابه ذلك.
- النص على مبدأ المواطنة واعتبارها الأساس الذي يقوم عليه نظام الحكم (المادة 1).
- حظر أي نشاط سياسي أو قيام الأحزاب على أساس الدين أو الجنس أو الأصل (المادة 5).
- إنشاء لجنة عليا مستقلَّة للإشراف على الانتخابات تكون لها صلاحيات مطلقة (المادة 88).
- إحلال مادة مكافحة الإرهاب محل مادة المدَّعي العام الاشتراكي (المادة 179).
- التخفيف من شروط مشاركة الأحزاب السياسية في الانتخابات الرئاسية (المادة 76).
خاتمة:
بناء على العرض السابق لحلقات التطور الدستوري في النظام الجمهوري، نرى أن بداية التأسيس اتَّسمتْ بعدم الاستقرار الدستوري والسياسي، وكما هو الحال في النظام الملكي استُخدم الدستور كأداةٍ لتكريس نظام الحكم الاستبدادي وعلى رأسه شخص الرئيس الزعيم، وتغوُّل مساحة الدولة وسلطتها التنفيذية على مساحة المجتمع، مع منح بعض الحقوق شكليًّا للمجتمع، إلا أن الزخم السياسي المصاحب لحركة الجيش والحروب المتعاقبة وعداء الغرب اللاحق لهذه الحركة لم تدع مجالًا كبيرًا للتشكيك في توسُّع السلطة في مساحتها مقابل المساحة الممنوحة للمجتمع.
وفي الفترة اللاحقة على التأسيس ووصول حاكم آخر هو السادات نرى نكوصًا جوهريًّا عن أهداف ومبادىء الحركة، وإن لم يتغيَّر الكثير ممَّا يتعلَّق بتعضيد سلطة الرئيس، وتمَّ إدخال عنصر الدين صراحةً في الدستور في مقابل عدم تقييد مدد الرئاسة وفتح أبواب الحياة السياسية للأحزاب والتوجُّه نحو الغرب وما تبع ذلك سياسيًّا واقتصاديًّا على جوهر السياسات وإن استمرَّت النصوص الاقتصادية القديمة قائمة.
وفي المرحلة الثالثة التي استمرَّت طويلا حتى انتهت بحراك شعبي أزاحها -مؤقَّتًا- عن موقعها، استمرَّ السلوك السياسي والاقتصادي التابع في النمو، وجرى النكوص عن مكتسبات فترة الجمهورية الأولى وأهمها استقلال القرار المصري، والمبادئ الاقتصادية التي زعم النظام السابق أنها كانت اشتراكية، وهي كانت تكرِّس رأسمالية الدولة، واستمرَّت الدولة في فتح الباب للأحزاب في لعب دورها في تجميل شكل النظام وصولًا لانتخابات 2010 التي كانت آخر مسمار في نعش النظام وعلى رأسه الحزب الوطني لتبدأ مرحلة أخرى بموازين قوى وأطراف فاعلة أخرى في ظلِّ ظروف دولية جديدة.
وعند النظر للدساتير طول فترة حكم ثورة يوليو منذ 1952 وحتى 2011، نجد أن ما يفترض أنه المؤسِّس للعقد الاجتماعي الجديد بين السلطة والمجتمع، أصبح بيانًا من السلطة عن كيفية حكمها المجتمع، حيث تزايدت صلاحيات الرئيس وتضخَّمت في كل الدساتير، خاصة دستور 1964 و1971، أما التعديلات الدستورية فكانت مفصَّلة للتوريث وليس للإصلاح.
وعلى مدار ستين عامًا من حكم ثورة يوليو بأنظمتها الثلاثة مختلفة الشكل ومتَّحدة المضمون، فإن التنمية الاقتصادية لم تتحقَّقْ على الرغم من اختلاف السياسات الاقتصادية التي مارسها كل نظام، سواء كانت اشتراكية أو رأسمالية منذ بداية الانفتاح وحتى الإصلاحات الهيكيلة في عهد مبارك.
إن دساتير ثورة يوليو الجمهورية لم تحقِّق ما كان يتمنَّاه الشعب من تجاوز أخطاء الملكية من حفظ الحقوق السياسية أو الإقتصادية للمصريين في إطار دستور زعم أنه وضع لصون كرامة الأمة المصرية وتلبيه لآمالها في الحرية و الكرامة الإنسانية.
*****
هوامش
[1] ماهر حسن، حكاية الدساتير المصرية في مائتي عام، (القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2013)، ص 248.
[2] طارق البشري، الديمقراطية ونظام 23 يوليو، مرجع سابق، ص ص 98-101.
[3] ماهر حسن، حكاية الدساتير المصرية في مائتي عام، مرجع سابق، ص 252 .
[4] د. ثروت بدوي، القانون الدستوري وتطور الأنظمة الدستورية في مصر، (القاهرة: دار النهضة العربية، 1971)، ص 298.
[5] انظر:
– د. يحيى الجمل، النظام الدستوري في جمهورية مصر العربية، (القاهرة: دار النهضة العربية، 1974)، ص 109.
– د. أحمد محمد أمين، الدساتير ومشروعات الدساتير في مصر، (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى، سبتمبر 2006)، ص 125.
[6] ماهر حسن، حكاية الدساتير المصرية في مائتي عام، مرجع سابق، ص 296.
[7] د. يحيى الجمل، النظام الدستوري في جمهورية مصر العربية، مرجع سابق، ص 110.
[8] انظر:
– طارق البشري، الديمقراطية ونظام 23 يوليو، مرجع سابق، ص 106.
– د. أنور عبد الملك، المجتمع المصري والجيش، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2013)، ص 135.
[9] انظر:
– د. أنور عبد الملك، المرجع السابق، ص 140.
– د. ثروت بدوي، القانون الدستوري وتطور الأنظمة الدستورية في مصر، مرجع سابق، ص 334.
– ماهر حسن، حكاية الدساتير المصرية في مائتي عام، مرجع سابق، ص 335.
[10] د. أحمد محمد أمين، الدساتير ومشروعات الدساتير في مصر، مرجع سابق، ص 153.
[11] انظر:
– طارق البشري، الديمقراطية ونظام 23 يوليو، مرجع سابق، ص 107.
– ماهر حسن، حكاية الدساتير المصرية في مائتي عام، مرجع سابق، ص 335.
[12] انظر:
– د. أحمد محمد أمين، الدساتير ومشروعات الدساتير في مصر، مرجع سابق، ص 175.
– د. يحيى الجمل، النظام الدستوري في جمهورية مصر العربية، مرجع سابق، ص 114.
[13]] ) عماد البشري ، نظر في النظام الدستوري المصري الحديث، موقع المحكمة الدستورية العليا، مجلة المحكمة، العدد 22 أكتوبر 2012 ، تاريخ الإطلاع 24 أغسطس 2019، الساعة 7:49، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/J3Sur
[14] انظر:
– عماد البشري، المرجع السابق.
– د. أحمد محمد أمين، الدساتير ومشروعات الدساتير في مصر، مرجع سابق، ص 201.
[15] ماهر حسن ، حكاية الدساتير المصرية في مائتي عام، مرجع سابق، ص 389.
[16] انظر:
– د. جورجي شفيق ساري، أصول وأحكام القانون الدستوري، (المنصورة: كلية الحقوق، جامعة المنصورة، 1998)، ص 165.
– د. عيد أحمد الغفلول، النظام الدستوري لجمهورية مصر العربية، (القاهرة: دار النهضة العربية، 2009)، ص 135.
– د. يحيى الجمل، النظام الدستوري في جمهورية مصر العربية، مرجع السابق، ص 129.
[17] د. يحيى الجمل، المرجع السابق، ص 137.
[18] انظر:
– ماهر حسن، حكاية الدساتير المصرية في مائتي عام، مرجع سابق، ص 453.
– د. أحمد محمد أمين، الدساتير ومشروعات الدساتير في مصر، مرجع سابق، ص 341.
– د. عيد أحمد الغفلول، النظام الدستوري لجمهورية مصر العربية، مرجع سابق، ص 178.
- فصلية قضايا ونظرات- العدد الخامس عشر ـ أكتوبر 2019