المقاومة الحضارية والبناء الإنساني في أمتنا والعالم: رؤية معرفية في ظلال طوفان الأقصى

مقدمة:

في أثناء إعداد أوراق هذا العدد من (قضايا ونظرات) تفجَّر طوفان الأقصى في فلسطين 7 أكتوبر 2023 وتوالت تداعياته الإنسانية والعسكرية والسياسية، بدءًا من فلسطين، فإقليمها العربي والإسلامي، وعبر العالم؛ وتجلَّت الكرة الأرضية في صورة ساحة كبيرة مكتظة بالمشكلات والأزمات الممتدَّة، لكن في قلبها الآن يتدفَّق ويهدِر طوفانُ الأقصى بملْحمته ومأْساته. بدا هذا الطوفان ملْحمة من غير مرحمة، ومأساة حولها ملْهاة، وتجلَّى اختبارًا حادًّا للضمير الإنساني، وكشف عن حالة عالم مختلط ومتخبِّط؛ مكوَّن من نطاق مهيمن مظلم من ظلمات الظلم، ونطاق كبير رمادي من اللامبالاة والعجز، وفيه بقع مزهرة مضيئة لا سيما في فلسطين المزهرة بالدماء والمقاومة ودائرة نصرتها ومساندتها لا سيما الإنسانية الصادقة. فكيف نقرأ هذا المشهد في ضوء منظورنا الحضاري الذي يجمع بين المقاومة والبناء في نطاقات الحياة والسياسة المختلفة؟ كيف نرى هذا العالم من خلال رؤية تليق بتركيبه وتعقُّد تفاعلاته، وفي الوقت نفسه تتَّسم بالتحديد والحسم والوضوح؟ لعل ممَّا يُعين في ذلك أن نراجع “منطق السُّنن” وكيف يؤسَّس هذا المنطق للفعل والانفعال الإنسانيَّين، وللبناء والمقاومة المستديمين الدائبيْن.

من السنن إلى رؤية العالم

لا تمضي الحياة الإنسانية إلا بالسنن؛ سواء ما كان في هذه الحياة من مِنَنٍ أو ما كان فيها من محن. هكذا يُقِرُّ ويؤكِّد المنظور الحضاري الإسلامي في نظره إلى السياسة الداخلية والسياسة العالمية. والسنن هي القوانين الكبرى الحاكمة لحياة البشر الجزئية الفردية والجمعية ولحركة التاريخ الكلية بحقبه المتتالية، ونطاقها هو هذا العالم الأرضي من مبتداه إلى منتهاه. ومنطق السنن جامع بين المصلحة والأخلاق؛ فهو منطق العقل والعدل (وكلاهما يسمَّى الميزان)، ومنطق العمل والفعل، ومنطق الأخلاق والإيمان الواثق بالمستقبل الفاضل العادل، مهما مرت على الحياة مراحل من طغيان وإفساد وتخريب. ومن ثم فإن السنن تنظر للحياة البشرية نظرا كلِّيًّا من منطلق الحركة لا الجمود، ومن منطلق الدفع والتدافع بين المتقابلات والجمع والتجامع بين المتكاملات، لا من منطلق الفوضى أو العبث أو السدى أو العدمية أو التناقض المطلق. فالمنطق السنني منطق إيماني إنساني أخلاقي مصلحي إصلاحي، وهو أيضا منطق قوة لا ضعف، ومنطق فعل لا عجز.

ومن أعظم السنن التي تحكم الحركة التاريخية سنة التدافع التي تعني أن التكوينات البشرية يدفع الله بعضهم ببعض؛ وهذا من أجل صلاح العالم وإصلاحه، وأنه لولا ذلك لشاع الفساد في كل أرض: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251]. ويفترض التدافع حركة تقابلية، تحديات واستجابات، جهود إصلاح يريد إجهاضَها أفعالُ فساد، سياسات عدوان تقابلها سياسات مقاومة، وأعمال بناء تواجه معاول هدم. وهكذا يمكن أن ننظر إلى السياسة العالمية من منظور هذه السنة الإلهية، وننظر إلى أمتنا وقضاياها وفعالياتها المختلفة. فكل بناء ينبغي أن ينتظر الهدم، وكل هدم ينبغي أن ينتظر أهل بناء.

ويقع هذا التدافع داخل النفس البشرية الواحدة، كما يقع بين الأفراد، وبين الجماعات، وبين الأمم، ويقع بين القوى المعنوية، وبين الأفكار والآراء، وبين الأفعال والسياسات، وتقع بسببه النزاعات والصراعات والحروب بأشكالها المختلفة. وكثير من التدافعات قد تكون وهمية؛ حين يقام التعارض الذهني بين أشياء غير متعارضة في حقيقتها وواقعها، كصراعات الهويات القومية، أو التجارات عبر العالم، أو السياسات القومية، أو التقاليد والاختيارات الاجتماعية، أو الثقافات، أو التجارب الحضارية، أو الرؤى العلمية،… فهذه الأشياء اختيارات واجتهادات يتَّسع لها منطق التعدُّد والتنوُّع والاختلاف غير التناقضي، وإنما ينشأ التعارض بينها في الأذهان نتيجة منظورات فاسدة وكاسدة، أو نتيجة أغراض وإرادات مرذولة أخلاقيًّا من قبيل إرادة العلو في الأرض وإرادة الفساد أو بتعبير آخر فساد الإرادة؛ كما يفعل في كل عصر ومصر المتكبرون والمتعالون والمطالبون بما ليس من حقوقهم، والطغاة الذين لا يرعون لله حدودًا ولا للناس حقوقًا.

ولا تعني سنة التدافع أن يكون كل طرف بالضرورة هو النقيض من الآخر، أو أن يمارس من الأفعال والسياسات فقط ما يقابل فعل الآخر شكلا بينما هو يوافقه مضمونًا، فشتَّان ما بين دفع الحق للباطل، ودفع الباطل للحق. من المهم أن ننتبه إلى ذلك ونستوعبه حتى لا يكون فهمًا للسنن سطحيًّا. لذا فمن سنة التدافع الدفع بالتي هي أحسن مطلقًا (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت: 34]، أو دفع السيئة بالحسنة (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) [الرعد: 22]، (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) [المؤمنون: 96]، فضلا عن مجازاة الإحسان بالإحسان (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن: 66]. وقد تدفع السيئة بما ظاهره أنه سيئة مثلها؛ لكن مع اختلاف في الحقيقة، كأن يدفع القتل بغير حق بالقتل بحق، والضرب عدوانًا بالضرب زجْرًا وعقابًا، وغصْب المال بردِّه وبالتغريم، والأذية عدوانًا بإيذاء المعتدِي لِيَكُفَّ عن عدوانه. وهذا منطق غاية في الأهمية أن نعيَه ونستوعبَه وألا تروج علينا حيل المجرمين الذين يُبيحون لأنفسهم العدوان ويحرِّمون على ضحاياهم رد العدوان وكف أذى المعتدين.

إن من ظلمات الظلم أنه يروج لنفسه بأنه اجتهاد لا إفساد، وأنه وجهة نظر لا إرادة إجرامية، وأنه بشري لا شيطاني، وفي المقابل يروج لمقاومة عدوانه ولمجاهدة طغيانه بأنها لاتليق بأخلاق أصحابها، وأنها عنف أو إساءة، وأن الإساءة لا ترد بالإساءة، والشر لا يدفع بالشر، وأن العقاب انتقام وشر وروح شيطانية، وأن رَدَّ الشرِّ بالشرِّ سوف يملأ العالم بالصراعات الدموية أو النزاعات التي لا نهاية لها، وربما يروج لمعان طيبة في غير موضعها من الصبر على الأذى والظلم والسكوت عن العدوان الذي لا يمكن رده… إلخ. وكم خدعت البشرية بمثل هذه المواعظ الشيطانية، والتزيينات النفاقية، والأباطيل الإجرامية. إنه منطق المفسدين في الأرض، ومنه تخرج علوم المنافقين المحشودة بالأغاليط وتلبيس الأباليس.

من هذا المدخل السنني -ضمن المنظور الحضاري للسياسة الداخلية والعالمية- تتراءى للناظرين والباحثين صورة عالم اليوم أشبه بأرض واسعة تستولي أقلية من سكانها على معظمها ويضيقون بقية الأرض على بقية البشر، ثم فيها من يبنون ويرفعون البنايات ومعهم من يهدمون ما يبنيه هؤلاء، وفريق ثالث يحاول أن يعيد بناء ما يهدمه الفريق الثاني.. وهكذا، وفريق يزرع وفريق يغتصب الزرع وفريق يحرق الزرع، وغريق يختزن الغذاء والماء عنده بأكثر مما يحتاج بكثير، وفريق ثان يريق الماء في الأرض ويرمي الغذاء ليذهب من غير انتفاع، بينما حولهم من يموتون جوعًا وعطشًا، وفريق يدعو للفضيلة ويحذر من الرذيلة، وآخر يشكك في الأخلاق عامة وربما يدعي العلم والتقدم، وثالث يدعو للرذيلة ويحارب الفضيلة، وفريق يشكك في الدين ويدعو للإلحاد، وفريق لا يبالي، وفريق يدعو للدين ويعمل على تفعيله في الحياة، ويتوزَّع هؤلاء بين مجالات السياسة والاقتصاد والعلوم والفنون والإعلام والدعوة والعمل الاجتماعي والثقافي والعمل الإغاثي، وغيرها.

فما الذي يحتاجه مثل هذا العالم من أجل مستقبل إنساني أفضل؟ أليس يحتاج أولا منظورًا حضاريًّا إنساني العمق واسع الأفق، يستوعب مساحات الهدم ومساحات البناء، وما بينهما من تدافعات وتفاعلات؟ أليس يحتاج منظورًا أخلاقيًّا مصلحيًّا يُراعي متطلبات العيش ومتطلبات العدل؟ أليس يحتاج إلى تدافع عملي كبير ومستديم؛ يواجه الفساد، ويؤازر الصلاح، ويقوم بذلك كله بميزان سُنني دقيق؟ أليس يتطلَّب تكريس وترسيخ مفهوم “المقاومة والبناء” في نظم التربية والتعليم والسياسات المختلفة عبر الأوطان والعالم؟ فلا ينهض بناء من غير مقاومة من يهدمون، ولا تكتمل مقاومة من غير بناء بديل يعمِّر مساحات الهدم التي تجري مقاومتُها.

العالم اليوم يعاني: تفكك الأسر، واضطراب نظم التربية وبرامج التعليم، وموجات مضادة للأخلاق الثابتة في الفطرة الإنسانية، ومضاربات بين العلم والدين، ودعوات فاحشة وسياسات شذوذ جنسي متفاقمة من غير حَدٍّ ولا قيد، ومحاربة للإسلام والمسلمين مخصوصة في بقاع عديدة؛ بوصف الإسلام الدين الأبرز في مواجهة الفساد والظلم العالمي الكبير. وفي المقابل تتراءى جهود لمقاومة ذلك كله في الأمة الإسلامية وعبر العالم؛ من جهود الحفاظ على الأسرة وتجديد روحها، والبحث عن مساحات تعليم وتربية فاضلة وفاعلة، والدعوة إلى التسلُّح الخلقي، والمقاومة المعرفية للعلمانية الملحدة عبر الحوارات الدءوبة، وجهود مكافحة الإسلاموفوبيا.

وفي هذا العالم تتبدَّى أيضًا مساحات غير ضئيلة من أفعال البناء وأخلاق الرعاية وسياسات العمران؛ كما في إنعاش الجوانب العبادية من خلال الاتصال بالحياة والاقتصاد واستثمار المعاني والمفاهيم، وفي توفير الرعاية الدينية للمهاجرين المسلمين عبر مؤسسات الفتوى والدعوة، والعمل على إنتاج دراما هادفة ونافعة، فضلا عن استمرار روح الإغاثة في الكوراث التي تتوالى في الأعوام القليلة الماضية؛ تلك الإغاثة المعبرة عن إنسانية الإنسان والتي تتجلَّى خطورة التخلِّي عنها في كارثة غزة الحالية.

طوفان الأقصى ومعضلة المقاومة والبناء

يأتي طوفان الأقصى، وبعد نحو ثمانين يوما من تفجُّره، لكي ينير مساحات مهمة من المقاومة الباسلة والصمود الفائق والإصرار على بناء المستقبل الحر الكريم في فلسطين، في مواجهة مساحات من الهدم والعدوان واللاأخلاقية واللاإنسانية. وقد أخذ المشهد بُعْدًا عالميًّا عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل، وعبر التفاعل المدني والسياسي على أصعدة وفي بقاع مختلفة من العالم. ومن المهم الوقوف أمام مشاهد هذا الطوفان الجامعة بين ذلك كله؛ والنظر فيها من منظور “المقاومة والبناء = في مقابل الهدم والعدوان”؛ لنرى أي الفريقين أحق بالانتصار الحضاري في العاقبة وفق منطق السنن؛ وكيف يتدافع الفريقان بين الإساءة والإحسان، وما يتصل بذلك من عناصر وموازين القوة المادية والمعنوية.

يمكن قراءة مشهد طوفان الأقصى وفق هذه المعادلة على النحو الآتي:

1- الاحتلال الصهيوني هو الهدم والعدوان الكبيران

إن الوسط المفجِّر للطوفان إنما هو الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين؛ ذلك النوع من الاحتلال الاستيطاني العنصري العدواني، الذي يحتلُّ أرض وحياة وإرادة الشعب الفلسطيني، ويمارس ضده أشكالا قبيحة من العدوان اليومي؛ من اغتصاب البيوت (كما شاهد العالم في حي الشيخ جراح) ومنحها للمستوطنين الصهاينة، وهدم بيوت، وتجريف مزارع، واعتقال الرجال والنساء والولدان، والبناء على أراضي الفلسطينيين ومنحها لهؤلاء المغتصبين الصهاينة، والتضييق على الحركة عبر عدد كبير من الحواجز المهينة، والمداهمات واقتحام البيوت والمحال والمساجد، والتعدِّي على الحُرمات. ويزيد كلَّ هذا الطين بلة الاستيلاءُ على القدس الشريف، والعملُ على تهويده والسيطرةُ على المسجد الأقصى (الذي هو حق إسلامي محض)، وتقييد وصول المسلمين إليه وصلاتهم فيه، وإتاحته لقطعان المستوطنين من اليهود المتطرفين للعيْث فيه فسادًا، والحفر تحته إعدادًا لهدْمه وإقامة هيكل اليهود المزعوم محلَّه.. والاستيلاء على الحرم الإبراهيمي بالخليل وعلى قبر يوسف عليه السلام في بلاطة البلد بنابلس،.. وغيرها.

هذه الحالة تهدم الوجود الإسلامي -والمسيحي- في فلسطين، وتعتدي عليه. وهدم الوجود والعدوان عليه، ليس كالحروب السياسية والاقتصادية وما شابه، إنما هو شأن وجودي، يتطرَّق إلى الأرواح وأساسيَّات الحياة؛ وما يتَّصل بها من عيش وحقوق وحريات أساسية؛ وهو ما يدفع إلى مقاومة من نفس النوع؛ مقاومة وجودية بالوجود وللوجود. هذه المقاومة يمارسها الفلسطينيون بالإصرار على العيش والتمسُّك بالأرض رغم العناء والويْلات، ومن ثم يهدِّدون بوجودهم وجود الاحتلال. هذه المعادلة الصفرية ليست خيارًا بالنسبة للفلسطينيِّين، إنما هي اضطرار فرضَه عدوان الاحتلال. وهذا أول ما ينبغي الإقرار به واستيعابه.

2- الصهيونية هدم وعدوان عنصريان

ثم إن هذا الاحتلال العدواني لا يقوم على ضرورة عيش لدى اليهود الصهاينة، أو هروب من هولوكوست كما يصورون، وإن كان ساعتها يجب أن يحاسب مقيمو الهولوكوست لا أن يحاسب عليها ويقام مثله لشعب آخر لا جريرة عليه ولا حق لليهود في اغتصاب أرضه وحياته. ولكنها الصهيونية. والصهيونية عقيدة سياسية تلفيقية تستخدم عقيدة دينية (اليهودية) من أجل بناء قومية تحتل أرض فلسطين على سبيل التحديد (باسم الوعد الإلهي) لتزيح ثم تزيل منها قومية أخرى تعيش على هذه الأرض منذ آلاف السنين، وتؤمن بعقيدة مختلفة، وتستوعب سائر الأقوام والملل والنحل داخل عقيدتها وأرضها منذ ألف وخمسمائة سنة تقريبًا. وبعد أن نجحت الصهيونية في إقامة دولة إسرائيل 1948 بفعل من القوى السياسية الغربية العظمى (بريطانيا ثم الولايات المتحدة) ثم بتواطؤ من القوى الأخرى بما فيها الاتحاد السوفييتي، أضحت هذه الدولة كيانًا صهيونيًّا بدا علمانيًّا مستغلًّا لليهودية ثم تزايد أخذه بالأفكار اليهودية المتطرِّفة، حتى أصدر قانون يهودية الدولة العنصري عام 2018، وتصاعد تطرفه الديني والعلماني معا؛ ليصل إلى أعلى درجات الصهيونية العنصرية الرافضة للوجود الفلسطيني تمامًا، والساعية للتضييق عليه حتى يتمَّ تهجيرُه، أو إلحاقه بمواطنة من الدرجة الثانية على غرار فلسطينيِّي الداخل (في الأراضي المحتلة عام 1948).

ومن ثم شهدت فلسطين 75 عامًا من تصاعد العدوان والهدم الموجَّهين للوجود الفلسطيني، وواجه الفلسطينيُّون إمعانًا صهيونيًّا في العنصرية والتطرف والعنف والاستباحة شبه الكاملة. وصار المشروع الصهيوني يبني ذاته عبر هدم فلسطين والعدوان المستديم على الفلسطينيين، وذلك على مرأى ومسمع من الإقليم العربي ومن العالم الذي هيمنت الولايات المتحدة على سياساته عبر العقود الثلاثة الأخيرة.

3- الهيمنة الأمريكية والأوروبية هدم وعدوان عالميَّان

اتَّسقت مسيرة الاحتلال الصهيوني لفلسطين أرضًا وحياة، مع مسار النظام الدولي الذي هيمن عليه الغرب من قبل وجود إسرائيل وإلى اليوم. وقد جاءت دولة إسرائيل نفسها إفرازًا للحضارة والثقافة والسياسة الإمبرياليَّة الغربية وكذلك للنظام الاقتصادي الرأسمالي الغربي، وتعبيرًا أنموذجيًّا عن أكثر سوءاته وآفاته. بدءًا من مؤامرة سايكس بيكو 1916 المكلِّلة لقرن من العدوان الأوروبي على العالم العربي والإسلامي، فوعد بلفور نوفمبر 1917 المجسِّد لقمة العدوان الأخلاقي والسياسي على فلسطين بالأخص، بدأت ملحمة من بناء إسرائيل بهدم فلسطين، وتأمين اليهود الصهاينة بالعدوان على المسلمين والمسيحيِّين؛ ما كشف مبكِّرًا عن صهيونية مسيحية وعلمانية خطيرة، تتخفَّى وراءَ سياسات الواقعية اللاأخلاقية. وقد أسَّست هذه السياسات دولة إسرائيل عبر التآمر والتواطؤ والعنف تجاه الشعب الأعزل، وتسليح عصابات الصهاينة (هاجاناه، إرجون، شتيرن، بيتار، بلماح..) من قبل بريطانيا لقتل الفلسطينيين وتهجيرهم منذ نهاية عشرينيات القرن الماضي (أحداث البراق 1929، إجهاض الثورة الفلسطينية 1936،..)، لتتقدَّم مسيرة العدوان والهدم عبر “المذابح” من دير ياسين، وكفر قاسم، وأبي شوشة، والطنطورة.. إلى خان يونس، وصابرا وشاتيلا، إلى أبشع مذبحة في العصر الحديث التي ترتكبها الصهيونية الآن في غزة منذ 7 أكتوبر 2023.

آزرت الولايات المتحدة ودول أوروبا الكبرى السياسة العدوانية الصهيونية في حروب 1948، 1956، 1967، 1982، 2006، 2008/2009، 2012، 2014، 2018، 2020، 2021، وإلى العدوان الراهن منذ 7 أكتوبر 2023. وواجهت هذه السياسة العرب جملة واحدة، لا سيما من تصدُّوا للصهيونية وتحدُّوا مشروعَها التوسُّعي الذي استولى على أراض من مصر والأردن ولبنان وسوريا في عدوان يونيو 1967، واليوم تشتبك هذه القوى وتشترك في العدوان ومدِّ العدوِّ الصهيوني بأبْشع الأسلحة والذخائر، وبتأطير عدوانه الأبشع، بكل صلافة وإصرار على الهدم والعدوان. وقد كان ممَّا جَرَّأَ قوى الغرب هذه على هذا الموقف أن تحوَّلت قوى العرب الفاعلة من التحدِّي والتصدِّي إلى مسالمة الصهيونية، فتطبيع العلاقات معها، فالتحالف؛ ومن ثم التخلِّي التدريجي عن فلسطين وقضيتها وشعبها ومقاومتها، فتداخلت مع قوى الهدم والعدوان بالخذلان.

4- الخذلان والتطبيع العربي هدم وعدوان متصاعدان

تتكامل صورة هذا الجانب بالنظر في نوع من الهدم والعدوان الذي ظاهره السلام وحقيقته الاستسلام، وتحول مع طوفان الأقصى إلى خذلان كبير إنما هو هدم للمسيرة العربية وعدوان مبطن لا سيما مع استفحال الأزمة اللاإنسانية في قطاع غزة، وفشل الأنظمة العربية والإسلامية في فرض كسر الحصار كما قرَّروا في قمة 11/11 بالرياض. إن العجز العربي عن إدخال الماء والغذاء والدواء والوقود إلى أهل غزة أو إيقاف مئات المذابح التي يتعرَّضون لها عبر ثمانين يومًا كاملة، ولا يزالون، لا يمكن تفسيره تفسيرًا لحظيًّا؛ إنما هو مآل مسيرة من هدم الذات والعدوان على أصولها وثوابتها. وهذا نوع من العدوان على الذات، وأكل بعض الجسد لبعضه الآخر، بدلًا من تداعي الأعضاء إلى بعضها. من المهم إنعام النظر في الموقف العربي الرسمي من فلسطين وليس من المقاومة وحدها. إن نوعًا من التجاوب مع الصهيونية -يزيد عن مفهوم التطبيع- يتجاوز حتى الحياد العادل، والموقف الأخلاقي والإنساني، إلى موقف مواز للمنطق الصهيوني الإسرائيلي والغربي ومماش له، ينكر عمليا الحق الفلسطيني في الوجود، أو لا يبالي به.

يتكامل ذلك مع مواقف من الاستغلال والنفاق، وأخرى من إظهار اللامبالاة والعجز والخذلان أمام المأساة المتفاقمة، التي تطال بعض قطاعات من الشعوب العربية والإسلامية. وهذه حالة حضارية مزرية لا تتَّسق مع تحولات عربية وإسلامية بل عالمية أيضًا باتجاه البحث عن الحرية (الربيع العربي وثورات وتغييرات أخرى في الشرق والجنوب)، والبحث عن المساواة والعدالة العالمية، ونقد النظام الإمبريالي والرأسمالي العالمي، والبحث عن أخلاق وقيم عالمية مشتركة، والعمل على القضاء على العنصرية وأشكال العدوان على الحقوق الإنسانية.. وهكذا. فلماذا يتأخر العرب والمسلمون -وهم الأحوج والأكثر تعرُّضًا للهدم والعدوان- عن هذا الركب، وتركب نظمهم القطار المعاكس؟ ولماذا تظل القضية الفلسطينية -الأطول عمرًا- الأكثر استعصاءً على الحلِّ رغم اتساعها لكلِّ مداخل الحل: السياسي، الأخلاقي، القانوني؟ أليس هذا مما يجعل الحل العسكري -عبر المقاومة- هو الباب الوحيد المتاح؟

5- المقاومة إزالة للهدم ودفع للعدوان

مما تقدم، يتبين أن المقاومة هي الحل، وأنها مقاومة وجودية؛ لأن الصراع عاد صراع وجود لا حدود. وقد ولد الشعب الفلسطيني المعاصر مقاومًا؛ لأن قوميَّته تجلَّت أكثر في إطار الصراع مع العدوان الصهيوني المصرِّ على هدم البنيان الفلسطيني ومحوه. وقد تدرَّجت المقاومة الفلسطينية من الارتفاق مع النظام الرسمي العربي إلى الانفصال عنه؛ ومن شعب يحمل أطفاله الحجارة أمام الدبابة الإسرائيلية الأكثر تدريعًا وثقلا في العالم، إلى شباب يطلقون الصواريخ ويوجهون مضادات الدبابات، التي صنعوها بأيديهم وتحت الحصار، ويكبدون العدو خسائر غير مسبوقة. ومن هنا فإن السابع من أكتوبر 2023 هو مرحلة جديدة وفارقة في مسيرة مقاومة الاحتلال الصهيوني وبناء الوجود الفلسطيني، وإن الاستهداف الفارق والتخطيط الحاذق والتنفيذ الفائق والإعداد للتسليح والذخائر وللجنود، وبناء القوة المعنوية والفكرية والمادية لبشير مرحلة جديدة من القدرة على موازنة العدوان، وهدم الهدم.

لقد أكَّدت ثمانون يومًا من المقاومة على أنه كما يقول الشاعر تميم البرغوثي إن تحرير فلسطين كلها ممكن، وإن تحريرها بدأ. نعم وسط أنهار من الدماء وجبال من الأنقاض ووديان من الخرائب، لكن هذا هو قدر المقاومة وخاصة إذا كانت مقاومة وجودية لاحتلال وجودي وراءه القاصي والداني من قوى العدوان وقوى الخذلان.

6- الصمود مقاومة وبناء

سوف يسجل التاريخ الحديث أن شعب غزة قد كسر الكثير من قوانين وتعميمات العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة، ونظريات العلوم السياسة والعلاقات الدولية السائدة، التي اعتمدت مفاهيم معينة للقوة والمصلحة والقيم، ووضعت مقاييس للقدرة والعجز، والمادي والمعنوي. إن الدراسات التي قلَّلت من دور الفرد، والجماعة والشعب، لصالح قوى الدولة والمنظمة والمؤسسة والشركة والمصنع والمال والسلاح، تقف اليوم أمام صمود أهل غزة وصبرهم وإيمانهم مشدوهة غير قادرة على التفسير وربما التفكير. لقد قام البنيان المعنوي بمقاومة العدوان المادي وهزيمته، وقام الإيمان الإسلامي بمواجهة الطغيان الصهيوني وإفشال أهدافه ومخططاته، لا بسلاح ناري ولا بدروع حديدية، إنما بالصبر والإيمان الذي ثبَّتهم في الأرض، وأفشل قانون الإرهاب والترويع الذي اعتمد عليه جيش الاحتلال.

قام الشعب الفلسطيني في غزة بتجسيد حقيقي -يفوق التمثيل السينمائي روعة وتأثيرًا- لدور البطولة في مشهد طويل للصراع بين المقاومة والبناء وبين الهدم والعدوان. لقد تجلَّى الإنسان عمرانًا والعمران إنسانًا في أهل غزة وصمودهم، بينما تجلَّى العدوان الصهيوني شيطانًا وهدمًا وتخريبًا ووحشية غير مسبوقة. ولا شك أن السنن تقضي بأن العاقبة للصابرين، وأن النصر مع الصبر، وأن الله لا يحب ولا يهدي القوم الظالمين.

7- النصرة العربية والإسلامية والمساندة الإنسانية: مقاومة وبناء

كما انضمَّت قوى الخذلان مع العدوان، فإن قوى النصرة العربية والإسلامية (العسكرية والإغاثية) والمساندة الأخلاقية الإنسانية (المدنية والسياسية) أثقلت كفة المقاومة والصمود، في مشهد مهيب ترسمه السنن والأقدار، وننتظر مآلاته بلا ريب. لقد تحركت قوة الشعوب -رغم القيود- لتعلن -في كل مكان وبكل إمكان للإعلان- أن سياسات الاحتلال الصهيوني وممارساته هي عدوان وهدم يستوجب الرفض والمقاومة من الجميع، وأن المقاومة والصمود الفلسطينيين حق وواجب يستوجبان النصرة والتأييد. لقد تدرج الموقف الشعبي الانتمائي، والعالمي الإنساني، وتنوع، ما بين التعاطف مع مأساة الشعب الذي يذبح، وخاصة أطفاله ونساءه الأكثر عددا بين الضحايا، والإشادة بالصمود البطولي، والتأييد للحق الفلسطيني في التحرر وتقرير المصير، إلى التصدِّي المتصاعد لعدوانية الاحتلال ولاإنسانيته ولاأخلاقيته. ومن ثم تشكَّل موقف عالمي -خاصة في الغرب نفسه وفي دوله المؤيدة رسميًّا للعدوان في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية- كشف أن الشعوب لا تزال تحتفظ بثقافة إنسانية بخلاف ما أفسدته السياسة الغربية في عقائد الأنظمة وطرق تفكيرها بل وطرق شعورها بالإنسان والقيم.

وعلى الرغم من الحسابات السياسية لدى محور النصرة العسكرية الموالي لإيران في مؤازرته للمقاومة، إلا أنه لا يمكن إنكار الأبعاد الحقوقية والقيمية في موقفه، وأنه إن لم يكن يمارس بناء حقيقيًّا، فإنه في إطار العدوان الصهيوني يمثِّل مقاومةً جديرةً بالتقدير، لاسيِّما في الموقف اليمني الذي أبرزتْه الحكومة التابعة للحوثيِّين. إن مظاهر المقاطعة الاقتصادية الشعبية تظلُّ أيضًا مؤشِّرًا على كيفية المقاومة لمعاول الهدم، ولا يمكن اعتبارها هدمًا لما يُشار إليه بالاستثمارات والمعايش. إن معنى أشمل للعيش والبناء والتنمية يجب أن يحل محل المعاني الخالية من القيم ومن الموقف الأخلاقي والإنساني. فلا معنى لسياسة ولا لاقتصاد يتغاضى عن إزهاق الأرواح ظلمًا، وهدم قطاع غزة بأكمله عدوانًا وطغيانًا.

وأخيرًا: فإن المستقبل إنما هو رهين السنن، وإن تدافع المقاومة والبناء من قبل الشعب الفلسطيني للهدم والعدوان اللذين يمارسهما الاحتلال الصهيوني لآية من آيات التغيير والتجديد والإصلاح ليس في القضية الفلسطينية وحدها، ولكن في دوائر إقليمية وعالمية. وإن ذلك ليتَّصل بمساحات كثيرة من البناء والمقاومة تمارسها المجتمعات والكيانات المختلفة عبر أمتنا وعبر العالم على النحو الذي يعرِّضه هذا العدد الثاني والثلاثون من (قضايا ونظرات)، كميلًا للعدد السابق (الحادي والثلاثون) عن (أنماط حضارية من المقاومة والبناء في عالم المسلمين).

والله المستعان

 

  • نُشر التقرير في فصلية قضايا ونظرات- العد الثاني والثلاثون- يناير 2023

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى