التنمية المستدامة في العالم الإسلامي في إطار الخطة الأممية 2030: (2).. مسار، وقراءة، وتقييم مقاصدي

للتنمية أركانها، ومقاصدها، ولها مجالاتها الرئيسة، ولها شروطها الواقعية: العملية والقيمية، ولها وسائلها الضرورية التي إن وجدت وجدت التنمية وإلَّا لم توجد. ولتحقيق التنمية لا بدَّ من تفكير استراتيجي، وسياسات عملية، وخطط ذات أولويَّات، ولا بد من موارد بشرية، ومن تمويلات كافية، ولا بدَّ من منطق في بناء تلك السياسات يراعي الأحوال المواتية والأخرى غير المواتية. بعد ذلك كله، تتعدَّد وتتنوَّع مناهج النظر في واقع التنمية: رصدًا وتحليلًا وتفسيرًا وتقويمًا واستشرافًا، كما تتعدَّد وتتنوَّع مداخل تحقيقها ابتداءً وابتناءً وحفظًا وتجديدًا. وسوف نحاول أن نطلَّ من المدخل المقاصدي على طرف من الواقع التنموي في العالم الإسلامي ومداخل تحقيق التنمية بعد ما يقارب القرن من التجارب التي قُتلت بحثًا.

أولا- في مسار التنمية في الأمة بين الفكر والواقع

منذ نشأتها، عَرَفت الأمة الإسلامية -بأقاليمها المتنوعة وعصورها المتجددة- أشكالا مختلفة من مسارات التنمية العامة الشاملة، والتنمية الاقتصادية بصفة خاصة، بحسب سمات كل مرحلة وما يتجدَّد فيها من أهداف مجتمعية، ورؤى سياسية، وما يتوفَّر فيها -أو لا يتوفر- من إمكانيات مادية وفكرية ومعنوية.

تاريخيًّا وواقعيًّا:

أُخرِج المسلمون من مكة إلى المدينة، من ديارهم وأموالهم، فقراء مُحْصَرِين في سبيل الله لا يستطيعون ضربًا في الأرض ولا يملكون ما يوفِّرون به حاجياتهم الفردية والجمعية، لكنهم -رغم هذا- كانوا أقوياء نفسيًّا، أعزة بدينهم، فكان يحسبهم من لا معرفة له بحالهم أغنياء من التعفُّف[1]. ثم كانت لهم شريعة تتنزَّل من السماء تعيد ترتيب الأوضاع المالية: فيئًا وكسبًا، وتعاملا، وإنفاقًا وتدبيرًا، وتضع أولويات ومصادر ومصارف، فلم يلبثوا أن صارت لهم ديارهم وأموالهم، واتسع المجتمع الإسلامي، فالدولة، فالأمة متعددة المجتمعات والدول، ومعها اتَّسعت مظاهر النمو الاقتصادي والقوة العامة؛ بدءًا من أواخر العصر النبوي، فالعصر الراشدي، فالأموي، فالعباسي الأول[2].

وكشف التاريخ الإسلامي كيف ارتبطت التنمية والقوة الاقتصادية بالازدهار السياسي والقوة العسكرية، وبالنمو الحضاري العام، كما تعانق التخلُّف والضعف -من بعدُ- بالتراجع السياسي والعسكري أو الحضاري العام، وإن كان العامل الثقافي غالبًا ما كان يحظى بنوع من الخصوصية، ويصمد حال التخلُّف، أو يضعف حال التنمية الظاهرة غير الشاملة، وتبادلت هذه المتغيرات الأدوار ما بين المقدمة والنتيجة والعامل المساعد على التطور أو التدهور.

في العصر الحديث، ومع نشوء الدولة القُطرية وتشكيلها لجسد الأمة في ظل الاحتلال الأجنبي، ارتبطت التنمية بالدولة أو نظام الحكم ارتباطًا عضويًّا باسم التنمية الوطنية والقومية، وتركَّزت بالأساس على المجال الاقتصادي وخاصة مجالي الزراعة والصناعة؛ متصلة بتنمية مجالات التعليم والصحة والقوة العسكرية ومرافق الدولة وأجهزتها، وتراجع الدور المستقل والمبادر من المجتمع في صناعة التنمية. وانتعش حقل الاقتصاد السياسي لدراسة وتعزيز التنمية القومية، وكان أغلب توجُّهه غربيًّا في منطلقاته ومفاهيمه ونظرياته وأيديولوجياته. وبرزت ظواهر: الاقتصاد الوطني العام الذي تقوم عليه الدولة، والاقتصاد الوطني الخاص الذي تقوم عليه تكوينات فردية من المجتمع، والاستثمار الأجنبي الذي يضم كلَّ نشاط اقتصادي قادم من خارج الحدود السياسية سواء اتصل بالأمة الإسلامية أو غيرها، ورجحت كفة الخارج غير الإسلامي في معظم الاقتصادات.

من ناحيتها، وجَّهت القوى الاستعمارية التنمية في العالم الثالث لكي تكون مرتبطةً بها وخادمةً لأطماعها ومصالحها الذاتية. ومع العولمة السياسية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، باسم الأمم المتحدة والمجتمع الدولي الجامع، أضحت قضية التنمية قضية دولية، ولها مقرَّرات عالمية، ما بين النظريات كالتحديث، والسياسات كتلك التي تبنَّتها وأطلقتْها المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ومنذ السبعينيات زادت عناية الأمم المتحدة بالجانب الاجتماعي والاقتصادي ومن ثم قضية التنمية، وتعددت رؤاها بحسب السياق الدولي المتغير، وصولا إلى خطتها للتنمية المستدامة 2030.

وفي الوقت ذاته، نمت رؤى التنمية في العالم الإسلامي، ما قبل الاستعمار كمثال الدولة العثمانية حتى عصر عبد الحميد الثاني، ومثال محمد علي وخير الدين التونسي وإيران وأفغانستان من زمن نادر شاه، ثم برز نمط “التنمية تحت الاستعمار” كما طرحه -مثلا- مشروع طلعت حرب في مصر، وصولا إلى موجة التنمية المستقلة والطريق الثالث عقب الاستقلال، في أوجِ صراع نموذجي التنمية: الرأسمالية والاشتراكية.

وقد التقت طموحات تنمية ما بعد الاستقلال مع بوادر العولمة وعودة الغرب إلى سياسات تأطير المستعمرات السابقة في مؤسسات وسياسات تابعة لمصالحه ورؤاه. وفي هذا الإطار، برز الفكر التنموي الإسلامي الذي أخذ بعدين رئيسين: أحدهما- مواجهة أفكار وظروف التأخُّر الداخلية، والآخر- مواجهة أفكار وظروف التبعية للخارج. وبين هذين القطبين تحركت جهود فكرية وعملية لا حصر لها، وقدَّم بعضها نماذج إسلامية ناجحة لم تَحْظَ بالرعاية الكافية من الوعي الإسلامي بها.

من الأمثلة على ذلك ما قدَّمه البنجالي “محمد يونس” (1940-……) لاقتصادات المناطق الأكثر فقرًا في العالم؛ حين اكتشف -في بداية حياته المهنية- أن التمويلات الصغيرة لها تأثير إيجابي على الأوضاع الاقتصادية للفقراء، في الوقت الذي امتنعت فيه البنوك عن تمويل الفقراء بسبب ضعف جدارتهم الائتمانية. لذا صمَّم “يونس” على أن الفقراء جديرون بالتمويل، وأنشأ “بنك جرامين” أو ما عُرف بـ(بنك الفقراء) في عام 1979 لإقراض الفقراء قروضًا متناهية الصغر في قيمتها وما يوضع عليها من أعباء؛ بحيث تساعدهم على البدء بأعمال بسيطة تُدِرُّ عليهم دخلًا معقولًا، ينمو من خلال المؤازرة والرعاية.

مثال آخر يتمثَّل في تجربة المهندس المصري صلاح عطية (1964-2016)، حين اشترك مع ثمانية من أصدقائه في عام 1974م  في إنشاء مزرعة للدواجن (تكلَّفت ساعتها ألفي جنيه مصري)، واتفقوا عند كتابة عقد شركتهم على تخصيص نسبة 10٪ من أرباحها لإنفاقها في “وجوه الخير”، وسمُّوه «سهم الشريك الأعظم». ثم وجدوا حصيلة الربح أكثر ممَّا كانوا يتوقعون فقرَّروا زيادة نسبة «سهم الشريك الأعظم» إلى 20٪ من الربح في الدورة التالية شكرًا لله تعالى، ثم كان نتاج الدورة التالية من الإنتاج فوق توقُّعاتهم بكثير، فقرَّروا زيادة نسبة «سهم الشريك الأعظم» لوجوه الخير من الربح إلى 30٪ وتكرَّر الأمر في كل دورة تالية فزادوا النسبة إلى أن أصبحت 100٪ في إجمالي عشر مزارع.

هذه تجارب هنا وهناك، على مستوى أفراد ومجتمعات، ومنها ما هو على مستوى الدول والحكومات؛ مثل ما شهدته العقود الأخيرة في ماليزيا وتركيا وغيرهما. لكن الحال العام ظلَّ يبرز في غلبة التخلُّف والضعف الاقتصادي ومن ثم التبعية العامة.

إذن، برزت التنمية حديثًا في العالم الإسلامي وسط تحديات داخلية وبينية (عبر الأمة) وخارجية، عديدة، أثرت في تحقق مستويات منها قليلا، وإجهاض نماذج عديدة منها كثيرًا؛ وآلت الأمور مع مطلع الألفية الجديدة وعند بداية وضع الأمم المتحدة رؤيتها لخطة التنمية المستدامة عالميا 2030، إلى أن معظم -إن لم يكن كل- العالم الإسلامي يقع في عداد الدول غير المتقدِّمة: ما بين الباحثة عن النمو، والمتراجعة عنه، أو الساقطة في مؤشراته السفلية.

فكريًّا ومقاصديًّا:

عني ابنُ خلدون بهذه المعادلة: قوة الدولة سياسيًّا وعسكريًّا، وقوة المجتمع وترابطه وقوة قيمه، وقوة الاقتصاد ورواج الصنائع والزراعات والأسواق وتوازن النظام المالي العام، وقوة الثقافة والتربية والتعليم وبالأخص قوة الدين في نفوس الناس محكومين وحكَّامًا، وعلماء ومتعلِّمين. ويمكن قراءة مقدِّمته كلها وفق هذا الخيط الناظم. وهذا من أبرز ما أشارت إليه المدرسة الخلدونية كما جاء في مقدمة ابن خلدون نفسه، وكتابات تلميذه المقريزي، ونسبيًّا أبي عبد الله بن الأزرق، وصولا مثلا إلى اجتهاد مالك بن نبي، فمدرسة الاقتصاد الإسلامي الحديث. ويمكن الإشارة إلى أن ابن خلدون جمع عناصر التنمية من الديني والسياسي والثقافي، والبيئي، واعتبر أن عنصري السياسات والثقافة الأشبه بالجسد والروح هما معًا معول التنمية أو التدهور. ثم عمَّق تلميذه المقريزي النظر في السياسات المالية، وأثر التلاعب والظلم والتفاوت على حلول الكوارث البشرية التي تتعاظم مع “الشدد” والكوارث الطبيعية. وأكمل بن نبي هذه الرؤى بالتأكيد على أن التخلف مصدره مشكلة الثقافة ومشكلة الأفكار التي تقف وراء مشكلة النهضة؛ ومنها ثقافة القابلية للاستعمار، وعقلية التكديس لا البناء، وتقديم الأشياء على الأفكار، والأشخاص على القيم والغايات[3].

من ناحية أخرى، منذ ثمانينيات القرن العشرين تتكاثر كتابات الاقتصاد (السياسي) الإسلامي، وأدبيات التنمية من منظور إسلامي (التنمية الإسلامية – التنمية في الإسلام…..)، وتأخذ مسارات متنوعة على حسب المدخل المنهاجي: الفقهي، التاريخي، الفكري، الاقتصادي الأكاديمي المعاصر، الكلي، النوعي، الجزئي، الدراسات الاقتصادية البينية: الاجتماعي، السياسي، الثقافي… إلخ، وينحو بعضها باتجاه منظور حضاري شامل. كثير منها يشرح الأصول، وبعضها يصف الواقع التنموي الإسلامي وينقده، وكثير منها يشرح التحديات والعقبات أمام اقتصاد إسلامي وتنمية اقتصادية حقيقية في العالم الإسلامي، وقليل منها يقدم رؤى علمية وعملية بنائية، قابلة للتفعيل[4].

في هذا الإطار برز المدخل المقاصدي بوصفه مقتربًا إسلاميًّا لقراءة حال التنمية تحليلا وتفسيرا، وتقييمه، والتوجيه نحو مخارج من التخلف المستديم، وتجاوز مضائق التنمية وعوائقها. نحاول في هذه السطور تجديد تفعيل هذا المدخل فيما يتعلق بالتنمية المستدامة في الأمة في إطار الخطة الأممية المشار إليها 2030.

ثانيا- النهج المقاصدي: أولويات التنمية وسياقاتها ووسائلها

يتميز المنظور الحضاري بالحرص على الرؤية الجامعة والمتوازنة، والواقعية القيمية، والمصلحية الشرعية. وفي داخل هذا المنظور، يبرز النهج المقاصدي معبِّرًا عنه بصورة منظمة وذات دلالة علمية وعملية. يتميز النهج المقاصدي بنظره إلى الحياة الإنسانية نظرة كلية قابلة للانطباق على الجزئيات؛ فينطبق على البشرية وعلى آحاد أفرادها، وعلى القضايا الكبرى والمسائل الصغرى. ومع أنه نهج مستقى من الشريعة الإسلامية وأصول قوانينها، إلا أنه قابل للتعميم لتحقيق مصالح الإنسانية مسلمين وغير مسلمين، واجتناب ما يضرُّ الجميع. ومن الجدير بالذكر أن النهج المقاصدي يتَّسع لكلِّ ما يحقِّق مصالح الإنسان، ويقيه المضارَّ والأخطار، وفق موازين حقٍّ وعدلٍ وحكمةٍ ورحمةٍ؛ وهذا ما يؤمن به المسلمون خصائصَ لشريعتهم، ويمكن أن يقتنع به غيرهم إذا درسوا هذه المقاصد دراسة علمية عملية متجرِّدة.

وتدور فكرة أو نظرية المقاصد حول خمسة عناصر: (1) المجالات: مجالات الحياة الكبرى الخمسة وما بينها من شبكة صلات، (2) درجات الأهمية: أهمية أهداف وأعمال كل مجال الثلاثة الأساسية وما بينها من درجات فرعية، (3) السياق: ويتضمَّن أبعاد الزمان والمكان والعموم والخصوص البشريين وضرورة رعايتها، (4) الوسائل: وسائل تحقيق المقاصد وما يتعلق بها من إمكانية وعجز، وأحوال قوة وتمكين، وأحوال عادية وسطية، وأحوال ضرورة وإكراهات، (5) الميزان القياسي: ويتمثل -اختصارًا- في مفهوم المصلحة بما فيه من ماديات ومعنويات، ودنيويات وأخرويات. وينبثق عن هذا النهج المقاصدي ثلاث عمليات كبرى؛ هي: عقد موازنات، وترتيب أولويات، ورعاية مآلات[5].

هذه العناصر الخمسة تمثل إطارًا لرؤية قضايا الحياة الإنسانية بأبعادها المعنوية والمادية؛ ومنها قضية التخلُّف العام، وما يتطلَّبه من سياسات تنمية، في مجالات الحياة كافة (تنمية شاملة)، مع تقديم الإنساني على المادي (تقديم الفاعل على الوسيلة التي يستخدمها)، ورعاية مستويات التنمية من حيث الأهم، فالمهم، فالعادي، وإرجاء غير المهم. وتضم المقاصد أبعادًا قيمية لصيقة بها، تجعل التقييم قرين التحليل المقاصدي، وباعثًا على طرح حلول للمشكلات، وعلى بناء سياسات عملية ذات أهداف واضحة لإصلاح الأحوال المعيشية.

ومن الملاحظ -واللافت- أن مفهوم التنمية طُرح في الغرب والعالم حول منتصف القرن العشرين طرحًا اقتصاديًّا محضًا، ثم اتَّسع لِيَضُمَّ التنمية السياسية والثقافية، ثم أخذ يتَّجه نحو مفهوم آخر باسم التنمية البشرية (التي تهتمُّ بالإنسان بوصفه موردًا اقتصاديًّا بالأساس)، فالتنمية الإنسانية (التي تتطرَّق للأبعاد القيمية والنفسية)؛ وصولًا إلى التنمية الشاملة والمستدامة، وما بين هذه الأصناف من أنماطٍ وأطيافٍ. وهو ما يشبه تطور عمر الإنسان من المرحلة الجنينية فالطفولة فالشباب؛ اقترابًا من الشمول الذي بدأ به الإسلام ومقاصد شريعته.

(1) المجالات

مجالات الحياة الخمسة الكبرى -كما يوضحها المدخل المقاصدي- هي بعبارة المقاصديين: الدين، فالنفس، فالعرض، فالعقل، ثم المال؛ وهي مرتَّبة حسب الأهمية من جهة. والعمل الأساسي الذي تفرضه المقاصد هو حفظ هذه المجالات حفظًا كاملًا من جهتين: جهة منعِ ودفعِ ورفعِ المضارِّ عنها، وجهة تحصيل غاياتها وتكميل مصالحها لا سيما الضرورية ثم الحاجية منها.

يفهم المعاصرون الدين بفهم -أول- شمولي يضم العبادات الروحية وأصول وأحكام وقيم المعاملات الاجتماعية، وبفهم آخر -وظيفي- يلاحظ ضرورة الدين، خاصة بشموله الإسلامي: إقامة للعدل، وفرضًا لمنطق المصلحة العادلة غير الجائرة، الحقيقية غير المتوهَّمة، المشتركة والعامة التي لا تتلاعب بتحديدها الأهواء الخاصة. ويظهر الدين في هذا الفهم الوظيفي بوصفه مرجعية المجتمع التي تربط مفاصله بموازين عدل، وتضبط وجهته وإيقاع حركته ببوصلة رشد ونفع.

ومن ثم يحتوي حفظ الدين -بهذا المعنى الشامل العملي- على حفظ بقية مجالات الحياة؛ وعلى رأسها حفظ بقاء الإنسان، وصحته الجسمية والنفسية، الفردية والجمعية؛ والحرص الشديد على توفير وسائل هذا الحفظ، ومواجهة ومكافحة وسائل إهدار هذه النفس أو الإضرار بها. وكذلك حفظ كرامة الإنسان في مجتمعه -حقيقة وصورة- التي يُعبر عنها بالعِرض، وحفظ العقل الإنساني الفردي والجمعي الذي يدير الإنسان به حياته، ويؤدِّي ضعفه -أي العقل- أو إضعافه إلى ضياع المصالح كلها وحلول المفاسد كلها.

وأخيرًا تعتني المقاصد بحفظ عالم المال، الذي يعني في المعنى الشامل: الأشياء المسخَّرة للإنسان، والموزَّعة بحكمة ولمقاصد عالية بين البشر بنسب متفاوتة، وحولها تدور إشكاليات الحياة الإنسانية المعاصرة. يقول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ) [سورة لقمان: 20].

(2) درجات الأهمية: موازنات التنمية وأولويتها

كما لا تستوي مجالات التنمية في أهميتها بالنسبة إلى الحياة الإنسانية من منظور الشريعة الإسلامية، كذلك لا تستوي أهداف التنمية في كل مجال؛ فبعضها ضروري لازم لوجود الإنسان فردًا وجماعة؛ كالإيمان بالله وعبادته والتشريعات الأساسية ونظام القضاء، ثم القدر الأساسي من الطعام والشراب والسكن والكساء والدواء المناسب للإنسان، ثم صيانة العرض والشرف وحق الانتساب إلى أب وأم شرعيين، ثم الحد الأساس للسلامة العقلية والنفسية الفردية والجماعية أيضًا، وصولًا إلى الموارد الأساسية التي بدونها لا يتوفَّر مأكلٌ ولا مشربٌ ولا حياةٌ. هذا المستوى يسمَّى الضروري. ثم بعض أمر الإنسان حاجي أو احتياجي لا تتيسَّر حياة الفرد ولا المجتمع بدونه؛ وهو مستوى ثان من هذه الأساسيات وما يزيد عليها من نظم تشريع وقضاء، ونظم زراعة وصناعة وتجارة وتعليم وتدريب، ونظم تربية ورعاية اجتماعية، ونظم آداب خاصة وعامة، ونظم تنمية الأموال لتغطية الاحتياجات المتنامية الدينية والأمنية والصحية والمعنوية وضمان عدم ضياع المال بالإنفاق من غير استثمار وتنمية. ثم المستوى الثالت ويسمَّى بالكمالي أو التكميلي أو التحسيني؛ ويتضمَّن الجوانب الزائدة عن الضرورة والحاجة؛ لكن الحياة بها تكون أجمل وأكمل وأفضل.

وواضح أن لكلِّ مستوى من المقاصد، ما يقابله من الوسائل اللازمة له: الضرورية والحاجية والتحسينية.

وواضح أن كلَّ مستوى تالٍ هو وسيلة لتأكيد المستوى السابق؛ فالكماليات تحصِّن الحاجيات، وتوفُّر الحاجيات يحفظ توفُّر الضروريات. كما أن تحقيق كلِّ مستوى سابق هو شرط للدخول في مستوى لاحق؛ فلا معنى لتحقيق الكماليات من قبل توفير الحاجيات، وكذلك لا معنى للدخول في تحقيق الحاجيات في ظل افتقاد الضروريات.

وهذا يوفر طريقة لعقد الموازنات وترتيب الأولويات بين الأهداف التنموية وغيرها، وبين أولويات تخصيص الموارد، وبين أولويات المجالات، وأولويات القضايا، وأولويات القطاعات البشرية. ففي مجال التنمية ومن منظور مقاصدي إنساني محض، يجب تقديم ضروريات الفقراء على كماليات الأغنياء؛ وهذه هي حكمة فرض الزكاة، وحكمة أن في المال حقًّا سوى الزكاة، والميزان القيمي المصلحي لتوزيع الأعباء والمزايا العامة.

ويحضرنا هنا حديث طريف لعمر بن الخطاب أنموذج السياسة العامة الفاعلة العادلة العاقلة في الإسلام. فيروي البخاري أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنْه اسْتَعْمَلَ مَوْلًى له يُدْعَى هُنَيًّا علَى الحِمَى، فَقَالَ: يا هُنَيُّ، اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ المُسْلِمِينَ، واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فإنَّ دَعْوَةَ المَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ ورَبَّ الغُنَيْمَةِ، وإيَّايَ ونَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ، ونَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ؛ فإنَّهُما إنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُما يَرْجِعَا إلى نَخْلٍ وزَرْعٍ، وإنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ ورَبَّ الغُنَيْمَةِ إنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا، يَأْتِنِي ببَنِيهِ، فيَقولُ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! أفَتَارِكُهُمْ أنَا؟ لا أبَا لَكَ، فَالْمَاءُ والكَلَأُ أيْسَرُ عَلَيَّ مِنَ الذَّهَبِ والوَرِقِ، وايْمُ اللَّهِ إنَّهُمْ لَيَرَوْنَ أنِّي قدْ ظَلَمْتُهُمْ، إنَّهَا لَبِلَادُهُمْ، فَقَاتَلُوا عَلَيْهَا في الجَاهِلِيَّةِ، وأَسْلَمُوا عَلَيْهَا في الإسْلَامِ، والذي نَفْسِي بيَدِهِ لَوْلَا المَالُ الذي أحْمِلُ عليه في سَبيلِ اللَّهِ، ما حَمَيْتُ عليهم مِن بلَادِهِمْ شِبْرًا.

والعبرة منه ما تحته خط من قوله: (وأدخل رب الصريمة… إلى قوله: من الذهب والورق)؛ ومعناه أن عمر لما وضع على المرعى سورًا وجعل له مدخلًا، وجعل عليه عاملا (هُنَيّ)؛ وضع سياسة أن يدخل الفقراء (رب الصُّرَيْمة والغُنَيْمة أي صاحب الماعز الصغيرة)؛ لأنه ضرورة لهم لا بديل عنها، قبل الأغنياء (ابن عوف وابن عفان) لأنها حاجية أو تكميلية إذ لديهم البدائل (نخل وزرع). ثم عن الفقير إذ لم تتغذَّ أغنامه وماعزه فتموت، يدخل في ضرورة قصوى؛ فيأتي بأولاده لكي يطالب بطعامهم. هذه السياسة المتحركة ترتيبًا ومراعاة للأولويات المادية والإنسانية والمجتمعية، تتجسَّد في النهج المقاصدي بوضوح.

(3) سياقات التنمية ومتغيراتها:

لا ينطبق النهج المقاصدي خارج أبعاد الزمان والمكان، إنما يراعي تغيراتهما، وما استقرَّت عليه أوضاعهما، ويراعي أيضًا دوائر الخصوص والعموم في الحياة البشرية. ومن ثم فالمستوى العالمي لا يلغي المستوى الوطني ولا الفردي، والعكس، وينبغي لكل خطة تنموية أن تراعي تلك الأبعاد. كما أنه إذا كانت الضروريات أكثر ثباتًا عبر الزمان والمكان، فإن الحاجيات تتحرَّك صعود وهبوطًا، فبعضها قد ينزل منزلة الضروري مع الزمن أو في مكان دون آخر، كالكهرباء في أكثر المدن، لا سيما في العالم النامي، وبعضها قد ينزل منزلة الكمالي في أماكن لم تدخلْها في كل شيء في حياتها. وهذا ممَّا يساعد على ضبط النظرة العالمية للتنمية، ومراعاة المشتركات، والتمايزات.

وينبِّه البُعد الزماني إلى اعتبار المآلات التنموية؛ فلا معنى لتنمية وقتية أو موقوفة على عوامل لحظية متى تغيَّرت وقعت جهود التنمية في الهاوية، كما لاحظنا في تجربة جنوب شرق آسيا مع أزمة 1997، والتجربة التنموية التركية في العقد الأخير، ثم التنمية الإيرانية تحت الحصار حتى يومنا هذا. أمَّا مشروعات التنمية في مصر والخليج وغيرها من الدول التي تبنَّت -ولو ظاهريًّا إطار 2030- فإن الرؤى حتى الآن غير مبشِّرة.

ولا شكَّ أن السياق العالمي المحيط بالأمة الإسلامية يحرِّك في النهج المقاصدي مفهوم الحفظ السلبي؛ أي منع ودفع ورفع المضار التي تَرِدُ على الأمة من خارجها، مع التأكيد المستمر على ضرورة الحفظ الإيجابي المتعلِّق بتنمية العلاقات الاقتصادية والتنموية البينية بين الأقطار والمجتمعات المسلمة. وقد بُحَّت الأصوات في ذلك ولم تُجْدِ كثيرَ نفعٍ، لماذا؟ لضياع أو ضعف المقصد الأول: الدين؛ المرجعية، الرابطة العقدية، الشعور بالانتماء والولاء، الذي يقابله ليكمِّله الشعور بالمفاصلة والبراء بل العداء تجاه الأعداء الذين يعتدون على الأمة وأقواتها ومقدَّراتها المالية والاقتصادية، ويصرُّون على التحكُّم بمصائر شعوبها، فرادى ومجموعات.

وهذا ما لن تتضمَّنه خطة أممية تصنع على أعين القوى الكبرى التي صاروا بارزين في صورة الأعداء. ولا شكَّ أن واقعة طوفان غزة (من المقاومة الفلسطينية إلى العدوان الصهيوني والتداعي الغربي على غزة وأهلها والتداعي المساند للمقاومة من جزء من الأمة، فالخذلان الكبير من العرب والمسلمين، فاشتداد العدوان الصهيوني الغربي إلى أقصى درجاته في صورة حرب إبادة والتصعيد إلى حرب إقليمية مع لبنان وسوريا وإيران واليمن…) تكشف مفهوم العداوة والعدوان الغربي بما لا يدع مجالا لخلاف. فكيف نفكِّر في هذه الخطة في إطار هذا السياق المتمدِّد، القديم المتجدِّد.

(4) الوسائل: سبل التنمية وأدواتها

تتحيَّر العقول التنموية المسلمة في عالم الوسائل حيرة كبيرة؛ لا سيما ما بين ما تعتبره بعض الاتجاهات موارد ومزايا ومقدَّرات، وتعتبره غيرها أعباء وعراقيل ومهدرات؛ كاتصال التنمية بالتراث والثقافات المحلية، وكالزيادة السكانية، والاعتماد على التقنية الأحدث في بعض البيئات داخل الأمة، وهكذا. لكن الوسيلة التي أشرنا إلى الإجماع على إهدارها تقريبًا من غير خلاف؛ هي التكامل والعلاقات الاقتصادية والتنموية البينية، والتي لا تجد لها تفسيرًا في محض العوامل الاقتصادية، بقدر ما تتَّصل بالسياسي والثقافي أو بهما معًا.

ويذكِّرنا هذا المقام ببعض معطيات الفكر الإسلامي الحديث في عالم الاقتصاد؛ ممَّا قدَّمه مالك بن نبي في (المسلم في عالم الاقتصاد)، والشيخ الغزالي في (الإسلام وأوضاعنا الاقتصادية)، وباقر الصدر في (اقتصادنا)، وغيرهم؛ من أن الكمَّ الاقتصادي يقوم على كيف ثقافي إنساني، على خلاف المنظور الماركسي، وأن الكيف الثقافي له خصوصيته ليس كما ادَّعت الليبرالية الحداثية الغربية عالمية ما تراه وتقوله وتعمله، وكأنه لا يوجد على الأرض أمة غيرهم، أو أن على الجميع الإذعان لرؤيتهم والتبعية لسياساتهم.

ويعتبر “المال” رمز الوسائل التنموية الأبرز، وخاصة من منظور رأسمالي، لكن المنظور الحضاري -وفي قلبه المدخل المقاصدي- يجعل من الإنسان الوسيلة الأولى والأعظم للتنمية الاقتصادية والشاملة والمستدامة؛ ومن ثم يعظم من شأن تكوينه وتربيته قيميًّا وتعليمه وتدريبه. وكذلك “التكامل” هو من أعظم وسائل التنمية التي تهدرها السياسة والسياسات والثقافة الاقتصادية السائدة في الأمة، وهو يوفِّر التمويل والموارد الطبيعية، وكذلك الموارد البشرية المتنوِّعة والمتكاملة، لكن العقل التنموي في العالم الإسلامي لا يكاد يوجِّه إلى هذه الدائرة اهتمامًا حقيقيًّا، ولا تؤثِّر فيه تجارب التكامل الأوروبية والأفريقية واللاتينية والآسيوية، الأمر الذي يشير إلى روح “ضد-إسلامية” لا مجرد عدم مبالاة.

وهذا يردُّنا إلى المفهوم المركزي في كلٍّ من عالم الاقتصاد والتنمية، والنهج المقاصدي؛ وهو مفهوم “المصلحة”: ما هي؟ وكيف تحدَّد فكريًّا ونظريًّا؟ وكيف تحقَّق في الواقع عمليًّا؟

(5) الميزان القياسي:

يدور الميزان أو المقياس المقاصدي حول مفهوم “المصلحة”؛ وهو مفهوم مغتصب ومختطف اقتصاديًّا من قبل المنظور الرأسمالي بطريقة مادية محضة، وعلمانية دنيوية بحتة، بالرغم من أنه مركزي في الفقه الإسلامي وأحكام المعاملات كلها، بل حتى في العبادات، وهو جوهر النهج المقاصدي؛ حتى إنه ليسمَّى أيضا النهج المصلحي؛ حيث يعمل على تجديد وتوضيح المصلحة الفردية الخاصة بكل إنسان وبكل كيان على حدة، ضمن اتصال بالمصالح الجماعية بدوائرها المحلية حتى العالمية.

ومعلوم أن المصلحة التنموية صارت أوسع من الاقتصادية في الفكر الغربي، لكن مفاهيم مثل: المصلحة العامة العالمية، والمصلحة الشاملة التكاملية للبشر، والمصلحة الأخلاقية، وأخلاقيات المصالح لا تزال غير ناضجة في الفكر الغربي، ولا تدفع باتجاهها إلا الكوارث البيئية والصحية وأمثالها، وعلى مضض، كما نعرف من مفاوضات المناخ، وقمم الأرض، ومن السياسات العالمية إبان جائحة مثل كوفيد 19 بين عامي 2019-2021[6].

في المدخل المقاصدي، يشترط للمصلحة كي تكون معتبرة ألا تهدم ميزان القيم والأخلاق؛ أن تكون عادلة، وأن يكون ما يترتب على تحقيقها من مضار أقل منها، وقابل للتحمل، وغير محمَّل على الآخرين، وأن تكون وسائل تحقيقها مشروعة وأخلاقية. وهذه شروط تنخرم كثيرًا في المنطق الرأسمالي والليبرالي الذي تحاول خطة 2030 بالكاد تجاوزها. وخطة 2030 الأممية بدلا أن تصرح بذلك أوْكلته إلى آليات سياساتية تتعلق بحضور المجتمع المدني والقوى غير الرسمية لتوازن القوى الرسمية، وهذا مفهوم على مستوى الداخل، لكن ماذا عن الديمقراطية والعدالة العالمية في تحديد المصالح البين-دولية والبين-أممية على نحو ما تساءلنا في ورقة سابقة[7].

إن المصلحة في النهج المقاصدي هي النفع العائد من السياسات والخيارات التنموية، والذي يجب أن يكون محققًا غير متوهَّم، مقدَّرًا غير غامض، مرتَّبًا غير منقلب الأولوية، ولا يترتَّب عليه ضرر يماثل قدره أو يزيد عليه، وتُرَاعَى فيه المآلات بحيث لا تترتَّب عليه مستقبلًا مضارٌّ أكبر أو أدْوم أو تمحو الأثر المصلحي الحاضر. وفي هذا الإطار ينبغي للمصلحة ألا تخترق الناموس الحاكم للعلاقات، من عقيدة مشتركة، ومن تشريعات أو قيم، وألا تكون هووية (تابعة للأهواء)، ومن الأفضل بل أحيانًا من الضروري أن تحدَّد المصلحة وفق طريقة شورية، تجتمع فيها زوايا النظر المختلفة من أصحاب المصلحة المباشرين (الناس)، وهم أيضًا حاملو المضرَّة حال وقوعها، ومن أصحاب الخبرة والأمانة والانتماء للأمة.

والخلاصة أن النهج المقاصدي يؤسِّس لرؤية تنموية شاملة تراعي خصوصية مصالح الأمة وعمومية المصلحة العامة العالمية، ويقدِّم حقيبة من الأدوات المنهجية والضوابط العملية التي توجِّه رؤى وسياسات التنمية في الأمة باتجاه الرشد التنموي: عمليًّا وقيميًّا.

ثالثا- تقييم وتطوير مقاصدي لإطار الخطة الأممية 2030: قضايا ونظرات

في خصوص قضية التنمية المستدامة، يستوعب النهج المقاصدي التطورات المختلفة في مفهوم التنمية وخُططها عبر القرن الأخير وحتى اليوم، ضمن مفهوم أوسع يتعلق بحفظ الدين الإلهي؛ الذي بدوره هو الحافظ الأضمن للحياة الإنسانية الفردية والجمعية. لكن هذا النظر دونه الواقع التنموي في العالم الإسلامي وعبر العالم؛ ومن ثم يتطلَّب الأمر وقفة تقييمية تتجلَّى في بعض قضايا الواقع التي يتناولها هذا العدد من قضايا ونظرات، كما يستدعي تطوير رؤى بنائية من معين النهج المقاصدي.

تقييم مقاصدي ونماذج قضايا واقعية

من مراجعة أهداف الخطة الأممية 2030، نجد هيمنة حفظ النفس كما في محاربة الفقر، والجوع، وتوفير الرعاية الصحية والمياه والطاقة النظيفة، ورعاية البيئة مناخًا وماءً وبرًّا، ووسائلها من العمل، يتداخل مع حفظ المال، كما في العناية بالصناعة، وضبط الإنتاج والاستهلاك، وما يلي ذلك ويتداخل فيه من اعتبارات قيمية مهمة كالمساواة ومواجهة التفاوت الظالم “وخاصة بين الجنسين”، وليس طبعًا بين العالمين: الغني والفقير. ويأتي توفير التعليم الجيد مما يدخل في حفظ العقل والقيم بطريقة ما، لكنه موجَّه في نهاية المطاف إلى حفظ المال ومنتجاته الاستهلاكية، بوصفها المعيار النهائي للتنمية. وكما أشرنا في التقرير السابق، فإن غياب المرجعية يجعل منهجية تدبير ذلك كله بل التفكير فيه، عرضة للكثير من الإشكاليات القيمية وخاصة في مساحة العدالة والتوازن بين حقوق الأغنياء الأقوياء وحقوق الفقراء الضعفاء.

ومن العنصر المقاصدي الثاني، حيث درجات الأهمية وفقه أولويات التنمية وترتيبها، لا يلاحظ في الخطة الأممية بُعد الترتيب هذا ابتداءً، فالأهداف متجاورة أفقيًّا، وقد يكون ذلك من باب رعاية تنوُّع أحوال البلدان، وأن ترتِّب كلُّ بلدٍ أولويَّاتها ضمن هذا الإطار، لكن حتى داخل كل هدف أو مقصد ينبغي أن يميَّز بين الضروري الذي ينبغي توفيره عالميًّا قبل الحاجي والتحسيني للبعض دون الآخرين.

وإذا كانت الأهداف السبعة عشر للخطة الأممية قد وَضعت مواجهة الفقر والجوع في مقدِّمتها من باب حفظ النفس البشرية، وضمَّت إليها من غير ترتيب موضوعات الصحة والبيئة والتعليم والمساواة بين الجنسين وغيرها ما يدخل في حفظ العقل، فإنه يغيب عنها حفظ الدين وحفظ العرض؛ وهما ضروريَّان ومركزيَّان في السياق الإسلامي. ومن ثم يجب إعادة إخراج هذه الخطة بما يراعي هذا السياق الإسلامي عقديًّا وشرعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وقيميًّا؛ أو بالإجمال: حضاريًّا.

ومن ثم فإن الغائب الذي يستحضره النهج المقاصدي هو السياق: في أية ظروف سياسية واقتصادية وقانونية وثقافية و.. يتم تطوير الخطط التنموية القُطرية عبر العالم الإسلامي تحت عنوان 2030؟ هذا السياق يمكن تناوله من خلال عدد من القضايا الموزعة على نماذج من بلدان العالم الإسلامي، تكشف صياغة أسئلتها ومحاولات الرصد والتحليل والتقييم في بحوثها عن منظور مختلف عن ذلك الذي اختارته الأمم المتحدة -وللأسف أكثر الدول والحكومات الإسلامية- إطارًا لخطتها التنموية 2030. ومنها على سبيل المثال:

– ما نتابعه ممَّا يُسَمَّى إعلاميًّا “المشروعات القومية العملاقة” مثل مشروع نيوم السعودي، يفرض سؤال المقاصد: ما الأهداف؟ وما ترتيبها؟ وما المصالح؟ وما ضوابط تحديدها؟ وفي أي إطار مجتمعي أو علاقة بين الدولة والمجتمع؟ وما الوسائل؟ وهل من ضمنها التضامن الإسلامي؟ وكيف تربط هذه العناصر بالمقاصد والمصالح العامة الإسلامية؟

– ما تفرضه الأحداث الأخيرة -ومنها الحرب بين إيران والكيان الصهيوني (حرب الاثني عشر يومًا)- من سؤال عن التصنيع العسكري الإيراني وأبعاده التنموية طردًا وعكسًا: ما دلالته في سياق الحرب الأمريك-صهيونية على مشروعات “القوة” الإسلامية وعلى محور المقاومة في المنطقة العربية وجوارها الحضاري؟ ألا تحتاج التنمية إلى قوة تحميها، وإلا فهي عرضة للضرب والتفكيك والتعطيل؟ وألا تحتاج القوة العسكرية إلى قوة اقتصادية أيضًا تحميها وتنمِّيها؟

– كذلك تطوُّرات غرب أفريقيا: كيف تؤثِّر على مسارات التنمية في ظلِّ إصرار الغرب -خاصة فرنسا مثلًا- على التشبُّث بالهيمنة الاقتصادية، التي تتمثَّل أحيانًا في هيمنة “الفرنك الأفريقي”؟ هل له من بدائل تشير إلى عهد جديد في دولة كالسنغال مثلا؟

– في المقابل تكشف مناطق التداعي والتدهور عن سياق آخر يختلف -في إطاره- سؤال التنمية؛ مثل حالات الحرب الأهلية، بأسبابها الداخلية، ومؤجَّجاتها الخارجية، وآثارها الفادحة إنسانيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا. في حالة كالسودان، واضطرار الملايين إلى النزوح داخليًّا وخارجيًّا، واللجوء إلى دول الجوار، فكيف يتناول المنظورُ الحضاري الاقتصادَ السياسي لمثل هذا اللجوء؟

– ثم أين الضروريات التنموية في العالم الإسلامي؟ هل يمكن أن تكون ثمة تنمية جارية بينما ضروريات الغذاء مثلا محل خطر ومخاطرة؟ هل يتقدَّم العالم الإسلامي في مؤشرات الأمن الغذائي أم يتأخَّر؟ مثلا في دولة مثل تركيا: هل يمثل نمو القطاع الزراعي تنمية مستدامة؟

– في عالم الوسائل، هل صارت التقنيات الاتصالية والمعلوماتية الحديثة في موضع الضرورة مثلها مثل الزراعة والصناعة الثقيلة وغير الثقيلة؟ مثلا: ما دلالات مسار الرقمنة في دولة مثل الكويت؟

– وأخيرًا: في جانب القيم المقاصدية للتنمية، نتساءل عن العدالة الاجتماعية في مشروعات ومسارات التنمية في الدول الجادَّة تنمويًّا: هل تأتي التنمية على حساب العدالة؟ يمكن أن نضرب مثلا على ذلك المبحث بماليزيا.

خاتمة: أسس رؤية تنموية بنائية في العالم الإسلامي

استكمالا للعدد السابق (37)، يحاول العدد الثامن والثلاثون من “قضايا ونظرات” أن يتناول بالرصد والتحليل والتفسير، قضية التنمية في العالم الإسلامي، لكن من وراء ذلك الرصد والتحليل والتقييم يبرز البعد البنائي: محاولات تقديم رؤى لتنمية مستدامة مناسبة للسياقات والمصالح الإسلامية العامة، في إطار التجاوب أخذًا وتركًا من الخطة الأممية، وذلك انطلاقًا من النهج المقاصدي. ويمكن إجمال أُسُسِ هذه الرؤية البنائية في العناصر الآتية:

1- تجديد وتحديد المصلحة الاقتصادية ضمن المفهوم الأوسع للتنمية المستدامة: وهذا يكون ثمرة لجهود تحقيق التوافق الديني الحضاري في الأمة، والتوفيق بين مقاصد الدين ومقاصد الحضارة ومقاصد التنمية. فالطريقة الساذجة التي تحدد بها أهداف السياسات التنموية ما أفرزت إلا أوهامًا، وتضييعًا للكثير من الجهود والأجيال والآمال. لم يعد المنظور الحضاري للتنمية المستدامة ولا النهج المقاصدي في ترتيب وتركيب أبعادها مطلبًا تكميليًّا أو حاجِيًّا، بل ضرورة كبرى تؤسَّس وتجدَّد عليها المصالح التنموية الشاملة: الاقتصادية وغيرها.

2- ترتيب أهداف التنمية مقاصديًّا: فإذا كانت خطة الأمم المتحدة لم تفرض ترتيبًا معيَّنًا لا عامًّا ولا تحت كل هدف من أهدافها، فإن النهج المقاصدي يفرض التمييز بين الضروريات والحاجيات والكماليات، ولا شك أن ذلك من شأنه أن يبني هرمًا تنمويًّا متدرجًا وواقعيًّا، ولا يخبط خبطَ عشواء، أو يتجاهل الفوارق بين ضروريات الفقراء والأغنياء وكماليات الأغنياء التي قد تلتهم موارد ضرورية كثيرة.

3- العناية بالمورد الإنساني هدفًا ووسيلة: وهذا ما تدَّعيه الخطة الأممية 2030، لكن تفاصيلها تتجاوز ذلك إلى الشروط المادية والتمويلية. ولا تحتاج خطط التنمية الإسلامية لشيء مثل احتياجها للأنسنة: مقصدًا ووسائل.

4- العناية بالتكامل والتضامن الإسلامي وسيلة تنمية أساسية: فالتكامل التنموي الإسلامي يوفِّر من الموارد والأدوات اللازمة للتنمية ما لا يقدَّر كثرة ووفرة. وإهدارُ هذا الجانب، وضعف السعي فيه مما يجب مواجهته. لابد من ضغوط فكرية وعملية من أجل تحقيق هذا التكامل إنْ من منطلقات عقدية، أو لمقاصد مصلحية، ومصالح مادية.

5- التعامل مع الآخر من منطق الاستقلال والحذر من عدوانه الاقتصادي والشامل: فالعثرة الأساسية أمام إسلامية التنمية، والتكامل التنموي المشار إليه، هو الاستسلام لسياسات الاستتباع والخضوع لحالة التبعية للغرب، وربما قريبًا الشرق، اقتصاديًّا.

وفي الختام، فإن هذه تطوافة في شأن التنمية في العالم الإسلامي: فكرًا وواقعًا، ووصفًا وتقييمًا وبناءً، لا تحيط بالأمر علمًا، لكن تضرب المثل على منهجية في التفكير في هذا الشأن من مدخل منهاجي مطوَّر ضمن المنظور الحضاري الإسلامي المقارن؛ هو النهج المقاصدي.

————————————————

الهوامش:
[1] كما في قوله تعالى في سورة البقرة: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: 273].
[2] راجع في تقسيم تاريخ الاقتصاد الإسلامي إلى ست مراحل من عصر التكوين إلى عصر الانهيار الحالي والتبعية للغرب: فؤاد عبد الله العمر، مقدمة في تاريخ الاقتصاد الإسلامي وتطوره، جدة: البنك الإسلامي للتنمية- المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، 1424هـ/ 2003م، بحث رقم (62)، ص ص 96-118.
[3] سامر مظهر قنطقجي، النظرية التنموية في فكر ابن خلدون ومالك بن نبي، متاح عبر الرابط التالي:

https://kantakji.com/files/SK_DevelopmentTheory.pdf

وراجع: محمد يسار عابدين، عماد المصري، الفكر التنموي في مقدمة ابن خلدون: دراسة تحليلية مقارنة للاتجاهات النظرية المفسرة لعملية التنمية الحضرية ولدراسة مؤشر تطور التنمية مع الزمن، دمشق: كلية الهندسة المعمارية- جامعة دمشق، 2008، ص ص 6-7، 10-12.
[4]  د. عبد الله معصر، التنمية في مقاصد الشريعة، ميثاق الرابطة، العدد 238، 27 أكتوبر 2016، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/44t0rKH

محمد عمر شابرا، الرؤية الإسلامية للتنمية في ضوء مقاصد الشريعة، (واشنطن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2011).

عباسي ميلود، التنمية المستديمة على ضوء الشريعة الإسلامية، (عمان: دار الأيام للنشر والتوزيع،  2017).

ياسين الورزادي، الاقتصاد الإسلامي في ضوء مقاصد الشريعة مقصد تنمية الإنتاج أنموذجا، بحث منشور على الإنترنت، موقع مكتبة نور، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3IH45YO
[5] سيف الدين عبد الفتاح، مدخل القيم، في: نادية محمود مصطفى (تحرير)، موسوعة العلاقات الدولية في الإسلام، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات والبحوث، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، 2022)، الجزء الثاني.
[6] مدحت ماهر، الأخلاق والسياسة العالمية من منظور حضاري: النظريات والسياسات والقضايا الكبرى، رسالة دكتوراه، (تحت الطبع)، الفصل الثاني.
[7]  مدحت ماهر، التنمية المستحيلة والتنمية المأمولة: قراءة حضارية في الخطة الأممية للتنمية المستدامة 2030 إسلامية، فصلية قضايا ونظرات، العدد 37، ص ص 25-32، إذ تعد هذه الورقة استكمالا لها لطرح مفهوم (التنمية المأمولة الممكنة).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى